من منهج الأئمة الأعلام
في أصول التلقي في الإسلام (4)
مختصر
جهاد المسلمين
بين فهم الغلاة وتخذيل المرجفين
كتبه :د.عصام بن عبد الله السناني
أستاذ الحديث بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم
وعضو مجلس الإدارة بالجمعية العلمية السعودية للسنة النبوية
راجعه :
فضيلة الشيخ العلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة
(عام 1427).
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً : تعريف الجهاد :
ذكر في ( مختار الصحاح:1/119) أن الجُّهْدَ بفتح الجيم وضمها الطاقة ، والجَهْدُ بالفتح المشقة ، يقال جَهَدَ الرجل في كذا أي جدَّ فيه وبالغ ، وجاهَدَ في سبيل الله مُجَاهَدَةً وجِهَادً والاجْتِهادُ والتَّجَاهُدُ بذل الوسع و المَجْهود. ولذا فيما روى أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عن سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : "ثُمَّ قَعَدَ لَهُ ـ أي الشيطان ـ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ : هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ".
وأما في الشَّرعِ فله معنيان :(1/1)
(المعنى الأول للجهاد ) : فالجهاد بمعناه العام يكون ببذل الوسع فيما يحبه الله ويرضاه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى:10/192) : "الجهاد هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق"أ.هـ. ويشير لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم :"والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ". ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إطلاق لفظ الجهاد بمعناه الأشمل على عبادات مختلفة : (أ) فأطلق الجهاد على العبادة المحضة كالحج فقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنهم - عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "أفضل الجهاد حج مبرور". (ب) وعلى بر الوالدين ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال : "أحي والداك" ؟ قال : نعم ، قال : "ففيهما فجاهد". (ج) وعلى الجهاد على الإحسان إلى الخلق ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله". (د) وعلى قول الحق كما روى الأربعة وحسنه الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الجهاد كلمة عدل عند ذي سلطان جائر".
(*) والجهاد بمعناه العام قسمان :
1- باعتبار المُجَاهَدِ : وهو خمسة أنواع كما فصّله ابن القيم :(1/2)
أولاً : جهاد النفس : وهو أربع مراتب ، جهادها على تعلم الهدى ودين الحق. ثم جهادها على العمل به بعد علمه. ثم جهادها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. ثم جهادها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله. وفي الحديث قال: - صلى الله عليه وسلم - : "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله". صححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - . وهذا الجهاد أعظم أنواع الجهاد ، قال ابن القيم (روضة المحبين:1/478) : "سمعت شيخنا يقول : جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين ؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً"أ.هـ.
ثانياً : جهاد الشيطان : قال - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ لَهُ : أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ ؟ قَالَ : فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ قَعَدَ لهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ، قَالَ : فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ، قَالَ : ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ : هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقَسَّمُ الْمَالُ ، قَالَ : فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ" صححه ابن حبان عن سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ - رضي الله عنه - . وهو مرتبتان : إحداهما : جهاده على دفع ما يُلقي من الشبهات. وجهاده على دفع ما يُلقي إليه الشهوات. وهذا أخطر أنواع الجهاد بعد جهاد النفس لما رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - مرفوعاً : "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ" ، ولأنه لا يتمكن من الجهاد اللاحق حتى يتمكن من جهاد المرتبتين الأوليين.(1/3)
ثالثاً : جهاد المنافقين : وهو أربع مراتب : بالقلب واللسان والمال والنفس. وهو أخص باللسان ؛ لأنهم يظهرون الإسلام ، فيحتاجون إلى الجهاد بالبيان لدحض شبههم ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/5): "جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد خواص الأمة"أ.هـ.
رابعاً : جهاد أرباب البدع والمنكرات : لقوله - صلى الله عليه وسلم - :"وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ" ، وله ثلاث مراتب : الأولى : باليد إذا قدر ، فإن عجز انتقل إلى اللسان ، فإن عجز جاهد بقلبه ، لما روى مسلم عن أبي سعيد - رضي الله عنه - : "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
خامساً : جهاد الكفار : وهذا الجهاد بمعناه الخاص الذي يكون بالقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، قال تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما خرجه الشيخان " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . وذهب كثير من العلماء إلى نسخ آيات الموادعة والصفح والعفو بهذا ، والصحيح أن ذلك غير منسوخ ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(الصارم المسلول:1/228) وذكر آيات الصفح والعفو : "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين ، و أما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين"أ.هـ.(1/4)
2- باعتبار المُجَاهِدِ نفسه : فإن الجهاد فيما يجري فيه الإيمان : في القلب ، واللسان ، والجوارح ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم عن الخُلُوف : "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" ، فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغض الخُلُوف بالقلب جهاداً ، كما سمَّى رد باطلهم باللسان جهاداً ، وتغيير ما يترتب عليه من فساد باليد جهاداً .(1/5)
(المعنى الثاني للجهاد) : فيطلق بالمعنى الخاص على بذل الجهد في القتال في سبيل الله تعالى بالنفس والمال والسلاح أو غير ذلك ، ولذا فيأتي بمعناه الخاص مقروناً بسائر العبادات كما روى الشيخان عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - لمّا سَاَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أَحَبِّ الأَعمَالِ ؟ فَقَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا .. ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ .. ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فخصَّ - صلى الله عليه وسلم - الجهاد بمعناه الخاص وهو قتال الكفار ، مع أنه عدَّ بر الوالدين سابقاً من الجهاد. (*) ويكون جهاد الكفار كذلك بالقلب واللسان والجوارح ، فأما القلب : فكما روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:7/16) : "والجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء ، فعليهم كلهم اعتقاد وجوبه ، والعزم على فعله إذا تعين"أ.هـ. أما جهاد الكفار بالنفس واللسان فجمعهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم َعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "جَاهِدُوا اَلْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ, وَأَنْفُسِكُمْ, وَأَلْسِنَتِكُمْ".
الحكمة من مشروعية الجهاد(1/6)
ثلاثة أمور : الأول : إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله قال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة:193] ، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وقال ابن القيم عن شهادة التوحيد (زاد المعاد:1/35) : "وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ". الثاني : ردّ العدوان وحفظ الإسلام : قال الله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة:194]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره : "ليس المقصود به سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم ، ولكن المقصود به أن يكون الدين لله تعالى فيظهر دين الله تعالى ، على سائر الأديان ، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره ، وهو المراد بالفتنة ، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال"أ.هـ.(1/7)
الثالث : نصرة المظلومين من أهل الإسلام : قال تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [النساء:75] ، ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وذكر الآية : "فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم ، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار ، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم ، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجراً وأكبر فائدة بحيث يكون من باب دفع الأعداء"أ.هـ.
رابعاً : فضل الجهاد(1/8)
جاء في فضل الجهاد آيات وأحاديث كثيرة جداً تبين مكانة العظيمة في الإسلام وأنه من مبانيه العظام ، منها : قوله الله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ]النساء:95[ ، وقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } ]التوبة:111[ ، وأما الأحاديث فنذكر منها : ما روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ : "لاَ أَجِدُهُ" ، قَالَ : "هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ : أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ ؟" ، قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ".(1/9)
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ".
خامساً : حكم الجهاد وشروطه
الجهاد باعتبار حكمه ينقسم إلى قسمين كما نص عليه أهل العلم :(1/10)
- القسم الأول : جهاد الطلب ، وهو طلب قتال الكفار وغزوهم في بلادهم لإعلاء كلمة الله وليكون الدين كله لله بشرط بلوغ الدعوة باتفاق العلماء ، فهذا فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، لقوله تعالى { فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } ]النساء:95[ ، وقوله - سبحانه وتعالى - : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } ]التوبة:122[. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا".
- شروط جهاد الطلب السبعة :
1- الإسلام : لأن الجهاد إنما شرع لأجل قتاله والشخص لا يخاطب بقتل نفسه ، مع أنه كونه غير مأمون في الجهاد غالباً ، وفي مسلم قَالَ - صلى الله عليه وسلم - لكَافرٍ أرَادَ أَنْ يصِيبَ مَعَهُ: "ارْجِعْ ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ".
2- العقل : فالمجنون لا يتأتى منه الجهاد ، لما روى الثلاثة قال - صلى الله عليه وسلم - : "رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم".(1/11)
3- البلوغ : وقد روى الشيخان عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي".
4- الذكورية : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ" صححه ابن خزيمة. ويخرجن مع الأمن للخدمة ، روى البخاري عَنْ الرُّبَيِّعِ - رضي الله عنهم - قَالَتْ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ".
5- الحرية : فالمملوك منفعته لمالكه ، في مسلم : بَايَعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ عَبْدٌ ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :"بِعْنِيهِ"، فَاشْتَرَاهُ ، ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ ؟".
6- السلامة من الضرر : كالعمى والعرج الفاحش والمرض الشديد الذي يمنعه القتال لقول الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَج } . وقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } .(1/12)
7- القدرة على مؤنة الجهاد : أي القدرة على الزاد والراحلة ونفقة عائلته لقوله عز وجل : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } . وقوله تعالى : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } . وكذا القدرة الإعدادية وهي آلة الحرب ، والقدرة العددية لقوله تعالى { فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } . فشرط العدد للثبات الواجب فكيف بالطلب .
- القسم الثاني : جهاد الدفع ، وهو قتال الدفاع عن البلد المسلم الذي وطئه الكفار ، وهو فرض عين على أهلها ممن يستطيع القتال ، فإن عجزوا تعيّن على من يليهم من بلاد المسلمين ممن لهم قدرة على القتال ، ومحل التعين على من بقربهم إن لم يخشوا على نسائهم وبيوتهم من عدو بتشاغلهم بمعاونة من فجأهم العدو. قال العلماء "ويتعين الجهاد في أربعة مواضع : (أحدها) : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم. (الثاني) : إذا حضر الصف حرم عليه الانصراف لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار } . (الثالث) : إذا استنفرهم الإمام لقول تعالى: { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } ، وقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إذا استنفرتم فانفروا"أ.هـ. (الرابع) : إذا احتيج إليه بذاته في القتال كمن لا يعرف سلاحاً معيناً سواه.(1/13)
- شرط جهاد الدفع : نص الفقهاء أن شروط جهاد الطلب تسقط في جهاد الدفع بدليل : أنه لمَّا أغار قوم على لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعهم سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - بغير إذن فاستخلص ما بأيديهم ، فمدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : "خَيْر رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ" رواه مسلم ، ففيه سقوط أذن ولي الأمر في الدفع ، وفيه كذلك عدم اشتراط القوة والعدد لأنه - رضي الله عنه - كان واحداً في مقابل سرية. قال ابن القيم (الفروسية:96) : "فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً ، ولهذا يتعين على كل أحد [و] يَعُمُّ ، ويجاهد فيه : العبد بإذن سيده وبدون إذنه ، والولد بدون إذن أبويه ، والغريم بغير إذن غريمه ، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق. ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين ، فكان الجهاد واجباً عليهم ؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار"أ.هـ.(1/14)
ولكن قول أهل العلم بانتفاء هذه الشروط لا يعني انتفاء شرط القدرة والاستطاعة الذي هو شرط لوجوب جميع العبادات بلا استثناء كما قال تعالى عن الحج { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ؛ وقال - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة "صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" ، بل حتى كلمة الكفر يجوز إظهارها عند عدم القدرة والعجز ، قال تعالى { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } ، وليس هناك أمر يوجبه الله على الأمة وهي لا تستطيعه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:10/344) : "الأمر والنهي الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة ، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل ، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد ، وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائماً والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه"أ.هـ.(1/15)
فيكون المراد بقول العلماء ـ رحمهم الله ـ أنه لا يشترط له شرط أي من شروط الجهاد المذكورة في جهاد الطلب كاشتراط لعدد وإذن الوالد والسيد كما أشار ابن القيم في الكلام المنقول عنه آنفاً ، فإذا كان عدد الكفار يزيد على المسلمين بأكثر من الضعف فيجب الصمود مالم يصلْ إلى يقين أو غلبة ظن بأن دفعهم غير ممكن لكثرة عددهم أو لنفوذ أسلحتهم كما هو في عصرنا في الغالب ، ففي هذه الحالة يجوز لأئمة المسلمين استعمال السياسات الشرعية بدفع أعلى المفاسد بارتكاب أدناها ؛ لأن القول بالوجوب مطلقاً مع أن بعض المسلمين لن يقدر على دفع العدو يقيناً فيه اضمحلال الدين الذي شرع الجهاد من أجل نشره في الأرض ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:28/396) : "ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير ، لم يكلف ما يعجز"أ.هـ. ولنذكر شيئاً من أدلة هذه القاعدة الكلية في جهاد الدفع :(1/16)
1- صبر المسلمين على فتنة الكفار بمكة في الدين والنفس ، روى البخاري عن خَبَّابِ - رضي الله عنه - أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - النصرة فأخبرهم بشَقِّ رَأَسِ مَنْ قَبْلهم بالمِنْشَارِ نِصْفَيْنِ والتَمْشِيْطِ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ اللَحْمِ وَالعَظْمِ فَمَا صُدَّهُم ذَلِكَ عَنْ دِينِهِم ، ومع ذلك لم يؤمروا بقتال لئلا يكون سبباً لاضمحلال الدين مع ضعفهم ، بل قال لهم - صلى الله عليه وسلم - : "وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ، قال العلامة السعدي(التفسير:188) : "لو فرض عليهم القتال – مع قلة عددهم وعددهم، وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام ، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام (الصارم المسلول:1/362) مقرراً عدم نسخ الأمر بالكف عن القتال : "حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح ، وحيث ما حصل القوة و العز خوطبنا بقوله : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } "أ.هـ. وذكر شيخنا محمد العثيمين أدلة اشتراط الاستطاعة لكل واجب ثم قال (شرح بلوغ المرام:الشريط الأول) :"وقال تعالى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، يعني حتّى لو أمرتم بالجهاد ، ما فيه حرج ؛ إن قدرتم عليه فهو سهل ، وإن لم تقدروا عليه فهو حرج مرفوع. إذاً لا بد من القدرة والاستطاعة ... وأما الواقع فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله ، وبقي على هذا ثلاثة عشرة سنة لم يؤمر بجهاد مع شدة الإيذاء له ولمتبعيه عليه الصلاة والسلام ، وقلة التكاليف ، فأكثر أركان الإسلام ما وجبت إلا في المدينة ، ولكن هل أمروا بالقتال ؟ الجواب : لا ، لماذا ؟ لأنهم لا يستطيعون ، وهو خائفون على أنفسهم"أ.هـ.(1/17)
2- روى البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - في قتال أحد للكفار قَالَ : "وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَقُولُ نُقَاتِلُهُمْ وَفِرْقَةً تَقُولُ لاَ نُقَاتِلُهُمْ" ، وروى أحمد والنسائي عَنْ جَابِرِ - رضي الله عنه - أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأَصْحَابِهِ : "لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ ؛ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ" فأبوا. فالصحابة في جهاد دفع لغزو الكفار لهم في المدينة كما تقدم في كلام ابن القيم ، ومع ذلك لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - النفير العام على الجميع ، بل أراد التحصن في المدينة مراعاة لضعف المسلمين وكثرة عدد أعدائهم ، مما يدل على أن القتال ليس بلازم في كل جهاد دفع إذا تمكن ولي الأمر أن يدفعه عن المسلمين تفويتًا لأعظم المفسدتين.
3- روى أحمد وأبو داود عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ" في رواية "ثَلاَثًا يَقُولُهَا" ، والدجال من أعظم الأعداء الصائلين على الأنفس والأموال بنص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - ـ : "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنْ الدَّجَّالِ" ، وفي المسند عنْ هشَامِ بْنِ عَامرٍ - رضي الله عنه - "أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" ، ومع ذلك لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتاله لعدم القدرة على ذلك لما أعطاه الله من القوة الخارقة كما في حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - عند مسلم ، ولو كان بالإمكان قتاله لكان من أوجب الواجبات.(1/18)
4- روى مسلم عَنْ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - عند خروج جوج ومأجوج ، : "فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ". قال النووي(المنهاج:18/68) : "قال العلماء : معناه لا قدرة ولا طاقة" ، وفي سنن أبي داود ومسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ". ولو كان جهاد الدفع واجباً بلا شرط القدرة لم يأمرهم عزوجل بترك قتال يأجوج ومأجوج ليفسدوا في الأرض ، وباللجوء إلى الطور ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفلاح فيمن كف يده عن القتال.
5- كفار مكة تسلطوا على المسلمين وأموالهم وأخرجوهم من ديارهم كما قال كما قال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } ، فهم في حكم العدو الصائل الذي يجب دفعه ، ومع ذلك فقد صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية على شروط فيها حيف ، قال ابن القيم في ذكر أحكام صلح الحديبية ( زاد المعاد::3/272) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ. وقال (ص:371) : "إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم"أ.هـ.(1/19)
6 – مما يدل على أن سقوط الشروط في الدفع لا يعني سقوط شرط القدرة : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في جهاد الدفع يعرض الصبيان فمن بلغ أجازه في القتال ، كما روى الشيخان عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهم - أَنَّه عُرِض يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْه - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَجازَهُ في الْخَنْدَقِ وَهْوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وهذا دليلُ مراعاةِ شرط التكاليف الشرعية وهي القدرة في جهاد الدفع ، كذا النساء لا يعرف أنه - صلى الله عليه وسلم - استنفرهن في جهاد الدفع كأحد والخندق ، روى البخاري في {بَاب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ} أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سُلَيْمٍ كَانتَا تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ ، فَذَكَرَ الشُّراح أنَّ البخاري أرادَ أعَانَتَهُنَّ لِلْغُزَاةِ غَزْوٌ ، أَوْ أرادَ دِفَاعِهِنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ ، وأَشَارَ ابنُ حَجَرٍ إلى احْتِمَالِ أنه أرَادَ أَنَّهُنَّ لاَ يُقَاتِلْنَ وَإِنْ خَرَجْنَ فِي اَلْغَزْوِ.(1/20)
7- قول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ، يقرر أنه عند عدم القدرة على دفع الكفار وإظهار الدين أنه يجب عليهم الهجرة ، ولو كان جهاد الدفع واجباً بكل حال لوجب على المسلمين هنا القتال ولو أدى لفنائهم. قال الكاساني في بدائع الصنائع (7/98) : "الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين مالا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلا بأس أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم ، والحكم في هذا الباب لغالب الرأي وأكبر الظن دون العدد ، فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات وإن كانوا أقل عدداً منهم ، وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم"أ.هـ. وأشار ابن عاشور (التحرير والتنوير:1/1014) لواقعة هجرة المسلمين من الأندلس لما غلبهم النصارى وأكرهوهم على التنصر فخرجوا تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم ، ثم ذكر تغلب الكفار على غرناطة بشرط جريان الأحكام بين المسلمين على مقتضى شريعة الإسلام ، فأقام فيها علماؤهم يلون القضاء والفتوى ونحو ذلك ، وهاجر فريق منهم ، فلم يعب المهاجر على القاطن ولا القاطن على المهاجر.(1/21)
8 - أن العلماء الذين ذكروا أنه لا يشترط شرط لجهاد الدفع لم يقصدوا عدم اشتراط القدرة ، وإنما تركوا الإشارة إليها لكون هذا معلوماً بالضرورة : قال القرطبي في تعين جهاد الدفع (أحكام القرآن:8/136) : "وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم ، وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم" ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(الاختيارات الفقهية:532): "فلا يشترط له شرط ، بل يدفع بحسب الإمكان"أ.هـ. فعلقا الوجوب بإمكان إغاثتهم ، وبحسب الإمكان ، ولذا قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى:28/396) : "ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير ، لم يكلف ما يعجز عنه"أ.هـ. وقال(الفتاوى الكبرى:5/537): "والجهاد منه ما هو باليد ، ومنه ما هو بالقلب ، والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة ، فيجب بغاية ما يمكنه"أ.هـ.وقال شيخنا محمد العثيمين عن الجهاد(لقاء الباب المفتوح:2/420- سؤال42) : "إذا كان فرض كفاية أو فرض عين ؛ فلا بد له من شروط. من أهمها : القدرة ، فإن لم يكن لدى الإنسان قدرة فإنه لا يلقي بنفسه إلى التهلكة"أ.هـ. وقال(لقاء الباب المفتوح:2/261- سؤال 977) :"لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهاد الكفار ، حتى ولا جهاد مدافعة "أ.هـ.
- ضوابط لجهاد الدفع -(1/22)
الضابط الأول : ليس مقصود أهل العلم بشرط القدرة في جهاد الدفع بأن يترك المسلمون عدوهم يفعل ما شاء من قتل سلب وهتك للأعراض ؛ لأننا إذا تيقنا من أن العدو الكافر سيفعل ذلك لا محالة وجب الدفع عن النفس والعرض حتى المرأة ولو قتلت ، قال ابن حزم رحمه الله(المحلى:7/478) : "ولا إثم بعد الكفر من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم" ، لكن المقصود هو الاسترشاد بالهدي النبوي من الأخذ بالأسباب الشرعية والحسية بتفويت أعلى المفاسد عن المسلمين ولو بالوقوع بأدناهما كما هي القواعد الكلية المقررة ، ومن ذلك :
1- الركون إلى الصلح ولو ببعض التنازلات لصالح المشركين كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية حين مسح "بسم الله" ، و "رسول الله" ، وأقر تسليم بعض من أسلم للكفار ، قال ابن القيم(زاد المعاد:3/272) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.
2- الدخول بمحالفات مع بعض الكفرة الأقوياء ، فقد كانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح ، وروى أبو داود فِي {بَاب فِي صُلْحِ الْعَدُوِّ} ، وابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ - رضي الله عنه - قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ" ، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (فتاوى ومقالات:6/185) :"فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ.(1/23)
3- الدخول تحت حماية عدو كافر أقوى من العدو الصائل لدفعه ، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالدخول تحت حماية ملك الحبشة النصراني ، ودخل - صلى الله عليه وسلم - مكة تحت حماية المطعم بن عدي ، وأبو بكر تحت حماية ابن الدَّغِنَة ، قال ابن القيم (زاد المعاد:1/95) : "فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة ، وقال : إن بها ملكًا لا يظلم الناس عنده ... فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار"أ.هـ.
4- دفع المال للصائل لدفعه عن بلاد المسلمين ، فقد روى البزار والطبراني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد في الخندق إعطاء بعض الكفار مالاً ليردهم عن المدينة ، قال ابن القيم(زاد المعاد:3/241) : "أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما وجرت المراوضة على ذلك"أ.هـ. بل ذكر العلماء أن من المؤلفة قلوبهم الكافر يعطى من الزكاة لدفع شره ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/46): " والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم، فالكافر إما أن تُرْجَى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرّته إذا لم يندفع إلا بذلك"أ.هـ.(1/24)
4- إذا تُيِقنَ عدم القدرة على مقاومة العدو وحصول الفتنة بالدين وجب الفرار إلى مكان يسلمون فيه على دينهم لقوله تعالى فيهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ" ، وقول الله عزوجل لعيسى عليه السلام "حَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ". قال الكاساني في بدائع الصنائع (7/98) : "الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين مالا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلا بأس أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين"أ.هـ. وقد ذكر ذلك الطاهر بن عاشور من الحالات الست التي يتغلب فيها الكفار فقال(التحرير والتنوير:1/1014) : "الحالة الأولى : أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر ، وهو يستطيع الخروج فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية"أ.هـ.(1/25)
5- أو يصالحوهم على يكون للكفار حكم القوة وتجري الأحكام بينهم على مقتضى الشريعة ، وقد أشار شيخ الإسلام إلى ذلك حينما سئل عن بلدة "ماردين" لا تجرى عليها أحكام الإسلام وجندها مسلمون ، فقال (مجموع الفتاوى:28 /240) : "والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه ، و إلا استحبت ولم تجب"أ.هـ. وقال ابن عاشور (التحرير والتنوير:1/1014) : "الحالة الرابعة : أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام ، كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي . وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم ، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم ، وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك ، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن ولا القاطن على المهاجر".
الضابط الثاني : أن نصرة المسلم لأخيه إذا اعتدى عليه الكفار من جهاد الدفع الواجب على الأعيان ، لكن هذه النصرة الواجبة ليست مطلقة بل مقيدة بقيود ، منها :(1/26)
1- عند العجز عن النصرة : فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرة المستضعفين في مكة لمّا سألوه النصرة لعدم قدرته فأمرهم بالصبر ، روى البخاري عن خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ : "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ". وكذلك ترك نصرة بعض أصحابه كأبي بصير وأبي جندل - رضي الله عنهم - بسبب الضعف الذين ألجأهم للصلح والمعاهدة.(1/27)
2- وجود العهد لبعض المسلمين مع هؤلاء الكفار ، لقوله لله - عز وجل - عن المؤمنين { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } ، قال ابن عاشور(التحرير:6/86) :" { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } استثناء من متعلق النصر وهو المنصور عليهم ، ووجه ذلك أن الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلا إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين ، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلق إلا بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد"أ.هـ. وقال شيخنا صالح الفوزان لما سئل هل : يجوز للمسلمين المعاهدين مناصرة المسلمين الذين اعتدي عليهم من عاهدوهم (شرح نواقض الإسلام:167) :"لا يجوز نقض العهد إلا إذا كان فيه شرطٌ : أنكم إذا قاتلتم المسلمين فإنه ينتقض العهدُ الذي بيننا وبينكم"أ.هـ. وأدلته من السنة : (أ) ما روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - لمّا لَقِيه كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَابَاهُ فَأَخَذُوا مِنَّهما عَهْدَ اللَّهِ َلاَ يقَاتِلاَنِ مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - . فَأَتَيْاه - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاه الْخَبَرَ ، فَقَالَ : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ" ومع كون المعركة فاصلة والجهاد فرض عين في حقهما - رضي الله عنهم - لحضورهما الصف فقد قدّم - صلى الله عليه وسلم - العهد على النصرة.(1/28)
(ب) ما روى البخاري في صلح الحديبية من الشروط رضي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - : [فَقَالَ : سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا" ، وفي رواية " فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا" ، ففي هذا الحديث إسلام بعض المسلمين للكفار إذا كان ذلك مقتضى ميثاق لمصلحة الإسلام أو دفع شرًّ عن أهله ، وهذا أعظم من مجرد ترك نصرتهم إذا قوتلوا.(1/29)
3- أن يكون قتال المسلمين للكفار قتالاً دينياً لإعلاء كلمة الله وتحقيق التوحيد ، لا لمقاصد دنيوية كتحرير الأرض أو لعصبية قبلية أو لتحقيق طموح سياسي ، ففي مثل هذه الحالات تكون النصرة لهؤلاء غير واجبة لقوله تعالى :" { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الأنفال:72] ، قال العلامة عبد الرحمن السعدي: "قوله تعالى:" { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ } أي : لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } ، والقتال معهم. وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم"أ.هـ. وقال العلامة ابن عاشور (التحرير:1/1799) : "أي : طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين ، أي: لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم ؛ لأن نصرهم للدين ليس من الولاية لهم ، بل هو من الولاية للدين ونصره"أ.هـ. قلت : فما الظن بمن يقاتل الكفار وهو لا يعرف من التوحيد أكثر مما يعرفه أبو جهل ، بل أبو جهل أعلم منه بذلك ؛ لأن أبا جهل عند الشدائد يدعو الله مخلصاً له الدين ، أما هؤلاء فيدعون الله في الرخاء فإذا أشتد الخطب سألوا المدد من الأولياء والمقبورين كما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في "كشف الشبهات".(1/30)
4 - روى البخاري في [بَاب غَزْوَةِ أُحُدٍٍ] عَنْ الْبَرَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ :" لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ ، وَقَالَ لاَ تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا" ، وفي رواية أخرى:"فَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ". ففي هذا الحديث دلالة على أن قد يمتنع المسلم من نصرة أخيه المسلم حتى في جهاد الدفع إذا كان ثمَّ مصلحة أعظم تمنع ذلك ؛ فإن حماية ظهور المسلمين في أحد أولى من القتال معهم وإن ظهر المشركون وتخطفت المسلمين الطير ، ولذا نص الفقهاء على أن محل تعين جهاد الدفع على من بقرب الذين هجم عليهم من المسلمين إن لم يخشوا على نسائهم وبيوتهم من عدو بتشاغلهم بمعاونة من فجأهم العدو , و إلا تركوا إعانتهم.(1/31)
الضابط الثالث : نص كبار العلماء المعاصرين على أن العصر الذي نعيش فيه يكون الجهاد بالدعوة والعلم أخص من الجهاد باليد والسيف لضعف المسلمين ، ولأن القتال يعود عليهم في الغالب بنقص في دينهم ودنياهم : ولما ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ (مفتاح دار السعادة:1/70) جهاد العلم وجهاد السيف عند قوله تعالى { وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } فقال: "فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين"أ.هـ. ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (الفتاوى:؟/؟؟) :"لكن مسألة الجهاد مثل وقتنا هذا يتعين الذب عن الكيان بالمقالات ، وتفنيد مقالات الفسقة ، فإن هذا واجب. والأصحاب ذكروا هذا في المطولات ، ذكروا أنه يجب أن تكون طائفة تكشف الشبه"أ.هـ. وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز وذكر ضعف أمر الجهاد (مجموع الفتاوى:3/ 122): "وبهذا يعلم طالب العلم ومن آتاه الله بصيرة أن الدعوة إلى الله -عز وجل- من أهم المهمات وأن واجبها اليوم عظيم لأن الجهاد اليوم مفقود في غالب المعمورة والناس في أشد الحاجة إلى الدعاة والمرشدين على ضوء الكتاب والسنة"أ.هـ. وقال الشيخ الألباني (شريط فرضية الجهاد – رقم 720) : "من أراد أن يجاهد : فعليه أن يتخذ أسباب الجهاد أولاً ، وأسباب أكتساب النصر ثانياً ، وهذا وذاك غير متحقق مع الأسف في هذا الزمان"أ.هـ. وقال شيخنا محمد العثيمين (مجموع الفتاوى:18/388): "إنه في عصرنا الحاضر يتعذر القيام بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه ؛ لضعف المسلمين مادياً ومعنوياً ، وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية ، ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية ، فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة"أ.هـ.(1/32)
الضابط الرابع : ما ذكره العلماء من جواز الخروج دون أذن الحاكم والوالد والغريم في جهاد الدفع للضرورة الموجبة للنفير على الجميع ، لكن هذا محله إذا لم يمكن الاستئذان وخيف من التأخير ضرر كبير ، فأما إذا أمكن ذلك دون ضرر فإنه يجب بناء على الأصل خاصة فيما يتعلق في أذن الإمام ، فإذن الإمام لا يسقط إلا مع العجز ، ولذا قال عبدالله ابن الإمام أحمد (مسائل عبدالله لأبيه:2/258): "قلتُ لأبي : فإن خرجوا بغير إذن الإمام ؟ قال : لا , إلا أن يأذن الإمام , إلا أن يكون يفاجئهم أمرٌ مِن العدو ولا يُمكِنُهم أن يستأذنوا الإمام فأرجو أن يكون ذلك دفعاً مِن المسلمين". وسيأتي أدلة ذلك مبسوطة في الضابط الثاني من ضوابط الجهاد عند ذكر أن الجهاد لا يكون إلا بإذن الإمام.
- تنزيل ما تقدم من الشروط والضوابط على مثالين معاصرين :
(المثال الأول) : في نازلة العراق حينما غزت الدولة النصرانية الكبرى ومن حالفها بلاد العراق لإسقاط حكم صدام حسين البعثي تنادى كثير من الشباب في السعودية للجهاد ضد هذه الدولة دون مراعاة لكثير من الضوابط الشرعية للجهاد السابقة ، وموازنة المصالح والمفاسد المترتبة عليه ، ومنها :(1/33)
1- وجود المعاهدة والميثاق بين البلاد السعودية والدولة النصرانية التي تمنعها من الدخول في هذه الحرب ، وقد قدمنا ذلك عند قوله - عز وجل - { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } ، وما روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبيْه - رضي الله عنهم - لمّا أَخَذَ عَلَيْهِمْا الكُفَّارُ العَهْدَ لاَ يُقَاتِلاَنِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". ومثله ما روى البخاري في مصالحةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارَ قريشٍ عَلى [أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ... فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا] ، فالعهد في الشرع مانع من نصرة المسلمين المتميزين إذا حاربهم أهل ميثاقنا ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم العهد على النصرة الواجبة العينية على حضرا الصف ، وأبلغ من ذلك أنه أسلم بعض المسلمين للكفار بمقتضى المعاهدة ، ولذا وقال الشوكاني(فتح القدير2/479 ) في تفسير الآية { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } : "إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ميثاق ، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم"أ.هـ.(1/34)
وقال الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير:6/86) : "أن الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلا إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين ، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلق إلا بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد"أ.هـ. وسئل شيخنا صالح الفوزان (شرح نواقض الإسلام:167) هل يجوز للمسلمين مناصرة المسلمين أهل عهدنا ؟ فقال مستدلاً بالآية :"لا يجوز نقض العهد إلا إذا كان فيه شرطٌ : أنكم إذا قاتلتم المسلمين فإنه ينتقض العهدُ الذي بيننا وبينكم". وقال (الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:158) : "الدول بينها معاهدات فلابد أنك تأخذ إذن الإمام بالخروج لتلك الدولة ، المسائل لها أصول ما هي فوضى ، فإذا أذن لك ولي الأمر وأذن لك والداك وعندك استطاعة فلا بأس"أ.هـ.(1/35)
2- أن ولي الأمر بالمملكة العربية السعودية بمقتضى هذه المعاهدة ولأمور ستأتي لا يرضى لمن هم تحت ولايته أن يفتاتوا عليه فيقاتلوا دون إذنه ؛ لأن أمر الجهاد موكلٌ إلى إمام كل بلد لمن تحت يده بدلالة الكتاب والسنة ، قال البغوي (تفسيره:1/66) قوله - عز وجل - : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه } : "قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن"أ.هـ. روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ يُطِعْ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ". بل حتّى في جهاد الدفع : (1) يقول - عز وجل - في غزوة الأحزاب { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } ، وروى مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة - رضي الله عنه - : "اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ" رواه مسلم ، وفي لفظ أحمد "وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا". (2) في غزوة أحد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرماة :"إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَََلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ" ، بوّب عليه البخاري {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ} ، ولذا قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ.(1/36)
فجهاد الدولة الصليبية المعتدية على العراق ممنوع على أهل البلاد السعودية شرعاً ما لم يأذن ولي أمرهم ، وإلا دخل المخالف في الوعيد المترتب على خلع اليد من الطاعة كما روى مسلم عَنْ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النبَِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :"مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". وفيما روى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". ولذا سئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان بعد أن حرّم الذهاب لأي جهاد إلا بإذن ولي الأمر : هل يكون شهيداً لو قتل ، فقال(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:163) : "يكون غير مأذون له بالقتال ، فلا يكون قتاله شرعياً ، ولا يظهر لي أن يكون شهيداً"أ.هـ. وقال عمن لا يشترط إذن الإمام (الإجابات المهمة في المشاكل الملمة:65) : "أما أهل السنة فيقولون : لا بد من راية ولا بد من إمام ، هذا منهج المسلمين من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالذي يفتي بأنه لا إمام ولا راية وكلٌّ يتبع هواه ، هذا رأي الخوارج"أ.هـ.(1/37)
3- أن علماء السعودية الكبار الراسخين منعوا من الذهاب للقتال في العراق بناء على القواعد الكلية الشرعية ، ومن المعلوم أن المرجع في بيان أحكام الجهاد الشرعي هم أهل العلم لقوله - عز وجل - في سياق ذكر المغازي : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، قال الشوكاني(فتح القدير:1/741) : "وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم"أ.هـ. ولذا أنكر - صلى الله عليه وسلم - وهو المرجعية الشرعية على أسامة - رضي الله عنهم - قتله الرجل فقال : "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟" ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ" لمّا قتل - رضي الله عنه - الذين قالوا : صَبَأْنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر كراهية بعض الصحابة - رضي الله عنهم - لشروط صلح الحديبية(منهاج السنة النبوية:8/409): "وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع، فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير ، وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه ، وليس له معارضته برأيه وهواه"أ.هـ.(1/38)
وفي نازلة العراق رأى علماؤنا الكبار الذين يستنبطونه عدم جواز ذهاب الشباب السعودي للجهاد في العراق بسبب المعاهدات وعدم إذن ولي الأمر وعدم وجود الراية والمفاسد المترتبة على ذهابهم ، فمن ذهب وعاند فقد خالف أمر الله الذي جعله ديناً وشرعاً قبل الشروع بالجهاد ، وقد نقلت (جريدة عكاظ- 17/9/1427هـ - العدد1940) عن سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة أنه قال : "إن سفرهم لا يصلح لأن في العراق أموراً خفية لا يدري الإنسان عن وضعها ، أنا أدعو الجميع إلى الدعاء باجتماع كلمتهم ، وأما الخروج والسفر والمشاركة واقتحام الأمور فلا يصح ، مع كل هذا لا يقبل ولا يليق بشبابنا السفر للعراق انصحهم بعدم الذهاب بل أحذرهم أيضاً .. أرجو ممن يحرض شبابنا أن يتبصر في الواقع ويعلم أن تحريضهم خطأ"أ.هـ. وقال فضيلة الشيخ صالح الفوزان(الفتاوى الشرعية:157) : "لا يجوز لهم أن يذهبوا إلا بإذن الإمام لأنهم رعية ، والرعية لا بد أن تطيع الإمام"أ.هـ.(1/39)
4- لو أرادت السعودية نصرة المسلمين في العراق فإنه لا طاقة لها بقتال الدولة النصرانية ، ودخولها في مثل تلك الحروب هو نوع من المغامرة التي ستودي لمضاعفة مصائب المسلمين ، فبدل تدمير دولتين : أفغانستان والعراق ، ستدمر بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ، وهذا لا يقول به إلا معتوه فاقد الشعور أو خارجي يرى أنها دار كفر ، وقد قدمنا أنه لا أثم بترك نصرة المسلمين مع العجز كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرة المستضعفين من أصحابه في مكة ، بل قال لهم وقد سألوه النصرة وأمرهم بالصبر :"وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ". وترك كذلك - صلى الله عليه وسلم - نصرة بعض أصحابه الهاربين من تعذيب الكفار كأبي بصير وأبي جندل - رضي الله عنهم - بسبب ضعف المسلمين الذي ألجأهم للصلح. قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان (فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة:205) : "شروط الجهاد معلومة : أن يكون في المسلمين قوة وإمكانية لمجاهدة الكفار , أما إن لم يكن عندهم إمكانية ولا قوة فإنه لا جهاد عليهم , فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا في مكة قبل الهجرة ولم يُشرع لهم الجهاد , لأنهم لا يستطيعون"أ.هـ. وما عمله ولاة الأمور في البلاد السعودية من إحراز الدين والبلاد والأنفس من التدمير هو السياسة الحكيمة المأخوذة من معنى الأمر الإلهي الذي أوحاه لنبيه - عليه السلام - : "إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ".(1/40)
5- عدم وجود الراية الشرعية مانع من الذهاب إلى العراق ، وإذا لم تكن هناك راية فالقتال يدخل فيما قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ". قال النووي عن الراية العمية(شرح مسلم :12/ 238( : "قالوا : هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه"أ.هـ. والقتال في العراق ليس تحت راية ظاهرة تروم إعلاء كلمة الله ، بل هي رايات كثيرة يضرب بعضها بعضاً ، قال فضيلة الشيخ العلاّمة محمد بن صالح العثيمين عن شروط الجهاد(تفسير القرآن:3/49) : "منها أن يكونوا تحت راية إمام يجاهدون بأمره"أ.هـ. وقال الشيخ صالح الفوزان(فتاوى الأئمة:205) : "وليست من صلاحيات أي أحد أو أي جماعة تذهب أو تغزو بدون إذن ولي الأمر"أ.هـ. بل قال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن قتال العراق(جريدة عكاظ:28/9/1425هـ) : "ليس هناك راية يقاتلون تحتها ولا أرضية يقفون عليها ، والذهاب إلى هناك من باب التهلكة وهو ما لا يصلح"أ.هـ.(1/41)
6- ما تبين من كلام سماحة المفتي ـ حفظه الله ـ أن الذهاب إلى العراق إلقاء للنفس بالتهلكة ، لأن الخارجين بلا راية ظاهرة وجيش يتحيزون إليه ، بل يدفعون للانتحار بقتل أنفسهم ، كما شاهدنا على بعض القنوات المرئية حين تكلم بعض المغرر بهم ، فصرحوا بأنهم ذهبوا للجهاد هناك فأعطوا سيارات مفخخة دون علمهم ليقودوها إلى مكان ما ، فإذا توجهت إلى المكان الذي خطط له قام الخونة ففجروها بهذا الغافل الذي لا يدري ما يراد به ، ولذا ففي المقال نقله الشيخ أبو عمر العتيبي في موقعه المسمى باسمه عن الشيخ أبي عبد الرحمن محمد الطائي البغدادي ، قال : "اعلموا أنه لا يوجد للمقاتلين هنا ملاذ آمن!! وهم لا يستطيعون حماية أنفسهم فكيف حمايتكم وإيواؤكم ؟ وهل تظنون أن لهم مكاناً متحرزين فيه أو جبهة يُقاتلون منها ؟ ما ينتظركم حزامٌ ناسف ، وبعدها يقولون لكم : إلى الجنَّة ، ما ينتظركم سيارةٌ مفخخة ، وبعدها يقولون لكم: تنتظركم الحور العين!! أما فكَّرتم يا شباب الأمة لماذا الذي أفتاك أو أرسلك لا يذهب إلى الجنَّة ، وإلى الحور العين ؟ أم هو قد زهد فيهما ودفع غيره لهما!! ينتظركم يا شباب الأمة أن تباعوا وأنتم لا تدرون"أ.هـ.(1/42)
7- ومما يمنع من الذهاب أن قيام الحرب في العراق كان بين دولة نصرانية وحزب الطاغوتي كافر ، فتصوير هذا القتال أنه حرب بين الكفر والإسلام تزوير للحقائق الشرعية ، فلم تكن دولة العراق دولة إسلام وسنة ، بل دولة يحكمها طاغوت بعثي ، وشعبها أخلاط من جميع الديانات الفاسدة ، وأهل السنة على ضعفهم أكثرهم في عماية عن التوحيد والسنة إلا قلة من السلفيين ، فقد ينطبق على هذه الدولة ما ذكره شيخ لإسلام ابن تيمية عن "ماردين" التي فيها حاكم كافر وسكان اخلاط بين كافر ومسلم(مجموع الفتاوى:28 /240): "ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"أ.هـ. بل قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن حاكم العراق (مجموع الفتاوى:7/387) : "لا ريب أن مبايعة مثل هذا الطاغوت ومناصرته من أعظم الجرائم ، ومن أعظم الجناية على المسلمين وإدخال الضرر عليهم ؛ لأن من شرط البيعة أن يكون المبايع مسلماً ينفع المسلمين ولا يضرهم. أما حاكم العراق فهو بعثي ملحد قد أضر المسلمين بأنواع من الضرر في بلاده ، ثم اعتدى على جيرانه ، فجمع بين أنواع الظلم علاوة على ما هو عليه من العقيدة الباطلة البعثية"أ.هـ. فبالأمس أفتى علماؤنا بجواز جهاد حاكم العراق مع التحالف الدولي حين غزا دولة الكويت ، فما الذي جعل اليوم إسقاطهم لهذا الطاغوت من أعظم الجهاد حتى يجب فيه على جميع المسلمين الخروج بدون إذن حكامهم؟!!.(1/43)
8- ما جاء في كتب أهل العلم من أحكام دفع العدو الصائل الذي يهلك الحرث والنسل لا ينزل على واقع الحروب اليوم كما حصل في العراق وغيرها ، لأن الحروب في هذا العصر هي حروب لتغيير الأنظمة والولاءات ، فالدولة النصرانية غزت العراق لأجل إسقاط نظام بعثي من أخبث الأنظمة على وجه الأرض وإبداله بنظام علماني يكون أكثر ولاء لها يقل عنه خبثاً ، وعامة الناس إذا ابتعدوا عن المعارك الدائرة سلموا غالباً على أنفسهم وأهليهم ودينهم حتى تنتهي الحرب ، وذهاب الشباب للعراق فيه توسيع لدائرة الحرب وتعريض للأبرياء للهلاك بلا فائدة مرجوة كما هو حاصل الآن في العراق من فتن أكلت الأخضر واليابس ، ولا يدري المقتول من العراقيين فيما قُتِل ، روى البخاري في كتاب الفتن : {بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ} عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قِيْلَ لَهُ : حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ، فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ؟ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً ، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ".(1/44)
9 – إن رجوع كثير من الشباب العائدين من أفغانستان بعد تعلمهم وسائل القتل والتدمير بأفكار منحرفة تتضمن تكفير ولاة الأمر وجعل التفجير والقتل فيها جهاداً يجعل تكرار التجربة مسألة تردد ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، ولقد سمعت شيخنا العثيمين ـ رحمه الله ـ في مرض موته يقول : "أفتينا الشباب بالذهاب لأفغانستان لجهاد الكفار ، فرجعوا وعاطفة أحدهم تكاد تحمله بين السماء والأرض ليقول : أفتني أقتل فلاناً وفلاناً ، وكأن الناس دجاج أو نعاج"أ.هـ. فعلماء وعقلاء هذه البلد يتوقفون بعد هذا ألف مرة قبل أن يقدم أحدهم على إباحة إرسال الشباب ليكون مكاناً جديداً لنشر الأفكار التكفيرية الإرهابية بين أبنائنا ، خاصة أن تنظيم القاعدة صار له وجود عظيم في العراق ، فقد أعلن أفراده البيعة لأسامة بن لادن ، وخرج علينا الزرقاوي يصرح بتكفير حكام البلاد السعودية وتهديدهم ، فهل يتردد عاقل فضلاً عن مسلم بعد هذا بمنع هؤلاء الشباب من الذهاب إلى تلك البلاد ، وأن ذهابهم من أعظم الخطر على البلاد السعودية.
(المثال الثاني) : واقع السعودية ودولة طالبان الأفغانية : طلبت أمريكا النصرانية من دولة طالبان تسليمها من اتهمته بتدمير برج التجارة لديها ، فأبت فغزوت الدولة النصرانية أفغانستان ، فلم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن الحكم في هذه المسألة ينطبق عليه حكم النفير العام الواجب في جهاد الدفع لأمور :(1/45)
1- أنه صار لكل بلد إمامه وأحكامه وعهوده الخاصة بالإجماع ، قال شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب(الدرر السنية:7/239) : الأئمة مجمعون من كل مذهب ، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء"أ.هـ. وقال الشوكاني عن تعدد الأئمة(السيل الجرار:4/512) فقال: "ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر ، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار"أ.هـ. وقال ابن القيم مبيناً أن عهده - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وبينهم حينما قتل الرسولين وانحاز بمن معه بالساحل : "وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد"أ.هـ.(1/46)
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رداً على الشيخ أحمد شاكر لما أوجب على المسلمين قتل كل أنجليزي حيثما وجدوا مدنيين أو عسكريين(الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء:595) : "والصواب أن يُستثنى من ذلك من كان من المسلمين رعية لدولة أخرى من الدول المنتسبة للإسلام التي بينها وبين الإنجليز مهادنة ؛ لأن محاربة الإنجليز لمصر لا توجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية ، ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز ؛ لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها ، والدليل على ذلك قوله ـ سبحانه ـ في حق المسلمين الذين لم يهاجروا : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق } ، ومن السنة قصة أبي جندل وأبي بصير لمّا هربا من قريش وقت الهدنة ، والقصة لا تخفى فضيلتكم"أ.هـ. فنقول : فالسعودية قد عاهدت تلك الدولة الغربية كما عاهد - صلى الله عليه وسلم - كفار مكة ، فإذا قاتلت دولة طالبان مثلاً تلك الدولة الغربية فليس للسعودية أن تنقض عهدها لقتال هؤلاء الكفار على فرض قدرتها كما تقدم لقوله تعالى { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } ، وَلذا قال - صلى الله عليه وسلم - لحُذَيْفَة وَأَبيه - رضي الله عنه - لَما أَخَذَ عليهما الكُفَارُ العَهدَ بعدم القتال : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ" مع أنهما قد حضرا الصف.(1/47)
2- لو انتفى ما سبق فإن امتناع السعودية عن النصرة لضعف قوتها العسكرية بمقابل القوة الضاربة للدولة النصرانية لا أثم فيه كما لم يأثم النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك نصرة المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم قدرته على نصرتهم كما في حديث خباب - رضي الله عنه - ، ولم يمنعه - صلى الله عليه وسلم - تعذيب أصحابه من قبل الكفار أن يدخل هو - صلى الله عليه وسلم - تحت حماية بعضهم ممن لهم نفوذ بمكة كأبي طالب والمطعم بن عدي ، روى أحمد وصحّحه ابن حبان عن ابْنُ مسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال :"فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ". ولذا قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } . قال ابن كثير : "أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام (الصارم المسلول:1/229) : "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف ، أو في وقت هو فيه مستضعف ، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين"أ.هـ(1/48)
3- إذا ثبت أن سبب القتال دخول المفجرين بأمان وعقود مشروطة لهذه الدولة ، ثم خطفوا طائراتها بعد أن أمنتهم فدمروا أبراجها وقتلوا الآلاف من سكانها حتى طالبت بمدبر هذه الأمور فأبت طالبان ، وهذا من الغدر المحرم ولو اعتبروهم حربيين ؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول(الصارم المسلول:1/408) : "الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ"أ.هـ. بل قال أيضاً(الصارم المسلول:2/522) : "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء"أ.هـ. والدولة السعودية لا يلزمها أن تتحمل وزر الغدر أو تدافع عن أهله ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما روى أحمد والترمذي : "أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ" ، ولو تنزلنا فقلنا : إن دولة طالبان حالها كحال أبي بصير - رضي الله عنه - حين قتل الرسولين دفعاً عن نفسه ، فنقول : والدولة السعودية حالها كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ليس عليهم أن ينصروا أبا بصير بسبب العهود الخاصة ، بل الواجب عليها تسليم المعتدي التي تكون مقتضى العهود على تسليمه كما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير وأبا جندل - رضي الله عنهم - بمقتضى العهد والميثاق.
4- يضاف لذلك أن الشخص الذي تطالب به هذه الدولة النصرانية هو من يكفر حكام السعودية علانية ويرسل أتباعه للتفجير فيها ، فهل يقول عاقل : إن على الدولة السعودية أن تنصر دولة سبب قتالها هو إيواء من ترى وجوب قتاله لكونه يكفرها ويخطط للتفجير في بلادها ويرى ذلك جهاداً ، وهنا يأتي قول شيخ الإسلام عن المسلمين (منهاج السنة:8/349) : "فإن أمر بعضهم بشيء وأمر آخر بضده لم يكن موالاة هذا بأولى من موالاة هذا ، فكانت الموالاة في حال النزاع بالرد إلى الله والرسول"أ.هـ. فإذا أضيف لهذا ما عليه غلب على بلاد الأفغان من العقائد المنحرفة و البناء على القبور والاعتقاد بأهلها تبينت الحقيقة واضحة.(1/49)
5- إن السياسة الشرعية الصحيحة كانت تقتضي أن تسلم دولة طالبان للدولة الغربية من اتهمته بقتل سكانها دفعاً لأعلى المفسدين ، وهو تدمير البلد وإسقاط الحكم وتشريد السكان ، وهم في ذلك ليسوا بأفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وليس المتهم بالتفجير بأفضل من أبي جندل وأبي بصير - رضي الله عنهم - حينما سلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار مكة تطبيقاً لنص المعاهدة التي جاءت في صحيح البخاري : [وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا] ، والتي ذكر ابن القيم من فوائدها(زاد المعاد:3/272) : "أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.(1/50)
6- ظهر الفرق العظيم في تطبيق السياسة الشرعية في هذه الفتنة بين الدولتين ، فلقد شنت الدولة النصرانية حملة كبيرة على السعودية ومناهجها ومذهبها السلفي مع تهديد مبطن للحكم زامن غزو العراق ، ففي الوقت التي عاندت دولة طالبان دون مراعاة للقواعد الشرعية التي توجب عليها حماية البيضة والدين ، نجحت المملكة السعودية بتطبيق هذه السياسة الشرعية بمدارات الدولة النصرانية : (أ) بإعلان براءتها من التفجيرات ومن خلفها في تلك البلاد وأنها لا تتحمل وزرها ، كما لم يحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وزر قتل أبي بصير - رضي الله عنه - لرسولي قريش ولم يعد نقضاً للعهد ، كما روى البخاري قال : "فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ : قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ". قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) : "ومنها أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بدية ولا قود ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم"أ.هـ.(1/51)
(ب) وربما هدأت ولينت في بعض العبارات التي قد تقلل من صولة العدو الصائل فحمت بذلك الدين والأرواح والبلاد خلافاً لطالبان ، وهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية حينما صالح قريش على بعض الشروط التي بها حيف أو ظلم لدفع أعلى المفاسد ، والتي منها : محو البسملة ، ومحو وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة من العهد ، ورد بعض المسلمين إلى الكفار ، والتي ذكر ابن القيم كما مر قريباً في فوائدها : أن ذلك جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.
سادساً : من يشرع قتاله ممن يمتنع
باب الجهاد كغيره من أبواب الشريعة لا مدخل للاجتهاد فيه إذا جاء النص عن الله - جل جلاله - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقد منع الإسلام أشد المنع قتل بعض الكفرة وجعل قتلهم من أعظم الذنوب والخطايا ، وأوجب إراقة دماء بعض المسلمين لبغيهم وعدوانهم وجعل قتلهم من أعظم القربات عند الله سبحانه ، وليس للمسلم في ذلك إلا محض التسليم والأتباع ، ولذا فالناس في هذا الباب على قسمين :(1/52)
- القسم الأول : المعصوم دمه من الكفار ثلاثة أقسام : الأول : الذمي الذي أقام بدار الإسلام إقامة دائمة بأمان مؤبّد يجري عليه حكم الإسلام. الثاني : المعاهد المقيم بداره وبينه وبين أهل الإسلام عهد فلا يجري عليه أحكام الإسلام. الثالث : المستأمن : وهو الكافر الحربي الذي يدخل دار الإسلام بغير استيطان بأمانٍ مؤقت. بل حتى في الحرب لو فهم الكافر الأمان حرم دمه ، ولذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة وخالد - رضي الله عنهم - قتل المتعوذين في الحرب ، قال شيخ الإسلام (الصارم المسلول:1/408) : "الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ"أ.هـ. فهولاء الكفار يحرم الاعتداء عليهم لتقدم الأمان لهم من المسلمين أو بعضهم لهم ، قال الشوكاني (نيل الأوطار:7/155) : "المعاهد : هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان ، فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين أهل الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه ، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } . (*) وقد جاء الوعيد لمن تعرض لدماء هؤلاء الكفار من ثلاثة أوجه : (الأول) : أنه بغير حق ؛ قال تعالى { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ، وروى البخاري قال - صلى الله عليه وسلم - : "لن يزال المؤمن في فُسْحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً" ، قال القرطبي في تفسير الآية (أحكام القرآن:7/133) : "وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنةً كانت أو معاهدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها مما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - "أ.هـ. (الثاني) : أنه غدر كما روى البخاري قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ".(1/53)
وصحح الحاكم وابن حبان عنه - صلى الله عليه وسلم - قال :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وروى أبو داود قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وروى الشيخان قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : الْغَادِر يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" ، وبوب عليه أبو داود فقال : {بَاب فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ}. (الثالث) : أنه خفرٌ لذمة المسلم ، روى الشيخان قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وروى البخاري في باب [أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ] قال - صلى الله عليه وسلم - لأم هانئ لمّا أجارت حربياً في فتح مكة : "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ(1/54)
- القسم الثاني : المباح دمه من أهل القبلة ثلاثة أقسام : الأول : قطاع الطرق وهم قوم امتنعوا من طاعة الإمام وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء. الثاني : البغاة وهم قوم يخرجون عن الإمام يريدون خلعه لتأويل وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش ، فيجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم. الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - عنهم فيما روى البخاري : (فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وروى مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - : (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ). ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن قتال الخوارج ليس كقتال البغاة فقال (مجموع الفتاوى:28/518) : "فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين ، بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال فيهم"أ.هـ. وسبب قتال هؤلاء لأن الأمن مطلب شرعي لحصول التكاليف الشرعية ، وركيزة أساسية وقاعدة عظمى تستند عليها الحياة البشرية ، ولذا قال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } ، قال الطبري (تفسيره4/546) : "المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة"أ.هـ.(1/55)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:28/470) : "فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ، ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فساداً ، ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فساداً ، وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله ، فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم أولى بأن يكون محارباً لله ورسوله ساعياً في الأرض فساداً من هؤلاء"أ.هـ.
سابعاً : ضوابط لمشروعية الجهاد(1/56)
- الضابط الأول : لا جهاد إلا لتحقيق التوحيد وإعداد القوة الإيمانية قبل القوة الحسية : روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد :{بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ} : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. ويقول - عز وجل - { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } ، قال الشيخ السعدي في تفسيره الآية : "ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة ، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله ، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ، ويديلهم في بعض الأحيان ، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:6/450) : "وحيث ظهر الكفار ، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم ، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله"أ.هـ. (*) ولذا انحرف مفهوم الجهاد عند البعض في العصور المتأخرة من وجهين : (الأول) أنه لم يكن تحقيق التوحيد الذي شرع من أجله الجهاد ذا بال عندهم ، ويظنون مع هذا أنهم سينتصرون على عدوهم ، أقوامٌ صارت البدع والبناء على القبور في المساجد والطواف بها وسؤالها من دون الله دينهم ، وتجد من يقاتل معهم فلا ينبههم بحجة أن الوقت ليس وقت دعوة ؟!! فأي جهاد هذا ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الرد على البكري:2/731) : "حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم ، وقال بعض الشعراء : يا خائفين من التتر .. لوذوا بقبر أبي عمر ، أو قال : عوذوا بقبر أبي عمر .. ينجيكم من الضرر.(1/57)
فقلت لهم : هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ... ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله ، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا ... فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به ، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل ... فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً ، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك"أ.هـ. (الثاني) : تجد بعض المتحمسين مع هذا الانحراف يجرون الأمة إلى معارك هي الطرف الأضعف عدداً وعدة مخالفين بذلك قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ، ويقول العلامة الألباني -رحمه الله-(سلسلة الهدى والنور - شريط790 - بعنوان رد شبهات مدعي الجهاد) : "يظنون أن المسألة مسألة نجمع مائة شخص ألف شخص ألفين شخص ونُحَمِّسْهُم على الجهاد في سبيل الله ، ثم ليس في استطاعتهم أن يصنعوا إِبْرَة لِيُرَتِّقوا الفَتْقَ في ثيابهم .. فضلاً أن يصنعوا سلاحاً يقاتلون عدوَّهم ، أين هذا الاستعداد المأمور به في القرآن ؟"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين (شرح بلوغ المرام من كتاب الجهاد الشريط الأول الوجه-أ).(1/58)
ولهذا لو قال لنا قائل : الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا ؟ لماذا ؟ لعدم القدرة الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ ما تفيد شيئاً فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء ؟ ولهذا أقول : إنه من الحمق أن يقول قائل : أنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا كيف نقاتل هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجل { َأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ، هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى"أ.هـ.(1/59)
- الضابط الثاني : لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا دفع إذا أمكن استئذانه : دلَّ عليه الكتاب والسنة واعتقاد أهل السنة على أن أمر الجهاد في الإسلام موكلٌ إلى الأئمة لما يترتب على نتائجه من خطر على مصير الأمة : أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } ، قال البيضاوي(1/539) :"أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه" ، ويقول الله تعالى : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه } [النور:62] ، قال البغوي(تفسيره:1/66) : "قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن"أ.هـ. وأما السنة : فقد كان الجهاد منذ شرع بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي بيانه قريباً ، وروى الشيخان قال - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَيُتَّقَى بِهِ". قال النووي (شرح مسلم:12/230) في معنى كون الإمام جنة : "أي كالستر ؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ، ويمنع الناس بعضهم من بعض ، ويحمي بيضة الإسلام ، ويتقيه الناس ويخافون سطوته ، ومعنى يقاتل من ورائه : أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم"أ.هـ. وأما اعتقاد أهل السنة : فإنه لا يعلم في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة من خرج مجاهداً بغير إذن إمامه أو بدون رايته ، والخروج عن سبيلهم خروج عن سبيل المؤمنين.(1/60)
وقد نص العلماء رحمهم الله على أن من أصول أهل السنة والجماعة مضي الجهاد تحت راية الأئمة برهم وفاجرهم : قال الحطاب المالكي (مواهب الجليل) : قال مالك عن العدو ينزل بالمسلمين : "إن كان الوالي قريباً منهم أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم , وإن كان بعيداً لم يتركوهم حتى يقعوا بهم"أ.هـ. قال الإمام أحمد ( مسائل عبدالله:2/258) عمن خرجوا بغير إذن الإمام : "لا , إلا أن يأذن الإمام , إلا أن يكون يفاجئهم أمرٌ مِن العدو ولا يُمكِنُهم أن يستأذنوا الإمام". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ. وقال الطحاوي (العقيدة الطحاوية:1/49) : "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام حاكياً مذهب أهل السنة والجماعة (في الواسطية) : "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً". ويؤيد كلام هؤلاء الأئمة في وجوب استئذان الإمام في جهاد الدفع إذا أمكن دون ضرر فضلاً عن جهاد الطلب ما قدمنا في معركتي الخندق وأحد اللتين هما جهاد دفع : (1) يقول - عز وجل - في غزوة الأحزاب { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } ، وروى مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة - رضي الله عنه - : "اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ" رواه مسلم ، وفي لفظ أحمد "وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا". وفيه قال: "فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - [وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ] ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ".(1/61)
وفي مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - في قصة فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، قال : "فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ". (2) في غزوة أحد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرماة :"إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَََلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ" ، بوّب عليه البخاري {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ} ، قال ابن حجر (فتح الباري:6/163) : "قوله (وعقوبة من عصى أمامه) أي بالهزيمة وحرمان الغنيمة"أ.هـ. فهذه الأحاديث تدل على وجوب استئذان الإمام حتى في جهاد الدفع وعقوبة مخالفته ، وأن محل سقوط إذنه حيث هجم عدو على ناحية ، فيكون باستئذانه تفويت المصلحة الشرعية المتحققة في الدفع ، وهذه ربما تكون شبه معدومة في عصرنا لتطور وسائل الاتصال في الجيوش الحديثة ، فإذا كان ذلك كذلك فلا يتأتى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله.(1/62)
تنبيه : يتتبع بعض الناس شذوذات لبعض الفقهاء ذكروا فيها عدم اشتراط إذن الإمام في الجهاد ، ويهمل هؤلاء لهوى ما تواتر عند أهل السنة في كتب العقائد قولهم "والجهاد ماض مع الأمراء برهم وفاجرهم" ، ولذ قال شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر جهاد الخوارج وأنه لا يقوم به إلا ولاة الأمور (منهاج السنة النبوية:6/118): "وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور ؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون ، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار ، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ، ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور ، وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : يغزى مع كل أمير براً كان أو فاجراً إذا كان الغزو الذي يفعله جائزاً ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالاً مشروعاً قوتل معه ، وإن قاتل قتالاً غير جائز لم يقاتل معه ، فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان"أ.هـ.(1/63)
- الضابط الثالث : لابد من مرجعية شرعية يفرق بها بين الجهاد الشرعي والبدعي : الجهاد مرجعه للدليل الشرعي لا للعاطفة والغيرة ، لمّا صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفار في شروط منها تسليم بعض المسلمين للكفار ، لم يتحمل أكثر الصحابة مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَرَدَدْتُهُ" رواه الشيخان ، ولمَا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذي حملهم - رضي الله عنهم - على ذلك بغض ظهور الكفر على الإيمان قال (المنهاج:8/409) : "لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي ، والشرع على الهوى"أ.هـ. وقد جعل الله تعالى المرجعية في الجهاد لأهل العلم بالدليل من ورثة الرسل كما قال تعالى في سياق السرايا والمغازي { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، قال الشوكاني(فتح القدير:1/741) : " { وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } ، وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم ، أو هم الولاة عليهم { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم"أ.هـ. وقال تعالى في نفس السياق { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ، قال ابن القيم(إعلام الموقعين:2/252) : "جعل قيام الدين بهذين الفريقين ، وهم الأمراء والعلماء ؛ أهل الجهاد وأهل العلم ، فالنافرون يجاهدون عن القاعدين ، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين ، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم"أ.هـ.(1/64)
وقال العلامة ابن عاشور(التحرير والتنوير:1/1922) : "فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان"أ.هـ. ولذلك بيَّن شيخ الإسلام ابنُ تيمية أنَّ خواصَّ أهل العلم هم من يبين وقت مشروعيَّة الجهاد من عدمه ، فقال (منهاج السنة:4/405) : "وفي الجملةِ فالبحثُ في هذه الدقائق من وظيفة خواصِّ أهل العلم"أ.هـ. فعلى الحريص على نصرة الإسلام لا يجعل عاطفته هي المقياس دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل العلم ، ولنذكر نموذجين من السنة تبين أن الجهاد بلا علم الوحي يكون انحرافاً أو فساداً :(1/65)
(1) أن الجهاد قد يكون بمخالفة السنة بدعياً : ففي زماننا هذا ضلَّ قوم فجعلوا الجهاد هو استحلال دماء المسلمين والتفجير ببلادهم كما فعلت الخوارج الأولون الذي قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - : "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ" ، فهم الذي قاتلوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا معرضين بكفر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "لا حكم إلا الله" ، فمرجع هؤلاء الأهواء دون أهل العلم الراسخين فيه الذين أمر الله بالرد إليهم ، وجعل الرجوع إليهم قسيماً للجهاد ؛ قال ابن القيم عنهم(إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم ، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى"أ.هـ. (2) أن الجهاد بالتأويل المقابل للنص يكون خطأ : ففي الصحيحين رجلاً أوجع في المسلمين ثم قال كلمة التوحيد لمّا غشاه السيف ، فكف عنه الأنصاري وطعنه أسامة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - له : "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وفي البخاري أيضاً أَنَّ خالداً - رضي الله عنه - قَتل من لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فقالوا : صبأنا ، وامتنع ابن عمر - رضي الله عنهم - عن قتل أسيره، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ".(1/66)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فعل أسامة وخالد - رضي الله عنهم - من الجهاد غير المشروع فتبرأ منه ؛ لأنه اجتهاد في مقابل النص ، في الوقت الذي منع العلم الأنصاري وابن عمر - رضي الله عنه - عن الدم المعصوم بعصمة الدليل ، قال ابن حجر (ص:13/182) : "قوله - صلى الله عليه وسلم - (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) يعني من قتله الذين قالوا : صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول ، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين"أ.هـ.(1/67)
- الضابط الرابع : يباح في جهاد الدعوة أو الدفع عقد الصلح والهدنة مع الكفار : فقد أباح الإسلام معاهدة الكفار إذا كان في ذلك جلب مصلحة أو دفع ضرر عنهم خصوصاً عند الضعف ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، (1) قال تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } : قال ابن كثير(التفسير:2/322) : "فأما إذا كان العدوّ كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت الآية الكريمة: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } . (2) وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية لما صالح كفار مكة على وضع الحرب عشر سنين ، فبوب عليه البخاري {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ} ، وابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، ويقول ابن القيم(زاد المعاد:3/304): "يجوز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم"أ.هـ.(1/68)
وقال ابن قدامة (المغني:10/509) : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، وقال سبحانه { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ. قال الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى:8/212): "تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك لقوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنفال:61] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعاً، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً"أ.هـ.(1/69)
- الضابط الخامس : لا جهاد في دار الإسلام وإنما فتنة وإفساد : من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الدار دار إسلام إذا كان أهلها مسلمون تظهر فيهم شعائر الإسلام التي من أعظمها الأذان وإقامة الصلاة ، يحرم بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم ، فمن حمل عليهم السلاح فليس منهم كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بوّب البخاري ـ رحمه الله ـ {بَاب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ} ، فأورد حديث أنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قالَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ". قال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر(التمهيد:13/276) : "وكان - صلى الله عليه وسلم - في غزواته إذا سمع أذاناً كف ، وعلم أنها دار إيمان ، وإذا لم يسمعه أغار وكان يأمر سراياه بذلك". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:3/283) : "والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطبهم في حجة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)"أ.هـ. وقد خالف الخوارج أهل السنة والجماعة فجعلوا الدار دار كفر بالذنوب وحولوا الجهاد إلى بلاد الإسلام بدل بلاد الكفر ، فقتلوا أهل الإسلام وتركوا أهل الأوثان ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ.(1/70)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) وذكر علامة الخوارج: "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. وقال ـ رحمه الله ـ (النبوات:1/140) : "باينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة ، وكانوا كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان "أ.هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) ، وقال : (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال شيخنا العثيمين رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون) : "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ.
- الضابط السادس : وجوب استئذان أصحاب الحقوق في جهاد الدفع : تقدم في الضابط الثاني أنه لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا جهاد دفع كذلك إذا أمكن استئذانه ، وقد نص الفقهاء كذلك على وجوب استئذان الوالد والغريم في جهاد الطلب :(1/71)
1- أذن الوالدين : روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فقدم برّهما على الجهاد ، وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهم - قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". وروى أبو داود وابن حبّان وصححه عَنْ أَبِي سَعِيد "اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا ، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ , وَإِلاَّ فَبِرّهمَا" : فلا يجوز جهاد الطلب إلا بإذن الأبوين المسلمين ، قال ابن رشد(بداية المجتهد:1/502) : "وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها إلا أن تكون عليه فرض عين"أ.هـ. وحتى في جهاد الدفع ذكروا أنه إذا كان له أبوان شيخان كبيران أو أحدهما وليس لهما عائل سواه ، فلا يحل له ترك من يضيع منهما ، بل قال الحنفية وبعض المالكية : إنه لا يخرج إلا بإذن الأبوين الكافرين أو أحدهما إذا كره خروجه مخافة ومشقة , وأما إذا كان لكراهة قتال أهل دينه فلا يطيعه ما لم يخف عليه الضيعة . إذ لو كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فرضت عليه ولو كافراً , ولا يترك فرض عين ليتوصل إلى فرض كفاية.(1/72)
2- أذن الغريم : روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ". قال القرطبي وذكر الحديث(تفسير:4/260) : " قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد والقصاص في هذه كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة"أ.هـ. وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد إذا كان الدين حالاً ، واختلفوا فيما وراء ذلك , قال ابن قدامة (المغني:10/378) : "ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلاً أو يوثقه برهن ، وبهذا قال الشافعي ، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ، ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن (رَجَلاً جَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنْ قُتِلْتُ في سَبيْلِ اللهِ صَابِراً مُحْتَسِباً تُكَفَّرُ عَنْيْ خَطَايَايْ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيْلَ قَالَ لِيْ ذَلِكَ) رواه مسلم ، وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه ، لأنه تعلق بعينه فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريراً بتفويت الحق"أ.هـ.(1/73)
ثامناً : شبهات حول الجهاد والرد عليها :
إن الخلل الذي وقع في تأريخ الأمة وحاضرها في باب الجهاد كان بسبب عدم فهم النصوص الشرعية على مرادها التي وضعت له ، فلم يعرفوا العام والخاص والمجمل والمقيد والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، بل سلكوا طريق أهل الأهواء بتنزيل النصوص على قواعد قعدوها لأنفسهم ، صار الجهاد هو التفجير والقتل في بلاد السنة والتوحيد كما فعل الخوارج الأولون مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:13/210) : "فانتحلت الخوارج كتاب الله وانتحلت الشيعة أهل البيت وكلاهما غير متبع لما انتحله ، فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها ، وكفّروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم ، ولهذا تأول سعد بن أبى وقاص فيهم هذه الآية { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ - الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض } [البقرة:26-27] ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن"أ.هـ. وقال ابن القيم عنهم (إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى وبالله التوفيق"أ.هـ. ولنستعرض الآن بعض شبهات من يدعي الفقه في دين الله وهم يتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن :(1/74)
- الشبهة الأولى : الجهاد ماض إلى يوم القيامة في حال القوة والضعف : يحتج البعض على وجوب استمرار الجهاد على المسلمين بكل حال دون مراعاة لضوابط الجهاد المذكورة في كتب أهل العلم ـ كشرط القدرة ، أو انتفاء العهد ، أو وضوح الراية المنافية للرايات العُمية ـ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد ضعيفة قال : "الجِهَادُ ماضٍ إِلَى يَومِ القِيَامِةِ" ، وبما روى مسلم عن معاوية - رضي الله عنه - وبنحوه عن جابر وعقبة بن عامر وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : "لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وهذا التقرير يناقض الشرع والإجماع والنظر الصحيح والواقع : (*) أما الشرع : فلقوله تعالى { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ، وقد صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - كفار مكة صلح الحديبية فأودعه البخاري في {باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة} ، وروى أبو داود في باب {صلح العدو} عَنْ ذِي مِخْبَرٍ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا" ، وتقدم الأمر بالفرار من الدجال ، وقول الله عزوجل لعيسى عليه السلام "إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ" ، فأثبتت النصوص أن لا جهاد في مثل هذه الأزمان والحالات. (*) وأما الإجماع : فالأمة مجمعة على أن حكم الصلح والمهادنة باق إلى يوم القيامة لم يأت ما ينسخه ، وقد عقد أصحاب المذهب السنية لذلك أبواباً في كتاب الجهاد كما ذكرنا بعضه في الضابط الرابع من ضوابط الجهاد.(1/75)
(*) وأما النظر : فلأن الله - عز وجل - لا يكلف الأمة ما لا تطيق إذا عجزت عن القتال في بعض الأوقات، لذا أمر الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - باللجوء بالمسلمين إلى الطور. (*) وأما الواقع : فالمسلمون من عصور مضت لا ينطبق عليهم أو طائفة منهم وصف الغلبة والقهر والظهور على عدوهم كما جاء في ظاهر الحديث ، مع كون المسلمين ما زالوا في مختلف العصور يجنحون للصلح والمهادنة إذا عجزوا عن قتال عدوهم ، وما أنكر ذلك أحد من العلماء. (*) وأما معنى الحديث : فيحمل على أحد معنيين : (الأول) : أنه بمعنى الخبر على غالب الأحوال ولو تخلف ذلك في بعض العصور ، وهذا الذي فهمه الصحابة ، فقد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو كما روى مسلم : لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ. فاعترض عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ بعموم هذا الحديث بأنه (لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ يُقَاتِلُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ) ، فوافقه عَبْدُ اللَّهِ ، لكنّه أخبر أنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ بعدها رِيحًا لاَ تَتْرُكُ مُؤمِناً إِلاَّ قَبَضَتْهُ ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. ، قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري:13/19) : "والجمع بينه وبين حديث (لا تزال طائفة) حمل الغاية في حديث (لا تزال طائفة) على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم فلا يبقى إلا الشرار فتهجم الساعة عليهم بغتة"أ.هـ. ومثل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الشيخان قال - صلى الله عليه وسلم - في الْخَيْل : "مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ، بوب البخاري عليه ، فقال : {بَاب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ} ، فمن فهم من حديث الطائفة لزوم الجهاد في كل زمان يلزمه أن يقول : بلزوم الجهاد على الخيل في كل زمان حتى في عصرنا.(1/76)
(الثاني) : أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة بالسنان إذا توفرت شروطه ، فإن تعذر فبالحجة والبرهان واللسان ثم بالقلب في حال ضعفهم ، وهذا الذي فهمه كبار الأئمة كالبخاري حين بوّب على حديث الطائفة ، فقال : {بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ} ، وكذا نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري:13/293) عن علي بن المديني وأحمد ويزيد بن هارون قالوا : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وذكر النووي أن هذه الطائفة قد تكون من مقاتلين ومن فقهاء ومحدثين وغيرهم من أهل الخير مجتمعين أو متفرقين في أقطار الأرض حتى قال (شرح مسلم13/67) : "وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة فان هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن"أ.هـ. فهذا ما فهمه الأئمة من أن الظهور لا يكون من قتال بكل حال ، بل يكون في القتال في عصر دون عصر ، وبينما يكون بجهاد الحجة والبيان باللسان في كل عصر لزوماً وإن ضعفت قوتهم وقل عددهم ، فيكون الجهاد قائماً مستمراً بأحد هذه الأشياء ، قال ابن القيم (زاد المعاد3/64) :"والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين : إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع"أ.هـ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى الكبرى:5/537) : "والجهاد منه ما هو باليد ، ومنه ما هو بالقلب ، والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة ، فيجب بغاية ما يمكنه"أ.هـ. ولنختم هذه الشبهة بفهم عالمين من كبار العلماء في عصرهما : قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:1/228): "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب"أ.هـ.(1/77)
وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان عمن يستشهد بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجهاد ماضٍ إلى أن تقوم الساعة) ؟ فأجاب الشيخ(الجهاد وضوابطه الشرعية:48) : "نعم الجهاد ماضٍ إذا توفرت شروطه ومقوماته فهو ماضٍ ، أما إذا لم تتوفر شروطه ولا مقوماته فإنه ينتظر حتى تعود للمسلمين قوتهم وإمكانيتهم واستعدادهم ، ثم يقاتلون عدوهم"أ.هـ.(1/78)
- الشبهة الثانية : إذن الإمام لا يجب في الجهاد لقصة أبي بصير ومن معه - رضي الله عنه - : استدل بعض الناس بهروب أبي بصير ومن معه إلى ساحل البحر مع التعرض لعير قريش بقتلهم وسلب أموالهم دون أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالجواب من وجهين : (الأول) : أن لا يجوز أن يحتج بحال أبي بصير من كان في عنقه بيعة لإمام فيخرج بدون إذنه فيقاتل لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الشيخان :"وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ" ، وروى مسلم قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ". وروى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ.(1/79)
وإنما يصح أن يحتج بقصة أبي بصير في حال تعدد الولايات بأن من كان تحت ولاية إمام فلا يلزمه استئذان إمام آخر ليس هو تحت ولايته ؛ فإن أبا بصير - رضي الله عنه - لم يكن تحت يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمه بل صار متميزاً له أحكامه الخاصة التي تلزم من كان تحت يده : قال ابن القيم(زاد المعاد:3/267) "والعهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم ، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد ، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"أ.هـ. ورد الشيخ صالح بن فوزان الفوزان على هذه الشبهة بقوله (الجهاد وضوابطه:52) : "أبو بصير ما هو في قبضة الإمام ، أبو بصير في قبضة الكفار في ولايتهم ، فهو يريد أن يخلص نفسه من الكفار وليس هو تحت ولاية الرسول ؛ لأن الرسول رده لهم بموجب العهد والصلح"أ.هـ. (الثاني) : قد يجاب بما روى البخاري ، وفيه :" فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ". فأشار - صلى الله عليه وسلم - بأن بقاءه يقتضي تسليمه لهم ، وأن فراره يخلي مسؤولية المسلمين ، وتعليمه ما يجوز له شرعاً يعتبر نوع من الأذن من طرف خفي ، قال ابن حجر (فتح الباري5/350) : "وفي رواية الأوزاعي (لو كان له رجال.(1/80)
فلقنها أبو بصير فانطلق) ، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين ، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به ، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم : يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة"أ.هـ.
- الشبهة الثالثة : تكفير من استعان بالكفار في الجهاد بدون تفصيل : يتسارع بعض الناس في التكفير من استعان في المشركين بالجهاد ، وليس فيما قالوا أثارة من علم إلا اتباع الظن ؛ لأن الاستعانة بالكفار لمصلحة حماية بيضة الإسلام والمسلمين جائزٌ شرعاً ، ذكرت في أبواب الفقه لا في أبواب الاعتقاد على اعتبار أنها مسألة خلافية ، وحتى من اختار من العلماء عدم الاستعانة بالكفار لم يصم من استعان بهم بالكفر ، قال سماحة الشيخ ابن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : :"ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر"أ.هـ. وسأسوق بعض الأدلة على جواز هذا الفعل للمصلحة باختصار لأني قد بسطته في كتابي "الولاء والبراء بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين": (الدليل الأول) : دخول قبيلة خزاعة في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهم مشركون ، وقاتلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قريش عام الفتح ، قال سماحة الشيخ ابن باز(فتاوى ومقالات:6/172) :"ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة"أ.هـ.(1/81)
(الدليل الثاني) : روى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح قال - صلى الله عليه وسلم - : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ" ، ذكره ابن حبان في باب {ذِكْرِ الإِخْبَارِ عَنْ وَصْفِ مُصَالَحَةِ المُسْلِمِيْنَ الرُّوْمَ} ، والمجد في "المنتقى" في باب {ما جاء في الاستعانة بالمشركين} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (فتاوى ومقالات:6/185) مبيناً جواز استعانة المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد : "وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم" فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ. (الدليل الثالث) : شهود كثير من المشركين غزوة حنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جيش ، كما روى مسلم في "صحيحه" عَنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال الحافظ ابن حجر (6/179) وذكر نسخ حكم عدم الاستعانة بالكافر : "وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مشرك ، وقصته مشهورة في المغازي"أ.هـ.(1/82)
(الدليل الرابع) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدروع صفوان بن أمية - رضي الله عنه - وهو مشرك ، قال الإمام الشافعي (الأم:4/372) : "واستعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "وقال يوم بدر : لا أستعين بمشرك ، ولم يقل لا تستعينوا ، بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم ، والحمد لله معه جماعة مسلمون ، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم. وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه"أ.هـ.
(الدليل الخامس) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين في غزواته خاصة في يوم أحد والخندق والمصطلق : روى البخاري ومسلم قصة انخذال المنافقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلَتْ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } ". قال الشيخ السعدي : "لما أمروا بالقتال { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : ذبًا عن دين الله وحماية له وطلباً لمرضاة الله { أَوِ ادْفَعُواْ } عن محارمكم وبلدكم إن لم يكن لكم نية صالحة"أ.هـ. وقال الصنعاني (سبل السلام:1/199): "ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبيّ وأصحابه"أ.هـ.(1/83)
(الدليل السادس) : استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته بدليل عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كما روى البخاري فِي {بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) مبينًا جواز الاستعانة بغير المسلمين : "واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة"أ.هـ. (الدليل السابع) : استجارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف أهل مكة فحماه ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم"أ.هـ.
(الدليل الثامن) : روى البخاري :"إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } "أ.هـ.(1/84)
(الدليل التاسع) : اتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عيناً مأموناً ففي صحيح البخاري "وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ" ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.(1/85)
- الشبهة الرابعة : دعوى الجهاد في المملكة العربية السعودية وجعلها دار حرب : (*) عرف فقهاء الإسلام أنها كل بقعة يقطنها المسلمون تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة ، ولا تصير دار الإسلام دار كفر إلا بظهور أحكام الكفر فيها عند الجمهور ، وزاد أبو حنيفة : أن تكون متاخمة لدار الكفر ، وأن لا يبقى فيها مسلم. وأما الشافعية فقالوا : لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال ، قال الشوكاني(السيل الجرار:4/575) : "الاعتبار بظهور الكلمة ، فإن كانت الأوامر في الدار لأهل الإسلام ، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره ، إلاَّ كونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام ؛ فهذه دار إسلام ، ولا يضر ظهور خصال كفرية فيها ؛ لأنَّها لم تظهر بقوة الكفار ، ولا بصولتهم ، وإذا كان الأمر بالعكس ، فالدار بالعكس» أ.هـ. ولذا قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (شرح بلوغ المرام من كتاب البيوع- شريط رقم2) : "إذا غلب عليها اسم الإسلام والصلاح وغيرها من شعائر الإسلام ، فهي بلاداً إسلام ، وإن كان الحاكم كافراً"أ.هـ. وقال العلامة الألباني (سلسلة الهدى والنور: رقم- 717) : "فإذا كان الغالب على سكان البلد ونظامهم هو الإسلام ، فهي دار إسلام ، وإن كان قد يحكمون بنظام غير إسلامي صرفاً أو محضاً"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين عن بلاد الجزائر مع كون الحكم فيه بالقانون : في اشتداد هذه المضايقات هل تُشرع الهجرة إلى بلاد الكفر ؟ فقال الشيخ (براءة علماء الملة من تزكية أهل البدعة والمذمة:112) : "الواجب الصبر ؛ لأن البلاد بلد إسلام ، ينادى بها للصلوات الخمس وتقام فيها الجمعة والجماعات ، فالواجب الصبر حتى يأتي الله بأمره".(1/86)
(*) بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن البلاد التي يظهر فيها أحكام الكفر ، ويختلط فيها المسلمون مع الكفار لا تكون دار كفر خالصة ، لأنه لما سئل عن بلاد "ماردين" وهي ثغر مختلط به عساكر وسكَّان مسلمون ، وفيها كفار من سكان وحاكم هل هي بلد حرب أم بلد سلم قال (مجموع الفتاوى:28 /240) : "وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"أ.هـ. والبلاد السعودية باتفاق عقلاء العصر ممن لم يسلم عقله لشياطين الفتنة هي الدولة الوحيدة التي تقوم على منهج السلف الصالح بتحقيق التوحيد والعبودية ، وهي أكثر دولة في هذا العصر تطبيقاً لشرائع الإسلام في محاكمها وأنظمتها ، وتظهر شعائره في مساجدها وسائر مرافقها ، وهي التي ينطبق عليها دار الإسلام عند جميع من عرّف دار الإسلام من فقهاء المذاهب السّنية ، بل دار الإسلام في عصر غربة الإسلام وأحق الدول بوصف دار الإسلام اعتقاداً وعملاً مما سواها من الدول ، ولذا فمن حكم على هذه البلاد السعودية بأنها دار حرب ، ونظّر لأتباعه دعوى الجهاد فيها باستباحة دماء أهلها كجنودها أو المستأمنين فيها ، فقد سلك مسلك الخوارج الذين هجروا بلاد التوحيد وجعلوها دار كفر بالذنوب ، واستقروا بلاداً أخف أحوالها أنها دار بدع وخرافة مع ظهور الشرك فجعلوها دار الإسلام ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ.(1/87)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) في علامة الخوارج : "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. فهذا المنهج طبقه ورّاث الخوارج في عصرنا على هذه البلاد التي رفعت شعار السنة والتوحيد ، وأوت المضطهدين ونصرت المستضعفين وواست المحتاجين من المسلمين في أصقاع الأرض ، فلم يحفظوا لها سابقتها ، بل هي فئة الإسلام والمسلمين في هذا العصر ينطبق عليها ما قاله شيخ الإسلام حين ذكر الطائفة المنصورة في وقته بأكناف الشام وفساد أكثر أهل الأرض(مجموع الفتاوى:28/532) فقال : "والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ، ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها مالا يعلمه إلا الله والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها ... فلو إستولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه"أ.هـ. وإليك نصوص كبار العلماء الذين هم أعرف الناس بالله وأخشاهم له في هذا الزمان في أن ما قاله شيخ الإسلام إنما يتنزل اليوم على بلاد التوحيد والسنة التي قامت على دعوة الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب : قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى ومقالات:9/98) : "وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمن الله بها البلاد ، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. وقال رحمه الله(مجموع فتاوى ومقالات:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج.(1/88)
الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" ، وقال :"أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة ، وهي لا تخلو من الشرّ كسائر بلاد العالم ، بل حتى المدينة النبوية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وُجد من بعض الناس شرٌّ ، لقد حصلت السرقة وحصل الزنا"أ.هـ. وقال رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون): "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي السعودية الحالي(جريدة الرياض-8/8/1422هـ- عدد12175) : "أما من يشكك في هذا ويشكك في منهج هذه الدولة المباركة فهذا إما جاهل أو أن في قلبه مرضاً ، وليحذر المسلم أن ينساق وراء مثل هؤلاء فليس وراءهم إلا الفتنة وإثارة التنازع والشقاق"أ.هـ.(1/89)
- الشبهة الخامسة : التفجير بحجة إخراج المشركين من جزيرة العرب : نتج من تكفير هؤلاء لحكام البلاد السعودية وجعلها دار حرب أنهم خرجوا يقتلون النصارى المستأمنين ، ثم يفجرون في مساكن أهل التوحيد ، بل ويقتلون جنودها بحجة إخراجهم من جزيرة العرب تطبيقاً بزعمهم للحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، فصاروا كالخوارج الذين فهموا من نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه الخروج بالسيف على المجتمع المسلم وولاته ، فانطبق عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ" ، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج كما في الصحيحين عَنْ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : "أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ". في رواية البخاري : "لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ" ، وفي حديث عَليٍّ - رضي الله عنه - عندَ مسلمٍ : "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ" ، وفي لفظٍ : "يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ" ، وفي حديث أبي ذرٍ عند مسلم : "هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ".(1/90)
قال الآجري في {باب ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم وثواب من قتلهم أو قتلوه} (الشريعة:1/136): "لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء ، عصاة لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن صلّوا وصاموا ، واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموّهون على المسلمين. وقد حذرنا الله - عز وجل - منهم، وحذّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده ، وحذرناهم الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان –رحمة الله تعالى عليهم-. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس ، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج ، يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(منهاج السنة:5/248) : "وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره. أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى ، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة"أ.هـ. وبيان ضلال هؤلاء بالاحتجاج بالحديث على قتل معصومي الدماء من أوجه :(1/91)
1- اختلاف أهل العلم في المراد بجزيرة العرب ، فقيل : هي الحجاز , وقيل : هي من عدن أبين إلى ريف العراق. لكنهم اتفقوا جميعاً على أنَّ المراد بالحديث النهي عن استيطان غير المسلم فيها ، ولم يفهم أحد منهم ما فهمه هؤلاء من تحريم دخول الكفار لها مطلقاً ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى اليهود إلى خيبر قال :"نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ" ، حتى أجلاهم عمرُ - رضي الله عنه - ، فقال "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا ، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" رواه البخاري. وكذلك كان في المدينة في عهد عمر - رضي الله عنه - جماعة منهم ، حتى إنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ لمّا قتله المجوسيُّ قال لابنِ عبّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلامَ ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا" رواه البخاري. فلو فهم عمر - رضي الله عنه - المنع مطلقاً لمّا أقرهم على ذلك ، قال شيخنا العثيمين(لقاء الباب المفتوح:2/368-لقاء39) : "أما قوله - صلى الله عليه وسلم - (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، فالمراد منها السكنى ، وأما الأجراء وما أشبه ذلك فلا يدخلون في هذا ؛ لأنهم ليسوا قاطنيين بل سيخرجون"أ.هـ.(1/92)
2- أن الحديث أمرٌ بإخراجهم لا قتلهم بعد تأمينهم ، ففي قصة إخراج عمر - رضي الله عنه - لليهود من خيبر الآنفة : "فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ" ، ففيه عدم جواز ظلم من أخرج منهم ، بل يجب أن يوفى لهم بحقوقهم كما فعل عمر - رضي الله عنه - من إعطائهم قيمة ما كان لهم من الطعام والمال ، فأين هؤلاء ممن يفتتئتون على الولاية ويقتلون المستأمنين الذين حرم الله دماءهم وأموالهم.(1/93)
3- أن قتل هؤلاء هو من أعظم الخيانة التي حرمها ، لأن هؤلاء إما أن يكونوا معاهدين ، وإما أن يكونوا مستأمنين ، وقد روى البخاري عَنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". قال ابن حجر(فتح الباري:12/259) : "والمراد به من له عهد مع المسلمين ، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان ، أو أمان من مسلم"أ.هـ. وروى الشيخان ـ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وصحح الحاكم وابن حبان قوله - صلى الله عليه وسلم - :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد العثيمين (كما في خطبة بخط يده) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية وذكر (مَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : " ومعنى الحديث أن الإنسان إذا أمن إنساناً وجعله في عهده ، فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً من أخفرها وغدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"أ.هـ.(1/94)
4- أن الشريعة لم تخاطب بمسائل العهود والعقود آحاد الناس ، بل المخاطب فيها هم ولاة الأمور الذين أوجب الله طاعتهم على الرعية ، وجعل الله في أيديهم إقامة الدين والحل والعقد ، وقد قدمنا ما روى البخاري في قصةِ إجلاءِ اليهودِ من خيبر قَالَ : قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ : "وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" ، ففي الحديث أن الذي بيده إخراجهم هو من بيده العهد ونقضه ، وهو ولي الأمر. وروى البخاري في باب [يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ] : قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - : أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ، وقد تقدم قول ابن قدامة المقدسي(المغني:10/509) : "فان هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح"أ.هـ. وقول ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. وقال العيني (عمدة القاري:14/299) في دخول المشرك للجزيرة : "فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين"أ.هـ. ولذا قال بعض علماء الدعوة (الدرر السنية :9/168) : "فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حارب وسالم ، وصالح قريشاً صلح الحديبية ، وهادن اليهود وعاملهم على خيبر ، وصالح نصارى نجران ، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده ، ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك ؛ لأنه نائب المسلمين ، والناظر في مصالحهم"أ.هـ.(1/95)
5- لو زعموا أنه لا يصح لهؤلاء عهد بسبب شبهة استوطنت الأفئدة الغاوية ، فيقال قد قرر العلماء أن الكافر الحربي إذا دخل بلاد المسلمين بأمان أو بشبهة أمان أو فهم أنه أمان فإنه يحرم التعرض له : قال الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(بيان الدليل:64) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ. ،وسيأتي تفصيل هذه النقطة في الشبهة التالية.
- الشبهة السادسة : بعض الجهلة الضلال قد لجّوا بتبرير قتل المعاهدين في البلاد السعودية احتجاجاً بقصة كعب بن الأشرف ، وهذا جهل في الشريعة وسوء قصد في النية ؛ من وجهين :(1/96)
(الوجه الأول) : إنه فرض مطابقة ما قالوه الحقيقة فإن إبرام العهود ونقضها وإقامة الحدود والتعزيرات ليست لهم ولآحاد الناس ، وإنما هي من صلاحيات الإمام ، قال ابن قدامة (المغني:13/157) : "ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه ؛ لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ، ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ، ولأن تجويزه من غير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية ، وفيه افتيات على الإمام"أ.هـ. وقال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. ولذا قدمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاهد كفار مكة في الحديبية مع كراهة الصحابة - رضي الله عنه - لذلك ، وبوب عليه البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، وَبَوَّب عَلِيْه ابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} ، وبسبب هذا العهد لم يتعرض مسلمٌ لكافر في مدة العهد حتى أعلن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لنقضهم العهد ففتح مكة. وكذا في تبويب البخاري على قصة الرماة في أحد : {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ}.(1/97)
(الوجه الثاني) : أن هؤلاء المعاهدين أو المستأمنين لم يأتوا بما ينقض عهدهم أو أمانهم ، بخلاف كعب بن الأشرف الذي نقض العهد بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلع الأمان وذهابه لمكة ينصر المشركين فصار حربياً بذلك ، ولهذا تنبه الحافظ أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "سننه" فبوَّب في كتاب " الجهاد" باباً {فِي الْعَدُوِّ يُؤْتَى عَلَى غِرَّةٍ وَيُتَشَبَّهُ بِهِمْ} فذكر فيه : حديث قصة قتل كعب بن الأشرف ، ثم عقَّبه بحديث "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ ، لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال المناوي(فيض القدير:3/186) : "(لا يفتك مؤمن): خبر بمعنى النهي لأنه متضمن للمكر والخديعة ، أو هو نهي ، وما روي من الفتك بكعب بن الأشرف وابن أبي حقيق وغيرهما : فكان قبل النهي ، أو هي وقائع مخصوصة بأمر سماوي لما في المفتوكين من الغدر وسب الإسلام وأهله ، قال الزمخشري : (الفرق بين الفتك والغيلة : أن الفتك أن تهتبل غرته فتهلكه جهارًا ، والغيلة أن تكتمن له في محل فتقتله خفية) ، وظاهرٌ أن المراد في الحديث هما معا"أ.هـ. فأهل الحديث وعلماؤه ذكروا حديث كعب بن الأشرف في كتاب الجهاد ، وفي قتال أهل الحرب ، ولهذا بوَّب البخاري ـ كما تقدم ـ على حديث كعب بن الأشرف هذا فقال : {بَاب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ} :(1/98)
* قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري:6/185) : "(قوله باب الفتك بأهل الحرب) : "وإنما فتكوا به ؛ لأنه نقض العهد ، وأعان على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجاه ، ولم يقع لأحد ممن توجه إليه تأمينٌ له بالتصريح ، وإنما أوهموه ذلك وآنسوه حتى تمكنوا من قتله"أ.هـ. وقال البغوي رحمه الله(شرح السنة:11/45) : "قد ذهب بعضُ مَن ضلَّ في رأيه وزلَّ عن الحق إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكاً , فأبعد الله هذا القائل , وقبَّح رأيهُ من قائل , ذهب عليه معنى الحديث , والتبس عليه طريق الصواب , بل قد روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (الإيمان
قيَّدَ الفتكَ, لا يفتكُ مؤمنٌ). والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة. وكان كعب بن الأشرف ممن عاهد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يعين عليه أحداًَ ولا يقاتله , ثم خلع الأمان , ونقض العهد , ولحق بمكة , وجاء مُعلناً معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - يهجوه في أشعاره ويسبه ، فاستحقَّ القتل لذلك"أ.هـ.
* وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان رداً على من احتج بقصة ابن الأشرف على اغتيال المعاهدين أو المستأمنين في البلاد السعودية(فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة:157) :"ليس في قصة كعب بن الأشرف دليل على جواز الاغتيالات ؛ فإن قتل كعب بن الأشرف كان بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو وليُّ الأمر ، وكعب من رعيته بموجب العهد ، وقد حصلت منه خيانة للعهد ، اقتضت جواز قتله كَفًّا لشره عن المسلمين ، ولم يكن قتله بتصرف من آحاد الناس ، أو بتصرف جماعة منهم دون ولي الأمر ، كما هو حال الاغتيالات المعروفة اليوم في الساحة ؛ فإن هذه فوضى لا يقرها الإسلام ، لما يترتب عليها من المضار العظيمة في حقِّ الإسلام والمسلمين"أ.هـ.(1/99)
* وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : ": هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان ، فلا يجوز الاعتداء عليهم ، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره ، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز ، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم ، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور ؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم ، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب ، وتعمه الأدلة الشرعية ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه"أ.هـ.(1/100)
* وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ : نشر في جريدة المسلمون) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية : "... ولا يخفى علينا أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" ، ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين والإجارة يكون حتّى من واحدٍ من المسلمين ، وإن لم يكن ولي أمرٍ ، حتّى ولو كان امرأة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" ، فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمور؟! فهذا عين المحادة لله ورسوله ، وعين المشاقّة لله ورسوله ، ثالثاً : لو قدرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قتلوا دولة معادية للإسلام فما ذنب هؤلاء ؟ هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، قد يكون بعضهم جاؤوا عن كره ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.(1/101)
(الوجه الثالث) : أن هؤلاء لو فرض أنه لا يجوز للإمام معاهدتهم وتأمينهم بزعمهم تنزلاً ، فإنه لا ينطبق عليهم حالة كعب بن الأشرف لأن قصة كعب واقعة عين تنزل على أهل الذمة الذين تجري عليهم أحكام أهل الإسلام بالاتفاق فلإمام قتل من نقض عهده منهم أو أحدث فيكون في حكم أهل الحرب ، أما هؤلاء فهم إما معاهدون أو مستأمنون لا تجري عليهم أحكام الإسلام ، ولذا فتحريم الغدر حكم محكم فيهم على الأصل ، وبأقل الأحوال فلهم شبهة الأمان ، لما علم من أن الكافر الحربي إذا أمنه المسلمون أو فهم ذلك منهم لا يحل لأحد أن يتعرض له لئلا يدخل في نصوص الوعيد في الغدر وخفر الذمم كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً" صححه الحاكم وابن حبان ، وحديث : "فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" رواه الشيخان ، وقد قرّر ذلك أهل العلم في من لهم شبهة أمان أو فهم الأمان :
* قال أبو داود (مسائل الإمام أحمد بن حنبل لأبي داود:333) : "قلت لأحمد : الرجل يحمل على العلجِ ، فيصيح بِه بالرومية : قف أو ألق سلاحك ؟ قال : هذا أمان ، قلت : فإن العلج علم أنّه ليس له منْه مَنْجَا ؟ فقال : هذا أمانٌ ، قلت : فإن قال له : ذهبتَ أو نحو ذلك ، يريد يرعبه ؟ قال : كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ.(1/102)
* وقال ابن عبد البر(الاستذكار:14/84) : "وسئل مالك عن الإشارة بالأمان : أهي بمنزلة الكلام ؟ فقال نعم ، وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش : أن لا تقتلوا أحداً أشاروا إليه بالأمان ؛ لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام ، وإنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال : ما ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. [وقال أبو عمر] : إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان ، فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله! كيف ترى في الغدر به والقتل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)"أ.هـ.
*وقال ابن قدامة فيمن عقد العهد دون إذن الإمام(المغني:13/157) : "وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا ؛ لأنه دخل معتقداً للأمان ، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح"أ.هـ.
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:3/768) وذكر قتل كعب بن الأشرف كان لمجرد سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتعد لغيره من بني جنسه : "ولو كان كعب بمنزلة كافرٍ محاربٍ فقط لم يجز قتله إذا أَمّنهم كما تقدم ؛ لأن الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ ، وكذلك كلُ من يجوز أمانه"أ.هـ. وقال أيضاً(الصارم المسلول:2/33) : "وشبهة الأمان كحقيقته ، فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أماناً كان في حقه أماناً ، وإن لم يقصده المسلم "أ.هـ. وقال رحمه الله(الفتاوى الكبرى:6/19) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ.
- الشبهة السابعة : شبهة أن جهاد الدفع لا يشترط له قدرة : قد قدمنا الرد عليها مفصلاً في التنبيه الأول بقيوده في فصل شروط الجهاد ص (6).(1/103)
- الشبهة الثامنة : أن ترك نصرة المسلمين هو ترك للجهاد الواجب : قد قدمنا الرد على هذا الإطلاق في القيد الثاني والثالث من التنبيه الأول من أن وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا اعتدي عليه ليست مطلقة بل مقيدة بعدم العجزٍ ، أو وجود الميثاق ، أو بعدم أرادة الدين بالقتال ، أو الاختلاف في العهود (ص11).
تاسعاً : مثال معاصر على الجهاد البدعي في ميزان العلم(1/104)
يقول الله تعالى { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } ، وفي مسلم ومسند أحمد قال - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ " ، وللشيخين قال - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ ـ وفي روايةٍ الجماعةِ ـ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً".(1/105)
ولهما أيضاً عن عُبَادَةَ قَالَ : "بَايَعَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" ، ولمسلم عَنْ عَرْفَجَةَ قال - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" ، وله عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ :"لاَ مَا صَلَّوْا" ، وله عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ "أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ :"لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ. أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ".(1/106)
وله عن وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ" ، وله عن حذيفة :"تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - :"آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ : بِالْجَمَاعَةِ ، وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ، صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، دْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" رواه أحمد والترمذي. وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان لفضل الإمامة وعظم حرمتها عند الله ورسوله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(الفتاوى:28/390) : "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا به بها ... فالواجب اتخاذ الإمارة قربة يتقرب بها إلى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"أ.هـ.(1/107)
ثم فانظر أيها المنصف حرص النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - على حفظ الأمن وتسكين الناس بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة مهما حصل من الولاة من ظلم وجور دون الكفر ، في الوقت الذي أمر بجهاد من فارقوا الجماعة أشد المجاهدة مع عبادتهم حتى قال - صلى الله عليه وسلم - عنهم كما في الصحيح : "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ـ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا ـ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ" ، وقال:"سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ، وقال : "يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ". ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:28/470) : "ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب وبذلك مضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة ، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم ، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته ، وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"أ.هـ.(1/108)
ونحنُ في هذِه البلادِ ننعمُ بأمرينِ عظيمينِ تحققتْ بها مقوماتُ الجماعةِ لا يوجدُ لهُما نظيْرٌ في العالمِ اليومَ : فولايةٌ شرعيةٌ سلفيةٌ مرتبطةٌ بولايةٍ شرعيةٍ علميةٍ قائمةٍ على منهاجِ النبوةِ ، يقولُ مؤسسُ هذه البلادِ الملكُ عبدُ العزيزِ رحمه اللهُ في يومِ فِي حجِ سنةِ إحدى وخمسينَ وثلاثمائةٍ بعدَ الألفِ (1351) : (يقولونَ إننا وهابيةٌ ، والحقيقةُ أننا سلفيونَ محافظونَ على دينِنَا نتبعُ كتابَ اللهِ وسنةِ رسولِهِ، وليسَ بيننا وبينَ المسلمينَ إلا كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه"أ.هـ. فهذِه من أعظمِ مفاخرِ هذه البلادِ أن حكامَها يتشرفونَ بانتمائِهم لمنهجِ السلفِ الصالحِ ، ويعلنُ أولُهم وآخرُهم تمسكَهم بالدعوةِ الإصلاحيةِ التي جددتْ منهجَ السلفِ الصالحِ في العصورِ المتأخرةِ ، ولذا فشعار علماء هذه البلاد من لدن الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا هو شعار أهل السنة السلفيين مع الأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً من لدن الصحابة مروراً بالإمام أحمد وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ثم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى وقتنا هذا هو شعار السمع والطاعة والجماعة مع النصيحة يفارقون بذلك جميع أهل الأهواء والبدع ، تطبيقاً لهذه النصوص التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وحث عليها مهما بلغ التغير والفساد في الراعي والرعية ما دام أمر الصلاة قائم والكفر البواح غير ظاهر ، فمن هذه المواقف العملية في تطبيق مع هذا الشعار السلفي : (الموقف الأول) : موقف ابن عمر - رضي الله عنه - حين جاء إلى ابن مطيع في زمان فتنة الحرة وقد أضمر الخروج على يزيد بن معاوية فحدثه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" رواه مسلم .(1/109)
وكان ابن عمر وأنس وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - يصلون خلف الحجاج على ظلمه وجوره ، بل قد روى البخاري أنهم لما شكوا إلى أنس ما يلقون من الحجاج ، قال : "اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ". (الموقف الثاني) : موقف الإمام أحمد رحمه الله حين أظهر أمراء بني العباس في زمنه بدعة خلق القرآن وألزموا الناس بها ، فلم يفارق رحمه الله شعار أهل السنة من السمع والطاعة مع النصيحة لهم مع أنهم ضربوه وحبسوه ، ولما جاءه قوم من أهل بغداد أضمروا الخروج ، فقال لهم الإمام(كما في السنة للخلال:1/133) : ليس هذا صواباً ، هذا خلاف الآثار أ.هـ. وناظرهم رحمه الله فكان مما قال : "ولا تخلعوا يداً من طاعة ، ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر"أ.هـ. (الموقف الثالث) : هو موقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله حين نصر حكام عصره عقيدة الأشاعرة الذين آذوه أذية عظيمة لنشره عقيدة أهل السلف الصالح ، ومع ذلك هاهو يقول(الفتاوى:35/13):"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد بما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً"أ.هـ.(1/110)
(الموقف الرابع) : هو موقف علماء الدعوة السلفية في هذه البلاد الذين مواقفهم أشهر من أن تذكر سابقهم ولاحقهم في نصيحة ولاة الأمر بالتي هي أحسن والدعاء ، وعدم السماح بنشر مثالبهم أو الوقيعة بهم ، منها أنَّ إمام الدعوةِ شيخ الإسلامِ محمد بن عبدِ الوهابِ رحمه الله لم!ا ذكر أصولاً ستة من أًصولِ وقواعدِ الدينِ ، بدأ بإخلاصِ الدينِ للهِ وحدَه ، ثم أمرِ اللهِ بالإجماعِ في الدينِ ، ثم قال (الدرر السنية:1/173) : "الأصل الثالث : أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ؛ فبين الله هذا بياناً شافياً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم ، فكيف العمل به ؟!"أ.هـ. ومع الأسف صار موقف أهل السنة والجماعة والسلف الصالح في هذا الباب غريباًً يوصم أصحابه بالتخاذل والضعف أو بالعمالة وبيع الذمة؛ لأن الساحة في بلادنا قد اخترقت على حين غفلة من أمرائها وعلمائها وحسن ظن ، فتربى الكثير من شبابنا على مناهج وافدة منحرفة في عقائدها وسلوكها لأنها لا تنطلق من منطلق علماء هذه البلاد من قواعد شرعية ومصالح مرعية ، وإنما من قواعد وضعها أقوام جهال يظنون أن الخير وعز الأمة فيما وضعوه لأتباعهم من أصول وضوابط ما أنزل الله بها من سلطان ، ولذا تجد أن شبابنا ودعاتنا المتأثرين بالحزبيات الوافدة يقفون في كل مواقفهم في الصف المقابل لما يقفه علماء هذه البلاد سالكين في إنكارهم للمنكرات التهييج على ولاة الأمر وتحزيب الشباب ضد العلماء ففرقوا الصف وأضعفوا جانب الدين في البلاد.(1/111)
و انظر لمباينة مواقفهم لمواقف العلماء الكبار في موافقة كل شخص يعادي هذا البلاد ، فإنك ستجدهم سيلتفون حوله ويناصرونه بغض النظر عن موافقتهم لكل ما يقول كما حصل من توزيع لنشرات المسعري والفقيه ومحمد نايف سرور ، وسأذكر نموذجاً واحداًً لرجل يمثل الجهاد غير المنضبط بضوابط الشرع ، هو أسامة بن لادن هداه الله الذي جعل الجهاد الذي شرع لنشر التوحيد هو في التفجير والقتل في بلاد الحرمين وتحرير أرضها من حكامها الذين هم أنصار التوحيد في هذا العصر ، في نفس الوقت الذي سلم منه الوثنيون القبوريون الذين يعيش بلادهم فلا يعرف له سابقة واحدة في نشر التوحيد وإنكار الشرك بينهم ، بل أعلن تقسيم العالم إلى فسطاطين : أحدهما فسطاط إيمان له ومن معه في بلاد الشرك والخرافة ، والفسطاط الآخر هو فسطاط الكفر في سائر العالم ممن أوجب الهجرة عليهم إليه ، وجعل التفجير والإرهاب في بلاد الحرمين من الجهاد في سبيل الله ، فصار حاله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخوارج (الفتاوى:19/72) : "لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : أحدهما : خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة ... الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع : إنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الايمان ... فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة ، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة ، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباَ سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة ، وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين".(1/112)
وقال رحمه الله (الفتاوى:28/479) : "وقد اتفق أهل العلم بالأحوال أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها ، وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم فهم أشد ضررًا على الدين وأهله"أ.هـ. ثم نقارن أراءه المنحرفة بموقف العلماء الربانيين السلفيين الذين يعرفون مقاصد الشريعة ويلتزمون حدودها :(1/113)
1- تكفيره لجميع الدول منها السعودية بلاد التوحيد : قال أسامة بن لادن في مقابلة نشرتها (جريدة الرأي العام الكويتية) (بتاريخ11/11/2001م) : "أفغانستان وحدها دولة إسلامية ، باكستان تتبع القانون الإنكليزي ، وأنا لا أعتبر السعودية دولة إسلامية". وقال في كلمته لأهل العراق (في شهر ذي الحجة 1423هـ) : "كما نؤكد على الصادقين من المسلمين أنه يجب عليهم أن يتحركوا ويحرضوا ويجيشوا الأمة في مثل هذه الأحداث العظام والأجواء الساخنة لتتحرر من عبودية هذه الأنظمة الحاكمة الظالمة المرتدة المستعبدة من أمريكا وليقيموا حكم الله في الأرض ، ومن أكثر المناطق تأهلاً للتحرير ، الأردن والمغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن". وقال في شريط: (استعدوا للجهاد) : "ولا شك أن تحرير جزيرة العرب من المشركين هو كذلك فرض عين". وقال في (5/12/1423) لقناة الجزيرة [http://www.aljazeera.net/programs/ho...3/2/2-22-1.htm] : "فخلافنا مع الحكام ليس خلافاً فرعياً يمكن حله ، وإنما نتحدث عن رأس الإسلام ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهؤلاء الحكام قد نقضوها من أساسها". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند العلماء الربانيين ؟ سئل شيخنا العلامة صالح الفوزان : لا يخفى على سماحتكم ما لأسامة بن لادن من تحريض للشباب في العالم ، وأيضا الإفساد في الأرض ، والسؤال : هل يسوغ لنا أن نصفه بأنه من الخوارج ؟ لا سيما وأنه مؤيد للتفجيرات في بلادنا وغيرها ؟ فقال الشيخ(موقع الشيخ: رقم الفتوى 6587) : "كل من اعتنق هذا الفكر فهو من الخوارج ، كل من اعتنق هذا الفكر ودعا إليه وحرٌض عليه فهو من الخوارج بقطع النظر عن اسمه وعن مكانه ، فهذه قاعدة : أن كل من دعا إلى هذا الفكر ، وهو الخروج على ولاة الأمور ، وتكفير المسلمين واستباحة دماء المسلمين فهو من الخوارج"أ.هـ.(1/114)
ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيحون الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج ، الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنهم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، وقال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة"أ.هـ. وقال – رحمه الله – (مجموع فتاوى :9/93) :"صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له ، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك ... وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمّن الله بها البلاد ، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. ويَقولُ سماحته رحمِهُ الله (محاضرة بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمة" - بتأريخ29/4/1417هـ) : "هذا بلاء عظيم وشر عظيم جهلوا الحق وعادوا أهله ، فالعداء لهذه الدولة عداء للحق عداء للتوحيد ، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن ، أي دولة ؟ من حولنا من جيراننا ؟ مصر والشام والعراق والشام وجميع دول العالم ؟ من هو الذي يدعو للتوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله ؟ من هم ؟ أين هم ؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة ؟ غير هذه الدولة"أ.هـ. وقال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله ـ ( من شريط كشف اللثام– تسجيلات دار بن رجب) : "هؤلاء الذين يكفّرون ؛ هؤلاء ورثة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "أ.هـ. ويقول(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة"أ.هـ.(1/115)
ويقول في خطبة تفجير الخبر بخط يده : "وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلم أن بلادنا ولله الحمد خير بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله ، وفي اجتناب سفاسف الأمور ودمار الأخلاق ؛ ليس في بلادنا ولله الحمد قبور يطاف بها وتعبد ، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب ، وليس فيها كنائس ظاهرة يعبد فيها غير الله سبحانه جهاراً ، وليس فيها مما هو معلوم في كثير من بلاد المسلمين اليوم ، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين ، هل يليق به أن ينقل الفتن إلى بلادنا ، إلا فليتقوا الله"أ.هـ.(1/116)
2- جعله الإرهاب والإجرام في بلاد الحرمين جهاداً : يقول أسامة بن لادن في مقابلة له مع قناة الجزيرة القطرية عن التفجيرات التي وقعت في منطقة العليا من مدينة الرياض [http://www.aljazeera.net/programs/pr.../9-23-1.htm#L5] : "شرف عظيم فاتنا أن لم نكن قد ساهمنا في قتل الأمريكان في الرياض". وقال أيضا : "فأنا أنظر بإجلال كبير واحترام إلى هؤلاء الرجال العظام على أنهم رفعوا الهوان عن جبين أمتنا سواء الذين فجروا في الرياض أو تفجيرات الخبر أو تفجيرات شرق إفريقيا وما شابه ذلك". وقال أيضا : "أنني كنت أحد الذين وقعوا على الفتوى لتحريض الأمة للجهاد ، وحرضنا منذ بضع سنين ، وقد استجاب كثير من الناس ـ بفضل الله ـ كان منهم الأخوة الذين نحسبهم شهداء ، الأخ عبد العزيز المعثم الذي قتل في الرياض ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والأخ مصلح الشمراني ، والأخ رياض الهاجري ، نرجو الله - سبحانه وتعالى- أن يتقبلهم جميعاً ، والأخ خالد السعيد ، فهؤلاء اعترفوا أثناء التحقيق أنهم تأثروا ببعض الإصدارات والبيانات التي ذكرناها للناس". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين ؟ بعد أن بينت هيئة كبار العلماء في السعودية برئاسة سماحة الشيخ ابن باز أن هذه التفجير محرم شرعًا بإجماع المسلمين ، قالوا (مجلة البحوث الإسلامية ـ العدد 47 ص 367) : "المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر ، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام برئ من هذا العمل ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة"أ.هـ.(1/117)
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - بشأن حادث تفجير الرياض (جريدة المدينة في 25/5/1416هـ ، وهي في فتاواه) : "لا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث الذي حصل به الضرر العظيم والفساد الكبير ، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله نسأل الله العافية والسلامة"أ.هـ. ويقول شيخنا محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ: "الواجب على طلبة العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث ، منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء المشركين"أ.هـ. بل قال الشيخ عمن يلقون المتفجرات في مجمعات الكفار(شرح أصول التفسير - في الشريط الأول) : "وأعني بهم أولئك الذين يلقون المتفجرات في صفوف الناس زعماً منهم أن هذا من الجهاد في سبيل الله ، والحقيقة أنهم أساؤا إلى الإسلام وأهل الإسلام أكثر بكثير مما أحسنوا. ماذا أنتج هولاء ؟ أسألكم هل أقبل الكفار على الإسلام أو ازدادوا نفرة منه ؟ وأهل الإسلام يكاد الإنسان يغطي وجهه لئلا ينسب إلى هذه الطائفة المرجفة المروعة والإسلام بريء منها ، الإسلام بريء منها. حتى بعد أن فرض الجهاد ما كان الصحابة يذهبون إلى مجتمع الكفار يقتلونهم أبداً إلا بجهاد له راية من ولي قادر على الجهاد. أما هذا الإرهاب فهو والله نقص على المسلمين ، أقسم بالله. لأننا نجد نتائجه ، ما في نتيجة أبدًا ، بل هو بالعكس فيه تشويه السمعة"أ.هـ.(1/118)
3- الجهل بحرمة العهود وخفره الذمم : قال ابن لادن مخاطباً جميع أبناء لمسلمين(في شريط استعدوا للجهاد): "ليتقدم كل امرئ منهم لقتل هؤلاء اليهود والأمريكان ، فإن قتلهم من أوجب الواجبات ، ومن أعظم القربان ... فلا تشاور أحداً في قتل الأمريكان أمضي على بركة الله ، وتذكر موعودك عند الله سبحانه وتعالى بصحبة خير الأنبياء عليه الصلاة والسلام"أ.هـ. ويقول في كلمته لأهل العراق في (شهر ذي الحجة 1423) : "واعلموا أن استهداف الأميركيين واليهود بالقتل في طول الأرض وعرضها من أعظم الواجبات وأفضل القربات إلى الله تعالى". فهو لا يفرق بين معتدي وغيره ، ولا بين مستأمن وحربي ، وأين هذا من قول الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقول شيخ الإسلام (الصارم المسلول:2/522) : "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء"أ.هـ. ثم لننظر لميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين: وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رداً على الشيخ أحمد شاكر لما أوجب على المسلمين قتل كل إنجليزي حيثما وجدوا مدنيين أو عسكريين لما غزوا مصر(الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء:595) : "والصواب أن يُستثنى من ذلك من كان من المسلمين رعية لدولة أخرى من الدول المنتسبة للإسلام التي بينها وبين الإنجليز مهادنة ؛ لأن محاربة الإنجليز لمصر لا توجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية ، ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز ؛ لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها ، والدليل على ذلك قوله ـ سبحانه ـ في حق المسلمين الذين لم يهاجروا : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق } ، ومن السنة قصة أبي جندل وأبي بصير لمّا هربا من قريش وقت الهدنة ، والقصة لا تخفى فضيلتكم"أ.هـ.(1/119)
وقال سماحته عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : "هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان" ، وقال (المعلوم من واجب العلاقة بين لحاكم والمحكوم:15): "لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنا " ، وألقى فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- خطبة على أثر تفجير الخبر فذكر دم المعاهد وأن سفكه من كبائر الذنوب ؛ لأن من قتله لم يرح رائحة الجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : "وأما المستأمن فقد قال الله عز وجل في كتابه { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } ) أي اجعله في حماية منك حتى يبلغ المكان الآمن في بلده. وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) ومعنى الحديث : أن الإنسان المسلم إذا أمّنَ إنساناً وجعله في عهده فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً ، من أخفرها وغدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله ملائكته وإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل"أ.هـ. وقال الشيخ رحمه الله (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ : "لو قدَّرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قُتِلوا دولة معادية للإسلام , فما ذنبُ هؤلاء, هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، وقد يكون بعضهم جاء عن كره , ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.(1/120)
3- طعونه بأئمة الدين لجهله : قال أسامة بن لادن يخاطب إمام أهل السنة في هذا العصر الشيخ ابن باز في خطابه الذي بتاريخ (27/07/1415هـ) الصادر من هيئة النصيحة بلندن: "ونحن سنذكركم ـ فضيلة الشيخ ـ ببعض هذه الفتاوى والمواقف التي قد لا تلقون لها بالاً ، مع أنها قد تهوي بها الأمة سبعين خريفًا في الضلال". ثم قال في خطابه الآخر بتاريخ (28/8/1415هـ) محذراً الأمة من فتاوى الإمام ابن باز -: "ولذا فإننا ننبه الأمة إلى خطورة مثل هذه الفتاوى الباطلة وغير مستوفية الشروط". وقال في موضع آخر : "إن علة المسلمين اليوم ليست في الضعف العسكري ، ولا في الفقر المادي ، وإنما علتهم خيانات الحكام ، وتخاذل الأنظمة وضعف أهل الحق ، وإقرار علماء السلطان لهذا الوضع وركونهم إلى الذين ظلموا من حكام السوء وسلاطين الفساد". وقال : "فقد سبق لنا في ( هيئة النصيحة والإصلاح) أن وجهنا لكم رسالة مفتوحة في بياننا رقم (11) وذكرناكم فيها بالله ، وبواجبكم الشرعي تجاه الملة والأمة ، ونهيناكم فيها على مجموعة من الفتاوى والمواقف الصادرة منكم والتي ألحقت بالأمة والعاملين للإسلام من العلماء والدعاة أضراراً جسيمة عظيمة". وقال : "فضيلة الشيخ لقد تقدمت بكم السن ، وقد كانت لكم أياد بيضاء في خدمة الإسلام سابقًا ، فاتقوا الله وابتعدوا عن هؤلاء الطواغيت والظلمة الذين أعلنوا الحرب على الله ورسوله".(1/121)
فسبحان الله! كيف يفعل الهوى بصاحبه إذا جمع مع الهوى جهلاً ؟ كيف ينصب صاحبه لمحاربة أهل العلم ووصمهم بأقذع الأوصاف ؟ وصدق ابن القيم رحمه الله حين قال (مدارج السالكين :3/335) : "ولا يكون وليُّ لله كامل الولاية من غير أولي العلم أبداً ، فما اتخذ الله ولا يتخذ وليّا جاهلاً ، والجهل رأس كل بدعة وضلالة ونقص ، والعلم أصل كل خير وهدى ، وهؤلاء الجهلة الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم بإتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } "أ.هـ. وأما سماحة الشيخ فقد نصح أسامة وأمثاله حين قال(فتاواه:9/ 93) "ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدَعوا هذا الطريق الوخيم ، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه ، وأن يعودوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم ، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم والإحسان إليهم" ، وقال – رحمه الله – لما تبين أمره كما في (جريدة المسلمون -9/5/ 1417): "أسامة بن لادن : من المفسدين في الأرض ، ويتحرى طرق الشر الفاسدة ، وخرج عن طاعة ولي الأمر"أ.هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
أسئلة اختبار مادة الجهاد رقم الدارس :
السؤال الأول : ضع علامة الصواب أو الخطأ أمام العبارة :
1- يجوز الدخول تحت حماية عدو كافر أقوى لدفع العدو الصائل ( )
2- يجب جهاد الكفار على المسلمين بكل حال وتحت أي ظرف ( )
3- لا يجوز الاستعانة بالكفار في الجهاد أبداً لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا أستعين بكافر" ( )
4- يجوز مصالحة الكفار مع الضعف ولو بشروط فيها حيف كدفع الأموال لهم ( )
السؤال الثاني : ضع دائرة على الإجابة الصحيحة مما يأتي :
1- قتال أبي بصير للكفار يحمل على (حال تعدد الولايات ـ لا إذن للإمام ـ أنه نقض العهد).(1/122)
2- "أخرجوا المشركين" يدل على منع الكافر من (دخول الجزيرة ـ إستيطانها ـ المرور بها)
3- يمنع السعودي من الذهاب للعراق بسبب (مظاهرة العدو ـ وضوح الراية ـ عدم أذن الإمام)
4- الذي يرى أن السعودية دار كفر وحرب هو (ابن باز ـ ابن لادن ـ لا أحد)
السؤال الثالث : أكمل الفراغ فيما يأتي :
1- مثال الجهاد الذي يكون جهاداً بدعياً..............................................
2- لا يلزم المسلم نصرة أخيه المسلم في حالات ، منها .................................
3- دليل اشتراط القدرة لجهاد الدفع هو .............................................
السؤال الرابع : أذكر ثلاثة أشياء أستفدتها في مادة الجهاد لم تكن تعلمها إن وجدت :
1-
2-
3-
ـــــــــــــــــــ
الدرجة :
بسم الله الرحمن الرحيم
أسئلة امادة الولاء والبراء رقم الدارس :
السؤال الأول : ضع علامة الصواب أو الخطأ أمام العبارة مع كتابة الدليل على جوابك تحتها :
1- عدم نصرة المسلمين في حربهم مع الكفار تنافي الولاء وهي كفر بكل حال. ( )
...............................................................................................
2- قتل النصارى في بلاد المملكة لا يدخل في النهي من قتل المعاهدين ( )
...............................................................................................
3- الاستعانة بالكافر على المسلم كفر بكل حال ولو كان المسلم ظالماً ( )
...............................................................................................
4- دفع المال لبعض الدول الكافرة محرم وينافي أصل الولاء والبراء ( )
...............................................................................................
السؤال الثاني : ضع دائرة على الإجابة الصحيحة مما يأتي :(1/123)
1- مناط التكفير في باب الولاء والبراء على (عمل الجوارح ـ عمل القلب ـ ليس بواحد منهما).
2- الدخول تحت حماية الكفار (حرام مطلقاً ـ جائز مطلقاً ـ يجوز للمصلحة)
3- موالاة المسلم للكفار تنقسم إلى (قسم واحد ـ قسمين ـ ثلاثة أقسام)
4- مودة المسلم للكافر حكمها (كفر بكل حال ـ لا يكون كفراً بحال ـ قد يكون كفراً)
السؤال الثالث : أكمل الفراغ فيما يأتي :
1- من الأدلة على أن بعض موالاة الكفار لا يكون كفراً ..........................................
2- الضابط في الموالاة المخرجة من الإسلام هو ...................................................
3- المظاهرة المخرجة من الإسلام عند شيخ الإسلام هي .......................................
السؤال الرابع : أذكر ثلاثة أشياء من الأمور التي لم تقتنع فيها أو لم تفهمها في مادة الولاء والبراء :
1-
2-
3-
ـــــــــــــــــــ
الدرجة :(1/124)