محطَّات
في تاريخ الفِكْر المَقْصَدي
د. عودة عبد الله
مقدمة
تُعدُّ عملية إبراز الناحية المقصدية للفكر الإسلامي أمراً في غاية الأهمية، ذلك لأنَّ هذا الجهد يأتي في سياق المحاولة لمعالجة جوانب الخلل والتقصير في الفكر الإسلامي، وخطوة جريئة لتخطِّي الأزمة الفكرية والعقلية التي يعيشها المسلمون، وقفزة نوعية في مجال النظر الكلِّي والفهم الشمولي. متجاوزين بذلك حشر أنفسنا في زاوية ضيقة فرضها علينا العقل الجزئي، لننطلق في رحاب هذا الفهم العميق الذي تتطلبه عملية إعادة البناء الحضاري، وإصلاح مناهج الفكر، من خلال تحكيم هذا الدين، والعيش في ظلاله الوارفة.
وحتى تتضح لنا أهمية الفكر المقصدي بصورة أكثر جلاء، فلا بدّ من النظر في تاريخ هذا الفكر، ومدى صلته بتراثنا الفكري والديني. ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث، ذلك أنه يُسلِّط الضوء على المحطَّات التاريخية البارزة التي مرّ بها الفكر المقصدي، بدءاً بعهده الأول في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومروراً بعهد الصحابة والتابعين، وأئمة الفقه، ومرحلة النضوج، وانتهاء بالعصر الحديث. وذلك في محاولة لاستلهام أصالته، وعُمق صلته بالتراث، الأمر الذي يتطلبه بيان أصالة الدعوة إلى إحياء الفكر المقصدي، وبيان أنَّ هذه الدعوة ليست بدعاً من القول، ولم تأت من فراغ، وأنها ليست مجرَّد حركة استعراضية طارئة ومستحدثة، وإنما هي دعوة لها أصولها وتاريخها، وهي وثيقة الاتصال بالتشريع الإسلامي منذ تباشيره الأولى، وضاربة جذورها في تاريخ الأمة الأصيل { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء } [إبراهيم: 25]
المبحث الأول
مفهوم المقاصد الشرعية(1/1)
إذا دقَّقنا النظر في كتابات السابقين وجدنا أنهم كانوا يعبرون عن "مقاصد الشريعة" بتعبيرات مختلفة وكلمات كثيرة، تتفاوت من حيث دلالتها على مفهوم المقاصد الشرعية ومعناها، لذلك "لم يبرز على مستوى البحوث والدراسات الشرعية والأصولية تعريف محدد، ومفهوم دقيق للمقاصد، يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم". (1) فمن العبارات التي استخدمها السابقون في الدلالة على مقاصد الشارع ومصالح الخلق: الحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، مطلق المصلحة، نفي الضرر ورفع المشقة، العلل الجزئية للأحكام الفقهية، معقولية الشريعة وتعليلها وأسرارها، ونحو ذلك من المصطلحات (2) .
ولا نجد من القدماء من عرَّف لنا المقاصد، حتى صاحب نظرية المقاصد الإمام الشاطبي نفسه، لم يقف على تعريفها، ولعلَّ ذلك -كما يشير الريسوني (3) - إلى أنَّ الأمر على درجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعريف، خاصَّة وأنَّ الشاطبي وجّه كتابه للراسخين في العلم، حيث يقول: "ولا يسمح للناظر في هذا الكتاب أنْ ينظر فيه مُفيدٌ أو مستفيد، حتى يكون ريَّاناً من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مُخْلِدٍ إلى التقليد والتعصّب للمذهب". (4)
__________
(1) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، (قطر: سلسلة كتاب الأمة، عدد 65، سنة 18، ط1، 1419هـ/1998م)، ص42.
(2) لمزيد من التفاصيل. انظر: المرجع السابق، ص (48ـ51).
(3) الريسوني، أحمد: نظرية المقاصد عند الشاطبي، (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992م)، ص5.
(4) الشاطبي، أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشريعة، (بيروت: دار الفكر، ط2، 1395هـ/1975م)، ج1، ص87.(1/2)
ولكن إذا كان للشاطبي ذلك العذر، فإنه كما يقول إسماعيل الحسني: "يتوجَّب على همة الباحث أنْ تتجه إلى ضبط تعريف محدد لمفهوم المقاصد ما دامت قراءة الكتاب منتشرة بين الناس اليوم". (1)
ومن هنا فقد اتجهت أنظار المعاصرين لتعريف "مقاصد الشريعة" فذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدلالة على معنى المقاصد ومُسمَّاها، ومن حيث بيان بعض متعلقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها، وغير ذلك. ونورد فيما يلي أهم هذه التعريفات:
1. عرَّفها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: "مقاصد التشريع العام: هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها". (2)
2. وعرَّفها علال الفاسي بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حُكم من أحكامها". (3)
3. وعرّفها أحمد الريسوني بقوله: "إنَّ مقاصد الشريعة: هي الغايات التي وُضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد". (4)
__________
(1) الحسني، إسماعيل: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، (منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416هـ/1995)، ص113.
(2) ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، ص51.
(3) الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، (دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993)، ص7.
(4) الريسوني، أحمد: نظرية المقاصد عند الشاطبي، ص18.(1/3)
4. وعرَّفها الدكتور نور الدين الخادمي بقوله: "هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، سواء أكانت تلك المعاني حِكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدراين". (1)
ويُلحظ في هذه التعريفات أنها -كما قلنا- تتقارب في الدلالة على معنى المقاصد، ولكنها تجمل أحياناً وتفصّل أحياناً أخرى. ويمكننا أنْ نجمع بينها فنقول بأن المقاصد هي: الغاية أو الحكمة من التشريع، والمعاني أو المصالح التي جاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها.
أمَّا الفكر المقصدي الذي نتحدث عنه فهو: "تلك الإمكانات العلمية المتصلة بمقاصد الشريعة التي يُتوسّل بها في فقهها، تفسيراً لنصوصها، وتعليلاً لأحكامها واستدلالاً عليها". (2)
نستنتج من هذا التعريف أنَّ الفكر المقصدي يُعدّ ثورة تجديدية نحو فهم أوسع لأحكام الشريعة ونصوصها، وقفزة نوعية تتجاوز الجزئيات إلى الكليات، وشمولية النظرة وعموميتها بدلاً من جزئيتها وخصوصيتها.
المبحث الثاني
الفكر المقصدي في العهد النبوي
نشَأت المقاصد مع نشوء الأحكام التي نزلت في القرآن الكريم، والتي جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغاً ومبيِّناً لها، فالنواحي المقصدية التي أقرَّها القرآن الكريم، هي نفسها التي عملت السنة النبوية على إبرازها وتأكيدها وتفصيلها وتفريعها.
قال الشاطبي: "القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلباً لها، والتعريف بمفاسدها دفعاً لها ... وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور، فالكتاب أتى بها أصولاً يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعاً على الكتاب وبياناً لما فيه منها". (3)
__________
(1) الخادمي، نور الدين مختار: الاجتهاد المقصدي، حجيته، ضوابطه، مجالاته، ص52.
(2) الحسني، إسماعيل: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص37.
(3) الشاطبي: الموافقات، ج4، ص275.(1/4)
فمن السنة مثلاً استُخلصت وفُصِّلت الكُليِّات الخمس الشهيرة (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال). قال الشاطبي: "فالضروريات الخمس كما تأصَّلت في الكتاب تفصّلت في السنة". (1)
وفي الحديث عن الغاية الأولى من إرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال سبحانه وتعالى: { وما أرْسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين } [سورة الأنبياء: الآية 107]. فقد بين سبحانه وتعالى أنَّ الغرض الأسمى من إرسال رسوله وبيان شريعته إنما هو تحقيق الرحمة في شتى أنواعها وسائر مظاهرها، ومختلف مجالاتها، في الاعتقاد والتعبّد والتعامل والتعايش، وما كلمة "رحمة" في الآية القرآنية السالفة ـ كما يقول الدكتور نور الدين الخادمي ـ إلاّ: "تصريح بمقصد عال يحوي ما لا يُحصى من المقاصد الفرعية والمصالح المتنوعة المبثوثة في أحكام تلك الرسالة وتعاليمها". (2)
وإذا نظرنا في نصوص السنة النبوية، وجدنا أنها تنطوي على الكثير من الجوانب المقصدية المهمة، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على الاحتفاء بالمقاصد العامة والتعويل عليها، والأمثلة على ذلك كثيرة، نعرض فيما يلي بعضها، ثم نشير إلى المقصد الشرعي العام فيها:
1. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: وقَف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس في حجة الوداع بمنى يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! لم أشعر فحلقتُ قبل أنْ أذبح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اذْبحْ ولا حَرَج". فجاء رجلٌ آخر فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرتُ قبل أنْ أرمي؟ فقال: "ارْمِ ولا حرج". قال: فما سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قُدِّم ولا أُخِّرَ إلاّ قال: "افعل ولا حرج". (3)
__________
(1) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(2) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص81ـ82.
(3) البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى البغا، (بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1987م)، حديث رقم 83، ج1، ص43.(1/5)
قال الباجي: "يحتمل أن يريد لا إثم عليك، لأن الحرج الإثم، ومعظم سؤال السائل إنما كان عن ذلك خوفاً من أن يكون قد أثم فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا حرج. إذ لم يقصد المخالفة، وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خِفة الأمر". (1)
ومَقْصَد الحديث هو نفي الحرج عن الأمة في الحج، فلم يحاسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه على حرفية الالتزام، لأنه وجد أن في ذلك حرجاً عليهم، ومن مقاصد الشريعة رفع الحرج عن الأمة، سواء أكان ذلك في الحج أم في غيره، كما يدل عليه عموم كلام الرسول في الحديث السابق.
2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "لا يُصلِّيَّنَ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قُريْظة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلِّي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَدْ منَّا ذلك. فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يُعنِّف واحداً منهم (2) .
ويُلحظ من الحديث السابق وجود طائفتين: الأولى التزمت بحرفية النص، فصلّت العصر في بني قريظة، والثانية تجاوزت حرفية النص إلى مقصده والغاية منه، ولم تكتف بظاهر القول، وإنما لجأت إلى تأويله بطريق الالتفات إلى المقصد والمعنى والغرض من الأمر بأداء صلاة العصر في بني قريظة، والذي يتمثل في الحث على الإسراع وترك التثاقل والتباطؤ في السير. ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء نظرتهم المقصدية، بل أقرَّها.
__________
(1) الكاندهلوي، محمد زكريا: أوجز المسالك إلى موطأ مالك، تحقيق: أيمن شعبان، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ/1999م)، كتاب الحج، باب جامع الحج، حديث رقم 1318، ج8، ص209.
(2) البخاري: الجامع الصحيح، حديث رقم 904، ج1، ص321.(1/6)
3. عن جابر بن عبد الله السلمي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام، ثم قال بعد ذلك: "كُلُوا وتزوَّدوا وادَّخروا" (1) . وفي رواية عن عبد الله بن واقد، قالوا: يا رسول الله نَهيتَ عن لحوم الأضاحي بعد ثلات، فقال رسول الله: "إنما نهيتُكم مِنْ أجل الدافَّة (2) التي دَفَّتْ عليكم حضرة الأضحى، فكلوا وتصدَّقوا وادَّخروا". (3)
ونرى هنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وبين المقصد من ذلك والذي هو سدّ حاجة جماعة من الأعراب الفقراء الذين جاءوا إلى موسم الحج. ثم أباح لهم الادِّخار فيما بعد لمَّا انتفت تلك الحاجة، وكان مقصد الادخار متمثلاً في ضمان سلامة اللحوم من التعفّن والاستفادة منها وقت الحاجة (4) .
المبحث الثالث
الفكر المقصدي في عهد الصحابة والتابعين
لا يمكننا في أي مرحلة زمنية أن نستغني عن فهم الصحابة للقرآن والسنة، أو أن نتجاوز منهجهم في أخذ النصوص وكيفية إدراك معانيها. قال ابن تيمية: "وللصحابة فَهْمٌ في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله مما يستدلون به على مرادهم، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين، الذين لم يعرفوا ذلك، فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس". (5)
__________
(1) مسلم بن الحجاج النيسابوري: الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، حديث رقم 1971، ج3، ص1562.
(2) الدافَّة: جماعة من المساكين قدموا المدينة.
(3) مسلم: الصحيح، حدث رقم 1971، ج3، ص1561.
(4) انظر: الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص84.
(5) ابن تيمية: الفتاوى، (الرباط: مكتبة المعارف)، ج19، ص200.(1/7)
أما الالتفات إلى المقاصد في عصر الصحابة، فقد لوحظ بصورة أوضح مما كان عليه الأمر في العصر النبوي، وذلك لطبيعة عصرهم وظروفهم، وبسبب طروء الكثير من النوازل نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، وتفرّق العلماء، وكذلك بسبب سنة التطور التي تفرضها طبيعة الحياة، فعصر الصحابة غير عصر النبوة، لذلك اجتهد الصحابة في تلك الوقائع وكان اجتهادهم يقوم على أسس متنوعة تجمع بين العقل والنقل، بين دلالة النص الظاهرية واللغوية ومقصده وحكمته. (1)
وإذا نظرنا في أفعال الصحابة وأقوالهم، وجدنا أن العمل بالمقاصد يتجلَّى في كثير منها، ووجدنا أن الفكر المقصدي أصْلٌ لديهم، فكثيراً ما كانوا يتجاوزون حرفية النص ليقفون على مقصده والغاية منه.
ويظهر ذلك بشكل بارز عند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه صاحب النظرة الفقهية المقصدية، التي جعلته يقفز على حرفية النص، لأنه كان يعتقد أن هذا النص "كان معللاً بعلة أو مرتبطاً بنوع من أنواع المصلحة أو النظر الخاص، وأن ما لديه من الحال الواقعة ليس على نفس الصفة ولا مرتبطاً بتلك المصلحة". (2)
والأمثلة على القضايا التي ظهر فيها الفكر المقصدي عند عمر بن الخطاب كثيرة، نورد فيما يلي بعضاً منها:
1. عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة
__________
(1) انظر: الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص91.
(2) المدني، محمد محمد: نظرات في اجتهادات الفاروق عمر بن الخطاب، (بيروت: دار النفائس ودار الفتح، ط1، 1410هـ/1990)، ص26.(1/8)
فقد نص القرآن الكريم على اعتبار "المؤلفة قلوبهم" أحد مصارف الزكاة الثمانية وكان هذا السهم يُعطى لهذا الصنف من الناس بغرض تقوية الإسلام عن طريق استعطاف هؤلاء بالمال وتحييدهم عن صف العدو. غير أن الإسلام لما اشتد ساعده وتوطَّد سلطانه، رأى عمر رضي الله عنه حرمان المؤلفة قلوبهم من هذا العطاء المفروض لهم بنص القرآن. وليس معنى ذلك أن عمر قد أبطل أو عطَّل نصاً قرآنياً، ولكنه نظر إلى النص نظرة مقصدية، فنظر إلى علته لا إلى ظاهره، واعتبر إعطاء المؤلفة قلوبهم معللاً بظروف زمنية مؤقتة، فلما قويت شوكة الإسلام، وتغيرت الظروف الداعية للعطاء، كان من موجبات النص، ومن العمل بعلته، أن يُمنعوا من هذا العطاء. (1)
2. عدم إقامة حدّ السرقة عام المجاعة
وذلك لما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عدم استيفاء الشروط الضرورية الباعثة على التطبيق، والتي منها شبهة المجاعة الملجئة إلى أخذ حق الغير بدون إذن منه للضرورة. وعمر بهذا الفهم المقصدي "يقرر بأن مظنة الضرورة -وهي عموم الأمر ظناً في عام المجاعة- تُنَزَّل منزلة الضرورة الفعلية، ومن ثم لا يجب الفحص في عام المجاعة عن حالة كل سارق بعينه، ليُعلم أكان في فاقة وضرورة؟ أم لم يكن؟" (2)
والمقصد من ذلك إنما هو التخفيف على من اضطر إلى السرقة دون اختيار منه، ومراعاة ظروف تطبيق الحكم كي يحقق أغراضه وفوائده. (3)
__________
(1) المرجع السابق، ص62.
(2) المرجع السابق، ص82.
(3) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص98.(1/9)
وإذا ما انتقلنا إلى عهد التابعين وجدنا أنه امتداد لعصر الصحابة وتواصل له، من حيث العمل بالمقاصد الشرعية الأصيلة والاعتداد بها، ولا غرابة في ذلك لأنهم استلهموا الهدي النبوي الذي تناقلوه بواسطة الصحابة وعقلوا ما فيه من جوانب مقصدية ومصلحية معتبرة. غير أنِّ الحياة تطوَّرت أكثر، حيث اتَّسعت الحضارة الإسلامية واختلطت مع الحضارات الأخرى، وطرأت أمور لم تعد ظواهر النصوص قادرة على معالجتها، مما حتَّم عليهم العمل بالرأي، والالتفات إلى المقاصد العامة للشريعة. لأنهم عرفوا أنَّ الأحكام لم تشرع عبثاً وأنها إنما شُرعت لعلل ومقاصد يطلب تحقيقها.
فكلا من مدرستي العراق والحجاز، وغيرهما من المدارس التشريعية التي عرفها التابعون استندت في عملية الاستنباط إلى عدّة أمور، منها العمل بالمقاصد، واعتبار المصالح، ونفي المفاسد. وكلا منهما اعتمدت من حيث المبدأ والعمل على الرأي، وإن اختلفتا في المقدار والكَمّ. والعمل بالرأي لدى المدرستين معناه كما يقول الدكتور نور الدين الخادمي: "العمل بضروبه ومجالاته، والتي منها الأخذ بالمقصد والتعويل عليه". (1)
ومما هو معلوم أن مدرسة العراق أو مدرسة الرأي، قد انبنت على الرأي بصورة أكبر مما كان عليه الوضع في المدينة لعدة أسباب، منها: كونُ المدينة مهبط الوحي، ومقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومستقرّ أغلب الصحابة، وبساطة العيش، وسلامة اللسان العربي، بخلاف العراق التي شهدت ظهور الفرق، وحدوث الفتنة، وشدة الاحتياط في رواية الحديث، واختلاط اللسان العربي، وطروء المشكلات والحوادث المستجدة، التي تُحتِّم إعمال الرأي واعتبار روح الشرع ومقاصده المعتبرة.
__________
(1) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص103.(1/10)
فمما يدل على اعتداد التابعين بالمقاصد، إنكارهم للحيل، لأنها منافية للمقاصد، ومعارضة لها في حقيقة الأمر، وذلك على نحو تمكين المطلقة في مرض الموت من الإرث معاملة للزوج بنقيض مقصوده، والنهي عن بيع العينة، ونحوها. (1)
ومن الأمثلة على الفكر المقصدي عند التابعين ما نلحظه في قضايا: تضمين الصنّاع، وإجازة التسعير، وإمضاء الطلاق الثلاث، وعدم قبول توبة من تاب بعد تكرار التلصص وقطع الطريق، وإبطال نكاح المحلل، وغير ذلك مما هو مبسوط في مصادره ومظانه. (2)
ويبرز من التابعين على سبيل المثال في مجال الفكر المقصدي إبراهيم النخعي، الباعث الأول لمدرسة الرأي في العراق، والذي كان يقول: "إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا". ومما قيل في منهجه: أنه منهج يقوم على عدم الوقوف على ظواهر النصوص، ووجوب إدراك معانيها وبواطنها وعللها، لأن الألفاظ لم توضع إلاّ للتعبير عن هذه المعاني، فهو يأخذ من النص مبدأ فقهياً يطبق على ما لا يحصى من الحوادث، لا حكماً فقهياً يطبق على حادثة معينة، وقد سمي صيرفي الحديث، بسبب نفوذه إلى حقيقة المعدن، وعدم الاغترار بالظاهر، ولذلك أيضاً كان يحدث بالمعاني، لأن العبرة عنده للمعاني لا للألفاظ والمباني. (3)
المبحث الرابع
الفكر المقصدي في عهد أئمة المذاهب
__________
(1) انظر: المرجع السابق، ص109.
(2) انظر لمزيد من الأمثلة: شلبي، محمد مصطفى: تعليل الأحكام، (بيروت: دار النهضة العربية، 1401هـ/1981م)، ص72 وما بعدها.
(3) انظر: الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص106ـ107.(1/11)
إذا ما قفزنا قفزة زمنية أخرى، وجدنا أن الفكر المقصدي بدأ يتسع ويأخذ معاني أكثر شمولية، وأصبح يُنظر إليه من خلال أبعاد جديدة. حيث ظهرت المذاهب الفقهية المتعددة، وبزغ العديد من الفقهاء والمجتهدين الذين صاروا أئمة لهذه المذاهب. وصار هؤلاء الأعلام يلتفتون إلى المقاصد، ويعملون بها إذا لم تسعفهم النصوص والنقول، أو إذا كانت تلك النصوص والنقول قد تزاحمت عليها معان كثيرة تحتاج إلى تحديد وترجيح أقربها لمراد الشارع وألصقها به.
فإذا تتبعنا آثار هؤلاء الأئمة أدركنا مدى اهتمامهم بضرورة الأخذ بالمقاصد والتعويل عليها في التصدي لمشكلات عصرهم وحوادثه المختلفة. فصار النظر المقصدي الأصيل مقوماً من مقوّمات استدلالهم، وذلك "لما رأوه من أن الشريعة معقولة المعنى وأن لها أصولاً عامة نطق بها القرآن الكريم، وأيدتها السنة الشريفة". (1)
فقد ذُكر أن الرأي عند مالك، توفيق بين النصوص والمصلحة، وأن تكوينه قد تلقاه من أعلام متفاوتين من حيث الاعتداد بالرأي والأثر. (2) وذُكر أن الشافعي جمع بين فقه الحجاز والعراق، فأخذ من الموطأ وأخذ من محمد بن الحسن الروايات العراقية التي لم تشتهر عند الحجازيين. (3)
وغني عن البيان أن المنهج الأصولي كان متفاوتاً بين هؤلاء الأئمة، كما هو الحال في الاستحسان الذي رفضه الشافعي وأخذ به الحنفية والمالكية وغيرهم، وكذلك القياس الذي رفضه الظاهرية والشيعة. ومن حيث المقدار والكم من جهة ثانية كما هو الحال في شواهد وأمثلة المصلحة المرسلة والذرائع وغيرها. (4)
وسنتحدث فيما يلي بإيجاز عن أهم أصول هؤلاء الأئمة ـ إضافة إلى القرآن والسنة ـ وعلاقة هذه الأصول بالفكر المقصدي:
1. الإجماع:
__________
(1) المرجع السابق، ص111.
(2) أبو زهرة، محمد: تاريخ المذاهب الإسلامية، ص395.
(3) المرجع السابق، ص444.
(4) المرجع السابق، ص376 وما بعدها.(1/12)
وهو اتفاق جميع العلماء أو أغلبهم في عصر معين. (1) والإجماع دليل لمعرفة الأحكام وعللها ومقاصدها المنوطة بها، وهو أحياناً يُثبت ما هو قطعي يقيني من تلك العلل والمقاصد، إذ يخرجها من دائرة الظنون والاحتمال إلى دائرة القطع واليقين، وأوضح شاهد على ذلك جمع القرآن الكريم وكتابته لمقصد حفظه من الضياع وصيانته من التحريف.
فالعمل بالإجماع عمل بالمقاصد والعلل والحِكم، التي انعقد الإجماع على أحكامها، ويضاف إلى ذلك طابع القطع واليقين لتلك المقاصد والعلل والحِكم، باعتبارها قد صارت وثبتت بالإجماع عليها، والاعتبار على أنها حجة معتبرة وحق مقطوع به. (2)
2. القياس:
وتتمثل الناحية المقصدية للقياس باعتباره أصلاً معقولاً يقابل النصوص والآثار، ويعالج الحوادث والقضايا غير المتناهية، بحملها على أمثالها وأشباهها، بموجب الاشتراك في العلة أو الحكمة أو المقصد، فهو بذلك يفيد أهمية فهم مقاصد النصوص وضرورة النظر إلى عللها وحِكَمها ومصالحها (3) . ويرى بعض المحدَثين أمثال الدكتور حسن الترابي، ضرورة الخروج من النمط الضيق للقياس الذي يراه الفقهاء الأوائل، والانطلاق نحو القياس الفطري الواسع، بحيث ننظر إلى الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحوادث الجديدة. (4)
3. الاستحسان:
__________
(1) المدرسي، آية الله: التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، (بيروت: دار الرائد العربي، ط1، 1414هـ/1993م)، ج2، ص126.
(2) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص114.
(3) المرجع السابق، ص16.
(4) الترابي، حسن: قضايا التجديد: نحو منهج أصولي (الخرطوم: معهد البحوث والدراسات والاجتماعية، ط1، 1411هـ/1990م)، ص206.(1/13)
تتمثل الناحية المقصدية للاستحسان في أنه التفات إلى المصلحة والرخصة والتيسير والعدل، وإبعاد للحرج والمشقة غير المعتادة، وتقرير للأعراف والعادات الحسنة في حدود ضوابط الشريعة ومبادئها (1) .
4. المصلحة المرسلة:
وتشكل المصلحة المرسلة ميداناً رحباً لدى أئمة الفقه في اعتبار المقاصد في عملية الاستنباط ودراسة القضايا والنوازل، وما الأمثلة الكثيرة التي عمل فيها الأئمة بمبدأ الاستصلاح المرسل إلاّ دليل على ذلك. ولا غرابة في ذلك فإن المصلحة المرسلة، شديدة الالتصاق وعميقة الاتصال بالمقاصد الشرعية، وهي تدور جملة وتفصيلاً حول تقدير المصالح واعتبارها فيما لم يرد فيه نص أو لم يجمع عليه، على مستوى أعيان الأحكام وأفرادها (2) .
5. العرف:
وتتمثل الناحية المقصدية للعرف في الأمور التالية (3) :
1. أنه يقرر قواعد التيسير ورفع الحرج.
2. أنه تأكيد لمحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق التي نادى بها الإسلام منذ نزوله.
3. أنه تحقيق للمصلحة ودرء للمفسدة، وهو غاية العمل بالعرف ومرماه.
4. أنه طريق للعمل على تحقيق الامتثال الأكمل لتعاليم الشرع ونصوصه.
6. الذرائع:
حيث وُضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، سداً وفتحاً، وكذلك وُضعت لتحقيق سلامة المقصود والنيات وسلامة الأعمال والأقوال، بنفي التحايل والمغالطة والتلاعب بالألفاظ والقرائن والأعمال. (4)
__________
(1) الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي، ص117.
(2) المرجع السابق، ص117ـ118.
(3) المرجع السابق، ص118ـ119.
(4) المرجع السابق، ص119ـ120.(1/14)
وخلاصة القول أن اعتداد الأئمة بهذه الأصول، يُعدُّ مسلكاً موسعاً، ومجالاً خصباً للنظر المقصدي المصلحي البنَّاء، وليس هذا كما يقول الدكتور نور الدين الخادمي: "مبرر للقول باستقلالية المقاصد والمصالح عن الأدلة والنصوص الشرعية، كما يدعي ذلك من كان نظره قاصراً عن معرفة حقيقة ذلك واكتفى بظاهر الأمر، وإنما هذا دليل على ارتباط المقاصد بأدلتها وضوابطها، وتعلق الأحكام بمناطاتها وعللها". (1)
المبحث الخامس
الفكر المقصدي في مرحلة النضوج
بدأت النظرة إلى الفكر المقصدي تتخذ ناحية خاصة، وبُعداً متميزاً، وأصبحت المقاصد علماً خاصاً وإن كان يتداخل في كثير من جوانبه مع علم الأصول، وصار لهذا الفكر نظرية مستقلة عرفت بـ"نظرية المقاصد" والتي آتت أُكُلَها على يد الإمام الشاطبي، غير أن الشاطبي لم يكن بدعاً في هذا الميدان، وإنما كان نتاجه امتداداً لسلسلة من إسهامات العلماء، ولذلك فإنه يجدر بنا الوقوف على التاريخ الذي مرّ به الفكر المقصدي قبل الإمام الشاطبي. ونعرض فيما يلي بشكل مختصر لأبرز أعلام الفكر المقصدي:
الجويني (ت478هـ):
يُعدُّ الجويني من العلماء الذين انبروا لوضع البذور الأساسية للفكر المقصدي، وذلك من خلال حديثه عن المصالح وضبطها وجلبها، وعن المفاسد ودرئها وارتكاب أخفها، ومن حيث النظر إلى النصوص الدينية باعتبارها أصولاً ثابتة في مقابل الفروع القابلة للتبديل والتغيير.
__________
(1) المرجع السابق، ص120.(1/15)
وإذا دقَّقنا النظر في فكر الجويني، وجدنا أنه كان يدرك عمق العلاقة بين الوعي بمفهوم المقاصد وبين وظيفتها في الجانب السياسي والإنقاذ الحضاري، فها هو بعد أن أدرك استحالة عودة الخلافة كما كانت في عهدها الأول يقوم بإعادة ترتيب شروط الإمام ونعوته، فيشير في هذا المجال إلى أن شرط الصلاح والتقوى يجب أن يكون مقدماً على شرط النسب القرشي، خلافاً لما فعله الماوردي وأضرابه. يقول: "إذا وُجد قرشيّ ليس بذي دراية، وعاصره عالم تقي، يُقَدَّم العالم التقيّ. ومن لا كفاية فيه؛ فلا احتفال به، ولا اعتداد بمكانه أصلاً" (1) .
في ظل هذه الرؤية أو الأزمة لم يجد الجويني مخرجاً سوى تأسيس قواعد وأسس جديدة ومقاصد شرعية قطعية، وفق المصلحة العامة للأمة على اعتبار أن المقاصد ذات ارتباط قوي بالمشكل الاجتماعي والسياسي.
فبالمقارنة بين الماوردي والجويني تظهر لنا صورة انحطاط القيم في انتقال فقهاء السلطان من قيم الولاء للعدل المطلق، إلى الولاء للاستبداد المطلق، وهذه مقارنة بين هذين الأصوليين الشافعيين، فإن كان كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي عبارة عن تأسيس للمعنى الثاني، فإن كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم" للجويني هو في باب تأسيس المعنى الأول، كما يقول الدكتور إبراهيم زين (2) .
__________
(1) الجويني، إمام الحرمين عبد الملك الجويني النيسابوري: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: عبد العظيم الديب، (قطر: مكتبة إمام الحرمين، ط1، 1400هـ)، ص82.
(2) انظر: زين، إبراهيم، مراجعة لكتاب: "الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية"، لعبد المجيد الصغير، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الأول، سنة 1995م، ص158.(1/16)
نخلص من ذلك إلى القول بأن الجويني تميز بحضور المفاهيم الأساسية لعلم المقاصد، وقدَّم وصفاً نقدياً لانحلال السلطتين العلمية والسياسية، ثم أعقبه بتقديم الأسس والكليات التي أناط بها أمل الإنقاذ، ثم محاولات الإصلاح وإعادة النظر في التاريخ والفقه. وكان مجمل ما قدمه الجويني في باب المقاصد، يمكن حصره في أمرين (1) :
1. المقاصد الشرعية المستقرأة غير المنصوصة، والتي تشكل أصول المصالح في الشرع.
2. المقاصد الشرعية المستفادة من القرائن التي تحتف بالنصوص الشرعية.
الغزالي (ت505هـ):
من أوضح كتابات الغزالي في هذا المجال "المستصفى في علم الأصول" والذي قال هو عنه: "أثبتُ فيه بترتيب لطيف عجيب يُطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم" (2) .
ويذكر إسماعيل الحسني أن كلام الغزالي في موضوع المقاصد يندرج تحت نوعين:
1. مقاصد الشريعة كأصول مصلحية: فقد عرّف الغزالي المصلحة في إطار حديثه عن الضروريات الخمس، فقال: "نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة". (3)
__________
(1) انظر: الجيوسي، عبد الله، "أنموذج مقترح لقراءة نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"، مجلة التجديد، السنة الرابعة، العدد الثامن، ص243.
(2) الغزالي، أبو حامد: المستصفى في علم الأصول، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1403هـ/1983م)، ج1، ص4.
(3) المرجع السابق، ج1، ص286.(1/17)
2. مقاصد الشريعة كدلالات مقصودة: وينحصر هذا النوع من المقاصد في نظر الغزالي فيما يستفاد من دلالات النصوص الشرعية، فهي إما نصوص لا تقبل الاحتمال في دلالاتها، فيتحدد القصد الشرعي منها بمعرفة وضعها اللغوي، وإما نصوص تتطرق إليها الاحتمالات، ولا تكفي معرفة الوضع اللغوي في تحديد قصد الشارع منها، وهنا يُلتفت إلى القرائن المحتفَّة بها من أجل ضبط معناها المقصود. (1)
فخر الدين الرازي (ت606هـ):
يُعد كتاب الرازي "المحصول في علم أصول الفقه" موسوعة في هذا الميدان. ويتمثل دور الرازي في موضوع المقاصد الشرعية في أمرين أساسيين هما (2) :
1. دفاعه الرزين عن تعليل أحكام الشريعة.
2. إشارته إلى أهمية القرائن في نقل الاستدلال بالخطاب الشرعي من الظن إلى القطع. قال الحسني: "ولئن كان هذا الأمر مسلّماً قبل الرازي وبعده، فإن فائدته هنا تتمثل في مجرد الإلحاح عليه لصلته بمقاصد الشارع من خطابه". (3)
العز بن عبد السلام (ت660هـ) وتلميذه القرافي (ت685هـ):
يُعد كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" هو المؤلَّف الذي صاغ فيه العز بن عبد السلام فكرته المحورية حول المقاصد، والتي تدور حول: "بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات الشرعية ليسعى العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان ما يقدّم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وبيان ما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم إليه، والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح". (4)
__________
(1) الحسني، إسماعيل: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص46ـ47.
(2) المرجع السابق، ص49.
(3) المرجع السابق، نفسه الصفحة.
(4) ابن عبد السلام، العز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (بيروت: دار الجيل، ط2، 1980م) ج1، ص10.(1/18)
ويمكن تلخيص أبرز محددات التفكير التشريعي عند العز بن عبد السلام فيما يلي (1) :
1. عِزَّة وجود كل من المصالح المحضة والمفاسد المحضة في الدنيا.
2. ازدواج النظر الدنيوي والأخروي للمصالح والمفاسد.
3. تراتب المصالح والمفاسد.
4. القطع والظن في تحصيل المصالح ودرأ المفاسد.
أما القرافي وهو أحد تلامذة العز بن عبد السلام، فقد تعرض في كتابه "الفروق" إلى بيان أصول الشريعة في ضوء ما سمّاه بـ "أسرار الشرع وحِكَمه". ومما تميز به القرافي، أنه فرَّق بين المقامات المختلفة للتصرفات النبوية، وهو تفريق في غاية الأهمية "لأن الاستدلال بنصوص الشريعة يستلزم استيعاباً تاماًَ للمقام الذي ورد فيه هذا النص أو ذاك من نصوصها. ومنشأ هذا التمييز هو مراعاة مقاصد نصوصها التي تختلف باختلاف مقاماتها، فمقامات التبليغ والفتوى تباين مقامات القضاء والإمامة". (2)
كما أن القرافي دقق في قاعدة الوسائل والمقاصد، حيث المقاصد مقدمة على الوسائل، وفي ضوء الأولى تقاس الثانية. وبناء على ذلك فإن الوسيلة تأخذ حكمها الشرعي من حرمة أو كراهة أو وجوب أو ندب، بناء على ما تحققه من مقصدها الشرعي (3) .
ابن تيمية (ت728هـ) وتلميذه ابن القيم (ت751هـ):
يرى ابن تيمية أن الشريعة "جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجّح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين، باحتمال أدناهما". (4)
وانطلاقاً من ذلك فقد انتقد ابن تيمية حصر الأصوليين المصالح الكلية في الضرورات الخمس، دون انتباه إلى أنواع أخرى من المصالح. (5)
__________
(1) الحسني، إسماعيل: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص51.
(2) المرجع السابق، ص56.
(3) المرجع السابق، نفسه الصفحة.
(4) ابن تيمية: الفتاوى، ج20، ص48.
(5) الحسني: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص60.(1/19)
أما ابن القيم فقد عزز وجهة نظر شيخه وأغناها بنظراته المقصدية الجديدة، فهو يرى أن الشريعة مبنية على "تحصيل المصالح بحسب الإمكان، لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حُصِّلت، وإن تزاحمت ولم يكن تحصيل بعضها إلاّ بتفويت البعض، قُدِّم أكملها وأهمها وأشدها طلباً للشارع". (1)
هؤلاء هم أبرز أعلام الفكر المقصدي الذين سبقوا الإمام الشاطبي، وهناك غيرهم ولكنه يضيق المجال هنا للحديث عنهم، ومنهم إضافة لمن سبقوا:
سيف الدين الآمدي (ت631هـ)، ونجم الدين الطوفي (ت716هـ) وغيرهما.
الشاطبي أبو إسحاق (ت790هـ):
يُعدُّ الشاطبي بحق مبتكر علم المقاصد، ومؤسس عمارته الكبرى، ومرجع كل مشتغل بهذا الفن الجليل. كما يُعدُّ كتابه "الموافقات في أصول الشريعة" فتحاً جديداً في هذا الميدان. فإذا كان للإمام الشافعي الفضل في إرساء القواعد الأولى لعلم الأصول، فللإمام الشاطبي الفضل العظيم في إبراز نظرية المقاصد من خلال التفاته إلى ما يسمى بروح الشريعة. فعلى يدي الإمام الشاطبي اكتملت نظرية المقاصد، وعلى يديه وصلت إلى مرحلة النضوج، وكان ذلك في القرن الثامن الهجري، وهو القرْن الذي سماه عبد المجيد الصغير بـ "عصر المقاصد الشرعية وقرن الكتابات السياسية" (2) .
عندما جاء الإمام الشاطبي عرف الفكر المقصدي نوعاً من التراكم تميز بغزراة المادة ولكن مع الافتقار إلى المنهج والخلو من النتائج العلمية والواضحة.
__________
(1) ابن القيم: إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد (بيروت: دار الفكر)، ج2، ص88.
(2) الصغير، عبد المجيد: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، (بيروت: دار المنتخب، 1994م)، ص462.(1/20)
والذي قام به الشاطبي هو نقد علم الأصول من أجل إعادة تأسيسه، وطلب اليقين والقطع في مسائله وقضاياه، وعلى حد قول الصغير فإن الشاطبي قد ثَمَّن مشروع "البيان" عند الشافعي، وانتقل به إلى مشروع "البرهان". (1) وذلك من خلال تقديمه علم المقاصد بوصفه حلا لمشكلة البدع وأزمة الانحطاط ورسم وسيلة ناجحة للتكيف مع الظروف عن طريق هذا العلم الجديد الذي ينصب على الكليات دون الجزئيات والقطعيات بدل الظنيات، ويتجاوز النظرة الفرعية الجزئية إلى النظرة الكلية المقصدية العامة.
وإذا نظرنا في غرض الشاطبي من تأليف "الموافقات" وجدنا أن ذلك يتجسَّد في أمرين اثنين (2) :
1. التعريف بأسرار التكليف الشرعي.
2. الجمع الأصولي بين طريقتي ابن القاسم وأبي حنيفة.
وقسَّم الشاطبي المقاصد التي ينظر فيها إلى قسمين (3) :
الأول: ما يرجع إلى قصد الشارع، أي ما يقصد إليه الشارع أولاً، ويكون ما عداه من المقاصد تفصيلاً له.
والثاني: يرجع إلى قصد المكلَّّف، وهو أن يكون عمله بنيَّة، وأن يكون مطابقاً لما قصده الشرع، مع عموم الشريعة وعدم اختصاص البعض بها دون الآخر.
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن الفكر المقصدي عند الإمام الشاطبي لأن هذا الفكر ـ كما قلنا ـ شكل نظرية متكاملة من جميع جوانبها، ولكن نشير إلى أهم الخطوط العريضة لهذا الفكر، وهي (4) :
1. لم يوافق على أن يكون المنطق مقدمة لازمة لعلم الفقه، كما هو الحال عند الغزالي وابن حزم.
2. يرى أن العمل مقدَّم على العلم، وأن العلم المطلوب هو الذي يؤدي إلى العمل.
__________
(1) الصغير، عبد المجيد: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، ص470.
(2) الحسني: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص66.
(3) الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص13.
(4) 63 Masud, Muhammad Khalid, Shatibi’s Philosophy of Islamic Law (Islamabad: Islamic Research Isnstitute, 1995), P.43.(1/21)
3. أصل العلم أنه قائم على القصد.
4. التماس القياس بوصفه أساساً أولياًَ للمعرفة.
5. مفهوم المصلحة يشكل القاعدة الأساسية لنظرية المقاصد عند الشاطبي.
6. الاهتمام بقضايا العبادات والتعبد والحظوظ والبدع.
7. دراسة المصلحة خارج المصادر الأربعة.
8. أصول الفقه قطعية لا ظنية.
ومن هنا فقد عمل الشاطبي على وضع المنهج الأصولي في صورة متكاملة، وجاء إبراز المقاصد على يديه بهذا الشكل، في محاولة أشبه ما تكون بمحاولة ابن خلدون في التاريخ. على أنَّ قدر كتاب "الموافقات" للشاطبي، لم يكن أحسن حظاً من قدر "المقدمة" لابن خلدون. فكلاهما قد لفّه الإهمال وعدم التقدير ولم يجد من الفهم والدراسة ما يمكّن أن يحول أفكاره ومقولاته إلى منهج منتج في الاجتهاد التشريعي والفقهي (الموافقات) أو النظر التاريخي والاجتماعي (المقدمة). وإذا كان مصير المقدمة أنها "ظلت حروفا ميتة في الثقافة الإسلامية" على حد قول مالك بن نبي، (1) فكذلك الأمر كان مصير الموافقات.
وإنما يعود الفضل في التنبيه إلى قيمة كتاب "الموافقات" إلى الشيخ محمد عبده أستاذ مدرسة المنار، ثم من بعده الشيخ عبد الله دراز الذي حقق كتاب الموافقات وأثراه بتعليقاته وشروحه النفيسة.
المبحث السادس
الفكر المقصدي في العصر الحديث
عندما نتحدث عن المقاصد في العصر الحديث، فإنه يقفز إلى الحضور علم من أعلام هذا الفن، ألا وهو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ت 1979م) شيخ جامع الزيتونة، وداعية حركة الإصلاح العلمي في تونس. وإذا كان من الممكن عدّ الشاطبي علم الفكر المقصدي الأول على صعيد النظر المنهجي والتأسيس العلمي، فإنه يمكن وبكل ثقة ـ كما يقول محمد الميساوي ـ أن نعد ابن عاشور العلم أو المعلم الثاني. (2)
__________
(1) ابن نبي، مالك: المسلم في عالم الاقتصاد (دمشق: دار الفكر، 1988م) ص16.
(2) الميساوي، محمد الطاهر: مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، ص70.(1/22)
يُلحظ أنَّ ابن عاشور وسَّع دائرة البحث في المقاصد، وأعطاه وجهة جديدة تتجاوز حدود السعي لتأسيس مجرد أصول تشريعية عقلية كلية قطعية، حيث فتح أفقاً أرحب للتنظير الاجتماعي بمعناه الواسع، من حيث هو سعي للتشريع والتخطيط للمستقبل، انطلاقاً من استيعاب معطيات الحاضر وتحليلها وتمحيص عناصرها وفق بصائر الوحي، وتوجيهها طبقاً لقيمه وأحكامه، توخياً لتحقيق مقاصده، وفق أولويات متراتبة متكاملة. (1)
وقد يكون من أهم ما امتاز به جهد ابن عاشور ـ كما يقول طه جابر العلواني ـ: "هو العمل على تقديم منهج للكشف عن المقاصد، جعله يضيف مقصدين هامين جداً، وهما: مقصد المساواة، ومقصد الحرية، وتلك خطوة اجتهادية هامة لابدّ من متابعتها والبناء عليها". (2)
كما أنه حاول القيام بتطبيقات ناجحة موفقة للمقاصد في دوائر المعاملات والسلوكيات، ومهَّد بذلك كله لجعل المقاصد علماً قائماً بذاته، يمكّن المشتغلين بالعلوم النقلية من اقتحام العقبة التي لا تزال تحول بينهم وبين التجديد والاجتهاد وبلورة وتيسير فقه التديُّن. فقال رحمه الله:
"إذا أردنا أنْ ندوّن أصولاً قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارضة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي عاشت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حالة تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية". (3)
__________
(1) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(2) العلواني، طه جابر: مقدمة نظرية المقاصد عند الإمام محمد بن عاشور للحسني، ص19.
(3) المرجع السابق، نفس الصفحة.(1/23)
ومن المحدَثين الذين كتبوا في المقاصد الشيخ علال الفاسي (ت 1974م) صاحب كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها". إلاّ أنّ التركيز على المقاصد في كتاب علال الفاسي ـ كما يذكر المسياوي ـ لم يكن عميقاً ومنهجياً، فقد استطرد في كتابه في عدّة قضايا وموضوعات ثانوية صلتها بموضوع المقاصد واهية، جرّه إليها الهم السجالي على حساب التأصيل أو التنظير العلمي لمسألة المقاصد. (1)
ومما يسجل للأستاذ الفاسي أنه ربط إسهامات الشاطبي وغيره ممن تحدثوا في المقاصد بهموم الحاضر ومشكلاته، وذلك واضح في حديثه عن منهاج الحكم وحقوق الإنسان. (2)
ويرى الميساوي أن الأستاذ الفاسي تعمَّد أنْ يتجاهل الشيخ ابن عاشور ولم يذكره أو يشير إليه في كتابه من قريب أو بعيد، مع أنّ مثل الفاسي لا يمكن أن يجهل من هو مثل ابن عاشور. فقد كان ابن عاشور ـ كما يقول الميساوي ـ: "هو الحاضر الغائب عند الفاسي وهو يؤلف كتابه. غائبٌ من حيث أنه جرى تجاهله وعدم ذكره، وحاضر من حيث إن كثيراً من الأفكار التي دوّنها بشأن المقاصد قد ساعدت الفاسي في تأليفه، بل إننا نجد العبارات نفسها تتوارد عند الفاسي كما تواردت عند ابن عاشور، وبتصرف مخل في بعض الأحيان". (3) واستطاع الميساوي بالفعل أن يثبت بأمثلة واضحة أن الفاسي نظر في كتاب ابن عاشور ونقل منه. (4)
__________
(1) الميساوي: مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، ص71.
(2) المرجع السابق، ص72.
(3) المرجع السابق، ص74.
(4) انظر تفصيل ذلك في: المرجع السابق ، ص74ـ76.(1/24)
ولا ننسى في إطار حديثنا عن الفكر المقصدي في العصر الحديث أن نشير إلى إسهامات قيّمة في هذا الميدان، كانت على شكل رسائل قدمت لنيل درجات علمية. (1) وهذه الدراسات وعلى الرغم من أن أصحابها "كانوا حين إنجازهم إياها في بداية نضجهم العلمي ومسيرتهم الفكرية، مما لا يساعد غالباً على بروز قدراتهم التحليلية والتركيبية في التأليف" (2) على الرغم من ذلك، إلى أنها "سدّت فراغاً فكرياً كبيراً في مجالٍ ما يزال البحث العلمي فيه بِكراً، والاجتهاد فيه في أوائله، فقد نبهت العقول إلى أهميته، ووفرت مادة غنية تصلح قاعدة للمزيد من التوسع والتعمق والتطوير، سواء من لدن أصحابها أنفسهم أو من لدن غيرهم من الباحثين والمفكرين". (3)
ولابُدّ من الإشادة هنا بدور المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي التفت إلى هذه الدراسات فتبناها واعتنى بها، وسلّط عليها الضوء باعتبارها تؤصّل للفكر المقصدي الذي أصبح من حاجات الأمة المعاصرة الملحة، للخروج من مأزقها المنهجي وأزمتها الفكرية.
المبحث السابع
حاجتنا المرحلية إلى الفكر المقصدي
بعد أن تحدثنا عن الفكر المقصدي في أبرز المحطات التاريخية التي مرّ بها، أرى أنه من الواجب علينا أن نختم بالحديث عن حاجتنا للفكر المقصدي في هذا الوقت، لبيان الدور الذي يمكن أن يقوم به في عملية التغيير المرجوة.
__________
(1) ومن أهم هذه الدراسات: نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني، الشاطبي ومقاصد الشريعة للدكتور حمادي العبيدي، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف حامد العالم، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور للأستاذ إسماعيل الحسني، مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية للدكتور محمد سعد بن أحمد بن مسعود اليوبي.
(2) الميساوي: مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، ص71.
(3) المرجع السابق، نفس الصفحة.(1/25)
يُعدّ الفكر المقصدي من أهم الموضوعات التي يساعد إبرازها على إعادة ثقة الأمة بنفسها وبفقه علمائها، وغايات ومقاصد شرائعها، كما يوضح عظمة الشريعة الإسلامية وامتيازها على بقية الشرائع في تحقيق مصالح الخلق، ودرء المفاسد عنهم، وبيان العلل والأسباب والغايات الكافية وراء أحكامها الشرعية، وبخاصة المتعلقة بمعاملات الناس وقضايا سلوكهم. فالشريعة الإسلامية إنما جاءت لرفع الحرج عن الناس، ودفع الضرر عنهم، وتحقيق مصالحهم. ومعرفة مقاصد الشريعة تمكن المسلمين من العيش باستمرار في ظلال الإسلام، وتنظيم شؤون حياتهم وفقاً لتوجيهات الشارع الحكيم، فيحققوا غاية الله من الخلق، بتحقيق المفهوم الشامل للعبادة الكاملة التي يتناغم فيها الإنسان مع الوجود المسبح بحمد ربه { وإِنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمْدِه } [الإسراء: 44] (1) .
و يُعدّ الفهم المقصدي في أيامنا هذه خطوة ضرورية في إطار إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين، ومن أجل إعادة تشكيل العقل المسلم وإعادة ترتيب موازينه وأولوياته. ذلك أن أهم مظاهر أزمة العقل المسلم اختلال الموازين والأولويات. فإن من أبرز معالم العقل الذي صنعه الإسلام، أنه عقل غائيّ تعليليّ مقصديّ، يدرك أنه ما من شيء في هذا الوجود إلاّ وله حكمة وعلّة وسبب، فلا مكان للمصادفة ولا مجال لانتفاء الأسباب والغايات. وقد كانت هذه القضية في العقل المسلم في غاية الوضوح، فالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والمقدمة والنتيجة، صنع الله الذي أتقن كل شيء، وله وحده جل شأنه خرق تلك النواميس أو إيقاف تلك العلل عن التأثير. (2)
__________
(1) العلواني، طه جابر: مقدمة "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" ليوسف العالم (الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1412هـ/1991م)، ص2.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحة.(1/26)
ولكن هذه المعالم التي يفترض أن تكون جلية واضحة، أصبحت غائبة عن عقولنا، وأصبحنا نعيش في أزمة فكرية خانقة، نعتني بالرسوم والألفاظ، ونضيع المعاني والأحكام، ونعي المظاهر والأشكال ونهمل المقاصد والجواهر. فحين "يتسرب إلى العقل المسلم تصور بأن الأحكام قد تخلو عن المقصد، إما لأنها تعبدية، أو لأن البحث عن المقصد لا طائل تحته فالمهم تنفيذ المطلوب، أو لأنه لا داعي للبحث عن تلازم بين الحكم ومقصده، فإن ضرراً بالغاً يصيب تصور الإنسان لفعله ـ الذي هو موضع إيقاع الحكم ـ وسوف يضطرب وتضطرب معه نظرة الإنسان لإرادته ولقيمة فعله ومصدر تقويم ذلك الفعل، إلى غير ذلك من السلبيات". (1)
ولذلك فإننا في هذه الأيام أحوج ما نكون ـ كما يقول الدكتور طه جابر العلواني ـ إلى: "نقل العقل المسلم من الانشغال في الجزئيات إلى الكليات، ومن التوقف عند الرسوم والمباني إلى التوجه نحو الحقائق والمعاني، ومن التقليد والتبعية إلى الإبداع والأصالة، ومن الاستغراق التام بالوسائل إلى العمل معها على تحقيق المقاصد والغايات. وهذه الأهداف الكبرى لن يحدث الوعي الهادف المتحرك عليها إلاّ بعد جهود علمية متصلة توضح سائر جوانبها وتنير مختلف أبعادها". (2)
وغني عن البيان أننا في هذه الأيام في حاجة ماسة إلى الفكر المقصدي في مجال الفقه والاجتهاد. فقد ساد الاتجاه الفردي في الفقه حقبة من الزمن، لظروف معينة عاشها سلفنا من الفقهاء الأوائل، فبعد أن كان الفقه يهتدي بالمبادئ والكليات والقواعد، إلاّ أنه كما يقول الترابي: "جنح أخيراً إلى الولع بالتشعيب والإحصاءات التلقينية ... وأخذ يتطور عن فتاوى شخصية من شؤون الأفراد، وتضاءل هم ولاة الأمر العام بفقه مصالح المسلمين العامة وشؤونهم الكفائية". (3)
__________
(1) المرجع السابق، ص4.
(2) العلواني، طه جابر: مقدمة "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" للريسوني، ص2.
(3) الترابي، حسن: قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، ص260.(1/27)
وكان من نتيجة ذلك أن صار الفقه أقرب إلى الجمود والعجز منه إلى الحياة والفعالية، لأنه افتقد روح الفكر المقصدي، وفي ذلك يقول ابن عاشور: "كان إجمال المقاصد سبباً في جمود كبير للفقهاء، ومعولاً لنقض أحكام نافعة". (1)
فإذا كان الأمر على هذه الحال فنحن أحوج ما نكون الآن إلى إحياء البعد المقصدي في الفقه من جديد، متلمسين في ذلك خطا الفاروق عمر بن الخطاب صاحب الاجتهادات المقصدية والنظر المقصدي العام. فنحن بحاجة إلى هذا الفقه المقصدي الذي وصفه ابن القيم بأنه: "الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان". (2) وضرب ابن القيم لنا على ذلك مثال الرجل الذي قال لما وجد راحلته: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. فقال: "أخطأ من شدة الفرح، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر، لكونه لم يرده". (3) وفي كلام ابن القيم هذا تنبيه على أهمية المقصد والغاية، وإشارة إلى عدم الوقوف على حرفية النص.
وعلى ذلك فإنَّ إحياء فقه المقاصد يُعدُّ عملاً ضرورياً لتجديد الفقه وتقوية دوره ومكانته في حياة المسلمين، وفي ذلك يقول الأستاذ علال الفاسي: "وإن في ثلة الفقهاء المجدّدين على قلَّتهم، ضماناً للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة، حتى يصبح مرتبطاً بمقاصد الشريعة وأدلتها، ومتمتعاً بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم". (4)
ومن هنا فإن الفكر المقصدي في زمننا الحاضر، يُعدُّ الأساس المتين لبناء عقلية مسلمة قادرة على مواجهة التحديات، واجتياز العقبات، والنهوض بالأمة، فحريّ بنا أن نحفل به، ونوليه العناية التي يستحقها.
الخاتمة
__________
(1) ابن عاشور، محمد الطاهر: أليس الصبح بقريب، (طرابلس: دار العربية للكتاب، 1979م)، ص200.
(2) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، (مصر: إدارة الطباعة المنيرية)، ج3، ص55.
(3) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(4) الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص161.(1/28)
بعد هذه الرحلة الممتعة والجولة الشيِّقة، مع الفكر المقصدي عبر محطاته التاريخية البارزة، فإنه يجدر بنا أن نلخص أهم النتائج التي تم التوصل إليها:
1. الفكر المقصدي فكر أصيل، يضرب بجذوره في تاريخ هذه الأمة، منذ تباشير الإسلام الأولى في عهد نزول الوحي، ويمتد حتى يومنا هذا.
2. الفكر المقصدي له أصول وجذور في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويظهر واضحاً جلياً من خلال الكثير من أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته.
3. بدأ الفكر المقصدي يتسع ويتشعب في عهد الصحابة والتابعين، تبعاًَ لتطور الحياة، وطروء الكثير من المستجدات التي تتطلب فهماً كلياً شمولياً لنصوص القرآن والسنة.
4. يُعد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ النموذج الأكثر وضوحاً في استيعابه لمقاصد هذا الدين في عصر الصحابة، فقد كان غائياً مقصدياً أكثر منه نصياً حرفياً.
5. بدأ الفكر المقصدي يتخذ أبعاداً جديدة في عهد أئمة الفقهاء، حيث أخذت صورته تتضح في الأصول التي يرجع إليها الفقهاء فضلاً عن القرآن والسنة، فبدأت الناحية المقصدية تأخذ موقعها في الإجماع والقياس والاستحسان والعرف والمصالح المرسلة.
6. على الرغم من أن الفكر المقصدي لم يغب عن أذهان أئمة الفقهاء وتلاميذهم، إلاّ أن الفقه في صورته العامة كان أقرب ما يكون إلى الناحية الفردية منه إلى الناحية المقصدية، حيث جنح إلى معالجة القضايا المتعلقة بالفرد، أكثر من تلك المتعلقة بالجماعة أو السياسة العامة، وليس ذلك لنقص أو قصور في هؤلاء الفقهاء، وإنما لظروف معينة عاشوها.
7. بدأت فكرة المقاصد تسير نحو النضوج عند الفقهاء الأصوليين، بدءاً بالجويني ومروراً بالرازي والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية وابن القيم، وانتهاء بأبي إسحاق الشاطبي.(1/29)
8. يُعد الإمام الشاطبي هو العَلَم الذي صاغ لنا نظرية المقاصد وشيّد بناءها، حيث طرح هذه القضية بكل أبعادها في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة" لتصبح نظرية كاملة متكاملة من جميع جوانبها.
9. على الرغم من أهمية الموضوع الذي عالجه الشاطبي، وأهمية القضية التي تناولها، إلاّ أن كتابه بقي طيّ النسيان ردحاً من الزمن، حتى التفت إليه أستاذ مدرسة المنار الشيخ محمد عبده، فنبه إلى أهميته وعظيم فائدته، فتلقف الشيخ عبد الله دراز توجيه أستاذه فأكبَّ على دراسة كتاب "الموافقات" فحققه وأثراه بتعليقاته النفيسة.
10. انبرى للمقاصد في العصر الحديث عالم جليل هو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ليكون علماً بارزاً من أعلام الفكر المقصدي، فلئن كان الإمام الشاطبي هو العلم الأول، فإن ابن عاشور بحق هو العلم الثاني، حيث طرح قضية المقاصد بروح جديدة، وإضافات نفيسة لم يلتفت إليها غيره. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على عمق فهمه وسعة إدراكه، وعظيم تقديره لعلم مقاصد الشريعة.
11. تُعدّ حاجتنا إلى الفكر المقصدي في هذا العصر ضرورة ملحة، تفرضها علينا طبيعة الحياة وتشعباتها، فنحن أحوج ما نكون إلى النظرة المقصدية التي نتجاوز فيها الجزئيات إلى الكليات، والفرعيات إلى المقاصد والغايات، لأن ذلك هو الطريق لإصلاح مناهج التفكير لدينا، والخروج من أزمتنا الفكرية والعقلية التي فرضها علينا العقل الجزئي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
قائمة المراجع
أولاً: الكتب
1. ابن تيمية، عبد الحليم: الفتاوى، (الرباط: مكتبة المعارف).
2. ابن عاشور، محمد الطاهر: أليس الصبح بقريب، (طرابلس: الدار العربية للكتاب)، 1979م.
3. ـــــــ: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، (دون معلومات نشر).
4. ابن عبد السلام، العز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (بيروت: دار الجيل، ط2، 1980م).(1/30)
5. ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد محي الدين، (بيروت: دار الفكر).
6. ابن نبي، مالك: المسلم في عالم الاقتصاد، (دمشق: دار الفكر، 1988م).
7. أبو زهرة، محمد: تاريخ المذاهب الإسلامية، (بيروت، دار الفكر، 1981م).
8. الترابي، حسن: قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، (الخرطوم: معهد البحوث والدارسات الاجتماعية، ط1، 1411هـ/ 1990م).
9. البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى البغا، (بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1987م).
10. الجويني، إمام الحرمين عبد الملك الجويني النيسابوري: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: عبد العظيم الديب، (قطر: مكتبة إمام الحرمين، ط1، 1400هـ).
11. الحسني، إسماعيل: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، (منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1416هـ / 1995م).
12. الخادمي، نور الدين: الاجتهاد المقصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، (قطر: سلسلة كتاب الأمة، العدد 65، سنة 18).
13. الريسوني، أحمد: نظرية المقاصد عند الشاطبي، (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، منشورات المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1992م).
14. الشاطبي، أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشريعة، (بيروت: دار الفكر، ط2، 1395هـ/ 1975م).
15. شلبي، محمد مصطفى: تعليل الأحكام، (بيروت: دار النهضة العربية، 1401هـ/1981م).
16. الصغير، عبد المجيد: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، (بيروت: دار المنتخب، 1994م).
17. الغزالي، أبو حامد: المستصفى في علم الأصول، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1983م).
18. الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، (دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م).
19. الكاندهلوي، محمد زكريا: أوجز المسالك إلى موطأ مالك، تحقيق: أيمن شعبان، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ / 1999م).(1/31)
20. المدرسي، آية الله: التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، (بيروت: دار الرائد العربي، ط1، 1414هـ / 1993م).
21. المدني، محمد: نظرات في اجتهادات الفاروق عمر بن الخطاب، (بيروت: دار النفائس ودار الفتح، ط1، 1410هـ / 1990م).
22. مسلم بن الحجاج النيسابوري: الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي).
23. Masud, Muhammad Khalid, Shatibi’s Philosophy of Islamic Law, Islamabad: Islamic Research Institute, 1995.
ثانياً: تقديمات الكتب
24. العلواني، طه جابر: مقدمة كتاب "نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور" للحسني، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1416هـ/ 1995م.
25. ــــــــــ، مقدمة كتاب "نظرية المقاصد عند الشاطبي"، للريسوني، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.
26. ــــــــــ، مقدمة كتاب "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" ليوسف العالم، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1412هـ/ 1991م.
27. الميساوي، محمد الطاهر، مقدمة كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور.
ثالثاً: الدوريات
28. الجيوسي، عبد الله: "أنموذج مقترح لقراءة نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبي" مجلة التجديد، السنة الرابعة، العدد الثامن.
29. زين، إبراهيم: مراجعة لكتاب "الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية" لعبد المجيد الصغير، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الأول، سنة 1995م.(1/32)