شرائع
النفس والعقل والروح
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.org
((
محمد عرب
شرائع
النفس والعقل والروح
دراسة
منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2005
مقدمة
لقد حاولت في هذا الكتاب أن أبيّن استناداً إلى النصوص الدينية والفلسفية والفكرية حقيقة الروح والعقل والنفس، ودور كل واحدة من هذه القوى التي يملكها الإنسان في القرارات التي يتخذها، والسلوك الذي يسلكه، سواء كان يشعر بذلك أو لا يشعر به. وسوف يتبيّن لنا من خلال البحث أن البشر هم كما وصفهم الله، ينقسمون إلى أربع فئات تبعاً للمصدر الذي يستمدون منه سلوكهم، ويبنون عليه تصرفاتهم وشرائعهم وهم:
1 ـ الإنسان الخليفة. وهم الرسل والأنبياء والأولياء الذين يستمدون سلوكهم وشريعتهم من عالم الروح.
2 ـ الإنسان العاقل. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من عقله الذي يهديه، للإيمان.
3 ـ الإنسان الحيوان. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من غرائزه، وخاصة غريزة المعدة، وغريزة الجنس. ولكنه لا يقتل ولا يؤذي إلا عندما لا يجد وسيلة مشروعة لتلبية غرائزه. فهو مثلاً كالحيوان الذي لا يقتل إلا إذا جاع ولم يجد ما يأكله.(1/1)
4 ـ الإنسان الذي هو دون الحيوان. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من غرائزه، كما هو الإنسان الثالث، ولكنه يبيح لنفسه كل شيء لإرضاء غرائزه، ويفعل ما لا تفعله الحيوانات. فهو لا يتورع عن القتل لزيادة ثروته وإن كان يملك الملايين، ولا يوجد أي رادع لديه يمنعه من سلوك أي مسلك لتحقيق رغباته الجنسية. إنه الإنسان الذي وضع عورته ومعدته فوق رأسه فقلب صورته الإنسانية التي خلقه الله عليها. فقد جعل الله العالي في الأعلى بترتيب يكشف عن مكانة كل عضو في الإنسان، ومكانة الإنسان بالقياس للعضو الذي يستمد منه قراراته بترتيب حكيم خبير. فجعل الله الرأس في الأعلى، وهو مصدر أحكام العقلاء والمعلمين. ثم الأذن وهي للمتعلمين، ثم البصر للناظرين، ثم الشم الموضوع فوق الفم مباشرة ليقوم بدور المخبر للتأكد من سلامة الطعام والشراب الذي نتناوله، ثم حاسة الذوق للتأكد من طعم ما نذوقه وبرودته أو حرارته، ثمَّ الإحساس الذي يقوم الجلد بكامله من خلاله بإنذار العقل عن كل ما يصيب الجسد. وإذا نزلنا إلى ما هو أدنى فسوف نجد المعدة التي تقوم باستقبال الأرزاق وتوزيعها على الجسم، وبعد ذلك العورة التي جعلها الله في نهاية الجسم بسبب دورها المتواضع في حياة الإنسان. ولكن ماذا فعل الإنسان الحيوان لتنطبق عليه هذه التسمية؟ لقد قلب النظام الذي خلقه الله عليه، ووضع عورته في الأعلى بدلاً من رأسه حين جعل تلبية رغباته الجنسية هدف حياته، أو إذا جعل الطعام غايته الرئيسية. والإنسان الحيوان غالباً ما يجمع بين الرغبتين ويجعل من عقله خادماً لمعدته وعورته.(1/2)
وإذا أخذنا هذا المقياس للحكم على الأنظمة والدول والحضارات، فسوف يتبيّن لنا، أن دولاً ومجتمعات ثرية تسلك سلوك الإنسان الحيوان، فهي تقتل وتدمّر وتوظف كل علوم العقل للنهب والسلب والاعتداء على البشر الضعفاء، ليس لأنها محتاجة أو جائعة كما تفعل الوحوش في الغابة إذا جاعت، ولكن لكي تزيد من ثرائها وتمارس شهواتها، وتؤازرها في ذلك شعوبها بالتصفيق لمن سيزيد لها كميات الطعام، ولمن سيفتح لها أبواب حريّة الانحراف والشذوذ على مصاريعها، لكي يمارس كل شخص هواجسه الجنسية دون حياء أو خوف. إنها حضارات كما يقال ولكن ما هو الاسم اللائق بمثل هذه الحضارات إن كانوا أفراداً أو شعوباً أو دولاً. هل يليق بهم اسم الإنسان الذي هو دون الحيوان في السلوك لأنه أضلّ من الحيوان في الغايات والأهداف؟.
لقد حدّد الله صفات الإنسان الحيوان، ومن هو دون ذلك بقوله: { أرأيتَ من اتخذَ إلههُ هواهً أفأنتَ تكونُ عليه وكيلاً. أم تَحسبُ أنَّ أكثرهُم يسمعونَ أو يعقلونَ إن همْ إلا كالأنعام بلْ هم أضلُّ سبيلاً } (الفرقان 43/44). فهذا هو الفرقان بين الإنسان وغير الإنسان، وبين حضارة وحضارة. الخضوع لحكم الروح أو العقل، أو ما تهواه النفوس والغرائز. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [من عرف نفسه عرف ربه]. فلا شيء أعظم من معرفة دور النفس ولمن يجب أن تخضع لكي تهتدي بنور العقل أولاً ثمَّ بنور الروح ثانياً، لكي تقوم بخلافة الله في الأرض، ولا شيء أخطر من النفس لجر الإنسان إلى مواقع الإنسان الحيوان، أو من هم أضلَّ سبيلاً.(1/3)
إنها محاولة لكي يعرف كل إنسان نفسه، ويحدد موقعه في الحياة تبعاً لاختياره. وهي محاولة أيضاً لكي يعرف غيره ولا ينخدع بما يراه من بهارج الحضارات القديمة والمعاصرة. فهذا هو الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل... إما روح، وإما عقل، وإما نفس، وإما غريزة. وباختصار إما إنسان أو حيوان ودون ذلك، إذ ليست العبرة في الصورة ولكن بمضمون الصورة. وإنه الاختيار الذي يصنع به البشر أفرداً أو شعوباً ودولاً ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم دائماً.
فاعرف من أنت، واعرف نفسك، واعرف غيرك، لكي تختار بين الذين يعقلون، والذي يأكلون. ولكي تسير إذا شئت بخطى ثابتة من عالم الجسد والنفس إلى عالم العقل الذي تستطيع أن تشهد به ظاهر العالم المادي... أما إذا كنت تطمح لشهود باطن العالم، فلن تشهده إلا بشوق النفس للخروج من الجسد، وعشق العقل للمعرفة... وعندها سيصبح للروح أجنحة تخرج بها من ضيق الجسد إلى سعة العالم، وتطير بها من ظاهر المادة إلى نور الوجود، ومن الكون والتكوين إلى المكوّن، لأن الحب الذي تبحث عنه الروح لا يُشهد إلا بعين الحبيب كما علمنا الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ، بالتقرّب إليه بالنوافل. أو كما قال سلطان العارفين الشيخ محيي الدين بن عربي:
إذا تجلّى حَبيبي ... بأيَّ عَينٍ تراهُ؟
بِعَيْنِهِ لا بِعَيني ... فَما يَراهُ سِوَهُ!
هذا هو كنز الإنسان الكامل ومملكته، وهي "ليست من هذا العالم" كما قال المسيح عليه السلام. إنها في نهاية الطريق لمن يؤثر الخالد على الفاني.
***
الفصل الأول
حدود المعرفة بالعقل
أسئلة ما زلنا نبحث عن أجوبة لها(1/4)
إن كل إنسان يريد أن يعرف الحقيقة عن نفسه. من هو، ولماذا جاء إلى هذا العالم، وما هو دوره فيه، وما هي مكانته، وما هو مصيره بعد الموت؟. إن هذه الأسئلة التي طرحها الإنسان دائماً، ودخلت كل الثقافات في حوار للبحث عن أجوبة لها، ما زالت على قدمها تتجدد وتفرض نفسها، وتدخل مسارات حياتنا، وتوجّه سياساتنا، وتحدّد سلوكنا، مع أننا لم نصل إلى نتيجة حاسمة في مراحل التاريخ المختلفة. ولم ترتق معرفتنا بما قدمه العلم بعد تحطيم الذرة، ودخول عصر الفضاء عمَّا كانت عليه في هذه المسائل، إذ ظلّت الأجوبة على حالها، وما زال الانقسام قائماً بين مدارس المثاليين الذين يؤمنون بإله يحكم العالم ويعتني به، ويخلق لغاية، وبين الماديين الذين أنكروا الألوهية والغائية الكونية، وقبلوا بمبدأ الصدفة كسبب لوجود الحوادث الكونية ومنها ظهور الإنسان، مع تأكيدهم على قدم الطبيعة. وليس المهم الآن حجم ونوع الأدلة التي قدمها كل فريق في هذا المجال، إنَّما المهم هو مصدر إيمان كل فريق وحججه. فإذا كانت المصادر المعرفية لكل فريق واحدة، وهي العقل كما نعرف، فلماذا اختلفت الأجوبة وأنكر كل فريق ما آمن به الآخر؟ أليس من الواجب إذا كنا نستخدم نفس الأدوات في قياس أمر ما أو الحكم عليه، أن يكون حكمنا متشابهاً إن لم يكُ واحداً؟. ولكن أن يكون متناقضاً فهذه هي المشكلة.(1/5)
فمن أين جاء هذا التناقض؟ هل العلة في العقل؟. هل الصانع الذي صنع عقولنا أعطى للفيلسوف المؤمن ما لم يعطه للفيلسوف غير المؤمن؟ إذا كان الصانع قد خلقنا لغاية كما يقول المؤمن، فمن المفترض أن يدلّنا جميعاً على هذه الغاية، وأن يساعدنا على إدراكها ومعرفتها بعقولنا، وأن يكون قد وضع في عقولنا ما وضعه في عقل الآخر لكي نعرفه معرفة متساوية. ولكن الواقع يدل بأن أحكامنا العقلية ليست واحدة، فما هو السبب؟ هل هذا راجع لتنوع عقولنا، أم لمصادر معلوماتنا؟ لاشك أن مصادر المعلومات ذات تأثير كبير، ولكن حينما يقع الخلاف بين علماء وفلاسفة، يعرف كل واحد فيهم حجج الفريق الآخر ومعلوماته، ويمحصها، ويجتهد في فهمها، ويسعى بكل ما أوتي من العلم لمعرفة الحقيقة، فلماذا استمر الخلاف الإنساني إذا كان الله قد خلقنا، ومن المفترض أنه أعطاناً عقولاً واحدة لكي نفهم ما يريد، ما دام قد طالبنا بالإيمان؟ وإذا كانت الطبيعة والصدفة قد صنعتنا، فلابدَّ أن يكون صنعها أكثر تشابهاً، لأن الإنتاج الآلي وقوانين الصدفة الثابتة لن تسمح بأي تنوع حتّى في عقولنا، ولأنها لو تغيرت العلل لظهر نوع جديد؟. فكيف استمر الخلاف إذا كانت عقولنا واحدة كما نتوقع بفعل الغائية الكونية أو القوانين الطبيعية؟.(1/6)
إن علينا أن نعرف سر هذا الاختلاف وأسبابه، قبل أن نعرف مظاهر هذا الاختلاف ونتائجه وأدلة كل فريق، فإنه من تحصيل الحاصل أن يجد الناس أدلة على كل ما يعتقدون، والمشكلة أن الذين يؤمنون بإله وغايات لديهم أدلتهم التي يستندون إليها، وهي نفس أدلة الذين لا يؤمنون. إذ الجميع يعترفون بوجود قوانين تحكم مسار الطبيعة والمخلوقات، ولعل عصرنا حافل بمثل هذه الأدلة، ولكن المعسكر المثالي يقول إن الله هو من وضع هذه القوانين، بينما يقول المعسكر المادي إن الصدف هي التي صنعتها. إذاً نحن أمام مشكلة (مَن الصانع) ومن أين جاء كل فريق بأحكامه المتناقضة، مع أنه لا الفريق المؤمن شاهد الله، ولا الفريق المادي شاهد الصدف التي فعلت في الطبيعة، لأن الإنسان ظهر بعد أن نضجت الأسباب التي أدّت لوجوده، فكيف سيعرف أسباب وجوده التي لم يشهدها؟. إننا أمام مشكلة من أصعب المشاكل التي يواجهها الإنسان، عندما يصبح نفس الدليل سبباً لظهور موقفين متناقضين. فما هو السبب يا ترى؟. هل المشكلة في المعرفة أم في العقل، أم في الأمرين معاً؟.
مشكلة المعرفة(1/7)
يجب أن نعترف قبل البحث في مشكلة المعرفة بأننا إزاء حالة لا يملك فيها الفريقان، المثالي والمادي، الدليل العلمي على أسباب الخلق، فلا أحد شاهد الله وإنما شاهد الأسباب، ولا أحد شاهد الصدفة، وإنما شاهد الأسباب. ولذلك بقي وسيبقى الجدل نظرياً، وستقوم حجة كل فريق على مستوى من البلاغة اللغوية ما داما يعتمدان في تبرير معتقداتهما على العقل الذي هو واحد عند الطرفين من حيث قدراته ومؤهلاته وتركيبه. وهذا ما سيدخلنا في قضايا السفسطة والسفسطائيين حيث ستكون الحجة تابعة للبرهان. فالأكفأ سيبرهن على صحة قضيته في مسألة كلها غيب، وليس هناك أي مجال للتجريب فيها. وبذلك سيصبح العلم تابعاً للبلاغة، مما سيؤدي إلى ضياع الحقيقة. ولدى كل فريق كما هو معروف من أهل البلاغة والفلاسفة والمناطقة ما يكفي لدحض حجج الخصم وتحطيمها والكشف عن نقاط الخلل فيها. وقد استطاع تلميذ كما هو معروف بأن يستنتج عكس ما استنتجه أستاذه من قضية واحدة. فهذا الأستاذ كان قد وقع اتفاقاً مع تلميذه بأن يعلمه المحاماة لقاء أجر معين، ولكن هذا الأجر لا يستحق للأستاذ إلا بعد أن يعمل التلميذ في المحاماة ويربح القضية الأولى. وقد قام الأستاذ بتدريب تلميذه حتّى اكتمل تعليمه. وراح ينتظر أجره. إلا أن التلميذ لم يعمل بالمحاماة. وحين طالبه الأستاذ بالأجر. أجابه وفقاً للعقد، لا تستحق الأجر حتّى أربح أول قضية، وأنا لم أربح أي قضية كي تطالبني. فهدده برفع دعوى عليه، فقال التلميذ: إذا رفعت الدعوى ستكون أنت الخاسر، لأنك إذا ربحت الدعوى فسأكون أنا قد خسرت وبذلك لا يحق لك أن تطالبني بالأجر. وإذا ربحت الدعوى عليك، فسأكون قد أعفيت من دفع الأجر بحكم القانون. فأجاب الأستاذ: أنت مخطئ لأنني إذا ربحت الدعوى عليك فسيكون عليك أن تدفع لي أجري بحكم القانون. وإذا خسرت الدعوى وربحتها عليّ فسيكون عليك أن تدفع أجوري طبقاً لاتفاقنا الذي يلزمك بدفع أجري عندما تربح أول دعوى.(1/8)
إنها بلاغة السفسطة، لا بلاغة الحق. وفي مثل هذه البلاغة يجد كل فريق لنفسه كل الحق. وإننا في الحوار بين المثالية والمادية لا يتاح لنا اكتشاف الحقيقة لأننا إذا كنا سنحكم بموجب العقد لا الحق، فإن الفريقين يجب أن يربحا القضية، أما إذا كنا سنحكم بموجب الحق فإن الأستاذ يجب أن يربح القضية. ولكن السفسطة في الكلام تقودنا إلى مثل هذه النتائج. ونحن لا نتهم أي فريق بعدم الإخلاص والجد في بحثه عن الحقيقة، ومع ذلك فإن الحقيقة ظلّت وستظل، الآن وغداً وفي المستقبل، غامضة، لأننا نبحث عنها بأدوات لا تلائم مثل هذا البحث كما يتبيّن لكل مجادل إذا ما دقق في طبيعة البحث الذي يتعامل معه. إن المادي يعتمد على حواسه في معرفة مسبب الأسباب فلا يشاهد إلا الطبيعة، والمثالي يريد أن يقنعه بالأدلة العقلية على الله كفاعل من وراء الأسباب. المادي يعتمد على حواسه، وعلى التجربة المباشرة لرؤية الأسباب، والمثالي يريد أن يدلّه على سبب لا يراه، ولكن يستنتجه عقلياً. كلاهما مثل الأستاذ وتلميذه يملكان الأدلة على ما يقولان، ولكنها غير مقنعة. وأين الحقيقة هل هي في "الماء" كما رأى طاليس (أواخر القرن السابع ـ منتصف القرن السادس ق.م) أم في "الهواء" كما قال أنكسمانس (588 – 528 ق.م). أم في المادة التي ليس لها كيف معين ولا كم محدد لكونها مزيجاً من الأضداد الحار والبارد والرطب واليابس، كما قالت مدرسة ملطية وأستاذها أنا كسمندر (ولد حوالي 610 ق.م)، وكذلك أنباذ وقليس (حوالي 443 ق.م) الذي كان قد قال ـ إن كل شيء في الكون مؤلف من العناصر الأربعة بنسب مختلفة ـ وهي النار والماء والهواء والتراب. أم هيراقليطس (530 – 470 ق.م) الذي رأى أن "النار" هي أصل الوجود، أم مبدأ الذرات التي لا ترى بالعين ولا تنقسم كما رأى ديمقريطس (حوالي 460 ق.م) ولوقيبوس قبله. أم في "الله" كما رأى أفلاطون (427 ـ 347 ق.(1/9)
م)، أم في "الهيولى" المادة الأولى كما رأى أرسطو (384 – 322 ق.م) لأنه لا شيء ينشأ من لا شيء. ما قدمه لنا الجميع إذا دققنا هو تصورات عقلية ليس لها أي دليل إلا الأفكار والمبادئ التي استند إليها كل فيلسوف. فما رآه العقل هنا، رأى نفس العقل الإنساني غيره. وسوف تأتي تجارب العلماء المعاصرين، لتساهم في إبقاء خلافات المثاليين والماديين استناداً إلى نفس الاكتشافات التي نجحت العلوم المعاصرة في التأكد من صحتها تجريبياً. وبدلاً من التخفيف من حدّة الصراع، فإن معسكر المادية قام بشن الحرب على كافة الجبهات يؤازره في ذلك ما حققته الرأسمالية المنتصرة من نجاحات في نشر الفساد والانحلال الخلقي، وهشاشة المعسكر المثالي، الذي تأكد أنه في غالبيته مثالي من فوق ومادي من تحت، بقبوله الشراكة مع الظلم والعدوان، بما ينافي القيم الخلقية التي تأمر بها المثالية. وإن هزيمة المعسكر المثالي وفشله في مجابهة المعسكر المادي أدّت إلى إدخال البشرية في نفق مظلم، وساهمت في إباحة الدم البشري، وإبادة شعوب على الهوية، لأنها لا تملك نفس الانتماء، كما ساهمت في رفع الرحمة من القلوب بين أبناء الجنس الواحد، والتلاعب بعواطفهم وإرسالهم إلى الموت من أجل مصالح اقتصادية، وتحت رايات أخلاقية لا يؤمن بها الذين رفعوها ودعوا إليها، وكتبوا عنها. بل إن البعض أصبح لا يخاف من التصريح علناً بأنه على استعداد لتدمير شعب كامل بالأسلحة النووية أو البيولوجية إذا ما اقتضت مصالحه التوسعية خارج أرضه القيام بمثل هذا التدمير. وهكذا أصبح كل شيء مباحاً بعد أن أخذ الإنسان مصيره على عاتقه، وانغمست أفكاره في متاهات الصدفة التي اعتقد أنه ابنها، وأنها كما خلقته، فإنها ستذهب به، وعليه لذلك أن يغتنم فرصة الحياة التي لن تتكرر ليمارس فيها جميع ما تدعوه الغرائز لممارسته. أليس لأن الإنسان قد تعلّم أن عقله هو الحكم الوحيد لتقدير ما ينفعه ويضرّه.(1/10)
وأن كل إنسان ما دام يملك عقلاً فإن من حقه أن يتصرف على هواه؟. لقد عادت المشكلة كما بدأت إلى العقل ومعه. فهل كل ما يراه العقل صحيحاً؟.
مشكلة العقل
لقد تبيّن لنا أن العقل الذي اعتقد بصحة قضية هنا، اعتقد بصحة نقيضها هناك. وهذه التناقضات بين فلاسفة وعلماء، من المفترض أنهم على قدر عال من المعرفة، بحيث يستطيعون أن يقدموا لنا الحقيقة، أدّت بنا اختلافاتهم وتناقضاتهم إلى الشكوك والقلق، فنشأ من ذلك علم اللاحقيقة، الذي ترجم إلى النسبية في العلوم الإنسانية كما في العلوم الطبيعية المستقاة من نظرية أنشتاين. ومعنى النسبية في أي علم هو غياب الحقيقة. فهل الحقائق غائبة فعلاً، أم أن عجزنا الإنساني هو الذي أملى علينا أن نزعم بأن ما يحكم الطبيعة والمخلوقات هو قانون النسبية؟. ولكن هل النسبية يجب أن تعني، أو هل هي تعني في علومنا الإنسانية غياب الحقيقة وقبول المتناقضات، أم إنها تعني نسبية أحكامنا وعلومنا بالقياس إلى الحقيقة المطلقة التي لم نتمكن من إدراكها؟. إننا قد ندرك حداً معيناً من الحقائق وهذا لا يعني أننا أدركنا كل الحقائق، كما أنه لا يعني أننا لم ندرك شيئاً. لقد تأكّد لنا أن الأرض تدور حول الشمس ولكننا قد لا ندرك الحقيقة الباقية عن سبب دوران الشمس وحول من تدور هي أيضاً. ولكن ما عرفناه عندما نتأكد منه بالتجربة، وتشهد الحواس على صحة ما توصل إليه العقل، سنكون قد وصلنا إلى جزء من حقيقة المسألة التي نبحث فيها. إذاً لابد في كل علم للتأكد من صحة ما توقعه العقل من شهادة الحواس. إن العلماء عندما يكتشفون دواء يجربونه على المرضى، وبواسطة النتائج يحكمون إن كان مفيداً أم لا، لأن العقل وحده لا يستطيع أن يحكم بصحة ما أعتقد بفائدته، ولا حاجة لكي نبرهن على أخطاء العباقرة في كثير من الأمور البسيطة أحياناً، وفي مجالات سببت للبشرية الكثير من الكوارث والمآسي.(1/11)
وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن العقل البشري لا يصلح لاكتشاف كل الحقائق التي يريد أن يعرفها، وسيظل في علمه مرتبطاً بالحواس للتأكد من صحة استنتاجاته كلما تعلّق الأمر بالطبيعة، أو ما وراء الطبيعة. وكل ما لا يمكن البرهان عليه سيبقى احتمالاً يقبل الخطأ والصواب، لأن الأسس التي تقوم عليها العلوم العقلية لابدَّ من البرهان عليها بشهادة الحواس. من هنا نشأت وستنشأ دائماً أحكام العقل المتناقضة بين المثاليين والماديين في قضية الخلق والخالق لأن مثل هذه المعرفة لا تقبل التجريب، ولا تُشهد بالحواس. ولهذا ستبقى عقائد الفريقين مجرد احتمالات. ولكنها احتمالات سترجح في النهاية موقف أحد الفريقين المثالي أو المادي، لأنَّه لا يوجد احتمال آخر للحكم في مسألة الخلق. ولكن كيف سنرجح موقف أحد الفريقين، وما هي السبل التي يمكن أن نعتمد عليها للحكم في قضية غامضة كل هذا الغموض، وعجزت أساطين العقول أن تبت فيها بشكل حاسم. هل لدينا أداة للمعرفة غير العقل والحواس نستطيع أن نستخدمها للاطلاع على ما لم يدركه العقل إلا نظرياً؟ هذا يضعنا بالأحرى أمام مشكلة المعرفة، والقدرات التي يملكها الإنسان لكي يعرف ويعمّق معرفته، فهل هناك أداة غير العقل والحواس؟
أدوات المعرفة(1/12)
إننا في مواجهة مشاكل المعرفة المتاحة للإنسان لابدَّ لنا من تحديد مصادر المعرفة التي نعتمد عليها لمعرفة ما نريد أن نعرف، المصادر الخاصة بنا، والمنطوية في أعماقنا. وعلينا أن نحدد إضافة إلى ذلك دور كل مصدر في أجسامنا وقدراته، ومستوى المعرفة التي يستطيع أن يقدمها لنا وحدودها، حتّى لا يختلط علينا الأمر فنطلب من العين أن تسمع، وحتى نعرف من أين صدر كل حكم ومن الذي أصدره، ليتاح لنا التمييز بين كل الإشارات والأفكار والمواقف التي سيتلقاها العقل، والخواطر التي ستصدر عنه. ولهذا السبب لابدَّ لنا لفهم حقيقة الأفكار والمشاعر من تحديد الجهة التي صدرت عنها، لأن ما يفكر فيه الإنسان ويشعر به يعود في أصله إلى ثلاثة مصادر كما هو معروف:
1 ـ علوم عقلية. وهي كل ما يفكر فيه العقل بشكل مجرد عن حاجات الجسم، بهدف العلم.
2 ـ معلومات حسية تأتي على شكل رسائل إلى العقل من الأذن والعين والأنف واللسان والجلد. وهذه تقوم بدور الشهود بين يدي العقل.
3 ـ معلومات غريزية تتعلّق بحاجات الإنسان الحياتية، وأهمها وأخطرها المعدة والجنس.(1/13)
ربما إننا بحاجة لبعض التوضيح حول علاقة الحواس والغرائز بالعقل. فالعقل هو في سدّة القيادة. ومنه ستصدر الأعمال الفكرية والمعرفية والإبداعية، وكذلك هو الذي ستصدر منه الأحكام الأخلاقية على السلوك وحاجات الجسم. أما الحواس كما نعرفها فإن الأذن ستنقل لنا الأصوات والكلام وهي من أرقى الحواس وأهمها لأنها أقرب إلى عالم الطاقة من عالم المادة، إذ الأصوات ليست شيئاً مادياً يمكن أن نلمسه بحواسنا الأخرى، بل هي نوع من الطاقة يأتينا على شكل موجات وذبذبات. أما العين فإنها أكثر قرباً إلى عالم المواد، وإن كانت في موقع تدرك فيه عالم النور كطاقة، كما تدرك الكرسي والطاولة وهي مواد يمكن أن يشارك اللمس في إدراكها. أما الأنف فهو وسيلتنا لإدراك الروائح والتأكد من سلامة ما نأكله ونشربه. فهو كالمخبَر بين أيدينا، وهو على أهميته أكثر ارتباطاً بالمادة. أما اللسان فهو لا يدرك إلا المواد ولا يستطيع أن يتعامل إلا معها فهو مخبر تجريبي يُفرز لنا طعم المواد ويخبر العقل بها ليرفضها أو يقبلها. أما حاسة اللمس فهي خط دفاع الجسم الأول، كما إن اليدين تملكان الخبرة للتمييز بين الأشكال وإبلاغ العقل بما لمسته مما يتعرّض له الجسم، وتستطيع أن تقوم في الظلام بدور العين، وكل هذه الحواس كما هو معروف تبعث بالرسائل إلى العقل ليقرر على ضوء المعلومات التي تقدمها الخطوة التالية، والتصرف المناسب. والحواس كما نعرف هي شهود العقل إذ بواسطتها نستطيع أن نشاهد مثلاً تمدّد المعادن بالحرارة بقياسنا لها ورؤية هذا التمدّد مما يساعدنا على إصدار حكمنا، بأن جميع المعادن تتمدّد بالحرارة. فالحواس هي مخبرنا التجريبي الجاهز دائماً لتقديم كل المعلومات التي يطلبها العقل، ويسعى للتأكد من صحتها، فالحواس تقوم بتحليل المعلومات وتقدمها إلى العقل ليحكم عليها.(1/14)
ولهذا فإن أي نقص في الحواس سيؤدي حكماً إلى نقص في معلومات العقل، فالأعمى لا يستطيع أن ينقل إلى عقله أي معلومات عن الألوان وصور الجمال، وإن كان العقل قادراً على إدراكها كمعانٍ مجرّدة عن المواد. فالحواس كما إنها بمنزلة الرسل التي تنقل المعلومات إلى العقل، فإنها أيضاً أدوات البرهان على ما يفكر فيه العقل، فهم الشهود على الحقائق، التي لا يستطيع العقل دونها أن يتأكد من صحة ما حكم به. إنها محكمة الإنسان القاضي وشهود الحق، لأنهم لا يشهدون إلا بالحق، وعلى القاضي ـ العقل ـ أن يستخلص النتائج.
ولكن هل هذه هي الحواس الإنسانية، أم إن الغرائز هي من جملة الحواس التي تقوم بإبلاغ العقل عن حاجات الجسم ورغباته. فإذا كانت الحواس تقف في منطقة وسطى بيننا وبين العالم الخارجي، فإن الغرائز تقف في المنطقة الوسطى بين العقل وعالمنا الداخلي، فتنقل إليه حاجاتنا إلى الطعام والجنس، وكل الحاجات البيولوجية والرغبات التي تساعد الجسم على العمل، أو تحقق له الراحة والسعادة. ولكن الغرائز ليست كالحواس التي تكتفي بنقل المعلومات للعقل، فهذه تضغط لتحقيق رغباتها كما في حالة الجوع والجنس، ولا يهمها من أين سيُقدّم لها العقل ما ترغب فيه من حلال أو حرام، لأنها لا تدرك إلا الرغبة. إلا أن العقل هو الذي سيختار الطرق المناسبة لتحقيق رغبات الغرائز. فهو الحاكم المطلق عليها، والذي لا ينازعه في حكمه منازع.
إننا بهذا العرض المبسَّط لعالم الإنسان. سنكون قد عرفنا مصدر كل معرفة عقلية إنسانية، ولمن يجب أن تنسب. لعالم العقل المجرّد، أم لعالم العقل المبرهن عليه بشهادة الحواس، أم لحاجة الغرائز. وعلى ضوء هذا الفهم فإننا نستطيع أن نستنتج بأن للإنسان ثلاث مرجعيات تصدر عنها جميع أحكامه وتصرفاته. وهي:
1 ـ مرجعية عقلية نظرية، نفكر بواسطتها، ونتأمّل ونحكم بالعقل على تصرفاتنا وأفكارنا.(1/15)
2 ـ مرجعية عقلية برهانية بشهادة الحواس. هي من أفضل سبل المعرفة.
3 ـ مرجعية غريزية نفسية. وهي تشمل كل تدبير عقلي لتلبية طلبات الغرائز.
إن هذا التحديد ضروري لكي نكشف عن العلاقة بين الفكر وسلوك الإنسان، ولكي نحدّد المرجعية التي استندت إليها كل عقيدة ومذهب، لأننا عندما ننسب الأفكار والسلوك إلى الأصل والنبع، لن نخلط بين ما هو فكري بدليل أو دون دليل، وبين ما هو غريزي. وسيكون بإمكاننا أن نحكم على كل نظرية وإن كانت ترتدي طابع الفكر من أهدافها، وسيتاح لنا دراسة أهداف الناس ومرجعياتهم إن كانت عقلية تأملية، أو عقلية تجريبية، أو غريزية، من سلوكهم. فالفكر سيرشدنا إلى السلوك والسلوك سيرشدنا إلى الفكر. إنه الإنسان في النظرية، والإنسان في الممارسة. وقد يكون بينهما فرق وتزييف. فالحقائق تعبر عن نفسها بالثمار، والثمار تدل على حقيقة الإنسان الباطنية. الظاهر والباطن اللذين يتكوّن منهما الإنسان، وبمعرفتهما سيزول اللبس والغموض عن الجوهر الحقيقي لكل إنسان.
الطريق المسدود أمام المعرفة(1/16)
ولكن هل هذه هي أدوات المعرفة الوحيدة التي يملكها الإنسان؟ وكيف سنحدّد موقفنا من أفكار المثاليين والماديين إذا كانت سبل المعرفة مغلقة إلا عن طريق العقل والحواس والغرائز، وهي كما تبيّن لنا لم توصل الفلاسفة الذين سبقونا إلى الحقيقة، فكيف ستوصلنا نحن؟. ألا يصبح البحث عن الحقيقة إذا كنا لا نملك غير هذه الأدوات المعرفية عبثاً، وتضيِّيعاً للوقت والجهد؟. منذ القديم وصَّل بعض الناس إلى اليأس من الوصول إلى الحقيقة اليقينية، فكانت النتيجة أن "جاء السوفسطائيون فاحترفوا الجدل والخطابة، وجعلوا من الفلسفة ضرباً من التلاعب اللفظي الذي يعين صاحبه على تأييد القول الواحد ونقيضه على السواء. ولم تلبث النزعة الشكية أن تطرقت إلى الفلسفة على يد بروتاغوراس وجورجياس، فشاع القول بالنسبية، وفقد الكثيرون إيمانهم بالحقيقة المطلقة، وأصبح هدف الفلسفة هو الجدل لمجرّد الجدل، لا لطلب الحق أو إصابة اليقين"(1). وسوف يسعى سقراط ومن بعده تلميذه أفلاطون لتطهير الفلسفة مما أصابها من شبهات وانحراف. وسوف تصبح الفلسفة على يد أفلاطون موجهة لمعرفة "المثل" أو الماهيات "الفلسفة عند أفلاطون هي اكتساب العلم، وموضوع العلم هو الوجود الحقيقي الثابت الضروري، لا الأشياء المحسوسة التي لا تكف عن التغيُّر، ولا تنطوي على أية حقيقة أو ثبات"(2). ورغم أن الفلسفة ستستقطب مفكرين كباراً من أرسطو وهيغل وغيرهم، إلا أنها ستظل تعاني من العجز عن البرهان على صحة ما تقوله وتردده عمَّا وراء الطبيعة سواء بالنسبة للمثاليين أو الماديين. وسيدفع هذا الإحباط والعجز بعض الفلاسفة إلى الدعوة للتخلّي عن الخوض في مسائل ما وراء الطبيعة، والاعتراف بعجز العقل عن الوصول إلى المعرفة في هذا المجال.(1/17)
وسوف يقوم "كانت" (1724 – 1804م) بعد قرون بتوجيه ضربة لطموحات العقل، بتأكيده أن العقل يدرك ـ الظواهر لا الأشياء في ذاتها ـ ولهذا سيطالب "كانت" الفلاسفة بالتوجه لدراسة الواقع بدلاً من البحث فيما وراء الطبيعة. أي يجب أن يتغيّر موضوع البحث الفلسفي. وسيحدّده على الشكل التالي "موضوع الفلسفة في نظر كانت هو تحديد العناصر الأولية للمعرفة والعمل، أو تحديد الأسس العقلية التي تقوم عليها حياتنا النظرية والعملية. وإذن فإن الفلسفة نظرية وعملية معاً، والفلسفة النظرية هي التي تحدد الموضوع وتعين طبيعته وتبيّن قوانينه، بينما الفلسفة العملية هي التي "تحقق" هذا الموضوع بأن تنقله من مجال الفكر إلى مجال العمل. فالفلسفة النظرية هي علم "ما هو كائن" بينما الفلسفة العملية هي علم "ما ينبغي أن يكون". وتبعاً لذلك فإن الأولى هي علم المنطق: وموضوعه دراسة المعاني الكلية من حيث صورتها فقط، وعلم الميتافيزيقيا: وموضوعه دراسة تلك المعاني من حيث مادتها، أي في علاقاتها بالأشياء. وإذن فإن موضوع المنطق هو "الحق"، وموضوع الميتافيزيقيا هو "الواقع" أو الوجود الحقيقي، من حيث أن هذا الوجود خاضع لقوانين عقلية أولية سابقة على التجربة. وعلى ذلك فإن الميتافيزيقيا الوحيدة التي يتقبلها كانت هي ذلك العلم الذي يدرس القوانين الأولية للعقل، في علاقاتها بالأشياء. والعقل في نظر كانت إنما يدرك الظواهر، لا "الأشياء في ذاتها" فليس في استطاعة الميتافيزيقيا أن تصل إلى الفصل في حقيقة "المطلق" أو "المعقول" أو "الشيء في ذاته". ومن هنا فإن كانت يقول إن العقل النظري لا يستطيع أن يتوصل إلى إثبات وجود الله، أو حرية الإنسان، أو خلود النفس، ولو أنَّ هذه كلّها مصادرات ـ أو مسلمات ـ يستلزمها العقل العملي في مجال الأخلاق"(3).(1/18)
فهل اعتراف كانت بعجز العقل عن التوغل فيما وراء الطبيعة لرؤية الحقيقة سيضع حداً لطموحات الفلاسفة وخلافاتهم، وسيكون هذا الاعتراف بمثابة خاتمة لجهود أجيال من الفلاسفة ما زالت تتأرجح بين نظريتين دون أي نتيجة؟ ولكن كيف سيقبل الفلاسفة بهذا الماء البارد الذي صبّه "كانت" فوق نظرياتهم وخلافاتهم؟ سيأتي آخرون ويرفضون هذا التحديد الضيق لدور الفلسفة ولكن "كانت" لم يكن أول من صرّح بعجز العقل، إذ سبقته أصوات، وستستمر بعده كما سنشاهد. إن لوك حدَّد دور الفلسفة مستقبلاً بـ"دراسة العقل البشري" وعند هيوم وبركلي "دراسة الطبيعة البشرية"، وعند كوندياك "تحليل الإحساسات". وهكذا انصرف الفلاسفة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عن دراسة أصل الأشياء إلى دراسة أصل الأفكار، فأصبحت الفلسفة بمثابة "إيديولوجيا" أي مجرد علم يدرس الأفكار؛ نشأتها وطريقة تكونها ومدى ترابطها"(4). وسوف تأتي النظرية الماركسية مستفيدة من الديالكتيك الهيغلي لتنسف كل يقين بالأفكار ما دام قانون الديالكتيك هو الذي يقرر مصير كل حي وكل فكرة. وإن كان التطور عند هيغل باتجاه الروح المطلق، ففي الماركسية كل ما يحدث هو تطور في المادة والحياة. "إن جميع النظم الاجتماعية التي تتعاقب في التاريخ ليست سوى مراحل مؤقتة لتطور المجتمع الإنساني، الذي لا نهاية له، من درجة دنيا إلى درجة عليا. فكل درجة ضرورية، ويبررها بالتالي العصر والظروف التي ترجع إليها بنشأتها... فليس هناك، بالنسبة للفلسفة الديالكتية، شيء نهائي، مطلق، مقدّس. إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء"(5). إنه صراع الأضداد الذي يقود إلى الهدم والبناء من جديد. وسوف تأتي الفلسفة الوجودية مع سارتر (1905 – 1980م) لتقرر أن "مهمة الفلسفة إنما تنحصر في تحرير الإنسان مما هو متصور عقلياً؛ من أجل وضعه وجهاً لوجه أمام وجوده الخاص بوصفه كائناً حراً يتوقف مصيره على قراره الشخصي"(6).(1/19)
يقول سارتر "بمعنى ما، أنا أختار أن أولد. وهذا الاختيار نفسه متأثراً كلّه بالوقائعية، لأنني لا أملك إلا أن اختار، لكن هذه الوقائعية بدورها لن تظهر إلا من حيث إنني، أتجاوزها إلى غاياتي"(7) الحضارة التي عجزت عن فهم الغائية الكونية بالعقل، ولم تتمكن من الاقتناع بما وصل إليه من نتائج لفهم رمزية ومغزى وجود المخلوقات ومعنى الإنسان، ستعلن موت الألوهية، وسوف تصل بنا إلى لا شيء، إلى العدمية. "حيث يتدحرج الإنسان إلى خارج المركز نحو المجهول"(8) لقد عبَّر نيتشه عن هذا المصير في كتابه "إرادة القوة". و"يمكن تلخيص مجمل القضية العدمية في موت الألوهة أو في ـ سقوط القيم العليا"(9). هذا هو المعنى بالنسبة لنيتشه (1844 – 1900م) ومن سيحمل هذا الاعتقاد معه. لأنه كما قال دستويفسكي ـ إذا مات الله فإن كل شيء سيكون مباحاً ـ هذه نتيجة لتدحرج الإنسان اللاعقلاني نحو المجهول ـ بل نحو الهاوية. لقد تحطم العقل في عجزه وعلى إيقاع "تحطيم العقل" الذي جعله "جورج لوكاكش" عنواناً لكتابه سيسير الإنسان نحو قتل نفسه أو قتل الآخر للإحساس بوجوده. إذ لم تعد مقولة ديكارت (1595 – 1650م) "أنا أفكر أنا موجود" تعني شيئاً بعد أن فشل العقل في إيجاد دلالة لمعنى وجود الإنسان. لماذا أفكر إذا كان لا يساعدني تفكيري على الخلاص من قلقي وأسئلتي الوجودية. هل هي الغابة التي لابدَّ فيها لكل إنسان أن يعيش ليأكل أو يؤكل "إنه في المرحلة النهائية للانهيار الذي بلغته حضارتنا لم تعد الفاعليات المناسبة الفاعليات الفنية للإبداع (الأعمال الفنية أو الأعمال الفكرية) بل فاعليات التنظيم التقني ـ العلمي ـ الاقتصادي للعالم، التي تبلغ ذروتها في إنشاء سيادة من نموذج عسكري في أعماقها. عند يونجر، تمجيد "حرب المعدات"، بوصفها حتمية الجوانب "الميكانيكية للواقع"(10).(1/20)
سيبشر شبنغلر (1880 – 1936) بتدهور الحضارة المادية وسقوطها "إن الرومان كانوا برابرة، ولم يأتوا في أعقاب اليونان ليدفعوا بتقدم عظيم إلى الأمام بل إنما جاؤوا ليختموه" لماذا؟ "إن الرومان المجرّدين من الروح والفلسفة والفن، والذين تبلغ بهم العصبية العرقية حد الوحشية، هؤلاء المركزون لكل جهودهم ومجهوداتهم على تحقيق انتصارات محسوسة، يحتلون مرتبة تقع بين الحضارة الإغريقية والعدم. أما خيالهم فكان مركزاً بكليّته على أهداف عملية (مع أنه كان لهم قوانين دينية تنتظم علاقاتهم بالآلهة وقوانين أخرى تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض، لكنه لم يكن هناك أساطير رومانية خاصة عن الآلهة) ومثل هذا الخيال لم يكن أبداً موجوداً في مخيّلة سكان أثينا، وبكلمة واحدة، الروح اليونانية مقابل الفكر الروماني، وهذا النقيض يمثل الفرق بين الحضارة والمدنية. ومرّة تلو أخرى، يظهر طراز من الناس قوي الفكر، معدوم الحس الميتافيزيقي تماماً،(1/21)
وعلى أيدي هذا الطراز يتقرر المصيران الفكري والمادي، لكل مرحلة متأخرة زمنياً"(11). سيحذر كولن ولسون من تقوقع الإنسان في البعد المادي بسبب تحطيمه لحلم المعرفة فيقول "يتيح طبع الإنسان له أن يكون "أكثر حياة" أو "أقل حياة"، فهو يستطيع أن يضبط نفسه ويمارس ذكاءه فيرفع نفسه إلى شكل أعلى من أشكال الحياة، وهكذا يعتبره البشر الآخرون، بصوره أتوماتيكية، زعيماً. وأما طبع البقرة فإنه لا يتيح لها أن تغيّر نفسها"(12). وسيلاحظ بصورة مأساوية ماذا تعني ادعاءات الإنسان لانتشال نفسه من كومة الشكوك التي تحاصره بالإبحار على قشة في بحر صاخب، مستنداً إلى رواية دوستويفسكي الشياطين حيث يوضح كيريلوف المشكلة بقوله "إذا قال الإنسان إن الله غير موجود فيجب عليه أن يواجه ما يعنيه ذلك، إنه لابدَّ أن يكون هو الله"(13). ولكن هل يستطيع؟! ستسعى الفلسفات الحديثة لأن تخلق أهدافاً بعد أن تحطّم العقل بالعجز عن الإجابة على أسئلة الوجود الكبرى، كي لا يصبح الإنسان بقرة، أو زعيماً على أبقار، ستكون كل مهمته قيادتها إلى المراعي الأكثر خضرة. ستحاول. ولكن بحطام العقل، ولهذا ستفشل. وستكون البشارة أو المأساة بسقوط الحضارة حقيقة لا يمكن تجنبها، لأنه لا فائدة من استمرار الجدال بين المثاليين والماديين إذا حسمت القضية في نصف الكرة الغربي لصالح الماديين. لقد سقط الحلم، وصار كل شيء مباحاً، ونجحت "حرب المعدات" في قيادة القطعان إلى المراعي الخضراء. بسبب الإعلان عن عجز العقل. سيعترف جورج مونو بالمأساة التي صنعتها الفلسفة الحديثة، مع أنه من أنصار المدرسة الداروينية في نظرية الخلق. إنه يقول "الجماعات الحديثة التي نسجها العلم، والتي تعيش على منتجاته، أصبحت تابعة له، كالمدمن على الحشيش بحشيشه.(1/22)
إنها مدينة بقوتها المادية لهذه الأخلاق التي أنشأت العلم، كما هي مدينة بضعفها الأخلاقي لمنظومات القيم، التي هدمتها المعرفة نفسها، والتي ما تزال تحاول أن تستند إليها. ولكن هذا التناقض قاتل. إنه هو الذي يحفر الهوة التي نراها تنفتح تحت أقدامنا"(14). ما هو السبب الذي أدّى إلى فرح كل سيد بأبقاره، وإلى اختيار الأبقار لسادتها عبر وعود الرفاهية والحرية الشخصية ـ الانحراف والشذوذ ـ إذ إن مهمة السيد أن يكون مقنعاً للناخبين، وعلى كل إنسان بمفرده أن يبحث عن هدفه الشخصي في كومة الجدوى التي جعلتها الحضارة طعاماً وجنساً. لقد غاب الهدف وما بقي للحيوانات المعاصرة غير هذه الكومة التي تبحث فيها عن معنى وجودها "ما من مجتمع، قبل مجتمعنا، عرف مثل هذا التمزق، فلقد كانت مصادر المعرفة ومصادر القيم في الثقافات البدائية، كما هو الأمر، في الثقافات الكلاسيكية، مختلطاً بعضها ببعض بحكم التقاليد الإحيائية. ولأول مرّة في التاريخ، تحاول مدنية ما أن تنشأ وترسّخ جذورها، وهي متعلقة تعلّق اليائس بالتقاليد الإحيائية، تسويغاً لقيمها، على الرغم من أنها تهملها كمصدر للمعرفة والحقيقة. فالمجتمعات "الحرة" في الغرب ما تزال تعلِّم، من رأس شفتها، خليطاً بائساً من الديانة اليهودية والمسيحية، والتقدمية العلمية، والإيمان بحقوق الإنسان "الطبيعية" والذرائعية النفعية، كأساس لأخلاقها. أما المجتمعات الماركسية فهي تظل تعلِّم الديانة المادية والجدلية في التاريخ، وهذا إطار أخلاقي، أقوى ظاهرياً من إطار المجتمعات الحرة، ولكن ربَّما كان أسرع عطباً، بحكم ما فيه من صلابة هي التي أعطته ما فيه من قوة، حتّى الآن. ومهما يكن من أمر، فإن كل هذه المنظومات الراسخة الجذور في الإحيائية، بعيدة عن المعرفة العلمية، وبعيدة عن الحقيقة، وغريبة ـ ولنقل آخر الأمر ـ عدوة للعلم الذي تريد استخدامه، دون أن تحترمه أو تخدمه...(1/23)
إن مرض النفس المعاصرة، هو هذا الكذب المتأصل في الكيان الخلقي والاجتماعي. إن هذا المرض، المشخص بكثير أو بقليل من الغموض، هو الذي يثير مشاعر الخوف، إن لم نقل مشاعر البغضاء، ويثير على كل حال مشاعر الضياع التي تخالج قلوب عدد كبير من الناس تجاه الثقافة العلمية الحديثة"(15). أين سيجد المرضى الدواء لعلاج ما سببته الحضارة المعاصرة من أمراض نفسية. كما يعترف جورج مونو، وكما سيؤكد فرويد "إن أعراض العصاب والانسدادات قد أصبحت إلى حد ما عامة بين جميع الكائنات البشرية المتحضرة"(16). ولكن أين سيجد المريض الدواء، إذا كانت الأمراض النفسية قد أصابت كل البشر على السواء بما فيهم الطبيب، وإذا كان تلاميذ فرويد اللامعون سينتحرون كما فعل فيكتور تاوسك عام 1918. (ولد عام 1879)، الذي ظل متابعاً لفرويد ومعالجاً منذ عام 1908. وسيتبعه على نفس الطريق بول فيدرن الذي "انضم إلى مجموعة فرويد في عام 1903، فهو واحد من أقدم أتباع فرويد، كما كان أحد أقرب الأصدقاء إلى تاوسك"(17). وفي الوقت نفسه "بقي فيدرن حتّى النهاية حواري فرويد المخلص"(18). ولكن هذا الحواري سيطلق النار على نفسه وهو في التاسعة والسبعين للتخلّص من الحياة. وسيقوم تلميذ ثالث هو هربرت سيلبرر بالانتحار أيضاً. هؤلاء الذين تعلموا من فرويد كيف سيعالجون المرضى النفسيين أصابهم المرض رغم أنهم قلّة، إلا أنهم يشكلون نسبة عالية بالقياس لعدد أعضاء جمعية التحليل النفسي التي أسسها فرويد "فإن عدد أعضاء جمعية فينا للتحليل النفسي لم يكن يتجاوز ثمانية وعشرين عضواً في عام 1909، ونادراً ما تجاوز حضور الاجتماعات ثمانية أو عشرة أعضاء"(19). ولكن بسبب الأنا، والخلافات على العظام بدلاً من العشب، لأن السادة لا يكونون نباتيين فقط، ستنتشر طريقة الانتحار للتخلّص من الأنا التي تلوثت بنفايات الحضارة المعاصرة.(1/24)
وسيقول فرويد عن كل من خالفه "إن تلاميذه مثلهم كمثل الكلاب، يأخذون عَظْمة عن الطاولة ثمَّ يلوكونها بمفردهم في إحدى الزوايا، ولكن تلك العَظْمة لي أنا"(20). لماذا لم يتركوا له عظامه، ليعالج بها المرضى، الذين تعاونت الفلسفة والعلوم بما فيه التحليل النفسي على تحطيم أحلامهم، وانتزاع الأمل من قلوبهم بزجّهم في دوامة الضياع، بعد الإعلان عن موت العقل، أو عجزه، ودفنه في ضريح، ثمَّ إعلان قدسيته وحث الناس على زيارته والاستفادة من حكمته، كشهيد مقدّس على دروب المعرفة. لقد ارتبك العقل أمام الأسئلة التي كان عليه أن يجيب عليها، ولم يتمكن طوال قرون من الوصول إلى الإجابة، فأراد له الفلاسفة المعاصرون أن يتخلّص من هذه الأسئلة بنسيانها، وأعطوه كل لعب الحضارة ومنتجاتها، وأباحوا له الحرية لكي يعلو أو ينحدر، ولكنهم جرّدوه من الهدف، وحين سأل لماذا سأعلو إذا كانت قد انتهت الغايات والأهداف؟ قيل له لا فرق، عليك أن تختار مصيرك. ووقف الإنسان طويلاً، أيعلو أم ينحدر؟ وقف يتأمل في السؤال الباقي ـ لماذا ـ الذي لا جواب عليه بالعقل، وهو معلّق مثل السؤال ومعه وعنده في الحيرة التي أغلقت كل الطرق أمامه وسرقت منه معنى الحياة. ولما ضاع المعنى غاب الطعم، لأن الإنسان لم يتمكن ولن يستطيع أن يكون بقرة، ولن يستطيع أن ينتمي إلى أسلافه الذين تقول الداروينية إنه منهم، ولن يستطيع أن يكون مجرّد ثعلب ماكر، أو أسد هصور يبحث عن الضحايا والدم. ولن يستطيع أن يكون نملة خبيرة بمواسم الحصاد وأسلوب العيش.(1/25)
إنه فوق كل هذا العالم الذي ينمو لكي ينمو، فلا أحد، ولا مخلوق يختار الموت طواعية من أجل المعنى، ولا مخلوق يملأ العالم شعراً وبلاغة مثل الإنسان، ولا أحد يخلق من توترات قلبه هذا الكم الهائل من الأصوات والأنغام والفنون غير الإنسان، فأين العلاقة بينه وبين غيره من المخلوقات؟ فكيف تزج به الحضارة المعاصرة في طريق الانحدار، وتسدّ عليه أبواب إنسانيته، أبواب انتسابه إلى مجد سامٍ أكبر من التراب، ومخلوقات التراب. أليس هو الكلمة والمعنى والجوهر والجمال، فهل يخدع نفسه، وإن خدعته الفلسفة؟ ولكن ما هو الحل؟ ولماذا لا يسعفه العقل، ولماذا لا يجيبه من خلقه كي يطمئن إلى أنه ليس صدفة من صدف الطبيعة؟... فهل سيتحطم الصمت، ويُكشف عن الحلم الجميل المتواري في أعماق الوجود؟ وهل سيتمكن العقل الذي اخترع هذه الأسئلة المجبولة بدمه ومصيره ومستقبله ومعنى وجوده من الإجابة عليها؟. هذه الأسئلة الحميمة التي لم توجد ولم تظهر إلا بوجود عقل الإنسان، هل ستكون طوق نجاته، أم ستكون كما اكتشف العقل العلمي المادي أداة قتله وتحطيمه ودافعه إلى الانتحار. وإذا كان لا يوجد أي سرٍ آخر غير الطبيعة والإنسان، فهل يوجد سر آخر وراء الطبيعة والإنسان؟ ـ وهل ستنجح مغامراتنا العقلية في الكشف عن هذا السر بعد فشل الآخرين؟.(1/26)
لقد فشل العقل في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى التي طرحها وشهد على فشله، كما تبيَّن لنا، الفلاسفة المعاصرون بشكل شبه جماعي. ولم يعد أمام الإنسان إذا كانت هذه كل أدواته المعرفية إلا أن يعترف بالعجز، وأن يقبل بالهزيمة، وأن لا يعود للتفكير بلغز وجوده المحيّر، وأن يقبل بتواضع مصيره، ومقارنته بأي حشرة، تسعى للبقاء، وتعرف كيف تدافع عن مصيرها، وتنعم بقدرها حتّى النهاية دون أن تطرح أي أسئلة. وسواء أثبت العلم أو عجز عن الإثبات بأن الإنسان انحدر من سلالة القرود، وسواء وافق الإنسان على هذا الانتساب أم لم يوافق، فعليه أن لا ينزعج من هذا الانتساب؛ ما دام لا يوجد أي فرق بين الإنسان والحيوانات إلا هذا العقل الذي يتيح له أكثر من غيره أن يبتكر طرقاً للبقاء والهرب من الموت لا تعرفها الحيوانات. فهو سيد في هذا المجال. وهو سيد حتّى على أسود الغابة، فهو يعرف فنون القتل أكثر منها. ويهاجم أبناء جنسه ويقتلهم ليسرق منهم ثرواتهم وطعامهم وعرق جبينهم رغبة في الثراء، وهذا ما لا تفعله الحيوانات إلا إذا جاعت. ولكن ليس مع أبناء جنسها، فهي أرحم بنوعها من الإنسان. وهو يستطيع أن ينصب الكمائن والفخاخ لأقوى الأسود، ويستطيع أن يقبض عليها، وأن يزج بها في حديقة الحيوانات كي يجعلها مجرّد لعبة من ألعابه. إنه الأقوى والأعظم على ساحة الحياة، وما عليه إلا أن يكون الأقوى بين أقرانه لكي يكون الأعظم. فلماذا القلق إذا كانت عناصر القوة التي يملكها قد توَّجته ملكاً على الأرض، وجعلته الوحش الأكبر في سلالة الحيوانات التي ينتمي إليها؟. لماذا لا يقنع بهذا المصير الذي يتمناه أخطر وحوش الغابة، ما دام هذا العقل قد هيّأ لنا أن نطلق النار من بعيد على ما نريد أن نصطاده دون أي تعب حقيقي؟.(1/27)
ترى لو أتيح للأسود أن تخترع سلاحاً للصيد مثل بندقيتنا، كم ستشعر بالزهو والراحة، فلماذا لا نرضى بكل وسائل الرفاهية التي ابتكرناها ونطفئ لهب الأسئلة المحرقة التي يثيرها العقل؟ فهل نحن من طبيعة مختلفة، بسبب هذه الأسئلة التي يطرحها العقل دون أن يجيب عليها؟ هل عند هذه الأفكار، والبحث عن المعنى انقسم الوجود إلى عالمين، العالم كله في جانب، والإنسان على الجانب الآخر,. هل عند هذه النقطة، الكلمة المعنى، حصل الفراق بين الطبيعة والإنسان، فلم يعد الإنسان طبيعة، وإن بقيت الطبيعة على حالها لم تتغيّر؟ ولكن ما هو المعنى؟... وكيف سنعرف المعنى؟.
محاولة ثانية للمعرفة بالعقل
علينا أن نعترف بأنه لا خيار أمامنا للدخول إلى بحر أسئلتنا الإنسانية إلا في سفينة العقل أولاً. فالعقل الذي يبدع ويعرف ويتعلم، ويصبح موضوعاً لمعرفة نفسه وغيره، لن يكون عاجزاً إلى هذا الحد، حتّى لو كانت الأجوبة ليست بحوزته، كما هي الأسئلة التي يثيرها. ولهذا سنحاول أن نتلمس الطريق لإيجاد الأجوبة الممكنة على الأسئلة المقلقة التي ستكون مؤثرة في تحديد سلوكنا ومصيرنا. والسؤال الحاسم الذي سنحاول أن نجد الجواب عليه هو من أين جاء العقل الذي سنعرف به ما نريد، والحواس التي تقوم بدور المساعد للعقل؟ إذا عرفنا الجواب بشكل يقيني فإننا سنتوصل إلى القرار الصائب في تقرير ما يجب علينا. وإذا فشلنا في إيجاد الجواب فسوف يستمر البحث عن معنى الحياة، لأن البحث عن المعنى ضرورة إنسانية، يثيرها العقل، وإن لم يطفئ لظاها دائماً. فمن نحن، ومن أين جئنا؟
1 ـ إن البديهية الأولى التي لا خلاف عليها تدل بأننا أتينا من الوجود، لأن كل وجود محدث في تكوينه ومضمونه لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه.
2 ـ البديهية الثانية هي: إن كل من لا يستطيع أن يصنع نفسه لابدَّ له من صانع، وبما أننا لم نصنع أنفسنا فلابد لنا من صانع.(1/28)
3 ـ إن كل صانع لابدَّ له من علم وإرادة ومواد لصنع المصنوع لكي يكون المصنوع مطابقاً لعلم الصانع فيما يريد صنعه. فلابد من الإرادة والعلم، لكي لا يخرج المصنوع عمَّا يريده الصانع، ولكي لا يكون مخالفاً لإرادته.
4 ـ إن كل الصفات الموجودة فينا من عقل وحواس وألوان وعناصر لابدَّ أن تكون موجودة لدى الصانع. لأن الصانع إذا افتقر إلى أي عنصر من العناصر الموجودة في الإنسان لن يستطيع أن يعطيه للإنسان وإن أراد. فالمفتقر إلى شيء كيف سيعطيه لغيره. وقد حكمت الحكمة "أن فاقد الشيء لا يعطيه".
5 ـ إن من البديهي أن نقرر بأن الصانع لا يمكن أن يماثل المصنوع، وكيف يماثله وهو صورة من صور إبداعه، وتجل من تجليات علمه. ولكن كل مصنوع لابدَّ أن يحمل صورة من علم صانعه. وإن تنوع الصناعات تدل على تنوع علم الصانع.
6 ـ إن كل صانع لابدَّ أن تكون له غاية مما يصنع. والغاية إما أن تكون نفسية أو جسدية أو عقلية أو روحية.
7 ـ إن كل صانع لكي يحقق الغاية مما يصنع لابدَّ له من السيطرة الدائمة على مصنوعاته بحيث لا تخرج عمَّا يريد دائماً وأبداً.
8 ـ إن المصنوعات الكثيرة في الوجود وتسخيرها لمصلحة الإنسان تدل بأن الصانع هو واحد أحد. وما يكتشفه العلماء عن طبيعة النظام الكوني الواحد، يدل بأن المنظم واحد أيضاً، فلو وجد أكثر من خالق فإن نظام العالم لن يكون مترابطاً ولن يكون واحداً.
9 ـ إن من صنع المصنوعات الظاهرة في الوجود لابدَّ أن يكون قد سبقها في الوجود. ولكن أين كان قبل أن يصنع ما صنع. هل كان في الوجود أم خارج الوجود؟ ولكن إذا قبلنا بأسبقية الصانع للمصنوع وجوداً. فكيف ستؤثر القدرة في صنع ما ليس له وجود أصلاً؟(1/29)
10 ـ بما أن الصانع قد سبق وجوده كل المحدثات في الوجود فلا يصح أن يكون له علم من غير ذاته. ولا يصح أن يتجدد له العلم أو يزداد أو ينقص وليس ثمَّة معلّم ولا عالم سواه، ولكن يصح أن نقول بأن علمه قديم وصنعه محدث في المحدث كما تدلنا الحوادث الكونية. فالمشيئة تتجدّد وتُجدد، والعلم قديم. فهو فعّال لما يريد بالإرادة وكما يريد بالعلم، والعلم مقرون بالأسباب والمسببات.
11 ـ إن كل ما ظهر في المحدثات من صفات وعناصر وما سيظهر لابدَّ أن يوجد في القديم.
ـ إن هذه البديهيات التي تدلنا على بعض صفات الصانع مما نشهده، والتي نستقيها من عقولنا ومعرفتنا بنفوسنا وخبرتنا بأحوالنا، بقياسنا الحاضر على الغائب، والمصنوع على الصانع، والمتكوّن على المكوّن، والمحدث على القديم، ستساعدنا في معرفة الحقيقة. ولكن بعض هذه البديهيات تحتاج إلى توضيح.
حوار العقل ومسلماته
لقد قلنا في البديهية الأولى "إن كل وجود محدث لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه" فالإنسان مثلاً كصانع لا يستطيع أن يصنع البيت والطائرة إلا من مواد الأرض السابقة على وجود البيت والطائرة. ولكن أليس كل وجود بالقياس إلى الوجود السابق عليه هو محدث وأين ينتهي تسلسل المحدثات في الوجود ليبدأ الوجود الأصيل أو الأصل. وأين كان الوجود الأصل؟.
إن أمامنا ثلاث فرضيات لا يوجد سواها للاستدلال على حقيقة الأصل إذا كنا نقصد بالأصل العناصر المادية في المحدثات أو المادة.
الاحتمال الأول: العدم سبق المادة ثمَّ انبثقت منه، فظهرت المادة ولم تكن موجودة قبل ذلك.
الاحتمال الثاني: إن المادة لم تكن، ثمَّ صنعها الصانع من لا شيء.
الاحتمال الثالث: إن المادة موجودة أزلاً ولا بداية لوجودها كما أنه لا نهاية لوجودها. فهي أزلية أبدية.(1/30)
الاحتمال الأول: غير ممكن لأن ما لا وجود له لا يمكن أن يوجد. فكيف إذا كان العدم موجده. وهل يستطيع العدم أن يوجد نفسه ليوجد غيره. فلو سبق العدم والخلاء الوجود لما كان ثمَّة وجود، وما لم يكن أزلاً لن يكون، ولن يتكون. إذاً المادة قديمة وأزلية، والخلاء موجود أو العدم خارج حدود الوجود. والعقل يدلّنا بداهة بأن الوجود لا يصبح عدماً، وإن كل خبرات العلماء لا تستطيع أن تحول ذرة واحدة من ذرات الوجود إلى عدم، كما أنهم لا يستطيعون إيجاد ذرة واحدة من عدم. فما هو موجود في الأزل سيبقى موجوداً في الأبد، وما هو عدم في الأزل سيظل عدماً في الأبد.(1/31)
الاحتمال الثاني: لا يصح لأن الإيجاد من العدم هو إيجاد مما لا وجود له فهل يصح الإيجاد مما لا وجود له؟. وهذا يحيلنا إلى حوار الفلاسفة الذين طرحوا السؤال هل الفكر سبق المادة أم المادة سبقت الفكر، أو أيهما سبق الآخر في الوجود البيضة أم الدجاجة. وظل الفلاسفة في أخذ ورد إلى وقتنا الحاضر بين المثاليين الذين بدا لهم أن الفكر أو الصانع هو الذي أوجد المادة، بينما ردّ الماديون بأن المادة سبقت الفكر وإن الفكر انبثق منها. فجعلوا المادة صانعة للعقل وصانعة للإنسان. وقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء. وإذا كانت البداهة تدلّنا بأن الفكر هو أثر من آثار المادة فهذا لا يعني السبق في الوجود. إذ المادة والفكر متلازمان ولا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر، ولكن كما نعرف من حالتنا الإنسانية، ومن مراقبتنا لعالم الكائنات الحيّة كلها، ندرك بأن العقل هو الذي يحكم المادة، ويتحكّم بها. فعقلنا هو الذي يحكم أجسامنا ويتحكّم في تصرفاتنا، وهذا العقل كان كامناً منذ اللحظة الأولى في خليتنا الأولى، بل قبل ذلك. كما هو شأن حواسنا والباقي من أعضائنا. كما إن لمادة الجسد برنامجها الخاص الذي لا دور للعقل في السيطرة عليه أو التأثير فيه، فنبضات القلب وعمل أعضاء الجسم أثناء اليقظة والنوم ليس للعقل أي دور فيه أو سلطة عليه. إن العقل يقوم بدور المرشد والمسيطر على تصرفات الجسد ويرد على رسائل الغرائز ولكنه لا يملك التأثير إلا نسبياً في برنامج عمل الأعضاء. وهكذا يتبين أن المادة والعقل يتعاونان منذ اللحظة الأولى في وجود كل كائن حي. وسوف نبين دور العقل والغرائز أو المادة الجسدية في كل مرحلة في فصل خاص بالموضوع. ولكن ما نعرفه هو، أن المادة لم تخلق العقل، بمعنى أنها سابقة له في الوجود، إذ لا يمكن مشاهدة البيضة خالية من روح الدجاجة، ولا البذرة خالية من برنامج الشجرة وروحها، إذ هما متلازمان. كما لا يمكن رؤية الكون منفصلاً عن عقل المكوِّن.(1/32)
إذ كيف ستنشأ علاقة بين مادة ميتة وخالق لا علاقة له في الأصل بهذه المادة. وكيف سيكون بالإمكان صنع ما لا وجود له من عدم. والعدم لا وجود، فهل يمكن إيجاد الوجود من العدم. ما الذي نتوصل إليه من هذا البحث. هل الصانع هو المادة؟ إننا نطرح هذا السؤال لكي لا يضيع الباحث عن الحقيقة وراء أوهام صنعتها الفلسفات، وأحياناً المعتقدات. فالموجودات أزلاً هي مادة وطاقة، مادة وعقل لا ينفصلان ولم يسبق أحدهما الآخر في الوجود، لأنهما عبارة عن وجهين لحقيقة واحدة، وهي حقيقة العالم. وإن حقيقة المادة الكلية في الوجود تقتضي بالمقابل وجود عقل كلّي كوني على موازاتها للتحكّم بها، وإيجاد ما نراه، وهذا لا يتناقض مع وجود الكائنات. فالإنسان له حواس ولكل ذرة في جسمه عقلها الخاص بها الذي ترسل من خلاله الرسائل إلى العقل عندما تتألم أو تشتكي أو يجوع الجسم أو تتأثر العين أو الأذن، ومع ذلك العقول الجزئية لا تحول دون وجود العقل الإنساني المستقل بوجوده، والمتعالي بحقيقته على الجسد بما يملكه من خبرة ومعرفة وتقدير لمصلحة الجسد، وإن كان العقل في جسد الإنسان ويسير معه حيث سار. إنها صفاتنا المتعددة التي نحملها في طيّات نوعنا الواحد الملقب بالإنسان. إنه التنوع في الحقيقة الواحدة. هذا التنوع قد يوهم بالتعدد، نتيجة للحيرة التي يثيرها إبداع العقل في الكون، مع أن حقيقة المادة والروح والعقل مترابطان. وبما أن المادة لا تزيد ولا تنقص نظرياً لأنها لا تفني ولا يستطيع العدم أن يضيف إليها شيئاً، فإن من الطبيعي أن يكون العقل الكوني غير قابل للزيادة والنقصان. وبما أنهما أزليان فسيكونان بحكم النتيجة أبديين، لا نهاية لهما. وهكذا نستطيع أن نستنتج بأن الاحتمال الثالث الذي توصلنا إليه هو الصحيح.
توضيح للبديهية الرابعة:(1/33)
لقد استنتجنا بأن الصانع لابدَّ أن يملك كل العناصر اللازمة لما يريد أن يصنعه، لأن فاقد الشيء لا يستطيع أن يعطيه. وبما أن الإنسان، وهو من أكمل إبداعات الصانع، يتميّز إضافة لامتلاكه للحواس بامتلاكه للعقل، فإن من صنع الإنسان لابدَّ أن يملك عقلاً أكبر من عقله وحواساً أعظم من حواسه لكي يصنعه. وإذا كان الماديون يقولون بأن المادة صنعت الإنسان، أو هو نتيجة من نتائج تفاعلاتها، وليس الله، فإنهم سيكونون بذلك قد جعلوا للمادة عقلاً وحواساً. والعاقل لا يصنع ما لا يريد. ولا يصنع بالصدفة، ولا يصنع دون غاية. وإذا كانوا قد جعلوا للمادة كل هذه الصفات وقبلوا بها، فإنهم يكونون قد جعلوا المادة إلهاً، والخلاف معهم قد انتهى، وإن بقي على المسمى الله، لا على مضمون الاسم. فليعبدوا عقل المادة، الذي ليس هو المادة كما يقررون، وكما نقول. وكما قال الغزالي لهم "الطبيعة ما معناها فلا تخلو أن تكون جماداً أو حياً. فإن كان جماداً كان القول فيه ـ الجماد لا يوصف بالفاعل ـ وإن كان حياً قلنا هذا الحي لا يخلو أن يكون له فاعل أو لا فاعل له. فإن قيل له فاعل آخر، فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث. وإن كانت الطبيعة حية لا فاعل لها ولا علّة، فهي الإله، فأسقطوا لفظة الطبيعة وقولوا إله فهو الذي نريد بيانه، فإن حوادث لا أولية لها محال إلا إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف، فلابد من استناد الحوادث إلى مبدأ لا علة له وليس بمعلول أصلاً"(1). ولكن لماذا إذا كانت الطاقة والمادة أزليتان وهما وجهان لحقيقة واحدة، فلماذا تمَّ في الأديان تقديس العقل الكوني بينما أهملت المادة؟ في الحقيقة إن المادة لم تهمل كلياً في الأديان، فالتوجه نحو الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب في الأديان هو اعتراف رمزي بمكانة المادة من حيث إنها أم تقوم بدور الكشف عن إبداع العقل الكوني الساري في كل ذرات الوجود.(1/34)
فالعقل الكوني ليس له مكان محدّد، كما إن العقل الإنساني ليس له مكان محدد. والعقل لا يمكن أن يظهر إلا من خلال تأثيره في المادة وإبداعه فيها. ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين سئل عن مكان الله [إن أهل السماء يطلبونه كما تطلبونه أنتم].
فالعقل هو أنوار المعرفة، طاقة فاعلة غير مرئية لعالم المثال الكامن في الذات والذي لا يظهر إلا في المادة حين تلبس الأفكار ثوب الطبيعة، وتظهر للحواس بأزيائها المتنوعة، وأشكالها المذهلة. فالمادة ثوب للفكرة لابدَّ منه، ولكن دون الفكرة ستظل مادة لا قيمة لها. وقد تكررت إشارات القرآن إلى خلق الإنسان من طين، وإلى ما يسميه العلماء الانفجار الكوني، وهي إشارات إلى أزلية المادة الكونية، وإبداع الخالق فيها، وبأن الإبداع الإلهي لم يكن في العدم، وإنما في المادة القابلة للتشكل وفقاً لإرادة العقل الحاكم عليها. لقد قال الله تعالى مبيناً وفي بيانه القول الفصل { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } (المؤمنون/12) وقال: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } (النحل/40). والشيء هو وجود كما قال الشيخ محيي الدين بن عربي، أي مادة تسمع الأمر وإلا لن يكون الأمر مفيداً أو مؤثراً. ولكن كيف تسمع هل بالأذن، فهذا ما يجب أن نتأمله كلما تعمقنا في فهم آيات القرآن؟. لقد بيّن الله أن عملية إبداع الإنسان اقتضت عدّة مراحل إلى حين خلقه. وإن هذا يقتضي منا أن نفهم بأن الأمر التكويني للمادة يتطلب وقتاً مع الأخذ بالأسباب لإنجاز كل إبداع إلهي. والأمر التكويني هو استخدام للأسباب بالطريقة الملائمة. فنحن مثلاً نكلّم المصباح الكهربائي حين نريد إشعاله أو إطفاءه بالضغط على القاطع المخصص لهذا الغرض. ونكلّم باب منزلنا ليفتح بالمفتاح. وهكذا تسمع كل الصناعات البشرية أمر الإنسان وتطيعه. وهذا مثال لما يقتضيه توسيع مفاهيمنا ونحن نقرأ القرآن لكي نفهمه.(1/35)
وفي إشارة إلى أزلية المادة وإبداع الله فيها بالأسباب قال: { أوَلم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } (الأنبياء/30). السموات والأرض، المادة، عناصر الخلق، كانتا في الأزل. ولكن الصانع هو العقل الكوني، الذي لابدَّ أن يكون مهيمناً على المادة الكونية حتّى لا يختل نظامها. وإن كل كائن حي يحتاج إلى عقل مواز لجسده للقيام بدوره في الحياة من البعوضة إلى الإنسان. وعندما يفقد هذا العقل القدرة على توجيه الجسد سيحدث الخلل والدمار للكائن. فكيف تسير آلاف المجرّات وملايين النجوم بنظام مذهل، ونحن نرفض أن نترك حركة سير السيارات لرغبة السائقين العقلاء لأن بعضهم قد يخالف القوانين ويسبب الحوادث. هذا يدلّنا بأن حركة الكون لا يمكن أن تكون عشوائية. وإذا نظرنا إلى أنفسنا وما فينا من القدرات سندرك بأننا لم نمنح ما منحنا من العقل والحواس من صانع لا يملك ما منحنا إياه. ولكن مشاهدة هذا العقل غير ممكنة كما قلنا، وما يشهد منه هو الآثار، الإبداع، المبدَعُ يدلُّ على المبدع، والصنعة تدلّ على الصانع. فبه عرفناه. ونحن الأقرب إليه، وإلا ما كان سخر لنا السموات والأرض، لأن الحكيم لا يسخر الأعلى للأدنى، وإنما يسخر الأدنى للأعلى، ولا يسخر الأقرب إليه للأبعد، بل الأبعد للأقرب، والإنسان هو الأعلى والأقرب، إلا من ابتعد وانحدر عن أصله بجهله وهوى نفسه.(1/36)
فنحن صورة صنعه الأكمل على الأرض، ومن أجلنا تتابعت الحوادث، وتم خلق السموات والأرض، فظهر نور الذات، وعالم المثال حين ظهر سر العقل المكنون مكتوباً على الطين. سأل أبو ذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - [هل رأيت ربك ـ قال: نور أنى أراه](مسلم ـ 178/ج3). فعرفناه بالآثار. قال الله { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } (لقمان/20). إن تسخير الكون للإنسان لابدَّ أن يكون لمكانة الإنسان العظيمة عند الله. وقد ورد في الحديث ما يؤكد هذه الحقيقة. قال: [لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وفي لفظ على صورة الرحمن](كنز العمال ـ 1148/ح1). فالإنسان هو الصورة الأكمل في الوجود والأقرب إلى الله من كل قريب ظاهراً وباطناً، بقابلية الإنسان لحمل الأسماء الإلهية، وتخلقه بها، ولهذا سماه خليفة، وأسجد له الملائكة، وهداه إلى طريق الشريعة، لكي يذوق طعم خلافة الله في الأرض، لا خلافة الأنصاب والأزلام والأموال. فحشد الله في الإنسان كنوز معرفته، وقال له إظهر باسمي لأن المخلوقات لا تطيق شهودي، ولا تعرفني إلا بالحواس، وأنت لن تعرفني إلا إذا نظرت إلي بقبضة نوري التي غرستها بيدي في جنّة قلبك، فابحث عنها حتّى تراني على حقيقتي، وتدرك بأنك عاجز عن رؤيتي. وحين ستصبح في حيرة من أمرك بما تشهد من كبريائي وعظمتي ستعرف سر قدرتي. وعندها ستعود إلي طالباً القرب في المكان، حتّى تجلس في مجلس ليس فيه قرب ولا بعد، إذ ستضيق بك السموات والأرض كما ضاقت بي، وسيسعك قلبي، كما وسعني قلب الإنسان العبد. وعندها لن تطلبني في السماء ولا في الأرض، لأنك ستعرف من أنت وستعرفني، فادخل إليّ من باب أسمائي، واشهد صفاتي، واعلم أن اسمك الأكمل هو مرآتي.
توضيح للمسلَّمة الخامسة:(1/37)
ـ قلنا إن المصنوع لا يمكن أن يماثل الصانع. ولو خلق الله من يماثله لصار إلهاً مثله، ولو وجد إله مثله سيحدث التنازع في الكون، كما يحدث في الممالك بين الأب والأبناء { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } (الأنبياء/22). { ما اتخذَ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهبَ كلُّ إله بما خلقَ ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } (المؤمنون/91). بمنطق العقل والحكمة ينفي الله ما قد يظنه بعض الناس، من وجود صاحبة أو ولد أو إله آخر أو مثيل لله، فهو الذي لا مثيل له والذي لا تحدّه الصفات ولا الأسماء وإن عرفنا بعض ما عرّفنا به، وكيف سنعرف الله حق المعرفة ونحن لا نكاد نعرف أنفسنا. لهذا قال الشيخ محيي الدين بن عربي في عبارة جامعة "لو علمته لم يكن هو، ولو جهلك لم تكن أنت"(2). فلا يعرف الله غير الله، ومثل هذه المعرفة لا سبيل إليها إلا على وجه التقريب لا الإحاطة. وكما قال أبو بكر الصديق "العجز عن درك الإدراك إدراك". فلنتوقف ولا نطلق العنان لعقولنا في المعروف الذي لا يعرف.
المسلَّمة السادسة:(1/38)
لماذا صنع الله الأكوان والإنسان؟ قلنا إن غاية كل صانع مما يصنع إما أن تكون نفسية أو جسدية أو عقلية أو روحية. أي لابدَّ من غاية فهل لله غاية من الخلق. الإنسان مثلاً يرسم للتعبير عن مشاعره، والعالم يصنع الطائرة لاستخدامها في النقل. والفيلسوف يكتب في الفكر ليقنع الآخرين، والشاعر يعبّر عن أحاسيسه ويكشف عن الجمال. فهل خلق الله ما خلق لمثل هذه الغايات؟. إننا أولاً يجب أن ننفي عن الله الحاجات والغايات التي تناسب فهمنا الإنساني، ولابدَّ لنا من الارتقاء إلى مستوى أعلى من الفهم والإدراك للإحساس بحقيقة المناسبة بين الله وخلقه، فالله غني عن العالمين، وعن طاعة الطائعين. فلماذا إذاً خلق ما خلق، وأمر البشر بعبادته، فهل هذه العبادة تحقق لله سعادة من نوع ما؟. إن لله كما ورد في القرآن أسماء عددها تسعة وتسعون اسماً ما عدا الاسم الله. وهذه الأسماء لو تأملناها هي صفات. وهذه الأسماء أو الصفات لا يوجد شيء في الوجود إلا ويدخل تحت حكم اسم منها. مثلاً لو قلنا ما هي الأسماء التي تدخل تحتها كلمة "وردة"؟. علينا أن نتأمل الوردة. وسوف نرى أنها تدخل تحت اسم البديع، والنافع، والضار، لأنه لا يوجد اسم إلا ويحمل النفع لمخلوقات والضرر لغيرها. ولكن من جهة رؤيتنا الإنسانية فإننا قد لانشهد في الوردة إلا اسماً واحداً "البديع" وقد نضيف "النافع" إذا كان فيها ما ينفع من دواء أو تجارة تعود علينا بالربح. ولهذا فإن الأسماء الحسنى هي صفات شاملة لكل ما في الوجود، وكل موجود تنطبق عليه بعض الأسماء ويجب أن يدخل تحت اسم أو أكثر من الأسماء. أما الإنسان فإنه مؤهّل من حيث الخلق لتجسيد جميع الأسماء الإلهية في سلوكه ومثل هذا الإنسان إن وصل إلى هذا المقام لا يكون في زمانه أحد مثله، فهو قطب زمانه وخليفة الله في الأرض. فالأسماء هي صفات لله، وهي إشارة إلى المكنون في الذات الإلهية، لأن كل صانع لا يصنع إلا ما يعلم ويريد.(1/39)
وقد صنع الله ما صنع لأن قدرة العقل لا يمكن أن تظهر إلا في الصنعة والإبداع، ولهذا لابدَّ لكل اسم من الظهور بما يناسبه من المخلوقات لظهور نور الألوهية في العالم. فالعالم قبل الخلق كان في ظلمة لتشابه معالم الكون. وليس فيه غير الألوهية "الذات الإلهية، الأسماء الحسنى" والمادة. ولكن المادة منطمسة ولا تمايز فيها، والألوهية التي لابدَّ أن تتحقق في المألوه غير ظاهرة، لأنه إذا كان لا يوجد غير الله لن يوجد العالم، ولا يوجد. ولكن الأسماء الإلهية تطلب الظهور لإظهار حقيقتها وللدلالة على عظمة مالكها، فكان لابدَّ من ظهور تجليات الأسماء. فتميزت الصور وامتد نور الذات وأحاط بالعالم، فأشرقت الأرض والسموات بنور ربها، الأسماء، وكان ما كان. فظهرت الذات الإلهية وأصبحت مشهودة بعد أن كانت خفية في الوجود. ولهذا قيل: "إن الذات تشهد ولا تعرف، أما الألوهية فإنها تعرف ولا تشهد" لأنها الكل المطلق. نحن نعرف عن الله بشهودنا للصفات العائدة للذات. ولكن إذا ظهر الله اختفى الوجود فلا وجود لسواه. ولهذا حين طلب موسى عليه السلام المشاهدة قائلاً: { قال ربّ أرني أَنظُرْ إليكَ قال لن تراني ولكن انظرْ إلى الجبل فإن استقرّ مكانَه فسوف تراني فلما تجلَّى ربُّهُ للجبل جعله دكَّا وخرَّ موسى صعقاً فلما أفاقَ قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أولُ المؤمنين } (الأعراف/143). إننا إذا أردنا أن نفسر مفهوم ظهور الأسماء بلغة إنسانية وبقدر من التبسيط لتوضيح المسألة سنقول، إن كل إنسان يحتوي عقله على كثير من الصفات ولكن بعض الصفات تلح عليه(1/40)
في الظهور وقد لا تعود عليه بالنفع وربما بالضرر، ومع ذلك فإنه يكشف عنها، وما يكشف عنه مثلاً هو صفة من صفات العقل وليس كل عقله. مثلاً بعض العلماء كشفوا عن علومهم التي تعارض المعتقدات القائمة في مجتمعهم وتعرضوا للقتل ولكنهم لم يتراجعوا. الفنان والمبدع لا يمكن أن يقبل بالتوقف عن إبداعه ولو قدمنا له مال العالم، بل إنه لو خير بين الفقر مع الإبداع، والثراء مع التوقف عن إبداعه لاختار الفقر مع الإبداع. والإبداع طاقة إنسانية تجعل المبدع في حالة تفكير شبه دائم. وهذه ميزة إنسانية مستمدة من أسماء الله الحسنى (العليم أو الخالق أو المصور أو البديع أو النور....) وهذه الصفات تضغط داخلياً على الإنسان حتّى يكشف عنها لا لغاية، إلا لإظهار ذاته العارفة وشهود العقل لما أبدع، فالشاعر حين تهزه العواطف يكتب قصيدته بدمه وعاطفته وحين ينتهي منها، يتنفس الصعداء ويجلس ليتأملها ويعيد قراءتها بعقله كله ليشهد ما أبدعته الذات التي استولت عليها العاطفة في لحظة معينة وغابت وغيبت العقل والروح في شفافية اللحظة الراهنة، فكتبت ما كتبت لتعبر عن أحوال النفس في لحظة الكتابة، ثمَّ يعود العقل لينظر ويحكم. جاء في الحديث الشريف [أول ما خلق الله القلم].
وجاء في الحديث [كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني](3).(1/41)
إذاً الظهور ضرورة معرفية اقتضتها حقيقة الألوهية التي لا يمكن أن تعرف إلا من خلال الأسماء بشهود صفاتها الخاصة. وبما أن الإبداع الإلهي لا يمكن أن يشهد ويعرف إلا من مخلوق له القدرة على الإحساس والإدراك لطبيعة الأسماء، جمع الله هذا السر في الإنسان، وهيأ له العلوم والرزق المناسب، فمهّد له الأرض. وسخر له الوجود وقال له { اقرأ } أي إعرف من أنت { واشكر لي ولوالديك } أي، إعرف عظمة خلقي بمعرفتك لنفسك حيث وضعت فيك أسراري وأسمائي، وأشكر لوالديك أمك وأبيك، وأرضك التي تغذيك وشمسك والأكوان التي تدور لتطعمك وتسقيك. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [تحفظوا من الأرض فإنها أمكم](كنز العمال ـ 43458/ج15). وقال [النخلة عمتكم]. والعمة هي أخت الأب التي تحنو على أولاد أخيها بإطعامهم إذا جاعوا، وهي إشارة إلى دور الطبيعة وقرابتها منا، حيث ظهرت فيها الأسماء الإلهية طائعة لأمر { كن } . وبظهور تجليات الأسماء الإلهية في الطبيعة ظهرت أنوار الألوهية، وغطت الصفات العالم، وبان الكنز المكنون الذي تعلق وجودنا به، فصرنا منه وإليه بما شهدناه منه، وهو العالم بذاته الذي لا يعرف إلا بحدود ما نعرفه عنه، فعلم كل إنسان بالله على قدر معرفته لا على قدر خالقه. وهل يُعرف المبدع بشهودنا لإبداعه؟ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وعمّا نصف. وهو العظيم الذي لا يدرك إلا بالعجز عن معرفته، ولا يعرف إلا بالحيرة، الذي تدور في إدراك أسرار خلقه العلماء، وتبكي من فرط جمال خلقه الشعراء، ويحنو بإمداد اسمه الرحيم كل والد على ولده، ومن اسمه العليم عرف كل مخلوق زاده، وسار إلى مراده، وهو المقدس عن الجهات والغايات، إذا كانت الغايات تعني الحاجة إلى خلقه. ولكن لابدَّ من طرح السؤال الذي يلح على كثير من الناس، لماذا أنزل الله الشرائع وأمر الناس بعبادته وحرم عبادة أي معبود سواه.(1/42)
فهل العبادة هي حاجة نفسية اقتضاها واقع الحال ومقام العبودية، وطبيعة العلاقة بين عبد ورب، أم ماذا؟
حقيقة العبادة والعبودية:
لا يمكن إدراك حقيقة العبادة، وفهم مغزاها، والتحقق بمعناها، بالقراءة عنها. ومع ذلك سنحاول أن نبيِّن حقيقتها وأبعادها كما عرفها الشرع لنا. فالإنسان في الحقيقة سيدرك، إذا التزم طريق الشريعة ظاهراً وباطناً، بأنه إنما يعبد نفسه، بمعنى أن عبادته لنفسه، فهو المستفيد من هذه العبادة دنيا وآخره، وليس لله في عبادة العابدين أي مكسب أو فائدة. وإنما أمر بها الله كما يأمر الطبيب بدواء معين للقضاء على المرض أو مقاومته. وقد كان من الطبيعي أن تكون العبادات في الشريعة الإسلامية أكمل العبادات المفيدة للإنسان من كل ما جاء في الشرائع التي سبقتها. والبرهان على هذه الحقيقة يمكن التحقق منه بمقارنة الشريعة الإسلامية مع ما ورد في كل الشرائع السابقة واللاحقة، والقوانين الحديثة وما أدت إليه. وهذا سيظهر بسهولة للمنصف الذي لا يمنعه التعصب عن رؤية الحقيقة. إذ إن مقام الرسالة لكل رسول هو مقام معرفي، وقد تميّز الرسل عن بعضهم بمستويات المعرفة، وكان من الطبيعي لكي تكون الرسالة كاملة أن تحتوي على كل الرسالات السماوية السابقة وأن لا تتناقض معها، وأن تضيف إليها ما يلزم لاكتمالها وكمالها. والاكتمال إنما يتقوّم بمساعدة الإنسان على الوصول إلى الخلافة بأسهل الطرق وأقلها إجهاداً. ولا يستطيع أن يعرف الطريق الأكمل إلا الرسول الكامل، لأن كل رسالة لابدَّ أن تكون على مستوى حاملها معرفياً. والرسول الكامل لابدَّ أن يكون قد جمع علوم كل الرسل في ذاته وزاد عنهم في أمور لم ترد في شرائعهم. ولا يمكن لإنسان أن يأتي بعده بمعرفة تشريعية أو روحية تفوق معرفته، كما لم يأت قبله من هو مثله. ومن هذا المقام قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [أنا سيد النبيين ولا فخر](كنز العمال ـ 32040/ج11).(1/43)
وقال [أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر](كنز العمال ـ 31878/ج11). وهذا الكلام ليس للادعاء، ولكنه الحقيقة والمقام، والفخر لله صاحب العطاء. وكمثال على علوم الرسل، وإن كنا لا نفرق بينهم لأن الفضل لله، فإننا نعرف بأن مخترع شموع الإنارة والسراج كان مثل أديسون في عصرنا من حيث الأهمية والمكانة، ولكن الذي اخترع مصباح الكاز كان متقدماً على مكتشف السراج والشموع. ولهذا ألغى مصباح الكاز أساليب الإنارة القديمة، ولكنه لم يمنعها. ولكن الناس اختاروا هذا الأسلوب بالقياس إلى فوائده لهم. ولكن المصباح ما كان بالإمكان الإقدام على صنعه قبل اكتشاف النفط ومعرفة طرق تكريره واستخلاص الكاز منه. وحين جاء عصر الكهرباء نسخت وسائل الإنارة الحديثة كل وسائل الإنارة القديمة، وإن كان بعض الناس ما زالوا يستخدمون الشموع في المناسبات. وهكذا ينسخ العلم الأرقى، والأكثر نفعاً للناس، العلوم السابقة ويستوعبها من حيث الأهداف لا الوسائل. فكل مخترعات الإنارة سعت إلى تسهيل حياة الناس بأساليب مناسبة لكل عصر، وكان كل عالم في عصره لا يقل شأناً عن أديسون، وعلينا أن نكن له الاحترام بحق. وما نقوله عن الإنارة نقوله عن الاتصالات. فالهاتف نسخ الحمام الزاجل، واللاسلكي سيلغي الهاتف. وهكذا ستلغي الشريعة الإسلامية كل الشرائع عندما تنضج لغة الحوار بين الناس إلى الحد الذي تختفي فيه أساليب القهر والضغط والجهل، وعندما تتاح الفرصة أمام العلماء للحكم. ولهذا فإن فرصة السلام بين البشر ستكون هي الفرصة الأفضل لاختيار ما ينفع الناس في الأرض بدلاً من صراع الأجناس والأعراق والمذاهب والمعتقدات.(1/44)
إن الحروب تدفع للتعصب والتدمير وقتل الإنسان وتدمير منجزاته، بينما السلام سيتيح لنا معرفة الآخر والحوار معه والاستفادة من خبرته فيما يعلم، والاستفادة من خبرتنا فيما نعلم. وهكذا ينفتح الطريق ليسود العلم، وتنجح الكلمة التي صار بها الإنسان إنساناً، والرسول رسولا { اقرأ } أول كلمات الوحي القرآني. و[في البدء كان الكلمة. والكلمة كان لدى الله. وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسداً... هذا هو الذي قلت عنه، إن الذي يأتي بعدي، قد تقدم علي لأنه كان قبلي](يوحنا-1/1-15). في الإسلام هناك مقامات. وكل مقام أعلى ينسخ المقام الأدنى، الإسلام ينسخ الشرك والضلال، والإيمان ينسخ الإسلام، والإحسان ينسخ الإيمان. لا يمكن أن تسأل حامل شهادة الدكتوراه عن الشهادة الثانوية. والمريض لا يسأل عن جنس من سيعطيه الدواء الشافي طالما أنه يريد الشفاء. ولهذا لكي نميز بين الشرائع لابدَّ لنا من فهم الحكمة من الشرائع، وعندما نتأكد من الدواء الأفضل لحياتنا على أساس أن الشرائع كلها هدفت لمعالجة مشاكل الإنسان سيختار الناس الشريعة الأفضل لحياتهم "فالحكمة ضالة المؤمن" وغاية كل عاقل. وعلى أهل المعرفة والخبرة أن يساعدوا الناس في توضيح ما يجهلون، وأن يكونوا قدوة في تطبيق ما يعتقدون بأنه الصحيح، وإلا كيف سيصدق الناس من يفعل غير ما يقول، من يدعو إلى الصدق ويكذب. فهل عرف مثل هذا الإنسان حقيقة الشريعة وفهم حقيقة الشرائع ومعنى نسخ كل شريعة لما قبلها، واعتراف الإسلام لأتباعها بحرية العبادة على طريقتهم، حتّى يتبين لهم الحق. إننا لا يمكن أن نصل إلى الحقيقة بالمجادلات اللفظية التي لا تكشف عن جوهر كل شريعة، وبأنها من أجل الإنسان، وبمجرد القول إنها دواء لنا نحن البشر. علينا أن نبين أين الدواء؟ إن كل شريعة أرادت أن تنير درب الإنسان ولكن بعض الناس شوهوها بالنقل والشرح غير الصحيح لمعناها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(1/45)
والناس معذورون إلى حد ما، لأن كل معلم لا يستطيع أن يُعلّم إلا ما يعلم، وليس ما عليه أن يعلم. جميع الشرائع أرادت أن تأخذ بيد الناس إلى عالم الروح، ولكنها نظراً لعجز بعضهم عن السير قبلت منهم الإسلام والإيمان، ولكن الهدف ظل عميقاً، وهو اكتشاف عالم الروح، الخروج من طغيان عالم النفس بالإسلام، فإذا كنت لا تعرف اتبع طريق من يعرف، وآمن ما دمت لا تريد أن تنتقل إلى الحالة الأعلى بتذوق أسرار العقل الباطن، فاتبع من هو أكثر معرفة منك وانتفع بعلمه كما تقتضي الحكمة العقلية، ولا تتحدث بما ليس لك به علم، وسوف يُقبل منك أن تكون من أهل الإيمان. ولكن ستظل الغاية هي دفع الناس إلى مقام الروح، الإحسان. هذا ما أراده الله من الإنسان لكي يعرف الحقيقة.(1/46)
إن الدول المتحضرة اليوم تفرض على شعوبها حداً أدنى من العلم والرياضة لكي يكونوا مؤهلين لاختيار مستقبلهم ومصيرهم، أو على الأقل لكي يتمكنوا من التلاؤم والتكيف مع مجتمعهم. والجاهل يتمرّد ويشعر بأن الدولة تتدخل في شؤونه الخاصة. والجاهل يسعى لتهريب أولاده من المدرسة، وهو يدمّرهم، بينما يظن بأنه إنما يريد مصلحتهم ونفعهم. والمؤمن يغار على أخيه الإنسان، والرسل أشد غيرة على الإنسانية، لإخراجها من ظلمات النفس، وخداع العقل إلى نور الروح. ما هي فائدة الله أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - من النوم على جنبنا الأيمن، ومن السواك، كما ورد في السنن. الآن فهم الأطباء السبب قبل غيرهم، والآن يكتشف العلماء حكمة كل شريعة قبل غيرهم، فيقبلون النور ولا يرفضونه، لأنهم أقدر على معرفة الدواء لأنفسهم وشعوبهم. فالشريعة كلما تعمقنا في البحث عن حقيقتها سنتأكد بأنها من أجل الإنسان، وبأن عبادة الإنسان وإن كانت عن طاعة لربه، فإنها في جوهرها كطاعة المريض للطبيب، فعبادة كل عابد لنفسه. منها ما هو لصحة الجسم، ولا يصح في الإسلام إرهاق الجسم، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [لا رهبانية في الإسلام] وقال محذراً من كل عبادة ترهق الأبدان لأنها عماد حياتنا، وحاملة أرواحنا. فقال لمن علم أنه يبالغ في عبادته [يا عبد الله، ألم أُخبرَ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟. فلا تفعل، فإنك إذا فعلت ذلك هجَمتْ عينك (أي غارت)، ونفِهتْ نفسك (أي أعيت). فصم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشرة أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كلّه. قال: فإني أجدُ قوةً. قال: فصم صيام نبيّ الله داود ولا تزد عليه نصف الدهر](كنز العمال-5324/ج11).(1/47)
نعم الهدف من العبادة أنت الإنسان [لا تشددوا على أنفسكم فيُشدد عليكم، فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدَّدَ عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)](كنز العمال-5346/ج11). العبادة هي رياضة جسدية وروحية لفائدة الجسم والعقل، فإذا خرجت عن هذا الحد، وصارت ضرراً للجسم، أو معيقة له عن العمل، فإن القائم بها لم يفقه الهدف من العبادة، وكل دين في جوهره معرفة لمصلحة الإنسان، إذ ـ ماذا يفعل الله بعذابكم؟ـ فلا تبالغوا [خير دينكم أيسره، وخير العبادة الفقه](كنز العمال-5353/ج11). { اقرأ } لتعرف ما ينفعك ويضرك. فالعبادة منها ما هو لسلامة الجسم وليس لتدميره. لأن الجسم هو القطار الذي سنقطع بواسطته مراحل العمر ومحطاته. ومنها ما هو لسلامة العقل والمجتمع، ومنها ما هو للكشف عن حقيقة الروح للسائرين على خطى الرسل ومنهاجهم. وفي هذا المقام، أي مقام الروح ستنكشف لنا حقيقتنا الإنسانية، ودورنا في الوجود، وعند ذلك سنعرف الله، ومن نحن، ودورنا في هذا الوجود. ولابد لتحقيق هذا الهدف من سلامة الجسم والعقل.
المسلَّمة السابعة:(1/48)
قلنا إن الصانع لكي يحقق الغاية مما يصنع لابدَّ له من السيطرة على مصنوعاته بحيث لا تخرج عمّا يريد دائماً وأبداً. وهذا يقودنا إلى مواجهة مشكلة القضاء والقدر. فإذا كان كل شيء، وكل عمل، قد تقرر مسبقاً فما هي الفائدة من العمل، وما معنى الثواب والعقاب؟ وإذا كان الإنسان المحكوم بالثواب والعقاب لا يستطيع أن يخرج عن إرادة الله، فأي فضل له فيما عمل من خير، وأي ذنب له فيما قدم من شرور؟. لو تأملنا مثل هذه الأسئلة ووضعناها في ميزان العدل، فإننا سنحكم على السيد الذي يأمر عبده بتنفيذ عمل ثمَّ يعاقبه عليه بالظلم. بل إن المسألة ستبدو مضحكة إذا حكم الإنسان على الإنسان الآلي المبرمج بالنار أو السجن وحكم لغيره بالتكريم، بل أن عقد مثل هذه المحكمة للحكم على إنسان آلي سيبدو سخيفاً ومضحكاً. فإذا كان الإنسان يتحسس مسألة العدالة ويدركها، فهل نال مثل هذا الإدراك إلا من صانعه. فكيف سننسب إلى الله مثل هذا السلوك والإنسان يأباه؟. وهل الإنسان آلة؟. لقد بيّن الله أنه وهب لآدم كل العلوم، وهذا يشمل ذريته، فالابن سر أبيه، وبيَّن له عن طريق الرسل طريق الخير والشر { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } (الإنسان/3). ومن هنا صدر الحكم عليه. وبالأحرى هو الذي أصدر الحكم على نفسه بما قدمت يداه. ولكن هل يستطيع الشرير أن يفعل ما يشاء؟. هنا سنواجه الدوائر المحددة التي تنتهي عندها حرية كل إنسان وتفشل عندما يواجه قدرة الله. لقد ترك الله بمشيئته الحرية للإنسان في دائرته الخاصة ليحكم بها عليه بما حكم هو على نفسه، حيث سيكون حصاده من نوع ما زرع. ولكن هذه الدائرة الخاصة لها حدود لا يستطيع أي إنسان أن يتجاوزها وإن رغب في ذلك، وسوف يبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار بعلم الله، عندما يرتقي المسلمون وترتقي البشرية إلى مستوى اختيار العلم قاعدة للحكم، للإبقاء على ما ينفع الناس في الأرض وترك ما يضرهم.(1/49)
وهذه أمثلة بيّنها الله لتوضيح الدوائر التي يستطيع كل إنسان أن يتحرك فيها، والتي سينال جزاءه بالقياس إلى أعماله فيها. فهي حرية محدودة، وسوف تضيق كلما استخدمت للشر، لكي لا يفرح الأشرار بحلم الله عليهم. وقد قال عبد الكريم الجيلاني من هذا الباب "فالخير بإرادته وقدرته ورضاه وقضاه، والشر بإرادته وقدرته وقضائه لا برضاه"(الإنسان الكامل –3). فما عمل الإنسان من عمل إلا بما وهبه الله من القدرة. ولكن الله ما أعطانا القدرة لارتكاب الشر، ولكن بما قضى للامتحان والحكم ترك حرية التصرف للإنسان. وقال { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده(1/50)
الكفر } (الزّمر/7). وقال محذراً من يظنون أنه لا ذنب لهم فيما يقترفون من الشرور { أفنجعل المسلين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون } (القلم/35 –36). جاء في الحديث الشريف [يقول الله تعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وتوفيقي وعوني وعافيتي أديت إلي فرائضي، فأنا أولى بإحسانك منك، وأنت أولى بذنبك مني. فالخير مني إليك بدا، والشر مني إليك بما جنيت جرى، ورضيت منك لنفسي ما رضيت لنفسك مني](كنز العمال-43615/ج15). إن شريعة العدل التي تعرفها الإنسانية والتي لا تقبل المساواة بين الظالم والمظلوم هي من بعض علم الله المبثوث في آدم وذريته، فعلومنا كلها من الصانع، وبعلمه عرفنا الخير والشر. وبقدرته أعطانا القدرة على العمل بما نريد، أي الحرية، ولكن هذه الحرية كما بيَّنا محدودة، بحيث لا تتعارض مع مشيئة الله. فالصانع له المشيئة المطلقة والإنسان له مشيئة محدودة، وفي حدود هذه المشيئة سيتمايز الناس بأعمالهم، وسيكون الحكم عليهم مبرراً، حيث سيحكم عليهم بحسب النوايا والأعمال، وبحسب سجلاتهم المدوّنة حيث سينطق كل شيء في الإنسان ليشهد له أو عليه. لقد اخترع الإنسان اليوم آلات التسجيل والتصوير والتجسس التي يستطيع أن يدوّن في قطعة منها بحجم ورقة كتاب صغير آلاف المعلومات. وإن العاقل يدرك بالبديهة أن من صنعه أعلم منه، وأن كل علومه وعلوم البشر والمخلوقات كلها ما هي إلا من صنع صانع واحد. فإذا كان الإنسان قد توصل إلى هذا المستوى من التوثيق والتدوين والاختصار، أليس من باب أولى أن تكون قدرة الصانع أكبر، ونحن نشاهد كيف سبقنا الصانع إلى مثل هذا الاختصار، بوضع سر الشجرة في بذرة، وسر تكوين الإنسان في خلية لا ترى إلا بالمجهر.(1/51)
وربما إننا لو تأملنا أحوالنا فإننا سندرك بالبديهة محدودية الحرية المتاحة لنا في كون عظيم بهذا الاتساع، ولكننا ندرك أيضاً بأننا أحرار إلى درجة لا يملكها أي مخلوق آخر. وعلينا أن نبحث عن سبب هذه المنحة "الحرية" من الخالق العظيم.
المسلَّمة التاسعة:
إن منطق العقل يقودنا إلى التسليم بأن من صنع المصنوعات في الوجود لابدَّ أن يكون قد سبقها في الوجود. ولكن هل كان في الوجود أم خارج الوجود وأين؟. فهذا سؤال ناقشناه وأجبنا عليه في المسلَّمة الرابعة. فالصانع لابدَّ أن يكون في العالم، بل على علاقة مع العالم. وما نقصده بالعالم هو الوجود المادي للعالم الذي نعبر عنه بالوجود. أما خارج العالم فلا يوجد إلا العدم.(1/52)
ولهذا من المسلم به أن الصانع سيكون في الوجود وليس خارجه، أي في العالم. أما سؤالنا أين كان إذا كنا نقصد التحديد، الجهة أو المكان. فقد بينا بأن ما ندركه عن صفات العقل ومكان وجوده في جسم الإنسان لا يدل بأنه كتلة مادية في جسم الإنسان، فالعقل هو طاقة معرفية نورانية ندرك بواسطتها المعرفة ولا ندركه بالمعرفة، فهو هالة محيطة بالجسم ومتصلة بأعماق الكون. فنحن نرنو بنور العقل إلى معرفة الأكوان ومعرفة الله، ولا نعرف شيئاً عن ماهية العقل، إننا نكتشف بواسطته القمر، ونرسل المركبات إلى المريخ، ولا نعرف عن تركيب عقولنا شيئاً. صحيح أننا نستطيع أن نؤثر عليه أو نعطله بالتأثير على الدماغ أو الحواس. فهو لا يبصر الألوان إذا تعطلت العين عن المشاهدة، ولكنه ليس العين ولا الحواس ولا الدماغ وليس له مكان محدد في أجسامنا، ولن يستطيع أي عالم تشريح رغم معرفتنا بمكونات جسم الإنسان أن يقول لنا، إن العقل هو هذا العضو بالذات. قد يكون الدماغ هو مركز اتصالات وقد يكون مستودع المعرفة الإنسانية على اعتبار أن المعرفة الإنسانية هي "تَذكّر" كما قال أفلاطون، ولذلك فإنه ينسى كل شيء إذا أصيب الدماغ. إلا أن العقل كما يبدو، هو طاقة هائلة قادرة على الاتصال بكل أجزاء الكون. والمؤكد أنه ليس له مكان محدد في الجسم. وإذا قسنا الصانع على المصنوع، لأن المعلوم يدل على المجهول، فإننا سنستنتج بأن الصانع ليس له مكان، ولن يكون له مكان. ولو كان له مكان لكان جسماً في الكون، أو ملكاً كالملوك الذين يجلسون في قصورهم، وبذلك سيغيب عن الصانع ما يغيب عن الملوك من الأخبار في ممالكهم التي قد يصيبها الفساد، والتي قد تتمرّد عليهم، وإن الجسم كما هو معروف يحتاج إلى الراحة. وهذا يتنافى مع قدرة الصانع المطلق كما نراها، ومع طبيعة العقل الكوني المطلق المتصل بكونه والمحيط به، كما يحيط عقل الإنسان بجسمه ويتصرف به.(1/53)
وإن مفهوم الإسلام عن الله يتوافق مع الفهم العقلي. بل إنه يشير إلى هذه الحقائق بلغة أكثر رقياً ودقة وعمقاً. لقد سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - [أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟. فقال: كان في عماء تحته هواء وفوقه هواء ثمَّ خلق عرشه على الماء]. العماء. بالفتح والمد: السحاب. قال أبو عبيد: لا يدري كيف كان ذلك العماء. وفي رواية "كان في عما" بالقصر، ومعناه ليس معه شيء"(كنز العمال-2951/ج10) والروايتان تعبران عن الحقيقة. فالله كان وليس معه شيء. وعندما أراد أن يخلق الخلق، وتنفس الوجود بالهواء كناية عن سريان روح الحياة فيه ولا يتنفس إلا حي، أرسل الماء إلى كل ما أراد خلقه. فالعرش هو كناية رمزية عن مركز الملك الذي سيجلس عليه عند ظهور المملكة واعداده لها. والعرش بما أنه مركز الملك لابدَّ له من مملوك حتّى تظهر المملكة، وبالنسبة إلى الله من رب وعبد. فكان "السحاب" وهو "العماء" المرحلة التي تسبق هطول المطر. والماء كما نعرف هو سبب لظهور المخلوقات، واكتساء البذور بأثوابها التي ستظهر بها، من نبات وحيوان وإنسان، لهذا كان العرش على الماء، أي كان الماء سبباً لظهور الأحياء، فظهر الخالق بالمخلوق بعد أن كان باطناً لا يعرف. وهذا ما عبّر عنه حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء فيه [كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني](ختم الأولياء-290). وهكذا يتبيّن لنا أن الله كان وما زال في العالم ومع العالم، وسؤال الأينية هو سؤال عن المكان، والمكان تحتاج إليه المواد، والله ليس من مواد الطبيعة وإن كان فيها. فهو الروح المطلق المحيط بالكون والمتصرف به، والذي لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون.(1/54)
وأما عن كيفية تأثير القدرة فيما ليس له وجود أصلاً. فإن التأثير ليس في العدم، وإنما في الوجود، في الطبيعة الحية أزلاً بقابليتها للتفاعل، وبعلم الله بقابليتها توجهت القدرة على الطبيعة وخلقت فيها ما أرادت وما زالت تخلق، وستظل تخلق. فالأسماء الإلهية كما بيَّنا ستظل تكشف عن إبداعها في الوجود للدلالة على المبدع إلى ما شاء الله، حيث ستأتي النهاية بطي الله للسموات والأرض، والعودة إلى الخلق من جديد لبدء مرحلة جديدة. وهذا ما يشير إليه بعض العلماء اليوم عن توقع عودة المجرات إلى التصادم والكون إلى الانكماش بعد التمدد الهائل الذي يحدث الآن. وقد قال الله: { يوم نطوي السماء كطيِّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيدُهُ وعداً علينا إنا كنا فاعلين. ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون } (الأنبياء/103-
104). إنه الوعد القادم، الذي سيصدر فيه الحكم على الخلق. ومن الطبيعي أن يدرك العاقل أن من صنع شيئاً فإنه قادر على إعادة صنعه من جديد. فلا غرابة في عودتنا للحياة والحساب في عالم جديد لم نعرفه، بل إن حكم العقل، وطلب الإنسان للعدل والإنصاف في دنيا لم ينل فيها هذا الإنصاف يتطلب هذه المحكمة العادلة التي وعد الله بها الأخيار والأشرار.
المسلَّمة العاشرة:(1/55)
لقد بيَّنا أن القدرة مستمدة من العلم بالأسباب والمسببات. وإن طاقة العقل الكونية العالمة بالكون عالمة بالتكوين، وإن كل صفة تظهر في المصنوعات لابدَّ من وجودها في الصانع، فالأسماء فروع أو أجزاء من الأصل، وكل صنعة تدل على صفات صانعها، فالجميل فرع من الجمال، والجليل صورة من الجلال، والأصول لا تُدركُ وإن أدركنا معانيها في صور الوجود المادية. لهذا فإن كل ما فاض من صفات الذات لا يعبر عن الذات، فالذات تشهد من خلال الأسماء، كما نحكم على ذوق الفنان من فنه، ولكن الذات تشهد ولا تعرف. بينما تعرف الألوهية بدلالة الخلق ولا تشهد أبداً. ولهذا إذا تجلى الله لشيء صُعق وفني، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. ولكن هذا يعود لشهود الشاهد وليس للمشهود، فمن يشهد الألوهية ببصيرته يفنى عن نفسه وعن شهوده ويغيب في مشهوده. وقد ضرب لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلاً على هذه الحالة فقال: [لما أسري بي كنت أنا في شجرة وجبريل في شجرة فغشينا من أمر الله ما غشينا فخر جبريل مغشياً عليه وثبتُ على أمري فعرفت فضل إيمان جبريل على إيماني](كنز العمال- 31854/ج11). لماذا خر جبريل مغشياً عليه وثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمره، مع أن التجلي واحد. ولماذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [فعرفت فضل إيمان جبريل على إيماني] ذلك لأن جبريل علم بالمتجلي من وراء التجلي الإلهي فذاب وغاب عن الإدراك، فعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعرفة التي سبقه جبريل عليه السلام بها. وهذا يشبه في أحوالنا الإنسانية زيارة عالم عظيم لمكان عام بشكل مفاجئ، إذ في هذه الحالة سيقوم من يعرفه احتراماً له، بينما سيحافظ من لا يعرفونه على أحوالهم، مع أن المشهود للفريقين هو نفس الإنسان. ولكن تصرف كل فريق وإحساسه جاء من علمه بالمشهود، فالعبرة بالعلم. والمشهود بالنسبة للإنسان يُقدّر ويقيّم على قدر علمه به.(1/56)
ولهذا حذر الشيخ محيي الدين بن عربي من الحكم على الأشياء دون معرفة صحيحة، لأن علمنا بها في تلك الحالة سيكون على قدرِنا وليس على قَدْرها. لأن "العلم تابع للمعلوم ما هو المعلوم تابع للعلم"(4). أي أن العلم الصحيح هو الحكم على الشيء بما فيه. ولهذا فإن علمنا بالأشياء ينبع منها، والعلماء الحقيقيون هم شهود حق على الأشياء لا شهود ظن. ومن علمهم بعناصر الأشياء ونظام عملها تتوفر لهم إرادة التأثير فيها والقدرة على صنع ما يشبهها. فالقدرة لا تنفذ إلا بعلم التركيب لعناصر المادة، ومعرفة قابليات الطبيعة، فَعِلْمُ الله وإن كانت لا تحكم عليه الأسباب عندما يشاء متوافق مع القوانين الكونية، والمشيئة الإلهية لا تناقض قابليات الطبيعة. ولهذا السبب قال الله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } (الأنبياء/30) فهو لعلمه بخواص الماء جعله سبباً لحياة المخلوقات، كما نجعل الكهرباء سبباً لإضاءة المدن. فهو جعلُ الأسباب بمثابة قوانين كونية بعلمه في قابليات الطبيعة وعناصرها. فقدرة كل قادر تعود لعلمه فيما يريد التأثير عليه ـ فالعلم تابع للمعلوم ـ والتأثير تابع لعلم الأسباب فيما يراد إحداثه. ولهذه القوانين الموضوعة في الكون بوضع إلهي، خلق الله الإنسان من سلالة من طين، ومن ماء مهين، وأخبرنا بأن علمه فينا عائد إلينا، أي على أعمالنا، فحكمَ علينا بنا، وإن كان يعلم بنا قبل خلقنا { إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون } (الحجرات/49). والدليل على علمه المسبق بالحوادث الكونية إشارات الرسل إلى بعض الحوادث التي وقعت وإخبار بعض المؤمنين بحوادث وقعت أو ستقع. فعلم الله مستمد من علمه بتركيب العناصر ومآلها وسيرها ومنتهاها وما سينجم عنها، فحكم عليها من تركيبها. فهو علم بالأشياء من الأشياء، كما يحكم العالم بالذرة عليها، ويؤثر فيها إذا شاء بالتأثير المناسب.(1/57)
وبهذا العلم صدر حكمه على الإنسان فقال: { ولنبلوكم حتّى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين } (ق/16) وأمثال هذه الآيات التي تدلّ على أن حكمه علينا منا، مع أنه يعلم بنا قبل خلقنا. فالعلم بالطبيعة أعطى القدرة للاسم القادر، والإرادة والحكمة رتبت الحوادث. وعندما حدثت الحوادث ظهر الاسم المميت. لأن ما ليس له وجود في القدم سيحكم عليه العدم. ولهذا "سيذبح الموت مثل كبش أملح" كما أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجنة عند زوال الحوادث وانتقال الإنسان من برزخ التركيب إلى برزخ الروح. لأن الاسم الحي باق لا يفنى، ولأن كل ما في الوجود حي. ولهذا فإن عالم التركيب يترصده الاسم المميت دائماً فيفني الصور المركبة من عناصر المادة، فينحل التركيب، ويتلقاه الاسم الحي فيحييها لأن المادة لا تفنى. فتنشأ العناصر نشأة جديدة في حادث جديد. وهكذا تتوالى الحوادث وهي تنتقل بين الاسم المحيي والمميت بما فيها من الفناء والبقاء حيث يتسلط الاسم المميت على الصورة، فيقضي عليها، فيتلقى الاسم المحيي مادتها ويعود إلى تكوينها بقدرة القادر وحكمته، ولا تزال الحوادث دائرة والصور ظاهرة حتى يخرج العالم من دائرة التركيب والامتزاج إلى دائرة التخليص والصفاء فيبقى الحي ويموت الموت، ويُبعث الإنسان في هذه النشأة نشأة أخرى، فتبارك الله أحسن الخالقين. ولكن هل تَنتُج القدرة عن العلم فقط؟.(1/58)
إن الإبداع لا يمكن أن ينتج إلا عن العلم والإرادة. ولكن القدرة قد تنتج عن غير العالم. فما تؤثر فيه المادة بطبيعتها، هو قدرة موجودة فيها لا تخضع لأي غايات، وليس لها أي تعلق بالعلم في العالم، فالجاذبية تجذب دون علم لها بما تجذب وبما ينجذب إليها، فهي إذا نظرنا إليها مجرّدة مفصولة عن ترتيب الحكيم الخبير، سنجد بأن لها قدرة على التأثير، ولو أن كل عنصر في الطبيعة تركت له حرية التصرف فإن الفوضى ستسود الكون. ولهذا فإن العاقل يؤمن بوجود المنظم بإدراكه للنظام الكوني. فلولا القادر والعليم لما ظهر النظام في العالم ولما ظهر الإنسان العاقل. لهذا ضلّ الماديون عندما حكموا على المظاهر المادية وظنوا أنها بقدراتها الذاتية تستطيع أن تخلق ذاتياً النظام. ولم يدركوا أن القدرة دون حكمة لا تؤدي إلى الإبداع والنظام. فاكتشاف الكهرباء في المادة لا يؤدي إلى استخدامها، ولا يمكن للمادة أن تقوم بالصدفة بتمديد الكهرباء للمدن وإنارتها، إذ لابدَّ من وجود العاقل الذي يملك العلم بالكهرباء للاستفادة منها واستثمارها بالطريقة الأفضل. وهل يمكن أن نتصور نظاماً بلا منظم؟. ولهذا أحالنا الله على أنفسنا لمعرفته، وعلى الأكوان أيضاً لرؤية النظام. فإذا كان الحادث قد يحدث بقدرة قادرة عن علم أو دون علم، فإن النظام لا يمكن أن يحدث حدوثاً ذاتياً بالصدفة. قال الله: { وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون } (الذاريات/20-21). لقد أحالنا الله على الكون لمعرفته، وعلى نفوسنا. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [من عرف نفسه عرف ربه]. عندما يعرف الإنسان ما في نفسه من الآيات، ومن أين أتى بها، سيدرك مصدر العلوم التي لديه، والعقل الذي ينظم به الأرض.(1/59)
لقد علق أحد نقاد نظرية الاصطفاء الطبيعي الداروينية، وهي من أشد النظريات المادية ضلالاً وتضليلاً وخطورة لتقديمها الفكر المادي بصورة تبدو علمية، فقال متسائلاً بسخرية "لنتصوّر أن مليون قرد انكبت على مليون آلة كاتبة طوال مليون سنة. فهل ينتهي بها الأمر إلى تأليف كتاب مثل الكوميديا الإلهية أو تراجيديا لشكسبير أو أي أثر عبقري مكتوب؟"(5). فهل يستطيع عاقل أن يجيب بنعم على هذا السؤال؟. إن مشكلة بعضنا أنهم ينكرون الحق لأنهم لا يعرفون الحقيقة، ولأنهم لا يريدون أن يسلموا لمن يعرفها، وهذا قمة الضلال. لأن من لا يعرف عليه أن يعرف أو عليه اتباع من يعرف. وإلا ما هو الحل؟. وربما سيساعدنا التمييز بين الفيض الذاتي للطبيعة، والفيض الإبداعي على الارتقاء بمعرفتنا غير الداروينية. وقد أهملنا بحث المسلَّمة الثامنة والحادية عشر لأنهما واضحتان بالبداهة ولا تحتاجان إلى شرح.
الفيض الذاتي للطبيعة(1/60)
هل تعطي الطبيعة فيضاً ذاتياً من نفسها؟ علينا أن ننظر في حجج الماديين لا لمجرّد دحضها فقط. ولكن للوصول إلى مفهوم صحيح عن دور الإنسان في العالم من أجل ذاته. لأنه إذا كان الإنسان ابن الصدفة فعليه أن يختار نظامه الذي ينفعه ويسعده في حياته القصيرة بنفسه. وسيكون مبدأ السعادة الأبيقوري وتطوراته الإنكليزية والأمريكية على يد جون ديوي، أو الماركسية من وجهة نظر الماركسيين، هما الأنظمة الأمثل للبشرية، وسوف يكون من غير المجدي الحديث عن وصايا عشر اتفقت عليها كل الديانات السماوية، واعتُبرت جوهر هذه الديانات وروحها، وإن لم توضع موضع التطبيق دائماً. إننا أمام دراسة لحقائق ليست الغاية منها تقديم حجج بلاغية ونظرية لإقناع الطرف المعارض، أو الأطراف المعارضة مهما كانت قوتهم بوجهة نظر أخلاقية من أجل مصلحة المجتمع أو الإنسان. إننا أمام جدال في الحقائق التي تفرض نفسها على كل عارف بها بحيث تدفعه عندما تنكشف له إلى القول، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في حالة من الضعف والتهديد بالقتل لا تسمح له لا بإقناع خصومه، ولا بمحاورتهم، ولا بإشهادهم ما يرى، لأنهم لا يملكون الطاقة التي يملكها، ولا بإنزال وحي جبرائيلي عليهم كما ينزل عليه. رغم ذلك قال لعمه أبي طالب وهو يرجوه أن يتوقف عن دعوته إذعاناً لتهديدات قريش وإغراءاتها [يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته](السيرة النبوية-201/ج1). وهل يستطيع مخلوق أن يأتي للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشمس والقمر، وأي سر وراء هذا اليقين، بل أي أسرار؟. لا نريد جدالاً للجدال ولا لمصلحة الأمة أو الدين أي دين، ولكننا نريد، الحقائق التي تفرض نفسها على كل من يعرفها. فإذا كان الماديون معهم الحق فعلينا أن نتبعهم، وإلا إذا كانت حججهم مدحوضة فعليهم أن يفكروا بعالم أفضل من أجل سعادة الإنسان.(1/61)
فنحن لا نختلف مع المفكرين والفلاسفة حول رغبتهم في البحث عمّا يسعد الإنسان، ولكن خلافنا يدور حول الطريقة الملائمة والصحيحة والتي تتوافق مع طبيعة الإنسان وقدراته، ومعنى وجوده. إن الماديين يقولون إن الطبيعة خلاقة، ولكن إبداع الطبيعة لابدَّ أن يحدث بالصدفة، ويعطون لهذه الصدفة ومنها وجود الإنسان ملايين ومليارات السنين، ويعتقدون أن المليارات كافية لوقوع صدفة ظهور الإنسان. وجاء داروين وطلع علينا بنظريته المؤيّدة لنظرية الفيض الذاتي للمادة في كتابه "أصل الأنواع" حيث رأى أن المادة أوجدت الأنواع، وأن عملية التطور الذاتي للأنواع كانت تعمل وفقاً لقانون البقاء للأقوى، وهكذا انقرض ما لا يقدر على الحياة وبقي القادر على التكيّف. وهذه التطورات نسبها إلى ما سماه قانون الاصطفاء الطبيعي. القوي والقادر على الحياة يبقى، والضعيف يموت. إن طبيعة بحث داروين في "أصل الأنواع" مفيد للعلم. ولكن مشكلته تكمن في نسبته إلى الطبيعة دوراً خلاقاً لا تستطيع أن تقوم به، وإن كان في بعض الأحيان قد أشار إلى الله كخالق على استحياء أو للخداع والتستر على ما يعتقده في الطبيعة كما تكشف عنه سطور الكتاب. مثلاً بعض أعضاء الكائن في نظره تزول بالانتخاب الطبيعي إذا لم تعد ذات فائدة أو لا تستعمل. لقد قال "وكثيراً ما يؤدي عدم الاستعمال بمساعدة الانتخاب الطبيعي أحياناً إلى اختزال الأعضاء عندما تصير عديمة النفع نتيجة لتغير العادات أو تحت الظروف المتغيرة للحياة، وعلى أساس هذه النظرية يمكننا أن نفهم معنى الأعضاء الأثرية"(1).(1/62)
إن الكائن يستطيع أن يغير شكله، وأن يلغي أحد أعضائه تبعاً لهذا المفهوم حسب حاجته، وسيكشف لنا داروين عن دور الله المتواضع حسب رأيه في الكون بقوله "لابدَّ لي أن أستنتج من المقارنة والتحليل بالمثل أنه من المحتمل أن تكون كل الكائنات العضوية التي عاشت فوق هذه الأرض قد انحدرت على شكل واحد أصلي بدائي نفخ الله فيه الحياة أول مرة"(2). ولكن دور الله سينتهي بعد ذلك، إذ ستقوم الأنواع بالتعاون مع الطبيعة باختيار أنواع وطرق تطورها وبقائها. وهذه القوانين الفاعلة كما يصفها "هذه القوانين لو أخذت بأوسع المعاني تكون هي: النمو مع التكاثر، والتغير بالفعل المباشر وغير المباشر للظروف الخارجية للحياة، ولظاهرة الاستعمال وعدم الاستعمال، ونسبة للازدياد عظيمة تؤدي إلى قيام صراع من أجل الحياة، وبالتالي إلى الانتخاب الطبيعي المنطوي على انحراف الصفات وانقراض صور الحياة الأقل تحسناً وملاءمة للظروف؟ وهكذا أسمى هدف للعالم ألا وهو نشوء الحيوانات الراقية ليتحقق مباشرة من حرب الطبيعة ومن الجوع والموت. إن هناك جمالاً وجلالاً في هذه النظرة عن الحياة بقواها العديدة التي نفحها الخالق لأول مرة في عدد قليل من الصور أو في صورة واحدة. وإنه لبينما ظل هذا الكوكب يدور طبقاً لقوانين الجاذبية الثابتة كانت وما زالت تتطور من مثل تلك البداية البسيطة صور لا نهائية من الحياة غاية في الجمال وغاية في العجب"(3). لقد استقال الله أو غاب ولم يعد له أي دور في الخلق بعد النفخة الأولى من وجهة نظر داروين، مع أننا لو قلنا لإنسان من الداروينيين، إننا بنينا جدراناً لبيت ثمَّ تركناه دون سقف فقامت الطبيعة فجأة بصنعٍ سقف له، سيتهموننا بالكذب أو الجنون، مع ذلك فإنهم يقولون أشياء أكثر تناقضاً مع بديهيات العقل بما لا يقاس. وهم لا يصدقون بصنع الطبيعة لسقف بيت صغير.(1/63)
بينما ينسبون خلق السموات والأرض والمخلوقات إلى الطبيعة، فهل الطبيعة قادرة على الخلق بالصدفة، أو لها من قوة فيضها الذاتي وخواصها ما يؤدي إلى رؤية ما نراه من خلق وإبداع ونظام في الكون، وأخيراً من منح هبة العقل لكل عاقل؟.
إننا لا نخالف الطبيعيين فيما ينسبونه للطبيعة من خواص. مثلاً النار تحرق، الهواء ضروري لكل كائن حي. الماء أصل للحياة. إن الإيمان بالله لا يتعارض مع حرية البحث. ولكن خلافنا يتركز في نقطة جوهرية هو، هل الطبيعة المجرّدة قادرة على الإبداع بالاستفادة من كل المفاهيم التي تصورها داروين أو غيره من الماديين؟. وإذا كانت الطبيعة قادرة إلى هذا الحد على التصرف بذاتها دون عقل يوجهها، فهل تستطيع إذا كانت لا تملك العقل أن تبدع العقل الإنساني؟. إن المنطق يقول لنا لا. إذ لابدَّ من مقدمتين ورابط بينهما لحصول نتيجة متوافقة مع المقدمة الكبرى فإذا قلنا: كل إنسان فان+ سقراط إنسان= سقراط فان.
الفرع خاضع للأصل في القانون العام والخاص.
فإذا قلنا: الطبيعة لا تعقل+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان لا يعقل
وإذا قلنا: الطبيعة تعقل+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان يعقل
وإذا قلنا: الطبيعة لا تسمع+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان لا يسمع
أما إذا قلنا: الطبيعة لا تفكر+ الإنسان ليس من الطبيعة=؟
هذا لا يقودنا إلى شيء. فالمفاض دائماً يجب أن يكون فيه بعض سمات المفيض. وإن الطبيعة عندما تكون لا تفكر ولا تسمع ولا تبصر فكيف ستخلق مثل هذه الطبائع التي لا تدركها ولا تفهم معناها في مخلوق من صنعها. فهل يستطيع الأعمى أن يقود المبصر، وأن يسلك به على الطريق؟. إذا قلنا: الطبيعة خالية من الحديد+ الحديد من الطبيعة= ما هي النتيجة غير التناقض. فعلينا أن نصحح المقدمة الكبرى.
فإما أن ما نسميه حديداً ليس هو الحديد. وإما أن الطبيعة تحتوي على الحديد.(1/64)
وبالمثل في إطار العقل. فإذا كانت الطبيعة تحتوي على الفكر والتراب+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان قد يكون مفكراً وقد لا يكون فهذا احتمال إذ قد يكون تراباً. أما إذا قلنا: الفكر موجود في كل عناصر الطبيعة+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان فيه فكر.
الطبيعة لا تموت+ الإنسان من الطبيعة= الإنسان لا يموت(1/65)
علينا أن نحكم بموازين صحيحة على ما نبحث عن صحته. فإذا كانت الطبيعة تعقل فقد انتهى الخلاف، وبقي على المسمى. وقد بيَّنا العلاقة بين الله والطبيعة في إشارات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وردّه على سؤال "أين كان ربنا". ولكن مشكلة علماء غير المسلمين تكمن في أنهم لم يطلعوا على الفكر الديني الإسلامي بفهمه للوجود. ومعنى قول الله { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } (الحديد/57). ومثل هذا الفهم والتفسير غائب في الديانات السماوية غير الإسلامية. وقد أثرت معارضة رجال الدين من غير المسلمين لبعض النتائج التي توصلت إليها الأبحاث العلمية إلى ردّة فعل معادية للدين، ولهذا تعاون الجهل بالإسلام ومعاداة بعض الأديان للعلماء إلى النظر للدين نظرة عدائية لكونه معوقاً للبحث العلمي، وانسحب هذا الموقف على كل دين، وعندما يصبح الحوار عدائياً فإن النتيجة ستكون الحكم بالهوى والعواطف، وبعيداً عن منطق العقل، وستخسر الإنسانية فرصة المعرفة المتاحة أمامها. لقد أراد بعض الناس أن يقولوا إن الأرض مركز الكون كما قال أرسطو لأنهم فهموا المركزية سيادة، فكيف سيقول العلم إن الأرض تدور في فلك الشمس وليس العكس. ولكن الدين وحتى الإنجيل الذي صدرت المعارضة لكوبرنيكوس من أتباعه لم يقل ذلك، ولكنها عواطف بشرية أضفت على الدين ما ليس فيه معتقدة أنها بذلك تدافع عن الله، والله غني عن العالمين. وأوغلت المادية بتعصبها في الهجوم على الدين. فقبلت فيضاً عقلانياً من طبيعة غير عاقلة. ونحن الآن وقد انتهت حرب العواطف والأهواء علينا أن نتوقف في منتصف الطريق ليحاور أحدنا الآخر. لقد عجز العلم عن اكتشاف الحقيقة، وإن توغل في أعماق الذرة عميقاً. ولكن من الذي كوّن من الذرة المخلوقات. صحيح إن الخشب في الطبيعة عنده القابلية الذاتية لأن يصبح باباً لبيت أو طاولة ولكن هل يستطيع أن يصنع نفسه.(1/66)
من هنا يتبيَّن لنا أن للطبيعة فيض ذاتي، قابلية، الماء والهواء والحرارة والبرودة، هي مكونات داخلة في تركيب كل عناصر الطبيعة. ولابد منها. وهذه المكونات لها قوانينها الذاتية التي يمكن بمعرفتها تكوين ما نريد منها. فالماء يصلح للحياة ولكنه لا يصلح لبناء بيت للسكن، فلابد من استثمار فيض المادة الذاتي بما يناسبه من المخترعات كي تحصل الفائدة منها. وهذا الاستثمار لابدَّ له من فاعل يقوم به. وهكذا يتبين لنا أن مادة عمياء غير عاقلة لا تستطيع أن تكون كل ما نراه وإن كانت تملك فيضاً ذاتياً أو صفات معينة. فالحروف مثلاً في اللغة هي مادة خام ولا فائدة منها إذا لم نرتبها في كلمات، ولا فائدة من الكلمات إذا لم نرتبها في جمل وكتب. ولكننا لا نستطيع أن نكتب ما كتبناه دون الحروف. ولهذا انقسم الأمر بيننا وبين الحروف لإظهار الأثر المطلوب إنسانياً. فإذا فرضنا أن الحروف طبيعة فإن تركيب الكلمات وتأليف الكتب من فعل العقل، وغير العاقل لا يستطيع أن يؤلف كتاباً ولا حتّى أن يفكر فيه. مما قدمناه يتبين لنا أن الفيض الذاتي للطبيعة لا يستطيع أن يُحدث فيضاً منظماً وعقلانياً. وعلى الماديين في النهاية لإزالة الخلاف معهم، إما أن يعترفوا بالله، أو أن يقولوا بأن الطبيعة تملك العقل الملائم لتنظيم الكون لأن الفيض لا يكون إلا من طبيعة المفيض ومن ملكه. وبذلك سيكونوا قد عادوا إلى جادة الحقيقة. وليسموا الخالق بأي اسم شاؤوا، وإن كان الأدب يقضي بأن يسموه بما سمى نفسه وبما اصطلح عليه لكي لا يحدث التباس بينه وبين خلقه. فالكلام مصطلحات لتوصيل المعاني كما نعرف، وليست موضعاً للسجال. إذاً فنحن أمام فيض إبداعي للطبيعة مستمد من فيضها الذاتي. فما هو هذا الفيض الإبداعي وكيف حدث؟.
الفيض الإبداعي(1/67)
إن الفيض الإبداعي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ثلاث مراحل" 1ـ المرحلة الأولى: ظهور العلم الموجود في ذات المبدع. حيث سيكوّن المبدع في ذاته تصوراً للصورة المعبرة عن صفة ما، وهو ما يمكن أن نسميه الصورة في الذهن، أو الذات. والمرحلة الثانية: هي القدرة المستمدة من العلم بتفاصيل الصورة ومكوناتها وما تحتاج إليه من المواد وما يناسبها منها، لجمعهما في حقيقة واحدة جديدة. وهو ما نسميه، وضع مخطط لعناصر الصورة، أو الصورة في المخطط. المرحلة الثالثة: هي توفر الإرادة لتنفيذ ما أصبح مكتوباً باستخدام الأسباب والعناصر المقررة للانتقال بالفكرة من التخطيط إلى التنفيذ. إن مراحل الإبداع كما نشهدها في حياة المبدعين تتبع هذا الطريق ولا تحيد عنه. فالإبداع لا يظهر في الطبيعة بالصدفة نتيجة لتوافق بين ما يريده الفنان وما تنتجه الطبيعة بفيضها الذاتي العشوائي. إن الفيض العشوائي للمادة لا شك بأنه سينتج صوراً وأصواتاً، ولكن لن يكون مثل هذا الفيض إن وجد قادراً على إنشاء ما نريد، بل إن الفيض الذاتي للمادة إن كان ممكناً سيدمر لنا ما نريد. نحن نبني المدن وتأتي الزلازل أو العواصف فتدمرها لأننا لا نستطيع أن نؤثر إلا بحدود قدرتنا في المادة. إننا نعرف مثلاً أسباب الزلازل، ولكن هذه المعرفة لا تساعدنا على منع وقوعها، وإنما تساعدنا على الابتعاد فقط عن أماكن الخطر التي نتوقع حدوث الزلازل فيها. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن المادة لو كان من ذاتها قدرة على الفيض الذاتي فإنها ستكون في تعارض مع الفيض الإبداعي ما دام لها القوة على تدمير ما يصنعه المبدع. وستنشأ لدينا على فرض أننا قبلنا هذا التحليل قدرتان تفعلان في الكون. قدرة عاقلة، وقدرة عمياء. قدرة تبني، وقدرة تهدم. وهذا سيضع المبدع في عجز عن إنجاز ما يريد ما دام لا يعرف شيئاً عن ردّات فعل الطبيعة ولا يملك التأثير فيها.(1/68)
أما إذا كان يعرف كل شيء عن تفاعلات الطبيعة، أو هو الذي وضع لها هذه القوانين فإنه سيتمكن من التحكم في حركاتها وسكناتها، وستكون بين يديه مثل حروف اللغة التي نستخدمها كما نريد للتعبير عن أفكارنا. ولا فرق من حيث النتيجة أن نعرف قوانين الطبيعة أو أن نضع لها القوانين. ونحن الآن كبشر نصنع مركِّبات جديدة من معرفتنا بعناصر الطبيعة. ولا أظن بأننا نستطيع أن ندعي بأننا سنكون أكثر خبرة في هذا المجال من الخالق الذي أعطانا العلم والعقل الذي نصنع به ما نصنع. بل إنه قد جعلنا الدليل عليه { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيَّن لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } (فصلت/53). وسنجد كلّما ازددنا وعياً بأنفسنا ومعرفة لها بأننا الدليل الأكبر عليه، وإن كانت الأكوان وما فيها أدلة إضافية. إننا نعرف الآن أكثر من العصور السابقة بأننا نستطيع أن نبتكر من المادة مركَّبات جديدة غير موجودة في الطبيعة بشكل خام، كالبلاستيك مثلاً، وأن نصنع منه ما يلائم حاجاتنا الحياتية. هذا ابتكار إنساني. وإذا قسنا الأمر لنفهم بعض صفات الخالق على أنفسنا بما أن المعلوم هو وسيلة للدلالة على المجهول، فإننا سندرك بأن الخالق الذي أعطانا العلم والعقل هو أقدر منا على تسخير المادة لإبداعه. وإنّ المادة وإن كانت أزلية فهي بشكلها الخام لا تصلح لكل خلق وإبداع، ولابدَّ من تكييفها وتركيبها وفق حاجات الصانع والمصنوع لكي يتحقق المطلوب من استخدامها، بحيث تبرز في المصنوع إرادة الصانع دون زيادة أو نقصان. فالمادة ليست من العدم ولكن المادة الخام في الطبيعة ليست هي المادة المستخدمة في الصناعة. والمادة لو كان لها من نفسها قدرة حتّى ولو كانت عمياء أو عشوائية فإنها ستكون في تعارض مع إرادة الصانع، ولن تستجيب دائماً لهذه الإرادة. ولكن هل يمكن أن ننظر إلى المادة كتجريد لا صفات لها في الأصل؟.(1/69)
إن مثل هذا الرأي يبتعد بنا عن طبيعة المادة وحقيقتها، إذ إن التنوع في أشكال المادة ومواصفاتها لا يمكن أن يصدر إلا عن تنوع في وجودها الأصلي، أي في أصل تركيبها وإن كانت كما تبدو لأول وهلة كتلة واحدة متجانسة. أي أن ما نجده في المادة وما نكتشفه من مواد جديدة عائد لقابليتها، وعلمنا بهذه القابلية هو الذي سيؤدي إلى إبداع الجديد منها والتأثير فيها. فنحن نصنع بها، ونأخذ منها، ولا جديد تحت الشمس إلا في الخلق من المادة القديمة. ولكن بفهم قوانين المادة واستخدامها، لأننا عندما نفهم هذه القوانين لن تكون المادة في تعارض مع ما نريد أن نصنعه منها، أما لو أننا لا نعلم بقوانينها، فإن المادة ستكون في تعارض مع ما نريده منها، ليس لأنها تملك إرادة المعارضة، ولكن لأنها لا تتلاءم مع إرادتنا، رغم أنه لا إرادة لها. لو أننا غرسنا شجرة ورد في الماء لن تنبت لأن العناصر التي يحتاجها الورد للنمو غير متوفرة في الماء وإنما في التراب والماء والحرارة والهواء. وكل حي يحتاج لكي ينمو للعناصر الأربعة بنسب معينة. رطوبة يمثلها الهواء، ويبوسة يمثلها التراب، وبرودة يمثلها الماء، وحرارة تمثلها النار. بل إن الوجود بجميع ذراته هو كالكائن الحي بقبوله للتفاعل بين أجزائه، ولا يتفاعل إلا حي مع حي، وإن خفي علينا معنى الحياة السارية في كل موجود. والكون كله في حركة دائبة بين فاعل ومفعول به، لإنتاج الفعل المراد. إذ المراد دائماً هو الفعل وهو كما قلنا فكرة في الذات. وهذا يسمى في الإسلام عالم الجبروت، ثمَّ نزلت الفكرة إلى اللوح المحفوظ فدوّنت. وإن كان التدوين في الأزل. ثمَّ أُمرت الأسباب بالتنفيذ لتظهر الصورة في عالم الملك والشهادة لتشهدها العين. ولدت المرأة طفلاً. الغاية والفكرة هي الولادة.(1/70)
الفاعل هو المرأة ومن وراء المرأة الرجل ومن وراء الرجل الحب وهكذا تتدرّج الأسباب لتحقق الغاية بوقوع المراد عبر اقتسام الأدوار بين فاعل ومفعول به، وفي كل لحظة يتكوّن من الدوافع والأسباب ما يتكوّن ليكون المراد. وهو معنا أينما كنّا، وهو مع الأكوان فيما أراد. فالأكوان مرآة لظهور الألوهية بقبولها فيوضات الأسماء الإلهية، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن. المادة هي رداء الفكرة وثوبها. رداء عالم الجبروت. رداء الحب الموصول بين الله والإنسان، والذي جعله آخر الموجودات المادية لكي تكتمل الدائرة وتغلق بظهوره. فيكون المخلوق المقابل في ظهوره لله الإنسان، حيث نقطة البداية "كان الله ولا شي معه". ونقطة النهاية التي ستكون على تماس مع نقطة البداية ـ كان الإنسان ـ، والله "ما زال كما كان" كما أضاف العلماء. ولهذا فهو ـ أقرب إلينا من حبل الوريد ـ { ولقد خلقنا الإنسان ونعلمُ ما توسوس به نفسهُ ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد }(1/71)
(ق/16). وإذا كانت الأكوان قد سخرت للإنسان كما نستدل على ذلك بعقولنا، فإننا نستطيع أن نستنتج بأن من سخرت له الأكوان كان هو المقصود من الخلق، وبأن كل شيء خلق لغاية، سواء أدركنا ذلك بعقولنا أم لم ندركه. فالفيض الذاتي للطبيعة لا وجود له، وإن كل فيض هو فيض إبداعي بدأ في العلم الإلهي وانتهى في المادة وفق تسلسل ملائم لقوانين المادة وقدراتها. وإذا كنا قد تعاملنا حتّى الآن مع المادة كموضوع منفصل عن الألوهية، فهو لضرورة البحث كما نفصل جسم الإنسان عن عقله لبيان أن الجسم لا إرادة له ولا تصرف دون إرادة العقل، وإن كان مثل هذا الفصل لا وجود له في الواقع. فالمادة هي جسم الكون والحقيقة الإلهية هي روحه، ولم يصنع الخالق ما صنع إلا في ملكه الأزلي الذي لا بداية له ولا نهاية. فهو { الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } (الحديد/57). بما يناسب كل خلق وكل مخلوق. وإننا لكي نوضّح طبيعة الفيض الإبداعي سنقدّم بعض الصور القرآنية التي تتحدّث عن نماذج لهذا الفيض.
الفيض الإبداعي في القرآن(1/72)
إن القدرة كما بيناها وفهمناها من خلال الآيات هي نفوذ العلم والإرادة في المادة، هي قابلية المادة وملاءمتها لما يراد صنعه من حيث الصورة والمعنى. هي تحقيق الانسجام بين الصورة والفكرة. فالقدرة هي وليدة العلم في طرفين: فكرة+مادة= فكرة ومادة= صورة. لقد بطنت الفكرة في المادة واختفت فيها. في عالم الملك والشهادة، العالم المادي الذي نشهده كل الأفكار ستختفي في المادة وتظهر من خلالها، إذ لا شهود لنا إلا في عالم الطبيعة. وكل صورة ستكون بمثابة إشارة إلى عالم الأفكار الذي لا يدرك بالنسبة إلينا إلا وهو متلبس بثوب المادة. في هذه الرؤية، المادة لم تعد مادة بالمعنى الحقيقي، إنما صارت رمزاً، جسداً محسوساً للفكرة. وكل تغيّر في شكل المادة سيكون رمزاً ودليلاً على التغيّر الجاري في الذات والذي سيتبعه التغيّر في العالم. وهكذا يتعاقب الليل والنهار والفصول، ويسير كل محدث إلى منتهاه وأجله، بفعل القوانين الكونية التي تحكمه، والتي نسميها الأسباب. فالإيجاد والإبداع بأسباب، والتحوّل والإماتة بأسباب. والأصل هو الفعل الذي سيقع والفاعل الذي سينفذ والمفعول به الذي سيقع عليه الفعل، التحوّل الإماتة. وهو تحوّل من كذا إلى كذا، من صورة تحمل هذا المعنى، إلى صورة تحمل معنى جديداً. فعندما نقول نضجت الثمرة، فإننا نقول في نفس الوقت ماتت الزهرة التي كانت ظرفاً للثمرة. وكل موت بداية لحياة جديدة. ماتت بصلة الزنبق فظهرت الأوراق ثمَّ الزهرة، وتفتحت أبصال جديدة. لقد جمعنا بصلة الزنبق+ الهواء+ التراب+ الماء+ الحرارة= أسياخ الزنبق وأبصال جديدة. إن الصور هي تعبير عن علم استخدام الطاقة الكونية بما يناسبها، بل إنها علم باقتصاد الطاقة، علم باستخدام هذه الطاقة دون هدر وإسراف. إنه نظام التوازن الذي يكتشفه علماء الطبيعة كلّما أوغلوا في التعرّف على دور الأنواع ومهمتها في الكرة الأرضية.(1/73)
وكمثال على ما يقوم به الإنسان بعد أن اكتشف سر الطاقة الكهربائية، أنه يقوم بجمع عنصرين لتوليد الكهرباء: مادة ثابتة+مادة متحركة= كهرباء. هذه الطاقة هي مزيج متحوّل من السكون والحركة. والطاقة كما نعرف تستطيع أن تعيد إلينا الحركة بتحريك آلة أو قطار. أو بالإضاءة الناجمة عن حركة الإلكترونات في الأسلاك. ولكننا لكي نحسن مصادر الطاقة ونستثمرها الاستثمار الأمثل أضفنا إلى محرضات التوليد الوشائع. واستخدمنا مساقط المياه لإنتاج الحركة في الوشائع بشكل منتظم، أو استخدمنا المحروقات لإنتاج الحركة. ومن النار والحركة في هذه الحالة استرجعنا ما كنا صرفناه في الإنارة أو تدوير مروحة. وهو نتيجة لجمع بين (وقود+ضواغط متحرّكة مرتبطة بمولد كهربائي (وشيعة+حركة بداخلها)= طاقة= تحريك+تنوير).(1/74)
أي أننا بمعنى ما استرجعنا ما كنا صرفناه بصورة جديدة. وهذا بفضل العلم حيث نفذت القدرة وأثرت. ولكن علمنا لم يخلق الطاقة في المادة ولم يخترعها، وإنما اكتشفها، كما نكتشف الماء في الصحراء فنستثمره في الزراعة. وهذا هو فيض الإبداع الإنساني. إنه استثمار للفيض الذاتي للمادة، قابلية الخشب لصنع الكرسي هو الذي جعلنا نصنع الكرسي من الخشب. المادة لا تستطيع أن تقدم إلا فيضها الذاتي، والعقل المبدع هو الذي سيقوم بالإبداع باستخدام قابلية المادة، فيضها الذاتي. والعقل سيظل في تجرّده وطبيعته غير مؤثرة بالمادة إلا بالمادة. فالعقل الإنساني لا يستطيع أن يمارس تأثيره على المادة إلا بالوسائل المادية، اليد، الآلات التي ابتكرها. إذا فصلنا بين الإنسان وعقله، فإن العقل وإن كان على تماس أبدي مع المادة، إلا أن طبيعته لا تسمح له بأن يمارس عليها وفيها غير دور المعرفة، ولكنه بهذه المعرفة يصبح سيّداً عليها ومتحكماً فيها، فيوجه الحرارة على الماء لتسخينه، والهواء على ما هو ساخن لتبريده، وهكذا بواسطة طبائع أزلية ثابتة للمادة يمكن التحكم فيها، وابتكار ما لا وجود له فيها. كما ابتكرنا الحروف من تمايز نغمات الصوت وابتكرنا الكلمات، والصور الكلامية، للصور المادية، القديم منها والمستحدث. ولكن الكلام كان في قلب الإنسان، في فؤاده كما قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد ولكن ... وجد اللسان على الفؤاد دليلاً(1/75)
إننا نتكلّم دون لسان، ولكن حواسنا المادية هي التي تُفصح عما في الباطن، والتي تجعل الآخر يسمعنا، فيشهد بعضنا بعضاً سمعاً، كما نشهد بعضنا بالبصر. نحن كحادث من فيوضات ربانية أبدية، المعلوم، والدليل الأوضح على الله، وعلى طبيعة الفيوضات الربانية الإبداعية، لأننا لم نأخذ علمنا إلا منه. وما أفاض علينا إلا ممَّا في نفسه، وما قدرنا إلا من قدرته، فكل اسم لنا وللعالم، صفة، هي له، ونحن نحصل عليها بالوهب لما يريد. فنحن وإن عرفنا بعض صفات الحق فهو لا يُعرف، لأننا لا نعرفه إلا بالمبدعات في المادة، وأين الله من المادة، وماذا عرفنا عن المادة؟. إن ما نعرفه هو الأسماء. من أسمائه المصور، ونحن نشاهد صوراً لا تنتهي، فأين الصور من المصّور وإن كانت دليلاً عليه؟. الأسماء صفات ثابتة وأزلية تكشف عن محتوى الذات وإبداعها وقدرتها في صور الطبيعة، فتظهر الأسماء بعد أن كانت باطنة في ذات الحق بعلمه في الطبيعة واقتداره عليها { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً } (فاطر/44). القدرة من نتائج العلم، فلا يعجز العالم بالأشياء عن التأثير فيها. لهذا كان الماء سبباً لظهور الأحياء، ولكنه ليس السبب الوحيد، لأن الأرض التي تكوّنت بكل تفاصيلها وعناصرها واكتملت، وأصبحت صالحة للأحياء، كان الماء هو اللحظة الفاصلة بينها وبين الإنماء. وبنزوله عليها أنبتت من كل زوج بهيج { وآيةٌ لهم الأرض الميتةُ أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون } (يس/33). كانت ميتة قبل جريان الماء ـ فـ { جعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون } (يس/34). بما انفجر فيها من العيون ظهرت الجنات { ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون } (يس/35).(1/76)
لقد دخل الإنسان في تسلسل الأسباب بما قام به من عمل زراعي، وسوف تدخل الأرض في هذه الأسباب بقبولها للإنبات وتسخيرها له بما جعل الله فيها ولها من الأسباب الملائمة. { سبحان الذي خلقَ الأزواجَ كلّها مما تنبتُ الأرض ومن أنفسهُم ومما لا يعلمون } (يس/36). العلم والقدرة اجتمعا فكان ما كان { ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير } (الشورى/50). { وخلقَ كل شيء وهو بكل شيء عليم } (الأنعام/101). { أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. وجعلنا في الأرض رواسيَ أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبُلاً لعلّهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون } (الأنبياء/30-32). { السموات والأرض كانتا رتقاً } بالفيض الذاتي { ففتقناهما } بالفيض الإبداعي، وما جعله الله من أسباب للحياة واستقرار الأرض وحفظها، وهو من الفيض الإبداعي. وما أخبر به مما سيعلمه الذين كفروا عن كل هذه الأسباب التي بنيت عليها الحياة، هو من علم الله في الإنسان وبما بثه فيه من العلوم(1/77)
{ وعلّم آدم الأسماء كلّها } (البقرة/31). و { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبيرُ } (الملك/14). فلو افتقر الخالق إلى أي علم بالمخلوق لخرج على غير المراد. إن إشارات الله المتكررة في القرآن لعلمه وقدرته، وضرب الأمثال عليها، والحديث عن نظام الخلق والأسباب المستخدمة، وعناصر المخلوقات ومادتها. كل هذا يؤيد ما فهمناه عن الفروق بين الفيض الذاتي للمادة كعنصر أزلي في صيرورة الوجود، له صفاته وخواصه، وبين الفيض الإبداعي الذي صاغ من المادة عناصر الصور المبدَعة المتجددة، ومنحها روحاً تسير بها إلى الغاية من إيجادها، إذ الفكرة، الهدف، الغاية، روح كل صورة، وإن تعددت صفاتها وعناصر تركيبها. كما إن الإشارات لتفاصيل عملية الخلق في بعض الآيات، بما يتوافق مع النظريات الحديثة، له دلالاته التي تتناسب مع طبيعة عملية الإبداع وتسلسلها عبر زمن كاف لإنجاز كل مشروع مبدَع، مما يعني أن كلمة { كن } وإن كانت ستتحقق بشكل حتمي، فإنها لا تتناقض مع ما تتطلبه عملية الإنجاز الكوني من تمهيد وإعداد وزمن حتّى تنضج، وتصبح واقعاً متحققاً. فـ { كن } الأمرية، قد تسبق زمن { كانْ } التكوينية بآلاف وملايين السنين. وهي دلالة على معقولية الأمر الإلهي، وصحة ما أورده القرآن في هذا الشأن. ستتكرر الإشارات إلى أيام الخلق الستة في عدة آيات { إن ربَّكمِ اللهُ الذي خلق السموات والأرضَ في ستّة أيام ثمَّ استوى على العرش يُغشى الليلَ النهارَ يطلبُه حثيثاً والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والأمرُ تبارك الله ربُّ العالمين } (الأعراف/54). واليوم ما هو { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدوّن } (الحج/47). ويوم المعارج { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } (المعارج/4). لم يعط الله مقياساً واحداً لليوم في القرآن، ولكنه أشار إلى أن الأيام المعنية عنده ليست كأيامنا من حيث الزمان.(1/78)
فلأمر الإبداع وقت، ولتكوين الإبداع وقت آخر. إن تفاصيل الإبداع وأسراره ستختفي، ولن نشاهد غير ملامحه المذهلة، التي تثير فينا الأسئلة والدهشة والحيرة، فلأمر ما ظل الفيض الإبداعي مشهوداً ومحاطاً بالغموض، حتّى بدا أن عناصر الطبيعة تقوم بالعمل المذهل الذي تسيطر عليه الغائية والنظام. وظهر السؤال المحيّر على الإنسان الذي ما زال يبحث عنه، كيف، ولماذا. وقال من قال ـ لا نؤمن حتّى نرى الله جهرة ـ والإنسان نفسه لا يوافق على صنع إبرة دون صانع. وهو يعرف بأنه لم يخترع الكهرباء إلا لأنها موجودة في طيات المادة، وإن عقله لا يمكن أن يظهر من وجود لا يملك العقل، ومع ذلك فإن أبحاث بعض العلماء لا تقودهم إلى التعامل مع منطق العقل بما يقتضيه، وبما يقود إليه من نتائج للتفريق بين الفيض الذاتي للمادة، والفيض الإبداعي. وقد ساعد قصور بعض الأديان وما وصل منها، وكذلك الفلسفات المادية والمثالية، في غياب المنطق المعقول لفهم العلاقة بين الله والعالم، بين الروح والطبيعة. وقد ساعد ضعف منطق الدين بشكل خاص في الغرب، وجهل العلماء الغربيين بالدين الإسلامي، ومعاداته غالباً، الفلسفة المادية على النجاح. يقول إنجلز: "إن مسألة علاقة الفكر بالكائن ـ مسألة ما هو الأول، الروح أم الطبيعة ـ هذه المسألة التي لعبت، مع ذلك، دوراً كبيراً في الفلسفة الكلامية في القرون الوسطى، قد اتخذت في معاكسة الكنيسة شكلاً أحدّ: أَخُلِقَ العالم من قبل الإله أم أنه موجود منذ الأزل؟. وقد انقسم الفلاسفة إلى معسكرين كبيرين وفقاً للجواب الذي يجيبون به عن هذه المسألة. فأولئك الذين أكدوا أن الروح وجدت قبل الطبيعة والذين اعترفوا بالتالي، في آخر الأمر، بهذه الصورة أو تلك، بخلق العالم ـ وعند الفلاسفة، عند هيغل مثلاً، يتّخذ خلق العالم في غالب الأحيان صورة غامضة خرقاء أكثر مما في المسيحية ـ ألّفوا معسكر المثالية" (1) .
__________
(1) ماركس، إنجلز ـ مختارات ـ 21/ ج4..(1/79)
لقد انتصرت المادية بسبب الأجوبة الخرقاء لمعسكر المثالية، يضاف إلى هذا أن المثاليين كما قال إنجلز كانوا ـ مثاليين من فوق وماديين من تحت بمعنى أن سلوكهم لم يكن مطابقاً لمبادئهم، فمن يؤمن بالله عليه أن يعمل بوصايا الله. وظلّت الفلسفات المثالية تحاول أن تفصل بين الله والعالم، وأن تثبت أن الروح سبقت الطبيعة. وظلّت الإجابة متعثرة على سؤال: من أين جاءت الطبيعة إذن ما دامت غير موجودة في الأصل؟. وهل يصح الخلق من العدم. أي إيجاد الطبيعة من اللاوجود؟. لقد ضاعت الفلسفات المثالية بين رغبتها في تنزيه الله إلى الحد الذي لا يقبله منطق العقل، ولا يتفق مع ما ورد في الأديان قبل الإسلام، حيث كانت الرسالات السماوية تمثل رسالة أخلاقية للإنسان، وكان على رجال الدين أن لا يخوضوا في قضايا العلم التي لم يخض فيها الدين، وأن لا يظنوا بأن المكتشفات العلمية، أو دوران الأرض حول الشمس، سيؤدي للإساءة للدين، أو لما لم يقله الله. ولقد تبين فيما بعد أن جهل المثاليين والمتدينين خدم الماديين، وساعد على نجاحهم. إذ أن ديناً لا يمكن فهمه وهو موجه من الخالق إلى الإنسان لابدَّ أن يثير البلبلة في النفوس. وعندما تهذر الفئة العليا المؤتمنة على توصيل الرسالة بما لا تعلم، وبما لا يُقنع، فالأفضل لها أن تصمت، لأنها ستكون بلاءً على الرسول والرسالة. ولو أن الله لم يرغب في توصيل رسالته للناس لما أرسل الرسل، وما خاطب الناس بلغتهم وبالأمثلة التي يمكن فهمها، والتي تؤدي إلى الإيمان. ولكن المبالغين في تنزيههم لله، وهو المنزه لا بفهمهم، نسبوا إليه ما لم ينسبه إلى نفسه، ثمَّ هبطوا من التنزيه إلى تصوره زوجاً لامرأة وأباً لابن. وهكذا أضافوا إلى تناقضات عقولهم ضعفها وعجز منطقها عن الانسجام، والبرهان على ما يقولون. ولابدَّ هنا من السؤال.(1/80)
ما هو ذنب الإنسان إذا واجه رسالة لا تنسجم مع منطق العقل المعطى له من الله ورفضها فهل هو المذنب، أم صاحب الرسالة؟. إذا جاء رسول وخاطبنا بلغة لا نفهمها فمن المخطئ، المخاطب أم الرسول؟. لقد نجحت المادية في الغرب وفي العالم، وسوف تظل تنجح كلّما قدّم المتدينون الدين كأوامر يجب أن تُطاع، دون فهم. وكلّما قلنا للآخرين إن الرسل لم يأتوا لإفهام الناس، وإنما لتبليغهم. إذ هل يعقل أن يرسل الله رسالة لمن يريد هدايتهم غير مفهومة وغير واضحة، ومتناقضة مع ما سيكتشفه الإنسان، وهو الذي يعلم ما في السموات والأرض؟. هل يمكن أن نصدق عالماً بالأرصاد الجوية يزعم أنه يعرف كل أحوال الطقس قبل شهر، إذا أخبرنا بأن المطر سيسقط بعد أسبوع ولكن المطر لم ينزل؟. إن الله لا يخاطب السذّج من البشر. ولهذا أمرنا بالقراءة { اقرأ } . وقال: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (النحل/43). إذا كنت لا تعلم وتريد أن تعلم دون إجهاد نفسك فاسأل أهل العلم، أصحاب الاختصاص. وإذا كنت تريد أن ترتقي إلى مستوى العارفين، فالوسيلة هي الالتزام بالشريعة { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } (العنكبوت/69). { واتقوا الله ويعلمكم الله } (البقرة/282). لقد فتح الله سبل المعرفة كلّها للإنسان على قدر ما يرغب إن كان بغيره أو بنفسه، لفهم ما يبحث عنه. فمن وضع فينا الأسئلة، لم يضعها ليحجبها عنا، ويمنعنا من الوصول إليها. لهذا عندما نقول، إن حقيقة الفيض الإبداعي اكتملت بظهور الإنسان، فهذا لأن كل مبدع سيُبدعُ مثالاً لصفاته، فالإبداع الذاتي يطلب العرفان إذا كان ممكناً، كما تطلب الأمومة الولد. ولهذا كان الفتق بعد الرتق، الفتق المادي للطبيعة، والفتق عن إبداع المبدع الخفي الساري في عناصرها المتآلفة. فهي الطبيعة اللوح الذي يكتب فيه الله ما يشاء بواسطة القلم الإيجادي.(1/81)
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ فقال: اكتب مقادير كل شيء حتّى تقوم الساعة](كنز العمال-15116/ج6). الطبيعة ليست عندها خاصية الإرادة لقبول أو رفض ما يكتب فيها. فالخشب لا يطلب أن يصبح طاولة أو باباً، ولكن النجار اختاره لتلاؤم مواصفاته مع هذه المهمة، بينما لا يصلح الماء لهذا الغرض. إننا حولنا المادة إلى طاقة، هذا هو الفيض الإبداعي لعقولنا الذي لا يظهر إلا في المواد. و"من عرف نفسه عرف ربّه". فلا يعرف الإنسان الله إلا بقياس الحاضر على الغائب. فنحن الأقرب للدلالة عليه، وفهم طبيعة الفيض الإبداعي للعقول، من الفيض الذاتي للمادة، وكيف جرت الأمور وظهرت الأسماء الإلهية في العالم. وهكذا تجلّت الذات.
تجلي الذات(1/82)
إن الله كما أخبرنا عن نفسه سيكون في حالتين إما باطناً في العالم من اسمه الباطن أو ظاهراً من اسمه الظاهر { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } وسيكون لكل ظرف حقائقه التي تقتضيه. فظرفية بطون الحق في العالم لا تقتضي الخلق ولا تطلبه. ولكن زمان ظهور الحق في العالم، تتطلّب شهوداً لهذا الظهور. فالبطون لا يعني عدم الوجود، وإنما يعني غياب الشهود. فزيد لا يظهر وإن كان حاضراً حتى يظهر من يعرف بأنه زيد.. ولكن كيف سيظهر الحق في مخلوقاته لمخلوقاته وهو الذي لا يدرَك ولا تحيط به العقول. وما هو الذي سيظهر منه؟. إن كل وجود كما ندرك، لا يدرك إلا بصفاته. فالصفات تعبر عن طبيعة كل وجود، ولذلك فإن الصفة تتبع الموصوف في كلام العرب، فهي المعبِّرة عنه. وقد بيّنا بأن العلم أو العقل في العالم من كونه نوراً لا يظهر إلا في المصنوع. فالعلم طاقة كامنة لا تدرك في الآخر إلا بظهورها في الصورة المادية. والمدرِك للصورة لا يدركها إلا بما يناسبها من المدركات. هذه الحقائق اقتضت إظهار المخلوقات، وإيجاد الإنسان بتركيبه الذي يستطيع بحواسه أن يدرك المصنوعات بما يناسبها، وأن يعرف المناسبة بينه وبين ما يشهد، من حيث دلالتها. وزيادة في البيان زود الله الإنسان بالعلم والعقل ليكون كالمحكمة، لكي يحكم بعقله المبثوث فيه على حواسه، وجعل أول مخلوق في ذريته نبياً ليكون مبلغاً عنه فيما أراد. إن تجلّي الله في العالم سيكون بما يدركه المخلوق، فبعلمه سيعلمه. فمناسبة الظهور هي التي اقتضت ظهور الكون لظهور المكوِّن في التكوين. هذه مناسبة الظهور. ولكن هل كان الظهور ضرورياً؟. إن الضرورة إنما تعني الاضطرار، والمضطر لا إرادة له، عندما يكون خاضعاً لإرادة خارجة عن ذاته. ولكن عندما تكون إرادته الخاصة النابعة من ذاته هي الحاكمة فيما يفعل، فإن فعل الإرادة سيكون حراً، وسيكون المراد موافقاً لعلم الصانع وإرادته.(1/83)
فالفنان الذي يرسم لوحة بإرادته هو غير الفنان الذي يرسمها اضطراراً. فإذا ما فعل بإرادته ففعله لذاته، وإذا فعل ما فعل بإرادة غيره ففعله لغيره. بالنسبة لله ما دام لا يوجد سواه بالأصل فمن سيطلب منه أو ينازعه الأمر. ولكن طبيعة الأسماء تطلب الظهور. الصفات لابدَّ لها من الكشف عن مكنوناتها، حين ستظهر الأفكار مرتدية ثياب الطبيعة سيتبدل العالم، ويستفيد. كما استفادت قطعة القماش من فكرة الفنان فصارت لوحة معروضة في المتحف. لم تعد قماشاً كما كانت. لقد صار الناس يقفون أمامها لمشاهدة ذات الفنان لا صورته. وكما تكشف ذات الفنان عن نفسها في كل مرة بلوحة جديدة، هكذا تكشف ذات الحق عن فيوضات الجمال القديم في المحدث، فيتجلى الله في المتجلي. وبسبب كثرة أسماء الحق وتنوعها ظهرت الكثرة في العالم، فكان وسيكون لكل صورة من أسمائه نصيب. فمرة ستحمل الصورة اسمين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة تبعاً لصفاته المنزهة عن التحديد. فأي جمال سيعبر عن الأصل إذا كانت الأكوان تتلألأ بملايين الصور الجميلة؟. ما نشهده هو رموز الأسماء لا حقيقتها، فهو الخلاق على الدوام، وكل اسم له يحمل سر كل الأسماء، وإن بدا لنا أن كل صورة تحمل بعض الأسماء بالقياس إلى ما نراه فيها. فإن الاسم النافع مثلاً بالنسبة إلينا سيكون وجوده ضاراً بالنسبة لغيرنا. وهكذا حكمت الأسماء العالم من حيث ندري ولا ندري، وإن كانت كل فئة تطلب ما لا تريده الفئة الأخرى. ولكن الله أمدَّ كل صورة إلى أجل بالإمداد المناسب، لأن طبيعة المخلوق لا تتسع لحمل أسماء الحق، ولا يصل إلى هذا المقام إلا قلة من البشر. جاء أعرابي إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة. فوقف وبال في طرف المسجد، فقام الصحابة ليمنعوه، فأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - . لا تقطعوا عليه بوله.(1/84)
ثمَّ قال [صبوا عليه ذنوباً من ماء أو سجلاً، إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين] لقد عرف الأعرابي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي منع الصحابة من إيذائه فقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: لقد حجَّرت واسعاً (يا أخا العرب) ـ أي ضيقت ـ"(كنز العمال-4936/ج2). فالله هو الواسع الذي يتسع لخلقه بكل ما يحتاجون إليه، وإن كان للذات أسماء تضيق عن هذه السعة كما يظن بعض أهل العلم بالنظر إلى الأسماء منفصلة عن بعضها، أو مناقضة لبعضها كما في (الخافض، الرافع، المعز، المذل) مثلاً. ولكن إذا اعتبرنا الحكمة في وضع كل صفة أو صورة كونية في مكانها الصحيح الملائم، فإن ما انخفض سيرتفع بانخفاضه ونيله ما يستحق من فيض الألوهية الساري في الوجود. فخفض ما يجب أن ينخفض حكمة، وما انخفض منخفض ولا ارتفع إلا بالنظر لصفات ألمّت به لا يستطيع قبول غيرها، وإن شملته عناية الأسماء الإلهية، فليس أعلى الشجرة أفضل من جذورها إلا بالمقاييس الإنسانية، وليست الثمار أفضل من الأغصان إلا بقياسنا. وليست المجرة أفضل من الذرة وإن كانت أكبر، فهذه أحكام ومقاييس لا تنتمي إلى الحكمة، ولكن إلى ضيق الأسماء لمن ضيّقها، وليس لحقيقة الذات. والضيق والسعة نابعان من حقيقة الأسماء، ومن حكم العلماء، كما هو الضار والنافع، ضار لكذا ونافع لكذا. فهو الضار النافع فاختلط الأمر وزال الحكم بالنظر للألوهية ولم يبق غير التنزيه. ولابد من حكم في الوجود، ولابدَّ من تفصيل وقياس وأحكام وشرائع وحلال وحرام. فكانت الذات لنا مشهودة حيث تجري أحكامنا بشهودها، لأن الإنسان لا يتسع للحق إلا نادراً.(1/85)
جاء في الحديث [ما وسعتني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن](إحياء علوم الدين 10/ج3) ـ وحين سئل أبو يزيد البسطامي "ما هو اسم الله الأعظم" ـ قال للسائل "دلونا على اسم الله الأصغر لندلكم على الأعظم". وسمع في مناسبة القارئ يتلو "إن بطش ربك لشديد" فقال "بطشي أشد" لأن الله رحيم بخلقه، ولا يتسع قلب الإنسان لرحمة الحق. فالمواد لا تكشف إلا عن المحدود ولا تقبل إلا الحدود، وصفات الذات نبع فياض لا تتسع له الحدود.
ولكن هل وجدنا الأجوبة التي نطلبها في محاولتنا العقلية؟ ربما نعم، وربما لا. ومع ذلك فالعقل وعلومه ليس نهاية الطريق، وليس السفينة الوحيدة التي نملكها للإبحار في دروب المعرفة، ولكننا اخترناه أولاً لأنه الوسيلة التي يملكها كل الناس. أما الطريق الخاص الذي سنتحدث عنه، أي المعرفة بالروح، فهي الكنز الذي يختفي وراء عالم العقل. وهذه المعرفة وإن كانت لا تظهر لكل الناس، فإن الأدلة عليها ثابتة، ونتائجها ظاهرة للعيان، كما يمكن فهمها، ومعرفة الطريق الموصل إليها. وهذا ما سنحاول أن نقوم ببيانه. لفهم معنى وجودنا وحقيقته عن طريق الروح.
كنز العقل المكنون(1/86)
إذا كان قد عجز العقل عن فهم معنى الوجود، والطبيعة صامتة لا تتكلم فمن أين سنأتي بأجوبة على أسئلتنا؟. ولكن هل الفلاسفة أو العلماء وحدهم هم الذين يملكون الإجابة؟ وإذا كانوا قد عجزوا عن الإجابة على الأسئلة التي طرحوها خلال آلاف السنين فكيف ننتظر منهم الآن أو غداً أن يكتشفوا الحقيقة؟. أليس علينا أن نبحث عن الحقيقة عند من قالوا إنهم وجدوها، بدلاً من البحث عنها عند من قالوا إنهم ضيعوها؟. فمن هم هؤلاء الذين قالوا إنهم وجدوا الحقيقة؟. إنهم الرسل والأنبياء والأولياء. هؤلاء قالوا لنا أنهم وجدوا الحقيقة، ولم يكتفوا بذلك بل أخبرونا عن طريقة الوصول إليها، لنتأكد منها بأنفسنا. فما هو الطريق الذي حددوه لنا لكي نعرف الحقيقة. لابدَّ لنا لكي نعرف الطريق إليها من العودة إلى الكتب والتعليمات التي تركوها لنا فيما خلفوه من الكتب أو الرسائل أو غير ذلك من المعلومات المؤكدة التي لا نشك في نسبتها إليهم والتي أثبتت الدراسات والتحقيقات صحتها، لأن كل علم لا يُعرف إلا من المعلومات التي سجلها صاحبه، أو نقلها أصحابه. إذاً إن وسيلة المعرفة الوحيدة التي لدينا للإجابة عن الأسئلة التي عجز الفلاسفة عن الوصول إليها، هو طريق الرسل. وهو طريق لن نحكم عليه إلا بعد التجربة. ولكن هناك مشكلة في صحة المعلومات التي وصلت إلينا عن الرسل، ولابدَّ لنا لأخذ الصحيح منها من التمييز بينها بوضع قواعد صحيحة للحكم عليها وهي كما نرى حسب أهميتها:
1 ـ معلومات نقلت عنهم كما وردت على لسانهم. وهي أهم المعلومات التي يمكن اعتمادها.
2 ـ نصوص نسبت إلى الرسل بسند قوي. ومع ذلك فإن علينا أن نتعامل معها بالمقارنة مع النصوص الأصلية الصحيحة، فما اتفق معها نقبله وما خالفها نرفضه.(1/87)
3 ـ نصوص نُسبت إلى الرسل بسند ضعيف لانقطاع أو شبهة في تسلسل الرواة. ولهذا يجب أن نقارنها بالمنقول عنهم مباشرة فنقبل منها ما اتفق مع النصوص الأصلية الثابتة، ونرفض ما تناقض مع هذه النصوص.
4 ـ معلومات نقلت إلينا معاني كلام الرسل وهي أضعف النصوص ولا يمكن أن نحكم على صحتها إلا بالمقارنة مع شريعتهم. ولكن كيف سنقبل كلام جميع الرسل وهم متعددون؟
لابدَّ لنا من وضع أسس ومعايير لتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف بينهم، بالقياس للنصوص المنسوبة إليهم. وهذه النقاط يمكن أن نجملها بالآتي:
1 ـ لا يجوز أن يكون هناك أي تناقض في النص المنسوب لأي رسول، وإذا ظهر مثل هذا التناقض، مثلاً، نص يحرم السرقة، ونص آخر يبيحها، فإن هذا يدعونا للشك في صحة النص كله. ولكن هذا لا يدعونا إلى رفضه. ولكن إلى الحذر، وإلى قياس ما ورد فيه على نص رسول آخر، للكشف عن الصحيح من المزيّف. انطلاقاً من الإيمان بأن جوهر جميع الأديان واحد.
2 ـ إذا وجدنا أكثر من نص، ووجدنا بين هذه النصوص اختلافاً سواء بالكلام أو المعاني، فهذا يدل بأن الناقلين إذا صدقوا في نقلهم، فإنهم نقلوا لنا المعنى الذي فهموه، ولم ينقلوا لنا النص كما ورد على لسان الرسول، ولغته، وهذا يضعف ثقتنا بالنص. ولكنه لا يدفعنا إلى رفضه، وسيكون علينا أن نقارنه مع نص موثوق لرسول آخر إذا وجدنا اختلافاً في المعاني.
3 ـ بما أن كلام الرسل هو الوثيقة الأساسية المنقولة إلينا مباشرة من الله، فإن كلام الأنبياء والأولياء إذا كان صحيحاً فيجب أن يتطابق مع كلام الرسل، وشريعة كل نبي وولي يجب أن تكون من شريعة رسوله.(1/88)
4 ـ إن علينا لكي نتحقق من صحة كل نص أن نقارن المعلومات التاريخية والعلمية التي وردت فيه مع المعلومات التي توصل إليها العلم واتفق على صحتها. فإذا اتفقت المعلومات التي نقلها الرسل مع ما اتفق عليه العلم فإن هذا الاتفاق يؤكد صحة النص الذي وصل إلينا. وإذا اختلفت فإنه سيقودنا إلى الشك في النص كلّه، أو على الأقل في صحة المعلومة التي وردت بالنص، أو بصحة ما توصل إليه العلم. ويجب أن نعتبر المعلومات العلمية الصحيحة في أي كتاب هي دلالات وإشارات فقط على صحة ما ورد فيه، لأن هدف كل دين كان الإجابة على أسئلة الإنسان الكبرى، وتحديد الطريق المشروع للإنسان لأداء رسالته التي خلق لأجلها.
5 ـ إن الحقيقة بما أنها واحدة لا يمكن أن يختلف عليها من عرفوها. ولكن لابدَّ أن تختلف عباراتهم في توصيلها بالقياس إلى لغتهم وأدوات تعبيرهم. ومن الطبيعي أن يخاطب الله كل قوم بلغتهم لكي يفهموا الرسالة. ولهذا ستختلف الأساليب، ولن تختلف الحقائق ما دام مصدر الشرائع واحداً.
6 ـ بما أن كل رسالة دينية هي رسالة معرفية بالأصل، وإذا كان بالإمكان وجود عدّة طرق وأساليب للوصول إلى الحقيقة، فلا يطعن بصحة أي رسالة أن تكون في شريعتها غير مطابقة للشرائع الأخرى. إذ الغاية هي الوصول إلى الحقيقة. وإن وجود عدّة طرق وشرائع لا يتناقض مع الهدف.(1/89)
7 ـ إن مزايا كل شريعة إذا كانت كلها توصل إلى الحقيقة، ستكون في بساطتها وسهولتها. فإذا كانت الغاية هي النور، فإن الكهرباء في عصرنا هي الأفضل، وإن كان بالإمكان استخدام ضوء الكاز أو الشموع للإنارة، ومثل هذه الشريعة لا تلغي ولا تنكر فائدة الشموع أو ضوء الكاز، وإن كان عليها أن تدعو الناس لاستخدام الكهرباء لأنها الوسيلة الأفضل لحياتهم. فالحضارة هي ارتقاء بالمعرفة وليس بدونها، ولهذا لا يمكن أن يسبق عصر الشموع والكاز عصر الكهرباء. وكل عصر هو إنجاز وإكمال لما سبقه. والرسالات المعرفية يكمل بعضها بعضاً، وما دامت كلها وسائل لإيصال الحقيقة، فهي لا تختلف في الغايات، وإن تنوعت الوسائل والطرق.(1/90)
8 ـ بناء على الاعتراف بوحدة الحقيقة يجب أن يكون جوهر الأديان واحداً. ولابدَّ من مقياس نقيس عليه هذه الوحدة. ومثل هذا المقياس لا يمكن أن يتوفر إلا في النص الذي لا يشك في صحته لنقيس عليه ما نشك في صحته. وفي كل علم لابدَّ لنا من ميزان لنقيس عليه الأمور. فما هو الميزان الصحيح؟. للأسباب التي بيناها فإن النص الوحيد الذي يمكن أن نثق بصحته، لأسباب بيّنها المحققون وليس هذا مجال ذكرها، هو: 1ـ النص القرآني. 2ـ النص القرآني هو ميزان لقياس صحة الأحاديث النبوية عليه، وبهذا الاعتبار فالأحاديث النبوية الصحيحة هي الميزان الثاني. 3ـ الرسالات السماوية وأقربها إلى الصحة الأناجيل، وهي ميزان ثالث لقياس صحة التوراة عليها، لأنها كانت محاولة لتصحيح ما تعرضت له التوراة من تحريف. 4ـ التوراة بقبول ما يتفق منها مع مبادئ القرآن والأحاديث والأناجيل ورفض ما يخالفها. وإن نقاط الاتفاق بين الأديان الثلاثة واضحة وضوح الشمس. فالوصايا هي الجوهر، وما بقي غير الطريق أو الشريعة التي تؤدي لتحقيقها. فإذا كانت الشريعة لا تساعد على تحقيق الوصايا، فلن يكون هناك أي فائدة من الأمر بها، وعلينا أن نشك في صحة ما وصلنا منها، لأن الرسل لا يخطئون، ولا يخالفون الشريعة التي أمروا بها، فإذا كان المسيح قد حرّم الزنى، وقيل له "يا معلم، إن هذه المرأة قد أخذت في فعل الزنى. وقد سنّ لنا موسى في الناموس أن ترجم أمثال هذه [المرأة] فأنت ماذا تقول؟" فليس من المعقول أن يجيب "من هو فيكم بلا خطيئة، فليبدأ ويرمها بحجر" (يوحنا-8/3-7). فهذا تعطيل للشريعة التي أمر بها، وسوف يقول مثل هذا الكلام، اللص، والقاتل، وكل من يقترف ذنباً، وبذلك تصبح الشريعة مبرراً للفوضى والعدوان. بهذا المقياس نستطيع أن نميَّز بين الصحيح وغير الصحيح مما نسب إلى الرسل. وسوف نبيّن أهم الأسباب التي تدعونا لاختيار القرآن والحديث مرجعاً وميزاناً لقياس الشرائع عليها.(1/91)
ولكي نتجنب الجدل المتكرر حول صحة ما وصلنا من الشرائع. لأن الحقيقة واضحة لمن يبحث عنها، ويسعى إليها. لهذا فإننا سنكتفي بتوضيح أسباب هذا الاختيار.
القرآن والحديث مصدران للقياس
إن طبيعة البحث العلمي تتطلب من كل باحث النزاهة في الحكم، وبما أن غاية كل باحث هي المعرفة، فإن الباحث الذي يضع نصب عينيه هذا الهدف، لا يهمه من أين سيحصل على العلم، وإنما صحة العلم. وإذا كانت غاية الباحث هي الحقيقة من أجل الإنسانية، فإنه إذا لم يترفّع عن هواه وعواطفه وعقيدته، ويؤمن أن الحقيقة تستحق مثل هذه التنازلات، فإنه لن يوفق في الوصول إليها، وستنكشف تلفيقاته مهما كانت بليغة ومحكمة، كما سقطت قياسات السفسطائيين وبلاغتهم. ولهذا فإن البحث عن الحقيقة يتطلب العمل في فضاء مفتوح وعقل مفتوح، لا يقبل فيه الباحث إلا الحقائق. وثانياً: إذا كانت غاية الباحث إرضاء الله. فإن إرضاء الله يتطلب من المؤمن العمل بشريعته، وقد حرم الله في كل الشرائع الكذب، لأن الكذب كما إنه لا يفيد فإنه يضلل عن الحقيقة. وليس الله بحاجة لمن يشهد له شهادة مزورة لسببين.
1 ـ تحريمه شهادة الزور، ونحن إنما نشهد بين رسل نؤمن برسالتهم، ومثل هذا الإيمان يمنعنا من الشهادة لهم أو عليهم بغير الصدق. وثانياً لأن الله غني عن العالمين، وعن أبحاثنا التي لن يقبلها إن كانت لهوى أو عاطفة، أو شريعة وجدنا عليها آباءنا فاتبعناهم دون معرفة وإيمان. فالإيمان الحقيقي لا يبنى إلا على المعرفة. ولهذا فإننا نؤمن بصدق كل الرسل وبكل ما جاء على لسانهم، ونحن لا نتعرض إلا للبحث في صحة ما وصل إلينا منهم. وإن الذين وصلتنا شرائعهم كما نعرف هم موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. ومن بين كتبهم اخترنا الميزان الصحيح وهو القرآن والحديث لكي نقيس عليه صحة الشرائع، ونعرف منها الحقائق التي عجز العقل عن الإجابة عليها للأسباب التالية:(1/92)
1 ـ إن القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب السماوية الذي وصلنا كما أنزل، وكما سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وقد شهد أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين عاصروه بدقة تدوينه وكتابته كما أنزل، ولم يخالف هذا الرأي أي خليفة أو صحابي. وهم أدرى الناس بالقرآن، وفي موقع كل آية، وفي كتابة كلماته كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أمر بحذف حرف من كلمة أو زاد حرفاً في غيرها. مما يؤكد أنه الكتاب الوحيد الذي دوّن نصاً ولفظاً وترتيباً كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ومثل هذه الدقة في النقل لم تتح لأي كتاب آخر.
2 ـ لقد تحرى المسلمون حين كتبوا الحديث الشريف أن ينقلوه بلفظه كما نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بمعناه. وكانت لهم أساليبهم العلمية في تحري الدقة لفظاً ومعنى فيما دونوه. وهذا لم يتوفر أيضاً في تدوين كلام أي رسول. إذ وصلتنا التوراة بمعانيها، وبما فهمه الناقلون أو تذكروه بعد سبعمائة سنة، وهذا حال الأناجيل التي سعى كتابها لأن ينقلوا إلينا فيها معاني كلام المسيح بعد أن ضاع الأصل، وليس كلماته التي نطق بها. وهذا يعود لبعد الفترة بين عصر المسيح وكتابة الأناجيل.
3 ـ إذا قلنا بأننا نوافق على صحة الأناجيل أكثر من التوراة، فلأن الأناجيل متوافقة فيما شرعته أخلاقياً، بعكس التوراة التي تجمع بين دفتيها على تشريعات متناقضة لا يمكن التوفيق بينها. وهذا يدل بأن أيدي البشر قد امتدت إلى التوراة وعبثت بها وشوهتها. لأن شريعة الله لا يمكن إلا أن تكون واحدة في جوهرها، كما هي الحقيقة واحدة، وإن تعددت طرق الوصول إليها.(1/93)
4 ـ بما أن الأناجيل نقلت معنى رسالة المسيح عليه السلام ولم تراع كلماته، ولم تنقل إلينا النص كما ورد على لسانه فإنها لا تصلح للقياس عليها في حال وجود نص أصلي. بينما لم يراع كتاب التوراة صحة النص، ولا صحة المعنى دائماً. وهذا يجعلها غير صالحة للقياس مطلقاً. ولكننا نستطيع بالقياس على النص الصحيح أن نقبل منها ما يتفق مع النص الصحيح، وأن نخرج منها ما يخالفه من حيث المعنى. وهكذا نستطيع بوجود القرآن والحديث الشريف أن نحكم على صحة ما ورد في التوراة والأناجيل من حيث المعنى.
5 ـ إن ما يبيح لنا أن نقيس الأديان على بعضها هي وحدة أهدافها. فكل دين حدّد لنا ثلاثة أمور، مباح، ومحظور، ومسكوت عنه. وهذه الشرائع شملت أعضاء الإنسان التي وقع عليها التكليف وهي الأذن والعين واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب، بسبب قدرتها على التأثير في خواطر الإنسان. ولهذا كانت الوصايا واحدة في كل الأديان وهي ـ لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تكذب، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك، أحبب قريبك كنفسك. أنفق مما رزقك الله على المحتاجين. وإن أساس كل هذه الأعمال مبني على الإيمان بالله، ورسله، والحساب بعد الموت. هذا هو جوهر كل الأديان كما يمكن أن نلمسه في التوراة، والأناجيل. والقرآن. وإن الغاية من الشرائع هي مساعدة الإنسان على تنفيذ هذه الوصايا لتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة. ومن هذه الوحدة الجوهرية فيما وصلنا بالنص أو بالمعنى سيكون بإمكاننا أن نميّز بين الصحيح وغير الصحيح فيما وصلنا من رسالات الرسل، بالمقارنة مع 1ـ نص أصيل مقطوع بصحته وهو القرآن. 2ـ نص أصيل متفق على صحة بعضه ومختلف على بعضه وهو الحديث. 3ـ نص غير أصيل سنقيسه على الأصل.(1/94)
إن وحدة الأديان والأصالة هي التي تفرض علينا أن نقيس غير الأصيل على الأصيل. وليست العبرة في الكلام إلا لأن الكلمات إناء المعاني، وإذا ضاعت الكلمات ضاع المعنى. من هنا تكمن أهمية الأصالة، وأهمية النص. وإن وجود نص واحد متفق على أصالته هو الذي يفرض علينا أن نعتمد عليه لفهم العلاقة بين الله والإنسان، وأن نبين ما يقابله في التوراة أو الأناجيل كلما أمكن ذلك للكشف عن وحدة الأديان، وإن غاب عن كثير من المفسرين شهود تلك الوحدة الراسخة، التي يمكن أن تنسب لشريعة إبراهيم وآدم عليهما السلام.
إن هدفنا كما بيّنا بالأصل هو البحث عن الأجوبة التي عجز العقل عن الإجابة عليها، عند من قالوا إن لديهم الجواب بالاعتماد على نص صحيح يحمل إلينا الأجوبة عمَّا نبحث عنه. وليس هدفنا التمييز بين رسل الله ورسالاته، ونحن نشهد بوحدتها، ووحدة مصدرها، فهل سنجد الأجوبة لما نبحث عنه في القرآن والحديث، وما يقابلها في التوراة والأناجيل؟.
بين عجز العقل وطموحه(1/95)
لقد أخفق الفلاسفة المثاليون، كما تبيَّن لنا، في تقديم الدليل على الغائية الكونية عملياً، وإن أثبتوها نظرياً. كما أخفق الفلاسفة الماديون في إثبات نظرية الصدفة، وإن نجحوا في كسب كثير من المؤيدين لها. وفي النهاية اعترف الفلاسفة بعجز العقل عن معرفة ما حدث وما يحدث وراء الطبيعة، واقترحوا دوراً أكثر تواضعاً للفلسفة وهي مواجهة الواقع والتعامل معه فقط لأنه الحقيقة الوحيدة التي يستطيع العقل إدراكها. وظلّت الأديان وحدها في كل بقاع الأرض تدعو إلى الإيمان بالله خالق كل شيء، وتدعو إلى الإيمان بالحساب بعد الموت، وتعلن أن الكون يسير وفقاً لإرادة الله وحكمته. ولكن ما هو الدليل الديني على وجود هذه الإرادة الإلهية الخالقة والمريدة؟. هل يوجد دليل يمكن أن يدركه غير الرسل والأنبياء، وأن يلمسه البشر؟. إذا وجدنا مثل هذا الدليل سنكون قد حصلنا على الجواب وحلت المشكلة، أما إذا لم نجد هذا الدليل العملي، فسيكون قد أغلق الطريق. وما علينا إلا قبول الإيمان تقليداً وتصديقاً للرسل. وسيكون الفرق بين إيماننا وإيمانهم كالفرق بين المشاهد، وغير المشاهد الذي إن قبل الأخبار من المشاهد سيكون قد قبلها بناء على حسن الظن برواية الشاهد وصدقه. وهذا حال كل متلق لمعلومات أو أخبار لا يستطيع أن يتحقق من صحتها. ولكن الرسل خلافاً للفلاسفة حددوا لنا الطريق لمعرفة الله، وقد وضعوا كل إنسان أمام خيارين، فإما أن يقبل الأخبار والمعلومات التي أتى بها الرسل ويسلم بصدقها، وإما إن عليه أن يتحقق بنفسه من هذه المعلومات بسلوك الطريق الذي حدده الرسل، فما هو الطريق لمعرفة الله والتأكد من وجود غائية تقود مسار الكون وتتحكم في مصيره؟.(1/96)
لنضرب مثلاً على الحالة التي نواجهها. إن علماء الذرة اليوم يقولون إن المادة تتألف من ذرات تدور حولها إلكترونات، ونحن لا نشاهد الذرات، والعلماء لا يستطيعون أن يعرضوا علينا الذرة والإلكترونات وهي تدور حولها. وهذا يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما. فإما أن علينا أن نصدق ما يقوله العلماء، وأن نقبل شهادة بعضهم لبعض على صدق ما يقولون، لأن العلماء أدرى بالعلم الذي يدرسونه، وإما أن علينا إذا لم نصدق بما يقولونه وأردنا أن نتأكد بأنفسنا، فإنه لابدَّ لنا أن نرتقي بعقولنا إلى المستوى الذي وصلوا إليه بعلمهم لكي نعرف ما عرفوه، ولابدَّ لنا عندئذ من متابعة الدراسات التي تؤهلنا لمثل هذه المعرفة، وعلى يد معلمين يحسنون التعليم والتوجيه لتحقيق ما نصبو إليه. ولابدَّ لنا من النجاح في كل المراحل لكي نبصر ما أبصره العلماء، ولن تجدي الشهادات المزورة في الوصول إلى مستوى علماء الذرة للتأكد من طبيعة المادة وفهم تركيبها الذري. إذاً كل علم مجهول بالنسبة إلينا، علينا إما أن نقبله إذا شهد العلماء بصحته، أو علينا أن نتحقق من صحته بأنفسنا. وهذا التحقق لا يمكن أن يحدث إلا إذا بذلنا جهوداً مثل جهود العلماء لكي نصل إلى مرتبتهم المعرفية، وعند ذلك سنكون شهوداً على صحة معلوماتهم. وسيظل الشاهد بالنسبة إلى المكتشف تابعاً وإن عرف ما عرفه العالم. فالمكتشف هو الإمام في مجاله والشهود هم أتباع له في علمهم، وهم مثله في مقام العلم إذا علموا كل ما علمه، إلا أنهم لا يمكن أن يكونوا نسخة عنه في حياتهم وخصوصياتهم ومشاعرهم. إنهم في مقام العلم قد يكونون مثله إذا نجحوا في الإحاطة بجميع علومه، ولكنهم قد لا يكونون مثله بالحكمة.(1/97)
إننا على ضوء هذا المثل يجب أن ندرك بأن مقامات الرسل هي مقامات معرفية، وعلى من يريد أن يتحقق منها أن يسلك على الدرب الذي سلكوه، للوصول إلى الطاقة العقلية الكامنة وراء العقل الظاهر، وبمساعدة الحواس الكامنة وراء الحواس الظاهرة، لأن لكل حاسَّة ظاهرة حاسَّة باطنة لديها قدرات غير القدرات التي نعرفها عن حواسنا. وإذا نجح الإنسان في الوصول إلى هذا المقام المعرفي الشهودي الحقاني الذي يجتمع له فيه إدراك العقل وشهادة الحواس، فإنه سيدرك الحقائق إدراكاً عيانياً وعقلياً ولا مجال للالتباس أو الشك فيه، وسيكون حاله كما في ـ العلم التجريبي ـ عقل يحكم وحواس تشهد. ولذلك سماه أهل المعرفة مقام عين اليقين. وعنده ستطمئن النفس وتسلم لخالقها، وستفهم حقيقة الوحي، وتؤمن بما جاء به الرسل وإن لم تتوصل إلى الإحاطة بعلومهم، وستدرك حقيقة مقام كل رسول بالقياس إلى معرفته وعلمه، وإن كانوا متساوين من حيث إنهم رسل الله. ولكن لما كان لابدَّ من وصول المعرفة بالله إلى كمالها، لذلك سيكون كمال المعرفة من نصيب الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذه المعرفة سيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخاتم سيد أبناء آدم، وستظل رسالته هي الباقية إلى قيام الساعة سواءً آمن بها الناس أو لم يؤمنوا، لأنه لا نبوة بعده. إذ سيقوم بمقام الرسول الدائم الرسالة التي حملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للبشرية وهما القرآن والسنّة. ولكن كيف نستطيع أن نختار الطريق للتحقق من هذه المقامات المعرفية؟. إنها المعرفة بالروح. ولكن قبل أن ننتقل إلى بحث مسائل الروح، سنقدّم بحثاً عن حدود حكمة العقل باعتماد الفكر الأفلاطوني كنموذج، على اعتبار أنه يمثل قمَّةً من قمم الإدراك بالعقل، وكذلك بعض إشراقات الروح. ولأن فكره يمثل تياراً ما زال له أنصاره.(1/98)
ورغم أننا لا نريد أن نقلِّل من أهمية أفلاطون في هذا البحث، حيث سنجد كثيراً من الآراء التي قالها تنطبق على عصرنا، والحكمة ضالة المؤمن. إلا أن أبحاثه العقلية رغم أهميتها، ستكشف لنا عن الفرق بين حكمة العقل وحكمة الروح.
حدود الحكمة العقلية في الدراسات الأفلاطونية
ربّما، لو حاولنا أن نبحث فيما وَصَلنا من الثقافة العقلية القديمة عن أعمق الفلسفات وأفضلها، لن نجد بين الفلاسفة أفضل من أفلاطون (427-347 ق.م) بالقياس إلى ثقافة زمنه، والوسائل المتوفر منها، وبصيرته النافذة في عصره وعصور قادمة والتي تكشف عنها آراؤه في دول العقل، وأنواع الحكومات، وطبيعة كلِّ نظام سياسي ومزاياه. وهذا العمق في فهم المشكلات الإنسانية الذي لم يبلغه أي فيلسوف في عصره، هو الذي يدفعنا لعرض وجهات نظر أفلاطون في النظام السياسي الأمثل، لكونه يمثل إلى حدٍّ بعيدٍ قمَّة حدود الإدراك العقلاني للضرورات والحاجات الإنسانية. وإنَ دراسة حدود هذا الإدراك ومقارنته بالفهم الروحي لنفس المسائل سيكشف لنا عن الفرق بين مقتنيات العقل، ومقتنيات الروح، وفهم كل منهما للمشاكل الإنسانية، والحلول التي سيبني بهما كلاهما جمهوريته الفاضلة. ولا خلاف بين الفريقين على بناء هذه الجمهورية، ولكنَّ الخلاف هو في الأسس التي سيقوم عليها كل بناء، وهو خلاف ما زال قائماً في عصرنا، ويفرض علينا أن نتعامل معه كأمرٍ واقعٍ لابدَّ منه، وإن كانت نتائجه الظاهرة للعيان تدفعنا بالضرورة للطموح إلى الجمهورية المثلى التي لا تأكل فيها الحروب خبز الإنسان ومأواه ومستقبله. وإذا كان لابدَّ من دوام هذا الخلاف، فليكن، ولكن بصلح كصلح الحديبية بين الفرقاء، لفتح باب الحوار بدلاً من إطلاق النيران فمن يدري؟ ربَّما سيكون عدو الأمس صديقاً. وحتى إذا لم يتحوَّل إلى صديق فلا حاجة للتفكير في قتله أو إكراهه على الإيمان، بما يؤمن به كل فريق.(1/99)
وأن من مصلحة الإنسانية تفويض الأمم المتحدة بحلِّ الخلافات بين الشعوب وفقاً لمعايير واحدة، بهدف نشر رايات السلام العادل فوق كل ربوع الأرض لإتاحة الفرصة أمام كلّ شعب للتسابق مع الآخرين على بناء جمهوريته الفاضلة في جو السلام والأمن. ولابدَّ لتحقيق هذه الأهداف من وقف سباق التسلح، وتحويل كل الأسلحة إلى مناجل وهو أمل قديم وحلم من أحلام البشرية يجب تحقيقه بعد أن توفّرت كلّ الإمكانات المادية، ونضجت كل الظروف لإنجازه. ولكن ما يلزمنا هو توفر الإرادة العملية لتحقيقه، لأنَّ أبسط الأشياء يحتاج إنجازها إلى جهودنا، وإن كلّ طريق لابدَّ لنا من تسخير أنفسنا وجهودنا من أجله قبل أن يصلح للسير عليه. وربما إنه من الغريب، بل والعجيب أن يفشل قادة، من المفترض أنهم حكماء العالم، في صنع السلام، وأن يستمروا في صنع الحروب والتخطيط للحروب القادمة، بإنتاج مزيد من الأسلحة، رغم أنهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن تكلفة السلام أقل بكثير من تكاليف الحروب، وإنّ موارد الأرض تكفي لإطعام أضعاف عدد السكان الراهن. ولكن هل هو مرض قابيل وذريته الذي قتل أخاه رغم سعة الأرض في ذلك الزمان الذي كان يستطيع فيه قابيل أن يتصرف بقارة كاملة دون أي معارضة. لهذا السبب ستظل الجمهورية الفاضلة ممكنة التحقيق. فماذا أعدَّ لها أفلاطون؟ وكيف رسم معالمها بريشته؟ وهل ستلتقي قمة الحكمة العقلية أي الفلسفة مع الشريعة كما رأى ابن رشد.
المدينة الفاضلة:(1/100)
إنَّ المدينة الفاضلة، التي دعا أفلاطون مجتمعه لإقامتها، أو تلك التي يمكن أن تستمد تشريعاتها من الوحي، لا يعني أنّها ستخلو من الشر، لأنَّ الشر لا يمكن إزالته من العالم، وهو جزء أصيل في الطبيعة البشريّة. وإنما يعني أنّ النظام الفاضل سيلاحق الأشرار ويحاكمهم محاكمة عادلة دون أي مراعاة أو محاباة لموقع الشرير أو منصبه. ومثل هذا النظام ستكون قوانينه سارية على كافة المواطنين، وإن اختلفت مواقعهم في الحياة العامة أو أدوارهم في عملية الإنتاج. وبتجسيد مبدأ المساواة العامة الحقيقي لا يجوز أن تكون السلطة أداة لتحقيق المزايا والمكتسبات، ولا أن يكون المال وسيلة لاستعباد الناس واستغلالهم. ولكن هل بالإمكان بناء مثل هذه الدولة الخالية من القهر في عصرنا، الدولة التي لا يتصرف فيها الحاكمون كعصابة لسرقة أموال الأمة والأمم الأخرى بالتعاون مع الشركات الكبرى، وإن تركوا للناس حق الصراخ، كما يحدث في النظام الرأسمالي. أو كما يحدث في الدكتاتوريات التي تستبيح أموال المواطنين ودماء كل المعارضين، وتتحوّل الدول على أيديهم إلى شركة عائلية، ليس للمواطن فيها أي حقوق، ولا حتّى حق الحياة؟. هل ستقودنا جمهورية أفلاطون الفاضلة إلى المساواة والحرية ولو نظرياً؟.(1/101)
إنَّ أفلاطون ببصيرته النافذة سيضع أمامنا صورة للأنظمة السياسية التي تمثّل كل واحدة منها مستوى من الطبيعة الإنسانية "في الفرد ثلاثة عناصر هي العقلي والغضبي والشهوي، يقابلها في الدولة الحكام والمنفذون والمنتجون"(1). ولكنه سيعود لتقسيم عناصر النفس الإنسانية تبعاً لوظائفها قائلاً "ندعو علم النفس الذي به تعقل ـ القوّة الذهنيّة ـ والقسم الذي به تجوع وتعطف وتختبر تقلّب الرغبات الأخرى نلقّبه بلقب غير العقلي أو القوّة الشهوية وهي حليفة اللذّة والانقياد"(2). ولكن ما هو موقع القوّة الغضبيّة ودورها "فهل المبدأ أو القسم الذي به نغتاظ ثالث متميّز عنهما؟ وإلا فإلى أيّ القوّتين هو أميل بطبيعته؟"(3). سيقرر أفلاطون أنَّ "في النفس كما في الدولة ثلاث قوى متمايزة هي: المفكّرة والمنفّذة والمنتجة. يقابلها في النفس ثلاث قوى، ثالثتهما الغضبيّة، حليفة الذهن الطبيعيّة ما لم يُفسِد بناء النفس سوء التربية"(4). فالعوامل التي ستوجّه تصرّفات الإنسان هي النفس وهي القوّة الناطقة بلسان الغرائز. أو العقل وهو القوّة المفكّرة التي ستتّخذ القرار في الاستجابة لطلبات النفس أو رفضها وفقاً لموازينه الخاصّة. بينما ستكون القوّة الغضبية أو الهوى أو الحماسة كما يمكن أن نسميها العنصر الفعّال في ترجيح كفّة إحدى القوّتين، ذلك لأنَّ العقل لا تتغيّر أحكامه، فالكذب لا يقبله العقل وإن برّرته المصلحة، والنفس لا تتغيّر طلباتها، وهي عندما تطلب الطعام لا يهمّها إن كان حلالاً أو حراماً، كما لا يتغيّر طعمه لهذا السبب. ولهذا فإنّ من سيحسم الأمر عند تقابل حكم العقل وحكم النفس وتضادهما، إنّما هي العاطفة، الهوى، بالانحياز إلى العقل أو إلى النفس. ولكن ما هو سبب الانحياز السيئ أحياناً؟ إنّه "سوء التربية" كما يقرر أفلاطون.(1/102)
وبما أنّ التربية لا تخاطب النفس وإنّما تخاطب العقل فإنّ المشكلة الرئيسيّة ستنجم دائماً عن عجز العقل وضعف مقاومته للإغراءات التي ترغب النفس في الوصول إليها. وبما أن الدولة بطبيعتها مماثلة لطبيعة الإنسان، لهذا فإنّ الدولة الصالحة هي التي تخضع لأحكام العقل وقراراته. ولكن أيّ عقل هو الذي يجب أن يحكم ما دامت العقول مختلفة؟ سيقول أفلاطون إنّه الفيلسوف، لأنّ الناس ولو كانت لهم عقول جميعاً، إلا أنّ الإدراكات العقلية تختلف من فرد لآخر، ولهذا فإنّ العمّال يمثّلون قوّة النفس الشهوية، والجنود الذين يدافعون عن الدولة يمثّلون القوّة الغضبية، أمّا الفلاسفة فهم يمثّلون سلطة العقل. وبما أنّه لا يمكن إلغاء عناصر النفس الإنسانية التي تسبّب الشر الناجم عن الجهل، كما لا يمكن تحويل الناس كلّهم إلى فلاسفة، فإنّه لابدّ لإيجاد نظام عادل من التنسيق بين قوى الإنسان الثلاثة بإعطاء كل واحدة وظيفة في عملية بناء الدولة "إنّ ما يجعل الدولة عادلة هو التزام كل من أقسامها الثلاثة عمله"(5). ولهذا سيكون "من الجوهري أن يكون الحكم في قبضة الذهن لكونها حكيمة، فتقوم بتدبير مصالح النفس كلّها، وتكون مملكة الحماسة في النفس بمثابة حليفة ورعيّة"(6). ولهذا يستنتج أفلاطون بأنّه "لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الإنساني، ما لم يملك الفلاسفة أو يتفلسف الملوك والحكام، فلسفة صحيحة تامّة. أي ما لم تتّحد القوّتان السياسيّة والفلسفيّة في شخص واحد. وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوّتين"(7). إنَّ أفلاطون سيشبّه الدولة بالسفينة لبيان الخطر المحدق بها في حال تسلّط القوى غير العقليّة عليها، ولهذا سيقول لمحاوره "تأمل ماذا تكون النتيجة إذا انتقينا ربابنة السفن باعتبار ثروتهم، دون جدارتهم الفنيّة، ورفضنا ذا الجدارة في الملاحة لفقره... أفتستثنى الدولة من هذا الحكم، أم ترى أنّه يشملها؟"(8).(1/103)
إن الدولة التي لا يقودها العقل ستسود فيها الفوضى لأنَّ القسم الغضبي أو الشهوي سيقوم بدور العقل، وهو عمل لا يناسبهما ممَّا سيؤدي إلى مرض الدولة، كما يمرض الجسم باعتداء عناصر النفس على بعضها "هذه الظاهرة في النفس كظاهرة الصحّة والمرض في الجسم"(9). وهي ستنشأ "عن تنازع ناشب بين القوى الثلاث، تنازعاً به تتعدّى هذه القوى حدودها، وتتدخّل فيما ليس من اختصاصها"(10). إنَّ الدولة مثل الإنسان ستمرض إذا لم تقم كل قوّة بوظيفتها خير قيام. ولهذا لابدَّ من تحكيم العقل في الدولة التي تسعى لتحقيق سعادة شعبها، أو في الشعب الذي يريد السعادة لنفسه. وبناء على حكم فلسفة العقل، فإنَّ أفلاطون سيضع الأسس النظريّة لهذه الدولة.
قوانين دولة العقل:(1/104)
إنَّ أفلاطون سيرفض في دولته الفاضلة أي أساطير تمسّ بمكانة الألوهية كما يفهمها فالدولة بالنسبة إليه لكي تكون صالحة لابدَّ أن تؤسس على الإيمان بالله "كل حروب الآلهة التي رواها هو ميرس، يجب حظرها في دولتنا"(11). لأنَّ الواجب أن "يوصف الله في كل حال على ما هو في ذاته. سواء كان ذلك في الشعر القصصي أو الغنائي أو الروائي، هذا هو الحق... فلا نسند الخيّرات إلى غيره، بل نفتّش عن علّة الشرور في غيره لا فيه"(12). "فالله تعالى كليّ النقاوة والحق في القول والفعل، فلا يغيّر ذاته، ولا يخدع الآخرين، لا بالرؤى، ولا بالظواهر الخادعة، في يقظة ولا في منام"(13). إنَّ الله في مفهوم أفلاطون هو "علّة الخير"(14). ولهذا يرفض "الادّعاء أنّ الإله الصالح علّة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوّة. لأنَّ المبدأ الذي تتضمنّه أسطورة كهذه شعراً أو نثراً، لا يقال ولا يسمع في المدينة، ولا يبيحه من يروم خير الدولة وارتقاءها شيخاً كان أو فتى. لأنَّها أقوال تنافي طهارة الحياة. وهي ضارة ومتناقضة"(15). لقد شاهد أفلاطون ببصره في زمنه، وببصيرته المستقبل، وما سيؤدّي إليه التجديف على الله، والإلحاد من أخطار على المجتمع، حيث سيصبح كل شيء مباحاً عندَ من لا يؤمن بالله. وإن كتابات تلك المرحلة التي عاصرها أفلاطون تدلّنا بأن الشعب اليوناني كان يعتقد بتعدّد الآلهة كما تدلّ على ذلك الأساطير، وكان يؤمن بالحساب بعد الموت. ولكن الأساطير كانت تَنسب كثيراً من أعمال الشر والغدر إلى الآلهة، كما في الإلياذة والأوديسة، وقد أراد أفلاطون أن يصحح مثل هذه القصص التي لا تليق بالآلهة، وأن يمنع نشرها وتداولها، ليس لأنّها تسيء إلى الآلهة فقط بل لأنها تسيء إلى المجتمع، لأنّه إذا كانت الآلهة تخدع وتغدر وتكذب، كما تقول الأساطير، فإن المجتمع سيقتدي بها ما دامت الآلهة هي مَثَلَه الأعلى.(1/105)
ولهذا سيمنع أفلاطون في جمهوريته مثل هذه القصص غير الصحيحة في نظره، لأنَّ الله هو علّة الخير، وإنّه "لو كان تغيره تعالى ممكناً فلا يمكن أن يكون ذلك التغيّر إلى مَثل أدنى. لأننا لا نقدر أن نقول بوجه من الوجوه أنَّ فيه تعالى شيئاً من النقص جمالاً وسموّاً"(16). إنَّ أفلاطون لا يقدم هذه الآراء لشعوره بحاجة مدينته لفكرة الله والحساب بعد الموت، بل لاقتناعه بوجود إله صانع للكون، وبأنّ هذا الإله الذي يُجسِّد الكمال والجمال والخير لا يتغيّر لأنّه لا يوجد من يؤثر عليه كي تتغيّر صفاته، وهو المؤثّر على الأشياء: "إنّ الله جوهر بسيط فلا يتكيّف، ولا يخرج عن المظهر اللائق بذاته "لأنَّه كما قال لمحاوره "إذا تغيّر كائن عن شكله العادي، أفليس بالضرورة أنّ ذلك التغيّر قد حصل، حتماً بفعله هو، أو بتأثير آخر"(17). وبما أنّه لا يوجد فاعل مؤثّر على الله، وإذا تغيّر الله فبفعل من ذاته، لهذا فإنَّ الكامل لا يقبل النقص، وعلَّة الخير، لا يرضى بأن يكون علَّة الشر. ولهذا سيقرر أفلاطون في جمهوريته أن "أولى الشرائع الإلهية، التي توجب على خطبائنا ومؤلفينا أن يطبقوا خطبهم وتآليفهم عليها، هي أنَّ الله تعالى صانع الخير ليس إلا" وسيقول له محاوره: "ولقد أقمت الدليل القاطع على صحتها"(18). إنَّ الألوهية عند أفلاطون هي حقيقة قائمة لا يجوز إنكارها، بل إنّه آمن بإله واحد لأنه "جوهر بسيط، فلا يتكيّف" وهو لذلك لا يتعدد، وإنه سيؤكد هذا الاعتقاد في كتبه الأخرى، ((السفسطائي)) و((طيماوس)) و(الفيلفس)) و((فايدروس)) و((المأدبة))، كما أنه سيقول بأن النفس الإنسانية خالدة، وبسبب هذا الخلود سيكون نصيبها السعادة أو الشقاء تبعاً لأعمال صاحبها. ولذلك فإنَّ أكبر النعم التي ستحققها النفس الواعية لمصيرها، ستكون في تجسيد روح الألوهيّة بحبها للخير.(1/106)
وهذا ما يكشف عنه الحوار في ((ثياتيتوس)): "إنَّ عقوبة الظلم ليست مجرد آلام جسدية أو موت قد يحدث أحياناً أن يفلتوا منه بل هو عقاب واقع لا مفرَّ منه.
ثيودورس: وأي عقاب تقصد..؟
سقراط: هناك نموذجان منه يا صديقي يوجدان في عالم الحقيقة: الأول إلهي سعيد أمّا الثاني فخلو من روح الإله، كلّه تعاسة. وهم لا يتبينون ذلك لأنّ شدة جهلهم تمنعهم من الإحساس بأنهم إنما يتشبّهون بالمثال الثاني حين يرتكبون الظلم ويبعدون عن المثال الأول وحياتهم بأكملها التي تشبه النموذج الثاني عقاب لهم" ثياتيتوس- 19). إنّ أعلى مستويات السعادة ستتحقق للإنسان بتخلقه بصفات الألوهيّة التي لا يصدر عنها إلاّ الخير، وإن أشدّ أنواع التعاسة ستكون من نصيب مَن لا يجسّدون مثال الخير الأعظم، وستزداد تعاستهم بقدر بعدهم عنه، لأنّ نفوسهم ستخلو عند ذلك من روح الألوهية. إنّ أسباب هذا الحكم تعود لاقتناع أفلاطون بقدرة الإنسان على الاتصال بالروح الإلهيّة، بل لأنّه يعتبر هذا الاتصال والتواصل هو الهدف الأسمى الذي يجب أن يسعى إليه البشر لتحقيق سعادتهم. حتى الحبّ الجسدي عند أفلاطون لا يمثل إلاّ مرحلة متدنية في حياة غير الحكماء، ولهذا السبب ستكون نظرته إلى العلاقة بين الجنسين في الجمهورية كإنجاز لعمل لا يعلق عليه أهمية كبيرة إلاّ بقدر ما هو ضروري لتنظيم العلاقات الاجتماعية بما يخدم المدينة الفاضلة. أمّا الحبّ الحقيقي فهو حب الحكمة وحبّ الروح التي تُمثّلها، أي الله، لأنّ كلّ إبداعات البشر هي فروع مستمدة من الأصل. ولهذا سيفاجأ الذين يبحثون في ((المأدبة، فلسفة الحب)) عن الحبّ الجسدي حيث سيجدون أنفسهم هدفاً للنقد، وفي موقع مُتدنٍ روحياً "كلّما ارتقى الإنسان زاد حبه للخلود، وقوي الدافع إليه، أمّا أولئك الذين تتجه غريزتهم الخلاّقة اتجاهاً جنسياً يجعلون همَّهم النساء، ويكون حبّهم جنسياً محضاً.(1/107)
وتراهم يحسبون أنّهم يضمنون لأنفسهم الخلود بإنجاب الأطفال. ولكن هناك غيرهم تكون ميولهم الخلاّقة روحية، ويحملون بالروح لا بالجسد، ويخلقون ذريّة روحيّة، وأزيدك بأنّ هذه الذريّة هي الحكمة والفضيلة عامة، فالشعراء وأصحاب الحرف الذين يبتدعون أشياء يستحقون من أجلها أن يسمّوا مبدعين وخلاّقين. ولعلّ أعظم وأشرف فرع من فروع الحكمة هو الذي يتناول تنظيم الدولة والأسرة وهو الاعتدال والعدل" (20). إنّ ما قدّمه أفلاطون يكشف عن سبب كتابة الجمهوريّة، وعن مفهوم الحب كحب روحي ليس فيه للجسد إلاّ دور الوسيط للانتقال من الصنعة إلى الصانع، من الصورة إلى المعنى "يبدأ المرء بنماذج الجمال في هذا العالم يجعلها درجات يرقى بها جاعلاً غايته ذلك الجمال الأسمى المطلق من نموذج للجمال الحسي إلى نموذجين ومن نموذجين إلى الجمال ككل، ومن الجمال الحسّي إلى الجمال الخلقي، ومن الجمال الخلقي إلى جمال المعرفة، ومن المعرفة بفروعها المختلفة إلى المعرفة المطلقة التي يكون موضوعها الوحيد الجمال المطلق فيعرف آخر الأمر ماهيّة الجمال المطلق... في ذلك المكان لا في غيره ينبغي للمرء أن ينفق عمره يا سقراط في تأمّل الجمّال المطلق... كم تكون سعادة الرجل الذي يحظى برؤية الجمال المطلق، ويطلع على ماهيّته طاهراً لا يدنّسه دنس، ونقياً لا تشوبه شائبة، بدلاً من الجمال الذي يشوبه ويدنسه لحم الإنسان وألوانه، وهو كتلة من المادّة القذرة الفانية. من يصل إلى هنا يستطيع أن يدرك الجمال الإلهي حيث يوجد بمعزل عن كلّ شيء، وحيداً فريداً. أتحسب أنّ حياته تدعو إلى الشفقة والرثاء؟. ألا ترى أنّه في ذلك المكان وحده الذي يرى الجمال المطلق بالملكة التي يمكنه رؤيته بها ألا ترى أنّه يستطيع الإتيان ليس فقط بصور منعكسة للخير بل بالخير الحقيقي، لأنّه لا يتّصل بظلّ الحقيقة ولكن بالحقيقة ذاتها؟.(1/108)
وإذا ما جاء بالخير وربّاه أصبح أهلاً لحبّ الله ويتحقق له الخلود إن كان من الممكن أن يظفر آدمي بالخلود" (21). هذا النص يكشف عن اعتقاد أفلاطون بإمكانيّة اتّصال الإنسان مع الله. وفي نصّ آخر سيبيّن كيف يمكن أن يكون الإنسان وسيطاً لنقل الرسائل الإلهيّة "بالملكة التي يمكن رؤيته بها"؟ وهي بالروح. فما هو الحب إذاً؟ وما هو دوره في حياة الإنسان؟ ستجيبه ديوتيما العرّافة ـ مَنْ يعرف ـ إنّه روح عظيم يا سقراط وكل ما من قبيل الروح فهو وسيط بين الآلهة والبشر.
سقراط: وما هي وظيفته؟:(1/109)
ديوتيما: هو أن يترجم للآلهة وينقل إليهم ما يصدر عن البشر ويترجم للبشر وينقل إليهم ما يصدر عن الآلهة، صلوات البشر وقرابين وأوامر الآلهة وحسن جزائها على ما قدّم من قرابين، ومن جهة أخرى حيث كانت الأرواح وسطاً بين الآلهة والبشر فإنّها تملأ ما بينها من فراغ، وتربط أطراف الكل في واحد. وهي الوسيط لجميع النبوات ولفنون الكهنة الخاصة بالقرابين والتلقين والرقى وجميع ضروب العرافة والسحر. ومع أنّ الإله لا يمتزج بالإنسان فقد يمكن الاتصال والتحادث بينهما عن طريق هذه الروح، إنْ في اليقظة أو في النوم ويسمى العارف بهذه الأمور رجلاً روحانياً، على حين يسمى العارف بالأمور الأخرى المتصلة بالفنون أو الحرف صانعاً. وثمّة أرواح كثيرة وهي ضروب مختلفة، الحبّ نوع منها" (22). إنّ اعتقاد أفلاطون بإمكانية اتصال الإنسان مع الله يفتح أمامنا نافذة جديدة لفهم رأي أفلاطون بنفسه ودوره، فهل كان ناقلاً للأفكار الناجمة عن "الاتصال والتحادث ـ مع الله ـ بالروح"؟. أفلاطون لن يقول شيئاً عن هذا الأمر الغامض، ولكن من يستطيع أن يدّعي إمكانية الاتصال مع الله غير العارف به والمتذوِّق له..؟ إنّ علاقة أفلاطون مع أستاذه سقراط ستكشف عن هذه المسألة الغامضة في موقف أفلاطون، فإذا كان أستاذه قد اعتقد بأنّه يطيع الله فيما يتصرف به وهو بين أيدي قضاة يتوقع منهم أن يحكموا عليه بأقسى العقوبات لاختلافه معهم حول مفهوم العبادة والآلهة، فإنه لابدّ أن يكون لدى سقراط مثل هذا الوعي أو الظن بإمكانية الاتصال مع الله، وبأنّه ينفّذ أمره، وإلاّ ما كان سيعرض نفسه لحكم الإعدام.(1/110)
ففي دفاعه عن نفسه قال للأثينيين: "إذا أنتم برأتموني على هذه الشروط فإني مجيبكم بالتالي: إنّي أعزَّكم أيّها الأثينيون وأحبكم، ولكنّي أطيع الإله أكثر مما أطيعكم، وطالما بقي فيَّ نفس وكنت قادراً على ذلك، فلن أتوقف عن التفلسف وعن حثّكم، موضحاً في كل مناسبة لمن ألقاه في طريقي منكم، ومتكلماً على الطريقة التي اعتدّت عليها" (23). ما هو معنى هذا الدفاع الذي نقله أفلاطون عن أستاذه، وآمن به، وأعاد التأكيد عليه في كتبه..؟ ألا يُفسِّر حقيقة شعور أفلاطون بالاتصال مع الله، وبأنّه يترجم للبشر أوامره..؟ وبذلك ستغدو الجمهورية دولة دينيّة بكل معنى الكلمة، مما يفسر طبيعة النظام المقرر والغاية منه، في دولة وإن كان دينها العقل، إلاّ أنّ الفلاسفة الذين سيحكمونها يتلقون من الله بالروح ما يجب عمله لشعبهم. لذلك لن يكون هدف أفلاطون حرية الناس كما تفهمها الأمم الغربية في نظامها الرأسمالي، وكما ظنّ فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) مستنداً على تحريف الروح الأفلاطونية، أو سوء فهمه لها، حيث سيمثّل النظام الرأسمالي في وعي أفلاطون، سواء في إطلاقه للحريات الفردية والاقتصادية مرحلة من ـ انحطاط التاريخ ـ الذي سيقود إلى الديكتاتورية، وليس نهاية التاريخ وكماله.(1/111)
إنّ أفلاطون يريد أن يبني دولة العقل والحكمة القادرة على الأخْذ بيد البشر إلى السعادة بوضع كلّ مواطن في العمل الذي يتناسب مع إمكانياته، وليس بتسليم قيادة السفينة إلى أعمى لأنّه أكثر ثراء، كما يحدث في النظام الرأسمالي. ولهذا سيرفض أفلاطون في جمهوريته كلّ أشكال الانحطاط التي تنشرها الآن الرأسمالية في الحضارة المعاصرة. إنه سيرفض الإلحاد. وكلّ أشكال الثقافة المنحطة من شعر وقصص وموسيقى وكل ما يقود إلى الانحلال الخلقي والتخنث، مما يعني أنّ الرأسمالية المعاصرة لو أتيح لها أن تحاكم أفلاطون فإنّه لن ينجو من الحكم عليه بالإعدام، لأنّ من شروط الحكم الصالح "قمع اللذات التي تستلزم استرسالهم ـ أي المواطنين ـ في الطعام
والشراب (24). وهذا يتعارض مع رأسمالية الاستهلاك والأكل والإباحية. كما أنّ أفلاطون سيُحَرِّم الغشَّ في جمهوريته "ولا يُسْمَح لأحدِ رجالنا أن يقبض رشوة أو يكون محبّاً للمال" (25). كما إنه سيقيم رقابة على الفنون "تشمل أساتذة كلّ فن فنحظر عليهم أن يطبعوا أعمالهم بطابع الوهن والفساد والسفالة والسماجة، سواء في ذلك رسوم المخلوقات الحيّة، أو الأبنية، أو أي نوع آخر من المصنوعات. ومن لا يستطيع غير ذلك فننهاه عن العمل في مدينتنا، لكي لا ينشأ حُكَّامنا في وسط صور الرذيلة نشوء الماشية في مراعٍ رديّة، فتتسرّب الأضرار إلى نفوسهم فتفسدها، بما تلتهم يوماً فيوماً من الأقوات في مختلف المواقع. فيجتمع في نفوسهم مقدار وافرٌ من الشرِّ وهم لا يشعرون. وعلى الضدِّ من ذلك أولاً يجب علينا أن نستدعي فنيّين من طراز آخر، فيتمكّنون بقوة عبقريتهم من اكتشاف أثر الجودة والجمال. فينشأ شبابنا بينهم كما في موقع صحي، يتشرّبون الصلاح من كلّ مَرْبَعٍ تنبعث منه آي الفنون، فتؤثّر في بصرهم وسمعهم كنسمات هابّة من مناطق صحية، فتحملهم منذ حداثتهم،(1/112)
دون أن يشعروا على محبة جمال العقل الحقيقي، والتمثّل به، ومطاوعة أحكامه "(26). ولهذا سيحدد المباح من الآلات الموسيقية والأنغام بما يساعد على الرقي الخلقي وتنمية المشاعر الجمالية "يجب أن يُسنَّ لهم نظام شديد التدقيق في الأغاني والألحان، والآلات الموسيقية فلا يسلّم لأمة كاملة آلات موسيقية تُنشئ فيها الرخاوة وتثبط العزائم. فيحظر عليهم كل الآلات الموسيقية، إلاّ العود والقيثارة والزمر. ويحظر عليهم أيضاً كل الألحان المركّبة والبسيط من هذه هو المباح لهم. وغرض كل هذه القوانين هو أن يتربّى ويرتقي في عقول التلاميذ الشعور بالجمال والاتساق والاتزان، وهي صفات تؤثر في سجيتهم وفي علاقاتهم المتبادلة (27). إنّ التدريب على الموسيقى سيستمر مدى الحياة كالرياضة، ولكن "الموسيقى يجب أن تنتهي في محبة الجميل" (28). أي المعنى الروحي للجمال، لا الصورة، ولا ما يثير الغرائز ويدفع إلى شرب الخمور، الذي لا يُحبّذه أفلاطون وخاصة للحكام "لأنّ الحاكم، على ما أرى، هو آخر شخص في الدنيا يباح له أن يشرب فيفقد صوابه" (29). إنّ أفلاطون لا يريد أن يبني مدينة محاطة بأجهزة البوليس والمحاكم والمستشفيات بترك الحبل على غاربه للفاسدين والمفسدين. إنه يريد أن يؤسس لحماية المجتمع من الأمراض، والتقليل من الحاجة إلى الدواء، لأنه "إذا انتشرت في المدينة الأمراض وصور الفجور أفلا نضطرّ لإنشاء المستشفيات والمحاكم" (30). إن الحماية من الداء أفضل من المعالجة بالدواء، ولهذا لابدّ إضافة للقضاء العادل والرياضة والموسيقى من وضع برنامج تعليمي لتهذيب النفوس لأنه "إذا لم يتغذَّ ذلك الذوق باكتساب المعرفة، أو طلب العلوم، ولم يشترك في المباحث العقلية ومنازع العرفان، ألا تضعف نفسه فيصبح أصم وأعمى البصيرة لافتقاره إلى المنبهات، والغذاء الروحي... فيصبح رجل كهذا أمّيّاً..(1/113)
يهجر كل ما هو من ملكوت العقل، ويعمد إلى حلّ مشاكله، كالوحش الضاري، بالقوة والخشونة، ويعيش بالجهل وسماجة النفس بلا اتزان ولا جمال" (31). كما إنّ دولة الحكمة والشجاعة والعفّة والعدل التي يريدها أفلاطون، لا يصحّ فيها توريث المناصب للأبناء، ويدعو لفتح الباب فيها أمام كافة أبناء الشعب لأخذ المواقع التي يستحقونها بجدارتهم لكي تكتمل دائرة العدالة "إنه يجب إقصاء مَنْ سفل من مواليد الحكام إلى فئة أدنى، ورفع من تفوّق من أنسال العامة إلى مصاف الحكّام. والقصد من كل ذلك تأهيل كل فرد من سكان المدينة لممارسة الفن الذي أهّلته الفطرة له" (32). رغم أنه من جهة ثانية أكّد أنّ إمكانات الناس المعرفيّة متساوية من حيث الباطن، أو ما هو فيهم بالقوة، وإن عجزوا عن تحصيلها بالفعل. وذلك بسبب سلوكهم وظروفهم وميولهم التي منعتهم من الاهتمام "بموضوع العلم الأسمى" فكان "الخير الأعظم عند العامة هو السرور، وعند الخاصة هو البصيرة" (33). ولهذا سيعطي أفلاطون لكل إنسان استحقاقه في دولة العدل. ولكن الخطأ الذي سيرتكبه سيبدو في طلب المستحيل برغبته في تجريد الناس من عواطفهم الإنسانية، حتى إنّ جمهوريته بإضافة هذه القوانين إليها ستبدو جمهورية آلات، لا بشر. فالزيجات ستقررها الدولة "فالنساء اللائي يبدين ميلاً إلى الفلسفة أو الحب يجب أن يصبحن الحكام أو المساعدين، ويشاركنهم في واجباتهم ـ أي للقادة ـ ويصرن أزواجاً لهم. ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة، وأن تبارك بإجراء المراسم الدينية. ويفصل الأولاد عن والديهم، ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة" (34). كما إن أفضل الرجال والنساء في الجمهورية وبما أنهم القادة والقدوة الحسنة فإنهم يجب أن يجردوا من المال وحتى العواطف، ولذا يجب "أن تكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجاً مشاعاً لأولئك الحكام. فلا يخصّ أحدهم نفسه بإحداهن.(1/114)
وكذلك أولادهم يكونون مشاعاً فلا يَعْرِفُ والد ولده ولا ولد والده" (35). بل إنه سيفرض على النساء المتميزات" أن تتعرى أزواج حكامنا في تمرينات الجمناز، لأنهن يستترن ببرد الفضيلة بدلاً من الثياب" (36). وسوف يسعى مع الشعب إلى "تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وأن نُقلَّ تزويج أدنياء الرجال بمثيلاتهم من النساء. وأن يوجه الالتفات إلى تهذيب أولاد الأولين، وإهمال أولاد غيرهم، إذا كنت تروم الحصول على أرقى دولة" (37). كما أنه سيحدد عدد الزيجات لمنع زيادة الولادات "لكننا نترك عدد الزواجات، لاستحسان الحكام، بحيث يحفظون الموازنة في عدد السكان، من غير زيادة ولا نقصان..... فتظل مدينتنا، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لا أكبر مما هي ولا أصغر" (38). ولهذا السبب "إذا حبلت إحداهن عرضاً، في غير الحالة المقررة، فلا يرى جنينها النور. وإذا لم نتمكن من ذلك فيلزم التخلص من الطفل على أساس أن ثمرة اجتماع كهذا لا تجوز تربيتها"(1/115)
(39). وربما سيلاقي أبناء من يسميهم الآباء المنحطين نفس المصير، حين يتحدث عن مستقبلهم بشكل غامض حيث "يحمل الموظفون أولاد الوالدين الممتازين إلى المراضع العمومية، تحت عناية مرضعات... أما أطفال الوالدين المنحطين وكل الأطفال المشبوهين، فيخفونهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم" (40). وبالنسبة لأبناء الممتازين "تتخذ الاحتياطات اللازمة لكي لا تعرف والدة طفلها" (41). وسيُحرّم أفلاطون الزواج من الأبناء والأمهات والجدات والحفيدات... وحين سيسأله محاوره "ولكن أنّى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟" (42). في مثل هذا المحيط الذي لا تعرف فيه أنساب المواليد. سيجيب أفلاطون بشكل غامض وكأنّ الفكرة لم تنضج في ذهنه "يحظّر على الإخوة والأخوات مسّ بعضهم بعضاً، ولكن الشريعة تبيحه إذا أصابتهم القرعة ووافقت كاهنة ـ دلفي على ذلك" (43). هل يعقل أن يتخلى أفلاطون عن الحب والعواطف، وإنسانية الإنسان، وأن يصبح الزواج اقتراعاً، والأبناء دجاجاً بنقلهم إلى مراعي الدولة لرعايتهم، لكي تقوم دولة الآلات البشرية؟ هل هذا هو العقل ودولة أفلاطون البائسة؟ وهل شعر أفلاطون كم ناقض نفسه عندما قسّم الأطفال إلى فئتين، فئة تستحق الحياة والتربية والرعاية، وفئة ستساق إلى مصير مجهول لأنها من آباء جاهلين، مع أنه لا ذنب للأبناء فيما فعله أباؤهم، ونظرية أفلاطون في المعرفة كما بيّن لنا، تقرر أنّ إمكانيات جميع البشر المعرفية متساوية. سيختم أفلاطون كلامه في النهاية عن نظام الجمهورية بقوله لمحاوره "قد اتفقنا يا غلوكون في النقاط الآتية: إذا أريد انتظام الدولة، أفضل انتظام، وجب تقرير شيوعية النساء والأولاد والتهذيب في كل فروعه. كذلك شيوعية المناصب في حالتي السلم والحرب. وأن يكون الملوك ممن أظهر أعظم مكانة في الفلسفة، وأشدّ ميلاً إلى الحرب...(1/116)
يضاف إلى ذلك أننا سلمنا أنه متى رسخ مركز الحكام لزم أن يحلوا جنودهم في مساكن مقررة الأوصاف، ولا يباح فيها، حسب قرارنا، مُلك شخصي، بل تكون ملكاً مشاعاً للجميع. وقد قررنا تحديد حال البيوت، إذا كنت تذكر، إلى أي حد تأذن لهم أن يقولوا عن شيء ما إنّه ملكهم الخاص... إننا قررنا أن لا يمتلك أحدهم ثروة... وجزمنا أنه يحق لهم كحكام وجنود أن يتناولوا من الأهالي رواتب سنوية مقابل حكمهم. وأن يحصروا جهودهم في السهر على أنفسهم وعلى المدينة"(44). ورغم كل الصعوبات التي سيثيرها تطبيق هذا النظام المخالف في بعض تصوراته لطبيعة البشر، ومخالفته لما تعارف عليه الناس في حياتهم، فإن أفلاطون مع اعترافه بالصعوبات سيقول إن إقامة مثل هذه الدولة ممكنة في حال وصول فيلسوف إلى السلطة "إن نظريتنا في الدولة والنظام ممكنة التطبيق، وليست مجرد رغبة، وإن يكن تحقيقها صعباً. ويقوم إمكان تحقيقها بوسيلة واحدة، وهي أن تناط السلطة التامة في الدولة بفيلسوف واحد يشعر شعوراً عميقاً بخطورة الحق والشرف الناشئ عنه، ويحتقر الفخفخة احتقاراً شديداً، ويعتبر العدالة أسمى الواجبات وأحقها، فيُجْرِي ـ كخادم ومحب مخلص للعدالة إصلاحاً كاملاً في دولته" (45). إنها أحلام أفلاطون التي بشّرت بالحاكم الصالح، أو توقّعت ظهوره، ومهدت لكثير من الديكتاتوريات التي حكم عليها أفلاطون بأنها أسوأ أنظمة الحكم في العالم، فادعى قبل أفلاطون وبعده كثير من الحكام بأنهم حكماء وفلاسفة، بل ويمتّون بصلة للآلهة. ولكن برنامج الحكام الصالحين والمطلقي الصلاحية لم يتغير، وعجزت حكمتهم التي زعموا امتلاكها عن إقامة أي دولة صالحة، وضاعت أحلام أفلاطون في الهواء، حين لم يصل هذا الملك، أو الحاكم، الفيلسوف إلى موقع القيادة في بلاد اليونان أو في غيرها طوال التاريخ.(1/117)
وقد ردد جميع الحكام ما قاله لويس الرابع عشر سراً أو علناً ((الدولة أنا)) وحين ثار الفقراء في فرنسا، وطالبوا بالخبز سألت ماري أنطوانيت بسذاجة ((لماذا لا يأكلون الكاتو)). ولكن الرأسمالية الذكية ستقترح حلاً آخر حين سيُضْرِب العمال لنفس الأسباب في أمريكا، وسيقول توماس سكوت رئيس شركة الخطوط الحديدية، في بنسلفانيا من 1847 ـ 1880، لزملائه ((أعطوا العمال والمضربين عدة أيام معدودة غذاء من الرصاص والبنادق، وسترون كيف سيمتصون هذا النوع من الخبز)) (46). فالرأسمالية لم تكن مضطرة لتجميل صورتها قبل قيام الثورة الشيوعية، ولهذا بطشت بكل من عارضها وإن كانوا من أبنائها. لقد حكمت القوة والمال العالم، وهزمت دولة العقل، والأنظمة التي خاف منها أفلاطون ورفضها بقيت في التاريخ. بل إنّ الدول الفاضلة المرسومة بطموح الروح وأنوارها كان مصيرها لا يقل سوءاً عن دولة العقل، فما هو الباقي من الدول والأنظمة والحكومات التي رفضها أفلاطون لأنها دون مستوى العقل..؟
موقف أفلاطون من الأنظمة المعاصرة:(1/118)
إنَّ الدول بأهدافها وسياساتها الخيرة أو الشريرة ستظل قائمة، وكل نظام سيزعم بأنه النظام الأفضل. وقد شاهد أفلاطون كل أنواع الأنظمة في زمنه، وسمع ادعاءاتها، وكان لابدّ له لتبرير تقديم البديل ((الجمهورية)) من نقده لها، وإبداء رأيه فيها بالقياس إلى الميزان الوحيد الذي اعتبره صالحاً لبناء أي نظام سياسي، وهو حكم العقل. ولهذا فإنّ أفلاطون وإنْ انتقد كلَّ الأنظمة القائمة، فإنَّ رفضه لها كقبوله، سيكون على درجات، بقدر قرب كلّ نظام من مفاهيم العقل أو بعده عنه. لقد عاصر أفلاطون خمسة أنواع من الأنظمة "يمكن قسمة الحكومات إلى خمسة أنواع كبرى هي: الأرستقراطية والتيموكراسية والأوليغاركية والديموقراطية والاستبدادية" (47) ورأى أفلاطون أنّ كل نظام بسبب غياب حكم العقل والعدل، سيحمل في رحمه الجنين الذي سيقود إلى ولادة النظام القادم بشكل طبيعي. فما هي صفات كل نظام..؟ وما هو النظام الذي سيولد منه ليكون وارثاً له..؟(1/119)
سيتحدث أفلاطون عن النظام الأرستقراطي بشكل مختصر. وهذا النظام كما يصفه أفلاطون ستتميز قيادته بالحنكة والشرف والحماسة والكفاءة في إدارة البلاد، ولهذا سيحكم عليه بأنّه "عادل وصالح" (48) ولكن مشكلة هذا النظام تكمن في أنّ الحاكم فيه سيورث سلطته لأبنائه الذين سيكونون أقلّ كفاءة وحكمة منه لأنّهم لم يعانوا ما عاناه، ولهذا سيكون هدف الوارثين الاستفادة من مزايا السلطة المغرية والمتاحة أمامهم بدلاً من متابعة العمل في بناء الدولة، ومن هنا سيظهر القائد التيموكراسي "الإنسان التيموكراسي.. يمكن تمثيله لنفسنا بابن الأرستقراطي، الذي أغرته العوامل الردية على العروج عن اقتفاء آثار والده. فتنمو محبّة الثروة التي أدخلتها التيموكراسية نوعاً. وتتزايد حتّى تحوّله إلى الأوليغاركية، التي لبابها جعل الثروة أساس الجدارة" (49). إنّ التيموكراسية ستنشأ من الأرستقراطية حتماً في الجيل الأوّل أو الثاني عندما "يمتلك أفضلهم بقوّة السلف عن غير جدارة ذاتية" (50) ممّا سيؤدّي إلى انقسام في السلطة وصراع بين أجنحتها. ولكن "النزاع المتبادل بين الحزبين ينتهي بالتفاهم المتبادل والاتّفاق على اقتسام الأراضي والبيوت، واستبعاد أصحابها المسالمين، وتحويلهم إلى طبقة سفلى كعبيد أرقّاء للخدمة في الحرب والدفاع عن سلامة أسيادهم... فالتيموكراسية، هي مرحلة، وسطى بين الأرستقراطية والأوليغاركية" (239). إنّ "خُلق التيموكراسي، الذي يمثّل الدولة التيموكراسية... إنّه ابن رجل فاضل، ولا يبعد أنّه سكن مدينة ساء نظامها، فتجنّب الرفعة والمرافعات، وأمثال ذلك ممّا يلابس الروح المتمرّدة، مؤثراً الخسارة على المشاغبة "(51). أمّا سبب انحراف الأرستقراطي عن سياسة سلفه فذلك بتأثير الأشرار الذين سيعرضون عليه الشهوات، ممّا سيقوده إلى "اعتزال أفضل حاكم...(1/120)
البحث العقلي الممتزج بالفلسفة، وهو وحده بوجوده واستقراره يقي صاحبه، ويمكّنه من الاحتفاظ بالفضيلة مدى الحياة" (52). هذا الابتعاد عن عالم العقل، والانحدار باتجاه عالم الشهوات سيؤدي بالدولة إلى النظام الأوليغاركي. وفي ظل هذا النظام سيكون "قدر الرجال بثروتهم، فيحتكر الأغنياء الحكم، وليس للفقير فيه حظ ما... فيتهافتون على حشد المال، فيفقدون الفضيلة ويفقدون قدرهم. ومتى علا قدْر الثروة والمثرين في الدولة بُخست الفضيلة والفضلاء... فيسنّون شريعة هي لباب النظام الأوليغاركي... وينفّذون شريعتهم بقوّة السلاح، إذا لم ينجحوا قبلها بتأليف الحكومة بالأراجيف التي سبقوا فنشروها... فتخسر مدينة كهذه وحدتها، وتصير اثنتين، الواحدة مؤلّفة من الفقراء، والأخرى من الأغنياء. والفريقان ساكنان معاً يكيدان أحدهما للآخر"(1/121)
(53). إنّ انقسام المجتمع إلى فقراء يعملون، وأغنياء مترفون لا يعملون سيؤدّي إلى "نشوب حرب أهلية. ولا تضرم منازعات الأحزاب أحياناً دونما تأثير خارجي... فتنشأ الديموقراطية بفوز الفقراء، فيقتلون بعض خصومهم، وينفون غيرهم، ويتّفقون مع الباقي على اقتسام الحقوق والمناصب المدنية بالتساوي ويغلب في دولة كهذه أن تكون المناصب بالاقتراع" (54). ولكن ما الذي ستحقّقه الديمقراطية لشعبها. سننقل أهم السمات التي رأى أفلاطون ببصيرته أنّها تنطبق على كل دولة ديمقراطية، وهي سمات موجودة في ديمقراطياتنا المعاصرة رغم كل التحسينات التي أدخلت عليها لمواجهة الشيوعية. يقول أفلاطون "الحريّة، هي أجمل ما في الديمقراطية... إنّ الحريّة في هذه الدولة تبلغ أقصى مداها" (55). ولكن سيكون لهذه الحرية ضريبتها ونتائجها الضارّة "الديموقراطية كالأوليغاركية تقتلها الرغبة الزائدة فيما تحسبه خيرها الأعظم" (56). أي الحريّة، وما ستسببه من فوضى، حيث "تتسرب عدوى الفوضى الفاشية في الدولة إلى البيت، وتنتشر في كلّ ناحية، وأخيراً تتأصّل حتى في البهائم" (57) ولا يقصد أفلاطون بالبهائم الحيوانات، وإنّما الناس الذين هم في فهمهم وسلوكهم كالبهائم، ففي هذه الدولة الحرّة سيفلت البهائم من الناس، طالما أنّ الحريّة حطّمت كلّ قيد وإن كان ضرورياً للمجتمع، وستكون النتيجة "أنّ البهائم تمتلك حريّة في هذه الحكومة أكثر من كل حكومة أخرى. وعلى هذا القياس تتمادى الحيوانات الأخرى في الحريّة... إنّ الأهالي، نظراً إلى شدّة إحساسهم، لا يحتملون أدنى إشارة إلى الاستعباد... إنّ الأمر ينتهي بهم إلى ازدراء الشرائع المكتتبة والشفاهيّة لئلا يروا، على دولهم ظلّ سيّد" (58). إنّ الحريّة الفرديّة المطلقة التي لا يقيّدها قيد المعرفة ولا الأخلاق، سيندفع مالكها وراء الملذّات "حيث فشت الإباحة رتّب كل فرد نظام حياته وفقاً لملذّاته...(1/122)
وعليه أرى أنّه ينشأ في هذه الجمهوريّة أعظم تباين في الخلق... وقد يكون هذا النظام أجمل النظم، لأنّه مزخرف بكلّ أنواع السجايا، فيلوح جميلاً كالثوب المزركش بكل أنواع النقوش. وقد يعجب الكثيرون بهذه الجمهوريّة كأجمل الأشياء، إعجاب النساء والأولاد بالثياب الزاهية الألوان" (59). فالديمقراطية بما تتيحه من مساواة ستكون على الأرجح "جمهورية مستحبّة، ملوّنة، تعامل جميع الأفراد بالمساواة سواء كانوا متساوين أولاً" (60). وستؤدّي هذه الحريّة إلى إفلات المجرمين من قبضة العدالة "أوَلم نلاحظ أنّ أناساً محكوماً عليهم بالإعدام، أو بالنفي، في هذه الدولة، لا يزالون يسرحون في عرض الشارع، ويمرحون مرح الأبطال في ميدان العرض، كأنّ لا أحد يراهم أو يسأل عنهم" (61). ما هي الحالة التي ستسيطر على المجتمع عندما تتساوى الفضيلة والرذيلة، والحكمة والجهل، وتصبح قيم الخير والشر قضايا نسبية في مجتمع حرٍ لا يتّفق على أيّ شريعة أو حقيقة ويظن أنّ الخير الأعظم هو جمع المال. من المؤكّد أنّ الفساد سيسود، وسيوصف "الحياءُ بالحماقة، وتطرحه خارجاً كأسير حقير، وتطرد العفاف مهاناً، ملقّبةً إيّاه جبانة. أولا تبرهن بمساعدة الشهوات الأخرى العديمة النفع، على أنّ التوفير والاتزان فظاظة وجهل فتبعدها إلى ما وراء الحدود؟... فبهذه الصورة تخلي نفس أسيرها ـ أيّ المواطن ـ من الفضائل، وتحلّ محلّها المخازي الكبرى، وتتقدّم إلى إرجاع التمرّد والتهتّك والوقاحة، تصحبها السفاهة والشراهة بحاشية كبيرة وأبّهة عظيمة وهي متجهمة فتفخّمها وتلقّبها ألقاباً أنيقة. فتدعو السفاهة حسن التربية، والتمرّد دماثة، والفوضى حريّة، والتهتّك فخامة، والوقاحة شجاعة، أو ليس هذا هو الطريق الذي فيه يهوى الشباب...؟ ومتى تقدّم في السن.. وقيل له إنّ بعض اللذّات صالح شريف، وبعضها سافل شريّر..(1/123)
يهزّ رأسه لدى سماع هذه الأقوال هزّة الإنكار، مصرّاً على أنّ الشهوات كلّها متماثلة، وتلزم رعايتها على السواء.. فيعيش يوماً فيوماً، يساير الشهوة الطارئة ـ آونة يشرب على نغمات الموسيقى مع مزاولة التمارين الرياضية ـ وآونة يكسل فيهمل كلّ شيء، ثمّ يعيش عيشة طالب الفلسفة، ويغلب أن يشترك في المصالح العموميّة وينهض إلى الخطابة، مدفوعاً إليها بعامل حالي، وتارةً يقتفي خطوات كبار القوّاد، متهافتاً على امتيازاتهم، ثمّ يتحول تاجراً حسداً منه للتجّار الناجحين. وليس في حياته نظام ولا قانون رادع. بل يعكف على مسرّاته، وحريّته وسعادته، إلى نهاية الحياة" (62). أليس هذه هو السلوك الذي ستصل إليه كلّ أنظمة الحرية في العالم، سواء في اليونان القديمة، أو في عصرنا الراهن..؟ لنقرأ هذا الوصف للمجتمع الأمريكي الذي لا يختلف في تفاصيله عمّا كان عليه الحال في جمهوريات اليونان الحرّة قبل ثلاثة آلاف عام تقريباً. يقول هامش ماكري: "إنها لصورة كئيبة للمجتمع الأمريكي تلك التي رسمها أليستركوك، المذيع المحنّك البريطاني المولد، والذي قد عاش في الولايات المتحدة لعدّة سنوات. إنَّ مشكلة أمريكا كما يزعم، لم تكن ناجمة عن فشل اقتصادي، حتّى ولا عن الفكرة التي روَّجها بول كينيدي والقائلة: "بترهّل الإمبريالية" ولكنها ناشئة عن التفسّخ الأخلاقي. إنّ معدل الجريمة تتجاوز بانتظام السنوات الماضية ما عدا الأسوأ منها. والجرائم العشوائية في الشوارع تضاهي ما ورد في مدّونات القرن الثامن عشر. كما تشكل المخدرات وباءً يضرب جميع طبقات المجتمع وجميع الأعمار. وقد صحونا لِتَوِّنا لنكتشف أنّ نظام التربية والتعليم في أمريكا كان لوقت طويل، وربّما لعدة عقود، يعتمد معايير متساهلة ومضطربة، بحيث أنّ أقلية كبيرة على الأقل وربّما أغلبية من خريجي المدارس الثانوية هم أنصاف متعلمين..(1/124)
وقد سجّل أليستركوك أعراضاً أخرى للانهيار الثقافي؛ مثل سوء استخدام الحرية، وفشل المحاكم في تعريف وكبح الفجور. والانحطاط السحيق في الأخلاق العامة، وكما جاء في قول جيبون: "الغرابة ترتدي رداء الأصالة، والتهوّر أصبح يدعى حيوية" وينتهي بالقول إلى أنه سوف يكون هناك نقطة انعطاف تاريخية كبيرة، أو نهاية دراماتيكية ما، من مثل حرب أهلية أمريكية ثانية، أو وصول دكتاتور شعبي، أو عودة طارئة إلى الصيغة الخيّرة للاشتراكية الوطنية التي أرساها فرانكلين روزفلت" (63). هذه هي النتيجة عندما تعطي الحرية لمن لا يستحقها، ولا يُحسن التصرف بها، ولا ينظر إليها كمسؤولية إنسانية تفرض عليه واجبات نحو نفسه كإنسان أولاً: عليه أن يثبت أنه يستحق منحة الحرية المعطاة له من الله بإثبات إنسانيته التي يتميز بها عن البهائم وهي العقل، وثانياً: نحو مجتمعه والعالم بإثبات هذا التعالي الإنساني بالرحمة والحب والأخلاق والعطف على البشر، وليس بالإساءة إليهم. وإلاّ فما هو معنى الإنسانية والحرية، إذا لم تجمعنا رابطة الأنس بالآخرين ومحبة الخير لهم..؟ هل بالوحشية أو الغرائز أو الأنانية نستطيع أن نثبت إنسانيتنا...؟ لهذا لا يجوز أن تكون حبال الحرية طويلة جداً لمن لا يُحسن استخدامها وضبطها بميزان العقل، لأنّ من يحطمون ميزان العقل لن تُنْتِج حريتهم إلاّ البلاء والمصائب لأنفسهم ومجتمعهم. وما حدث في الماضي للمجتمعات الحرّة يحدث الآن ما هو أسوأ منه في المجتمعات المماثلة. لنقارن بين ما استنتجه أفلاطون عمّا سيؤول إليه أمر الإنسان الحر الذي لا تحكمه موازين العقل مع طلبات الإنسان في مجتمعات الحرية. يقول أفلاطون: "إنّ بعض اللذائذ والشهوات غير الضرورية هي مما تنكره الشريعة، ويظهر أنّها تؤلف قسماً أصليّاً في كلِّ إنسان.(1/125)
فإنْ ضبطتها الشرائع والرغبات الفضلى في النفس، بمساعدة الذهن، فإمّا أن تزول زوالاً تاماً أو يبقى عدد قليل من الضعيفة منها، ولكنها في قسم آخر من الناس تظلّ كثيرة وقوية... إني أشير إلى الشهوات التي تثور في النوم، حين يكون القسم العقلي الأليف، الحاكم في النفس نائماً. والقسم الحيواني الوحشي المملوء طعاماً وشراباً، قائماً على الخليفتين ـ أي العقل والروح ـ وقد طار عنه نومه، اشتغالاً بسدِّ أشواقه الخاصة. ففي تلك الحال ليس هنالك ما لا يجرؤ على عمله، لأنه مطلق اليد، خالٍ من كلِّ شعور بالحياء أو التّفكر، فلا يستنكف عن شر اتصال نجيس، بوالدته، أو بأي إنسان أو حيوان، ولا يتردد في ارتكاب أنواع القتل، والانغماس في أنجس المآكل. وبالاختصار لا حدّ لجنونه ووقاحته" (64). إنّ ما توقعه أفلاطون في مجتمع الحرية، أو ما سيمارسه المستبدُّ الذي لا يضبطه العقل ولا يخاف من أي رادع، وشريعته هواه، هو الداء الذي سيصيب مجتمع الحرية إلى درجة أنّ ما يعتبره أفلاطون مرضاً سيغدو مطلباً صحيّاً، بل علاجياً على طريقة معالجة السرقة بإباحتها، والاعتراف بأنها طبيعية بدلاً من إدانة اللصوص. لقد استشرى مرض الجنس وانهارت كلّ الضوابط لوقفه، الدينية والأخلاقية، فماذا كانت نتيجة منحة الحرية..؟ إنّ بعض الناس سيسعون إلى المزيد من الانحدار. سيقول رايموت رايش: "إنّ أحدث نمط عصري للإصلاح الجنسي البرجوازي يأتي من السويد... إنّ كتاب (الأقليات الجنسية) بقلم لارس أولرستام قد أوضح نمو النزعة التي تريد أن تكون جذريّة تقدمية في البلدان الرأسمالية، وأن تتيح دونما تمييز جميع الممارسات الجنسية بين البشر، وبين الحيوانات، واعتبارهم متساوين في القيمة ونشر هذه الممارسات الجنسية، باستثناء الأعمال التي(1/126)
من شأنها أن تؤدي إلى عمليات تعذيب جسدية تمارس على حيوانات أو على بشر" (65). رايموت رايش، سيوافق على مقترحات أولرستام وإن كانت كما قال: "أقلّ تقدمية.. إننا نستطيع حتى الآن الموافقة على هذه المقترحات" (66). وفي رأي أولرستام: "فإنّ كلّ تمييز بين (طبيعي) و(غير طبيعي) أو مرضي في ميدان الحياة الجنسية ليس سوى مسألة تحديد أو تعريف توصي به في أيامنا الدولة والكنيسة والأخلاق. فإذا ما ألغيت هذه التحديدات القسريّة فإنّ حدّاً أفضلياً من السعادة الحقيقية سوف يتحقق تلقائياً" (67). يجب إلغاء كلّ شيء وكلّ قيمة، وكلّ تمييز بين البشر. لا فرق بين من يحكمه العقل، ومن تحكمه الغرائز الجنسية وتقوده إلى كلّ أنواع الفجور. ولهذا يجب على الكنيسة أن تصمت وعلى الدولة أيضاً طالما أنها تستخدم هذه المصطلحات الأخلاقية لتقييم المنحرفين. ففي مجتمع الحرية لا يوجد أي فرق، أو يجب أن لا يوجد أي فرق بين القديس والشيطان، بين من ينتصر على نفسه ويكشف عن إنسانيته، وبين من يضع عقله في خدمة عورته، ويصل به الأمر إلى اقتراف كلّ الموبقات التي لا تفعلها حتى الحيوانات. سيدافع رايموت رايش عن هؤلاء حتى النهاية وسيجد لهم العذر، بينما لن يعذر الكنيسة والدولة إذا دعت إلى الأخلاق، لأنّ هذا تمييز، وهو يرفض التمييز، وحتى الاتهام بالمرض، بالقول (طبيعي) و(غير طبيعي)، لأنّ مثل هذا القول يشير إلى مشكلة.. إلى مرض.. إلى حالة تحتاج للمعالجة، بينما الحالة على خير ما يرام بالنسبة لمن ينحدرون بممارساتهم الجنسية إلى مستوى لا تفعله البهائم. سيقدم لنا رايش حالة من الشذوذ، ومع ذلك فلا شيء يثير غضبه أو معارضته من أجل إنسانية الإنسان، ولا شيء يستدعي حتى العلاج، فهذا مزاج طبيعي "هناك محبّون للبول يتأخرون قليلاً في المباول العمومية. وأكبر ما يحسّون به من رغبة هو أن يعثروا على شخص ما يتلطف بالتبويل في قبعاتهم أو جيوبهم" (68). ما هو رأي رايش بهؤلاء..؟(1/127)
إنه سيدعو الجمهور إلى الأدب معهم "إنّ سماح المرء بتلطيخ ثيابه بالبول ليس بالتأكيد حاجة جديرة بالاحترام، لكن الكيفية التي يتبجح بها الناس بإساءتهم معاملة هؤلاء الأشخاص هي مثيرة للمشاعر. فإذا لم يكن الشخص يريد أن يستجيب لرغبة هؤلاء الأشخاص المتواضعة فإنّ من الواجب على الأقلّ مقابلتهم بشيء من التهذيب" (69). إنّ هذا الواعظ لا يخجل من تعليم الآخرين كيف يجب عليهم أن يحترموا حرية هؤلاء المرضى، ولكنه يصمت عما تقتضيه مسؤولية الحرية، وعن فائدة هذه الحرية والغاية منها، فما هي فائدة الحرية لأناس سيطلبون من الآخرين مثل هذه الطلبات القذرة؟ حتى على مستوى النظافة والصحة العامة، لا يمكن أن يكون هذا الأمر مقبولاً في مجتمع يحرص على الصحة العامة.ولكن أليست الحرية إذا لم تضبطها الضوابط ستكون بلاء على بعض الناس وعلى المجتمع...؟ لهذا السبب رفض أفلاطون دولة الحرية المطلقة، وحذّر منها لأنه في مثل هذا الوضع سيأخذ كل فرد من الحرية ما يفهمه وما يلائمه منها. وفي ظلّ السباق المحموم على المال سيروّج الفاشلون، والطفيليون، والذين لا يحبون أن يأكلوا من عرق جبينهم لتجارة الفساد، كما هو الحال في دول الحرية، حيث تنتشر الجريمة، وتجارة المخدرات، ويتمّ الترويج لتجار الجنس علناً، والتي ستصيب بشرورها كلَّ فئات المجتمع، وسيكون العلاج لإنقاذ المراهقات من خطر الحمل كما سيقترح رايش وأمثاله هو توفير "آلة توزيع أوتوماتيكية لحبوب منع الحمل توضع في المدارس" (70). وسيكون من رأي فرويد (1856 ـ 1939) الذي طالب بالحرية الجنسية لتخليص المجتمع من الكبت، أي كعلاج طبي ودواء لتحقيق السعادة. "هو أنّ الرجل كيما يكون في حياته الحُبّيّة حرّاً حقّاً، وبالتالي سعيداً لابدّ أن يكون تغلب على احترام المرأة، وتآلف مع فكرة العلاقة المحرمية بالأم والأخت.(1/128)
ومن يخضع نفسه إزاء هذا الطلب لفحص ضميرٍ جاد، فسيكتشف بلا أدنى ريب أنه يَعِدُّ الفعل الجنسي في دخيلة نفسه، ورغماً عن كل شيء، فعلاً محطّاً لا يلطخ ولا يلوث الجسم وحده" (71). سيباح كلّ شيء، لأنّ السعادة هي أهمّ هدف يجب أن يسعى إليه الإنسان.. السعادة السهلة التي لا تحتاج إلى عناء. لماذا؟ لأنّ "المذاهب الدينية جميعها أوهام" (72). حسب رأي فرويد، وإذا كان لا يوجد جزاء ولا ثواب ولا آخرة، وإذا كانت حياة الإنسان هي هذه الحياة الدنيا، فلماذا لا يعيش حياته متحرراً من قيود العقل والأخلاق والدين..؟ لماذا لا يستثمر فرصة الحياة التي لن تتكرر في البحث عن متعه الخاصة...؟ نعم هذا هو المجتمع الذي ستكون فيه الحرية وثناً يُعبد، وسيكون من المباح باسمها وتحت رايتها ممارسة أي فعل والإقدام على أي تصرف، وتشويه الأخلاق، ورفض الحكمة وإدانة العقل، لأنه في عالم الحرية لا توجد حدود وضوابط للانحدار، ولهذا ستبدو الحكمة والعقلانية فقط شذوذاً، وإذا ما جَنَّ المجتمع فما هي فائدة العقل ومن سيصغي إليه؟ وما هو المصير الذي سيؤول إليه هذا المجتمع؟ يقول أفلاطون: "الذين لم يتعرّفوا الفضيلة والحكمة، ويقضون الحياة في الولائم وأمثالها من أنواع الانهماك قد سفلوا... ولمّا كانوا لا يتجاوزونها فإنّهم لا ينظرون أو يرتفعون إلى العلل الحقيقية. ولم يمتلئوا قط باللذة الحقيقية، ولا ذاقوا لذّة حقيقية صرفاً، بل هم كالسائمة ينظرون أبداً إلى أسفل، ورؤوسهم إلى الأرض، يدنونها من موائد الطعام، حيث يشبعون ويسمنون ويلدون. ولكي يسدّوا شهوتهم البالغة بهذا التمتع يرفسون بعضهم بعضاً بأظلاف حديدية ويتناطحون بقرون حديدية، حتى يقتل بعضهم بعضاً بتأثير الشهوات الشرهة، لأنهم قد ملأوا قسم طبيعتهم الشهواني غير الحقيقي بأشياء غير حقيقية" (73). هل قامت الحربان العالميتان، وكثير من الحروب قبلهما وبعدهما إلا لهذه الأسباب..؟ من أجل المال والشهوات.(1/129)
وهل كان المحرّضون على هذه الحروب يحملون أي رسالة للعالم غير الرغبة في السيطرة والرفاهية المادية؟. لقد أدرك أفلاطون النتائج الطبيعية لمثل هذه الحرية المستهترة بالقيم والأخلاق التي ستدفع قادتها إلى العدوانية والحروب في الداخل والخارج، وشاهد بأيّ قرونٍ ستتناطح هذه القوى، وتوقع نهاية هذه الأنظمة وما ستؤول إليه. فالحرية المطلقة ستقود إلى الاستبداد المطلق. فالذين سلبتهم الحرية كلَّ شيء سيبحثون عن زعيم شعبي "إذ تقضي الضرورة على المسلوبين- أي من سلبت أموالهم- بالتزام خطة للدفاع عن أنفسهم بالخطب في جماهير العامة" (74). فالعامة الذين سيشكلون الأكثرية في مجتمع الحرية سيبحثون عن مُدافع عن حقوقهم، إذ "من عادة العامة اختيار بطل خاص يُوَلّونه قضيتهم" (75). وعندما سيظهر هذا البطل المغامر وينجح، سيكون قد صار موضع ترحيب، وهكذا ستبدأ أولى خطوات الديكتاتورية بالظهور. ومع الوعود التي سيطلقها للجماهير المحرومة ضد الفئات المالكة، وما سيفعله من "إلغاء الديون، وتوزيع الأراضي على العموم، ولاسيما على أتباعه" (76). سيرتفع إلى مستوى القداسة في أعين الجماهير، وهذه المكانة التي سينالها ستساعده بعد البطش بخصومه الأثرياء من القضاء على كلِّ معارض من الأصدقاء "فإذا رام الطاغية أن يستتب له الأمر، وجب أن يُنْحّي كل هؤلاء من طريقه، فلا يُبْقِي على ذي جدارة من أعدائه ولا من أصدقائه... فيرقبهم مدققاً، ليرى من فيهم رجل، ومن كريم النفس، ومن نبيه، أو غني. ولحسن حظه أنه إن أراد أو لم يرد، فالضرورة قاضية عليه أن يكون عدوّاً للجميع. وأن يكيد لهم حتى يُطَهِّر المدينة منهم.. نعم فإنه يفعل ضدّ ما يفعله الأطباء في تطهير الأجسام، أولئك يُخرِجُون من الجسم المواد الفاسدة ويبقون الجيدة، أمّا المُسْتبدُّ فيخرج الجيد ويُبقي الفاسد...(1/130)
فهو مُقَيّد بأقصى ضرورة، إمّا أن يعيش بين أشخاص منحطين، أكثرهم عديم النفع، ويكون مكروهاً منهم، أو إنه لا يعيش" (77). إنّ طبيعة المُسْتبد لن تسمح إلاّ للطفيليين بالعيش معه، الذين يحسنون كيل المديح لكل ما يفعل. وبهذا المديح سيصاب المُستبد بجنون العظمة "ونعلم أنَّ مَنْ جَنَّ، واختبل عقله، يحلم ويسعى إلى أن يسود الناس والآلهة أيضاً" (78). وفي هذه الحالة سيعيش متحرراً من كل قيدٍ، وستصيبه أمراض الحرية المطلقة، وسيكون "ديدنه من ثمّ الولائم والأفراح والحفلات والحظايا، وكل ما هو من هذا النوع، وصحبته أناس خضعت عقولهم خضوعاً تاماً للشهوات المستبدة في داخلهم" (79). وهكذا "إنّ أشدّ حرية وأعظمها تضع أسس أشدّ استبداد وأثقله" (80). فالحرية التي ستخلق الفوضى والبؤس ستسلم نفسها في نهاية المطاف للديكتاتورية. ما هو الحل إذا كان هذا هو مصير كل الأنظمة التي يصنعها البشر ـ طفولة فشباب فكهولة وموت ـ، كما رأى أفلاطون، واستنتج ابن خلدون في تاريخه. سيحيلنا أفلاطون، في نصٍ غريب يدعو إلى التأمّل والحيرة، إلى الشريعة الإلهية لبناء النظام الأفضل، سيقول "إنّ الأفضل للإنسان أنّ يحكمه مبدأ إلهي عادل. ويجب أن يكون ذلك المبدأ في داخله إذا أمكن، وإلاّ فرض عليه الحكم من الخارج ـ أي بالقوّة ـ ليسود التلاؤم علاقاتنا الاجتماعيّة باعترافنا بسيادة واحدة عامّة. وغرض العادل الخاص حفظ التلاؤم بين الظاهر والباطن، وهو الذي يفرغ نفسه في قالب الجمهوريّة الكاملة، ولاشك، توجد في السماء إن لم يكن على الأرض" (81). إنّ السؤال المحيّر الذي يفرضه علينا هذا الرأي، هو هل كان أفلاطون يشعر بأن جمهوريّته، التي اقترحها، تستمدّ شريعتها وأحكامها من وحيٍّ إلهي؟. وكان كتاب الجمهوريّة محاولة نظريّة لإنزال ما في السماء إلى الأرض، أي أنّ الجمهوريّة نظام سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.
عالم العقل وعالم الروح(1/131)
إنّنا لا نستطيع أنّ نميّز بين ما كان في الجمهوريّة أو في كتب أفلاطون الأخرى، من عالم العقل أومن عالم الروح إلاّ إذا فهمنا الفرق بين العالمين، والفرق بين المعلومات الصادرة عن كل منهما. وإنّنا باختصار سنذكّر بأهمّ مزايا معلومات كل من العالمين لتبيين الميزان الذي سنزن به مستوى العلوم الأفلاطونية ومراحل تطوّرها ومصدرها. وهذا ميزان يمكن أن نستخدمه للتحقّق من صحة كل معرفة روحيّة. فما هي مزايا المعرفة الروحيّة؟.
1 ـ إن ّالمعرفة الروحيّة تعتمد على توجّه الإنسان إلى الله للحصول على المعلومات، حيث ستنتهي مهمّة الإنسان عند ضبط هذا التوجّه وتحقيقه بالسلوك المعروف، وانتظار التلقّي من الله. ولهذا ستظل أيّ معلومات يطلبها السالك بيد المرسل أي الله، لا بيد المستقبل، ولذا لا يستطيع الواصل أن يعرف كل ما يريد، وستظل معلوماته مستمدّة من العقل ومن الروح، حتى وصوله إلى مقام العبوديّة. فإذا وصل، لا ينطق إلاّ من الروح.
2 ـ إنّ المعلومات الصادرة عن العقل تخطئ وتصيب، أمّا المعلومات الصادرة عن الروح فإنّها لا تخطئ أبداً. وبهذا الميزان نستطيع أن نميّز بين معلومات أفلاطون الروحيّة والعقليّة، أو غيره من العارفين. ولكن هذا التمييز لا يعرفه إلاّ الخبير. وإنّنا لا نعني بهذا الحكم إنكار صحّة أحكام العقل أحياناً.
3 ـ إنّ معرفة عالم العقل تتعلّق بالظاهر من العالم، أمّا المعرفة الروحيّة فإنّ تعلقّها بباطن العالم، والعالم الظاهر بالنسبة للروح هو جسر للعبور إلى الحقائق، وبالنسبة للعقل هو حجاب لا يستطيع اجتيازه.(1/132)
إنّ ما نستطيع أن نستنتجه بتطبيق هذه المقاييس على فكر أفلاطون بشكل عام والجمهوريّة بشكل خاص يدلّنا بأنّ أفلاطون كانت له إطلالات على عالم الروح إلاّ أنّه لم يتمكّن كلّ التمكّن، وظلّ في تأرّجح بين عالمه العقلي وعالمه الروحي. ومن هنا جاءت الجمهوريّة لبشر يعيشون في عالم غير الأرض، ولبشر لا تشبه حياتهم حياتنا. نعم إنّ الجمهورية نظام سماوي إلى حدٍّ كبير، ولهذا لا تصلح لأن تكون نظاماً لكوكب موارده محدودة، وسكّانه لا يمكن أن يبلغوا الرقيّ الروحي الذي تحتاجه مؤهّلات الروحانيين، بسبب تفاوت الجهود البشريّة المبذولة من أجل المعرفة. وفي الأرض لابدَّ من تذوّق الحب الإنساني للانتقال من الصورة إلى المعنى. ولابدّ من الأسرة والأولاد لإدراك العلاقة بين الله والإنسان من خلال العلاقة بين الآباء والأبناء، أي الحب الطاهر الذي أساسه العطاء بلا حدود. إنّها طبيعة الحياة وتجلّي الحقائق الإلهية في الصور الماديّة، لتحريك المشاعر وإيصال المعاني إلى القلوب. فإذا قطعنا هذه الصلات فإنّنا سنكون مثل الذي يطالب الطفل بتصوّر معنى الأبوّة وهو غير مؤهّل لها كأب وإنّما كابن. ثمّ إنّنا في عالم الأرض نشاهد بالحواس ولهذا نرغب في مشاهدة من نحب بالعين، وهذه قوانين الأرض التي لا نستطيع أن نتجاوزها حتى لو أردنا، بينما في عالم الروح نشاهد بالبصيرة، ولا يوجد بالنسبة للبصيرة مسافات أبعد أو أقرب، ولهذا لا يغيب عنّا من نحبّ عندما نريد، ولا يختفي الأولاد حتّى لو اختفوا. ثمّ إنّ أفلاطون ناقض نفسه عندما اقترح قتل الأولاد الذين ولدوا بشكل غير شرعي. فما هو ذنبهم بميزان العدل؟. كما أنّه أخطأ عندما اقترح وضع نظامين للتعليم والرعاية، نظام لأبناء الأخيار، ونظام لمن هم في مستوى أدنى. فالعدل يفرض علينا أن نسأله ما ذنبهم؟، ونظريّته في المعرفة الإنسانيّة تتناقض مع حكمه على أبناء الأشرار.(1/133)
فإذا كان قد دافع عن رأيه القائل بأنّ كل إنسان مؤهّل بطبيعته للمعرفة، وبأنّ المعلّم هو كالولاّدة التي تساعد على توليد ما يعرفه الإنسان وإظهاره، بنقله من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل، وقد دافع عن هذا الرأي في "الثئيتتس" كما في الجمهوريّة "وقد أعلن في الجمهوريّة أنّ التعليم في حقيقته ليس إيلاج معرفة ما في النفس، غريبة عنها، وإنّما إعادة توجيه الروح... وردّ إلى خط النور" (82). وهذه الحقيقة تطابق الوحي القرآني { وعلّم آدم الأسماء كلّها } (البقرة/31) فكيف ولماذا وعلى أيّ مقياس وميزان اعتمد لكي يحكم على أطفال بالقتل، وأطفال بالإهمال؟. وما هي أسباب هذا التخبّط الأفلاطوني، أليس لأنّ عالم العقل الذي يخطئ هو الذي استمدّ منه أفلاطون أغلب أفكاره، فاقترح بعد الجمهورية أنظمة متعددة للدولة تختلف في تنظيمها عما اقترحه في كتابه الجمهوريّة، ممّا يدل إلى أنّه لم يتوصّل إلى تصوّر النظام الأمثل بشكل مؤكّد ولو نظريّاً. ولهذا كان لابدّ من إعادة النظر في جمهوريّته وآرائه كلمّا تعمّقت تجاربّه، وتغيّرت مفاهيمه الفكريّة. وهذا ما لاحظه محقّق نص "التِيْمئس" المترجم للعربيّة بعنوان "طيماوس" الأستاذ "ألبير ريفو" من أكاديميّة الفلسفة بباريس. فقال "في الفن الأفلاطوني، مهما بلغ من دقّة المنهج وعمق التفكير، قسط لا يجبر من الحريّة والارتجال، يفوت دوماً حكم العلماء المنقبين وحكمهم بالطبع محدود. ومع ذلك، فلا يقدر المرء أن يمتنع عن إبداء هذه الملاحظة: يُستغرب أن يكون أفلاطون قد وصف نظام الدولة المثلى، على أوجه تختلف ذلك الاختلاف كلّه؟ فالجمهورية والشرائع واكْرِتيسَّ ومقاطع من السياسي تعرض لنا ضرورباً متباينة من المثال الأفلاطوني. وهذا التباين بالذات نلفيه بين علم التيمئس الطبيعي ونفس العلم في الباب العاشر من كتاب الشرائع. ألا يعني ذلك أنّه يستحيل في نظر أفلاطون أن يخطّ للدولة مخطط لا يتغير" (طيماوس- 83).(1/134)
سيحاول "سُوزمل" في معرض دفاعه عن أفلاطون أن يفسّر تناقضاته بشكل يزيل هذا الاتّهام أو يبرره "لقد فرض سوزمل بهذا الشأن فرضيّة خياليّة لبقة، وادّعى أنّ الدولة المثلى التي يبغي أفلاطون الكتّابة عنها، يستطيع المرء أن يتصوّرها في شكلين أو حالتين مختلفتين، في الماضي وفي المستقبل. فاكرتيّس يعنى بوصف النموذج المستمد من الماضي. وهرمكراتس يكلّف بوصف دولة المستقبل المثلى. إلاّ أنّ سوزمل يعمد إلى برهانٍ دقَّة النظر فيه تفوق قوّة الحجّة. ففي زعم أفلاطون يتم تطوّر الكون خلال حقب، قوام كل منها عشرة آلاف سنة. والحال إنّ تسعة آلاف عامٍ قد انصرمت منذ بدء العالم، حسب معطيات التيمِئس واكْرتيسَّ، ألا يعني أفلاطون إذاً أنّنا نقارب من نهاية الحقبة الأولى من حياة الكون، وأنّ طوراً جديداً على وشك أن يبدأ قريباً؟. لقد رذل اشتينهرت صنوف التحايل هذه المفرطة اللباقة. ولكنّه لم يفعل إلا ليعرض تحايلاً آخر غير مقبول كسواه" (84). لقد فشل التبرير، وظلّت تناقضات أفلاطون قائمة في أذهان النقّاد بالاستناد إلى نصوصه التي لا يمكن أن تفهم أسبابها إلاّ بردّها إلى العقل الذي يخطئ ويصيب مهما بلغ من الكمال، وليس إلى الروح التي لا تخطئ، لأنّ علمها من مصدر إلهي. لقد حاول أفلاطون أن يعطي للفيلسوف صفة لم يملكها، أي القدرة على المعرفة بالروح. ولهذا مجّد الفلسفة والفلاسفة ومنحهم أرفع المناصب لاعتقاده أنّ عقل الفيلسوف لا يخرج من عالم النور إلى الظلمة، أي لا يخطئ، وإن أخطأ فلديه القدرة على التصحيح "فالحكماء الذين يهذّبهم في جمهوريّته، يشبون ولا ريب حكماء، وعليهم أن يستمدّوا حكمتهم وسعادتهم على السواء، من تأمّل الخير الأسمى.(1/135)
هذا، ولن يبلغوا ذاك التأمّل وتلك المعاينة السعيدة، إلاّ في نهاية مطاف طويل، محطّاتِه هي بالضبط، درجات الرياضات المتعاقبة، واكتماله هو علم الجدل أي الديالكتيك ولكن هل يطوف بهم هذا المطاف، ليتلبّثوا فيه إلى مالا نهاية؟، كلا، عليهم أن يهبطوا مسرعين إلى "المغارة" وماذا يعملون فيها؟، سوف يألفون النظر إلى الظلال القائمة، لأنّهم بعد استئناسهم بالعتمة، سيرون أفضل من الآخرين بألف مرّة، ويتبيّنون كلّ صورة وما تمثّله. إذ سبق لهم أن رأوا مُثُلَ الجمال والعدل والخير والحقيقة. والآن ما هي العمليات التي يدأب أهل الكهف على القيام بها ـ إشارة إلى أهل الكهف في الجمهوريّة ـ وهذه العمليات ينجزها الفيلسوف بادئ بدء إنجازاً سيئاً جداً، إذ لا تزال عيناه مليئتين بضياء الشمس العقليّة الساطع. ولكن عندما تعتادان وتألفان العتمة، فهو عندئذ يتقنها خير إتقان ويبذّ فيها الجميع.... وهل هذا إلا علم الطبيعة بالضبط، الطبيعة الكونيّة أو الطبيعة البشريّة؟ وهذا العلم ليس بالعلم الحصري. وما هو، في أدنى درجاته حسب حوار غُرغيس، سوى "ذاكرة واقعيّة لما يحدث عادة". وليس في أعلى درجاته حسب الفيلفس حوارنا هذا، ولن يكون حسب التيمئس، سوى ظن ومحاكاة للحقيقة" (85). لاشكّ أن أفلاطون قد دقَّ أبواب الروح كأستاذه سقراط، وفُتحت أمامه إلى حدّ ما، ووصفه لإنجاز الفيلسوف السيئ في البداية لأنَّ "عينيه مليئتان بضياء الشمس العقلية الساطع"، أي لاعتماده على المعرفة العقلية، يدل على تمييزه وإدراكه للفرق بين عالم العقل وعالم الروح كمصدر للمعلومات. ولهذا مجّد الفلسفة بالقياس إلى عصره، حيث لا توجد شريعة إلهية موثوقة يمكن قبولها عقلياً، فاجتهد على قدر طاقته وصاغ من العقل والروح جمهوريته التي ظلّت ناقصة، وظلّ يعدّل فيها، لأنّ الجانب العقلي فيها لم يسمح لها بالاكتمال.(1/136)
لقد كان أفلاطون بالقياس إلى عصره يعرف أكثر من كلِّ الفلاسفة، ومن الجمهور، ولهذا عانى ما عاناه من المعارضة، ومن السخريّة، ومن الإحساس بالغربة بين قوم لا يفهمونه. وكما قال أوغست دييس "أفلاطون يلفت نظرنا إلى ذلك، بقوله: ـ لا نعجبنّ من أن الحكيم الذي ينتقل من التأمل إلى إسفاف وقائع الحياة، يبدو مُغفّلاً خليقاً بالهزء، حينما لا تنفكّ عيناه في انبهار ولم تألفا العتمة بعد، ويضطر وهو على هذه الحال، في المحاكم أو في مقام آخر، أن يصارع ظلال العدل، وأشباحاً يبتدعونها، وأُناساً يشرحونها، وهم لم يروا قط العدل بالذات ـ فتلك هي الفترة الزمنية، وتلك هي الحالة، وقد عزلها استطراد الثيئيتتس ، وحباها إنْ صحّ تعبيرنا بنفحة الأزليّة، وأشاد بها ومجّدها. غير أنّ الثيئيتتس إذ يمجِّد فيلسوفه على هذا الوجه في نفوره من عصره، يطبق في فعله هذا مبدأ الجمهورية القائل: "هناك ضربان من المكفوفين: مكفوفون لعبورهم من الظلمات إلى النور، ومكفوفون لعبورهم من النور إلى الظلمات. فهؤلاء دون أولئك، هم المستحقون امتداح حالهم وإطراء حياتهم" (86). سيعلق أوغست دييس على تناقضات أفلاطون وطموحاته بقوله: "إنّ أفلاطون فنان، وإنه رسول أيضاً" (87). وسوف نفقد باستمرار عند أفلاطون كما عند الحلاج الشاعر طموح الرسول كلّما التقينا بالفنان، والعكس صحيح. ومن هذا التأرجح بين الفن والرسالة، وقع أفلاطون في كثير من الأخطاء لحساب الفن الساحر، الذي لم يتح لصاحبه رؤية ظلال الحقيقة دائماً، وكانت نزعته العقلية الغالبة قد أغلقت عليه بشمسها الساطعة الجزء الأهم من بوّابات عالم الروح، وإن تمكّن من ولوج بعض أبوابها، وقطع مسافة في عالم النبوّة بفهمه لحقيقة الرؤيا، حيث قال عنها "إنّي أتصوّر أنّ الإنسان حين تكون عاداته صحيحة عفيفة، وقبلما يذهب للنوم، يثير قسمة العقلي، ويغذّيه بالأبحاث الجميلة السامية، وبالتأمّلات الداخليّة...(1/137)
فيواصل هذا دروسه مستقلاً نقيّاً. ويغذّ السير إلى الأمام حتى يفهم ما لا يزال غير مفهوم، إمّا عن الماضي، أو عن الحاضر أو المستقبل. ومتى سكّن ثورة قسمه الغضبي بالطريقة نفسها، متجنّباً كلّ انفجار في الشهوة، ممّا يرسله إلى النوم ثائر العواطف ـ أقول، فحين يذهب إلى النوم وقد هدأ قسمان من أقسامه الثلاثة، وظلّ الثالث، مقرّ الحكمة، مستيقظاً، فإنّك عالم إنّه في أوقات كهذه هو في أتمّ الاستعداد لفهم الحقيقة، فلا تكون الرؤى التي يراها في أحلامه منكرة" (88). فهذا الفهم لحقيقة الرؤيا ومدلولها أيّدته الروايات المسيحيّة عن طبيعة رؤيا القدّيسين، وأشارت إليه التوارة، وأوضح مغزاه الرسول مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - بقوله [أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوّة، والرؤيا ثلاثة فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا ممّا يحدّث المرء نفسه] (مسلم ـ 2263/ ج15). وإن فهم أفلاطون لأسباب الرؤيا الصادقة، وغيرها، تدل بأنّه علم أنواعها وعرف حقيقتها، ورأى منها ما صحّ وقوعه معه، وبذلك فتح باباً من أبواب النبوة التي لم تكتمل معه، وظلّ ينقصه الكثير من العلامات، ولهذا وقع في أخطاء كثيرة وهو يحاول أن يكتب عن عالم الروح، وعن الألوهية، وإنْ تأكّد من وجودهما، وفرَّق بين عالم العقل وعالم الروح، فقال: "يوجد عالمان: العالم المنظور الذي تتناوله الباصرة، والعالم العقلي الذي تتناوله البصيرة. وفي كلّ منهما قسمان يتدرجان من الخفاء إلى الوضوح" (89).(1/138)
ولكن مشكلة أفلاطون تكمن في أنّ عالم البصيرة لم يفتح أمامه كاملاً وإنْ عرف طريقة الوصول إليه، كما حددها ـ بالتأمل ـ ووصل بالبصيرة لبعض المعلومات، ولكن ما نقصه من المعلومات ملأه بتصوّرات العقل، ومنه نشأ الالتباس والتردد والحيرة في كلِّ ما كتبه عن الروح والألوهيّة، وإنْ أدرك "أنَّ ذاك النظام والانسجام في العالم، ليس مصدرهما الروح فحسب بل حكمة جلّى وعقلاً أسمى يسوسان الكون كعلّة فائقة" (90). أنّ العقل يستطيع أن يدرك بعض الحقائق، أو أنّه يدرك منها قسمها الظاهر، ولكنه لا يدركها كلَّ الإدراك. وهذا ما فهمه أفلاطون "إنْ لم يكن العقل عين الحقيقة، فهو ما يدانيها أعظم مداناة... لن يجد المرء بصورة أكيدة أن شيئاً ما، يفوق اللذة والتنعم إفراطاً وشططاً. كما لا يجد ما يفوق العقل اتّزاناً واعتدالاً... فهل استطاع أحد قط، أن يرى أو يتخيّل حتى في الحلم أنّ العقل أو الحكمة هما قبيحان؟ في حال إن اللذة، حيث تبلغ ذروة المتعة، هي من الخزي ومن القبح الزري بمقدار، نُضطر معه أن نأتمن الليل عليها، كأنما لا يليق بالنهار، أو يفرض عليه ألاَّ ينير دمامتها.." (91). سيظل هاجس أفلاطون في كل حياته الوصول إلى حقيقة الحقائق، ولكن بأدوات عقلية غالباً لا تساعده على الوصول إلى مثل هذه المعرفة، وكما أن الصور المادية لا تُشهد إلاَّ بالعين، فكذلك الروح لا تُعرف إلاّ بالروح، والألوهيّة لا تُعرف إلاّ بإمداد إلهي عند تطور الروح إلى حدٍّ تصبح معه مؤهّلة للتلقي الأقدس، وكما قال ابن عربي
إذا تجلّى حبيبي" ... بأيِّ عين تَراهُ؟
بَعينه لا بعيني ... فما يراهُ سواه(1/139)
لهذا سيخطئ أفلاطون وهو يحاول أن يضفي على الألوهيّة صوراً من إبداع العقل، وسوف يقع في كثير من التناقضات التي ستكشف للباحثين عن نقص المعرفة الأفلاطونية في هذا المجال وحيرة صاحبها. يقول ألبير ريفو: "في أسطورة السياسي يحدثنا المؤلف عن صانع الكون أو منظّمه بتعابير يستعملها أفلاطون هي ذاتها في التيمئس. وفي السياسي كما في التيمئس إله يدفع الكون إلى دورانه. بيد أن هنالك فوارق هامة بين الحوارين. لا غرو أنّ السياسي يدع جانباً فرضية تظهر في الشرائع، ألا وهي فرضية روح العالم الشريرة. غير أنَّ هذا الحوار لا يميز بجلاء بين الإله المنظم والروح بالذات. ومن جهة أخرى يلمِّح التيمئس إلى انحرافات في حركات الكون تحدث خلال أحقاب طويلة. ولكنه لا يتحدّث عن تلك الحركة الرجعية الناشئة أحياناً عن تراخي العمل الإلهي. وأسطورة السياسي تصف وصفاً غريباً نتائج تلك الحركة"(92).(1/140)
وكما تبيّن لنا عجز أفلاطون عن فهم الألوهيّة، كذلك سيعاني في فهمه أمام الروح، وسيكون له آراء متباينة حولها، مع أنه ربما كان أول فيلسوف تحدث عنها كحقيقة مستقلة عن العقل، أو وراءه، وإن كنّا نقدّر بأنّ أفلاطون قد تلقّى هذا التعليم من أستاذه سقراط، الذي كان له قدر من التلقي الأقدس، كما تدل عليه صلابة إيمانه أمام القضاة، وأخباره التي نقلها أفلاطون. وهذا التلقي كما بيّنا لا يمكن أن يحدث إلاّ بالروح. ولا شكّ أن الأستاذ قد نقل إلى تلميذه هذه المعرفة عندما رآه مؤهلاً لها. وقد ظهر لنا بدلالة حديثه عن الرؤيا أن أفلاطون قطع مسافة في عالم الروح، ولكنه لم ينجح في متابعة الطريق، ولهذا تاه واحتار في فهمها. وهذا ما سيلاحظه الأستاذ البير ريفو "إنّ أفلاطون هو ربما أول من طرح مشكلة اتحاد الروح بالجسد. فكما أنها تظهر في مظهرين متباينين، فهي مزمعة أن تتحد به أيضاً على وجهين متميّزين. والروح بصورة عامة إنّ كانت أقدم من الجسد وأكمل، فهي لا تختلف عنه في الجوهر. فتركيب جسم العالم مثلاً هو أقل نقاءً فقط من تركيبها. بيد أنها تتضمن عين العناصر المكوِّنة، إذ يكمن في الروح ذاتها جوهر الأجسام القابل التقسيم. وبالتالي يشبه اتحاد الروح بالجسد ضرباً من الخليط، تخلط فيه عناصر كيميائية متجانسة. على أن العقل، ومنشؤه إلهي، يعارض الجسد وفي آنٍ واحد الأقسام السفلى من الروح. والجسد حيث يلج، هو له سجن ومنفى ومكان محنة، وأيضاً ((عجلة)) معدة لنقله. لكنه يلبث غريباً عنها" (93). هل العقل أدنى من الروح أم أعلى بالقياس إلى صحة المعرفة..؟ لقد ترّكنا أفلاطون في حيرة لأنه في حيرة، ولكن لنتابع تأويلاته ومحاولاته لكشف الحقيقة المستعصية على المعرفة بأدوات العقل. وإننا لجلاء الحقيقة، والكشف عن مواقف أفلاطون المترددة في هذه المسألة، نحيل القارئ إلى نص معاصر لألبير ريفو، استعرض فيه جميع مواقف أفلاطون من مسألة الروح.(1/141)
وقدّم به لكتاب ((طيماوس)).
الروح في نصوص أفلاطون
"الروح البشرية"
تقديم "ألبير ريفو". ترجمة الأب فؤاد جرجي بَربَارة"
"الروح في التيمئس كما في سائر مؤلّفات أفلاطون، هي أصالةً مبدأ الحياة، أي مبدأ حركات منظّمة وموجّهة نحو غايةٍ معيّنة. فكلّ ما يحيا، أي كلّ ما يتحرّك في انتظام حركةً ذاتية، ما خلا العناصر، يحرز روحاً. وهذا لا يفرض حتماً أن تكون الروح ماثلة في كلّ أجزاء الأجسام الحيّة بالنسبة ذاتها.
بيد أن طبيعة الروح البشريّة لا تبحث في حوارنا هذا إلا على صعيد تربويّ وأخلاقيّ خصوصاً. أما الاعتبارات النفسانيّة فلا تشغل في عرض أفلاطون إلا محلاً زهيداً. فنظريّة الاحساسات مثلاً تبسط كلّها دون ذكر الروح، غير مرّةٍ واحدة في معرض الكلام عن السماع.
1 ـ أقسام الروح:
إن حوار التيمئس يُميّز ثلاث لا بل أربع أرواح مختلفة. فهناك أوّلاً "المبدأ الذي لا يموت في الحيوان المائت". وقد صوّره الصانع نفسه، ليودعه بعد ذلك في أيدي الآلهة الثانويّة، المكلّفة بصوغ الأجسام الحيّة. وهذا المبدأ، على كونه غريباً عن الجسد، يتحكّم مع ذلك في بنيانه، لأن وظيفة الجسد، الجوهريّة هي أن يخدم المبدأ الروحيّ بمثابة عجلة له. والحال أن العنصر الغير المائت من الروح البشريّة هو مماثلٌ كلّ المماثلة روحَ العالم. فهو كرويّ مثلها، وينطوي نظيرها على دائرة "الشيء ذاته" ودائرة "الآخر". وله على غرارها دوراته، بعض منها يتعلّق بالكيان، والبعض الآخر بالصيرورة. ولكن خلافاً لما يحدث لروح العالم، يتمكّن تأثير الأشياء الخارجيّة من الإخلال بتلك الدورات، وذلك على وجهين، لأن فيض الغذاء وجريان الاحساسات المتواصل يسبّب لدورات الروح البشريّة ضروباً وألواناً من التشويه والتشويش. بيد أن تركيب الروح البشريّة العليا، إذا ما استثنينا الأمور المشار إليها، هو ذات تركيب روح العالم.(1/142)
وأفلاطونُ يعيد إلى ذهننا بصراحة أن الروح البشرية تنطوي على نفس الأبعاد وعلى ذات الواسطات، ويعنى بالعودة إلى ذكر قيمها. وفضلاً عن ذلك، فالنموذج السماوي يُحدث فيها ضرباً من الجاذبيّة. وقد انتصب الجسم البشري واستقام بتأثير تلك الجاذبية. وهذه الروح الأولى متّحدة بالجسد، مغلق عليها في الجمجمة، دُور صنعها عن قصدٍ لتتقبلها. وأكثر من ذلك هو أن الروح متحدة موضعياً بذاك القدم من النخاع، الموسوم في الهامة، ألا وهو الدماغ.
هذا ويصعب علينا القول بأنّ أفلاطون قد اعتقد بحقيقة تلك الدوائر التشريحية، الدائرة ضمن الجمجمة، طبقاً لحركات القبّة السماويّة. لأن الروح البشريّة، شأنَ روح العالم، هي غير منظورة، ولا يستطيع إدراكها إلاّ العقل. هذا ما سوف يقوله في الشرائع ولكنّ هذا لا يمنع أن تكون محتواه في الجسد. فلا نتطلب من أفلاطون تعليماً دقيقاً، (في هذا الصدد أو في غيره)، تباعد كل البعد عن إعطائه.
2 ـ الأرواح السفلى:
أما الأرواح الأخرى فهي من صنع الآلهة الثانويّة، وقد أولجوها في كل الجسم من الرقبة فما دون. وأفلاطون يطلعنا بدقة على موقع كل منها وعلى وظائفها. غير أنه لا يقول لنا شيئاً عن تركيبها.
فالأولى واقعة في الصدر فوق الغشاء الحاجز. وهي مقر الغضب والحماسة وما إليها من المشاعر المماثلة. وانفصالها عن الروح غير المائتة ليس انفصالاً مطلقاً، إذ يمكنها الاتصال بها عن طريق برزخ العنق، ومن ثمّ فهي تقبل التأثير بفعل العقل.(1/143)
أمّا روح التغذية، فهي على عكس ذلك، مفصولة أتمّ فصل بحاجب الغشاء الحاجز عن الروحين العلويّتين. إنها مربوطة بسكنها فوق السرّة، كما يُربط البهيم الأعجم إلى معلفه. وليس لها رأي أو تعليل أو فهم. فتلبث من طبعها أبداً هامدة خاملة. وهي مقرّ شهوة الشرب والأكل والرغبة واللذة والألم. ولكنها تتمكّن، بفضل الصور المرتسمة على سطح الكبد الأملس، بعض التمكّن، من الاتصال بالروح العليا. وهي التي تحبونا بالأحلام والمشاعر المسبّقة وأشكال الوجدان الغامضة الأخرى.
ومجال فعل هذه الروح يتوقّف عند السرّة. إذ ليس من تحتها سوى تضاعيف الأحشاء الملتف بعضها على بعض، وحيثُ ليس من قوّة نفسيّة عاملة على ما يبدو. ومع ذلك، حتى في تلك البُقعة المحرومة نجد روحاً، لا بل كائناً جديداً حياً مستقلاً، مرتبطاً بالمِنى، ومستعصٍ كلّ الاستعصاء على تدخّل العقل.
وبالتالي، يبدو أن هناك فارقاً في الطبيعة بين الروح غير المائتة وبين الأرواح السفلى. فمن جهة مبدأ حركات منتظمة تعرّفها حدود رياضيّة، مبدأ كلّه نظام وكله جمال، ومن جهة وظائف عضوية غامضة بهيمية، كأن الفكر والانسجام قد غربا عنها. بيد أن التواصل لم ينقطع فيما بينها انقطاعاً تاماً. إذ يبقى حتى في أحط الغرائز شبه انعكاس بعيد عن الحياة الأبدية. هذا، ولا يبغي أفلاطون أن يضحّي حتى بأشكال الحياة الدنيا. فكل روح أو نفس لها مجالها الخاص ووظائفها الضرورية. وهناك سنة شاملة على الإطلاق، تفرض على كل تلك الأرواح أن تحافظ على كيانها، وأن تنميه بالممارسة والمثابرة على العلم، إذ بدونها يفسد طبع تلك النفوس وينحطّ لا محالة. والروح الغير المائتة ذاتها تزداد قوة بالترّوض العقلي والتفكير. وهي على عكس ذلك تداني العدم أو تكاد إذا ما استسلمت للأهواء. فخلودنا ليس نهائياً، وفي وسعنا أن نفقده بتوانينا. ومن ثمّة علينا أن ننمي كلّ أرواحنا على السواء، وأن نعنى كذلك بمواهب جسدنا على اختلافها.(1/144)
3 ـ الحوارات الأخرى ومصاعب هذا التعليم.
إن المعلومات السابقة تتّفق إجمالاً وما توفّر لنا منها حوارات فيذُن وفيْذرُسْ والجمهوريّة. بيد أن تلك الحوارات على خلاف التيمئس، لا ترمي إلا إلى القسط الخالد من النفس. ولكن التيمئس، شأن الباب العاشر من الشرائع، يقول بتقدّم الروح في الوجود على الجسد. وفي الوقت ذاته يفرض أنها مولودة مثله أما حوارات فيذَن وفيذّْرُس والجمهورية فهي تتضمن على عكس ذلك، أزليّة الأرواح كشرط للتذكر. هذا، ويُضيف حوار فيْذْرُس أن تجسّد الأرواح نتيجة لسقطة وعقابٌ على زلّة. فتعليم فيذْرُس ينطوي على اتحاد الروح بالألوهة اتحاداً أصليّاً، ثم على انفصالها كعاقبة للخطيئة.
وعلى النحو عينه، يبدو أن فِيلفُس يقول إن نفسنا قد استمدّت كيانها من (الروح الكليّة): "من أين جسدنا قد اتخذ روحه، لو لم تنعش الروح جسم العالم بالذات؟" أما في التيمئس فنحن لا نعثر بعد على شيء من هذا، كما لا نعثر عليه في كتاب الشرائع. فهل تبدّلت اعتقادات أفلاطون؟ وهل عدل الآن عن نظريّة التذكر وعن أزلية الأرواح؟ ألم يكن في ذلك سوى رمزٍ جميل، لا فائدة منه في مصنف علمي؟
من الصعب جداً أن نعرف هذا الأمر. ولكن في النهاية، ما يهيمن على كل تعليم أفلاطون بشأن الروح البشرية، هو شعورنا بأن عقل الإنسان، في قيامه بوظائفه السامية متّحد مباشرة بالله. وبأي عملية أو حيلة يبلغ إلى ذاك الاتحاد؟ إن أفلاطون لا يطمح إلى تفصيل هذا الأمر واطلاعنا عليه. بل يكتفي بأن يوقظ فينا، باختياره اختياراً واعياً صوراً نبيلة، ذاك الاشتياق الواله والظمأ غير المرتوي إلى مصير أسمى،هو غاية البشرية القصوى.(1/145)
والسيد روهده E. Rhode يشير إلى صعوبة مماثلة، في تحليل جميل استعرض تعليم أفلاطون في قضية الخلود. ففي التيمئس وكتاب الشرائع، الروح هي قبل كل شيء مبدأ حركة. ولكن حركة الروح الخاصة تظهر لنا في التيمئس على وجهين متباينين جداً. فمن جهة، هي حركة حيّ محرّكة الروح وأداته الجسد. وهذه الحركة منظورة محسوسة تقيّدها مجموعة معينة من الأعضاء والوظائف الجسدية. ومن جهة أخرى، هي حركة الفكر الرامية إلى أمور عقليّة محضة، تخالطها وتتعرّف عليها (التيمئس).
فأي علاقة يمكن أن توجد بين هاتين الحركتين؟ وكيف يستطيع أفلاطون في كتاب الشرائع أن يتكلم عن (دوران) العقل؟ فهل هذا مجرّد استعارة؟ أو ربما بالأحرى شعور عميق بوحدة الأشياء، وبالانسجام الباطني الرابط بين نظام الجسد ونظام الروح؟ فالعناصر المكوّنة للجسد أليست هي نفسها المكوّنة للعقل؟ الشيء ذاته والآخر، النظام والإخلال به، كل هذه الأمور متصلة في كل مكان، مختلطة، إلا على حدودها القصوى المثاليّة، حيث يستقر الخير الصافي من جهة والصيرورة المتقلّبة أبداً من جهة أخرى.
4 ـ التقمّص:
أحد العنصرين اللذين تتركّب منهما الروح البشرية خالد، والآخر هالك فانٍ. والواحد صُنع المبدع، والآخر من إنتاج الآلهة الثانوية. فيكلّمنا التيمئس عن قسم من الروح مائت، وجوده نتيجة اتحاد الروح الخالدة بجسد مائت. واتحاد الروح والجسد ينجم هو ذاته عن مجرى نواميس حتميّة أطلع عليها المبدع عبيده وكلّفهم بها. فهو يحدث كنتيجة لفعل إرادة الآلهة. والروح أوّل مرة خضعت لسنّة التجسّد. لم تتدخّل قط في اختيار جسدها، الذي حلت فيه. وهذا ما يسميه أفلاطون (المولد الأول).(1/146)
ولفرط تدنّي الروح الخالدة في هبوطها هذا تفقد عقلها إلى حين. إلا أنها تستطيع من بعد، بالتثقّف وممارسة الأبحاث العلمية، أن تستعيد هي ذاتها نظام حركاتها المتشوّش فترةً من الزمن. إن هذه الفكرة مأنوسة لدى أفلاطون. غير أن التجسد الأول ستعقبه تجسدات متتابعة، لا تتدخل فيها الآلهة، بل تتعلق فقط بالسيرة الصالحة أو الطالحة التي تنهجها الأرواح البشريّة في هذه الدنيا. لأن هناك بعض التجانس والتقارب بين الصورة التي يتّخذها البشر في حياتهم الجديدة، وبين سلوكهم على الأرض. وفعلاً في ولاداتها الجديدة تستطيع الأرواح البشرية أن تعود وتتجسّد في أجسام بهائم من كل نوع، حتى في أجسام الأسماك والرخويّات (كالحلزون والمحارات وما إليها). إن أفلاطون لا يتكلّم، شأن أمبْذُكْلِيس، عن تجسّد جديد من النبات. وإذا استثنينا هذا الأمر، فهو يعرض لتعليم تجدّد الولادة في شكله الأعم. وأجسام كل الحيوانات بلا استثناء، تبدو قابلة لإيواء الأرواح البشرية الساقطة.
إن تأكيداً كهذا يبدو مناقضاً لنصوص عدّة في حوارٍ فيذْرُس والجمهوريّة. فطبقاً لتعليم فيذْرُس، روح حيوانية، بمعنى الكلمة الحصري، لم تشاهد قطّ الحقيقة، لا تستطيع أن تحيا في جسد إنسان. ومن ثمّ ألا يجب، مقابل ذلك، القول بأن روحاً بشريّة، ولو ساقطة، لا تستطيع هي أيضاً أن توجد وتعيش في جسم حيوان؟ لاسيّما وإن ما يميّز الإنسان تمييزاً خاصّاً، هو وجود الروح العليا فيه، تلك الروح التي صوّرها المُبدع بذاته، أي الذيْمُن (الملاك أو الجنّي) والبْسخِي (النفس) واللُوْغُيسَ (النطق والعقل). والحال أن هذه الموهبة والخلّة، البشرية في جوهرها، مفقودة في الحيوان.
ومع ذلك، إن كان التقمّص في شكل حيوان عقاباً، فهذا العقاب لا ينال إلاّ النُوْس (أي الإدراك والفهم والروح العاقلة). فكيف قد يتمكّن العقل، الغريب برمّته عن الطبيعة الحيوانيّة، أن يقطن فيها ولو برهةً واحدة؟(1/147)
إن تلاميذ أفلاطون قد لاحظوا تلك الصعوبة. وابْرُكْلُس يعلمنا بذلك. غير أنهم لم يتوفقوا إلى إيجاد حلّ ملائم لها. وقد ادعى بعضهم أن النفس الروحيّة، وهي متماثلة في كل مكان، لا تنشط ولا تعي ذاتها دوماً بالنباهة عينها. ومن ثمّ فهي تتدنّى أحياناً وتغفو بحيث لا تستطيع أن تنعش وتحيي جسم إنسان. فهذه كانت ربّما فكرة أفلاطون. ولكنّه لا يبديها بدقة في مقام ما من مؤلّفاته.
وقد اقترح رُوهِده E. Rohde افتراضاً آخر. فهو يرتأي أن أفلاطون قد ردّ، في أواخر حياته، كل محتوى الروح إلى موهبتها العقليّة، وزوى في الجسد كل الوظائف النفسيّة الأخرى. غير أنه في تلك الحال كان مضطرّاً إلى العدول عن نظريّة تجدد الولادة. ولا يكون قد حافظ عليها في التيمئس إلا من باب الأمانة العفويّة لآراء الأرْفِيّين وأمبذُ كْليس، وبسبب فوائدها العمليّة أيضاً، وما قد يجهله مثل هذا التعليم من تأييد للحقائق الأخلاقيّة.
إلاّ أن التقليل من أهمية الاعتقاد بالتقمّص هو تنكّر لروح الأفلاطونيّة بالذات. فمهما كانت قيمة الأسطورة التي تعبّر بالصورة عن ذاك الاعتقاد، فالإيمان بتقدّم ممكن تحرزه الأرواح أو تدنٍّ محتمل تنحدر إليه، والثقة بمجهود العقل ليسيطر على الغرائز السفلى، كل هذا عنصر متميّز راسخ من فلسفة أفلاطون. وما هو صحيح، على ما أشار إليه رُوْهدِه، هو أن التعليم الأفلاطونيّ في الروح يُفسح المجال لمعطيات كثيرة تختلف في منشإها وطبيعتها. فأفلاطون يمزج ويصهر في بوتقة واحدة الاعتقاد الأُرفيّ والبِثَغوريّ القديم ونظريّة في الروح أحدث عهداً (ترى فيها أيضاً) مبدأ الوظائف الجسديّة. التيمئس في هذا المضمار يوفّر لنا أول تصميم، كامل جداً حتى من ذلك الوقت، لكل المذاهب المتعلّقة بروح الإنسان. وسوف تُهيمن تلك المذاهب على الفلسفة، من عهد أرسطو إلى عهد ديكارْت، ثمّ عهدِ اسْبِنُوزا فلايْبْنتِز.
5 ـ اتحاد الروح والجسد:(1/148)
إن أفلاطون هو ربما أول من طرح مشكلة اتحاد الروح بالجسد. فكما أنها تظهر في مظهرين متباينين، فهي مزمعة أن تتّحد به أيضاً على وجهين متميّزين. والروح بصورة عامة إن كانت أقدم من الجسد وأكمل، فهي لا تختلف عنه في الجوهر. فتركيب جسم العالم مثلاً هو أقل نقاءً فقط من تركيبها. بيد أنها تتضمّن عين العناصر المكوّنة، إذ يكمن في الروح ذاتها جوهر الأجسام القابل التقسيم. وبالتالي يشبه اتحاد الروح بالجسد ضرباً من الخليط، تُخلط فيه عناصر كيميائية متجانسة.
على أن العقل، ومنشؤه إلهيّ، يُعارض الجسد وفي آنٍ واحدٍ الأقسام السفلى من الروح. والجسدُ حيث يلج، هو له سجن ومنفى ومكان محنة، وأيضاً (عجلة) معدّة لنقله. لكنّه يلبث غريباً عنها" (طيماوس ـ 123 ـ 132).
ثمار التجربة الأفلاطونية:(1/149)
لقد اخترنا تقديم هذا العرض الشامل عن الروح في النصوص الأفلاطونية الذي قام به الأستاذ ألبير ريفو لكي تتاح الفرصة أمام القارئ لتلقي المعلومات من أكثر من مصدر محايد في كل مسألة، حتى وإن كنّا لا نتفق في الرأي أو الاستنتاج مع صاحبها، لأنّ هدفنا كما هو هدف القارئ المعرفة المجردة عن الغايات الشخصية والعقائدية التي تدفع صاحبها للتعصب والتحريف، وتصيّد أخطاء الآخرين، لتوظيف الأفكار لخدمة هدف محدد دون مبرر أخلاقي. ولأن الطامح للكمال يحزن لأخطاء أخوته في الإنسانية كما يسعده صَوابهم، ويثني عليه، لأنّ كلّ نجاح للإنسان في مكان لابدّ أن يصل ذات يوم إلى البشرية، وكلّ فشل وضلال وانحراف وشر لابدّ أن يصل إليها أيضاً وينال من عزيمتها وطموحها. ولهذا فإنّ الباحث عن الحقيقة، عن النور الذي بذل سقراط وأفلاطون وغيرهم حياته في سبيله، لا ينصب الفخاخ لتصيّد أخطاء الآخرين، لأنّهم لم ينجحوا دائماً في الوصول إلى ضفاف الحقائق. ورغم أنّ الحيادية حزبية، ولا يجوز أن تعني التجرد عن المواقف، إلاّ أنها كتجرد القاضي العادل عن إبداء أي حكم مسبق قبل معاينة الأدلة، والاستماع إلى الشهود وهو في النهاية لابدّ أن ينحاز إلى جانب الحقّ. فهذه هي الحيادية التي نتوخاها من خلال بحثنا عن الحقيقة، لننحاز في النهاية إلى الصواب بالاستناد إلى الأدلة التي نملكها. وإنّ الأدلة التي بين أيدينا تكشف عن الأخطاء التي وقع فيها أفلاطون وهو يحاول أن يستكشف طبيعة الروح والألوهية. لقد نجح في بعض الأحيان، إلاّ أنه فشل عندما أراد أن يفهم الروح والألوهية بأدوات العقل. لأن العقل يستطيع أن يفهم النظام وأن يستنتج وجود منظم وراء النظام، ولكنه لا يستطيع أن يبصر الماهيات وباطن الحقائق المادية.(1/150)
وهذا وإن أشار إليه أفلاطون، إلاّ أنه لم يلتزم به لتفسير ما لا يُدرك بغير الروح، وربما توهم أنه امتلك هذا الإدراك والمعرفة، كما حدث ويحدث مع كثير من المفكرين والمتصوفة الذين دافعوا عن قضايا لا وجود لها إلاّ في تخيلهم فبدت إليهم كالحقائق، ومنها اعتقاد البعض بدوران الكون حول الأرض، ورفضهم للفكرة المعاكسة، لاعتقادهم أن هذا الدوران توجبه وتفرضه قناعتهم بمركزيّة الأرض في الكون وكأن مكانة الإنسان في الكون مرتبطة بهذا النوع من الدوران. ولكن إذا كانت أوهام أفلاطون وخياله قد صوّروا له بأنّ ما تخيّله هو الحقيقة، فهل يمكن أن يقع في كل هذه التناقضات دون أن يشعر بذلك؟، ودون أن ينتبه إلى أنّه سيعرّض جميع أفكاره للنقد والسخرية في مجتمع ممتلئ بالفلاسفة والمتفلسفين الذين سيكشفون عن تناقضاته لينالوا منه، وهو الخبير بفنون التوليد والمنطق.
فهل يمكن لأفلاطون أن يقدّم المبرّرات لخصومه للهجوم عليه والنيل منه بهذه السهولة دون أن يدرك حجم التناقضات التي أوقع نفسه فيها، ودون أن يعمد لإصلاحها؟. إنّ مستوى أفلاطون المعرفي يدفعنا للشك في ذلك، وإن كانت نصوصه التي وصلتنا لا تدع أي مجال للشك في عيوبها والثغرات التي فيها. فكيف يمكن أن نوفّق بين ثقتنا بخبرة أفلاطون، ونقص معرفته؟. أو هل يمكن لمن يعرف أن لا يعرف؟.(1/151)
ربّما وأقول ربّما لأنّنا لا نملك الدليل، وإنّما الاستنتاج المبني على المنطق، ربّما لأنّ ثقافة أفلاطون وخبرته كما هو حال أي مفكّر آخر، كانت في تطوّر مستمر، وكان كلّ كتاب يكشف لنا عن إشارات معرفيّة جديدة، كما كان يكشف بالنسبة للنّقاد عن تناقض معيّن بين المرحلة الجديدة والمراحل التي سبقتها. وحتى هذه المراحل بين كلّ كتاب وما تلاه اختلف النقّاد حولها. وهذا الاختلاف والغموض يفقدنا القدرة عن معرفة تسلسل الإنتاج الأفلاطوني، وبالتالي آخر المعتقدات التي وصل إليها لكي ننظر إلى فكره من خلالها. فالغزالي مثلاً قبل فترة التأمّل هو غير الغزالي بعدها. ومعرفة تسلسل إنتاج أفلاطون ضروري لفهمه والحكم عليه، وهذا ما نفتقده بشكل يقيني. وإن اتّفق بعض الكتّاب، ومنهم قسطنطين رتر (1888)، ولوتسلافكي (1897)، وجومبرز (1902)، وناتورب وريدر (1903) "أنّ حوارات أفلاطون الأخيرة الخمس قبل الشرائع هي: السفستي والسياسي وفيلفُس وتيمئس واكْرَتِيسَّ" (94). ولكن هل هذا الاستنتاج هو اليقين الذي سيحول دون صدور آراء أخرى، ما دام لا يوجد دليل عليه؟. ثمّ هل وصلتنا كل نصوص أفلاطون دون أن يضيع منها أيّ شيء، أو بعض الصفحات؟. لا توجد إجابة حاسمة، وسيتساءل ألبير ريفو، أليس من المحتمل "أنّ أفلاطون سبق وألّف حواراً، ضائعاً اليوم، عاد فيه إلى ما عالج من موضوعات في الجمهوريّة بعد أن بدّل فيها وغير الأشخاص؟ ولكن لم يأت أحد من الكتّاب الأقدمين على ذكر هذا المؤلّف" (95). وبسبب الخلاف حول تاريخ نشر الثئيتتس، والتفاوت في أفكاره، وعدم نضجها، قال دييس "إنّ أفلاطون لم يحظ بمتّسع من الوقت لإنهاء هذه التحفة الأدبيّة. وإن كانت الأحوال تستحثّه للمضيّ إلى صقلية، ترك القسم الثاني على حالته التخطيطيّة ونشر الحوار بجملته" (96).(1/152)
هذه الملاحظات التي أبداها النّقاد تدلّنا، بأنّ أفلاطون إضافة لصعوبة معرفة تسلسل كتبه لمعرفة ما تغيّر في أفكاره، تؤيّد أيضاً احتمال ضياع بعضها، ونشر بعضها قبل نضجها. وهذا وإن كنّا لا نتوقّع أن يفعله أفلاطون، إلاّ أنّ تلاميذه فعلوه على الأغلب بعد وفاة أستاذهم. وهذا كلّه سيدخل اضطراباً كبيراً على الفكر الأفلاطوني. ولكن الناقد والقارئ مضطرّان للحكم على أفلاطون من خلال نصوصه، وإن كان أفلاطون الحقيقي غير أفلاطون في النص. وإذا أردنا أن نحكم عليه من خلال بعض المعطيات، فإننا نرى بأنّه قدّ شق طريقه إلى النبوّة بأن حاز على علامة منها، كما أشرنا. كما أنّ مثال الكهف والظلال والحقائق تدلّ على معرفة روحيّة عالية، وإن كانت غير مفهومة لكل إنسان. وقد تحدّث عن مثال هذا الموضوع الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكيّة. وقد جمعنا أهمّ هذه النصوص في كتابنا "الرؤيا بين الوهم والحقيقة" تحت عنوان "نصوص للشيخ محيي الدين بن عربي عن الرؤيا والخيال". وعند المقارنة بين إشارات أفلاطون إلى الظلال كخيال للحقيقة، وإشارات بن عربي حول هذا الموضوع، سنعرف المستوى الروحي العالي الذي بلغه أفلاطون. وقد اعتبره عبد الكريم الجيلاني من الأحياء الذين لا يموتون لأنّه شرب من ماء الحياة الموجود في مجمع البحرين، كما أنّه هو الذي دلّ الخضر على مكان هذا البحر. وهذه إشارة إلى المعرفة الروحيّة العظيمة التي بلغها أفلاطون، وإن كانت لا تتّفق مع منطق التحقيقات النقديّة والحسابات التاريخيّة لتسلسل الحوادث. وقد أشار الجيلي إلى رمزيّة هذه الحوادث بعد أن روى قصّة الخضر مع أفلاطون لكي لا يظن النّقاد أنّه يحدثّهم عن التاريخ.(1/153)
فقال عن "مجمع البحرين" اعلم أنّ عين الحياة مظهر الحقيقة الذاتيّة من هذا الوجود، فافهم هذه الإشارات، وفك رموز هذه العبارات، ولا تطلب الأمر إلاّ من عينك بعد خروجك من أنيّتك لعلّك تفوز بدرجة، { أحياء عند ربهم
يرزقون } " (97) . وبعد هذا التنويه بما تقتضيه قراءة نص الجيلي الرمزيّة عن أفلاطون، نقدّم ما قاله عن الصلة بين أفلاطون والخضر. قال الجيلي: "سافر الإسكندر ليشرب من هذا الماء اعتماداً على كلام أفلاطون، أنّ مَن يشرب مِن ماء الحياة فإنّه لا يموت. لأنّ أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل، وشرب من هذا المحل. فهو باقٍ إلى يومنا هذا في جبل يسمّى دراوند. وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الإسكندر, صحب الإسكندر في مسيره إلى مجمّع البحرين. فلمّا وصل إلى أرض الظلمات، ساروا وتبعهم نفر من العسكر وأقام الباقون في مدينة تسمّى (ثُبْت) برفع الثاء المثلّثة والباء الموحّدة وإسكان التاء المثنّاة من فوق، وهو حدّ ما تطلع الشمس عليه. وكان في جملة من صحب الإسكندر من عسكره الخضر - عليه السلام - . فساروا مدّة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر. وكلّما نزلوا منزلاً شربوا من الماء. فلمّا ملّوا من طول السفر، أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر. وكان الخضر - عليه السلام - قد أُلهم بأن أخذ طيراً فذبحه وربطه على ساقه. فكان يمشي ورجله في الماء. فلمّا بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه فأقام عنده وشرب من ذلك الماء، واغتسل منه، وسبح فيه. فكتمه عن الإسكندر وكتم أمره إلى أن خرج. فلمّا نظر أرسطو إلى الخضر - عليه السلام - علم أنّه قد فاز من دونهم بذلك فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والإسكندر علوماً جمّة" (98).(1/154)
وهذا لا يعني أن الخضر - عليه السلام - أخفى عن رفاقه سرّ مجمّع البحرين لأنانيّة خاصّة، ولكن لأنّ الآخرين لم يكونوا مؤهّلين مثله للاستفادة من الماء حتّى لو أخبرهم بمكانه، وليس كل من جلس في غار حراء سينزل عليه الوحي. وإذا كان أفلاطون دليلاً للخضر - عليه السلام - إلى مجمّع البحرين، فإنّ أفلاطون لابدّ أن يكون قد وصل إلى مقامات روحيّة عالية، وفُتح له طريق النبوّة، وإن كانت النبوّة من التنبّؤ، حدّها صدق النبوءات عن رؤيا أو عن إلهام باليقظة، ولا تعني صحّة الرأي دائماً. لأنّ الرأي الصائب دائماً لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالإمداد الروحاني الدائم من مقام(1/155)
{ إن هو إلا وحي يوحى } . ولهذا لم يكلّف الأنبياء بالرسالات لأنّهم لم يصلوا إلى مقام تلّقي العقل المقدّس، أي الروح، من العقل الأقدس. ولكن غيرة أفلاطون وحرصه على دلالة الخلق إلى ما ذاقه من المعرفة الروحيّة، شأنه في ذلك شأن الأولياء والعارفين الذين يسعون إلى نشر العلم، حرصاً على الناس، غير معصومين من الخطأ. ولابدّ بعد ظهور شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الكاملة، من قياس علومهم على شريعته، لأنّها الشريعة المعصومة عن الخطأ، بينما الأولياء مهما كان شأنهم غير معصومين. ولكن أفلاطون ونظراً لعدم وجود شريعة للقياس عليها في عصره معذورٌ فيما قدّمه من أفكار، بهدف دلالة الناس على الله، وإن أخطأ في اختيار الطريق، أو الأسلوب. وقد بيّنّا كمثال في حديثه عن الحب كيف أنّ هدفه كان "حب الخير الأسمى" لا الحب المادي والجسدي الذي يعول عليه الماديّون. وإذا كنّا قد اعترضنا على النصوص الأفلاطونية المدوّنة، فلأنّ بعض أفكارها من إبداع العقل والعقل يخطئ ويصيب، وبعضها من عالم الروح،وهذا ما بيّناه وقبلناه. ومرّة أخرى يجب أن نعذر أفلاطون لما قد يكون دسّ عليه، أو وصلنا محرّفاً، أو قبل اكتمال الكتاب. وهذه كلّها احتمالات تعرّضت لها حتّى بعض رسالات الأنبياء، وإنّ آخر ما سنتم به هذا البحث هو رأي الشيخ شهاب الدين يحيى السَهَرْوَرْدِي في أفلاطون فقد قال عنه في كتابه: "حكمة الإشراق" "ما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يُبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كلّ من سلك سبيل الله عزّ وجل وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون صاحب الأيد والنور" (99).(1/156)
وبيَّن سبب هذا الرأي فقال: "وهو ذوق جميع الحكماء الذين كانوا قبل أفلاطون من زمان هرمس الهرامسة المصري المعروف بادريس النبي - عليه السلام - إلى زمان أفلاطون، والعظماء الذين بينهما كانباذقلس وتلميذه فيثاغورس، وتلميذه سقراط، وتلميذه أفلاطون وهو خاتم أهل الحكمة الذوقيّة، ومن بعده فشت الحكمة البحثية، ومازالت في زيادة الفروع الغير المحتاج إليها حتى انطمست الأصول المحتاج إليها" (100). وقال عن إشادة ابن سينا بأرسطو دون أفلاطون: "لو أنصف أبو علي، لعلم أنَّ الأصول التي بسطها أرسطاطاليس مأخوذة عن أفلاطون، وإنَّ أفلاطون ما كان ـ والعلم عند الله ـ عاجزاً عن ذلك، وإنما عاقه عن ذلك شغل القلب بالأمور الكشفية الجليلة والذوقية الجميلة (واجتهاده في الرياضيات والمجاهدات ومشاهدة جلال الحق والنظر إلى كبريائه، وهذه الأشياء) هي الحكمة بالحقيقة. ومن هو مشغول بهذه الأمور المهمة الشريفة النفيسة، كيف يتفرغ لتفريع الأصول وتفصيل المجمل الغير المهم..؟ وتضييع الزمان والعمر فيما لا طايل تحته..؟ قال الشاعر:
تألّقَ البرق نجديّاً، فقلت له ... يا بارق الحيّ إنّي عنك مشغول(1/157)
"بل الصواب والعقل ما فعله الحكيم الفاضل أفلاطون الإلهي على أنه غير قاصر في البحث كما ذكره. لكن أكثر كتبه ومصنّفاته ما نقلت إلى العربي، بل تلفت وذهبت" (101). وقد بيَّن السهروردي بأنّ: "أصل القواعد الإشراقية ومأخذها هو الكشف والعيان، وأصل قواعد المشَّائين البحث والبرهان" ولهذا السبب كان حظ أهل البحث الصرف الشكوك، إذ "لعبت بالمعتمدين على البحث الصرف من متقدمي المشائين ومتأخريهم. ألا ترى أنهم كيف اضطربوا وتحيّروا من كثرة الأسؤلة ـ الأسئلة ـ الواردة عليهم، وتخبّطوا في القيل والقال وتشكك اللاحق على السابق، ولم يتّفقوا على شيء..؟ بل كلّما دخلت أمّة لعنت أختها ولهذا لم يبقَ للأذكياء ثقة بكتبهم ولا بكلامهم، إذ لا يخلو عن الريب والشك، ولا يسلم عن الطعن والقدح" (102). هذا هو حال الفلسفة منذ القديم إلى عصرنا الراهن، كلّ فيلسوف نقض فلسفة من سبقوه وعارضها. ومع ذلك فالفلسفة ليست كلّها تناقض الحقائق، أو تجهلها، وإن كان مصدر(1/158)
الفلاسفة العقل، ومصادر أصحاب الإلهام الروح: "إذ الفيلسوف ليس كلّ علمه باطلاً" (103). وحتى لو علمنا بأنّ الفيلسوف لا دين له فهذا لا يحُوْل دون إصابته في بعض الأمور، كما قال الشيخ ابن عربي: "وأمّا قولك: إنّ الفيلسوف لا دين له، فلا يدلّ كونه لا دين له على أنّ ما عنده باطل. وهذا مدرك بأول العقل عند كلِّ عاقل" (104). فكيف سيكون حكمنا على أفلاطون وهو من الذين آمنوا بالله، وسعوا ما وسعهم إلى إقامة دولة الإيمان، وإن أخطأ الطريق، فيما ظنَّ صلاحه من شرائع لهذه الدولة.وإذا كان أخطأ فيما اقترحه من مشاعيّة النساء والأولاد، وإن لم يكن هدفه نشر الرذيلة والفساد في المجتمع. فقد تبيّن لنا من رأيه في الحب، أنّ العلاقات الجسدية كانت عنده محتقرة إلى درجة أنه اعتبرها مُحطّة بمكانة الإنسان، ولا تصلح لأنْ تكون هدفاً للإنسان العاقل، ولا يليق بها أن تظهَر في النهار، ولهذا حرّم كلّ ما يثير الغرائز من شِعر أو موسيقى. وجعل تربية الإنسان على حبِّ الخير الأسمى هدفاً لكلِّ دولة صالحة، وباقي التفاصيل هي أسباب للوصول إلى هذا الهدف. وكما تَوافق فكر أفلاطون وروحه مع كثير من الشرائع السماوية التي ستأتي، فإنّه في النقطة الأهمّ من هذه الشرائع قد اتّفق معها ووصل بروحه إلى ما وصلت إليه، عندما جعل هدف الإنسانية الجوهري، أو ما يجب أن يكون هدفاً لها "المعرفة". ولهذا اختار دولة لا يجوز فيها للحكام ومن يدافعون عنها أن يتمتّعوا بأيّ ملكية لئلا ينشغلوا عن الهدف الأسمى بالأهداف الدنيوية، وخاصة جمع المال، الذي كان ومازال سبباً لكل بلاءات الأمم، وحروبها الظالمة، بل كان سبباً رئيساً لكلِّ ظلم واضطهاد بين أفراد الأمّة الواحدة، فكان هدف أفلاطون موافقاً لجوهر كلّ دين. والذي لخّصه القرآن بقول الله: { وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون } .(1/159)
وقد قال ابن عبّاس في تفسيره "ليعبدون" "ليعرفون"وهذا المعنى يؤيده ويفسّره قول الله { إنّما يخشى الله من عباده العلماء } (فاطر/28). وبما أنّه لا بدّ من العلم إذا أردنا أن نبني دولة تعرف الله، لكي تخافه وتعمل بشريعته. وبما أنّ ما لا يتحقّق إلاّ بواجب يصبح واجباً. فإنّ من المعروف أنّ انشغال الناس بجمع المال يعطّل عليهم أبواب العلم ويقودهم إلى الجهل، ولهذا فإنّه في دولة الإيمان لابدّ من إيجاد طريقة لوقف ركض الناس وراء المال، وتضييعهم للعلم، ولابدّ من الوقوف في وجه الرأسمالية التي تسعى لخلق مجتمعات هدفها الاستهلاك والترف بدلاً من المعرفة التي تصبح في هذه المجتمعات وسيلة للتجارة والربح. ولابدّ من إزاحة كلّ الأسباب التي تؤدّي لارتقاء الإنسان ومعرفة نفسه وربه. وهذا لا يمكن أن يحدث في مجتمع يتسابق على الثراء، ويعاني أغلب أفراده من الحرمان. لهذا لابدّ في الدولة الصالحة من وقف هذا السباق وراء المال، الذي يضرّ بالعقول والأرواح. ولابدّ من نظام يجعل المعرفة هدفاً والسباق في ساحاتها غاية الغايات. وإذا كانت مثل هذه الدولة لم تتحقّق في زمن أفلاطون ولا في زماننا، ووقفت دول الاشتراكية في تعارض مع الإيمان، ممّا أدّى لانحرافها عندما تأسّست على منطق المصلحة، لا المعرفة، والإلحاد لا الإيمان، فإن هذا يجب أن لا يمنعنا من الحلم مرّة أخرى بدولة عادلة تجعل المعرفة هدفاً، والإيمان جوهراً، وتوزيع الثروة بالعدل أسلوباً وسبباً ومقدّمة لتفرّغ الأمّة للعلم النافع والمعرفة الصالحة. وإذا قسنا أعمال أفلاطون الفكرية بالنوايا لكي نحكم عليه، فإننا لا شك سنجد بأن كلّ أعماله مكرّسة لبناء مجتمع صالح أساسه الإيمان بالله، وهدفه المعرفة، وميزانه العدل، وفي زمن لا توجد فيه شريعة مقررة.(1/160)
ولهذا سنجد له العذر فيما قاله سواء كان صواباً أو خطأً بالقياس إلى نواياه، وإن كانت معرفته الروحية لم ترتقِ إلى المستوى المطلوب الذي يؤهله لتجنب عثرات العقل، وإصدار شريعة متكاملة. ولهذا فلسنا مع كلّ ما قاله عبد الكريم أو السهروردي عنه. وإن كّنا مع بعض ما قالوه. وذلك لأنّه لا عصمة إلاّ للرسل. وأفلاطون ليس له هذا المقام ولا لعبد الكريم أو السهروردي. وربما لم يتح لهما الإطلاع على كلِّ أفكاره ولهذا قالا عنه ما قالوه. وإن كنّا نوافق على حسن الظنّ بنواياه، بل نحن على يقين منها.
***
مراجع الفصل الأول "حدود المعرفة بالعقل"
الطريق المسدود أمام المعرفة
(1) د. زكريا إبراهيم ـ مشكلة الفلسفة ـ ص 29.
(2) المرجع السابق 31.
(3) المرجع السابق 41.
(4) المرجع السابق 41.
(5) ماركس، إنجلز ـ مختارات ـ ص 11/42.
(6) د. زكريا إبراهيم ـ مشكلة الفلسفة 58.
(7) جان بول سارتر ـ الوجود والعدم 877.
(8) جياني فايتمو ـ نهاية الحداثة 23.
(9) المرجع السابق 24.
(10) المرجع السابق 44.
(11) أسوالد اشنبغار ـ تدهور الحضارة الغربية 88/120.
(12) كولن ولسون ـ سقوط الحضارة ـ 131.
(13) المرجع السابق 130.
(14) جورج مونو ـ المصادفة والضرورة ـ 214.
(15) المرجع السابق 208.
(16) فرويد ـ الرئيس ودور ولسون ـ 13.
(17) بول روزان ـ فروديد وتوسك ـ 125.
(18) المرجع السابق 126.
(19) المرجع السابق 32.
(20) المرجع السابق 134.
حوار العقل ومسلماته
(1) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 26.
(2) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ 212/91 محقق.
(3) ابن عربي ـ ختم الأولياء ـ 290.
(4) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ 16/ ج4.
(5) تيودوسيوس دوبزنسكي ـ الوراثة والطبيعة البشرية ـ 190.
الفيض الذاتي للطبيعة
(1) دارون ـ أصل الأنواع ـ 765.
(2) المرجع السابق 771.
(3) المرجع السابق 777.
حدود الحكمة العقلية في الدراسات الأفلاطونية
(1) أفلاطون ـ الجمهورية 113.(1/161)
(2) المرجع السابق 173.
(3) م. س 38.
(4) م. س 39.
(5) م.س 140.
(6) م. س 140.
(7) م. س172.
(8) م. س 24.
(9) م. س 143.
(10) م. س 143.
(11) م. س 68.
(12) م. س 68.
(13) م. س 73.
(14) م. س 68.
(15) م. س 70.
(16) م .س 71.
(17) م. س 70.
(18) م. س 70.
(19) مصطفى النشار ـ فكرة الألوهية عند أفلاطون = 152.
(20) أفلاطون ـ المأدبة 67.
(21) م. س 70.
(22) المأدبة، ص 155+ فكرة الألوهية عند أفلاطون، ص 60.
(23) فكرة الألوهية عند أفلاطون 62.
(24) أفلاطون ـ الجمهورية 81.
(25) م. س 82.
(26) م. س 94.
(27) م. س 75.
(28) م. س 97.
(29) م. س 97.
(30) م. س 99.
(31) م.س 105.
(32) م. س 118.
(33) م. س 198.
(34) م. س 146.
(35) م. س 157.
(36) م. س 157.
(37) م. س 160.
(38) م. س 160.
(39) م. س 162.
(40) م. س 161.
(41) م. س 161.
(42) م. س 162.
(43) م. س 162.
(44) م. س 236.
(45) م.س 232.
(46) كلود جوليان ـ الحلم والتاريخ 151.
(47) أفلاطون ـ الجمهورية 234.
(48) م. س 237.
(49) م. س 235.
(50) م. س 238.
(51) م. س 241.
(52) م. س 240.
(53) م. س 243.
(54) م. س 249.
(55) م. س 256.
(56) م. س 256.
(57) م. س 256.
(58) م. س 257.
(59) م. س 250.
(60)م. س 251.
(61) م. س 251.
(62) م. س 254.
(63) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 92.
(64) أفلاطون ـ الجمهورية 266.
(65) رايموت رايش ـ النشاط الجنسي وصراع الطبقات ـ 221.
(66) م. س 222.
(67) م. س 223.
(68) م. س 223.
(69) م. س 223.
(70) م. س 226.
(71) فرويد ـ الحياة الجنسية ـ 43.
(72) أفلاطون ـ الجمهورية ـ 43.
(73) أفلاطون ـ الجمهورية ـ 278.
(74) م. س 259.
(75) م. س 260.
(76) م. س 261.
(77) م. س 262.
(78) م. س 269.
(79) م. س 269.
(80) م. س 258.
(81) م. س 266.
(82) أفلاطون ـ الثئيتتس ـ 24.
(83) أفلاطون ـ طيماوس ـ 25.
(84) م. س 24.
(85) أفلاطون ـ الفيلفس ـ 108.
(86) م. س 109.(1/162)
(87) م. س 110.
(88) أفلاطون ـ الجمهورية ـ 287.
(89) م. س 179.
(90) أفلاطون ـ الفيلفس ـ 113.
(91) م. س 114.
(92) أفلاطون ـ طيماوس ـ 33.
(93) م. س 131.
(94) م. س 30.
(95) م. س 28.
(96) أفلاطون ـ الثئيتتس ـ 57.
(97) عبد الكريم الجيلاني ـ الإنسان الكامل ـ 73.
(98) م. س 72.
(99) شهاب الدين السهروردي ـ مجموعة مصنفات شيخ إشراق ـ 10/ج2.
(100) م. س 300/ ج2.
(101) م. س 304/ ج2.
(102) م. س 308/ ج2.
(103) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ تحقيق عثمان يحيى ـ 146/ ج1.
(104) م. س 146.
***
الفصل الثاني
المعرفة بالروح
الحدس(1/163)
إننا في القسم الذي تحدثنا فيه عن "أدوات المعرفة" لم نذكر شيئاً عن المعرفة بالروح، لأننا أردنا أن نشير إلى أدوات المعرفة المعهودة بين الناس، والتي فشلت في إدراك ما وراء الطبيعة، والتي كان الحديث فيها عن عالم الروح دون تمهيد، سيثير نوعاً من الغرابة والشك. فما هو عالم الروح وماذا سنعرف عنه وبه؟. إن عالم الروح هو عالم العقل الباطن والحواس الباطنة. إنه ما يسميه الناس عادة الحدس. ولكن الحدس الصادق بالقياس إلى الروح ليس سوى وميض خاطف من نور عظيم لا ينطفئ. ومع ذلك فإن الحدس الذي نتوقع به وقوع أمر ما، مثل زيارة صديق أو خبر سعيد، ثم نكتشف حدوث ما توقعناه إنما ينتمي في أصوله إلى عالم الروح. وقد أشار الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859 ـ 1941) إلى أهمية الحدس فقال عنه "إننا نستطيع عن طريق الحدس ـ تلك الملكة الفائقة للعقل ـ أن نتوصل إلى حلّ الكثير من المشكلات الميتافيزيقية التي ظلت حتى الآن مستعصية على الحل" (1). ولكن ما هو الحدس المرتبط بما نسميه عادة الحاسة السادسة؟. إنه ذلك الشعور الذي ينبئنا بأن شيئاً ما سيحدث، دون أي مقدمات، أو أسباب منطقية. إنه يأتينا بأخبار أو شعور بهذه الأخبار من عالم وراء العقل، ولا يعقل إلا بوقوع اللامعقول بشكل مفاجئ. إنه فكرة تخرج من عالمنا الداخلي الخاص، وتنساب إلى مشاعرنا بشكل إرادي مثل رسالة. ولكن هل نستطيع أن نستفيد من هذا الحدس بشكل علمي، بأن نقوي فعاليته كي نوسع قدرتنا على التنبؤ، أو المعرفة؟.. سيدافع برغسون عن هذا الطموح "أحيط العقل الإنساني بهالة من حدس. وظل هذا الحدس عند الإنسان مجرداً عن المنفعة واعياً؛ إلا أنه كان شعاعاً ضئيلاً ولم يكن هذا الشعاع لينفذ إلى بعيد. ومع ذلك فمن هذا الشعاع يمكن أن يأتي النور إذا أمكن يوماً أن تضاء الوثبة الحيوية في حقيقتها ومعناها ووظيفتها.(1/164)
لقد كان هذا الحدس يتجه إلى الداخل واستطعنا بتقويته قليلاً أن ندرك اتصال حياتنا الداخلية. فهلا يكون في وسعه إذا زدنا في تقويته أن يصل بنا إلى جذور وجودنا، وأن يطلعنا بذلك على مبدأ الحياة نفسه" (2). إن المهم عند برغسون هو كيف نقوي فاعلية الحدس؟ ولكن برغسون لأنه لم يدخل في التجربة بشكل صحيح، ظل على أطراف الحدس، يلامس طيفه على المستوى النظري، الشاعري، ظل وميضاً يلوح له من بعيد دون أن يدخل إلى عوالمه المعرفية. وهذا ما تدلنا عليه تجربته الفلسفية، والنتائج التي توصل إليها، إذ لم يشرب من النبع الصافي للحدس، لأنه ظل يطوف بعقله حول عالم لا يدرك بالعقل إلا بعد رؤيته. وهذا ما سيتعرض له الفيلسوف الروسي نيكولاس برديائف الذي عاين الحدس بشكل باطني ولكنه لم يتعلم منه كثيراً؛ لأن الفلسفة بشكل عام تساعد على عزلة العقل وتضخم غروره بشكل لا يسمح فيها العقل لصاحبه بالنظر إلى النور الداخلي الذي لا يؤيده المنطق الفلسفي وإن شعر بوجوده، وعرف أنه كامن في "البصيرة الأصلية". يقول برديائف "من الأمور التي تكاد تكون مضحكة تصور أن اسبينوزا قد ادعى بلوغ المعرفة "بطريقة هندسية". والواقع أن الأصل الحقيقي لفلسفة اسبينوزا ـ أو أية فلسفة أخرى ـ أصل حدسي.. أما الإدعاءات الخاصة بوضع فلسفة "خالصة" ومحايدة "وعلمية"، فمجرد أحبولة وضلال. وليس الإثبات العقلي صفة أصلية من صفات الإدراك الفلسفي، بل إنه في نهاية الأمر خارج عن الموضوع، وحيلة انتهازية يصطنعها الفيلسوف إزاء من يأمل إقناعهم ببصيرته. أما ما يحمل الاقتناع، فليس هو الجدل النظري على كل حال، بل البصيرة الأصلية" (3). إن كثيراً من الفلاسفة سيتحدثون عن الحدس دون أن يفهموه، وسيتغير مفهومه ومعناه تبعاً لروح الفيلسوف المطموسة في جموح العقل الصارم، الذي يعرف كيف يحسب ويفكر ويقيس ويستنتج، ولكنه لا يدرك النور الداخلي الخاص في أعماقه إلا نادراً.(1/165)
سيصبح الحدس نوراً طبيعياً في مفهوم ديكارت، ومكشوفاً لكل الناس "إننا ندرك بالحدس ثلاثة أشياء، الطبائع البسيطة، والحقائق التي لا تقبل الشك، والعلاقات التي تربط الحقائق إلى بعضها البعض. ولذلك سمى ديكارت هذا الحدس نوراً طبيعياً، تكتسب به معارف كافية للبرهان على قضايا كثيرة" (4). ولهذا سيُعرف ديكارت الحدس لأنه لا يعرفه إلا من وجود الفكر، ومن كون الحدس تابعاً له بقوله "إنه التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من السهولة والتميز، لا يبقى معها مجال للريب، أو التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده" (5). إن الفلاسفة لن يعرفوا الحدس إلا بأدواتهم المنطقية، والحدس هو فوق العقل العملي ووراءه، إنه الباب الذي يشير إلى العمق الداخلي الذي لم ينفتح بعد، وإنما تسرب منه شعاع من أشعة الروح عبر الباب الموصد بالعقل. إنه إشارة فقط للشمس الكامنة في ظلمة الجسد، والتي تدعونا للبحث عنها في أعماقنا. أليست كل ماهية تعبّر عن نفسها بالمعاني المتدفقة منها. فإذا كان ما لا يدرك إلا بالحواس أو بالعقل قد أدرك بدون الحواس، ودون تفكير سواء في النوم أو اليقظة فبأي وسيلة أدركناه؟. إنها المشكلة التي سيقف العقل عاجزاً عن فهمها بسبب اللغز الذي يتمرد على قوانين الفكر. فاللغز ـ الحدس ـ عندما يدق باب العقل ليخبره بأمر ما، سيفاجأ، لأنه لم يأته بالدليل عن طريق الحواس، ولهذا سيوصد الباب في وجهه لأنه لا يريد أن ينازعه في مملكته المطمئنة، ومتى أُوصد الباب في وجه الزائر الغريب والعجيب لن يعود إلى الظهور، لأن الظهور أمام العميان لا يفيد شيئاً. لقد أوصد الفلاسفة باب الحدس غالباً، ولهذا لا يظهر لهم، ليس لأنه غير موجود بل لأنه غير مطلوب، إذ اكتفى كل عاقل بعقله، ونام على يقينه بدلالات منطق أرسطو ومسلمات العقل، وإبداعه الخاص.(1/166)
ولهذا تطور الفكر ولم تتقدم المعرفة، وتحرر كل فيلسوف من سلطة الفلاسفة حين ابتدع فلسفته الخاصة، فأصبحت الفلسفة سبباً للضياع في سوق امتلأ بالنظريات. فمن يريد أن يثبت أن أي مسافة لا يمكن قطعها نظرياً لأنها مؤلفة من أجزاء لا تنتهي فإن عليه أن يلجأ إلى الفلسفة. ومع ذلك فإن الفلسفة وإن عجزت عن إدراك الحقائق الكبرى، وأضاعت كثيراً من الوقت في الجدل، فإنها طرحت علينا أسئلة فحرضت فينا الشوق لكي نعرف، وإن ضاعت في دروب المعرفة التي لم توصلنا ولن توصلنا إلى مدينة المعرفة، لأن الفلسفة لم ترض بأن تكون تلميذاً على أبواب مدينة الروح. إنها الفلسفة بغرورها وطموحها وجمالها، في ثراء الكلمات والمعاني والأسئلة التي لا تنتهي ولا تريد أن تنتهي. إنها تاريخ القلق والأحلام والمصير اللامحدود للعقل الذي لابد من طوباوياته وثرثرته في مدنيات العالم المشبعة ببخور الرخاء، وعبثية الفكر وطموحاته وتصاميمه المخصصة لبناء وهندسة العالم بحروف الأمل والفشل والانتظار، ودخول كل فلسفة في التاريخ كتاريخ يولد ويموت. فهل نلوم الفلسفة لأنها فشلت في الدخول إلى رحاب عالم الروح أم نشفق عليها؟ ربما إننا بحاجة إلى هذا التضاد، لإدراك جمال الليل والنهار، والقمر والشمس. فكلاهما وإن كان كل واحد يدل على حقيقة مختلفة. فإنهما في إمدادهما للنور يكشفان عن أنوار الحقيقة بنسب مختلفة، الشمس كمنبع للنور، والقمر كمرآة أتاح للشمس فرصة الظهور عندما تغيب فكان شمساً بالنيابة إلى حين شروقها. لا مجال للتقليل من شأن العقل وما نتج عنه، ولكن علينا إذا كنا نريد أن نستكشف فضاء نفوسنا أن نبحث عن النور الآخر الكامن فينا، لكي نساعد العقل على تحقيق طموحه. وهذا لن يحدث إلا بوصله مع عالم الروح الذي يدلنا الحدس على وجوده. فكيف سنصل إليه؟. وهل سيساعدنا العقل على إنجاز هذه المهمة؟.(1/167)
ولكن قبل أن نقدم على السفر، هل سيجد كل مسافر إلى مدينة روحه مدينته التي تشبه مدن الآخرين، أم أن مدينة روح كل إنسان ستختلف عن المدن الأخرى، وربما إن بعض الناس لا يملكون هذه المدينة؟.
مدينة الروح
ربما إن علينا أن نواجه السؤال العملي لكي لا نضيع في غموض الكلمات والأسئلة. وهو أين هي مدينة الروح التي نتحدث عنها؟ وباختصار ويقين سنقول إنها فينا بالقوة لا بالفعل، كما هي الشجرة كامنة في البذرة. وإننا ببساطة نستطيع أن نستدل على حقيقة أن ما هو في الآخرين من علوم هو فينا أيضاً بدليل أن الطبيعة لم تهب لأي مخلوق غير ما في نوعه، إذ لا شيء يأتي من الخارج، فبذرة القمح تظل بذرة للقمح مهما أغدقت عليها الطبيعة من عناصر الحياة. وكل بذرة سواء على مستوى النبات أو الحيوان أو الإنسان لا تنتج إلا نوعها دون زيادة أو نقصان. ولكن الطبيعة تساعد على اكتمال أو عدم اكتمال الثمار. قد تفشل في مساعدة البذرة على إعادة طباعة النسخة الأصلية بدقة، فتتعرض الثمار لعاهة تؤدي إلى ضعفها أو قوتها، أو عجزها عن التكاثر. قد تغيب بعض الحواس في الإنسان لأسباب عديدة سنتحدث عنها في الفصول القادمة، وقد تصاب منطقة الدماغ بعلة فلا يكون الإنسان متزناً، فالبيئة لها تأثيرها. إنها كما في الفرن قد نحرق العجين الذي نريد أن نجعله خبزاً فيصبح فحماً لا يصلح للأكل. فهذا الخطأ، عجز الطبيعة عن المساعدة على إعادة عملية نسخ البذرة وتصويرها له أسبابه العائدة في جزء منها إلى مرض تعرضت له البذرة، فقامت البذرة الأم بنقل المرض إلى البذور الجديدة، ربما بسبب وقوع خلل في تغذية الأم من الطبيعة زيادة أو نقصاناً مما أدى لموت أو عجز بعض أجزائها الحيوية وتعطيلها أو موت البذرة كلياً.(1/168)
فالطبيعة كأم أولى لها تأثيرها في الأرحام التي تتغذى منها، الأمهات والآباء الأرضيات والسماويات، الثمار واللحوم، الحرارة والبرودة، الشمس والهواء والماء والتراب وما ينتج عنهم جميعاً وصولاً إلى الرحم الذي سيمر به كل مخلوق، سيؤثرون في إعادة تركيب البذرة، فإما أن تصل كاملة أو ناقصة وإما لا تصل مطلقاً إلى الحياة. ولكن الطبيعة لا تستطيع أن تضيف إلى البذرة ما لا وجود له في الآباء، الأصول، ولا أن تلغي ما فيها، وما يطرأ من أمراض هو حالات خاصة لا تصلح للقياس. إن ما نتوصل إليه من ملاحظتنا لكل المخلوقات هو أن كل مخلوق يحمل صفات نوعه الثابتة التي لا تتغير؛ فبرامج حياة النبات والحيوان ستتكرر في كل نوع من الولادة حتى الموت دون أي تغيير، مما يبرهن بشكل قاطع أن كل بذرة تحمل في أعماقها قَدَرها، وأن الطبيعة سواء كانت تراباً وماء أو رحماً لا تساهم إلا في إعطاء الطاقة ـ الغذاء ـ للبذرة لكي تسير بخطى مقررة إلى الحياة، وتحويل ما هو بالقوة في داخلها إلى صورة مشهودة بالفعل. إنه الباطن الذي سيفيض بحقائقه، بتلقيه حساء الحياة المناسب. بل إن العجيب والأعجب أن بذور النبات المتنوعة رغم أنها تتلقى غذاء واحداً وتعيش متجاورة فإن ثمارها تختلف في الطعم والرائحة والشكل، ولا تخطئ أي نبتة بإنتاج ثمرة واحدة مغايرة في طعمها لبقية الثمار. إن نظام عمل هذه الأجهزة الدقيقة التي تأخذ الحلو أو الحامض من التراب وتحدد لون وشكل الثمار دون أي خطأ ولو بالصدفة، أمور تثير دهشة أي متأمل. فإذا كان هذا حال النبات والحيوان فهل سيختلف تكوين الإنسان عن كل هذه المخلوقات، وهل سيكون برنامجه المعرفي خارج كيانه؟. لنطرح السؤال كيف تقدمت العلوم الإنسانية؟ ولنطرح السؤال المقابل، لماذا لم يكتشف الناس الأوائل ما اكتشفه الإنسان المعاصر إذا كان كل عقل إنساني يحمل كل أسرار العلوم ما عرف منه وما سيعرف؟.(1/169)
لو تأملنا في حقيقة الموضوع، لكي نفهم كيف تقدمت العلوم، فإن علينا أن نطرح السؤال التالي: من أين حصل الإنسان على علومه القديمة والمعاصرة.
هل كلمته الأرض أو السماء أو المخلوقات وعلمته أم إنه ابتكر كل ما صنعه بالاعتماد على عقله؟. إن العلماء مازالوا يبتكرون ويضيفون ويطورون بعقولهم. ألا تدل إبداعات الإنسان الجديدة بأن هذا العقل نفسه هو الذي أبدع اليوم ما لم يكن يعرفه البارحة، فهل دخل إلى عقل العالم علم جديد من غذاء أو دواء، أم إن العقل مازال ينكشف لنا رويداً رويداً عبر الأجيال والعصور، والإنسان هو نفسه لم يتغير؟. ما الذي تغير إذن؟ إنها الفرص المتاحة أمام الإنسان المعاصر بفضل تاريخ طويل متراكم من العلم والثقافة. لقد اكتشف كل عالم جزءاً من طاقته العقلية عبر عمر الإنسان القصير، وكان كل بناء معرفي يقوم على البناء الذي سبقه ولهذا لم يكتشف الإنسان القديم ما اكتشفه الإنسان المعاصر، ليس لأن عقله أصغر أو لأنه أقل ذكاء، وإنما لأن كل اختراع كان يستغرق وقتاً، وظل الناس كما هم اليوم لا يفكرون إلا في حاجاتهم. ولهذا قالوا ـ الحاجة هي أم الاختراع ـ ربما لهذا السبب ولأسباب كثيرة غيرها كانت ابتكاراتهم متوازنة مع حاجاتهم. ما نستنتجه هو أنه لا شيء يأتي إلى العقل من الخارج، وإن العقل ليفيض بما فيه، كما إن كل بذرة تفيض بما فيها. وهذا القانون السائد في الكون، والذي لا يسمح للسلالات بالتطور بعد ظهور أنواعها، وليس قبله، خلافاً لمن يقولون بنظرية التطور، لأننا نوافق على فكرة التطور كإبداع قبل ظهور النوع، ولا نوافق عليها بعد ظهوره وتحديد صفاته. لأن مفهوم تطور الأنواع يناقض العلم، وقوانين العقل. فـ (آ) ليست هي (ب) وإن أراد التطوريون أن يقولوا إن في (ب) الألف بلفظهم لها (باء) لإثبات بأن (ب) هي تطوير للألف. ولكن جمع (آب) ليس هو (آ) ولا (ب) فهذا نوع جديد.(1/170)
وإن اكتشاف البصمة الوراثية لكل نوع لا يدل بأن الإنسان تطور عن مخلوق آخر سبقه، وليس من الضروري أن يكون الحيوان قد سبق الإنسان في الظهور بموجب قانون الصدفة، ولكن نظام الغائية يجعل مثل هذا السبق في الخلق ضرورياً. كما إننا وحرصاً على إزالة أي سوء فهم لمسألة التطور قبل ظهور النوع، فإننا لم نقصد بالتطور التجريب أو صنع النوع ثم إضافة أداة، مثلاً إطالة قوائم حيوان أو تقصيرها وفقاً لحاجته، ولكن ما قصدناه بالتطور هو تصنيع المادة وفقاً لهدف معين ومحدد. وهذا التطور السابق يدل عليه التطور اللاحق في كل مخلوق، فالبذرة تموت لتولد الشجرة، والإنسان يمر في مراحل مختلفة من الخلق قبل أن يظهر كإنسان. فهذا نظام معروف في تطوير المخلوقات، ولا يتعارض مع القول بتطور المادة نفسها لتكوين بذرة كل كائن وفق نظام محدد وراسخ. فالعناصر الأربعة هي التي تتحول في الشجرة بعد موت البذرة، لتصنع البذرة الجديدة، وهي التي تتكون منها صورة الإنسان وفقاً للبصمة الوراثية الموجهة. فالخلية الأصلية هي المصنع الذي يعيد تكوين المادة الغذائية التي تتلقاها وفقاً لقالبها الخاص. والخلية دون إمداد المادة ـ الغذاء ـ ستموت. هذه هي سنن التطور، لا سنن التجريب. وبناء على هذه القوانين الثابتة التي توجه أفعال المادة في الكائن الحي وفقاً للمصنع الوراثي، فإننا كما استنتجنا بأنه لا يوجد فرق بين عقل الإنسان القديم وطاقاته والإنسان المعاصر، كذلك لا يوجد فرق في الذكاء بين البشر من حيث الأصل. ولكن هذه العوامل ستتأثر بالبيئة، كما تتأثر بها البذرة. فالبيئة تساعد البذرة على إفاضة ما فيها، وقد لا تساعد. وهذا ليس موضوعنا الآن. وإنما أردنا أن نبرهن من خلال هذه الملاحظات، بأن الناس من حيث الإمكانيات متساوون. وكل إنسان إذا اكتمل نموه هو نسخة عن آدم أبي البشر بالقوة، أما بالفعل هو ابن أفعاله وصورتها.(1/171)
فهو مشدود بين عالمين ـ النبوة ـ أو خلافة الله في الأرض، أو الهبوط إلى ما دون مستوى الحيوانات، إذ لديه القابلية للصعود والهبوط. وهذه القابلية كامنة في أصل تكوينه. ولهذا قال أفلاطون عن المعرفة الإنسانية بأنها تذكر. في حوار "الثئيتس" سأل على لسان سقراط "فانظر إذن إن كان يمكن أن يقتني المرء العلم دون أن يملكه"(1). وقال لمحاوره "بما أننا قد حددنا أن اقتناء العلم شيء، واحرازه أو امتلاكه شيء آخر؟ فنعلن أنه يستحيل على من اقتنى العلم أن لا يكون قد اقتناه. ومن ثمة لن يتفق لأحد أبداً أن لا يعرف مع أنه من الممكن أن يأخذ هذا الأمر عما يعرف فكرة خاطئة ويبدي فيه رأياً فاسداً. إذ يمكنه أن لا يملك معرفة ذاك الشيء، بل معرفة أخرى بدل تلك. ويحدث له هذا الأمر عندما يهب ذات مرة ليتصيد معرفة ما بين المعارف المتطايرة فيخطئها وينال بدلها أخرى. وعندئذ يعتقد أن الأحد عشر اثنا عشر، وقد التقط معرفة الأحد عشر بدلاً من معرفة الاثني عشر، وكأنه قد أمسك في ذاته بيمامة بدل حمامة" (2). لهذا ستكون مهمة الفلسفة عند أفلاطون كما سيحددها في "الجمهورية" ومثال الكهف والسجناء هي "غرض التهذيب لَفْت النفس، لترى ببصيرتها أو ذهنها وجهة الصواب. فالتهذيب لا يخلق، ولا يلقن، مبدأ جديداً، إنما يرشد ويقود إلى مبدأ موجود. وكيف تحصل هذه النهضة في النفس؟ الجواب إنها تحصل بالدرس الذي يرمي إلى اجتذاب العقل من الحسيات إلى اليقينيات. من المنظورات إلى غير المنظورات والأبديات" (3). وسيبين طبيعة تهذيب النفس بقوله "إن طبيعة التهذيب الحقيقية تخالف ما يزعمه بعض أساتذته، الذين يدعون أنهم يبثونه في العقل معرفة، كان خلواً منها، بث البصر في الأعين العمياء" (4).(1/172)
إن مهمة الفيلسوف تصبح تحفيز همة الإنسان الجاهل بنفسه إلى اكتشاف ما فيها "يستلزم هذا التحول فناً يعلمنا كيف نحول الجسم بأسهل الطرق وأعظمهما تأثيراً، وليس عمله أن يخلق في الشخص قوة البصر، بل أن يسلّم بوجودها فيه، ولكنها ذاهبة في وجهة خاطئة، فلا تتجه إلى حيث يلزم. فغرض ذلك الفن هو إصلاح هذا الخطأ" (5) ماذا تريد أن تكون؟. هذه هي المسألة، لأن كل ما يبحث عنه الإنسان هو في أعماقه، ولكن لأن علم الإنسان كبير ومذهل تحدث الحيرة. لنتصور أن هذا الجسد الصغير يحتوي على كل مكتبات العالم، لكي ندرك الصعوبة التي سيلاقيها عندما يبحث عن كتاب معين، أو موضوع معين، وكل كتاب يخبر العقل بمعلومات معينة، ومعلومات مناقضة في كتاب آخر، فبأي طريقة سيحكم العقل ويميز بين المعلومات؟. إن العقل سيستنجد بالحواس للتأكد مما لا يستطيع الحكم عليه، ولكن كيف سيحكم على ما لا تستطيع الحواس أن تخبره عنه في مسائل خارجة عن نطاق الإدراك الحسي، مثل الخالق والخلق؟. إن الحقيقة تحتاج إلى بيان وبرهان وشهادة من الحواس، لابد من ذلك. والعقل وحده مجرداً من الحواس يستطيع أن يحكم بما يشاء، ولكن سينقصه الدليل إذا لم تؤازره الحواس. إنه يستطيع أن يحكم على لون أي زهرة إذا كان مغمض العينين بأنها حمراء أو زرقاء أو بيضاء أو صفراء، بحسب ما عرف من الألوان. ولكنه لا يستطيع أن يبت بالمسألة، وسيقول الطفل للعبقري إذا استند إلى حكم العقل لوحده على لون الزهرة، إنك أخطأت يا سيدي، وانظر إليها بعينيك لا بعقلك. وإذا كان هذا حال العقل في أبسط الأمور، فكيف سنعرف ما وراء حدود العقل وإدراك الحواس؟. من هنا نستنتج بأنه، إذا كان هناك خالق، وأراد منا أن نعرفه فلابدّ أن يزودنا بالأدوات الملائمة لمعرفته.(1/173)
أما إذا كان وجودنا مجرد صدفة طبيعية فلا مبرر لوجود مثل هذه الأدوات المعرفية، وستكون قوانا العقلية والحسية وغرائزنا كما هي عند كل المخلوقات وسيلة للبقاء والعيش ولا فائدة في استخدامها لأكثر من هذه الغايات والأهداف. وسيكون علينا أن نتوقف عن البحث في أسرار الوجود. فهل يوجد فينا أداة غير العقل والحواس، لم يعرفها الفلاسفة من الفريقين المثالي والمادي نستطيع أن نعرف بها ما وراء عالم المادة؟. هذا ما يقوله الدين لنا. إنه يقول لنا إن ما لا نستطيع أن ندركه بالعقل والحواس نستطيع أن ندركه بالروح. ولكن قبل أن نقدم ما يقوله الدين عن الروح، سنقدم بعض التوضيح لمسألة الروح لكي نتمكن من فهم الإشارات الدينية.
العلم بالتعلم(1/174)
إن كل علم يعتمد على أسس وقواعد، ولابد لمن يريد أن يعرف علماً من العلوم من معرفة الأسس التي قام عليها. وهذا لا يمكن أن يتاح لأي إنسان إلا بالانكباب على الدراسة إما بعون أستاذ خبير أو بالاعتماد على نفسه. وإن كل علم ستستغرق دراسته زمناً يتناسب مع صعوبته ونشاط الدارس وظروفه. ولابد للدارس إذا كان يريد أن يصبح مختصاً في هذا العلم من الخوض في كل تفاصيله وفهمها، واستيعاب ما اكتشفه العلماء خطوة خطوة. من يريد أن يصبح طبيباً لابد له من دراسة كل تفاصيل الجسد الإنساني والقوانين التي تحكمه وتؤثر فيه، ومراجعة كل ما اكتشفه العلماء في هذا المجال. أما إذا كان يريد أن يكون ممرضاً، فإن الأمر سيختلف، إذ سيكون عليه فقط أن يفهم تعليمات الطبيب، وأن يعرف كيف ينفذها. وإن الزمن الذي يحتاجه الطبيب في الدراسة غير الزمن الذي يحتاجه الممرض. وإن الزمن الذي سيتعلم فيه الطبيب علوم من سبقه من الأطباء واكتشافاتهم هو أقل بكثير من الزمن الذي تحققت فيه اكتشافاتهم، فما حققه الأطباء من إنجازات خلال قرون يتعلمه الآن الطلاب في الجامعات خلال خمس سنوات. لماذا؟ لأن الطبيب يدرس النتائج. إنه يأخذ حصيلة التجربة. وقس على ذلك كل العلوم. الأبجدية التي كانت فتحاً في تاريخ البشرية يتعلمها الآن الطفل في الصف الأول.. ولكن كل علم لكي نصل إليه لابد لنا قبل الوصول إليه من الاطلاع على قوانينه وأسسه. ومن يريد أن يعرف أسس البلاغة لا يكفيه تعلم القراءة والكتابة ـ فالعلم بالتعلم ـ وإن كل مستوى من المعرفة يساعدنا على إدراك مستوى موازٍ ومساوٍ من العلم. ومن يريد أن يعرف حقيقة الروح وما تعرفه الروح، لا سبيل أمامه إلى هذه المعرفة إلاَّ باتباع طريق الرسل والأنبياء والأولياء، بقراءة تجربتهم واتباعها. لأن طريق العلم كما نعرف ينقسم إلى طريقين لا ثالث لهما؛ تصديق وتحقيق.(1/175)
فإما أن نصدق بما يقوله كل عالم في مجال اختصاصه، وأما إذا كنا لا نصدق حتى نتحقق فعلينا أن نسلك الطريق الذي حدده كل عالم للوصول إلى علمه. وعندما نصبح علماء مثله سنعرف الحقيقة ويصبح لنا الحق في الحكم. أما الإنكار دون معرفة فهو مكابرة لا تتفق وأخلاق العلم ومنهاجه. وإن حكم العالم مهما كان عبقرياً بعقله على لون الوردة لا يفيده إلا إذا نظر إليها بعينيه. وما يدرك بالأذن لا يدرك بالعين، وما يدرك بالروح لا يدرك بالعقل. ولهذا انقسم الناس في موقفهم من العلم إلى ثلاثة أنواع، وثلاثة درجات: 1 ـ أهل التحقيق وهم أفضل الناس، ليقينهم فيما علموه. 2 ـ أهل التصديق وهم الذين صدّقوا فيما علمه غيرهم فعلموا وعملوا وفقاً لحسن ظنهم بغيرهم. 3 ـ أهل الجحود والإنكار. وهم الذين رفضوا علم أهل التحقيق وأنكروه، ورفضوا سلوك طريق العلم للتحقق من صحة علم المحققين، فضلوا وضللوا غيرهم بادعائهم علم ما لم يعلموه زوراً وبهتاناً. وهؤلاء ينقسمون إلى فريقين تبعاً لنواياهم: فريق يبحث عن الحقيقة بصدق ولكنه ضل الطريق إليها، وهؤلاء هم الذين يفتحون عقولهم للحوار، وهم أكثر الناس استعداداً لإصلاح أنفسهم إذا عرفوا الحقيقة. وفريق ثان لا يعرف الحقيقة ولا يبحث عنها لغرور أصابه، أو لانحدار في عالم الشهوات أدى إلى سيطرة غرائزه عليه، وهذا لا يتوقع صلاحه إلا بالمصائب التي قد تقضي عليه قبل أن يفيق من غفلته، ويثوب إلى رشده، وهذا حال أكثر الناس في عصرنا.(1/176)
من هنا يتبين لنا أن الرغبة في معرفة علم من العلوم لا تكفي لإدراك حقائقه، وإنه لابد لنا من سلوك طريق العمل والاجتهاد للوصول إلى المعلومات الصحيحة والتأكد منها بما يتناسب مع طبيعة هذا العلم. وإننا سندرك بارتقائنا المعرفي ما كنا نجهله بالأمس. فالعقل نفسه سيقبل ما كان يرفضه أو يشك فيه بسبب جهله السابق وعلمه اللاحق. فالمشكلة تكمن في المعلومات التي لدينا والتي نصدر أحكامنا بسببها. ولهذا لا يوجد أي طريق لتصحيح تصورنا عن أي علم إلا بالارتقاء بأنفسنا إلى مستوى معرفته. فهل سنرتقي بأنفسنا إلى معرفة حقيقة الكون إذا أتيحت لنا مثل هذه الفرصة، لكي نكون من أهل التحقيق والتحقق مما جاء به الرسل؟. إذا كنا سنقول نعم، فإن علينا مهما كانت مواقعنا، وسواء كنا من أهل التصديق، أو الإنكار، أن نتتبع حياة الرسل ووصاياهم لكي نصل إلى بعض ما وصلوا إليه، وربما إن القليل قد يغني عن الكثير، وبعض المشاهد في الطريق قد تقنعنا بنهاية الطريق وحقيقته.
الرسل وعالم الروح(1/177)
إن غموض حياة الرسل من أصحاب الرسالات السماوية. نقصد موسى وعيسى عليهما السلام، لا يتيح لنا أن نتتبع تفاصيل حياتهم وترقيهم الروحي. ولكن ما نعلمه بشكل مؤكد هو أن موسى - عليه السلام - قد خرج من مصر إلى أرض مدين. والتقى هناك بالنبي شعيب - عليه السلام - وتزوج ابنته، وعاش معه ثماني سنوات. فكانت هذه الفترة هي فترة التأسيس الروحي لموسى على يد النبي شعيب. وهي فترة كافية للارتقاء المعرفي في أي مجال علمي، ولا يختلف برنامج التعليم الروحي عن أي برنامج دراسي إلا بالشروط المقررة والتي لابد منها للنجاح في هذا المجال والتي كما سنلاحظ، هي سمة عامة وشرط أساسي في كل التجارب الروحية. فبينما لا تحتاج كل الدراسات إلا لإعمال العقل والنجاح في فهم واستيعاب البرنامج المقرر، فإن الشرط الأساسي لنجاح أي تجربة روحية هو الالتزام بتطبيق الوصايا والقيم التي أجمعت عليها كل الأديان بما فيها البوذية والهندوسية. وهي (الإيمان بالله، والإيمان بالحساب. لا تقتل. لا تسرق. لا تكذب، لا تزن. أكرم أباك وأمك. كن رحيماً بالناس وبالمخلوقات جميعاً) هذه شروط أساسية لابد من الالتزام بها لمن يطلب الوصول إلى عالم الروح، وهي شروط تمهيدية. أما البرنامج الدراسي فسيكون هو السير وفقاً للشريعة المقررة والتي تتطلب تنفيذ العبادات من صلاة وصوم وإنفاق وتفكر في الله، وطهارة جسدية وروحية، أي السعي للتوفيق بين باطن الإنسان وظاهره، بحيث لا يتمنى مثلاً قتل أحد في أعماقه كما التزم في ظاهره، ولا يخطر بباله الزنى كما امتنع عنه في جسده أو عينيه. وهذا ما يمكن أن نلمسه فيما بقي من وصايا موسى غير المحرفة، والمدونة في التوراة، والتي يؤكد صحتها انتقادات أنبياء العهد القديم لسلوك بني إسرائيل بسبب خرقهم لهذه الوصايا ومخالفتهم لها، والتي حين جاء المسيح - عليه السلام - أكد عليها، ولم ينكر عليه اليهود ذلك، وإنما أنكروا أنه رسول الله.(1/178)
وبالمقارنة بين ما ورد في الأناجيل والتوراة بالنسبة للوصايا الجوهرية فإننا سنلمس وحدة طريق الرسل والأنبياء ووحدة الرسالة التي أتوا بها، وسينكشف لنا التزوير الذي تعرضت له التوراة بالمقارنة بين الوصايا وبين ما ورد من نصوص تعارضها على المستوى النظري أو العملي، لأنه لا يعقل أن يأمر الله بشيء، وأن يأمر بنقيضه في نفس الوقت. وإذا كان مثل هذا التناقض التشريعي لا يقع فيه الإنسان عند سن قوانين الدول، فهل يعقل أن يقع فيه الله الذي لا تقاس حكمته بحكمة كل البشر؟! من هنا يتبين لنا أن الميزان الرئيسي لكل الشرائع هي الوصايا الجوهرية. وإن الالتزام بها هو الطريق التمهيدي الذي لابد منه لخوض التجربة الروحية. أما الشريعة فستكون هي البرنامج التعليمي للارتقاء بالعقل فكرياً إلى عالم الروح. وهذا البرنامج وإن اختلف بين شريعة وشريعة ظاهراً فإن وحدته الجوهرية لا تخفى على اللبيب، كما لا تخفى مزايا كل برنامج على الحكماء من أصحاب النظر إلى الأعماق. وأسباب تنوع البرامج كما فسرها الشيخ محيي الدين بن عربي إنما تعود لسعة الرحمة الإلهية، والرغبة في إصلاح البشر "إنما كثرت المناسك رغبة في التماسك. فإن لم تجدني هنا، وجدتني هنا ـ لك ـ ؛ وإن احتجبت عنك في (جمع)، تجليت لك في (منى)." (1) فاختلاف الأمة بالرأي رحمة كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - . واختلاف الناس أيضاً رحمة، لأن النجاح الدائم يولد الغرور والفساد والطغيان. فجاء القانون الإلهي لإصلاح الفساد في الأرض { ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضهم ببعض لهُدّمتْ صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكرُ فيها اسمُ اللهِ كثيراً ولينصُرَنَّ اللهُ من ينصُرهُ إنّ اللهَ لقويٌّ عزيزُ } (الحج/ 40). فطرق العابدين الصادقين كلها تقود إلى الله. ولهذا شملت رحمة الله العالم..(1/179)
ولكن المزية الحاسمة في كل الطرق ستكون، كما قال أفلاطون في تقييمه لدور الفلسفة، إذا كانت تسعى لنفس الأهداف، فإن الفلسفة الأفضل ستكون هي التي "تعلمنا كيف نحول الجسم بأسهل الطرق وأعظمها تأثيراً" (2). فإذا كان هدف الطبيب هو شفاء جسم المريض، فإن الطبيب الأفضل هو الذي سيعرف كيف يعالج الجسم بأسرع ما يمكن وبأقل قدر من الآلام. هذا هو الفرق بين الشرائع التي كان هدفها واحداً، وهو بناء الحياة الإنسانية وفقاً لميزان واحد، وإن تنوّع الدعاة إليه. وقد طلبوا من الناس إما التصديق والاتباع، أو التحقيق للتأكد من صحة ما دعوا إليه. فكانت حياة موسى - عليه السلام - نموذجاً لهذه التجربة الروحية التي بدأت من قبوله للتعلم على يد النبي شعيب، ويجب أن لا ننسى دور أمه الصالحة في تربيته ودور آسية زوجة فرعون. وسوف تتكرر نفس التجربة مع المسيح - عليه السلام - . إذ إن من سيربيه التربية الصالحة أمه التي قال عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران" (كنز العمال 34408/ ج12).(1/180)
هذه الأم هي التي ستقوم بتربية عيسى، وكان النبي زكريا - عليه السلام - ، زوج أخت مريم هو الذي أشرف على تربية مريم. وهكذا نشاهد الصلة التربوية بين الروحانيين العظام، وما أنجزوه وأثروا به في حياة الصادقين من تلاميذهم، مما يدلنا بأن الله وإن كان قد اختار رسله بعلمه وحكمته، إلا أن النبوة لم تأت إليهم إلا باتباع الأسباب، وسلوك الطرق التي تقود إليها عملياً، بالتربية الصالحة، وسلوك طريق الشرائع الإلهية. ونحن نعرف أن المسيح - عليه السلام - كما تدل عليه سيرته، وما ورد عنه في الأناجيل، وما أكده القرآن، قد عاش ببساطة وحرمان وإيثار مَن حوله على نفسه، وابتعاد عن الشهوات الدنيوية، إذ كان همه الوحيد نشر رسالة الله بين الناس، كما هو حال الرسل جميعاً، مما يدل بأن وصول الرسل لمقام الرسالة لا يعني نهاية طريق الكفاح، والالتفات بعد ذلك للتنعم بالنعم الدنيوية، كما يفعل طلاب الشهادات العليا الذين بعد نجاحهم واحتلالهم مناصب التوجيه والإرشاد يقبلون على الدنيا إقبال الظامئين ليعوضوا عما حرموا منه أثناء الدراسة، أو مثل الثوار الذين يهجمون على الدنيا بعد نجاحهم هجوم الأباطرة. فالنبوة هي مقام لإعلاء راية الكفاح مع النفس قبل الآخرين، والرسالة هي ذوبان في إرادة الحق حتى التلاشي، وقبول العبودية الخالصة لله، حتى لو أدت بصاحبها إلى الهلاك في معارضة المعارضين وعدوانهم. إذ بعد الوصول إلى مقام الروح، وهي مقامات، يصبح فيها الحق لساناً للعبد، ويتوحد الشاهد في شهوده للحق فلا يشهد سواه، لا بمعنى الحلول، وإنما بمعنى الطاعة والخضوع لشريعته، والرضى بأمره، لأن شهود الرسل مستمد من علمهم بما يشهدون، وإن اختلفت أدوات الشهود. فالشاهد لأمر ما قد يشهده بسمعه عندما يسمع صوتاً، وقد يبصره بعينه، أو حواسه الأخرى.(1/181)
ولكن المقامات المعرفية لابد أن تبدأ بالسمع لإيصال الخطاب للمخاطب عندما تلامس الحواس، ثم تتبعها العين بالشهود عند الترقي إلى مقام أوسع. ولكن الرؤيا الصادقة في النوم ستكون هي أول الإشارات، والمعبرة عن أولى البشارات لصاحبها بالوصول إلى عالم الروح. وهذا ما تدلنا عليه التجربة المحمدية، والمنطق العلمي الذي يقودنا إلى فهم هذه التجربة فهماً إنسانياً من كون الرسل كانوا بشراً قبل أن يصبحوا رسلاً. وإذا كان غموض حياة الرسل وجهلنا بسيرتهم قبل بعثتهم لا يساعدنا على تكوين فكرة علمية مفيدة عن مراحل ترقيهم الروحي، فإن وضوح حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، منذ ولادته إلى وفاته، ستقدم لنا ما نحن بحاجة إليه لفهم مراحل التجربة الروحية وتطورها.
من مظاهر السيرة الروحية للرسول الخاتم
لقد بدأت تجربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الروحية قبل نزول جبريل - عليه السلام - بسورة(1/182)
{ اقرأ } بثلاث سنوات تقريباً. فكان في هذه السنوات يذهب إلى غار حراء ومعه زاده، ويقيم فيه طيلة شهر رمضان بشكل خاص، وأحياناً في أوقات غير محددة من أيام السنة. ولاشك أن هذه العزلة لم تكن إلا للتأمل والتفكر في الله حتى قالت عنه العرب "إن محمداً عشق ربه" (1). ولكن هذه الفترة إذا كانت بداية التفرغ المقصود للتأمل، فلابد أن تكون قد سبقتها فترات من التأمل العميق، فكانت هذه التأملات وما نشأ عنها من أسئلة وقناعات هي الدافع وراء الرحلات التالية لغار حراء. ولابد أن تكون قد ساهمت نشأة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيت جده عبد المطلب لوقت الوفاة، حيث بلغ عمر الرسول ثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام، في تلقينه أولى إشارات اليقين بالله، والإيمان بقدرته. إذ كانت تروى أمامه حوادث عام الفيل، العام الذي ولد فيه، ورحلة جده لأبرهة الحبشي ومقابلته له. وقوله له حين سأله عن حاجته. فطلب منه الإبل التي أخذها جنده وهي ترعى على تخوم مكة. مما أثار دهشة أبرهة فقال له: أتسأل عن البعير، وتترك البيت الذي هو دين آبائك ودينك من بعدهم. فكان جواب الجد الواثق بالله: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه. وربما ظن أبرهة أن الرجل إنما تعلل بهذا الجواب لأن ما يهمه هو إبله. فأمر بردها عليه. ولكن عبد المطلب كان حاله ويقينه بأن الله سيحمي الكعبة. فقال وهو يقف على بابها:
"يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... فامنعهم أن يخربوا قراكا(1/183)
وكانت ثقته بالله قد منعته من سؤال أبرهة عما يخص الله. فلخص هذا اليقين بهذه العبارات الدالة على شدة الإيمان بقدرة الله على إذلال الجبابرة "للبيت رب يحميه". ولسان حاله يعبر عن صدقه، فما كان يريد الإبل، وإنما رؤية الطاغية وتحذيره "ما سألت عن الإبل لأنني أضن بأثمانها فإنني قد وهبتها بعد ذلك للبيت. ولكنني سألت عنها لأنها هي موضع سؤالي، وتركت السؤال عن البيت لأن استجداء الرحمة من أبرهة لبيت الله ينفي الثقة بالبيت وبالله" (2). وكان عبد المطلب قد ساق إبله المردودة إليه هدايا للحرم. هذه بذور الإيمان التي ستنمو في نفس الطفل اليتيم حتى تصبح نوراً يعم العالم. وستدعم هذه التربية، الأخلاق الحميدة والحنو والرحمة بالآخرين التي ستكون سمة حياته وعنوانها وهدفها حتى قال الله له { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (الأنبياء/ 107). وكان من آثار هذه الرحمة قبل البعثة أن زيداً بن حارثة اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على والديه حين خيره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين العودة مع والده الذي جاء في طلبه بعد سنوات من البحث عنه، وبين البقاء خادماً له. وهي مهمة لا تغري أي فتى بقبولها. ولكن زيداً اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أهله. وقال له أمام أبيه وعمه "ما أنا بالذي يختار عليك أحداً، أنت الأب والعم". فأخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - زيداً إلى الكعبة ووقف أمام قريش وقال لهم [اشهدوا إن زيداً ابني... يرثني وأرثه] (3).(1/184)
ومن دلالات أخلاقه أن أهل مكة اختاروا له لقب "الأمين" فكان اسماً ثانياً له، وكانت هذه الأمانة سبباً في سعي السيدة خديجة رضي الله عنها للزواج منه. وبدلاً من الاستمتاع بالأموال التي وضعتها بين يديه الزوجة الثرية، وربما لشعورها بفارق العمر بينهما، فقد أنفق ما سمحت به نفسها على الفقراء وفي أوجه الخير، وعلى المسلمين بعد البعثة. وظل مخلصاً لها، ولم يفكر بزواج غيرها حتى وفاتها في الخامسة والستين من العمر. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الخمسين. وكان من صفاته التي شهدت بها السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، على قلة رضى الزوجات بأزواجهم أنها قالت له وهي أعرف الناس به حين عاد من غار حراء بعد نزول جبريل عليه لأول مرة قائلاً لها "لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (الرحيق المختوم ـ 68). لقد أدركت بحسها الأخلاقي، وبما في الجاهلية من قيم يحبها كل الناس وإن لم يطبقوها دائماً، بأن الله لا يمكن أن يؤذي من له هذه الصفات والمزايا التي امتاز بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت على يقين بأن ما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بشارة بالخير. فذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان نصرانياً تسأله عن المعنى الذي رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فصدق حدسها ببشارته لها، بأنه الوحي الإلهي، وبأنه ـ الناموس الذي كان ينزل على عيسى - عليه السلام - ـ. لقد تهيأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحمل هذه الرسالة بالأسباب والمسببات كما تدلنا الحوادث، وبعناية الله الأزلية به ليكون مؤهلاً لحمل أعظم رسالة إلى الإنسانية كلها.(1/185)
ومن آثار هذه العناية ما حدث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه حيث قال [ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب! فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع. فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة... ثم ما هممت بسوء] (5). ورغم أن الرواة اختلفوا حول صحة هذا الحديث الذي ضعفه ابن كثير، إلا إن عناية الله برسله وأوليائه مؤكدة ولابد منها لوصول العبد إلى المقام المحمود. وقد كان من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في مقام الرسالة [اللهم لا تكلني إلى نفسي فأضعف]. لأننا وإن سعينا إلى تزكية نفوسنا بالأعمال الصالحة، فإنه لابد لنا من العون الإلهي والرضى حتى تقبل هذه الأعمال. ولكننا لثقتنا بعدل الله ووعده،
وشمول رحمته لكل من جاهد في طاعته، فإن من واجبنا أن نعوّل في نجاحنا ونجاتنا ومعرفتنا الروحية على أعمالنا، وعلى سعة رحمة الله فيما قصرنا به، كما تفاءلت السيدة خديجة أم المؤمنين بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحكم على ما رآه. وقد قال الله { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } (العنكبوت/ 69). وقال { واتقوا الله ويعلمكم الله } (البقرة/ 282) إن الوصول إلى المعرفة بالروح كما نلاحظ كان أساسها الأخلاق الحميدة، والصفات النبيلة، والرحمة بالناس الذين كان يعاملهم، ومن ثم جاء التفكير والتأمل، ثم الخلوات الطويلة، فكان الوحي هو النتيجة التي ختم الله بها للرسول هذا الجهاد. ومن رواية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنواع الوحي يمكن أن نفهم دلالاته ومظاهره. فقد تحدث الرسول عن صور الوحي وأشكاله، كما وصلت إلينا. وهي:(1/186)
1 ـ الرؤيا الصادقة. وقد بدأت قبل البعثة بستة أشهر، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يشاهد رؤيا إلا وكانت تأتي مثل فلق الصبح، وقد استمرت الرؤيا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما عرف من سيرته.
2 ـ الوحي عن طريق جبريل بظهوره كرجل. وقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل ظهر له على شكل الصحابي دحية.
3 ـ كان الوحي يأتيه إلهاماً من حيث المعاني أو الأخبار. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعبر عنها بلغته كما في الأحاديث النبوية.
4 ـ الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه كما ذكر حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وإن راحلته لتبرك به إلى الأرض.
5 ـ إنه شاهد جبريل مرتين في صورته التي خلق عليها، وأوحى إليه ما شاء، كما ذكر في سورة النجم.
6 ـ لقد أوحى للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج من الله دون واسطة وهو في السماء.
7 ـ ورد أنه كان يسمع من الله بلا واسطة أحياناً. كما أوحى لموسى - عليه السلام - .
8 ـ قال بعض الصحابة إن الله كلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفاحاً من غير حجاب. وهي مسألة فيها خلاف بين السلف، ولا تصح يقيناً. وما ورد من الأحاديث حول هذا الموضوع ينفي أي إمكانية مادية لرؤية الله عياناً، لأن الله نور السموات والأرض وحجابه النور. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين سأله [هل رأيت ربك. فقال: نور أنى أراه] (صحيح مسلم ـ 177/ ج3).
إن إشارات الوحي كما وردت تقودنا إلى استنتاج ثلاث حقائق لابد لكل من يريد أن يسير في طريق التجربة الروحية من معرفتها، اقتداء بالرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - . وهي:
1 ـ إن الله لا يمكن أن يكلم خلقه إلا من وراء حجاب. أي بواسطة أحد أشكال الوحي.
2 ـ إن مقدمات عالم الروح تبدأ حكماً بالرؤيا الصادقة. ولهذا أسبابه التي سنبينها.(1/187)
3 ـ إن ترقي الإنسان إلى إدراك عالم الروح باليقظة سيبدأ حكماً بالسماع. وهو سماع إلهامي.
ودليله صدق الخبر وصحته إن كان خبراً. أما الإلهام في أمور العقيدة فلابد من قياسه على الشريعة لأن الشريعة ختمت، ولم يبق للأولياء غير الفهم والتأويل بما يوافقها بإلهام من الله.
ومع ذلك فإن قراءتنا لتجربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الروحية تكشف لنا بأنها كانت في ازدياد، مما يعني أنها لم تكن في بداياتها، كما كان لها من العمق المعرفي في مراحلها المتأخرة. ففي البداية خاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ظهور جبريل - عليه السلام - ، وعاد إلى السيدة خديجة قائلاً زملوني. ومرت عليه فترة من القلق بعد ذلك أحس خلالها بأنه لا معنى لحياة الإنسان، ولا قيمة لها، إذا كان سيقضيها في السعي وراء الطعام والشراب كبقية المخلوقات. وكانت البشارة التي حملها جبريل إليه قد بعثت فيه الأمل بالوصول إلى معنى وجود الإنسان رغم خوفه من المفاجأة. ولكن الوحي انقطع، وطال اشتياقه إليه، وازداد شكه فيما رآه. لقد "فتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزناً عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل. فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك" (6). لقد أصبح أنسه بالله، فإذا غاب ذلك الأنس فما قيمة الحياة؟ لقد جاء الأمر بعد ذلك وزال القلق بنزول جبريل بسورة المدثر { يا أيها المدَّثرُ. قم فأَنذرْ. وربَّكَ فكبِّر. وثيابَكَ فطهّر.(1/188)
والرُجزَ فاهجر } (المدثر/ 1، 5) لقد ظهر المعنى لوجود الإنسان وبدأت المهمة الشاقة الطيبة، ليس لأنها تبشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنصر الذي يطمح إليه القادة عادة، فما كان قد وعده الله بشيء، ولكن لأن الأمر الإلهي يكشف عن الصلة بين الخالق والمخلوق، عن الغائية الكونية، عن المعنى. وهل هناك أجمل وأعظم من هذا الاكتشاف الذي يدفع الإنسان إلى تجاوز ذاته، ورؤيتها موصولة بالحقيقة المطلقة والمدهشة؟. لقد بدأ الكفاح، بل التفاني في هذا الكفاح، والرغبة في حمل الرسالة إلى الناس. الشوق لرؤية الإيمان يعمر النفوس القاحلة، والقلوب المريضة بحب بهرجة الحياة. كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرغب في هداية الناس بسرعة لإنقاذهم من الضلال. وكانت قريش في أول أمرها تريد أن تعرف حقيقة الأمر ببطء شديد. فأرسلت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود في المدينة ليسألوهم عن حقيقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فقال لهم الأحبار الذين قابلوهم "سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هي؟. فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي" (7). ولما عاد الرسولان ومعهما أسئلة الأحبار، أرسل زعماء قريش بالأسئلة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ولما كان لا علم له بالأجوبة، فقد طلب منهم مهلة إلى الغد لإجابتهم. ولابد أنه ذهب يطلب الإجابة من الله حرصاً على هدايتهم. بل إنه كان يتوق إلى هذه الإجابة بسرعة. وانتظر في اليوم الثاني والثالث إلى أن مضى خمسة عشر يوماً، وازداد لغط زعماء قريش وعامتهم، وقلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ازداد، والوحي لا يأتي، وجبريل لا يظهر.(1/189)
ثم فجأة بعد هذه الأيام العصيبة جاء جبريل ومعه الجواب. كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في سيرته قد قال لرسل قريش حين سألوه [أخبركم بما سألتم عنه غداً، ولم يستثن ـ لم يقل إن شاء الله ـ فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما يذكرون ـ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل، حتى أوجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه، من أمر الفتية والرجل الطواف والروح" (8). وقيل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل حين أتاه [لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظناً، فقال له جبريل:
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا] (9). لماذا انقطع الوحي في تلك الأيام الحرجة. لقد كان على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم أن الوحي لا ينزل إلا بأمر الله. وهذا ما سنتعلمه نحن حين تنفتح لنا نافذة على عالم الروح، إذ أننا سنكون قد أعددنا محطتنا الروحية للاستقبال، أما الإرسال فيظل بيد الله، إذ أنه لا فائدة في الإلحاح. إنه الرسول القدوة الذي ستكون في كل لحظة من لحظات حياته دروساً نتعلمها، حتى يكون في معاناته مواساة لنا فيما نعانيه. وحتى لا نظن بأن تقربنا إلى الله يجب أن يمنع عنا ظلم الناس أو سوء ظنهم، أو الإساءة إلينا في أقدس ما نملك. وهل يفوز الفائزون إلا بعد الامتحان، وهل نسمي العظماء عظماء إلا لأنهم نجحوا في العبور فوق الأمور العظام؟. فكيف سنعرف مكانة الرسل وحقيقتهم، وبماذا سيتميزون إذا لم يتعرضوا للامتحان في حياتهم وأموالهم وأخلاقهم؟.(1/190)
سيذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة زوجته وعمه أبي طالب، وتضييق قريش عليه إلى الطائف ماشياً على أمل أن يجد فيهم نصيراً يعينه في دعوته. وظل عشرة أيام يدور عليهم من بيت إلى بيت دون فائدة. فطلب منهم أن يكتموا فقط خبر زيارته لئلا يطمع فيه كفار مكة. إلا أنهم بدلاً من احترام هذا الرجاء أرسلوا سفهاءهم وعبيدهم وراءه "وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه. ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف. وهناك تضرع إلى الله ـ [اللهم: إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا وقوة إلا بك] (10). سينزل جبريل بعد ذلك ليخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طريقة الانتقام من أهل الطائف. ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيقول له [بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً] (11). وسوف يضطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى طلب الحماية من بعض مشركي مكة للدخول بأمان إلى بيته. لقد "بعث رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي، فقال مطعم: نعم، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً. ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن ادخل.(1/191)
فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام. فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى يا معشر قريش: إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم. وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الركن فاستلمه وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وأولاده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته" (12). لقد سأله بن حارثة الخادم المحب الذي فضله على أبويه، وهو في حيرة من أمره بعد أن رأى شدة الإيذاء الذي تعرض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسياً وجسدياً، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قطع ستين ميلاً ماشياً في طريق العودة إلى مكة بعد أن تجاوز الخمسين من العمر. سأله زيد "كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك، يعني قريشاً، فقال: [يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه] (13). كانت الثقة تملأ قلب النبي، وكان قد قال للمشركين حتى ـ لو وضعوا الشمس في يمينه، والقمر في يساره لن يترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو يهلك دونه ـ ولم يتغير العهد. فما قيمة الحياة دون هدف إنساني كبير تُشدُّ من أجله الرحال، وتبذل الأموال والدماء، وتنعم في ظلاله الأرواح. ما هذه الغابة الإنسانية، التي لا تلد إلا الوحوش في غياب المربي الصالح، في غياب تحليق الروح وتألقها، ونشرها لدين المحبة والرحمة بين الأجيال؟. أي طعم سيكون لحياة النمل، ودول النمل البشرية، التي لا تتصرف إلا بوحي من غرائزها؟. الموت أفضل، إن لم تعط الروح فرصتها وكأسها وشرابها لتنشد أغاني الحب، وتعيد رسم صور الجمال والإبداع، وتجعل سباق المتسابقين في دفء القلوب وسرعة نبضها، لا في الصراع والقتال والظلم، والانحدار وراء الغرائز، وإنما في إشراق الروح الإنسانية، ليكون الإنسان مقدساً، وتكون السيوف مناجل، والعقول مشاتل لغرس المعرفة والرحمة.(1/192)
لن يفهم الكافرون هذه اللغة التي تدعوهم للارتقاء إلى مستوى إنسانيتهم، وإنما سيفهمون فقط بالسلاح ولغة القوة. وسيزيدهم احتماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشرك طغياناً وكفراً، إذ كيف يحتمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنسان مشرك، ولماذا لا ينصره الله عليهم! ستوسوس لهم ظلمة نفوسهم بأنهم إذاً على حق. سيستنتجون كما يظن كل الطغاة في العالم بأنهم لن يُهزموا أمام الضعفاء والمظلومين والأخيار، فأسلحتهم ستحميهم. أنياب الوحوش التي يملكونها ستحقق لهم النصر والنجاح والخلود من خلال سلالاتهم المتوحشة. ولكن قريشاً المطمئنة إلى قوتها وضعف أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ستبعث في السنة السادسة للهجرة سهيل بن عمرو، الذي رفض أن يجير الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف، لكي يعقد صلح الحديبية معه. لقد نجح السلاح في فتح ما عجز عنه الحق والعدل. وسوف تذعن قريش بعد ذلك وتُهزم. ومع ذلك فسوف يتعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في المدينة إلى هجمات جديدة ومؤامرات سيشنها عليه الأعداء من المدينة التي كان يعدها لكي تكون حصن الإسلام والإيمان. لقد ضاعت ناقته ذات مرة فقال الأعداء لو كان نبياً لعرف مكانها. كان زيد بن اللصيت أحد أحبار اليهود الذين أعلنوا الإسلام وأخفوا التآمر فقال محاججاً بمنطق العقل كمسلم "أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته" (14). ليس هناك أي قيمة للأخلاق والقيم التي يدعو إليها النبي، فالحقد الأعمى ملأ قلوب الظالمين، وهم يفتشون عن أي سلاح لتحطيم هذه الرسالة والقيم التي تدعو إليها، وهم لا يطلبون المعجزة إلا للتشكيك وإظهار عجز الرسول - صلى الله عليه وسلم - . لو كان المسيح - عليه السلام - نبياً لن يتمكنوا من الاعتداء عليه ورؤيته مصلوباً كما شبه لهم. أما وقد تمكنوا منه فهذا هو الدليل على زيف نبوته، وكأن الأنبياء يجب أن لا يموتوا.(1/193)
ستحاول زينب بنت الحارث اليهودية قتل
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهدائه شاة مسمومة، وحين علم من الله أمر الشاة، ستزعم أنها إنما أرادت أن تجرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتتأكد من نبوته. تجربة بالسم لا بالسؤال عن علم تجهله، وبالصلب والقتل. هكذا دائماً إذا فشلت المواجهة مع الأنبياء فإن القتلة سيبحثون عن وسائل أخرى. سيستخدمون الهدايا والظهور بمظهر المؤمنين. فلا ملكَ للظالمين إلا قيصر. سيعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث المنافق الذي كان يرتدي لباس المجاهدين عن الناقة. وسيقول للمسلمين دون أن يذكر اسمه رحمة به "إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها. فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا، فجاؤوا بها" (15). سيأخذ الهجوم في إحدى المرات شكلاً جديداً بحيث لا ينجو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرسالة من تأثيره. لقد حبكوا المؤامرة جيداً ليصيبوا بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحب زوجاته إليه أم المؤمنين عائشة، وأقرب الرجال إلى قلبه وقلوب المسلمين وأرقهم أبا بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم - . لقد خططوا لاختيار المناسبة، ونشر الشائعات، ونجحوا في ذلك. واضطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إرسال عائشة أم المؤمنين إلى بيت أهلها حتى نزلت براءتها بعد أن مضى أكثر من شهر على انتشار الشائعات حولها. وكان في هذه الحادثة درس آخر للمسلمين، ودليل آخر على أن الوحي الإلهي لا ينزل في أشد اللحظات حرجاً وفقاً لإرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما وفقاً للمشيئة الإلهية.(1/194)
ونظراً لأهمية هذا الحديث ودلالته فيما يخص الوحي، وطبيعة الأحكام البشرية التي قد تصدر في غيابه، فإننا سنقف لقراءة هذا الحادث وموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه، مما حال بينه وبين اتخاذ القرار المناسب في هذا الموقف إلا بعد نزول الوحي. وهذه المواقف تؤكد قوله في حادث الناقة [وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله]. فما هي الحكمة في سرعة نزول الوحي في حادث الناقة، وتأخره في تبرئة أم المؤمنين عائشة. إننا من هذه الحوادث سنستدل على دور الروح كمتلق للوحي، أو كجهاز استقبال له كما أخبرنا الله { قل لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضَراً إلا ما شاءً اللهُ ولو كنتُ أعلم الغيبَ لاستكثرت من الخير وما مَسنيَ السُّوء إنْ أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون } (الأعراف/ 188). لقد كان على الرسول كأنما أن يتذوق كل تجارب الأنبياء ومعاناتهم، وكان عليه لأنه الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - أن يعرف كل علومهم. وأن تكون رسالته البحر الواسع الذي تصب فيه كل رسالات السماء وتتوحد بداخله، وتتطهر من كل ما تعرضت له من التلوث وهي تسير بين المدن والحضارات التي كانت تزيد من تلويث مياه هذه الأنهار كلما ابتعدت عن نبعها الصافي. وهل يصح أن يكون الرسول الخاتم غير عارف بكل ما عرفه الرسل والأنبياء من العلوم؟. وإذا كان غير عارف بعلومهم فبأي شيء سيكون خاتماً؟. وهل يصح أن يكون على مستوى البشر، أن يكون من هو أقل علماً سيداً للعلماء في أي مجال كان؟. وهل يعقل أن يرسل الله رسلاً وأن يترك الخلق قبل إكمال رسالاته؟. وهل سيكون من الحكمة أن نضع الناس في الجامعة فوراً لكي نمحو أميتهم، أم إن الأفضل أن ننقلهم من مرحلة إلى مرحلة كلما ارتقت عقولهم، واستنارت أرواحهم؟.
لهذا سيقول الرسول الخاتم هذه الكلمات التي تفسر كل الأسئلة التي طرحناها والتي قد يطرحها أي إنسان.(1/195)
[أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم] (كنز العمال ـ 31834/ ج11). وسيقول [مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة. فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" (كنز العمال ـ 31981/ ج11). وسيقول [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد] (كنز العمال ـ 32346/ج11). وسيخبرنا عن حقيقة موقعه قائلاً دون فخر، لأن الفخر للخالق [أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر] (كنز العمال ـ 31883/ج11). ورغم المكانة التي نالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيقول لنا بعد حادث تأبير النخل [إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر] (كنز العمال ـ 32176/ ج11). فقد مرَّ ـ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ بقوم يلقحون فقال [لو لم تفعلوا لَصلح. قال: فخرج شيصاً. فمر بهم فقال ما لنخلكم. قالوا قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم] (صحيح مسلم ـ 2363/ ج15). فهل سنتعلم من الحكم الكثيرة التي تعكسها حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأقواله، بحيث نصل إلى إدراك معنى وصف الله له { وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى } (النجم/ 3 ـ 4). وندرك المعنى وراء سعيه للعلم وقوله: [إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم] (كنز العمال ـ 28687/ ج10). مما يعني أن علم الإنسان وإن كان كاملاً لا يكتمل، فكيف سيكتمل العلم بالله. ولكن لماذا؟.
العلم بالله والاعتبار(1/196)
إن من أصعب الأمور على الكريم أن يتهم بكرمه، وعلى الصادق أن يتهم بصدقه، وعلى السيد في قومه أن يتهم فيما يدعوهم إليه من الأخلاق. فكيف سيكون حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المتهم في أعز ما يملك، الشرف، وما يستوجب الرجم لو صح، لزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فهل سيعرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحق من الباطل فيما أشاعه المنافقون. أليست القصة بكل ما فيها حرباً على الله ورسوله. وقد عرضنا للطريقة التي كان يحاول أن يتصيد فيها المنافقون الحوادث والفرص للتشكيك بالرسول والرسالة. وكيف كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الوحي ويتصرف وفقاً لأمره في كل شأن. ولم يعد كما كان في أول أمره يستعجل الوحي، أو يعد بما لم يأت الأمر به. فقد علم أن الوحي لا ينزل إلا بأمر الله كما قال له جبريل - عليه السلام - . فالله العالم بما في السموات والأرض، هو أعلم بحاجات رسله من أنفسهم، فلا حاجة للسؤال إلا أدباً مع الله، لا من قبيل التحديد لما يريده الرسول، وكأنما هو الذي سيبين لله ما يحتاج إليه، وما يلزمه لنجاح الرسالة. فهذا أمر لا يقع فيه من يؤمن بأن حكمة الله أفضل من حكمته، فكيف سيقع فيه الرسل! وبعد التجربة سيعلم كل رسول أن الله لا يتخلى عن رسله وإن تأخرت الإجابة أو التصدي لمن يريدون برسله شراً، ولهذا ستحل في نفوسهم الطمأنينة والثقة بعد القلق في المراحل الأولى من الرسالة. فالرسل تتعلم بأرواحها كما نتعلم بعقولنا. ولكن معرفة الروح كما سيتبين لنا من دراسة حادثة الإفك ستظل مقيدة بإرادة الله ووحيه، بحيث لا يستطيع أي إنسان مهما أوتي من الكمال أن يسمع من وحي الله حرفاً واحداً إلا بإذنه مع أن وحي الله في الكون لا يتوقف لحظة واحدة. لأن كل المخلوقات أو الأكوان التي هي كالآلات بحاجة لهذا الوحي كما يحتاج المصنع لإدارة مالكه.(1/197)
بينما لا يحتاج الإنسان إلى هذا الوحي الدائم، لأن عقله المخلوق فيه سيرشده إلى ما يحتاج إليه. والإنسان كما سيتبين لنا وإن وصل إلى أعلى مقامات الخبرة الروحية، لا يستطيع أن يعرف عما يوحى في الأكوان إلا إذا أراد الله أن يكشف له عنه بأي حاسة من الحواس. فالأمر لله حتى لا يظن العبد أن له غير العبودية المطلقة. بل إن العارف بهذا المقام لا يكون مطلبه إلا قبول الله له وإعانته على الوصول إلى مقام العبودية المطلقة لله، لأن عبد السيد يصبح سيداً برضى سيده عنه. أما من كان في نفسه شيء من الجهل بظنه أنه مستحق أو صاحب حق عند الله لما بذله أو قدمه، فهو لم يفهم مصدر العون، وقد يظن أنه شريك لله طالما ظن أن لديه بعض المزايا الشخصية التي تؤهله للقيام بدور في خدمة الله. نعم إن هذا الدور مطلوب من العبد، وقد يفخر بما يقوم به، ولكن ليس على وجه اليقين، وإنما للمناسبة، أما في العمق فإنه يدرك أن كل ما يجري على يديه من خير إنما هو بفضل الله وتوفيقه. ولهذا سيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألته عن سبب قيامه في الليل حتى تورمت قدماه بعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال لها [ أفلا أكون عبداً شكوراً] إذ ماذا يستطيع العبد أن يقدم لله، والله غني عن العالمين. وهل نطق اللسان بالشكر إلا بعون الرحمن. ولذلك فإن الإنسان العارف يقترب ويقترب حتى يقبل عند الله عبداً. ولا يقول بالحلول إلا جاهل لم يعرف حقيقة الربوبية، وما تقتضيه حقيقة العبودية ومقامها. إذ في هذا المقام لا ينطق العبد ولا يتصرف إلا بأمر الله، وسواء أعلم الحكمة من الأمر عاجلاً أو آجلاً فإنه لا يتردد في تنفيذ ما أُمر به. فعند عالم الروح تبطل المحاكمة العقلية للأمور، ولا يسأل الرسول ربه لماذا أُمر مثلاً بالسفر إلى الطائف والعودة دون فائدة، ومن ثم الدخول إلى مكة في حماية مشرك.(1/198)
أي أنه لا يسأل ربه دليلاً ولا برهاناً، كما ذهب موسى - عليه السلام - إلى فرعون وعاد صفر اليدين من هدايته. فالعبد حقاً وهو مقام كل رسول، لا ينطق عن الهوى، وإن اختلفت مقامات الرسل حسب علومهم وشهود حواسهم لتجليات الحق. ولكن ما جرى ويجري عليهم هو للحكمة. مثل حادثة تأبير النخل، لكي نتعلم الاجتهاد في أمور دنيانا، والاتباع فيما يخص آخرتنا. وإن أخطأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعرف علم المزارعين من أصحاب النخل. وما أخطأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نظر أهل زمانه يجب أن يظهر ليعرف ويستفاد من علم الخطأ بعلم الصواب. وما بقي من العلوم صحيحاً فهو صحيح إلى قيام الساعة، وإن جاء من أنكره أو شكك في صحته في غير زمانه، لأن مقام العبودية يقتضي سماع العبد من الله، وشهود ما سمع تحقيقاً وتصديقاً بشهادة العقل والحواس. وهذا للأولياء على قدر وصولهم وعبوديتهم. أما مقام الرسالة فإضافة لكونه عبودية محضة، فإنه يتميز بإضافة الرسالة للرسول. وهذا لا يصل إليه الولي إلا من نور النبوة، فيكون شارحاً لها، ومتبعاً لخطى صاحبها. ولهذا يمر الرسول بالولاية قبل النبوة، ولا يصل الولي إلى الرسالة، إلا كما يتعلم طالب العلم على أستاذه، ويصبح معلماً لهذا العلم. وبما أنه لابد من تسلسل العلم، ولابد من حيازة الطالب الجامعي لعلم المرحلة الثانوية، فلهذا نقول على وجه التمثيل إن الولاية تسبق النبوة، والنبوة تسبق الرسالة، وإن لكل رسول علوماً قد لا يعرفها غيره من الرسل. ولكن الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - لا يصح أن يكون خاتماً إلا إذا علم علوم جميع الرسل. ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن موسى - عليه السلام - [رحمة الله علينا وعلى موسى. لو صبر لرأى من صاحبه العجب. ولكنه قال ـ إن ـ سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً] (كنز العمال ـ 32378/ ج11).(1/199)
أي عند اجتماعه بالرجل الصالح كما ورد في سورة الكهف. وقال عن عيسى - عليه السلام - [إن عيسى بن مريم كان يمشي على الماء، ولو زاد يقيناً لمشى في الهواء] (كنز العمال ـ 7341/ج3). لقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام من مقام العلم بعلم كل رسول، رغم أنه قال [لا تفاضلوا بين أنبياء الله] (كنز العمال ـ 32373/ج11). لأن الفضل لله يؤتيه من يشاء. ولهذا فإن العاقل يدرك بأن عتاب الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - على موقفه من ابن أم مكتوم بقوله: { عَبسَ وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريكَ لَعلهُ يَزّكَى } (عبس/ 1 ـ 3) إنما هو للتشريع والاقتداء. كما ورد مثلاً في الحديث النبوي أن رجلاً جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان له دين عليه حان أجله، فأغلظ(1/200)
للرسول - صلى الله عليه وسلم - القول، وألح في المطالبة بحقه، فنهره الصحابة ومنهم عمر رضي الله عنهم. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه. اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما رُعته] (كنز العمال ـ 15050/6). لقد حدث ما حدث للبيان بأن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى أتباعه الصادقين أن يكونوا قدوة، وأن يتحملوا كلام صاحب الحق، ولا يضيقوا به. لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا بالصواب والخطأ، وبالقراءة والتجربة، وبالكلام والأفعال، لكي يرتقي المسلم إلى عالم الروح. ولا نعني بأن ما وقع من أحداث في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وقع عن تعمد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كانت الحوادث تجري بأمر الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتصرف وفقاً لهذا الأمر بالكلام أو السؤال أو النصح حتى تظهر الحكمة بالوحي القرآني مما سيحتاجه المسلمون مستقبلاً للتشريع واستنباط الأحكام في حياتهم. ولهذا ربما كانت حادثة الإفك وما دار بشأنها من أعظم الدروس في حياة المسلمين، كما كان اتهام مريم العذراء بعد ولادة المسيح - عليه السلام - من هذه الدروس التي لا تصلح للقياس العقلي على علم الإنسان السائد في أسباب حمل المرأة. إننا عندما نقرأ أسباب النزول كما وردت على لسان الشارحين، سندرك أن الآيات وإن نزلت عند وقوع الأسباب المذكورة، ما نزلت لهذه الأسباب فقط، وإنما لتكون شرعاً دائماً يحسب حساب الأسباب والظروف ويتعامل معها. ولكي نعرف الدروس المستفادة في مجال الروح من حادثة الإفك. فإننا سننقل ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حول هذا الموضوع.(1/201)
ولكي نشاهد كيف تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، وإن كان على يقين من براءة زوجه، بل إنه كان يستطيع أن يعرف على وجه اليقين حقيقة ما أشيع ويشاع، كما يعرف الطبيب من قياس نبضات القلب حالة العليل من السقيم. وعلم الأولياء بما يقترفه أصحابهم هو من حقائق الولاية ومن بعض علومها فكيف بالرسل؟. وإن الروايات في هذا المجال لا تعد ولا تحصى. وهذا مثال لما يقع على يد الأولياء. فقد قال أحد أصحاب الشيخ عبد العزيز الدباغ "إني ذهبت لزيارة مرة وكنت راكباً على بغلة فلما وصلت موضعاً صعباً نزلت عن الدابة وتركتها تمشي، فلما جاوزت المحل وأردت أن أركب فرّت. فجعلت أصيح يا سيدي مولاي عبد العزيز، فأتاح الله لي أناساً قبضوها. فلما وصلته جعل يضحك ويقول ما يفعل عبد العزيز؟ أنت بموضع كذا وهو بموضع كذا. نعم لو كنت معك لأعنتك فقلت يا سيدي كل ذلك عليك سواء" (1). وقال هذا المريد "إني كنت رجلاً كثير النوم، فتارة أفيق عند طلوع الفجر فأطأ زوجتي في ذلك الوقت، وتارة يجدني الفجر نائماً. فلما حضرت بين يديه رضي الله عنه، قال للإخوان الحاضرين: إن فلاناً كلما أقدمت عليه عند طلوع الفجر أجده إما نائماً وإما أن يطأ زوجته في ذلك الوقت... فتبت إلى الله من ذلك ولم أعد إلى ذلك ولا إلى النوم في ذلك الوقت" (2). وسيتحدث الدكتور عبد الحليم محمود عن حوادث وقعت معه من هذا القبيل في كتاب "المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها" ومنها مثلاً أن أحد الشيوخ أثناء رحلة له في القطار التفت إلى رجل مجاور له وقال له دون أن يعرف أحدهما الآخر "بشر صاحبك ـ مشيراً إلي ـ بالحج هذا العام" (3) وكما سيروي الدكتور فإنه "قبل سفر آخر فوج، بينما أنا جالس في كلية أصول الدين مشتركاً في أعمال الامتحان، إذا بالنداء: احضر لاتخاذ الإجراءات للحج" (4). فقد تحققت البشارة مع أن الدكتور عبد الحليم لم يتهيأ للحج ولم يتقدم بطلب للسفر كما صرح بذلك.(1/202)
وهذا من علوم المستقبل. وهذه ونظيرها من علوم الأولياء، فكيف بالأنبياء والرسل؟. لهذا تميزت مقامات الأولياء على قدر معرفتهم. والمعرفة سببها المجاهدة. قال الشيخ محيي الدين بن عربي "إن عين القلب إذا ارتفعت عنه الحجب التي ذكرناها، وانكشف الغطاء، أدركت بحسها كل قلب يكون مقابلاً لها. واعلم أن كل قلب كتاب مسطور لكل ما فيه من الخواطر والعلوم، وله طبقات نظير أوراق المصحف. وكل ذي قلب لا يخلو من قراءة مصحفه أو كتابه ساعة، إما ماراً عليه، أو متردداً. أعني لابد أن يكون متردداً في خاطر واحد، أو تمر عليه خواطر شتى، فيتطلع الحكيم المكاشف إلى مصحف الداخل وكتابه، وينظر في أي صفحة هو، وفي أية آية هو منها، وذلك لا يشعر، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فإن شاء الحكيم بعد تحصيله لما في نفسه أظهر، وإن شاء ستر، على حسب الوقت وما يعطيه من المنفعة والمصلحة. فعلى هذا الحد هو الكشف لبعض العارفين غيوب العالم" (5). وسيبين الشيخ ابن عربي بعض أنواع الكشف المعطى للأولياء قائلاً: "إن الرجل يزني ويسرق أو يفعل فعلاً حراماً فيدخل على المكاشف فيرى على ذلك العضو الذي يكون منه العمل تخطيطاً أسود، لا يرى غير ذلك. وكان ذلك المقام غالباً على حال أبي يعرى رضوان الله عليه. وهذه المكاشفة موقوفة على المحققين في مقام الورع... وثم لمعرفة الخواطر والفراسة مقام غير هذا يحرّم كشفه" (6) وإن كل العلوم الإلهية التي تفرقت في الرسل والأنبياء والأولياء قد اجتمعت في ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا ختمت المعرفة الإلهية به لأنه لا مزيد عليها، ولا طاقة للبشر في الوصول إلى ما يوازيها، وكل ما سيعرفه الأولياء بعد ذلك من أنوار علم رسالته. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكشف أحياناً لأصحابه عن بعض هذه العلوم التي لا تعرفها العقول. منها ما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه. قال "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ثم انصرف.(1/203)
فقال [يا فلان ألا تُحسنُ صلاتك، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه. وإني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي] (مسلم ـ 433/ ج4). وجاء عن أنس. قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: [أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي. ثم قال: والذي نفسُ محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قالوا وما رأيت يا رسول الله. قال رأيت الجنة والنار] (مسلم ـ 426/ ج4). وفي أيام معركة خيبر سيصاب أحد المسلمين بجراح قاتلة حتى ظنوا انه مات "فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [كلا إني رأيته في النار في بردة غلّها أو عباءة] (مسلم 127/ج2). وفي معركة حنين، وقبل وقوعها، سيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن رجل مسلم [هذا من أهل النار. فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه. فقيل يا رسول الله الذي قلت له آنفاً إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً، وقد مات. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحاً شديداً. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأُخبر(1/204)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله. ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر] ؛(مسلم ـ 112/ج2). هذه بعض المعجزات التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكشف عنها للمسلمين، فهل سيغيب عنه ما يفعله أهل بيته؟ ولكن الحكمة اقتضت كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [خاطبوا الناس على قدر عقولهم] فإذا كان المنافقون قد بيتوا أمراً للإيقاع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أهل بيته، أو أصحابه. فلحكمة كان يتركهم ولا يكشف عن مكرهم، حتى تكون إدانتهم على ملأ من المسلمين ليحذروهم في وقت الدعوة والكفاح، ولكي يستفيد المسلمون في المستقبل من أخبار فتن المشركين ودعايتهم لمواجهتها بحكمة الماضي وهدي النبوة ونورها. لهذا تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضيه خطاب العقل بالعقل، وإن كان يعلم بالروح الحق من الباطل في كل أمر مرَّ عليه. لقد ترك المنافقين يقولون ما أرادوا طيلة شهر، وهم يظنون بأنهم قد نجحوا في النيل من الإسلام بإنشاب مخالبهم في آل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن فشلت أسلحتهم، حتى نزل الوحي ببيان الحقيقة، وليشرع للمسلمين قانون حماية الأعراض من المفسدين في الأرض، كما شرع لهم قانون حماية الأملاك. وسيكون آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سبباً لمواساة كل مسلم يتعرض للاتهام وسوء الظن. وهكذا كما نتعلم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصبر في المواقف الصعبة والجهاد في الحق، سنتعلم منه الحلم والأناة في مواجهة الجاهلين والضالين والمضلين والمنافقين والكافرين، وإن عرفنا الحق وأنكروه، وإن زيفوا الحقائق. وكم، وكم، سيزيفون من الحقائق في كل العصور التي لا يجهلها حتى الأطفال.(1/205)
ولكنهم لوقاحتهم كلما امتلكوا وسائل القوة والتسلط سيزيفون ولهذا لابد من حكم الحديد عليهم لردعهم عندما لا ينفع النصح. ولهذا أشار الله إلى الحديد بعد أن ذكر الرسل، لأنه سيكون علاجاً للضالين الذين لم ينفعهم كلام الرسل صلوات الله عليهم. فقال { لقد أرسلنا رسلنا بالبيات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناسُ بالقسط وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناس وليعلمَ الله من ينصرُهُ ورسلَهُ بالغيب إن الله قوي عزيزٌ } (الحديد/ 25).
النفاق والحروب المستمرة
نص حديث الإفك:(1/206)
"حدّثنا حبَّان بن موسى، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا يونس بن يزيد الأيليُّ ح، وحدّثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلّي ومحمّد بن رافعٍ وعبد بن حُميد. قال ابن رافعً حدّثنا، وقال الآخران أخبرنا عبد الرّزاق، أخبرنا معمرٌ والسِّياقُ حديثَ معمرٍ من رواية عبد وابن رافع. قال يونس ومعمرٌ جميعاً عن الزُّهريَّ. أخبرني سعيد بن المسيَّب وعروة بن الزُّبير وعلقمة بن وقّاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله ممّا قالوا. وكلُّهم حدَّثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعضٍ، وأثبت اقتصاصاً. وقد وعيت عن كلّ واحد منهم الحديث الذي حدّثني وبعض حديثهم يصدِّق بعضاً. ذكروا أنّ عائشة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه فأيَّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلّم معه. قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها فخرج فيها سهمي. فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعدما أنزل الحجاب. فأنا أُحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا. حتّى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرّحيل. قمت حين آذنوا بالرّحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت من شأني أقبلت إلى الرّحْل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع. فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أنّي فيه. قالت وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهبّلنَ ولم يغشهنّ اللّحم إنّما يأكلن العلقة من الطّعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه. وكنت جاريةً حديثة السّنّ فبعثوا الجمل وساروا. ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش.(1/207)
فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيبٌ. فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنّ القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطّل السُلميُّ ثمّ الذّكواني قد عرّس من وراء الجيش، فأدّلج، فأصبح عند منزلي. فرأى سواد إنسانٍ نائمً فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ. فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني. فخمرّتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلّمني كلمةً، ولا سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، حتّى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها. فانطلق يقود بي الرّاحلة حتّى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني. وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول. فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً والنّاس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أنِّي لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُسلّم ثمّ يقول كيف تيكم؟. فذاك يريبني، ولا أشعر بالشّرّ حتّى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أمّ مسطحٍ قِبلَ المناصع، وهو متبرّزنا. ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل. وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التّنزّه. وكُنّا نتأذى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم ُّ مسطحٍ وهي بنت أبي رهم بن المطلّب ابن عبد مناف، وأمّها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكرٍ الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة ابن عبّاد بن المطلّب. فأقبلت أنا وبنت أبي رُهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطحٌ. فقلت لها بئس ما قلت: أَتسبّينَ رجلاً قد شهد بدراً؟. قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟. قلت: وما الذي قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضاً إلى مرضي.(1/208)
فلمّا رجعت إلى بيتي فدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: كيف تيكم؟. قلت: أتأذن لي أن آتي أبويَّ؟. قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقّن الخبر من قبلهما. فأذن لي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فجئت أبويّ فقلت لأمّي: يا أمتّاه ما يتحدّث النّاس؟. فقالت: يا بنيّة هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأةٌ قط وضيئةٌ عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ وكثّرن عليها. قالت: قلت سبحان الله وقد تحدّث النّاس بهذا؟. قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنومٍ، أصبحت أبكي. ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت فأمّا أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ. فقال: يا رسول هم أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً. وأمّا عليّ بن أبي طالب فقال: لَمْ يُضيّق الله عليك، والنّساء سواها كثيرٌ، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟. قالت له بريرة: والذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمراً قطُّ أغمصه عليها أكثر من أنها جاريةً حديثة السّنّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الدّاجن فتأكله. قالت فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول. قالت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علّمت عليه إلاّ خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلاَّ معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.(1/209)
قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلاً صالحاً اجتهلته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أُسيد بن حضيرٍ وهو ابن عمِّ سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه فإنّك منافقٌ تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا ان يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ على المنبر. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخفّضهم حتّى سكتوا وسكت. قالت وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنومٍ، ثمّ بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنومٍ، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالقٌ كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَ امرأةٌ من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم جلس. قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. وقد لبث شهراً لا يوحي إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس. ثمّ قال أمّا بعد يا عائشة فإنّه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئةٌ فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبٍ ثمّ تاب تاب الله عليه. قالت: فلمّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتّى ما أحسّ منه قطرةً. فقلت لأبي: أجب عنّي(1/210)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت لأمي: أجيبي عنّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت وأنا جاريةٌ حديثة السّنّ لا أقرأ كثيراً من القرآن: أنّي والله لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتّى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به. فإن قلت لكم إنّي بريئةٌ لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكن بأمر والله يعلم أنّي بريئةٌ لتصدقونني. وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ كما قال أبو يوسف فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون. قالت: ثمّ تحولّت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئةٌ وأنّ الله مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله عزّ وجلّ فيّ بأمر يُتلى. ولكنّي أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النّوم رؤياً يُبرئني الله بها. قالت: فو الله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحدٌ حتّى أنزل الله عز وجلّ على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتّى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشّات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فلمّا سرّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك. فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أمّا الله فقد برّأك. فقالت لي أمّي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلاَّ الله هو الذي أنزل براءتي. قالت فأنزل الله عزّ وجلّ "إنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبةٌ منكم" عشر آياتٍ. فأنزل الله عز وجلّ هؤلاء الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكرٍ، وكان ينفق على مسطحٍ لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة.(1/211)
فأنزل الله عزّ وجلّ { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسّعة أن يؤتوا أولي القربى" إلى قوله" ألا تحبّون أن يغفر الله لكم } قال حبّان ابن موسى، قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجي آية في كتاب الله. فقال أبو بكر: والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبداً. قالت: عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحشِ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري، ما علمت أو رأيت؟. فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلاّ خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحشٍ تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. قال الزّهري فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرّهط. وقال في حديث يونس احتملته الحميّة" (مسلم ـ 2770 /
ج17).
وقد ورد في رواية ثانية للحديث أن صفوان السلمي حين سمع بما أشاعه أعداء الإسلام، قال "سبحان الله. فو الذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط... ثم قتل بعد ذلك شهيداً في سبيل الله" (مسلم ـ 2770 / ج15).
مظاهر التلفيق:
1 ـ إن أول ما نلاحظه أن على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن تكون على اتفاق مع الصحابة الذين حملوا هودجها فارغاً لكي يتاح لها التخلف عن الجيش. ومثل هذا الاتفاق لا يمكن أن يحدث.
2 ـ إن أم المؤمنين لابد أن تفترض لمثل من هي في مكانتها ووضعها، بأن من يتولون نقلها لا يمكن لهم أن يسافروا دونها، ولا يمكن مهما كان وزنها خفيفاً أن لا يشعروا بأنها غير موجودة في هودجها. ومثل هذا الظن هو الذي دفعها للابتعاد بحثاً عن عقدها الضائع.(1/212)
3 ـ إن أي امرأة في مكانة أم المؤمنين لا يمكن أن تسمح لنفسها بالظهور وحيدة مع رجل غريب عنها إلا مضطرة، لأن الإسلام حرم ذلك، ولأنها تعلم بلا أدنى شك النتائج التي ستترتب على مثل هذا الظهور إذا كان متعمداً. ومن غير المعقول فيما لو كان لأي امرأة حتى لو كانت لديها مجرد نوايا سيئة أن تظهر علناً مع رجل يشاركها مثل هذه النوايا. وهذا يكشف بشكل قاطع عن الضرورة التي فرضت مثل هذا الظهور العلني لأم المؤمنين مع الرجل المسلم الذي كان في مؤخرة الجيش.
4 ـ إن أم المؤمنين عائشة كانت تستطيع لو كان في ظهورها مع السلمي أي نية سيئة، أن تبتعد عنه قبل وصولها إلى الجيش المسلم.
5 ـ إن ثبات صفوان السلمي على إسلامه، وشهادته في سبيله، هو أكبر دليل على براءة الطرفين. فلو لم يكن السلمي بريئاً مما أشيع، فإن نزول الوحي بتبرئة أم المؤمنين وتبرئته، سيدفعه حتماً للكفر بالإسلام وإنكار الوحي، ولن يدفعه بعد ذلك للتضحية بنفسه في سبيل دين لا يعرف رسوله الحق من الباطل. كما أنه سيكون لأم المؤمنين عائشة موقف آخر من الإسلام والإيمان، إذا كان الوحي قد أخطأ في تبرئتها مما نسب إليها، وهي أعلم بنفسها. وإن خطأ الوحي فيما لو حدث بشأنها سينسف كل أسس الإيمان في نفسها، ولابد أن يظهر في سلوكها في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته. ولكن سيرتها رغم طول عمرها تدل على إيمانها الذي جعلها مصدراً من مصادر الفقه، تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - [خذوا ثلث دينكم عن هذه الحميراء].
ومع ذلك فإن علينا أن نتابع الطريقة التي عالج بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الموضوع بالعقل والحوار والحكمة، وإن كان يعلم بالروح سبب ما أشيع، ومن أشاعه، وإرادة الله في وقوع ما وقع ليتعلم المسلمون من معاناة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآلام أم المؤمنين ودموعها ما يجب أن يتعلموه.
النفاق والدروس الجديدة:(1/213)
لقد اشتكى المسلمون للرسول - صلى الله عليه وسلم - دائماً من خبث هذا المنافق عبد الله بن سلول الذي كان يسعى لاستغلال كل فرصة لإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. وقد ظل يخطط للنيل من المسلمين حتى وفاته. ولم يكن بالرجل البسيط كما قد يظن. فقد كانت له المكانة الأولى بين قومه، وكان قومه قبل قدوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اتفقوا على تتويجه ملكاً عليهم، حتى إنهم كانوا يعدون له ثياب التتويج اللائقة. ولكن هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أدت إلى إلغاء كل ما كان يطمح إليه من مزايا الملك والسلطان. وهذا ما يكشف عنه كلام الأنصاري أسيد بن حضير، الذي طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعذر هذا المنافق، لأنه كما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - "يا رسول الله، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً" (1). وهذه المكانة التي أهلته للملك على قومه تدل على حنكته وبعد نظره، كما تدل من جهة ثانية على حجم الخسارة التي سيشعر أن الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - تحديداً قد سببها له. إنه الملك، وكم من الملوك قتلوا أبناءهم من أجل الملك. ومن موقف مشابه سيعادي أبو جهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى الموت. فقد قال للأخنس بن شريق " تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟. والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه" (2). ولكن مشكلة ابن سلول ستكون أكبر لأن الملك الذي نزع منه كان يخصه شخصياً. وكان أكثر مكراً من المكيين الذين رفضوا الإسلام، إذ أعلن إسلامه، وراح يحارب الإسلام من الداخل. فقام بعدة أعمال تكشف عن براعته في حبك المؤامرات. منها:(1/214)
1 ـ خرج مع المسلمين إلى معركة أحد للقتال في السنة الثالثة للهجرة. ولكنه "حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم وعصاني ـ يقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان من رأيه أن يتحصن المسلمون في المدينة للقتال ـ ، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب" (3). وهذا التصرف كما هو واضح من أخطر أشكال التآمر. إذ بعد أن ورّط المسلمين في التوجه إلى القتال، ولم يبق أمامهم أي خيار للانسحاب. تذرّع بأسباب واهية لشقّ صفوفهم وإضعاف قوتهم، تاركاً الفرصة لعدوهم للنجاح. وهذا لا يفعله إلا عدو يسعى للقضاء على المسلمين.(1/215)
2 ـ وقعت غزوة بني النضير في ربيع الأول، في السنة الرابعة للهجرة، آب/ أغسطس، سنة 625م. وكان سببها تآمر يهود بني النضير على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثناء زيارته لهم لقتله غيلة، بينما كان يستعين بهم كحلفاء وفقاً لعهده معهم، على دفع دية قتيلين من بني عامر. ونتيجة لهذه المؤامرة، بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم محمد بن مسلمة يطلب إليهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام، فوافقوا وبدؤوا يتجهزون للرحيل. ولكن "رئيس المنافقين ـ عبد الله بن أبي ـ بعث إليهم أن أثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم... وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.. فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواب حيي بن أخطب كبّر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم.. ولم يطل الحصار ـ فقد دام ست ليال فقط، وقيل خمس عشرة ليلة... فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح" (4). ولم يتمكن ابن أبي من تقديم أي مساعدة لهم فرحل قسم منهم إلى خيبر، وآخرون إلى الشام. وهكذا انتهت مؤامرة ابن أبي مع يهود بني النضير إلى الفشل. ونزلت في هذه الحوادث سورة { الحشر } .(1/216)
3 ـ في السنة السادسة للهجرة من شهر شعبان قاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى غزوة بني المصطلق لمواجهة تجمعهم المعادي وانتصرَ عليهم، وأُسروا إلا من فر منهم. وأثناء تجمع المسلمين على بئر للتزود بالماء. اختلف أنصاري مع أحد المهاجرين فاستنجد الأنصاري بالأنصار، والآخر بالمهاجرين. وكان عبد الله بن سلول بين المسلمين الأنصار. فقال "أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش ـ وهو لفظ أطلقته قريش على المهاجرين ـ إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل. ثم أقبل على مَن حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم" (5). فقام الأنصاري زيد بن أرقم بإبلاغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما قاله ابن سلول. وحين علم ابن سلول بوصول كلامه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ذهب إليه وحلف بالله أنه ما قال هذا الكلام. وقبل منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الإنكار. وكان عمر بن الخطاب قد اقترح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقتله، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا. ولكن أذّن بالرحيل] (6). وحين علم عبد الله الابن وكان من المسلمين الصالحين بأقوال أبيه، والاقتراح بقتله، جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فقال له: "يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار.(1/217)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا] (7). ولكن ابنه لم يكتف بذلك، فوقف على باب المدينة ومعه سيفه بانتظار أبيه. ولما وصلها، قال له" والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه العزيز وأنت الذليل" (8). فجاء به إلى النبي حتى أذن له بالإقامة في المدينة وسامحه على ما بدر منه.
في هذه الغزوة، وأثناء عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة، تأخرت أم المؤمنين عائشة عن السفر مع الجيش بسبب بحثها عن عقدها الذي ضاع، وجهلها بموعد رحيل الجيش. فصادفت صفوان بن المعطل السلمي وهو من المهاجرين وكان في مؤخرة الجيش، فعادت معه، وكان ما كان من حديث الإفك بعد ذلك، الذي أشاعه عبد الله بن أبي سلول بعد أن سامحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قوله كما نزل في القرآن
{ يقولونَ لئن رَجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأَعزُّ منها الأَذلَّ ولله العزةُ ولرسولهِ وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } (المنافقون/ 8). ولكن كما يبدو فإن حقد هذا الرجل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعمى بصيرته، وجعله غير قادر على السيطرة على نفسه، فكان مريضاً بالكره، وكان مرضه يقوده من انحراف إلى انحراف، ومن عدوان إلى عدوان، ولقد كانت نار حقده تزداد اشتعالاً مع كل فشل، ولن تهدأ إلا بالموت، بعد أن فشلت أكبر المؤامرات وأخطرها للنيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وسوف تتلوها مؤامرة شبيهة بتلك التي تعرضت لها أم المؤمنين عائشة. ولكن هذه المرة سيختار المنافقون ضحية جديدة هي مارية القبطية، بعد أن فشلت مؤامرتهم الأولى بتبرئة الله لأم المؤمنين عائشة بنص القرآن.(1/218)
4 ـ في أواخر السنة السادسة للهجرة، أو في "غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج من خيبر بأيام ـ حسب حسابات العلامة ـ المنصور فوري" (9) كتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتباً للملوك يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم المقوقس ملك مصر والإسكندرية. وهذا نص الكتاب [بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرَّتين، فإن توليت، فإن عليك إثم القبط { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنْ تولَّوا فقولوا اشهدُوا بأنَّا مسلمون } ـ (آل عمران/ 64)". (10). لقد نقل الكتاب حاطب بن أبي بلتعة. ولما قرأه المقوقس، وضعه في حق من عاج. وكتب للرسول - صلى الله عليه وسلم - "بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله. من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك" (11). وكانت الجاريتان هما مارية وأختها سيرين وقد عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهما الإسلام فأسلمتا. فوهب سيرين للشاعر حسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن. واحتفظ بمارية، وأسكنها في "العالية" على بعد ثلاثة أميال من المدينة، فحملت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وولدت إبراهيم. وبدأ المنافقون في نشر الشائعات حول سلوك مارية، باتهام ابن عم لها كان يزورها بأنه على علاقة معها. وربما وجد المنافقون في عدم حمل أمهات المؤمنين باباً ملائماً لإثارة الشائعات.(1/219)
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا أدرى وأعلم بأخلاق أهل بيته وسلوكهم بما يعرفه بالروح. ولكن كان لابد له من التعامل مع الناس بالمنطق الذي يفهمونه، ولهذا أرسل علياً بن أبي طالب إلى العالية وقال له [خذ هذا السيف وانطلق إلى مارية، فإن وجدته عندها فاقتله] ـ أي قريبها ـ قال علي. قلت: "يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة، لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به، أم الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ بل الشاهد يرى مالا يراه الغائب]. فأقبلت متوشي السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف. فلما رآني عرف أني أريده فأتى نخلاً فرقى فيها، ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال برجليه، فإذا به أجب أمَسح، ماله مساً قليل ولا كثير. قال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: [الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت] (12) من المؤكد أن الرواية صحيحة، فقد تواتر نقلها. ولكن هل يعقل أن يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتل رجل على الظن، ودون أي دليل غير زيارته لقريبته في بيتها؟. وهل يمكن للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يخالف الشريعة التي أتى بها والتي تتطلب في حالات الزنا شهادة أربعة شهود على المتهمين وهم في حالات التلبس الكامل بالجريمة؟. وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف الشريعة، فكيف يمكن أن نفسر المسألة، والأمر لعلي رضي الله عنه بقتل الرجل؟ لقد أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرئ أم المؤمنين مارية مما نسب إليها، فأرسل شاهداً للتعريف بأن المتهم ليس له ما للرجال، وبذلك تسقط دعوى المهتمين وشائعاتهم. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - على علم بما سيحدث مع علي رضي الله عنه قبل وقوعه. وكان لابد من الأخذ بالأسباب التي(1/220)
يقبلها الناس لإسقاط الشبهات. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليقدم على الأمر بقتل رجل على الظن، فقد عصمه الله عن مثل هذه الأفعال. ولكي نبين صحة تأويلنا وفهمنا ومستندنا، نذكّر بقصة خالد مع صاحب دومة أكيدر. فقد بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - خالداً بن الوليد إلى ملك "أكيدر دومة" وهو أكيدر بن عبد الملك من كندة، وكان نصرانياً، لدعوته للإسلام. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالد: [إنك ستجده يصيد البقر]، فخرج خالد، حتى إذا كان حصنه بمنظر العين. وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ يقال له حسان، فركب، وخرجوا معه بمطاردهم. فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذته، وقتلوا أخاه... ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته. فقال رجل من طيء، يقال له بجير بن بجرة، يذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد:(1/221)
[إنك ستجده يصيد البقر، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته] (13). الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبرهن للناس على صدق نبوته بهذه القصص المعجزة وأمثالها، التي ستجعل من خالد مقاتلاً لا يلين في سبيل الله وستكون أمثال هذه المعجزات كرامات لمن سار على نهجه. وسيكون القرآن بما أشار إليه من القوانين والعلوم الكونية معجزة لعصرنا، عصر العلم الذي ستكون فيه معجزات القرآن وعلومه سنداً لإيمان المؤمنين، وحجة على المنكرين، وبذلك ستستمر المعجزة، وسوف تتعاقب الأدلة على صحة العلم بالروح، وليس بالعقل الذي حار في أحكامه العقلاء، والحكماء واختلفوا. بل إن بعضهم تنكر لما اعتقد بصحته بالأمس، وقدم أفكاراً جديدة قد لا تكون أقل سوءاً من الأفكار القديمة. وهذا أفلاطون في جمهوريته يقترح مشاعية النساء، والتمييز في رعاية الأطفال. بل إنه يعطي لأبناء جنسه من الصفات والحقوق ما لا يعطيه لغيرهم، بقوله [أؤكد أن أفراد الأمة اليونانية إخوان وأقارب بعض لبعض، ولكنهم غرباء وأباعد عن البرابرة] (14). لقد سقط أفلاطون سقطات كبيرة وتناقض مع نفسه وأفكاره في كتاب واحد هو ـ الجمهورية ـ فارتكب، رغم بصيرته العظيمة، وصحة حكمه في كثير من الأمور أخطاء كبيرة، لأنه استقى أحكامه من منطق العقل الذي سيحتاج إلى تصحيح دائماً.(1/222)
إن الموضوع الذي بحثناه، وحاولنا أن نجيب عليه بالأدلة، هو الفرق بين علم العقل، وعلم الروح، لنبين تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أغلب المواقف بما يناسب مفاهيم الناس، ومستوى وعيهم، لأن خطاب الروح لا يمكن فهمه دائماً إلا لقلة نادرة من الناس الشاكرين لله والمؤمنين بوحدانيته. ولهذا أثابهم الله بالكشف عن أسرار خلقه، وبيّن لهم بعض آياته، فشاهدوا أسباب ظهور النبات الطيب والخبيث { والبلدُ الطيبُ يخرج نباتهُ بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرونَ } (الأعراف/ 58). وقال يوسف - عليه السلام - مبيناً سبب علمه بتأويل الرؤيا { قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكُما مما علمني ربي إني تركتُ ملةَ قوم لا يؤمنون بالله وهمْ بالآخرة هم كافرونَ. واتبعت ملَّةَ آبائي إبراهيم واسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلكَ من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } (يوسف/ 37 ـ 38). والتكريم كما بيّن يوسف - عليه السلام - ليس خاصاً بالأنبياء، وإنما هو لكل من سار على نهجهم { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } ولكن أغلب الناس أنكروا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء لأن { أكثر الناس لا يشكرون } ومن لا يشكر كيف سيعرف هذه الأسرار، وكيف سيصدّق بها؟. فهل سنستغرب في عصور طغيان العقل، وإنكار علم الروح، قول من يحكم على معجزات الرسل، والأنبياء - عليه السلام - رغم كثرتها بالصدفة، ويتهم مريم العذراء بما اتهموها به من الزنا. وكذلك يظنون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال لخالد بن الوليد عن أكيدر [إنك ستجده يصيد البقر] وجاء البقر ليصطاده، فاصطاده خالد. هل يظن هؤلاء الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف أحوال أهله وسلوكهم وإن ابتعد عنهم؟.(1/223)
ولكن أليس على الناس أن يطالعوا ويقارنوا كل هذه الحوادث ليفهموا، إذا كانوا لا يستطيعون أن يكونوا من أهل الروح؟. إن من ذاق سر الروح لا يقرأ سيرة الرسل كما يقرؤها غيره، لأن وراء كل كلام معنى, وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نسيانه: [إنّي لَستُ أَنسى، ولكني أَنسى لأَسن] (15). وإذا كان الراهب بحيرى قد عرف من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعرفه هو، ولا أقرب الناس إليه عن نفسه، قبل نبوته، فإن علينا أن نستنتج من هذه الإشارات قدرة الروح اللامحدودة على شهود الحوادث قبل وقوعها. وأما ما وقع منها فهي مسألة أبسط بكثير لمن فتحت طهارته عين بصيرته.
قراءة في مواقف بعض الصحابة على ضوء علم الروح
لقد تبين لنا أن علم الروح، كأي علم قابل للزيادة أو الوقوف عند حد معين، إلا أنه لا ينقص. وهذا ما تدلنا عليه سيرة علم الأنبياء والرسل. وقد حدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن مقدمات هذا العلم، ومراحله الأولى لابد أن تبدأ حكماً بالرؤيا الصادقة. ولهذا فإن من لا يشاهد رؤيا صادقة يجب أن لا يطمع، ولا يوهم نفسه بالوصول إلى هذا العلم. لأن البدايات الصحيحة تدل على النهايات. وسبب هذا التحديد أو النظام، أو القانون إذا اعتبرناه قانوناً إنما يعود للطبيعة الإنسانية ومراحل تطورها. فالطفولة يجب أن تسبق الشباب، والشباب لابد أن يسبق الشيخوخة. وفي كل مرحلة من هذه المراحل ستتفتح قوى جديدة في أعماق الإنسان. وكذلك الرؤيا فإنها نتيجة لمرحلة من العبادات، ومقدمة لمرحلة من المعرفة الروحية. بل إنها بداية ظهور برزخ عالم الروح في حياة المؤمن. والعلاقة بين البداية والرؤيا الصادقة إنما تعود للأسباب التالية:
1 ـ إن الطاقة الكامنة في الإنسان ستستهلك في ثلاثة أوجه، النفس، والعقل، والروح.(1/224)
2 ـ إن توزيع هذه الطاقة هو الذي سيتحدد على ضوئه مستقبل كل إنسان ومصيره. فإذا صرف الإنسان هذه الطاقة على طلبات النفس ورغبات الغرائز، فإنه سينحدر تبعاً لانحدار رغباته. فمن رأى الحياة والسعادة من خلال العورة والجنس، فإنه سيصبح خادماً للعورة وأجيراً عندها. ومن رأى السعادة في الطعام فسوف يكون همه معدته، وسيوجه كل اهتماماته للبحث عن متع الطعام. ولن يبقى في الحالتين للعقل والروح من الوقت والطاقة ما تستنيران به. ومن صرف طاقاته في إنارة عقله فإنه لابد أن يرتقي بعقله على قدر جهوده والظروف المحيطة به. وقد يصبح أحد العباقرة المبتكرين، لأن فرص الاستفادة مما في العقل متاحة لكل الناس، ويتساوى فيها المؤمن وغير المؤمن، لأن العلوم العقلية بالأصل موجودة في كل الناس، وتحتاج فقط إلى جهودهم لكي يكشفوا عنها. وهذه العلوم كالشجرة في قلب البذرة، فهي موجودة بالقوة، ولكنها تحتاج للتنمية في تربة العلم حتى تظهر بالفعل. أما علوم الروح فإن تهيئة المكان لها هي بيد الإنسان، أما الإمداد بها فهو من الله. ولهذا فإن على الإنسان أن يهيئ أدوات الاتصال بالعبادات المشروعة، وأما الإرسال فسيكون من الله عندما تستكمل روح الحواس والقلب استعدادها، وزمنها لا يعلمه إلا الله. وليست العبرة في كثرة العبادات كما قد يظن البعض أو المبالغة فيها، وإنما بصفاء القلب وطهارته، ورحمة الإنسان بالمخلوقات، والتزامه بالوصايا التي أمرت بها كل الشرائع، ظاهراً وباطناً، وإيمانه قبل ذلك بوحدانية الله والحساب.(1/225)
وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبيناً أسباب الوصول إلى الروح في وصفه للأبدال، الذين يبدلون السيئات بالحسنات، اقتداء برسل الله، حيث دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل الطائف بعد أن آذوه بالهداية، فقال [اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون] (كنز العمال ـ 29883/ ج10) وقال المسيح عليه السلام، كما ورد في إنجيل القديس لوقا، عندما كانوا يخططون لقتله "يا أبتاه اغفر لهم، فإنهم لا يدرون ما يعملون" (لوقا ـ 6/34). وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن دخلوها برحمة الله، وسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، والرحمة لجميع المسلمين] (كنز العمال ـ 34605/ ج12). وقال عن المؤمن الذي ينظر بروحه [اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله] (كنز العمال ـ 30730 /ج11). وحدد صفات المؤمن بقوله [لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير] (كنز العمال ـ 95/ ج1). ولا يُميّز مَنْ صفته الإيمان بين الناس، فهو يتمنى الهداية لمسلمهم وكافرهم، وإن قاتلوه. ـ اللهم اهد قومي ـ وهم كافرون. وهكذا فإن الوصول إلى علم الروح يتطلب السير على طريق الرسل، والتوجه إلى الله بما أمر وكما أمر، دون إهمال لحقوق النفس المشروعة، ودور العقل الذي لابد أن نعقل به الشريعة وسنن الحياة. وبهذا التوجه المعتمد سنقطع المراحل تلو المراحل في تصفية القلب من الهواجس الشريرة ومشاغل الدنيا وهمومها بالاتكال على الله. والصعود على أول درجات العبودية. وبما أن مشاهدات الروح باليقظة تتطلب صفاء كاملاً، نظراً لانشغال المؤمن بهواجس الدنيا في اليقظة. فإن النوم سيقطع هذه الهواجس، وبذلك سيتحقق الصفاء المطلوب، ولهذا فإن بشارات الوصول إلى عالم الروح تبدأ بمشاهدة المؤمن للرؤيا الصادقة التي ستتحقق.(1/226)
إننا في حالة اليقظة كمن لا يسمع رنين الهاتف بسبب الضجيج، بينما سيرفع الهدوء والسكينة مستوى يقظتنا وانتباهنا من درجة سبعين بالمئة مثلاً إلى مئة بالمئة. وهذا ما يحدث للروح التي امتلأ قلب صاحبها بذكر الله في النوم، مما يجعل من كان هذا حاله قادراً على تلقي رسائل الله التي لا تسمع إلا بالروح. ولما كان لابد لكل مؤمن من الترقي بدرجات متتابعة، ولابد له من الوصول إلى العلامة سبعين مثلاً قبل الوصول للعلامات الكاملة، لأنه لا مجال للقفز في سلم المعرفة، لهذا كان لابد من مرور المؤمن كما هو شأن الرسل على الرؤيا الصادقة، قبل الانتقال إلى مرحلة أعلى منها. وقد بينا في كتابنا "الرؤيا بين الوهم والحقيقة" هذه الحقائق بشكل مفصل، ولهذا لا حاجة لتكرارها هنا. وإننا من طبيعة هذا العلم، وما تكشف لنا عنه حقائقه، نستطيع أن نعرف مواقع الصحابة رضي الله عنهم، ومستوى تطورهم الروحي خلال صحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما قالوا ما قالوا، ولماذا صمت منهم من صمت. وما نقدمه لا نقصد منه النقد، وإنما البيان والتعلم والاقتداء بمن كانوا أهلاً للاقتداء على قدر علومهم، وتقدمهم في اكتشاف أسرار الروح. وهي أمثلة تطبيقية، ولا نقصد منها أن ندرس كل أحوال الصحابة، وإنما القليل الذي اشتهر منها.
صلح الحديبية وعلامات العارفين
في صلح الحديبية الذي وافق عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقعه سهيل بن عمرو نيابة عن قريش في أواخر السنة السادسة للهجرة. كان الإجحاف واضحاً في حقوق المسلمين بالقياس إلى الحقوق التي منحت لقريش.(1/227)
وهذا هو نص الاتفاق "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه... وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها" (1). ولأمر يريده الله وصل أبو جندل بعد الاتفاق هارباً من قريش وطلب حماية المسلمين "فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه... يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين، أَأُرد إلى المشركين يفتنوني في ديني. فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم] (2). وكان وصول أبا جندل سبباً إضافياً لصب الزيت على النار في قلوب المسلمين. ولكن من سيتكلم أو يعترض باسم الغاضبين من المسلمين. سيتقدم عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فهو الأقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: [يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلا، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟] قال أبو بكر يا عمر إلزمْ غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله" (3). ولكن عمر رضي الله عنه لم يرضه هذا الكلام، وإن شهد كأبي بكر أنه رسول الله.(1/228)
ولكن هل كان إدراكه لسر الرسالة، ومن هو الآمر بالصلح لعبد الله ورسوله، كإدراك أبي بكر؟. من هذا الإدراك وبسببه يتبين الفرق في مستوى المعرفة الروحية بين أبي بكر وعمر في تلك المرحلة، ومن خلال هذا المقياس، الالتزام بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون اعتراض ولا جدالٍ ولا نقاش، إلا بإذنه واختياره، نستطيع أن نعرف المستوى الروحي الذي وصله كلّ صحابي، لأن الذين فهموا حقيقة علم الروح وتذوقوها، سيعرفون حقيقة كل أمر نبوي، ومن الآمر به، ولذلك سيطيعون. ولهذا سيتجسد إيمان أبا بكر وعلمه بنصيحته لكل من يسأله عن أمر قرره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله "الزم غرزه" أي الزم طريقه وأمره وهذا السلوك والانقياد لا يعود إلى طبيعة خاصة لأبي بكر رضي الله عنه، وإنما يعود لعلم وقر في قلبه. ولهذا سيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر [ما سبقكم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه].(1/229)
وسيسميه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصديق بسبب رده على من شككوا أو اضطربوا بعد تصريح الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن حادثة الإسراء. فقد قال لهم أبو بكر "إني لأصدقه فيما هو أبعدُ من ذلك. أصدق بخبر السماء ـ أي يأتيه ـ في غدوة أو روحة" (كنز العمال ـ 35657/ ج12). ولهذا سيصمت أبو بكر في أحرج المواقف، ولن يراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يشير عليه برأي دون أن يسأله. لقد صمت عن علم وأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم سألته ابنته أم المؤمنين أن يدافع عنها في محنتها قائلة "أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وكررت أمها نفس القول. ولم يتغير إيمان أبي بكر أو صلته بالرسول - صلى الله عليه وسلم - طيلة الفترة التي لجأت فيها ابنته إلى بيته، بل لم يُعرف عنه أنه راجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، فتصرف وكأن الأمر لا يعنيه، لأنه على يقين بأن { النبي أولى بالمؤمنين من أنفُسهم } (الأحزاب/6) كما وصفه الله. وإنه ما أرسل إلا ليكون [رحمة للعالمين] فكيف يسأله من عرفه صاحباً قبل النبوة، وكان أول مبايع له بين الرجال، ولم يسأله دليلاً ولا برهاناً ولا معجزة، لأنه من معرفته به قبل النبوة، كان يدرك أنه للنبوة أهلاً. هذا هو الصدّيق رضي الله عنه الذي سيتميز بمواقف كثيرة بين الصحابة، وسيرتقي إلى علوم روحية لم يسبقه أحد إليها. عندما طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه أن يتصدقوا بما يستطيعون، أراد عمر أن يسبق أبا بكر رضي الله عنهما، والتسابق على فعل الخيرات من شيم النفوس الطاهرة، فجاء بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله. وحين سأله الرسول - صلى الله عليه وسلم - [يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله] (كنز العمال ـ 35611/ج12).(1/230)
ما هي النتيجة عندما سمع عمر جواب أبي بكر، ومن يخطر بباله مثل هذا الجواب غير رجل كأبي بكر ملأ الإيمان قلبه حتى فاض على لسانه؟. فقال عمر في نفسه: "لا أسبقه إلى خير أبداً" إذ من يستطيع أن يسابق أبا بكر؟. ولهذا أقسم عمر وهو في الخلافة بأن يضرب من يفضله على أبي بكر حد المفتري. وقال "والله لليلة من أبي بكر خيرُ من آل عمر" (كنز العمال ـ 35613/ ج12). وسوف تظهر مزايا أبا بكر في المواقف الحاسمة التي سيتوقف عليها مصير المسلمين بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . هذا الصحابي الصامت الذي لا يكاد يسمع له صوت أو رأي أو موقف في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن حكمة الوحي أكبر من حكمة كل الحكماء، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان ينطق عن الهوى، كما كان يعرف، أخفى نفسه، وأفناها في طاعة الله ورسوله، حتى إنه حين صلى بالمسلمين في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبناء على أمره، لم يكد صوته يسمع. ولكنه بعد ذلك، وحين ألمت الملمات بالمسلمين، كان كأنه الوحي الجديد الناظر بنور الله إلى مصالحهم، فهو الذي سيذكّر من هاله موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشك فيه، بأن "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت" فهدّأ بكلامه النفوس المتوترة والخائفة، ودعاها لعبادة خالقها. وهو الذي سيحدد مكان دفن(1/231)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث توفي ليحلّ مشكلة اختلف المسلمون عليها. وهو الذي سيجمع الأمة خوفاً عليها من الفرقة، ليس طمعاً في خلافة أو منصب، ولكن لتمكن الإسلام وحماية المسلمين الذين لم يجتمعوا إلا عليه حين عادوا إلى رشدهم، بعد أن تنازعوا، وكادت العصبية القبلية أن تمزقهم. وهو الذي سيرسل جيش أسامة إلى مؤتة تنفيذاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اختلف المسلمون، واقترح بعضهم تأخيره أو توجيهه لمهمة جديدة، أو تغيير قائده، بسبب حرج موقف المسلمين، وظهور المرتدين، ووصول الأخبار عن استعدادات رومانية وفارسية للهجوم على المسلمين. فماذا سيقول أبو بكر لمستشاريه من الصحابة المشهود لهم بالمكانة والحكمة، والذين تؤيد رأيهم حسابات التوازن العسكري، والحاجة لتجميع القوى في المدينة بدلاً من بعثرتها لمواجهة الخطر الداهم. والأقرب كان خطر المرتدين العرب، لا خطر الروم. والحكمة العقلية تقتضي في مثل هذه الظروف مواجهة الخطر الداهم، والابتعاد عن إيقاظ الخطر النائم الذي يمثله الروم. وكانت هناك مشكلة تضاف إلى هذه المشاكل، وهي اعتراض بعض المسلمين على تكليف أسامة بن زيد لقيادة هذا الجيش. وهناك مشكلة حول شرعية قتال أهل الردة، فقد رأى بعض المسلمين أن قتالهم لا يجوز ما داموا يقرون بالإسلام وينطقون بالشهادة، وإن رفضوا دفع الزكاة. وكانوا يستندون على أحاديث رويت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مناسبات لا تنطبق على أحوال المرتدين، ولا تصلح للحكم عليهم. فكان لابد من الاجتهاد، والخروج من حرفية النصوص إلى معناها. وكل ذلك سيفعله أبو بكر بمفرده، لأن آراء الصحابة واجتهاداتهم اختلفت عن رأيه، ولم يتفق رأي أي منهم أو اجتهاده مع ما ذهب إليه. لهذا قال لهم، بعد أن استشارهم، وأصدر أوامره من مواقع الروح ونور البصيرة.(1/232)
قال مستغرباً، ومتعجباً، لأنه على يقين، ولأنهم كأنما لا يعرفون سر الوحي ولا يعرفون أبا بكر "أنا أحبس جيشاً بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . لقد اجترأت على أمر عظيم. فو الذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحب إلي من أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أُمرت به، ثم أغز حيث أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب فاستشيره واستعين به، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام فافعل". وبيّن للصحابة أن أمر جيش أسامة لا رأي لأحد فيه، ولا حكم، ما دام قد أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته. فقال [إنكم قد علمتم أنه قد كان من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم في المشورة فيما لم يمض من نبيكم به سنة ولم ينزل عليكم به كتاب] (كنز العمال ـ 30269/ ج10) وسيقول لمن خاف وخوفه من خطر المرتدين المحدق بالمدينة [والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه] (كنز العمال ـ 30266 / ج10).(1/233)
وسيقول لمن خالفه في قتال أهل الردة، أو اقترح تأجيله، استناداً لفهم خاطئ للشريعة، وخوفاً من مخالفة نصوصها، فكان السؤال الذي طرح على أبي بكر، وكان السائل عمر الذي لا يمثل نفسه فقط، مما يدل على الحيرة التي أصابت المسلمين في قتال أهل الردة "قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال، لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله]. قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه] (كنز العمال ـ 16846/ ج6). ستظهر للمسلمين حقيقة الروح التي كانت تحرك أبا بكر وترشده في اتخاذ قراراته، والتي سيكون لها تأثيرها على مصير الإسلام ومستقبله، فإنه سينجز في سنتين كل ما يلزم لبناء دولة الإيمان، ومدّها بمصادر الحياة والاستمرار والاستقرار، إذ بقمعه للفتن الداخلية أعد العدة لكي تدقّ جيوش المسلمين أبواب الإمبراطوريتين، الرومانية والفارسية، فكانت جيوش المسلمين عند وفاته على أبواب دمشق، كما كانت قد دخلت العراق وأضحت على حدود الدولة الفارسية. وفي كل المناسبات سيظهر إيمان أبي بكر الذي لا يتزعزع في الحرب والسلم والصحة والمرض. ففي مرضه زاره الصحابة وسألوه "ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟ فقال: [قد نظر إلي]. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: [قال إني فعالٌ لما أريد] (كنز العمال ـ 35714/ ج12) ومن يستطيع أن يقنع أبا بكر بفائدة أدوية الأطباء وقد أيقن بأن الطبيب هو الله؟. اكسروا الزجاجات إذاً، ولا تبحثوا عن الأسباب، بل عن مسبب الأسباب. لقد انتهى أجل من استضاء بنور النبوة وكان حقاً خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجدير بهذه الصفة.(1/234)
وسوف ينال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسطاً من هذا النور الذي ستكشف عنه أحواله، بعد أن صال وجال في مواقع العقل الذي لم يكشف له عن أسرار النبوة. فتعلم، وقطع المسافة إلى روحه التي ستمده بنورها الذي لا يغيب، بعد أن كان خفياً في ليل العقل، وظلمة الجسد.
من عمير إلى عمر إلى أمير المؤمنين
لن يكتفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسؤال أبي بكر عن سبب قبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشروط صلح الحديبية، بل سيذهب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليطرح عليه نفس السؤال "أولسنا بالمسلمين... أو ليسوا بالمشركين.. فعلام نعطي الدنية في ديننا؟" وسيجيبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - [أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني] فهو أمر الله. وسيقول عمر حين سيدرك خطأه، "مازلت
أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به" (1). في المستقبل سيعرف عمر الخطأ الذي وقع فيه، وسوف يدرك سر نصيحة أبي بكر "الزم غرزه" وسوف يبلغ حبه للرسول - صلى الله عليه وسلم - درجة لا يُصدق فيها أنه يمكن أن يموت كالبشر. أحوال سيصلحها علم أبي بكر. في طريق العودة إلى المدينة، وبعد الصلح ستنزل سورة الفتح { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً(1/235)
مستقيماً } (الفتح/ 1،2) أفي هذه الساعة، وأغلب المسلمين يشعرون بالخيبة والأسى لعودتهم دون زيارة الكعبة، والخضوع لشروط قريش المجحفة، يُبَشرون بالنصر؟. ولكن أين النصر لمن هذه أحواله؟. ولكن ما شاهدوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل سيجعلهم يتفاءلون ويستبشرون ويثقون على قدر علمهم بالنبوة، ومَنْ فَهمَ الإشارات منذ وصولهم إلى الحديبية استراح، إذ عند وصولهم إلى ثنية المرار "بركت ناقته - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الناس: خلأت الناقة. فقال - صلى الله عليه وسلم - : [ما خلأت وما هو لها بخُلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها]. ثم قال: أَنزلوا. قيل له: يا رسول الله: ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب. فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء، حتى ضرب الناس عنه بعطن" (2). لقد كانت البدايات تفسر النهايات لمن يعلم { فاسألوا أهل الذكر } ، لكي لا تعترضوا. ولكن ميزة عمر رضي الله عنه أنه كان يتعلم، وكان يبذل جهده لكي يتعلم، وكان الحق على قلبه أطيب من الماء الزلال البارد في حر الصيف وإن كان مخالفاً لرأيه ومعتقده. وحاله مع أخته وزوجها تكشف عن هذه النفس الرقيقة القادرة على الاعتراف بالخطأ والخضوع للحق خلال لحظات؛ إذ في ساعة واحدة تحول عمر من عدو لدود للإسلام إلى عدو لدود للشرك وأهله بعد أن سمع بعض آيات القرآن. لقد ساقه حب الفضيلة إلى الإسلام، فدافع عنه حتى آخر لحظة في حياته. وبهذا الحب والطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أشرقت روحه، وصار كل همه سلوكاً في الدنيا يتيح له الاجتماع بصاحبيه في الآخرة. حتى إن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة رفضت الزواج منه حين خطبها وهو خليفة للمسلمين، وفضلت عليه طلحة بن عبيد الله.(1/236)
وحين سئلت عن السبب قالت: هذا رجل "إن دخل دخل ببأس، وإن خرج خرج ببأس، قد داخله أمر أذهله عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه" (كنز العمال ـ 36592/ ج 13). سيرتقي عمر رضي الله عنه؟ سيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - [بينما أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى لأرى الريَّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم] (كنز العمال ـ 32729/ ج11). إذاً، السبب الأول الذي سيرتقي به عمر هو العلم، أما السبب الثاني كما سيكشف عنه حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإخلاص والورع والالتزام بالشريعة [بينما أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمصٌ منها ما يبلغ الثدي ومنها يبلغ أسفل من ذلك. وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين] (كنز العمال ـ 32730/ج11). بهذه الاستقامة وحب عمر للإسلام، وغيرته على مصالح المسلمين، سيسامحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما بدر منه أحياناً، وهو العارف بقلوب أصحابه. وسيقول له [يا عمر، إن غضبك عزٌّ، ورضاك حكم] (كنز العمال ـ 32750/ ج11). ولكنها السياسة وما تتطلبه من تصرفات قد لا ترضي القلوب المؤمنة، ولذا تغضب وتتألم. ولكن أليس الأولى حقن الدماء، وكسب القلوب، ودعوتها بالحكمة والموعظة الحسنة إلى طرق الفضيلة. كان عمر يتعلم في مدرسة النبوة الرحمة بخلق الله. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفتح له صدره، ويمنحه من علمه كلما طلب المزيد لأنه رآه أهلاً لذلك العلم، وعرف أن له في النبوة نصيباً. فقال عنه قبل أن تتفتح له نوافذ الروح المغلقة [لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب] (كنز العمال ـ 3245/ج11). وسيقول له أبو بكر وهو على فراش الموت حين أبلغه بأنه اختاره للخلافة وقال له عمر "لا حاجة لي فيها"، سيجيبه [ولكن لها بك حاجة] (كنز العمال ـ 14180/ ج5).(1/237)
وهي حاجة المسلمين لحكم من سيحكم فيما بينهم بنور الله، وليس بما تهواه النفوس من تقريب القريب وإن كان بعيداً عن الحق، وإبعاد البعيد وإن كان مع الحق. فالعدل أساس الملك، وشريعة الإسلام ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ـ . وهذا هو الفاروق كما لقب الذي سيفرّق بين الحق والباطل، ويحكم عليه، ولهذا كانت الخلافة بحاجة إليه، ليستقيم أمر المسلمين. إنهم الرجال الذين سيصلح فيهم الزمان إذا حكموا، الرجال الذين تحتاجهم الأمم حاجتها إلى الهواء النقي. سيرفع سوط العدل فوق جسد عمرو بن العاص دفاعاً عن رجل مسيحي قائلاً له :"اضرب ابن الأكرمين" وسيسأله عمر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" أباسم الإسلام تعتدون؟. إنها الشريعة العمرية المستمدة من مشكاة النبوة التي ستتلقى بهذا الإخلاص من عالم الروح ما كانت تجهله من عالم الأنوار. ستمتد رؤية البصيرة من المدينة إلى أرض العراق، وسيصل صوته إلى أسماع المسلمين وهو ينادي قائدهم من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا سارية الجبل". وسيكبرُ عمر كما قال من "عُمير إلى عمر إلى أمير المؤمنين" تحقيقاً وتصديقاً، وليس استيلاء على سلطة دنيوية، وإمارة خاسرة إن لم تساس بالعدل، واعتُبرت مرتعاً خصباً لبهائم السلطة ودوابها، كما كان يعلّم ولاته محذراً "إياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب، فلم يكن لها همٌّ إلا التسمُّنْ، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته" (كنز العمال ـ 14209/ ج5) فهذا هو الخليفة الذي ستسعد به رعيته، وتحقق النجاح، إن آزرته، لأنه سيحرسها من أعدائها ببصيرته، وسيوفها الخاضعة لأمره وعدله، لا لهواها، لأنه لابد من الحديد لمواجهة مكر شياطين الإنس.(1/238)
"بينما يخطب عمر يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا سارية الجبل ـ مرتين أو ثلاثاً، ثم أقبل على خطبته، فقال بعض الحاضرين: لقد جنَّ، إنه لمجنون. فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف، وكان يطمئن إليه، فقال: إنك لتجعل لهم على نفسك مقالاً، بينما أنت تخطب إذ أنت تصيح: يا سارية الجبل، أي شيء هذا؟. قال: والله إني ما ملكت ذلك. رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت: ياسارية الجبل. ليلحقوا بالجبل. فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه، أن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم. حتى إذا حضرت الجمعة سمعنا منادياً ينادي: يا سارية الجبل ـ مرتين، فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا إلى أن هزمهم الله وقتلهم. فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا هذا الرجل، فإنه مصنوع له" (كنز العمال ـ 35790/ ج12). لقد قتلت سيوف الشرك والهوى والعصبية كثيراً من المسلمين، وحاولت أن تقتل المسيح - عليه السلام - ، كما قتلت نبي الله يحيى من قبل. ولابد لمواجهة تحالف الإجرام والرذيلة والانحطاط من الجهاد. ملايين الجرائم ستقترف في عصرنا، كما اقترفت في كل العصور كما يروي الإنجيل "في ذكرى مولد هيرودس ـ الحاكم الروماني على فلسطين ـ، رقصت ابنة هيروديا في الوسط، فأعجبت هيرودس. لذلك وعد بقسم أن يعطيها مهما سألت. فقالت له، وقد تلقنت من أمها، "أعطني ههنا، في صفحة، رأس يوحنا المعمدان". فحزن الملك. ولكن من أجل اليمين والمتكئين معه، أمر بأن تعطاه؛ وأنفذ فقطع رأس يوحنا في السجن. وأتى بالرأس في صفحة، ودفع إلى الفتاة فحملته إلى أمها" (إنجيل القديس متى ـ 5/6 ـ 11). من أجل يمين فاجرة؟ أم من أجل جسد عاهر يتغذى بالعهر، قُطِعَ رأس النبي، وقدم إلى صالومي في صحن كهدية لكي تنقله إلى أمها "هيروديا"؟.(1/239)
بمثل هذه الوحشية سيتغذى العهر دائماً من دم الأنبياء والأبرياء والضعفاء، فهؤلاء لا يخافون الله، ولكنهم يخافون القوة التي تتصدى لهم وتقاتلهم. لقد كانت هيروديا قد هددت النبي يحيى بالقتل لأنه حرَّم زواجها من هيرودس لأنها كانت زوجةً لأخيه، لكن هيرودس تزوجها، وهاهما يثبتان أن مصالح الانحطاط الإنساني أغلى من دم الصديقين. وهكذا فغايات الانحطاط تسير على وقع أدواته. وسوف يصلب المسيح بعد ذلك حسب روايات الأناجيل، وكما شبه لهم، بين لصّين "وكانت الساعة الثالثة لما صلبوه. وكانت علة الحكم عليه مكتوبة هكذا "ملك اليهود". وصلبوا معه لصّين، الواحد على يمينه، والآخر على يساره" (إنجيل القديس مرقس ـ 15/25 ـ 27). هذا هو تضليل الانحطاط وسياساته. لقد أرادوا أن يخلطوا القضايا، وأن يربطوا بين قتل الأنبياء واللصوص في أذهان الناس، وأن يزيفوا المعنى في قرارات محاكمهم، بالجمع بين المشروع وغير المشروع، والنزول بالمقدس إلى مستوى اللصوصية. ولهذا لابد من مقاومة الشر دائماً، ولابد من الجهاد، لتحرير الإنسان وإطلاق حريته، وإتاحة الفرصة أمامه لكي يختار مصيره. وكما أن دول الأشرار وعصاباتهم تعتمد على القوة لتسلب الناس حرياتهم، فإنه لابد لدول الأخيار من القوة لحماية حرية الناس وتطبيق شريعة العدل بينهم. وهذا ما يضعنا أمام مسألة الجهاد التي ستظل جزءاً من طبيعة الرسالة النبوية التي لا يمكن أن تنفصل عنها، وإن اتخذ هذا الجهاد أشكالاً متنوعة، تبدأ من الجهاد مع النفس ومن أجلها، وصولاً إلى الجهاد من أجل الإنسانية كلها، انطلاقاً من الإيمان بالأخوة الإنسانية، التي يجب أن تتجسد في إلغاء العبودية، السياسية، والاقتصادية، وفي تحويل كل الأسلحة إلى أدوات للإنتاج من أجل الإنسانية.(1/240)
الفتوحات العمرية والحروب كانت تجسيداً للرسالة، كما كانت دفاعاً عن النفس، في غابة الإمبراطوريات القائمة التي كانت تحلل كل ما يلائم مصالحها دون أي رادع خلقي. وهذا الإخلاص لمعنى الرسالة هو الذي دفع الخليفة لإرسال الجيوش، ومواجهة الإمبراطوريات، وهو الذي سيمدّ بصيرته بالأنوار الحارسة لجيوش المسلمين؛ فقد كان حريصاً على حقن الدماء بقدر حرصه على تحرير الناس من عبادة الأباطرة والقياصرة. وسيتجلى حبه للإنسانية وحرصه عليها في موقفين. الموقف الأول يوم سيرفض راعي القدس فتح المدينة أمام جيوش المسلمين إلا بحضور الخليفة لكي يعقد معه الصلح. وكانت هذه الجيوش المحيطة بالقدس بقيادة أبي عبيدة الجراح قادرة على اجتياح المدينة خلال ساعات بعد هزيمة الجيوش الرومانية، ولكن الخليفة رضي أن يتجشم عناء الرحلة ومشقاتها بين المدينة والقدس على جمل كان يتبادل الركوب عليه مع خادمه، حقناً لدماء مسيحية، وترفعاً عن كسب غنائم كانت تبيحها شريعة الحرب في البلاد المفتوحة بالقوة، ولا تبيحها شريعة الصلح. فقد اتسع قلبه لرحمة العباد بعد أن كانت الجاهلية قد أباحت دم الأعداء وأموالهم وأعراضهم، كما هو حال كل جاهلية. فقد تعلم عمر من الإسلام، ومن مراقبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومن صلح الحديبية، بأن حقن الدماء هو القاعدة العامة التي يجب السعي إليها، وإن الحرب هي حالة استثنائية يجب أن يكون هدفها أيضاً إقامة السلام والوصول إليه، لكي تتاح الحرية للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وهكذا رسم الإسلام سياسة التعايش مع كل الأديان، وجعل الفضيلة مقياساً للسباق بينها، بدلاً من سياسة العدوان والاستيلاء، ولهذا عندما حان وقت الصلاة، وعمر في ضيافة بطرك الكنيسة الذي عقد معه الصلح، قام ليصلي خارج الكنيسة، والراهب يدعوه للصلاة فيها.(1/241)
ولكنه خشي أن يجرح مشاعر المسيحيين، وخاف أن تكون صلاته سبباً لاستيلاء المسلمين على الكنيسة في المستقبل، فقال لراعي الكنيسة معتذراً ـ أخشى أن يأتي المسلمون وأن يقولوا هنا صلى عمر ويقيموا مسجداً ـ لقد شاهد في رؤية للتاريخ وللمستقبل ما قد تؤدي إليه صلاته في الكنيسة من تنازع، فأراد أن يدشّن قواعد السلام على أسس راسخة من التسامح، وصيانة حقوق الآخرين وأملاكهم وأماكن عبادتهم.(1/242)
وكان في كل خطوة من خطواته يريد أن يفتح قلوب العباد لهذا الدين الذي ملأت أنواره قلبه بحب الإنسانية، وحب هدايتها، فجعلته يترفع عن صغائر الأمور، وعن نشر الكراهية أو الرغبة في تحطيم الرموز التي تسعى لنشر المعتقدات المخالفة لعقيدته، وكان بهذه الأخلاق يرسم الطريق للأمة، ويكشف لهم كلما أقبلت الدنيا عليه عن معدن الرسالة وكنوزها وأنوارها التي جعلها الله رحمة للعالم، لا مكان فيها لتشفي المنتصرين وإذلال المهزومين. فلتدق نواقيس الكنائس في كل مكان وصل إليه الإسلام ما شاءت، ولينادي المنادون رب النور والظلام، ففي الأرض متسع لإقامة معبد لكل عابد، وهيكل لدعوة كل حزب. وفي هذا التحرير والحرية رجح ميزان عمر واتسع عدله لكل المعتقدات والأديان، ورجح ميزانه على الأمة. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [أتيت بكفة ميزان فوضعت فيها وجيء بأمتي فوضعت في الكفة الأخرى فرجحت بأمتي ثم رفعت. فجيء بأبي بكر فوضع في كفة الميزان فرجح بأمتي، ثم رفع أبو بكر، وجيء بعمر بن الخطاب فوضع في كفة الميزان فرجح بأمتي، ثم رفع الميزان إلى السماء وأنا أنظر] (كنز العمال ـ 32688/ ج11). لقد استضاء عمر بنور النبوة حتى وصل بها إلى شهود الواجبات التي يفرضها عليه موقعه ومسؤوليته عما ولاه الله، فجاع لتشبع الرعية، وسافر ليحقن الدماء. وفي الموقف الثاني سيعبر عن فهمه للخلافة كمنصب لخدمة الأمة، برفضه تولية ابنه عبد الله وتركها شورى بين المسلمين كما اقترح عليه المغيرة بن شعبة قائلاً: "لا أرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد" (العبقريات الإسلامية ـ 480)، وقال لابنه "لو ولّوها الأَجلح (أي المنحسر الشعر) لسلك بهم الطريق. فسأله ابنه: فما يمنعك يا أمير المؤمنين أن تقدم علياً؟. قال: أكره أن أحملها حياً وميتاً" (العبقريات الإسلامية ـ 480).(1/243)
فهي مسؤولية، وقد حملها لأنها كانت "بحاجة إليه" كما قال له أبو بكر. أما الآن وقد تأسست دولة الإسلام واستقرت فلا حاجة لآل الخطاب بها. فقد "أخذها عمر فاستحالت بيده غرباً ـ أي عظيمة ـ فلم أر عبقرياً من الناس يَفري فريه حتى ضرب الناس بَعَطنٍ" (كنز العمال ـ 32691/ ج11). سيرويهم عدل عمر وحكمته ويتسع لهم جميعاً كما تنبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وسيضيء نور النبوة قلب كل من استضاء به، وبذلك سيخرج من ضيق الجاهلية وعصبيتها إلى الرحمة بالإنسانية. وهذه هي حكمة الارتقاء بالشريعة التي كانت حياة عمر رضي الله عنه مثالاً حيّاً على التقدم فيها من الشهود بالبصر إلى الشهود بالبصيرة.
لقد حقق عمر رضي الله عنه ما أراد وتمنى بأمرين، أولهما: الصدق والإخلاص بكل ما آمن به، وهذا حاله في الجاهلية والإسلام. وثانيهما: السعي إلى العلم بتطبيق شريعة { اقرأ } التي افتتح بها الله باب الرسالة الكاملة، التي ستكون فيها المعرفة باب الوصول إلى نور النبوة، ومعرفة الله. وبهذا النور الذي أضاء في قلبه رجح على الأمة، ورجحت به الأمة، وكانت أعماله هدية للعالم لا لنفسه، فاحتمى بنور عدله خصومه كما احتمى أقرب الناس إليه. ولكن حين أوكل الإسلام إلى من يجهله ضاع المسلمون وضاع الإسلام، ولم يعد عدل الجاهلين يتسع لا للبعيد ولا للقريب، وضاق به حتى أقرب الناس للحاكم.
التجربة الروحية للغزالي(1/244)
إن تجربة الإمام الغزالي المعرفية هي من أهم التجارب الموثقة التي يمكن أن تكون نموذجاً لكل باحث عن الحقيقة الإنسانية بكل أبعادها الوجودية. فالغزالي يضعنا أمام المشكلة الإنسانية كهدف ومصير، من خلال معاناته ورحلاته المعرفية، ويرسم لنا الطريق لاستخلاص الجواب بأنفسنا. فالمعرفة معاناة، وتجربة، ونتائج علينا أن نعيشها لكي نعرف. إذا كنا لا نصدق الآخر، أو إذا كنا نريد أن نعرف ما عرفه الآخر فعلينا أن نقبل التجربة. الإمام الغزالي كان مثل الفاتحين العظام في مجال المعرفة. ارتاد كل الحقول المعرفية في زمنه، وقرأ كل الأديان والفلسفات، وظهر كشمس في سماء الشرق، عندما كانت بغداد عاصمة الدنيا، ومركز العلوم. ولكن مشكلة الغزالي ستأخذ أبعادها في صدقه مع نفسه، إذ ليس المهم بالنسبة إليه أن يكون شمساً لغيره، وإنما أن يكون أيضاً شمساً لنفسه. فهو بالنسبة لنفسه لا يعرف، ومعرفته لا تفي بغرضه، وإن كانت تفي بأغراض الآخرين. وسوف تكون أسئلة الغزالي الملحة بمثابة الصدمة له، بعد أن عرف أساليب كل الفلسفات ومنطقها وبراهينها ونقاط ضعفها. وكان يستطيع كأستاذ بارع أن يأتي بالبراهين العقلية لدعم أي فكرة، وأن يأتي بما ينقضها على طريقة السفسطائيين. ومثل هذا الشعور سيواجه أي مفكر عايش ثقافات عصره واستوعبها. ولذلك فعليه أن يختار إما الكفاح من أجل بناء جمهورية للنمل صالحة، تكون مهمتها إطعام مواطنيها وتامين حياتهم، بتحديد دور مناسب لكل مواطن. أو التوغل عميقاً في مغزى الوجود الإنساني، والتخلي عن جمهوريات النمل لمن يحسنون الانصياع لسلطة الاقتصاد والثروة. سوف يسقط الإنسان الصادق في نظر نفسه عندما يدرك أبعاد لعبة الأفكار، وإن كان صادقاً ومجتهداً ومجدّاً في البداية، لأن الأسئلة الكبرى عن المصير الإنساني ستصدّع كل السدود التي بنتها الأجيال حول نفسها لقبول السلام مع الحياة والتعايش معها كما هي في حلوها ومرها.(1/245)
لقد تصدّعت شمس الغزالي الساطعة في أنحاء العالم الإسلامي بمواجهته لأسئلة نفسه التي كانت بحاجة لشمس أكبر من شمسه، فقد رأى في سماء نفسه ظلمة لا تضاء بأي نور من أنوار علومه، حين تأكد له أن العقل يخطئ في أحكامه، والحواس تخطئ في تقديراتها.
فالعين "تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار الدينار، ثم الأدلة الهندسية تدلّ على أنه أكبر من الأرض في المقدار" (1).(1/246)
فأين هي الحقيقة، وبأي وسيلة سنتوصل إلى اليقين إذا كان هذا هو حال العقل مع الحواس. أسئلة ستأخذ من الغزالي وقتاً، وستمنعه من القدرة على الكلام، ومن إلقاء الدروس التي كان يلقيها حتى الأمس بسهولة على تلاميذه، ليس لأنه لا يستطيع، ولكن لأنه إذا كان لا يعرف الحقيقة فكيف سيعلّمها للآخرين. أيكذب عليهم وهو يردد العلوم التي حفظها والتي لم يعد يطمئن إليها، أم يصمت حتى يجد الجواب الشافي على أسئلته؟. لقد "أعضل هذا الداء" داء الحيرة كما قال الغزالي "ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال" (2). فقد كان يبحث عن العلم اليقيني الذي كما يصفه "فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه؛ فأما الشك فيما علمته فلا" (3). إن الغزالي سينظر إلى أنواع العلوم في زمنه وسيقسمها إلى أقسام بالقياس إلى وظيفتها وفائدتها وصحتها في توضيح الحقائق. وسيجد أمامه علم "المتكلمين، والباطنية، والفلاسفة، والصوفية"، وإذا كان العلماء قد توزعوا بين هذه الفرق فإن الحق لا يعدو أن يكون عند إحداها. وسوف يبدأ الغزالي بدراسة علم الكلام وسوف يراه كما قال "صادفته علماً وافياً بمقصوده، غير وافٍ بمقصودي؛ وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة... فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً.(1/247)
نعم، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة، تشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذبّ عن السنّة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها؛ ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق، ولا أستبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة. ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات. والغرض الآن حكاية حالي، لا الإنكار على من استشفى به، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضرُّ به آخر" (4). إذاً لم يجد الغزالي بغيته في علم الكلام. ولهذا سيبحث في علوم الباطنية عن الدواء، الذين يحيلون معرفة الحقائق إلى الإمام المعصوم، ولكن بما أن الإمام المعصوم قد تلقى علمه من علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو غائب، ولا يوجد ما يشير إلى كتاب أو دليل يعصم الأئمة من بعده، بينما القرآن حاضر بين أيدينا، وقد قال الله تعالى عنه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } (المائدة /3),. "وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا تضر غيبته. فبقي قولهم: كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه، أم بالاجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟. فنقول: نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، إذ كان يحكم بالنص عند وجود النص وبالاجتهاد عند عدمه" (5). وهذا هو تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ الذي وافقه عليه حين قال له، إن لم أجد نصاً في القرآن اجتهد برأيي. ولم يشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بالعصمة ولا لغيره. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أحكامه، وهو المعصوم [أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. أي: أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود وربما أخطئ فيه.(1/248)
ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات فكيف نطمع في ذلك] (6). المقصود الخطأ الناجم عن تزوير الشهود، أو حجة الخصم الأكثر إقناعاً، أمام الألحن، ضعيف الحجة، وبما لم ينزل في بيانه وحي. إذن لا توجد فائدة من الإمام المعصوم وهو غائب، بينما توجد الفائدة في اتباع شريعة النبي الحاضرة والكاملة وإن غاب. ولهذا لم يجد الغزالي مطلوبه عندهم. وسيذهب للبحث عن مطلوبه عند الفلاسفة، وسيجد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام "الدهريون ـ وقد ـ زعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه لا بصانع... وهؤلاء هم الزنادقة.. الصنف الثاني: الطبيعيون: وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوانات، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بقادر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها... ـ إلا أنهم ـ ذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود، فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان حد(1/249)
الإيمان بالله واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته... الصنف الثالث: الإلهيون: وهم المتأخرون منهم، مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون... وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق، وحرر لهم العلوم... وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية... ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس... ينحصر في ثلاثة أقسام: 1 ـ قسم يجب التكفير به. 2 ـ وقسم يجب التبديع به ـ أي نسبته إلى البدع ـ وقسم لا يجب إنكاره أصلاً" (7). وسيستعرض الغزالي أنواع علومهم ليحكم على كل موضوع بما رآه. وهي كما صنفوها "رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية" أما الرياضية "ليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية" (8) وكذلك "المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العالم إما تصور، وسبيل معرفته الحد؛ وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا كل ما ينبغي أن ينكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات... إنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط" (9). "وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها... وأما السياسات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية والإيالة السلطانية... وأما الخُلقية: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها... وكيفية معالجتها" (10).(1/250)
وسيكون موقفه من علومهم كما سيبين، موقف الناقد الخبير، الذي سيؤيد ما رآه صحيحاً، وإن صدر عن فيلسوف يختلف معه في الرأي والاعتقاد، والرافض لما تأكد له عدم صحته، أو مما لا سند لديهم للحكم فيه ولا برهان عليه. والمؤجل للبت في القضايا التي تحتمل الصواب والخطأ مثل علوم الطبيعة أو الفلك أو الطب. وسيوجه اللوم إلى بعض المسلمين الذين رفضوا كل العلوم التي وردت في كتب الفلاسفة، لأنهم حكموا عليهم من جهلهم في الإلهيات بجهلهم في العلوم الأخرى مما أساء إلى الإسلام والمسلمين. وهي حالة يعاني المسلمون منها اليوم برفض بعضهم لكل ما صدر عن الغرب من أفكار وإن كانت صالحة لمجرد أنها غربية، مثل الصيغة الديمقراطية للشورى، مع أنها في أصل المشروع الإسلامي للحكم. وقد تجلى أول تطبيق عملي لها بامتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تعيين الخليفة من بعده بالنص. ونعتقد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ترك هذا التعيين إلا عن تعمد، ولثقته بحسن اختيار المسلمين، ولكي يترك أمامهم المجال مفتوحاً لمثل هذا الاختيار. فكان هذا الدرس وما نجم عنه من اختيار أبي بكر للخلافة أول درس تطبيقي للشورى، وهي شورى أهل الحل والعقد التي مازالت تعتمدها بعض الأنظمة السياسية في اختيار قيادة البلاد. وسوف يتكرر هذا الدرس على نطاق محدود بتعيين عمر بن الخطاب للمؤهلين للخلافة بعده. إذن سيرى الغزالي بأن أخطاء الفلاسفة في الإلهيات لا يجوز أن يمنع المسلمين من الاستفادة من علومهم الصحيحة، بل إنه سيؤكد بأن رفض كل علومهم سيضرُّ بالمسلمين والإسلام وهي كما يسميها "آفة...(1/251)
نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، لكن إعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام يُنصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية... والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث قال: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله) والعاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقاً قبله، سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً... وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي الغمر، فلا يعاف العسل، وإن وجده في محجمة الحجام، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل" (11). وهكذا سيدين الغزالي من لا يعرف الحق إلا من خلال الرجال الذين يحسن فيهم الظن، وينكره على غيرهم وإن أصابوا. فهذه آفة تناقض حاجة طالب العلم وتضرّ به. لهذا فإن الغزالي وبعد إطلاعه على فلسفاتهم سيرفض ما ورد عنهم في الإلهيات، وسيبحث عند أهل التصوف عن حاجته. ولكنه سيصل إلى النتائج التالية بعد تتبع أقوال هذه الفرق وأعمالهم بما فيهم بعض المتصوفة، وسيقول محزوناً لما رأى:(1/252)
"فإني تتبعت مدة آحاد الخلق، أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع، وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره، وقلت له: "ما لك تقصر فيها؟ فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا، فهذه حماقة! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن، فأنت كافر، فدبر نفسك في طلب الإيمان، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً، وهو سبب جرأتك ظاهراً، وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع!.
فقائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه، لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة! وهلم إلى أمثاله...
وقائل ثان يدعي علم التصوف، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقَّى عن الحاجة إلى العبادة.
وقائل ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة! وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف.
وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول: "الحق مشكل، والطريق إليه مُنسدّ، والاختلاف فيه كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول متعارضة، فلا ثقة برأي أهل الرأي، والداعي إلى التعليم متحكّم لا حجة له، فكيف أدع اليقين بالشك؟".
وقائل خامس يقول: "لست أفهم هذا تقليداً، ولكني قرأت علم الفلسفة، وأدركت حقيقة النبوة، وأن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة، وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات؛ فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف، وإنما أنا من الحكماء اتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغن فيها عن التقليد!؟" (12).(1/253)
وبما أنه لم يجد الجواب الشافي عند أغلب الخلق، فإنه توصل إلى النتيجة التي سيتوصل إليها كل حكيم، وهي أنه لابد له من مباشرة الأمر بنفسه، والإقبال على الطريق الذي رسمته الشريعة، وسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وسلك عليه في بدايات أمره، وتبعه في ذلك الصالحون من المسلمين. يقول الغزالي وهو يروي قصة حياته وبحثه عن العلم اليقيني "أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل؛ وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي... فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن إليه بالتعليم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفَرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا.
فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصّلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والعلم بل بالذوق والسلوك. وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر...
ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت"(13).(1/254)
والآن ستدق الساعة الحاسمة في حياة الغزالي، وستهز ضميره، وتزلزل أركان حياته، إذ ما الفائدة من عمل يطلب فيه صاحبه الجوائز من أهل الدنيا، مالاً أو وجاهة، فهل سيبقى له شيء يرجوه من الله، وقد نال ما سعى إليه مما عند الناس. لمن تعمل أنت؟ ـ وإنما الأعمال بالنيات ـ مسألة أقلقت الإمام الذي كان يحتل المنصب الأعلى من الدين، والذي اعتبره العالم الإسلامي في مقام الحجة، فكان موضع حفاوة العلماء واسترضاء الأمراء والخلفاء. فهل يستطيع أن يقول لهم، وهو الفقيه الذي لا يشق له غبار، ولم يغلبه معارض، إنني أريد أن أختلي بنفسي لكي أتعلم ما أنا بحاجة إليه... من سيصدقه، ومن سيتركه وشأنه وهو في أذهان من حوله قد ختم العلم، وأحاط بالحقائق؟. ولكن شجاعة الغزالي وصدقه مع نفسه ستنتصر بعد معاناة طويلة وتردد، لكي يقدم بعد ذلك ما قدمه لنا من كنوز المعرفة اليقينية التي ستكون ثمرة جهاده الطويل مع نفسه. لنستمع إلى الغزالي وهو يروي لنا الحالات العصيبة التي سيمر بها من هو في مثل موقعه، طلباً لما هو أسمى "فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الهوى حملة فتفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تتجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار.(1/255)
ثم يعود الشيطان ويقول هذه حال عارضة إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليك نفسك ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة؛ وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفين إليّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيع البتة، حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتراوح السر عن الهم الملم.
ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب، وأظهرت على عزمي في المقام بالشام؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض عما كنت فيه سبباً دينياً؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك مبلغهم من العلم.(1/256)
ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة؛ وأما من قرب من الولاة فكان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب عليّ وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون: هذا أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة العلم. ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفاً على المسلمين، فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه.
ثم دخلت الشام وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية، وكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها على نفسي.
ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت فيّ داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة، وزيارة رسول الله تعالى عليه السلام بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه؛ فسرت إلى الحجاز.
ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه؛ فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر.(1/257)
وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير فيّ وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو لي الحال في أوقات متفرقة؛ لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها. فدمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره لينتفع به: أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق؛ بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به" (الرسائل ـ 553).
سيجد الغزالي الجواب على أسئلته وحيرته بعد تصفية القلب من أطماع الدنيا، واللجوء إلى الله، في خلوة دامت أكثر من عشر سنوات. فهل جاءه الجواب بعد السنوات العشر، وهل يعقل أن يترك إنسان أولاده وأسرته ومنصبه ورزقه طيلة هذه السنين دون أي إشارة أو دليل على تحقيق ما يريد خلال هذه السنوات. سيقول الغزالي، لا، إذ لولا البشارة لما أمكن الصبر على مرارة العزلة، لو كانت حقاً مرارة، وهي في الحقيقة حلاوة وسعادة لا توصف، ولا يعرفها إلا الذائق لها. ولهذا سيقول:
"وكان ما كان ممّا لست أذكرُه ... فَظُنَّ خيراً ولا تسأَلْ عن الخبر"(1/258)
وسيحدثنا عن بعض مشاهداته قائلاً "من أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق" (14). ومن كان هذا حاله ومقامه، كيف سيعود إلى الخلق، وكيف سيتمكن من العيش معهم مع ضعف إيمانهم، ورداءة سلوكهم، وقلة الأتقياء بينهم، وكثرة المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون. والقلب قد صار صافياً يعكس ما يفكرون، ويكشف عما يخططون، وهو ينظر إليهم بنور الله فيفهم حركاتهم وسكناتهم ومعبودهم. فهل يستطيع من يسكن في الحدائق الغناء والقصور الظليلة أن يعود للإقامة بين عقارب الصحراء على قلة الطعام والماء. سيسقط أبو يزيد مغشياً عليه حين أمره الحق بالخروج إلى الناس، قائلاً: أخرج إليهم بصورتي وخاطبهم بلساني. سيسقط وهو يخطو الخطوة الأولى. وسيأمر الحق ملائكته ـ ردوا على حبيبي فإنه لا يطيق الابتعاد عني ـ هذا هو لسان حال كل من ذاق الأنس في حضرة الربوبية، وارتدى مع الحق لباس العبودية. ولكن أمر الحق إذا جاء بالخروج إلى الخلق لابد منه، فالعبد مطيع لمن أحب. وهو لشدة حبه عند طلب سيده، بل إن طلب السيد يسعده وإن سبب له العذاب، وهذا طور آخر من تجليات الحق { فاصدع بما تؤمر } ليكتمل برهان الحب. أنقذ عبادي، وأشفق عليهم، وأخرج إليهم بأنواري، فإنك عندي، فالحبيب لا يبتعد عن الحبيب، وإن كان قد قال ما قال أبو يزيد في كلامه الغريب. أما سمعت ما قاله حين تلا القارئ { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } (مريم/ 85)، كيف صرخ وضرب رأسه وقال "كيف يحشر إليه من هو عنده". فما خرج أبو يزيد عن الحضرة وما ابتعد عنها وإن مشى.(1/259)
والأمر سيأتي لإمام الزمان، والإمام سيعتذر "فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة، تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة؛ فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه لا بتحريك من خارج، فأَمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور لتدارك هذه الفتنة، وبلغ الإلزام حدّاً كاد ينتهي لو أصررت على الخلاف إلى حد الوحشة" (15). لقد انتهت مبررات العزلة بعد أن تحقق المطلوب واطمأن القلب "فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة... وصونها ـ أي النفس ـ عن أذى الخلق" (16). أيضنّ الحبيب بنفسه على مولاه، أو بعرق الجبين وتحمّل عدوان المبطلين؟ سيخرج الإمام إلى الخلق بأنوار الحق، بعد أن أفناه الحب، وعلم كما قال "إني لم أتحرك ولكنه حركني، وأني لم أعمل ولكنه استعملني" (17). أفلا يكون من كان هذا حاله، وعرف مقامه، أن يكون (عبداً شكوراً) كما كان سيد الرسل والأنبياء؟ لقد خرج الإمام، وراح يكتب رسائله المعطرة بعبق الروح إلى الخلق، فأدهش من كان يعرفه قبل السفر، فأحبه بعضهم، وأنكره بعضهم فقالوا تاه الإمام... ورحل من بغداد التي لا تتسع لخليفتين، فكان ما كان (فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر) وما بقي من الأخبار سيكشف عنه اللسان. ولكن إذا كان قد أحتاج الإمام إلى كل هذه السنوات للوصول وهو من العلماء الأجلاء، فكم سيحتاج غيره، وهل الطريق معبد لكل سالك، والكشف مضمون بمجرد الاعتزال. وهل يمكن تحقيق ما حققه الغزالي بتوجيه الروح إلى الحق، وإن كان الجسم بين الناس.. أم إنه لابد من الرحيل بالجسم والروح ليصح وصف الغرباء والثناء عليهم، بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "طوبى للغرباء"؟ ثم ما هي الثمار المعرفية الأساسية لهذه الخلوة؟
لقد بيّن الإمام الغزالي خلاصة تجربته الروحية في العديد من الكتب. وإن أهم النتائج التي نستخلصها مما ذكره الغزالي هي التالية:(1/260)
1 ـ إن "وراء العقل طوراً آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأموراً أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز" (18).
2 ـ إن النبوة هي انكشاف للبصيرة التي وراء طور العقل "فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات، والحواس معزولة عنها، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب، وأمور لا يدركها العقل" (19).
3 ـ إن النبوة، وهي من التنبؤ بالمستقبل، يمكن أن تفهم بقياسها على الرؤيا الصادقة. فإذا كان الإنسان الصالح يشاهد في نومه أموراً، ثم تحدث هذه الأمور؛ بينما لا يستطيع أن يتنبأ بوقوع أي حادث وهو في اليقظة مهما أطال التفكير والتركيز بعقله، فإن عليه أن يدرك بأن الذي أنبأه بوقوع ما وقع، هو قوة خارجة عن علمه وإرادته، تعلم بكل ما سيحدث، وهو الله. فالرؤيا هي مثال لحالة من النبوة "لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج فلا تفهمها أصلاً، فكيف تصدق بها؟ وإنما التصديق بعد الفهم؛ وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف" (20). فالرؤيا ضرب مثل، وهي تكريم وعناية للصالحين، لكي يذوقوا طعم النبوة وهم عن حواسهم وقواهم النائمة غافلون "وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير" (21). فالرؤيا الصادقة هي بدايات النبوة والدليل عليها.(1/261)
4 ـ سيتأكد للغزالي أن الإنسان مؤلف من قوتين هما البدن والقلب ولكل منهما وظيفته "إني لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين، وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها، مرة بالذوق، ومرة بالعلم البرهاني، ومرة بالقبول الإيماني: أن الإنسان خلق من بدن وقلب، وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة، وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيها هلاكه، وأن القلب كذلك له صحة وسلامة، ولا ينجو { إلا من أتى الله بقلب سليم } (الشعراء/ 89)" (22).
5 ـ إن الإلهام هو المرحلة الثانية الذي يتبع الرؤيا الصادقة، والذي تتلقاه الروح: "ضمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام ومن إشراق(1/262)
النفس الكلية يتولد الإلهام، فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء" (23). ولكي لا نضيع في المصطلحات، فإننا نقدم ما قصده الغزالي بالنفس والقلب أو الروح إذ قال "إنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفردي الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية، ويقبل جميع العلوم ولا يمل من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد. وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى، الكل يخدمونه ويمتثلون أمره، وللنفس الناطقة، أعني هذا الجوهر، عند كل قوم اسم خاص. فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة، والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الأمري، والمتصوفة تسميه القلب، والخلاف في الأسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه. فالقلب والروح عندنا، والمطمئنة كلها أسامي النفس الناطقة، والنفس الناطقة هي الجوهر الحي الفعال المدرك، وحيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر، والمتصوفة يسمون الروح الحيواني نفساً... والدلائل واضحة أن الروح الناطق ليس بجسم ولا عرض، بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد... وقال الله { قل الروح من أمر ربي } (الإسراء ـ 85). وقال { فنفخنا فيه من روحنا } (التحريم ـ 12). والله تعالى أجل من أن يضيف إلى نفسه جسماً أو عرضاً لخستهما وتغيرهما وسرعة زوالهما وفسادهما... وهذا الروح لا يموت بموت البدن لأن الله تعالى يدعوه إلى بابه فيقول { ارجعي إلى ربك } (الفجر ـ 28). وإنما هو يفارق ويعرض عن البدن، فمن إعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية والطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون، موت" (24).(1/263)
والخلاصة أن الإمام الغزالي سيتحقق مما كان قد علمه بالاتباع سماعاً، وآمن به لإيمانه بصدق الناقل والمنقول عنه، ولكنه الآن وبعد الخلوة سيعرفه يقيناً بشهوده لبعض ما أخبرَ به الأنبياء بإمداد الروح وشهادة الحواس وحكم العقل. وبذلك ستكتمل المعرفة بترقيها من السماع إلى عين اليقين... من الخبر إلى المشاهدة والمعايشة.
ولكن هل الخلوة أو العزلة والابتعاد عن الناس، وترك الأعمال، والتفرغ للعبادة، لابد منها للوصول إلى المعرفة الروحية؟.
طرق المعرفة الروحية(1/264)
إذا أردنا أن ندرس حياة من دونت سيرة حياتهم من الرسل والأنبياء والأولياء، فإننا سنلاحظ تشابهاً في الكثير من سمات حياتهم وسلوكهم، مع اختلاف في المنهج الذي أوصلهم إلى المعرفة الروحية. فالرسل ما عدا الرسول الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كان لهم مربون روحيون قبل بعثتهم. فموسى - عليه السلام - رباه النبي شعيب. والمسيح - عليه السلام - ربته أمه مريم العذراء التي شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكمال فقال عنها [كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران] (كنز العمال ـ 34408، ج12). وسيقوم كل رسول بعد بعثته بتربية تلاميذه. ومن هذا نستنتج حاجة كل راغب في سلوك طريق المعرفة الروحية إلى المربي، وإن كان بالإمكان أحياناً الاستغناء عن المربي في حال عجز السالك عن التعرف على المربي الصالح. فعند ذلك يمكن أن تكون كتب العارفين دليلاً ومرشداً، والأصل هو فهم الشريعة والسنة والالتزام بهما. ولكن أهمية المربي تكمن في أنه سيكون كالدليل لسالك في صحراء لا يعرف شيئاً عن طرقها وأسرارها، فهو سيأخذ بيد السالك ويدله على أقصر الطرق للوصول إلى هدفه. وإن الأدلاء يختلفون فمنهم المدعي، ومنهم الصادق الذي يظن أنه يعرف الطريق وهو يجهله، ومنهم العارف حقاً، وعلامته الصدق في كل ما يقول ويفعل، بحيث لا تختلف سريرته عن علانيته، والأصل التزامه بالشريعة، وفهمه لها. والأمر الثاني الذي نلاحظه أن التقليل من الاختلاط بالناس في مراحل تزكية النفس ضرورية، ولكن ليس إلى حد الانقطاع عنهم، وهجر الأهل والأسرة لفترة طويلة.(1/265)
وقد وجدنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وكان قد مارس العبادة قبل البعثة في غار حراء، ولكنه لم يأمر الصحابة باعتزال الناس، ولم يعرف عن الصحابة أنهم تفرغوا للعبادة كلياً، وكان بعضهم يعتكف في أواخر رمضان، ولكنهم لم ينقطعوا عن العبادة في نهار أو ليل. وفهموا أن العمل والكفاح لتأمين لقمة العيش عبادة، ووصفوا بأنهم رهبان في الليل، فرسان بالنهار. مما يجعلنا نستنتج أن العزلة الطويلة غير ضرورية إلا لمن وجد بأنه لابد له منها. فهذه نفوس وأرواح، وهناك تلاميذ ينجحون بتفوق وهم يعملون، وتلاميذ وفر لهم آباؤهم كل الظروف للنجاح ولا ينجحون. فالعبرة في صفاء النفوس وحماسها وصدقها، وليس في عزلة لا يخرج صاحبها عن التفكير في دنيا ملأت قبله وسيطرت عليه وهو يذكر الله باللسان، وربما كان بعض الذين يقيمون المشاريع الاقتصادية وقلوبهم متعلقة بالله، هم أكثر قرباً لله من ذاكرين متفرغين. فالعبرة ليست في التفرغ للعبادة، وإنما بما يحتويه القلب ويسعى إليه صاحبه. ولكن في زمننا ونظراً لتنوع الثقافات وانتشارها، لابد لمن يهيئ نفسه لمهمة المعرفة من التفرغ للاطلاع على الثقافات المنتشرة وفهمها، للحكم عليها بالموازين السليمة، اقتداء بالقرآن الذي رد على كل المعتقدات السائدة في زمنه، وأخبرنا عن المعتقدات البائدة وما حل بأهلها، وعرض كل الأمراض الفكرية والاقتصادية والجنسية التي انتشرت في كافة العصور، وبيّن موقفه منها وحكمه عليها، بعكس ما يفعله كثير من العلماء والمتصوفة الذين يعتقدون أن تلقين المسلم لواجباته الدينية فقط، وتجاهل الثقافات المحيطة به تكفي لحمايته من الانحراف. بل إن كثيراً من العلماء يعتبر تجاهل الثقافات المعاصرة وسيلة ناجحة لحماية الأجيال المسلمة. ولذلك فإن بعض العلماء لا يُسمع منهم غير كان، وكان.(1/266)
وهؤلاء دون أن يدرون يساهمون في موت الأمة وإفساد عقول الأجيال وانحرافها عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والضياع في عصر يحتاج فيه كل إنسان لفهم كل الثقافات للتحاور معها، والاستفادة مما فيها من الحكمة التي هي ضالة كل مؤمن، ولإيصال ما لدينا أيضاً للآخرين بالأسلوب الملائم لعصرنا دون تعصب أو تعال، على قاعدة { أُدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن } (النحل/ 125).(1/267)
وهي القاعدة العامة في الحوار مع كل الناس. بينما القاعدة الخاصة في جدال أهل الكتاب { ولا تجادلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسنُ إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزلَ إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون } (العنكبوت/ 46). ولكن هل نستطيع أن نحاور من نجادله إذا كنا لا نعرف السمات العامة لثقافته وعقيدته؟. ولذا يجب أن نعرف روح الآيات القرآنية والمناسبات التي تصلح للقياس عليها، وكذلك ما أفتى به الفقهاء، والمناسبات، لأن القرآن كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (حمّالُ أوجه) وما يصلح من تأويل لزمان لا يصلح لزمن آخر، وليس من المناسب أن نقول للمسلم الذي يُعتدى على ماله أو نفسه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) مع الذين اعتدوا عليه. وسوف ينقض الإمام الغزالي فتوى للإمام أحمد بن حنبل رغم اعترافنا بشدة ورعه وتقواه، وذلك بسبب تغير الزمان والظروف. فقال الغزالي "لقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: ـ الرد على البدعة فرض ـ فقال أحمد: ـ نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر إلى الجواب، ولا يفهم كنهه؟ ـ وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر، فأما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية" (1). وسوف يغير عمر بن الخطاب نظام التوزيع في بيت مال المسلمين عن زمن أبي بكر رغم قوله: "إن ليلة من ليالي أبي بكر تساوي عمر وآل عمر". إننا نعرف بأنه لا خلاف بين العلماء على حق الاجتهاد وضرورته، ولكن العبرة في اختيار الاجتهاد المناسب لكل زمن وكل حالة. وفي مجال المعرفة هناك من تضرّ به الخلوات الطويلة كما تضر بآخرين يعيلهم.(1/268)
وهناك من ينفعه الحوار والقراءة، وهناك من ينفعه الذكر، ولذلك فإن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلق، كما قيل. والحكيم من يحسن الاختيار والدلالة على الطرق المناسبة لكل إنسان. ولو أننا استعرضنا حياة جميع الصالحين، فإننا سنجد رغم تنوع مناهجهم وأساليب عبادتهم سمة واحدة تميزوا بها، وهي حماسهم الشديد لمعرفة الله، حتى إن الحماس سيبدو كما ولو أنه تحول إلى عشق جارف، وهوى عاصف، ستدل عليه أقوالهم وأشعارهم. ومنهم من سيعبر عن هواه بميزان، ومنهم من سينكسر معه الميزان إلى درجة الاتهام. ولكن العاشق قد يسكر بهواه، ويفنى بليلاه، وإن كان السكر والفناء لا حقيقة لهما، وإنما هي أحوال، تدل على شدة الهوى، لا صحة المقال. وهل يصح للفاني الظهور، فكيف لمن يزعم أنه فني في الرب؟. والرب يُعرف ولا يشهد بالحواس، وإنما هي تجليات النور القادمة من بحر الإمداد، والتي اختلف في وصفها العارفون، فقالوا اتحاد، وقالوا حلول، وقال سلطان العارفين الشيخ محيي الدين بن عربي، لا اتحاد، ولا حلول لأن "من قال بالحلول فقوله معلول" لأن "من كان علة لم يفارق معلوله كما لا يفارق الدليل مدلوله" (2). و"من وصل فقد شهد على نفسه أنه فصل" (3).(1/269)
فالعلة تكمن في عودة المسافر قبل الوصول بسبب ظنه أنه حقق الوصول. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم] (كنز العمال ـ 28687/ ج10). وقال عن اعتراض سيدنا موسى - عليه السلام - على الخضر عند خرق السفينة وقتل الغلام، وبناء الجدار دون أجر "رحمة الله علينا وعلى موسى! لو صبر لرأى من صاحبه العجب، ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً" (كنز العمال ـ 32379/ ج11). فكان لابد من الفراق لأن الوعد وقع، والشاهد اختلف، ورأت كل عين حقاً وباطلاً في نفس الأمر بالقياس إلى الحكم، فهو حلال بحكم الروح، وحرام في حكم العقل، وكل حكم صحيح بالقياس إلى مصدر الحكم. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى] (كنز العمال ـ 7038/ ج3). فالعاقل من يستدل على كلّ علم بأهله، بل بخواص أهله. وهذه أمثلة، فإذا كان موسى - عليه السلام - يبحث عن أهل العلم ليتعلم منهم فماذا نقول لمن لا يعلم، ولا يريد أن يتعلم، ويبحث مع ذلك عن جاهل ليعلمه، وهو بعقله مفتون. أو من مدرسة (أبو اعرفوني) كما قال علي بن أبي طالب الحكيم في وصفه لمن وجده يعلم الناس وهو لا يعلم. فقد مر علي - رضي الله عنه - على أبي يحيى كما قال "مر بي علي وأنا أقصُّ. فقال: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ قلت لا. قال: أنت أبو اعرفوني" (كنز العمال ـ 29450/ ج10). وكم سيسقط من الضحايا بسبب الكلام، وبسبب الاستعجال. لقد غاب الغزالي لأنه طلب الإخلاص، فعاد بالكنوز من قلبه الذي امتلأ بالإيمان، بعد أن كان يخوض في وديان علم الكلام ليثبت باللسان أنه الأعلم.(1/270)
واللائق بأهل العلم، هو تذليل وقتهم وأنفسهم لمعرفة الحق، والصمت حين لا يتبين لهم الحق، لأن الله ما طلب من أحد الشهادة فيما لا يعلم، كما حرّم في كل شريعة الكذب وشهادة الزور. والحكيم يقول ما قاله ملوك اللسان، وإن كان المنافقون سيزينون لهم كل ما يقولون. فقد "تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات كأنما رميت عن قوس واحدة. قال كسرى: أنا على رد ما لم أقل أقوى مني على رد ما قلت. وقال ملك الهند: إذا تكلمت بكلمة ملكتني وإن كنت أملكها. وقال قيصر ملك الروم: لا أندم على ما لم أقل وقد ندمت على ما قلت. وقال ملك الصين: عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول". (4). لقد عاد الغزالي بعد صمته إخلاصاً للحق وللخلق ليقول لنا ما لم يقدر على قوله قبل خلوته، فأصبحت كتبه حياة لأجيال من طلبة الحق، فعاش ومازال في أرواح كثيرة، فلم يمت، ومات كثيرون من أدعياء العلم وهم أحياء لأنهم آثروا الجاه والوصول، فماتوا في قلوب الناس قبل أن يدفنوا في القبور. ولهذا أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين، فقال لهم [موتوا قبل أن تموتوا] لأن الموت في الحق حياة ولأن [الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا]. وهذا ما أعطاه الغزالي رضي الله عنه للعلماء والجهلاء، حين آثر موت الجاه على موت العلم، فعاد بالعلم والجاه، والحياة. ولكن مع ذلك لنا سؤال لابد من الوقوف عنده، وهو: هل أنصف الغزالي الفلاسفة إذا حكم عليهم بمقياس واحد. ونسب إليهم اتهامات، لأنهم كما قال، خالفوا فيها المسلمين في ثلاث مسائل وهي "إن الأجساد لا تحشر، وإنما المُثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة,. وقولهم، إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. وقولهم بقدم العالم وأزليته" (5). فهل يصح أن يشمل مثل هذا الحكم جميع الفلاسفة، ومن سيأتي منهم وإن كان غير مخالف للشريعة؟. وهل الاتهام أو التكفير يصح أن يطلق على علم معين وعلى من يعملون به وإن لم يخالفوا الشريعة؟.(1/271)
إن فهمنا للغزالي يجعلنا نقول إنه لم يقصد إلى تعميم حكمه على الفلسفة والفلاسفة كما بيّن وبيّناً، وإنما على فلسفة زمانه، وما سبقها، بسبب ما وصله من معلومات ليست صحيحة كلها. وإن إشاراته إلى ما وصله من معلومات عن فلسفة أرسطو تدل على نقص معلوماته عنه حتى بعد تأليف كتابه (تهافت الفلاسفة). فهو يقول "ولقد قرب أرسطوطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله الفارابي وابن سينا" (6). وهذا القول يدل على ضعف معلوماته التي اعتمد فيها على ما نقله الفارابي وابن سينا، عن أرسطو، مع أن أرسطو أبعد في مذهبه عن المسلمين والأقرب أفلاطون من حيث العقيدة. ولكن الغزالي مع ذلك معذور لأنه حكم على ما نقل إليه، ولم يحكم على ما كتبه هؤلاء مما لم يترجم في زمنه. فحكم على ظاهر أقوالهم دون أن يتعمق في دراسة مصطلحاتهم. ولهذا فإننا لا نرى، وإن كان ليس هذا موضوع بحثنا، بأن الغزالي قد أدان كل الفلسفة وكل فيلسوف ولكنه أدان المخطئ لا المصيب، وأدان الخطأ وقبلَ الصواب. وهو المطالب بالحكم على الرجال بالحق. ولهذا لا يجوز أن نفهم من كلامه بأنه ضد الفلسفة، أو بأنه يتهم كل فيلسوف بالانحراف عن الحق، وإن كان هذا هو الغالب في زمانه كما في زماننا. فالغزالي بحكم علمه ومنطقه وعدله أبعد عن مثل هذا التعميم الذي استغله من لم يفهموا الغزالي لإعلان حربهم على الفلاسفة في زمن ابن رشد وبعده، مع أن الإسلام سيكون بحاجة إلى الفلسفة لتأييد موقفه ودعمه بالمنطق الملائم لزمن الفلسفات. وهذا ما سيقوم به الفلاسفة المسلمون كما سنرى منذ البدايات.
التقدّم والتأخر في علم الروح(1/272)
لقد استعرضنا في بحثنا تجربة ثلاثة رجال، حاول كلُّ واحد منهم أن يستكشف عوالم المعرفة، وكان له في كلّ مرحلة عثرات تشهد عليه، وتقدّم يشهد له كلما اقترب من عالم الروح. فكان ما يشهد على عثرات عمر، وبالقياس عليه الصحابة رضي الله عنهم، جِدالهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ما يشهد على تقدّمهم استسلامهم بين يديه، وتسليمهم لما أمر به. وهذا التسليم المطلق لا يمكن أن يحدث إلاَّ عن معرفة بالمسلِّم لمن سلَّم. ولهذا إذا أتيح للمخالف أو المجادل الإطّلاع على عالم الروح وشهود بعض حقائقه، لا بدَّ له من الندم على كلِّ جدال أو اعتراض أبداه في السرِّ أو العلن على معلمه الروحي إذا كان من أهل الكمال، لأنّه سيتحقق بأنّ اعتراضه لم يكن سببه إلاّ جهله بحقيقة المعلم، وحقيقة تصرّفه والآمر بما تصرف به، لمن لا يتصرف عن الهوى. ولكن هل كل معلّم روحي وصل إلى مقام ـ لا ينطق عن الهوى ـ إذا وصل إلى عالم الروح، وبرهن بالدليل عن وصوله، بالنبوءات والأخبار الصادقة قبل وقوعها؟. إنّ عالم الروح في الحقيقة هو نظير لعالم العقل، فكما أنّ العقل يعطينا في كلّ مرحلة من الاجتهاد والبحث علماً جديداً عن الوجود الظاهر، فكذلك عالم الروح، فإنّ الواصل إليه يرتقّي بشكل مستمر، وتزداد معرفته الروحيّة كلّما اجتهد وتخلّص من رعونات النفس، وزاد في عباداته وأعماله الصالحة. فهو سيظلّ في مزيد من الترقّي والمشاهدات التي لا تسمح له بالعودة إلى الأحوال السابقة بعد أن فاز بشهود الحقائق الإلهيّة التي لم يكن يعرفها من قبل، ولم يتصورّها، بل كان إلى إنكار قدرة الإنسان على شهود ما يُشهد بالروح أقرب منه إلى التصديق. ومع ذلك فإن قواطع الطريق تظلّ قائمة ولا يتخلّص منها الإنسان حتّى يُسْلم شيطانه الذي يجري في عروقه مجرى الدم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/273)
ولهذا فإنّ الامتحانات تتوالى على العبد المتنعّم بشهود العالم بروحه، كما تتوالى على الثري بماله. فالغني تقبل عليه الدنيا وتدعوه للتنعّم بملذّاتها. والروحاني المعرض عن الدنيا قد يغريه عالم الروح، وقدراته الخارقة بالتسلّط على العباد، واستغلال حُسن اعتقادهم فيه لتحقيق مآرب دنيويّة، وقد يظن أنّ الله كافأه بها على حسن عبادته وطاعته، فأباح له ما لم يبح للعباد، فيقضي عليه غروره، كما سيقتل المال مالكه إذا اندفع إلى الشهوات. ولهذا لابدّ من ضبط المعرفة الروحيّة بالضوابط الشرعية، لأنّها الطريق المستقيم الذي سلك عليه سيدّ الرسل وأصحابه الذين خصّهم بعلمه، وألزمهم بشرع ربّه، الذي ألزمه به. فجاء أمر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بقوله { فاستقم كما أُمرتَ ومَنْ تابَ معكِ ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير } (هود/ 112). وقد قال الألوسي في شرحه "وممّا يدلّ على شدّة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنّه قال: لمّا نزّلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم - : "شمّروا شمّروا" وما رؤي بعدها ضاحكاً. وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال: ما نزّلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آيةً أشدّ من هذه الآية ولا أشق. واستدلّ بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله - صلى الله عليه وسلم - [شيبتني هود] وأنت تعلم أنّ الأخبار متضافرة بضمّ سور أخرى إليها، إذ ورد عن ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي](1/274)
(1). فإذا كان هذا أمر الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين فكيف سنصدّق ونتبع من خرج عن الاستقامة، ولم يلتزم بطاعة الشريعة، وإن مشى على الماء أو طار في الهواء؟. لقد تبيّن لنا أنّ الإشكال الناجم عن المعرفة الروحية، بأنّ العالم بها قد يعتمد على خبرته في خرق المألوف للسيطرة على الجاهل بهذا العلم لتحقيق مصلحة خاصّة، وتضليل من حوله عن حقيقة الشريعة. وذلك بالحكم على خرق المألوف بأنّه كرامة، والاستنتاج بأنّ صاحب الكرامة عليم بالقرآن والشريعة. مع أنّه قد يكون من المفتونين الذين ضلّوا عن جهل بالأمر الإلهي. إذ إنّه في عالم الروح سيحدث الترقّي في المقامات، وكل مقام سيوصل المترقّي إلى علم من العلوم. وفي أحد هذه المقامات سيشهد العبد فناءه بالله، وبأنّه ليس له فعل من خير أو شر إلا بإرادة الله. وفي هذا الموقف سيكون الامتحان الأصعب الذي سيختار فيه العبد بين طاعة الشريعة أو مخالفتها اعتقاداً منه بأنّه ليس المخالف، فإذا فضّل العبد هواه على شريعة الله فقد ضلّ وصار مضلاً. وإذا ما سألته لماذا لا تلتزم بشرع الله سيقول من موقع العالم المتميّز الذي يظن في الآخرين الجهل، وهل للإنسان فعل ليفعل، أو عمل ليعمل. وسيأتي بالآيات والأحاديث التي تدعم موقفه، ناسياً جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة أم المؤمنين حين سألته عن سبب قيامه في الليل حتّى تتورّم قدماه بعد أن غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فقال لها: [أفلا أكون عبداً شكوراً].(1/275)
بعض المتصوّفة سيتعرّضون في مراحل ترقّيهم لمثل هذا الشهود، الشهود بأنّ المشيئة الإلهيّة هي الفاعلة في الكون، بمعنى أنّه لا مسؤوليّة على الإنسان فيما يفعل ولا عقاب، وكأنّ الله يبشّر العبد بالمغفرة، ومع الأسف فإنّ بعض المتصوّفة عند وقوع هذا التجلّي لهم يعفون أنفسهم من العمل والعبادة إلاّ تلك التي تقرّبهم من الناس، ويفعلون أفعالاً لا تفعلها الشياطين، بدلاً من حيائهم من الله، وزيادة الشكر له على ما بشّروا به إن كان ما شاهدوه صحيحاً، إذ ربّما كانت هذه المشاهدة من جملة امتحانات الله للعباد في العطاء. ولكن ما كل من يُعْطَى يشْكُر، فالبعض يغترّ بالعطاء فيضلّ ويكفر، لقلّة عقله وسوء أدبه مع المعطي، وهذا العمل من أسوأ الأعمال لأنّه يقابل العطاء بالضلال والإنكار. لقد مرّ الشيخ عبد القادر الجيلاني (470 ـ 561) بمثل هذا الحال بعد عبادة سنوات، وبعد أن خرقت له كثير من الأمور غير المألوفة، فظهر له هذا التجلّي كما حدّثنا عنه، ليحذّر المتصوّفة من الوقوع في تضليل الشيطان وحبائله باغترارهم بعباداتهم، وبما قد يظهر لهم ممّا يخالف الشريعة. فقال "تراءى لي نور عظيم ملأ الأفق ثمّ تدلّى فيه صورة تناديني: يا عبد القادر أنا ربّك، وقد حلّلت لك المحرّمات، فقلت إخسأ يا لَعْين. فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثمّ خاطبني يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بأمر ربّك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت لله الفضل. فقيل له: كيف علمتَ بأنّه الشيطان؟ قال: "بقوله حلّلت لك المحرّمات" (2). لهذا كان الشيخ عبد القادر يدعو المريدين لطريق المعرفة الروحيّة إلى التمسّك بالكتاب والسنّة والتزام طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قائلاً: "كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.(1/276)
طِرْ إلى الحق عزَّ وجل بجناحي الكتاب والسنّة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، اجعله وزيرك ومعلّمك. دَعْ يده تزيّنّك وتمشّطك وتعرضك عليه" (3). إننا نعرف ما حدث للحلاج، وإن كنّا نعتقد بأنّ ما وصلنا من شعره، أو ما زعم أنّه من نثره في كتاب "الطواسين"، لا يمثّل حقيقة الحلاج (1)
__________
(1) ولد الحلاج (أبو المغيث الحسين بن منصور بن محمي البيضاوي) في بلدة الطور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء التابعة لفارس بإيران، نحو سنة (244 هـ / 858م). وقد أعَدم بتهمة الزندقة سنة
(309هـ / 922م). وقد تنقل بين شيوخ التصوف، ومنهم الجنيد البغدادي، وعبد الله التستري.(1/277)
لأنّ الشعر في تجريده ومبالغاته الجماليّة لا يصلح للعلم والحكم والقياس الشرعي أو المنطقي، ومع ذلك فإنّ الولي غير معصوم. ودليلنا على عدم عصمة الحلاج أو غيره قول الشيخ عبد القادر الجيلاني: "عثر الحسين الحلاج فلم يكن في زمنه من يأخذ بيده، وأنا لكل من عثر مركوبه من أصحابي ومريدي ومحبي" (4). وقد قصد الشيخ أن الحلاج لو كان في زمنه لبيّن له بعلمه الصواب وجنبه خطأ الفهم أو الاعتقاد. وبذلك سيكون قد أخذ بيده. وهذه إشارة تدلّ على الصعوبات التي قد يتعرض لها الباحث في علم الروح إذا لم يتوفر له العالم الصالح القادر على الأخذ بيده. فإذا كان الشيطان قد ضلّل (سبعين من أهل الطريق) الذين وصلوا إلى شهود الأنوار، وتعثّر الحلاج لأنّه لم يؤخذ بيدّه، فكيف سنقبل إدّعاء من خالف الشريعة، أو أهمل العمل بها، أو فسّرها بما يخالف ما عرف من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأصحاب، مستنداً إلى معرفته الروحيّة، ومزاعمه التأويليّة دون سند صحيح. وربّما على طريقة من يؤمنون بما يوافق آراءهم من القرآن، وترك ما يخالفها كما سلك بعض الناس. وهم كما وصفهم الله محذّراً من اتباعهم { أَفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء منْ يفعلُ ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردونَ إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا يفعلون } (البقرة/ 85).(1/278)
إنّنا بالمقارنة بين تخبّط أصحاب العقول، وما احتوت عليه الشريعة الإسلاميّة على المستوى الأخلاقي والإنساني والاقتصادي من قوانين وأنظمة وتشريعات مناسبة للتكيّف مع كلّ عصر دون ابتعاد عن الجوهر، إضافة لما تكشف عنه العلوم المعاصرة من توافق بين الإشارات القرآنيّة والمكتشفات العلميّة، كل هذا يدلّنا على الفرق بين العلوم الروحيّة التي تتميّز بصحّتها ودقّتها، وبين العلوم العقليّة التي تصيب وتخطئ، كما تدلّنا على مصدر كل علم. وإنّنا لو استعرضنا ما قاله أفلاطون أو أرسطو عن الطبيعة، أو حركات الكواكب وعلم الفلك، سنلمس مقدار الجهل الذي أصابهما، كما أصاب جميع الفلاسفة وهم يحاولون فهم الكون بأدوات ومقاييس ذلك الزمان. بينما لا يوجد في القرآن أي أخطاء من هذا النوع، بل إنّ العلم أصبح مضطراً لإصلاح نظريّاته العلميّة على هدي علوم القرآن، مع أنّ الأدوات العلميّة والمعرفيّة لم تكن في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل من زمن فلاسفة اليونان. وهذا ما يدفعنا لإثارة السؤال، من أين أتت المعلومات الصحيحة والتي لا تناقض فيها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..؟ وهل هناك غير احتمال واحد، وهو من الإله الخالق الذي يعلم أسرار الكون وماضيه ومصيره. وبما أنّ هذا الاحتّمال قد أصبح ثابتاً، وهو التفسير الوحيد الممكن لمصدر المعلومات القرآنية وللأحاديث النبوية، فكيف يقبل العلماء ما جاء به الوحي مضطرّين في أمور بعيدة عن الأرض وعن الإنسان، ولا يقبلون الأخلاق والقيم الإسلامية لبناء الدولة الصالحة، وهي أخلاق يدعو إليها الوحي، ويستطيع كلّ عاقل أن يتأكد من صلاحها إذا ارتقى إلى مستوى إنسانيته، وعمل بما تمليه عليه واجباته الإنسانية نحو كلِّ البشر. فهل هناك من قوانين وتشريعات أفضل مما أمر به الوحي لبناء المجتمع الإنساني المتكامل.(1/279)
وهل مرّت في التاريخ الإنساني عهود أفضل من عهود الخلفاء الراشدين رغم أنّ الفتن لم تتح لهم أن يكمّلوا بناء المشروع الإسلامي..؟ أليس من واجبنا أن نبحث عن أسرار هذا الكمال القرآني في العلوم والتشريع والسياسة والاقتصاد والأخلاق خلافاً لكلّ الدساتير والقوانين البشريّة التي لم تلحظ في تشريعاتها غير القسم الظاهر للإنسان، أي سلوكه الخارجي. بينما أراد الوحي أن يوفِّق بين ظاهر الإنسان وباطنه، واهتمّ بأبسط التفاصيل لتحقيق السعادة الإنسانية لذلك جعلها جزءاً من العبادة، وصولاً إلى الأخلاق، وعلاقات الحاكم بالمحكوم، لسدِّ كلّ ثغرةَ، وتحديد كلِّ تصرّف صحيح: "عن سلمان أنه قال له بعض المشركين وهم يستهزئون: أرى صاحبكم علّمكم كلّ شيء حتى الخراءة..؟ فقال سلمان: أجل أمَرَنا أن لا نستقبل القبلة بغائط ولا بولٍ ولا أن نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عَظْمٌ" (كنز العمال ـ 27202/ ج9). وهذا عند عدم توفر الماء. من أين جاء هذا الكمال في كلّ مجال..؟ وهذا الانسجام والتوافق بين الآيات خلافاً لكلِّ الشرائع البشريّة..؟ سيجيبنا الله بحوار عقلاني، ودعوة إلى التأمل حتى لا نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، لأنّ هذه الشريعة لمصلحة الإنسان حيثما كان. سيقول لنا الله: { أفلا يَتَدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (النساء/ 82). لو كان القرآن من عند غير الله كنّا سنجد فيه كما وجدنا في كتب السابقين من أمثال أفلاطون وأرسطو واللاحقين كثيراً من الاختلاف والتناقض. ولكنه الوحي الذي تلقته الروح المحمديّة وهي في قمّة كمالها عندما وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قمة العبوديّة، فلم ينطق إلا بأمر الحقّ، وهو مستوى لم يبلغه أحد قبله، ولا يبلغه أحد بعده.(1/280)
ومن هنا كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقياساً للقياس عليها، وشريعته ميزاناً لضبط كلّ الشرائع وتحديد الصحيح فيها وغير الصحيح، مما حرّفته الأيدي عمّا جاء به الرسل. وكانت مقياساً لكلّ فضيلة، وباباً لكل وصول وسلوك. وكانت بمثابة نور الكهرباء للمدنية الحديثة بالقياس إلى نور السراج والشموع ومصباح الكاز. ولهذا لم يحرِّم الإسلام الاستنارة بما سبق من الأنوار، ولكنه دلّ على النور الأفضل لمن يريد أن يختار الأفضل، ولمن يعرف كيف يوازن ويقارن ويحكم. ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا، إمّا أن تصدقوا بباطل وتكذبوا بحقّ، وإلاّ لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلاّ أن يَتَّبعني] (كنز العمال ـ 1007/ ج1) والإتّباع المقصود هو في المسائل الدينيّة والتشريعية فيما حدده الإسلام وبيَّنه. ولهذا حينما سيعود المسيح - عليه السلام - إلى الأرض سيحكم بالشريعة الإسلامية كما بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنها رسالة الله الكاملة للإنسانية، وكل تشريع جاء قبلها أو بعدها سيشهد لها بالكمال عند المقارنة. وبهذه الشريعة الجامعة لمعاني عبوديّة الإنسان وكماله ستتحقق خلافة الإنسان في الأرض. ففي هذه الشريعة على الإنسان أن ينوب عن كلِّ العابدين وعن كل المخلوقات في عبادة الله لكي يحقق الإسراء إلى النور الحقَّاني بروحه، ويشهد صلاة ربه لخلقه، وصلاته معهم حيث: (سبقت رحمته غضبه) فقف أيّها الإنسان فإنّ ((ربَّك يُصلّي)).(1/281)
والخلَيفة يتوجه إلى الطبيعة التي خلق منها، ويقف بين يدي ربّه بالخدمة لعلو شأنه ولياقته، فيركع بين يديه نيابة عن المخلوقات التي تمشي على أربع، ويسجد نيابة عن المخلوقات التي تزحف على بطنها، وفي كل حركة يشهد كبرياء الله فيكبِّر، ثمَّ يسلّم على الأرواح الهائمة في عالم الجبروت بانتظام الولادة والهبوط إلى رحم الطبيعة، فيضمّ قلب المؤمن العالم ويتّسع لله: "ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن" (إحياء علوم الدين ـ 15/ج3) فينادي المؤمن كلما علا به المقام وأدرك معنى حبّ الله للإنسان، "أرِحنا بها يا بلال". فالسيد يخدم من أحب، والربّ يصلي على عباده بصلات الرحمة والمَنع والعطاء، فهو الرحمن بمداواته للبشر بالحلاوة والمرارة، والغضب والرضى، وهو في الغاية والجوهر الرحيم. ولهذا فإنّ السيد (يفرح بتوبة عبده) و(إذا جاءه ماشياً أتاه هرولة) ليقيمه في دار الضيافة والكرم، ويمسح عنه الغبار والمعاناة مما لقيه في السفر. فالعبادات رسوم ومعاني وسفر إلى الحق للإسفار عن الحجب المسدلة بين عالم الأجسام والأرواح. وهي حجب لن تفلح الفلسفات في إزالته، وإنما بكلمة واحدة: { قُلْ الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون } (الأنعام/ 91).
فقُلْ "الله" واملأ بها القلب المعذّب بأشواق اللقاء، حتى يسجد الجسد المبتلي بالذنوب، وتبحر الروح عبر أمواج الأثير إلى مشارق النور والعبير، حيث يفنى الشاهد بالمشهود، فتسمع وتبصر وتنطق وتمشي وتطير بالحق لا بنفسك، فتكون به ومنه وإليه، في عبودية السيادة والكبرياء، بما يتجلى في صور الخلفاء من الأسماء.
أساليب قديمة في المعرفة الروحية(1/282)
إن الذين حاولوا أن ينقبوا عن بداية العقائد الدينية في التاريخ البشري، تبين لهم أن كل شعب كانت له عقائده الدينية، وحتى لدى أقدم القبائل التي تم اكتشافها قبل أن تتصل بحضارتنا المعاصرة كانت العبادات تحتل مكاناً مرموقاً في عقائد هذه القبائل، وإن الطقوس الدينية هي جزء أصيل من حياة كل قبيلة، حيث تعلق عليها آمالها بحياة آمنة ومواسم خيرة، مما جعل العبادات جزءاً مكملاً للعمل لابد منه لضمان الخير الوفير. ولكن الشيء الأهم الذي سيكتشفه الباحثون، أن هذه القبائل كان لديها التوق للخروج من سلطة الجسد، لملاقاة الروح الكونية، وإن تعدد الاعتقادات حول طبيعة هذه الروح، أو الإله الخالق للعالم، هي أقدم بكثير مما قد يظن البعض. وإنه لابد أن تكون قد بدأت مع أول إنسان خلقه الله وأول نبي، وهو الذي سيبدأ بإيصال الرسالة إلى أولاده. ولكن لما كانت ذرية آدم تحتوي على الأخيار والأشرار، وبما أن آفة النسيان هي صفة عامة لكل البشر، فقد تجدد التذكير دائماً برسالة الله للإنسان عبر قلوب مشغوفة بتأمل الكون العظيم، والتوق لمعرفة الخالق العظيم. وظل تعليم المعرفة الروحية ينتقل تلقيناً من المعلمين إلى تلاميذهم عبر العصور إلى وقتنا الحاضر. مما يدل بأن المعرفة الروحية لم تنقطع طوال التاريخ البشري، وكذلك الأنبياء الذين قاموا بهذا التعليم ونشروه. وهو ما يؤكده القرآن بقوله { إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإنْ من أمة إلا خلا فيها نذيرٌ } (فاطر/ 24). إذاً البداية للتعليم الديني والروحي كانت مع آدم، وهذا ما تدل عليه التحقيقات التي قام بها الباحثون في ثقافة مختلف الشعوب وحضارتها أو بين القبائل البدائية، حيث تبين أن كل شعب له دينه الخاص ومعتقداته. وتبين أيضاً أن الشريعة الدينية كانت عامة لجميع الناس وكذلك ممارسة طقوسها، أما البحث عن الروح فكان للخاصة الذين ينذرون أنفسهم لهذه المهمة.(1/283)
وإن البحث الذي قام به "ميرسيا إيلياد" في كتابيه "ملامح من الأسطورة" و"التنسيب والولادات الصوفية" سيقدم لنا الدليل على التشابه بين كل محاولات الترقي الروحي في كل بقاع الأرض، مع فوارق طفيفة غالباً، مما يدل بأن أصل التعليم كان واحداً، وهم الأنبياء ومن تتلمذ على أيديهم. كما أننا سنواجه انحرافاً لدى بعض القبائل مثل نبذ المتدرب لأمه وشتمها كدليل على وصوله إلى طور الرجولة "وفي بعض المناطق من غينيا الجديدة، يدوس المريد فوق جسد أمه، ويحرص على وضع قدمه على بطنها. وبذلك يؤكد انفصاله، نهائياً، عنها" (1). وفي أماكن أخرى ستدخل الإباحية الجنسية في المعتقدات الدينية لبعض الجماعات المنحرفة، كما هو الشأن في عصرنا مع بعض الفئات الضالة من أتباع الرسالات السماوية رغم التحريم الصريح والواضح للزنا. ولكن الغاية العامة لكافة الطرق الروحية، إنما كانت تهدف إلى الكشف عن حقيقة الإنسان التي لا تظهر إلا بالروح. إذ "بالتنسيب يتجاوز الفتى نمط الحياة الطبيعية، ونمط حياة الطفولة، ويرقى إلى نمط ثقافي. أعني أنه يدخل إلى عالم القيم الروحية. وقد يصح القول إن التنسيب في نظر أبناء العالم البدائي، هو الذي يمنح البشر الشرط الإنساني" (2). ولكن ما هو الطريق الذي سيتبعه المريد لتحقيق شرطه الإنساني في القبائل البدائية. يقول ميرسيا إيلياد "إن العنصر الأساسي للتنسيب في أمريكا الشمالية يتمثل في الانسحاب وفي اعتزال الفتى في خلوة: اعتزال في جبل أو في غابة، من سن العاشرة وإلى السادسة عشرة. لكن هنالك شيء أكثر من انفصال الفتى عن أمه أثناء التنسيب ـ هنالك قطيعة بين المريد وبين سائر الناس. إن تجربة دينية يخوضها المريد تبدأ مع انغماسه في الحياة الكونية، ومع سلوكه سبيل الزهد والتقشف، لا يحكمها حضور المدربين ولا تعليمهم.(1/284)
ذلك أن دخول المريد في الحياة الدينية بشكل أقوى مما نراه في نماذج أخرى من تنسيب المراهقين إنما هو نتيجة لتجربة شخصية تبدو من خلال الأحلام والرؤى التي تستدعيها ممارسة التقشف أثناء الاعتزال. إن للمريد رياضات يتبعها ومجاهدات يكابدها. إنه يلتزم الصوم، لاسيما في الأيام الأربع الأولى من الاعتزال ـ والصوم عادة قديمة للغاية ـ ويسعى أيضاً إلى تنقية ذاته بعمليات تطهير متكررة، ويفرض على نفسه محظورات في الطعام. فضلاً عن خضوعه إلى العديد من التدريبات التقشفية مثل الاستحمام بالبخار أو بماء شديد البرودة، وتعريض جسمه للحروق أو التشطيب الخ. في الليل يغني المريد ويرقص. وعند الفجر يصلي من أجل أن يُقبل إليه الروح الحارس ويحلّ فيه. عقب تلك المجاهدات المتصلة يأتيه الوحي من لدن الروح.... تبقى العلامة الخاصة المميزة لكل العمليات التنسيبية في أمريكا الشمالية ماثلة في اعتقاد مفاده: أن المريد يقوى على امتلاك الروح الحارس بفعل التقشف والمجاهدة التي يحتملها في فترة الاعتزال. إن المريد الزاهد المتقشف يواصل إلغاء شخصيته الدنيوية، غير الدينية، بتعبير آخر، إنه يواجه في وحدته وانفراده، موتاً تنسيبياً... إن انعزال المريد في مكان مهجور موحش ليعادل اكتشافه لقداسة الكون وللحياة الحيوانية. فكأن الطبيعة بأسرها، تعري ذاتها أمام ناظريه، فيراها كما هي، تجلياً للقداسة" (3). أما مدة العزلة والمجاهدات لتحقيق الحضور الروحي فإنها تختلف من شعب إلى آخر "باختلاف تراث الشعوب وثقافاتها" كما يقول ميرسيا إيلياد "وهو ثلاث أيام في أستراليا وفي الهند، وعشرون شهراً في أرلندا الجديدة. وتبلغ عدة سنين في كومبودج" (4). كما يسمح للبنات بتأليف جماعات خاصة لأهداف تربوية "وفي هذه الحالة تحتفلن بالتنسيب، بصورة جمعية، تحت إشراف قريبات تقدم بهنّ العمر، كما في الهند، أو يجري برعاية نساء طاعنات في السن، كما في إفريقيا.(1/285)
هؤلاء المرشدات يقدمن إلى المريدات، معلومات عن أسرار الجنس وعن الخصوبة والولادة، وعن تقاليد وعادات القبيلة، وبطبيعة الحال، بإمكان الفتيات الاطلاع على جانب من التراث الديني، الجانب الذي يكون استيعابه ميسوراً لهن... بالتنسيب يتم إعداد الفتاة لأداء دور المرأة ولأن تحيا نمط وجودها الخاص. أعني إعدادها للإنجاب، لتصير بذات الوقت امرأة تضطلع بمسؤولياتها في المجتمع" (5). أما في بعض مناطق الهند فإن تقاليد التربية توجب "على المريد... أن يعيش في بيت مريده، وأن يلبس جلد ظبي أسود، وأن يقتات حصراً، بما يتسول من الزاد، ويكون عليه أن يتقيد تقيداً تاماً بنذر نذره للمحافظة على العفة" (6). والتسول إنما يهدف إلى تدريب المريد على التواضع، وإخضاع النفس. أما جلد الغزال فلتذكيره باعتماد الحيوانات في معيشتها على ما ييسره الله وليس على عملها. وهي أساليب كما نشاهد متنوعة لم يخل منها دين. وإن كان في بعضها ضلالات لا يمكن أن يقرها أي شرع ولا عقل. وإذا كنا سنكتفي بهذه الإشارات الموجزة للدلالة على استمرار الإنسان منذ وجوده على الأرض في السعي لتجاوز ذاته، واكتشاف أعمق مظاهر إنسانيته، وبأساليب متشابهة تقريباً، فإنه لابد لنا لتأكيد هذه الحقيقة من الاطلاع على التصوف الهندي، لاكتشاف الجوهر الروحي للإنسان الذي كان يتم البحث عنه في كل الحضارات والثقافات، والذي يقتضي منا إشاحة النظر عن القشور والأساليب التي يتم بها البحث عن الروح، لكي نرى الجوهر الذي كانت تسخّر كل قوى الإنسان للوصول إليه، لكي يظهر الإنسان الحقيقي بتلقين الروح، عن طريق ممارسة اليوغا.
"اليوغا" والمعرفة الروحية(1/286)
إننا سنواجه في مدارس اليوغا التنوع فهناك "الفيدانتا التي تشكل فيها المعرفة الجانب الرئيس، والغاية والمنهج. والبهاغافادغيتا في خير العالم والطيبة ونذر النفس. واليوغاسوترا التي وضعها باتانجالي، حيث تستخدم الإرادة للسيادة على العقل والجسد. وجميع مدارس اليوغا النموذجية هذه يفترض فيها أن تقود إلى الغاية ذاتها، لكن بدروب مختلفة" (1). والغاية دائماً هي الوصول إلى الروح. لماذا؟ اليوغي يقول لأن "كل ما في الجسد والحواس، وجميع حالات وأفعال العقل ليست إلا ظاهرات، ألاعيب مؤقتة" (2). والغاية هي الوصول إلى "النرفانا" أي، السلام مع الذات والعالم، التوافق. إن الحديث عن النيرفانا سيبدأ في "البهاغافادغيتا" أقدم الكتب الهندوسية المقدسة الذي سبق تعاليم بوذا بكثير. إن الاعتراض الأساسي الذي يمنع من الوصول إلى النيرفانا العجز عن تحقيق التكامل بين الجسد والعقل والروح. لأن الإنسان كالعالم يخضع لتجاذب ثلاثة قوى، التنوع، والتناغم، والاتحاد. "لدى مبدأ التنوع، نجد أن كل مواد الطبيعة تدافع بدرجة ما عن فرديتها... تماماً كما يفعل الكائن البشري... ثم يأتي العقل، ويطبق مبدأ التناغم في كل شؤونه البناءة... وعندما يضع العقل مخطط ساعة أو محرك سيارة فهو يطبق التناغم... يخدم العقل الذكي التناغم... بل يخدم أيضاً الاتحاد، الذي يهيء له التناغم بصورة غير مباشرة... ـ ولكن ـ المادة والعقل كلاهما، لأنهما يتصفان بالنشوء المتواكل... ليسا من طبيعة المتعالي" (3). لأن "المتعالي (بارا) هو ما يقع أبعد من الأمور الجسدية ووظائف العقل، لأن هذه لا تمتلك مميزات الاستقلال. كل ما في العالم يعتمد على الأشياء الأخرى بصور متعددة ـ الجسد يحتاج إلى الهواء والطعام... الخ...(1/287)
والعقل لا يقل في اتكاله على الجسد، إذ من أين للسمع، للمس، للنظر، للذوق، وللشم أن تكون مجردة من الموضوعات، من أين للتفكير أو الاستنتاج أن يتجردا من الموضوعات، ومن أين للمحبة أيضاً أن تكون بلا محبوب؟ لعل خير وسيلة لفهم المتعالي هي أن نتصور الجسد والعقل شريكين متعادلين جنباً إلى جنب (الأثير ـ الهواء ـ النار ـ الماء ـ التراب = الجسد) و(الإرادة ـ الشعور ـ التفكير = العقل).... الاثنان معاً يشكلان "دفق النشوء المتواكل" أو قانون السببية الذي شدد عليه بوذا" (4). علينا إذا أردنا تحقيق الاتحاد أن نبحث عما يخلق الصخب لإيقافه، سواء في الجسد أو العقل لأنهما آلات، للوصول إلى الطاقة الأولية الممدة لكل شيء. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بالانفصال عن هذه الآلات للوصول إلى الاستقلال، وبالتالي الاتصال بالذات العليا التي هي "من طبيعة الطاقة الأولية نفسها" (5). إن طريقة الوصول إلى هذا الهدف "يتضمن خمس قواعد للسلوك توصف بأنها 1 ـ عدم إلحاق الأذى. 2 ـ النظافة. 3 ـ الامتناع عن السرقة. 4 ـ الغوص في النفس. 5 ـ التيقظ لله" (6). ولكن هل يعني التقشف الجوع وتعذيب النفس. الحكمة الهندوسية تقول: لا، كما هو شأن الحكمة الإلهية "إن لجسدك عليك حقاً" حيث تتدفق رسائل الله في أنهار عظيمة كثيرة، مستمدة من نبع واحد، ونور واحد، لتصب في النهاية في البحر الذي خرجت منه، وتجتمع هناك، كما هي بالأصل رسالة الله الواحد للإنسان، ولكن ثمارها كانت حسب فصول الزمان، وحسب الأمم، لكي تكتمل في ربيع العالم وتنتج كل أزهارها وثمارها. يقول المعلم اليوغي "الناس الذين يخضعون أنفسهم للتقشف القاسي... غير أذكياء.. إنهم يظلمون مجموعات الكائنات (الصغيرة) في أجسادهم، وأنا (الروح) المقيم داخل الجسد ـ أعرف أن لهم عزوماً شيطانية" (7).(1/288)
يجب أن يعتني بآلات الإنسان، الجسد والعقل، لأن كل عضو عندما يقوم بواجبه على الوجه الأكمل دون انشغال به، سيساعد الإرادة على الانتقال إلى دائرة الروح والمعرفة، و"التيقظ لله... ليس برؤية الخير في كل شيء وحسب، بل برؤية الله في كل شيء" (8). ذلك "أن ثمة ذات واحدة (آتما) ـ توجد في كل الكائنات في كل مكان، وان كل الكائنات توجد في تلك الذات ـ وهي عينها في كل مكان بصرف النظر عن اللذة والألم" (9). طبعاً هذا النوع من التلقين إذا فهم بحرفيته لا برمزيته سيقود إلى الضلال، فالله "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" كما ورد في القرآن. ولكن بالتجليات، بالخلق، بالمعنى، وليس بالشهود، وهنا تكمن أسرار تصحيحات القرآن لكل الشرائع، فمن يعرف الله غير الله؟!. لذلك فإننا إذا نظرنا إلى تفاصيل التعليم الهندوسي وليس لغايته، فإننا سنواجه مفهوم العودات المتكررة للإنسان إلى الأرض لينال جزاءه على أعماله في حياة سابقة" يقول الهندي إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس تعاني العذاب أو تتمتع بالثواب جزاء وفاقاً لما وقع من النفس في حياة ماضية من رذيلة أو فضيلة... إن كل شيء لابد له من أثر يظهر ذات يوم، ذلك هو قانون "كارما" ومعناها قانون الفعل ـ أو قانون السببية في دنيا الروح... فإذا أقام إنسان العدل... فيستحيل أن يجيء جزاؤه في مرحلة واحدة فانية من مراحل الحياة، بل يمتد نطاقه إلى حيوات أخرى يولد فيها ليكون ذا مكانة أعلى وحظ أوفر.... أما إن عاش حياته عيش الرذيلة أعيدت ولادته في حياة تالية منبوذاً أو ابن عرس أو كلباً...(1/289)
لكن ليس "كارما" "القدر" بشيء واحد، لأن "القدر" يتضمن عجز الإنسان عن تقرير مصير نفسه، أما "كارما" فتجعل الإنسان (إذا أخذنا كل حيواته جملة واحدة) خالق مصير نفسه؛ وليست الجنة والجحيم بخاتمة ينتهي عندها فعل "كارما"، وهو سلسلة الولادات والميتات؛ نعم إن الروح بعد موت جسدها يجوز أن ترسل إلى الجحيم لتلقى عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فضيلة بذاتها، لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، لتلقي عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فضيلة، بذاتها، لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، وقليل من الأرواح هي التي يُسمح لها بالإقامة في الجنة إلى الأبد؛ ذلك لأن الروح لابد لها بعد فترة تقضيها في الجنة أو الجحيم، أن تعود إلى الأرض من جديد، لتنفذ بحياةٍ جديدة ما يقضي به عليها ـ كارماً ـ"(10). إن الهندوسي وفقاً لهذا التعليم يدعي لحمل مصيره والبحث عن خلاصه الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بسلطان الروح، الطاقة الوحيدة القادرة على عبور المسافة بين الله والإنسان، ولذلك لا تعد حتى خسارة الجسد خسارة من أجل الهدف الأسمى، بل الأفضل لك أن تخسر جسدك وتنقذ روحك من أن تفعل العكس. ولهذا تبالغ بعض الطرق البوذية في الزهد، يؤازرها في ذلك أن الحياة بشكل عام في عقيدتهم هي جملة من الآلام التي لا تنتهي إلا بالوصول إلى اللارغبة أو موت الإرادة. فأن لا تريد، ذلك هو الذي سيحقق لك النجاة ويفتح أمام الإنسان درب الراحة. يقول باتانجالي "كل شيء مؤلم للإنسان الفاضل"، وبهذا صرح بوذا قائلاً "إن العالم يكتنفه الألم من جراء رغباتكم" (11). ولهذا إذا كان المرء يريد النجاح في درب اليوغا "يجب أن يتوقف عن الشكوى، والتذمر، والنحيب، وحتى التمني" (12).(1/290)
السبب ليس فقط لعدم تضييع الوقت فيما لا يفيد من الحزن، ولكن أيضاً لتجميع قوانا لفتح بوابة الروح عبر التصميم والإرادة، والاغتسال "بالنيرفانا" التي سنتطهر حين نصل إليها من كل ما نعانيه. لا تفكر، دع روحك تنطلق على سجيتها، لأنك إذا كنت تفكر ستشهد التناغمات، النظام، العلاقات المادية "وإذا كانت رؤيتك منظمة، فأنت تتأمل، لكنك إذا كنت ترى الشيء كله وتراه بكليته فأنت لا تفكر، بل تعرف، حتى إذا كانت معرفتك تتم بالرؤية. فعل المعرفة ليس تفكيراً. فعل المعرفة يبدأ عندما يتوقف التفكير وقد أنهى دوره. وكل معرفة جديدة فرح، لأنها إدراك جديد للوحدة" (13). وفي الوحدة سيغيب صراع الأفكار والأسئلة وانكشاف الحقيقة الإنسانية في الوجود "بوسع الإنسان أن يكون سيد نفسه ويكون بلا مخاوف. بوسعه أن يتعلم أن كل الأشياء في خدمته وأنه في خدمة كل الأشياء، وأن ما من شيء في الحياة يعارض إرادته التي لا تعرف عنها بقية العقل إلا لماماً، وإن كان في مقدورها أن تعرف وتدخل بذلك في تلك الخدمة المجيدة، ويتم لها ذلك من خلال الـ (أسامبر اجناتا سامادهي). ـ الإنسان مرآة الكون ـ ، قيل ذات يوم. نعم، إنه، وقد بلغ تلك الدرجة من الرؤيا والخدمة، مرآة الله وحريته، الحقيقة، الذات الكلية، والكل. هكذا... سيجد الله ههنا، حتى في العقل، ويتمكن من القول عن معرفة ـ من لا يجد الله ههنا لن يجده في أي مكان ـ " (14). نعم لن يجده في أي مكان.(1/291)
سيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله [ما وسعتني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن]. كل الدروب الصحيحة تؤدي إلى ذات النتائج، وذات النور. سيأتي الحديث عن انبثاق حواس جديدة للحواس، أي الحواس الباطنة. لأن ما يعرفه الناس عن الطاقات الإنسانية هو الطاقات الظاهرة فقط، مع أن حاسة واحدة في بعض المخلوقات تقوم بوظيفة كل الحواس، وإذا كان الإنسان هو الكون الأصغر فهل تنقصه مثل هذه القدرة، أم إنها محجوبة عنه حتى يسمع ويبصر بالله، ويخرج من سياج وقيود النفس والعقل اللذين أقفل بهما أبواب معرفته، مع أنهما لم يخلقا لهذه الغاية، وإنما ليكونا مرحلة وسلّماً إلى عالم النور. ولكن مشكلة هذه المعرفة أنها غير سهلة، ونادراً ما تدرك دون معلم خبير. ولكن بعض المعلمين كما هو الشأن في كل علم مخادعون وجاهلون. لهذا يحذر المعلمون الصادقون منهم "على المرء أن يأخذ حذره من الوقوع في براثن معلمين تجردوا من ضمائرهم، ولم يعملوا في هذا المجال إلا للوصول إلى النفوذ والجاه. عليه كذلك أن يحترس، على حد قول الحكيم راماكريشنا، من المعلمين غير الناضجين" (15). لأن المعلم الكاذب أو الجاهل لا يساعد على الولادة الجديدة للمريد. كذلك تدعو التعاليم الهندوسية إلى العفة، والنظر إلى العلاقة بين الرجل وزوجته "كطاقة مقدسة" غايتها الإنجاب، ولذلك "لا يرضى الهندوس، على العموم، لتحقيق الطهارة، وتحقيق (النقاء النفسي)، عن الصلات الجسدية. وأحد الأمثلة على ذلك هو التحية التي يتبادلونها ساعة اللقاء" (16). إذ يتم السلام بالانحناء لا بالمصافحة. إن العفة مطلوبة لئلا تهدر الطاقة فيما لا يفيد، مع أن المرأة تمثل الطاقة المكملة للوجود، إنها الجانب المادي الذي لابد منه، المؤنث الراعي للحياة، لأن الحياة هي لقاء بين العقل والمادة، والألوهة حاضرة في كل هذه الأشياء، في الجسد والعقل، وفوق كليهما.(1/292)
ولكن "الثنائية الحقيقية في حيواتنا هي ثنائية الروح والجسد؛ فالعقل ليس إلا وسيطاً" (17) "الكون بأسره يتشعب على هذا النحو. فقوانين الحساب والمنطق تنطبق على الجانب المادي فحسب، ويختلف الأمر عندما تجتمع المادة بالحياة.
فجميع قوانين الحساب تختل عندما يتزوج شخصان وسرعان ما نجد أن، 1+1=3 (18). الروح تولد أيضاً من اتحاد العقل مع الجسد للوصول إلى الاستقلال وتذوق النعمة النازلة للبشر من السماء، من الإله الخالق "براهما" لأن "جميع الأشياء جسدية كانت أم عقلية تتكل على أشياء أخرى، لكن الله مستقل، موجود بذاته، ومولود من ذاته. هكذا سيجد الإنسان نفسه، عندما يحقق الغاية النهائية لليوغا، ألا وهي الاستقلال (كيفاليا). الآن أيضاً يكون الأمر كذلك، لكنه مستتر أمام عينيه الخاملتين المذعورتين" (19). يقول الله للإنسان { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } (ق/16) { ونحن أقربُ إليه منكم ولكن لا تبصرون } (الواقعة/ 85). { وإذا سألت عبادي عني فإني قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الدّاع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يَرشُدون } (البقرة/ 186). هذه الإشارات لا يمكن أن تفهم بقياسها على لغة المعاجم، "فهو قريب... ولكنه مستتر أمام عينيه الخاملتين المذعورتين". لا يمكن للعيون المذنبة أن تشاهد الله، ولا للسان الكاذب أن ينطق باسمه. اللسان الكاذب يكذب لأنه يظن أن هناك قوة في الكذب تحقق له ما يريد من إنفاق سلعة أو تحقيق منفعة، لأنه لم يشاهد قوة الله وقدرته، ولم يؤمن بأن حصاده سيكون من جنس ما يزرع. القدر ليس ما كان لأنه كائن وسيكون، وإنما لأن الإنسان يزرع ما سيكون لذاته، والله يعفو عن كثير، لا يسمح للثمار المرة أن تنمو دائماً بما يزرعه الإنسان وهو لا يدري، بالأسباب، والشرور التي يرتكبها، والأخطاء التي يقع فيها. فكيف سيشاهد من هو أقرب إليه من حبل الوريد؟.(1/293)
ولكن عندما يتحد العقل مع الجسد، وتدفع الإرادة بهما إلى طريق المعرفة والتصميم ستحدث المعجزة ويتغير القانون مرة ثانية. هنا لن يكون 1+1=3 ، وإنما ستكون النتيجة =1، الاستقلال، والمعرفة، والوحدة، في شهود نهر الحياة العظيم الذي يتدفق. الجسد سيتلاشى في العالم المادي، والعقل سيصمت ولن يبقى له أي دور، بينما ستطير الذات على أجنحة الروح. الجسد + العقل = الروح. الطاقة الأصلية لا تتأثر بالحوادث، وتتنعم بشهود التفاعلات الكونية بعد أن أوقفت التأثير بقانون السببية الذي يفعل في الجسد. ولكن هل بالإمكان الامتناع عن التأثر بشكل دائم، وإيقاف الألم؟ سنبالغ إذا قلنا نعم وإننا نتوهم طالما بقي الجسد، وهو باق في الحياة. ولكن العارف يعلم أن ما وقع سيقع ولا حيلة لأحد في تجنبه، ليس لأنه قدر لا يرحم، ولكن لأنها أسباب، ومن ورائها حكمة أكبر، فينظر إلى الحكمة ولا يكترث للأسباب، وإن اتخذ موقفاً من الأسباب. مثلاً الموقف من القاتل أو السارق. لقد بكى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما توفي ابنه إبراهيم وقال "إنها رحمة" وإن كانت الحكمة الإلهية قد قضت بأن لا يبقى لأي من الرسل أولاد من الذكور. وقال عن الجوع "إنه بئس الضجيج". والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو مقياس لكل معرفة إلهية. إذ لا يمكن للعارف الخروج من الألم بشكل مطلق أو دائم، ولكن وقتاً يتنعم ووقتاً يتألم، ولكنه حتى وهو يتألم يشعر بدوام النعمة، وهو متأكد منها تأكده من وجوده، ولذا فإنه لا يفقد الأمل، ويشهد من وراء المعاناة البشارة المستمرة، وإن كان تَوعُكه أشد، لإحساسه العالي في كل ذرة من كيانه. ولهذا ليست العودة إلى الحياة مكافأة للأخيار، لأن "كل شيء مؤلم للإنسان الفاضل" كما قال باتانجالي وبوذا. فإذا كانت الحياة ألماً فهل ستكون مكافأة الله للإنسان بإعادته إلى الحياة الدنيا مناسبة للرجل الصالح؟.(1/294)
هنا يقع كل من آمن بالعودة للحياة الدنيا إن كان لخير فعله أو لشر ارتكبه في التناقض الذي وقع فيه أفلاطون وغيره. وقد وصف الله الحياة بأنها ابتلاء فقال { تبارك الذي بيده الملكُ وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموتَ والحياةَ ليبلُوكُم أيكم أحسنُ عملاً وهو العزيزُ الغفورُ } (الملك/ 1 ـ 2). فكيف سيكافئ الله المؤمن بإعادته إلى هذا الابتلاء؟. إننا نواجه سوء الفهم أو النقل الذي نقل عن الأنبياء وصاغته المفاهيم البشرية بطرقها الخاصة ليشكل نوعاً من الشرائع المتناقضة، والتي لا تستقيم أحياناً حتى مع مفاهيم الحساب والعدل لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإن كان من بشروا بها، لنوايا حسنة، ومن أجل نشر أفكار رادعة ومخيفة للأشرار. والخلاف ليس على مبدأ الحساب، فالحساب قائم، والآخرة قريبة، ومن مات فقد قامت قيامته، وبدأ حسابه، ولكن الخلاف على الطرق التي تصورها البعض، وتخيلها، ولم يخبر الله بها أحداً من عباده، إضافة إلى أن جميع الرسل المشهود لهم، اتفقوا على أن الموت هو النهاية التي لا عودة بعدها لأي إنسان إلى الدنيا، ما عدا عيسى - عليه السلام - الذي سيعود في زمن ظهور المسيح الدجال. كما اتفقوا على أن الحساب سيقود الناس حسب أعمالهم إما إلى الجنة وإما إلى النار. وحين ينقل ثلاثة رسل هذه الأخبار ويتفقون عليها، فإن أي خبر آخر مخالف يجب النظر إليه كخطأ يجب تصحيحه، لأن جوهر المعرفة الإلهية لا يمكن أن يتعدد، وإن تعدد الرسل، وتعددت طرق العبادة. وهذا يعيدنا إلى مشكلة العصمة ومنها المعرفة التي لا تصح إلا للرسل صلوات الله عليهم، أما الأولياء فليس لهم مثل هذه العصمة مهما بلغوا من علو الشأن، لا بما يتلقونه إلهاماً، ولا بما يشهدونه بالحواس الباطنة أو الظاهرة. وإن ما يشهد لهم بالعصمة هو سلوكهم، والتزامهم بشريعة الرسل، وهي واحدة في جوهرها.(1/295)
وإن كل عارف حين تكتمل معرفته، سيؤمن بكل الرسل وإن كان من دين ينكر الأديان الأخرى، وذلك لسبب بسيط، وهو أن إنكار بعض الأديان للرسل الذين جاؤوا بعد رسلهم وقع بسبب إنكار تكرار معجزة الوحي، مع أن ما حدث مرة قد يحدث مرات حسب المنطق. ولكن العارف من أي دين كان أو عقيدة لابد له من الوصول إلى مستوى من الإلهام الصادق، وهذا الإلهام سيدفعه إلى الاعتراف بصحة رسالة جميع الرسل الذين كان ينكر عليهم. ومن باب المقارنة سيقول، إذا كنت أنا أتلقى من الله بعض المعلومات فكيف سأنكر على الرسل، وقد يؤمر بإعلان إسلامه، وقد يؤمر بالإخفاء لحكمة إلهية. فالعارفون حقيقة من بعض علاماتهم الإيمان بكل رسل الله يقيناً. أما العقلاء فأمورهم مختلفة، وفهمهم للأمور بحدود ما اعتادوا عليه غالباً، كما قال(1/296)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (كنز العمال ـ 29829 /ج10). فبالعقل سيقول الباحث المشهور "إميل لود فيغ" عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يلي: "يولد محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بعيد موت جوستنيان... وتضيف تعاليمه، غير المنجزة، قليل شيء إلى ما استعاده من النصارى واليهود... وكانت أفكاره أقل مما لدى عيسى، ولا تجد في مواعظه ما هو حديث جوهراً" (20). وسيقول في مكان آخر "ونجد موسى ومحمداً متماثلين مزاجاً كرئيسين بدويين، وذلك من حيث كونهما عمليين، صائلين، حاكمين مطلقين، زعيمين، نبيين، يحفزهما الغضب والانتقام" (21). وسيقول بعد قليل "الإسلام هو أكثر أديان التوحيد الثلاثة تسامحاً، والإسلام هو الدين الوحيد الذي سمح لأتباع الأديان الأخرى بأن يحفظوا معابدهم الخاصة في غضون الأجيال وفي مختلف البلدان، والإسلام هو الدين الوحيد الذي عامل الأمم المغلوبة معاملة إنسانية، والإسلام لم يمنح الفاتحين حقاً آخر غير انتحالهم وضع الهداة غير الخاضعين للضرائب" (22). العقل يناقض نفسه بنفسه، ويدفعه هواه وعاداته للدفاع عما تربى عليه. ما قاله الكاتب عن حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للانتقام، ينقضه ما قاله عن تسامح المسلمين الذين لم يطبقوا إلا تعاليم رسولهم. وما قاله عن تعاليم الإسلام "غير المنجزة" يدل على جهله بالقرآن الذي جاء فيه { اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نِعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلام ديناً } (المائدة/3). وأما ما هو جديد فالتشريع كله حديث، وأما جوهر كل الأديان فواحد وهذا ما أكده الإسلام دائماً. هذا مثال لأحكام العقل التي لا تستقيم دائماً. وسيقول "ول ديوارنت" عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقل أيضاً "ولفظ محمد مشتق من الحمد... ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشر به" (23).(1/297)
وهو لن يشاهد الإشارات الواردة في الأناجيل عن النبي الذي سيأتي، والذي لُقّب في (إنجيل يوحنا/ مز16) بـ "روح الحق" و"المحامي الإلهي". مع أن ول ديوارنت درس كل الحضارات وكتب عنها آلاف الصفحات، ولكنه مع ذلك لم يقرأ ما بين سطور الأناجيل التي لابد أنه منذ الطفولة تعلم القراءة فيها. ولكن هذا هو العقل الذي سيقول عنه "ول ديورانت" مستنداً إلى كلام "مارك توين" الساخر "الشيخ يتهكم: ألا يمكن للعقل ما دام روحياً أن يتأثر بالمؤثرات الطبيعية؟. الشاب (سيجيب): كلا. الشيخ: أيظل العقل متزناً حين يسكر الجسم؟" (24). ومن جملة ما يسكر العقل حبه لقومه وإعجابه بهم لأن الحب أعمى كما يقولون وهذا هو مستوى إدراك العقل الذي تحاكم به الأمور. وبالعودة إلى طريق المعرفة الروحية عند الهندوس، فإننا نلاحظ أن هذا الطريق والتربية المتبعة ستوصل الصادق وصاحب الإرادة إلى عالم الروح، ولكن حتى في عالم الروح يمكن أن يضل السالك إذا لم يكتمل تعليمه. وقد أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني إلى هذه المسألة، التي سبق وأشرنا إليها، بظهور الشيطان له على شكل نور في السماء، وقوله ـ إني ضللت سبعين عابداً من أمثالك ـ ، وإن كل الكرامات التي قد يتوصل إليها السالك لا تساوي شيئاً دون الالتزام بالشريعة التي هي في الجوهر تهذيب النفس والرحمة بالإنسانية، لأن الله غني عن العالمين. ومع ذلك فإن فهم الحساب بطريقة معينة وإن لم يتفق مع ما أخبر به الرسل قد لا يضر مع سلامة الإيمان بالله، ولكنه يضر بإثارة الشكوك في الدين نفسه حين يطرح قضايا متناقضة عقلياً. ولهذا فإن جميع الأديان التي وصلتنا بسبب ما تعرضت له من سوء النقل والفهم، لا تملك الحصانة التي يملكها الإسلام في اتفاقه مع منطق العقل وانسجامه معه، ولهذا ظل الإسلام قادراً على استيعاب أتباعه، ولم يتعرض لما تعرضت له الأديان الأخرى من شكوك من أتباعها.(1/298)
وإننا كلما تعمقنا في التجربة الهندوسية، سنشعر بأهميتها وإن كان يلزمها هذا التصحيح في مفهوم الحساب، والعودات المتتابعة للإنسان إلى الأرض. وإن ديناً يحدد لأتباعه هذه الشروط لكي يكونوا من أتباعه "التوقف عن ارتكاب الخطايا، التحلي بالفضيلة، تنقية المرء لقلبه ـ تلكم هي ديانة من حققوا بوذا" (25). هو دين عظيم، ولكن إلى أي حدٍ ستسعف الإنسان إنسانيته لكي يطبق هذه الشروط؟. وإلى أي حد ستتفق مع ما تقتضيّه طبيعة الحياة، والظلم، والعدل المطلوب، والحقوق المهضومة والمعتدى عليها مع مفهوم الحساب الذي شرعه الله في كل دين في الدنيا والآخرة أيضاً؟. إن الرحمة جميلة، ولكن حتى رحمة الله التي اتسعت لكل شيء، ستكون بالجنة والنار، لأن الرحمة بالجاهل تعليمه وإن كان يفضل اللعب على المدرسة. فهل يمكن أن نسوس الحياة البشرية بالشعر والأحلام التي لا تردع الأشرار، وتقود الأخيار إلى الهلاك؟. إن الدين لابد له لكي يكون فاعلاً من شريعة تنير طريقه وتحدد سلوك أتباعه وطريقتهم في الحياة، وعلاقاتهم الإنسانية، ولا يمكن أن يكون خاصاً بالقديسين فقط، وإن كان طموح كل دين سليم، هو تربية جميع أتباعه ليكونوا قديسين، ولكن بوصايا ملائمة للبشر الذين من واجبهم إن كانوا مؤمنين أن يحبوا ما أحب الله وأن يعادوا من يعادي الله ورسله، وإن كان الدين بالأصل هو للإنسان. ومن أجله. فهل ستفيد مثل هذه الوصايا التي تأمر بها الهندوسية الإنسان، وهل يمكن تطبيقها؟ تقول إحدى هذه الوصايا في وصف العابد، أو ما يجب أن يكون عليه، وهي بشكل عام تمثل صفة كل الوصايا "من لا يكره أياً من الكائنات، من يكن صدوقاً، رحيماً، متحرراً من حب التملك، خالياً من الأنانية، واحداً أمام الألم واللذة، حليماً، قنوعاً، يمارس اليوغا دوماً، ضابطاً نفسه، عزيمته لا تلين ومستسلماً لي. ـ هو المتعبد لي، والحبيب إلي.(1/299)
من لا يشمئز منه العالم، ولا يشمئز من العالم، ومن يتحرر من طغيان الشهوة، الغضب، والخوف ـ هو الحبيب إلي. من لا يشتهي شيئاً (من أجل لذاته أو سعادته)، إنسان تقي، مثابر، عادل، هادئ (مهما تكن الظروف)، ومن يتخلى عن كل منفعة في العمل ـ إنه المتعبد لي والحبيب إلي. من لا يبتهج، ولا يعادي أحداً، لا يحزن ولا يرغب (في أي شيء) ويتخلى عن تعلقه بالملذ وغير المللذ ـ حبيب إلي لأنه حقق بها كتبي. من لا يفرق بين عدو وصديق، ويسلك سلوكاً مماثلاً عندما يُوقر أو يُهان، ويبدي موقفاً واحداً نحو البرودة والحرارة واللذة والألم، ويتحرر من التعلقات، ويتساوى عنده اللوم والمديح، الصامت، والقانع بكل شيء، من لا منزل له، صاحب الغاية الثابتة ـ (ذلك) الإنسان، حبيب إلي، لأنه حقق بها كتبي. أما الذين يكرسون أنفسهم لهذه الطريق السامية في الحياة، ويجعلونني بفيض إيمانهم غايتهم العظمى ـ أولئك المتعبدون أحباء للغاية" ((26). هل هذا تعليم، أم مشاعر جياشة يمكن أن تطفو في قلب كل محب صادق للخالق والعالم، كما نلمسها في شعر الحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض؟. إننا نقبلها كشعر جميل، ولكن ليس كمعرفة وتعليم يمكن تحقيقه وتطبيقه، لأن العالَم بحاجة إلى إصلاح العارفين أكثر من حاجته إلى العابدين الذين تخلوا عن العالم والإنسان من أجل الله، لأن الله غني بذاته عن كل حب لا ثمار له، ولا تأثير، ولا دور في حياة البشر ومصيرهم. وعبادة العابد لذاته، وعمل العالم العابد لذاته ولغيره. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [إذا اجتمع العالم والعابد على الصراط؛ قيل للعابد: ادخل الجنة وتنعم بعبادتك، وقيل للعالم: قف هنا واشفع لمن أحببت فإنك لا تشفع لأحد إلا شفعت. فقام مقام الأنبياء] (كنز العمال ـ 28688/ج10). ومع ذلك فإن الأمم لا تخلو من عابدين لهم أجرهم عند ربهم، وعلماء قدوتهم الرسل في سعيهم لإصلاح الناس.(1/300)
وإن في الهندوسية وطرق تربيتها كثيراً من الحكمة التي هي ضالة كل مؤمن "ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً". وآخر ما نختم به هذا الفصل كتعليم عميق له بهاؤه وروعته، عن "المعرفة اللانهائية" لأن المعرفة لا تنتهي، ولأنها تبدأ لكل متعلم من ذروة علمه لتعلو وتتجدد، وتنسخ ما قبلها كما ينسخ الإسلام الكفر، والإيمان الإسلام، والإحسان الإيمان، لأن لكل ارتقاء شريعته، حتى تعبد الله كأنك تراه. ولكن حتى عند هذه الدرجة تظل المعرفة لا نهائية. إنها "المعرفة اللانهائية هي استخلاص الحكمة اللانهائية من كل موقف. الكل يصبح متماثلاً لدينا، والنوعية تحل محل الكمية. تقدم أبسط الأحداث اليومية المألوفة كل ما نحتاجه لرؤية بهاء الله وتحقيق الكمال الروحي. وكما أنك بكمنجة واحدة تتعلم العزف على جميع الكمنجات، وبأم واحدة تتعلم محبة جميع الأمهات، هكذا يصبح القليل الموجود في الحياة الإنسانية كافية، والكافي كافٍ. مثلما لا يحتاج المرء إلى البحث عن النور خارج نفسه، كذلك لا يحتاج إلى البحث خارج وجوده الشخصي الصغير عن الفرصة العظمى، اللا محدودة. بهذا التحقيق يموت إلى الأبد الطمع، الكراهية، التعصب، الرضى الذاتي، والحماقة. ومنه تأتي نهاية سلسلة التحولات في حقل الطبيعة، وما كان يجب أن يتم قد تم" (27). إنها فلسفة الرحمة، سواء اتفقنا معها أم لا، والراحمون يرحمهم الله. وأينما ذهبنا عند الإنسانيين الكبار سنجد أرواحهم تتكلم، وجمال كلماتهم الآسر يتدفق حتى إن الآذان الصماء لتذوق عذوبته، ولكن البشر الذين يبحثون عن حقيقتهم سيسقط عليهم، كالمطر على الأزهار المتفتحة، فتستحم به، وتشرب منه، وتتألق بجمالها وجماله، وتبعث بعبيرها وعبيره حتى يختلط الأمر بين الماء النازل من السماء، والعطر السابح في نسيج الورود والأزهار والألوان.(1/301)
"فاطلبوا العلم ولو في الصين"، فإنه العلم الذي يرتقي به الإنسان دائماً، ويبقى في الذاكرة والتاريخ، فوق الخصومات والحروب وقذارة المال الذي أفسد الأرض وخرب الضمائر. إنه عبير الإنسانية الدائم الذي لا تتغير رائحته، ولا روعته، ولا جماله، وهو الكلمة التي خلق الله بها الأكوان، وأعطاها للإنسان ليبدع بها، ويجسد خلافته في الأرض، بالكلمة النابعة من القلب، والطائرة على أجنحة الروح، وليس بالصواريخ والطغيان والتدمير. فالكلمة الحية لا تموت ولا تفنى، وكل شيء سواها سيموت، حتى الجسد والانتصارات والأرباح والخسائر. إنها الكلمة التي تحيي الأحياء فقط، وتمنح الأموات أكفانهم قبل أن يموتوا. فقد رش الله من نوره على العالم، فمن قبل الكلمة أصابه النور على قدر قبوله لها، ومن لم يقبل الكلمة لم يقبل النور، فظل في حجاب الظلمة.
* * *
مراجع الفصل الثاني "المعرفة بالروح
الحدس
(1) د. زكريا إبراهيم ـ مشكلة الفلسفة ـ 57.
(2) هنري برغسون ـ منبعا الأخلاق والدين 265.
(3) نيكولاس برديائف ـ الحلم والواقع ـ 90.
(4) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 359/ ج1.
(5) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 359 /ج1.
مدينة الروح
(1) أفلاطون الثيتتس ـ 218.
(2) م. س 221.
(3) أفلاطون ـ الجمهورية ـ 205.
(4) م. س 210.
(5) م. س 210.
الرسل وعالم الروح
(1) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ تحقيق د. عثمان يحيى ـ 222/ج1.
(2) أفلاطون ـ الجمهورية 210.
من مظاهر السيرة الروحية للرسول الخاتم
(1) الغزالي ـ مجموعة رسائل الغزالي ـ 555.
(2) عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ 97.
(3) خالد محمد خالد ـ رجال حول الرسول ـ 327.
(4) صفي الرحمن المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ 68.
(5) م. س 64.
(6) م. س 69.
(7) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 225/ ج1.
(8) م. س 226/ ج1.
(9) م. س 226/ج1.
(10) صفي الرحمن ـ الرحيق المختوم ـ 121.
(11) م. س 123.
(12) م. س 124.(1/302)
(13) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 120 /ج4.
(14) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 120/ ج4.
العلم بالله والاعتبار
(1) عبد العزيز الدباغ ـ الإبريز ـ 36.
(2) م. س 42.
(3) د. عبد الحليم محمود ـ المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي ـ 348.
(4) م. س 351.
(5) ابن عربي ـ مواقع النجوم ـ 63.
(6) م. س 65.
النفاق والحروب المستمرة
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 185/ ج3.
(2) م. س 235/ ج1.
(3) م. س 17/ج3.
(4) صفي الرحمن ـ الرحيق المختوم ـ 280.
(5) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 184/ ج3.
(6) م. س 186/3.
(7) م. س 185/ ج3.
(8) الرحيق المختوم 315.
(9) م. س 332.
(10) ابن قيم الجوزية ـ زاد المعاد ـ 961/ ج3.
(11) م. س 692/ ج3.
(12) ابن عساكر ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير ـ 311/ ج1.
(13) ابن هشام ـ السيرة النبوية 122/ ج4.
(14) أفلاطون ـ الجمهورية 169.
(15) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 133.
صلح الحديبية وعلامات العارفين
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 204/ج3.
(2) م. س 203/ ج3.
من عمير إلى عمير أمير المؤمنين
(1) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 203/ ج3.
(2) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ 203/ج3.
(3) م. س 198/ ج3.
التجربة الروحية للغزالي
(1) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 539.
(2) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 539.
(3) م. س 538.
(4) م. س 541.
(5) م. س 549.
(6) م. س 550.
(7) م. س 542.
(8) م. س 543.
(9) م. س 544.
(10) م. س 545.
(11) م. س 544.
(12) م. س 558.
(13) م. س 552.
(14) م. س 555.
(15) م. س 560.
(16) م. س 560.
(17) م. س 561.
(18) م. س 556.
(19) م. س 556.
(20) م. س 557.
(21) م. س 556.
(22) م. س 558.
(23) م. س 232.
(24) م.س 225.
طرق المعرفة الروحية
(1) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 548.
(2) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ 373/ج4.
(3) الجيلاني ـ سر الأسرار ـ 29.
(4) الجيلاني ـ الغنية ـ 3.
أساليب قديمة في المعرفة الروحية(1/303)
(1) ميرسيا إيلياد ـ التنسيب والولادات الصوفية ـ 75.
(2) م. س 31.
(3) م. س 133.
(4) م. س 94.
(5) م. س 112.
"اليوغا" والمعرفة الروحية
(1) آرنست وود ـ اليوغا فلسفة الانعتاق والاتحاد ـ 32.
(2) م. س 33.
(3) م. س 47.
(4) م. س 46.
(5) م. س 53.
(6) م. س 60.
(7) م. س 65.
(8) م. س 69.
(9) م. س 65.
(10) ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ 215/ ج3.
(11) آرنست وود ـ اليوغا ـ 79.
(12) م. س 81.
(13) م. س 89.
(14) م. س 107.
(15) م. س 129.
(16) م. س 78.
(17) م. س 238.
(18) م. س 236.
(19) م. س 274.
(20) إميل لودفيغ ـ البحر المتوسط ـ 411/ ج2.
(21) م. س 413/ ج2.
(22) م. س 418/ ج2.
(23) ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ 21 / ج13.
(24) ول ديورانت ـ مباهج الفلسفة ـ 83/ ج1.
(25) آرنست وود ـ اليوغا 297.
(26) م. س 334.
(27) م. س 354.
* * *
الفصل الثالث
المذاهب والاتجاهات في تعريف النفس والعقل والروح
المناسبات التي وردت فيها كلمات النفس والعقل والروح في القرآن (النفس في القرآن)
{ واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة } ... البقرة/ 48
{ واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل } ... البقرة/ 123
{ لا تكلف نفس إلا وسعها } ... البقرة/ 233
{ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } ... البقرة/ 281
{ ووفّيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } ... آل عمران/ 25
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } ... آل عمران/ 30
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } ... آل عمران/145
{ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } ... آل عمران/ 161
{ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } ... آل عمران / 185
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } ... النساء/1
{ أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ... المائدة/ 32.(1/304)
{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن } ... المائدة/ 45
{ وذكّر أن تبسل نفس بما كسبت } ... الأنعام/ 70
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقرّ ومستودع } ... الأنعام/ 98.
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ... الأنعام/ 151
{ ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ... الأنعام/ 164.
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } ... الأعراف/ 189
{ هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت } ... يونس/ 30
{ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها } ... السجدة/ 13
{ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } ... السجدة/ 17
{ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به } ... يونس/ 54
{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } ... يونس/100
{ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } ... هود/ 105
{ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } ... يوسف/ 53
{ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } ... يوسف /68
{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } ... الرعد/ 23
{ يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } ... الرعد/ 42.
{ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب } ... إبراهيم/ 51
{ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } ... النحل/ 111
{ وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } ... النحل/ 112
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ... الإسراء/ 33
{ قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا } ... الكهف/74
{ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتُجزى كل نفس بما تسعى } ... طه/15
{ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ... الأنبياء/ 47
{ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً } ... الأنبياء/ 68
{ ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون } ... الفرقان/ 68
{ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } ... العنكبوت/ 57
{ ما خلقُكُم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ... لقمان/ 28
{ وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } ... لقمان/ 34(1/305)
{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } ... الكهف/6
{ فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } ... يس/54
{ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } ... الزمر/6
{ أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } ... الزمر/56
{ ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون } ... الزمر/ 70
{ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } ... غافر/17
{ لتُجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون } ... الجاثية/22
{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ... ق/21
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } ... الحشر/ 18
{ ولا أقسم بالنفس اللّوامة } ... القيامة/2
{ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى } ... النازعات/40
{ وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس ما أحضرت } ... التكوير/14
{ وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخرت } ... الانفطار/5
{ يوم لا تملك نفس شيئاً والأمر يومئذ لله } ... الانفطار/ 19
{ إن كل نفس لما عليها حافظ } ... الطارق/4
{ يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ... الفجر/27
{ ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها } ... الشمس/7
{ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون } ... البقرة/ 72
{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ... البقرة/ 286
{ فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مر يئاً } ... النساء/4
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ... المائدة/ 32
{ لا تكلف نفساً إلا وسعها } ... الأنعام/ 152
{ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } ... الأنعام/ 158
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها } ... الأعراف/ 42
{ قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً } ... الكهف/ 74
{ وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً } ... طه/40(1/306)
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ } ... الكهف/28
{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } ... الشعراء/3
{ وتخفي في نفسك ما الله مبديه } ... الأحزاب/ 37
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } ... فاطر/8
{ ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه } ... البقرة/ 130
{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } ... البقرة/ 207
{ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } ... البقرة/ 231
{ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } ... آل عمران/ 28
{ ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } ... آل عمران/ 30
{ كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل عل نفسه } ... آل عمران/ 93
{ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } ... النساء/110
{ ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه } ... النساء/ 111
{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } ... المائدة/30
{ قل الله كتب على نفسه الرحمة } ... الأنعام/ 12
{ فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } ... الأنعام/ 54
{ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها } ... الأنعام/ 104
{ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } ... التوبة/120
{ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } ... يونس/ 108
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب } ... يوسف/ 23
{ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } ... يوسف/ 30
{ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } ... يوسف/51
{ الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه } ... يوسف/ 51
{ فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } ... يوسف/ 77
{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } ... الإسراء/15
{ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه } ... الكهف/ 35
{ فأوجس في نفسه خيفة موسى } ... طه/ 67
{ ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق } ... المؤمنين/ 62
{ قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس } ... القصص/ 19
{ قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلونِ } ... القصص/ 33(1/307)
{ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها } ... المنافقون/ 11
{ لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها } ... الطلاق/ 7
{ وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ... النساء/ 79
{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ... النساء/ 84
{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ... المائدة/ 116
{ واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } ... الأعراف/ 208
{ اقرأ كتابك كفى بنفسك عليك حسيبا } ... الإسراء/14
{ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنيّ وأنتم الفقراء } ... محمد/ 38
{ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } ... الفتح/16
{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } ... ق/ 16
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ... الحشر/ 9
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ... التغابن/ 16
{ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ... الطلاق/1
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة } ... القيامة/ 14
{ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } ... النحل/ 111
{ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ } ... الأحزاب/50
{ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } ... المائدة/25
{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } ... المائدة/ 116
{ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } ... الأعراف/ 188
{ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } ... يونس/15
{ قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله } ... يونس/49
{ قال هي راودتني عن نفسي } ... يوسف/26
{ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } ... يوسف/53
{ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غنيّ كريم } ... النمل/40
{ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } ... النمل/92
{ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنيٌّ عن العالمين } ... العنكبوت/ 6
{ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنيٌّ حميد } ... لقمان/ 12
{ ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير } ... فاطر/18
{ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } ... فاطر/ 32
{ ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } ... الصافات/ 113(1/308)
{ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } ... الزمر/ 41
{ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } ... فصلت/46
{ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون } ... الجاثية/15
{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم } ... البقرة/235
{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } ... البقرة/ 235
{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } ... البقرة/ 272
{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } . ... البقرة/ 284
{ فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } ... آل عمران/ 61
{ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } ... آل عمران/ 165
{ قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ... آل عمران/ 168
{ لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم } ... آل عمران/ 168
{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ... النساء/ 29
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } ... النساء/66
{ كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } ... النساء/ 135
{ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ... المائدة/ 105
{ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } ... الأنعام/ 93
{ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } ... التوبة/ 35
{ منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ... التوبة/ 36
{ انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } ... التوبة/ 41
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } ... يوسف/54
{ ثم جئت على قدر يا موسى. واصطنعتك لنفسي } ... طه/41
{ وكذلك سوّلت لي نفسي } ... طه/ 96
{ قالت رب إني ظلمت نفسي } ... النمل/44
{ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } ... القصص/ 16
{ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } ... سبأ/ 50
{ وإذا النفوس زوّجت } ... التكوير/ 7
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم } ... الإسراء/25(1/309)
{ ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس ... البقرة/ 155
والثمرات }
{ وأحضرت الأنفس الشح } ... النساء/ 128
{ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } ... النحل/7
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } ... الزمر/ 42
{ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } ... الزخرف/ 71
{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } ... البقرة/ 87
{ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } ... البقرة/ 44
{ أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم } ... البقرة/44
{ يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } ... البقرة/ 54
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } ... البقرة/ 84
{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ... البقرة/ 85
{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } ... البقرة/ 110
{ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم } ... البقرة/ 187
{ قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا } ... الأنعام/ 130
{ وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } ... الصف/11
{ واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم } ... التغابن/ 16
{ قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } ... التحريم/ 6
{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } ... المزمل/20
{ فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } ... آل عمران/ 61
{ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ... الأعراف/ 23
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنّتم } ... التوبة/ 128
{ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } ... يونس/23
{ قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان } ... يوسف/18
{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } ... إبراهيم/ 22
{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ... النحل/ 72
{ وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } ... الإسراء/7(1/310)
{ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } ... النور/61
{ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله } ... النور/ 61
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها } ... الروم/21
{ ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } ... الروم/ 28
{ فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } ... الروم/ 28
{ إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } ... غافر/ 10
{ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون } ... فصلت/31
{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً } ... الشورى/11
{ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب } ... الحجرات/11
{ وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ... الذاريات/ 21
{ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ... النجم/ 32
{ ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم ... الحديد/ 14
أنفسكم }
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } ... الحديد/22
{ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } ... الأنعام/20
{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } ... الأنعام/ 24
{ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } ... الأنعام/ 26
{ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } ... الأنعام/123
{ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ... الأنعام/ 130
{ ومن خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } ... الأعراف/9
{ قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ... الأعراف/ 37
{ لقد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } ... الأعراف/ 53
{ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } ... البقرة/9
{ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... البقرة/ 57
{ بئسما اشتروا به أنفسهم } ... البقرة/90
{ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } ... البقرة/ 102
{ لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } ... البقرة/ 109(1/311)
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } ... البقرة/ 265
{ وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون } ... آل عمران/ 69
{ كمثل ريح فيها صرٌ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } ... آل عمران/ 117
{ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } ... آل عمران/ 117
{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله } ... آل عمران/ 135
{ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق } ... آل عمران/ 154
{ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } ... آل عمران/154
{ لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } ... آل عمران/ 164
{ ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم } ... آل عمران/ 178
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء } ... النساء/ 49
{ فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } ... النساء/63
{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيما } ... النساء/ 64
{ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } ... النساء/ 65
{ ولا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ... النساء/ 95
{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } ... النساء/ 95
{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ... النساء/ 97
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } ... النساء/ 107
{ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... الأعراف/160
{ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ... الأعراف /172
{ ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } ... الأعراف/177
{ لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } ... الأعراف/ 197
{ ولا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } ... الأعراف/ 192
{ ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ... الأنفال/53(1/312)
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } ... الأنفال/ 72
{ أن يتخلفوا عن رسول الله ولا رغبوا بأنفسهم عن نفسه } ... التوبة/ 220
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } ... التوبة/17
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } ... التوبة/ 20
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } ... التوبة/ 44
{ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم } ... التوبة/55
{ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... التوبة/70
{ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } ... التوبة/ 81
{ إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم } ... التوبة/ 85
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } ... التوبة/88
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } ... التوبة/111
{ وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } ... التوبة/ 118
{ إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون } ... يونس/ 44
{ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } ... هود/21
{ الله أعلم بما في أنفسهم } ... هود/ 31
{ لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم } ... النساء/113
{ فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } ... المائدة/ 52
{ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون } ... المائدة/ 70
{ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } ... المائدة/70
{ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } ... الأنعام/ 12
{ يوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم } ... النحل/ 89
{ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... النحل/ 118
{ ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } ... الكهف/51
{ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم } ... الأنبياء/ 43(1/313)
{ فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون } ... الأنبياء/ 64
{ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } ... الأنبياء/ 102
{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } ... المؤمنون/ 103
{ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ... النور/6
{ لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } ... النور/12
{ ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً } ... الفرقان/3
{ لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً } ... الفرقان/ 31
{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } ... النمل/ 14
{ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... العنكبوت / 40
{ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف } ... البقرة/ 240
{ يتربصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } ... البقرة/ 234
{ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } ... هود/101
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ... الرعد/11
{ قل أتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً } ... الرعد/ 16
{ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } ... إبراهيم/45
{ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ... النحل/28
{ أو لم يتفكروا في أنفسهم } ... الروم/8
{ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ... الروم/9
{ من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون } ... الروم/44
{ فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم } ... السجدة/27
{ النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } ... الأحزاب/6
{ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم } ... سبأ/19
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم } ... يس/ 36
{ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } ... الزمر/ 15
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } ... الزمر/ 53
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } ... فصلت/ 53(1/314)
{ إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } ... الشورى/ 45
{ ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } ... الحجرات/ 15
{ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } ... المجادلة/ 8
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ... الحشر/9
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } ... الحشر/19
{ والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء } ... البقرة/228
العقل في القرآن
{ كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون } ... البقرة/73
{ ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون } ... يس/62
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون } ... البقرة/76
{ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون } ... البقرة/ 242
{ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون } ... آل عمران/ 65
{ قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } ... آل عمران/118
{ وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } ... الأنعام/32
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } ... الأنعام/32
{ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } ... الأعراف/169
{ فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } ... يونس/16
{ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون } ... هود/ 51
{ إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } ... يوسف/2
{ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } ... يوسف/ 109
{ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } ... الأنبياء/ 10
{ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } ... الأنبياء/ 67
{ وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون } ... المؤمنون/ 80
{ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } ... النور/ 61
{ قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } ... الشعراء/ 28
{ وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون } ... القصص/60
{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } ... الفرقان/44
{ ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون } ... العنكبوت/35
{ قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } ... العنكبوت/ 63(1/315)
{ ومن نعمره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون } ... يس/ 68
{ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين. وبالليل أفلا تعقلون } ... الصافات/ 138
{ ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون } ... غافر/67
{ إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } ... الزخرف/3
{ قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } ... الحديد/ 17
{ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ... الملك/10
{ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } ... العنكبوت/43
{ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } ... البقرة/ 164
{ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } ... البقرة/ 170
{ صم بكم عمي فهم لا يعقلون } ... البقرة/ 171
{ اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ... المائدة/58
{ يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } ... المائدة/103
{ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } ... الأنفال/ 22
{ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } ... يونس/42
{ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } ... يونس/100
{ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ... الرعد/4
{ والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ... النحل/12
{ إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } ... النحل/67
{ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ... الحج/ 46
{ فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ... الروم/24
{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } ... الروم/ 28
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ... الحجرات/4
{ قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } ... الزمر/ 43
{ فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون } ... الجاثية/ 5
{ تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ... الحشر/14
الروح في القرآن
{ ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } ... يوسف/87
{ فأما إن كان من المقربين. فروح وريحان وجنة ونعيم } ... الواقعة/ 89(1/316)
{ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } ... البقرة/253
{ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } ... النساء/171
{ اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس } ... المائدة/ 110
{ ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } ... النحل/2
{ قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا } ... النحل/ 102
{ ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا } ... الإسراء/ 85
{ نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين } ... الشعراء/ 193
{ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق } ... غافر/ 15
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله والرسول ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } ... المجادلة/ 22
{ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } ... المعارج/4
{ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } ... النبأ/ 38
{ تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر } ... القدر/4
{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ... الشورى/ 52
{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. (...). قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا } ... مريم/ 17+19
{ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فَرجَها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } ... التحريم/ 12
{ والتي أحصنت فَرجَها فنفخنا فيه من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين } ... الأنبياء/91
{ وبدأ خلق الإنسان من طين. (...) ثم سواه ونَفَخَ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } ... السجدة/9(1/317)
{ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقّعوا له ساجدين } ... الحجر/ 28 ـ 29
{ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } ... ص/71 ـ 72.
الإشارات والمعاني في الآيات القرآنية للنفس والعقل والروح
تشير الآيات القرآنية إلى عدد من المعاني التي يمكن أن تساعدنا في فهم دلالات ووظائف النفس والعقل والروح ودور كل منها في حياة الإنسان. وقبل أن نسعى لتكوين فكرة شاملة عن هذه العلاقة لابد لنا من دراسة السمات العامة لهذه القوى.
فما هي هذه السمات التي يدلنا عليها النص القرآني؟(1/318)
1 ـ إن الحياة سارية في كل أجزاء الوجود وعناصره. وقد قال الله { تسبح له السمواتُ السبعُ والأرضُ ومن فيهن وإنْ منْ شيءٍ إلا يسبّحُ بحمده ولكن لا تفقهونَ تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً } (الإسراء/ 44). ومهما كان نوع التسبيح أو التنزيه، وطريقته، فإنه لا يسبح إلا حي، فالوجود كله حي كما يفهم من الآية. وكما هو مدرك بالبديهة للحكماء. وإذا كان التأثير والتأثر هو علامة الحياة، فإن الوجود كله يعيش في حالة فعل وانفعال، وتأثير وتأثر، ولكن مظاهر الحياة بالنسبة إلينا، وحسب مفهومنا، تبدو أكثر أو أقل ظهوراً في المخلوقات، فحياة النبات في الربيع تبدو أكثر ظهوراً منها في الشتاء، والأذن التي نسمع بها تبدو أكثر حياة من العظام والأعصاب غير الظاهرة لنا، مع أن الحياة سارية في كل ذرة من كيان الإنسان. ونفس الأمر يسود في الطبيعة التي تنتقل فيها الصور من حياة تسمى في العرف موتاً إلى حياة جديدة. ولكن كل مظهر من مظاهر الحياة يعطي كمالاً لا يعطيه الآخر، ومن هنا ظهر التمايز في عناصر الطبيعة بما أحدثه الله فيها من الصور، وسر الحياة هو الطاقة الكامنة في المادة السارية في كل جزء منها بنسب مختلفة، من الذرة إلى المجرة. وكل طاقة تعطي الصور قدرات معينة. إننا أمام نظام يشبه الكهرباء، التي تستخدم في التسخين والتبريد والحركة، تبعاً لطبيعة الآلة. فالطاقة ينتهي تأثيرها في النبات عند حدود الإزهار أو الإثمار، لأنه منتهى كمال النبات، فكذلك لكل وجود كماله وحدوده التي لا يتجاوزها بسبب تركيبه الخاص، أو ما نسميه البصمة الوراثية بالنسبة للمخلوقات. فنحن أمام وجود غير متجانس هو الطبيعة التي تضج بالحياة والحركة بسبب سريان طاقة الحياة في كل أجزائها، وغياب التجانس بين عناصرها، الذي يؤدي بدوره للتفاعل والتنوع. كما أننا أمام طاقة متجانسة تمدّ كل ذرة بسر البقاء والحيوية في انتقالاتها عبر الصور المتجددة التي لا تنتهي.(1/319)
هذه الحياة الطبيعية، هي الحياة الذاتية للمادة التي يُسبَح بها كل شيء، والتي أشرنا إليها في حديثنا عن الفيض الذاتي للطبيعة، والذي يختلف عن الفيض الإبداعي للخالق، الذي أُنشأ من عناصر الطبيعة المخلوقات، فقال للقلم اكتب. فصارت الطبيعة حروفاً لصنع العالم، وحدث الفتق بعد الرتق، وظهرت النفوس والعقول والأرواح، لا الحياة، السارية في الوجود. وهذا يفسر لنا لماذا لا تعني الروح الحياة، لأن الحياة صفة ملازمة للوجود ولا فائدة من إضافة الروح إذا كانت تعني الحياة لمن هو حي.
... ولكن حياة النفس الإنسانية إنما تعني الحياة بالصورة الإنسانية، المخلوقة بتركيب معين، والتي قبلت بهذا التركيب ظهور العقل والروح كحد أعلى لكمالها، بما نفخ فيها من الروح الإلهي بعد التسوية الجسدية. فالصورة الإنسانية صورة مبدعة من طبيعة حية.(1/320)
2 ـ إن النفس هي التي تموت كما يفهم من الآيات { ولا تقتلوا النفس } و { كل نفس ذائقة الموت } مما سمح لنا أن نستنتج، بأن المقصود هو هذا الجسد الذي يموت وتفنى صورته، بينما لا يصيب الموت الطاقة الممدة له، إلا إذا كانت أثراً من آثار الجسد. وإن المنطق يقودنا إلى القول بوجود طاقتين في كل المخلوقات، طاقة ذاتية، وطاقة إبداعية. الطاقة الذاتية هي ما به تظل الطبيعة طبيعة، أي عناصر، أو حروفاً قابلة لتأليف الكلمات كما سميناها تجاوزاً. والطاقة الإبداعية هي التركيب الذي به تصبح العناصر صوراً، أو كلمات. الطاقة الإبداعية الحيوية ستأتي في هذه الحالة بإمداد خارجي قد يكون ذاتياً من داخل الصورة المتكونة، ولكن الصورة المتكونة لن تقبل من هذه الطاقة، ولن تنتج إلا ما تحتاجه في كل مرحلة للنمو والنضج. ولهذا عندما لا ترتقي النفس الإنسانية وتظل في المرحلة الحيوانية، فإنها لا تستفيد من الطاقة الإبداعية إلا بالقدر الذي يساعد الجسد على تحقيق حاجاته الغريزية، التي لا تختلف عن حاجات الحيوان. وفي حالة الثبات هذه ستهدر الطاقة الإبداعية في أفعال حيوانية تؤدي بصاحبها إلى مزيد من الجهل والانحدار. ولكن بما أن الطاقة لا تتلاشى مثل الصورة المادية، وهي قابلة للتشكل وفقاً للحالة النفسية للإنسان، فإن الصورة البرزخية للإنسان بعد الموت قد تكون تابعة لحالته النفسية في الحياة. وهذا لا يتعارض مع إشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببعث الإنسان عند القيامة للحساب على صورته المادية من "عجب الذنب" الذي لا يفنى. إذ قال في إشارة لعودة الحياة بعد القيامة [ليس شيء من الإنسان إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة] (كنز العمال ـ 38915/ج14) فهل هي البصمة الوراثية، أو الإنسان في حالته الجديدة بعد الموت، التي يسمع بها ويبصر؟. الله أعلم. ولكنها إشارة تدل إلى ما به سيعود كل إنسان لتكوينه يوم الحساب.(1/321)
3 ـ إننا في إطار الحديث عن الطاقة كما نعرفها اليوم، فإنه قد تأكد لنا بأن الطاقة المصنّعة من المادة، لا يمكن استعادتها على شكل مادة، فالنفط المستهلك في توليد الكهرباء لا يمكن استعادته من الكهرباء. وربما سيكون بالإمكان تحويل الطاقة إلى مادة من جديد بالتبريد، ولكن ليس نفس المادة التي استهلكت في إنتاج الطاقة.(1/322)
... إذن مواصفات المادة يمكن أن تتغير من حال إلى حال، وأن تفقد في كل حالة صفاتها السابقة دون أن يكون هناك أي إمكانية لإعادتها إلى الحالة التي كانت عليها. وهذا يقودنا إلى نتيجة وهي أن ما به صارت النفس نفساً يمكن أن تصير بمستوى أعلى من الطاقة عقلاً، وبمستوى أعلى روحاً، عن طريق تجميع الطاقة الإنسانية وصرفها لأهداف عليا بدلاً من هدرها في الانحدار. وإذا كان من سمات المادة الإنسانية التنوع في العناصر والآلات والحواس لكي ندرك بها تنوع العالم المادي، فإن من سمات الطاقة التجانس وعدم التنوع، مع أنها صالحة لإمداد كل مادة بما تحتاج إليه وكأنها روح المادة. وسيكون من المؤكد أنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن ندرك بها الطاقة الكونية، مما يدل بأن كلّ شيء لا يدرك إلا بمثيله. ولهذا كان تركيب الإنسان من نفس مادية لإدراك العالم المادي، ومن روح لإدراك الروح الإلهية الخلاقة، وتقليدها بالإبداع الإنساني. وهذا ما يسمح لنا بأن نستنتج، أن النفس هي لسان الجسد في الإنسان، بينما الروح هي النافذة التي سيطل منها الإنسان الذي فتحها على عالم الحقائق الإلهية. بينما سيكون العقل مثل الميزان لترجيح الاختيار الحر للإنسان بين العالمين، لأن عالم النفس والروح كلاهما لا يسمحان بالحرية ولا يتيحانها لمن أقبل على أحدهما. فمن غرق في عالم الجسد والماديات سيُستعبد لها، ومن غرق في أنوار الروح وذاق جمالها الذي لا يوصف لن يستطيع العودة إلى عبودية الجسد أو العقل، وكيف سيعود وقد أصبح على دراية بعيوبهما وزلاتهما وأمراضهما. ولهذا حين قيل لأبي سليمان الداراني، إن بعض أهل المعرفة وصلوا ورجعوا، قال" لو وصلوا ما رجعوا، وإنما حرموا الوصول لتضييعهم الأصول" (1). فالمادة إذاً هي وسيلتنا لإدراك مادة العالم، والطاقة أو الروح هي وسيلتنا لإدراك روح العالم وطاقته.(1/323)
ولكن الروح كما أنها قادرة على إدراك عالم الروح فإنها قادرة على إدراك المادة، ولكنها لا تظهر في عالم الوجود إلا بثوب مادي. فإذا اعتبرنا طيران الطائرة روح الطائرة، فإن هذه الروح المبدعة لا تظهر إلا في المادة المصنوعة.
4 ـ لقد وصف الله النفس بأنها { أمارة بالسوء } و { لوامة } وقابلة للفجور والتقوى { فألهمها فجورها وتقواها } وبأنها سبب كل شر يصيب الإنسان، والأمة أيضاً { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (النساء/79). و { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } (الرعد/ 11). وكل الآيات تبيّن أن حدّ النفس وكمالها هو تجنب الشر وليس المعرفة، إذ أن كمال خيريتها سيكون في خضوعها للعقل وتجنب منازعته فيما لا علم لها به، والامتثال لما يأمر به. لأن النفس في حقيقتها لا تأمر إلا بالسوء { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } (يوسف/53). والسبب أن النفس لا تدرك من الوجود إلا ما يسعدها، وسعادتها تتمثل في الطعام والشراب والجنس، لأنها لسان الجسد الذي لا يلتذ إلا بما يماثله من الماديات، فالمعدة تطلب الطعام، والعورة تطلب العورة، وكل آلة وحاسة تطلب ما يماثلها، مما يجعل النفس مشغولة دائماً بتلبية حاجات الجسد، غائبة عن كنوز العقل والروح، ورافضة لها، ولما يفرضانه عليها من النظام والحرمان، ولهذا فهي في حالة صراع معهما دائماً، حتى يفرض العقل سلطته عليها. وحين تعرف بما عنده من العلوم، وتتيقن بفائدة قيادته لها، تدخل في مرحلة النفس اللوامة، حيث ستدرك جهلها، وفائدة العقل في قيادته لها، بحمايتها من الإقبال على اللذات المدمرة للجسد الذي تظن أنها تقوم على رعايته وتحقيق سعادته بتلبية كل ما يطلبه منها، بينما هي في الحقيقة تسرع في تدميره.(1/324)
فالنفس آلة تعكس ما يريده الجسد، ولهذا فإنها تظل في حالة مقاومة ونزاع مع العقل، لعجزها عن النظر لغير الشهوات حتى تستسلم كلياً وترضى بحكم العقل وسيادته عليها، وتذعن لما يفرضه العقل على الجسد من الاعتدال في الشهوات المشروعة. لأن النفس دون حكم العقل لا تهتم للشهوات إن كان حلالاً أو حراماً. ولهذا فهي { أمارة بالسوء } بالأصل بحكم طبيعتها وتركيبها، والجاهل معذور إذا لم يجد من يعمله. ولهذا جعل الله العقل معلماً للنفس، فإن أبت أن تتعلم منه فإنها ستكون قد استحقت العقاب الذي ستناله في الدنيا بتدميرها للجسد، وبعد الموت، بتعلق النفس بالماديات التي لا وجود لها في العالم الآخر، وبشهودها لكل الأعمال التي ارتكبتها كما تشير الشرائع. وإذا كنا لا نستطيع أن نحدد الحالة التي سيكون عليها الإنسان بعد الموت إلا بالإيمان بما ورد في الشريعة. فإننا نستطيع من خلال بعضِ الإشارات النبوية أن نستنتج بأن الإنسان سيتحول إلى طاقة كثيفة أو لطيفة تبعاً لأعماله. وبهذه الطاقة النورانية سيتمكن أهل الجنة من العيش في الجنة، بينما ستكون النار وسيلة تطهير أهل النار من خبث الشهوات لتأهيل من يصلح منهم للانتقال إلى الجنة، كما نخلص الذهب من التراب بصهره. وهذا ما نستنتجه من وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس عند مرورهم على الصراط في الآخرة، حيث سيكون بينهم السريع والبطيء والمتعثر والساقط على النار، بينما ستقول النار للمؤمن "جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" (كنز العمال ـ 39029/ ج14). ومن المعروف أن النور هو خلاصة النار والصافي منها، أي الطاقة الخالصة، فالتبديل الذي سيجري في الآخرة، والانتقال من المقامات، سينجز وفقاً لأسباب دنيوية تتعلق بصنع الإنسان لنفسه وتأهيلها إما للاندماج بالمادة والتعلق بها، أو الهجرة إلى عالم الروح حيث سيكون الصراط هو الميزان الذي سيحكم عنده الماضي على الحاضر، والدنيا في الآخرة.(1/325)
وإن ما وصف به حال أهل الجنة من قدرتهم على التمثل بأي صورة شاؤوا، وطعامهم الذي تكون فضلاته تعرقاً رائحته أطيب من المسك، كلها تؤيد تغير طبيعة الأجساد وتحولها إلى طاقة، وإن كنا نشهد بأنه لا أثر لأي فضلات للنبات رغم أنه يتغذى، وما ينتج عنه هو ثمار وروائح طيبة رغم أنه من عناصر الطبيعة، وكذلك النحل، فليس من الضروري أن يخلق الإنسان من غير الطبيعة، وأن يكون طاقة، لكي تتغير صفات غذائه وحياته وما ينتج عنه، فإن الله على كل شيء قدير. ولكن "التسوية" في كل عالم تقتضي عللاً وأسباباً لا تناسب العالم الذي نعيش فيه، ولا تزول الأسباب من العالم، ومن رفع الأسباب فقد رفع الحوادث، ولهذا فإن كل عالم يدور بأسباب لا يدور بها العالم الآخر. وهذا ما تثيره مسألة الخلود في الآخرة التي لا تتفق مع طبيعة التركيب المادي للأجساد، وإنما مع التركيب الروحي. ومن هنا تبدو العلاقة بين مقامات أهل الروح في الجنة حيث يوجد الأعلى والأدنى، وكذلك في درجات أهل النار تبعاً لكثافة نفوسهم البهيمية في الدنيا، إذ سيطير العالي بروحه، وسيهبط الثقيل بجسده حسب وزن أعماله إلى أسفل، كما يغرق الحديد في الماء بسبب كثافته. وكأن كل ما أكله الإنسان من حرام في حياته سيتجمع في جسده. وهذا ما يفسر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن ضرس الكافر سيكون في الآخرة مثل جبل أحد. فهل سيتاح لإنسان بهذا الوزن أن يعبرَ الصراط دون تعثر ومعاناة؟. ولكن هل تدرك النفس الحيوانية كل ما ستتعرض له من المعاناة والآلام في الدنيا والآخرة؟. من المؤكد لا، فكم من المسلمين انحرفوا وضاعوا عندما تسلطت عليهم شهوات النفس، وكم من الناس دخلوا السجون بسبب شهوات النفس، وكان بعضهم في أرفع المناصب، وكم يصاب من الناس "بالإيدز" كل عام رغم اتفاق الأطباء على أن الزنا والشذوذ سببه الرئيسي.(1/326)
وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفاحشة التي أكد نتائجها الطب في عصرنا قائلاً "ما ظهرت الفاحشة في قوم فعمل بها بينهم علانية إلا ظهر فيها الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم" (كنز العمال ـ 44014/ج16). وهذا لا يعني أن الفاحشة غير المعلنة لا تؤذي، ولكن الإشارة إلى العمل بالفاحشة علانية تدل على الفساد الذي وصلت إليه الأمة، مما سيؤدي إلى انتشار المرض فيها، بعكس الأمة التي تعارض الفاحشة، حيث ستكون النتيجة حصر المرض بقدر حصرهم للفاحشة. فهذا ميزان لحصاد الشهوات في الدنيا، ومع ذلك فإن كثيراً من النفوس رغم شهودهم للنتائج، لم يردعها عن الفواحش لا نصائح الرسل، حيث حرم الزنا في كل الأديان، ولا علم الأطباء مما يدل على جبروت النفس الإنسانية وطغيانها وسعيها لمجابهة العقل والتغلب عليه. ولهذا حرّم أي اختلاط بين الرجال والنساء إلا لضرورة، لأنه لا سبيل إلى منع الفواحش إلا عن هذا الطريق، ولأن ما لا يتحقق الواجب أو الخير أو الصحة إلا به يصبح واجباً، وهذا من بديهيات العقل، وإن شرع من اجتهد بتأويلات تخالف النص والعلم والطب وسلامة المجتمع، فنتائج حكم النفوس الحيوانية وحريتها تشهد عليه نتائج البغاء والانحدار والانحطاط التي وصلنا إليها على كافة المستويات الإنسانية، وحتى الشعرية، حيث اكتسح شعراء الإثارة الجنسية ساحات الفن مع انحدار المجتمعات وانحطاطها. وصارت دواوين الشعر الجميل والثقافة العالية بضاعة كاسدة.(1/327)
... وهذه هي الظلمة التي يطيب للنفوس البهيمية أن ترتع فيها، إذا لم يردعها العقل، وتُسلّم له، ليأخذها إلى اللذات التي تدوم, بدلاً من اللذات الآنية والقاتلة، ومنها لذة الأكل التي تنتهي بعد ابتلاع اللقمة، ولذة الجنس التي تنتهي بعد دقائق. إنها معركة الإنسان مع نفسه التي سيحسم فيها مصيره، وينتج بها ثماره، ويحدد من خلالها قَدره. ولهذا لا يتغير الناس حتى يغيروا ما بنفوسهم وينتصروا عليها، لأن النفس كما هي طبيعتها لا تأمر بخير إلا ما رحم بي. ولا تصل إلى هذا المقام إلا بعد المجاهدات والانتصار عليها، أي بالأسباب، فلا تطلب من الله العون على نفسك إذا كنت لا تستعين بعقلك عليها. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان. قالوا وأنت يا رسول الله؟. قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم] (كنز العمال ـ 1243 /ج1). وقد بيّن أن الشيطان "يجري في الدم"، أي في الجسد، وقال "ضيقوا مجاريه بالجوع" ونصح من لم يتوفر له المال للزواج بالصوم، مما يدل بأن شهواتنا الجسدية هي شيطان الإنسان الخاص الذي لا يأمر بخير إلا بعد الخضوع للعقل. ولهذا كان الحكم الإلهي { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً } (النساء/79). فبما أعطانا الله من التعقل والحكمة والروح سيأتينا الخير، وباتباع أهواء النفس سنكون قد حكمنا على أنفسنا، وإن كانت طبيعتنا الجسدية من الله، ومن هنا كانت حريتنا ومسؤوليتنا باتباع رسولنا الخاص العقل والروح، وشريعة الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ، أو اتباع هوى النفس، وكل ما فعلناه بقضائه وقدره، أي بما أعطانا من الإمكانيات والخيارات "لا برضاه" فالله لا يرضى عن الشر. فهو الذي { ألهمها فجورها وتقواها } (الشمس/7) ليختار الإنسان بين الطاعة والمعصية، وينال بما اختار المكانة والمكان.(1/328)
فقال للنفس المطمئنة، ولا تطمئن إلا بشهودها للحقائق عن طريق التصديق بما جاء به الرسل، أو التحقيق والشهود لعالم الروح، إذ كيف سيطمئن المكذّب بالحساب؟. فالطمأنينة لها أسبابها ونتائجها، وحكمها هو
{ يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخُلي في جنتي } (الفجر/ 27 ـ 30). فهذا هو جزاء ومكافأة(1/329)
{ من خاف مقام ربّه ونهى النفسَ عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى } (النازعات/ 40 ـ 41). فلكل دار أهل، ولكل مقام سكان. فلا تطمعوا بعفو الله إذا لم تتبعوا الرسل، ولا الحكمة، ولم تتعلموا، ولم تعلَموا، ولم تؤمنوا بالله، ولم تعملوا، لأن "المحب لمن يحب مطيع". وقد بيّن الله أن ثمار الطاعة لنا دنيا وآخرة. فماذا يفعل الله بطاعتكم وعذابكم { ما يفعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً } (النساء/ 147). لهذا فإن الله يفرح بتوبة عبده، أشد من فرح الإنسان بلقاء راحلته التي أضاعها. هذا هو المثال الذي ضربه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرحمة الله بالعباد، وحرصه على هدايتهم، وفرحه بالانتصار على نفوسهم. قال [للرب أفرح بتوبة أحدكم من رجل كان في فلاة من الأرض مع راحلته، عليها زاده وماؤه، فتوسد راحلته، فنام فغلبته عيناه، ثم قام وقد ذهبت الراحلة. فصعد مشرفاً، فنظر فلم ير شيئاً، ثم هبط فلم ير شيئاً. فقال: لأعودن إلى المكان الذي كنت فيه حتى أموت. فنام فغلبته عيناه، ثم استنبه، فإذا الراحلة قائمة على رأسه. فالرب بتوبة أحدكم أشد فرحاً من صاحب الراحلة بها حين وجدها] (كنز العمال ـ 10272/ج4). وجاء في الإنجيل "أي إنسان منكم له مئة خروف فأضاع واحداً منها.. يمضي في طلب الضال حتى يجده. وإذا ما وجده يحمله على مَنكبيه فرِحاً. ويعود إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران، ويقول لهم، افرحوا، معي، فإني قد وجدت خروفي الضال. فأقول لكم، هكذا في السماء. يكون فرح بخاطئ يتوب، أكثر مما يكون بتسعة وتسعين صديقاً، لا يحتاجون إلى توبة" (لوقا ـ 15/4 ـ 7). فالله لا يرضى لعباده العذاب إلا إذا اختاروه لأنفسهم، فهو نظام الأسباب السائد الذي سيفصل بين أصحاب النعيم والجحيم. وهو أشبه بنظام التطور للارتقاء من عالم الدنيا إلى الآخرة.(1/330)
5 ـ لقد أثنت أغلب الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر العقل عليه، ولم ترد إلا نادراً في ذمّه، مما يدل بأن العقل لا صلة له بالنفس إلا من قبيل قدرته على هدايتها وإرشادها إلى الخير عند إذعانها له والرضى بأحكامه. وهذا ما يفهم من تمييز الله بين من يعقل ومن لا يعقل. فالآيات الكونية لقوم يعقلون { كذلك نفصّلُ الآيات لقوم يعقلون } (الروم/ 28). بينما نفى عن الكافرين والضالين التعقل، ليس لأنهم لا يملكون عقولاً، ولكن بمعنى أنهم لم يستخدموها، وظلوا عند مقام النفس الحيوانية. فوصفهم الله بأنهم لا يعقلون. وقال عنهم { صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون } (البقرة/ 171). و { إن شر الدواب عند الله الصمُّ البكمُ الذين لا يعقلون } (الأنفال/ 22). و { يجعلُ الرجس على الذين لا يعقلون } (يونس/100) و { أفأنت تسمع الصمَّ ولو كانوا لا يعقلون } (يونس/ 42). لقد فرق الله بين العقلاء وغير العقلاء بالإيمان واعتبار الآيات الكونية. وهذا يدلنا بأن العقل كالناصح للإنسان لا يفيد صاحبه إلا إذا استمع إليه وعمل بنصحه، مما يدل بأنه على عكس النفس لا يأمر إلا بالخير. ولكن بعض العقلاء يكذبون على الله أحياناً، أو ينسبون إليه ما لا صحة له { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } (المائدة/ 103). وهذا يضعنا أمام مشكلة الطعن بالعقل، لأن الكافرين إذا كان "أكثرهم لا يعقلون" فإن بعضهم يعقل ويكذب على الله. فهل هذا استدراك لكي لا نحسن الظن دائماً بالعقل، أو بمن نظن أنه من العقلاء. لقد تغيرت صورة العقل في هذه الآية، ولكن هذا الحكم الإلهي له أسبابه، لأن حدود العقل وذروة معرفته تتعلق بإدراك العالم المادي وهو مع ذلك يخطئ ويصيب. يخطئ حين يحاول أن يدعي العلم بما وراء الطبيعة باجتهاده الخاص، وليس من علم الرسل، كما يفعل أغلب الفلاسفة. ويصيب إذا التزم بحدوده وعمل في مجال اختصاصه، وآمن بشرع ربه المقرر على ألسنة رسله.(1/331)
وإن ما يعرفه كل إنسان عن أخطاء العلماء وزلاتهم وما عرضناه في هذا الموضوع كافٍ للحكم على العقل، ولمن يحسب أن الذين يكفرون بالله من العقلاء. كما أن العقل يحتاج لمساعدة الحواس في علمه. وهذا يدل على نقص معرفته وعدم كماله.
6 ـ إن دور الروح ومكانتها في حياة الإنسان تدعونا للوقوف عند الآيات التي ذكرت فيها، وتأملها لفهم مغزاها. ولهذا سنحاول تتبع المناسبات التي ورد فيها ذكر الروح وكشف دلالاتها كما تبدو لنا. وهي:
1 ـ في أول مناسبة سئل فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الروح، جاء جواب الله { يسئلونكَ عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } (الإسراء/ 85). ومن المؤكد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف أمر الروح التي انكشفت له مع بدايات رؤاه التي كانت تأتي مثل فلق الصبح، وتحدثُ كما رآها، إلا أنه لأمر إلهي انتظر إجابة الوحي. وإن نص الآية يدلنا أولاً: بأن الروح من أمر الله، أي لم تحدث ولم تخلق عن توسط سبب كوني كما يحدث للأجسام المادية. وقد بيّن الله حكمه المطلق والشامل لظهور الماديات، فقال { وجعلنا من الماء كل شيء(1/332)
حي } وهو كناية عن توسط الأسباب المادية لظهور الصور العنصرية المؤلفة من عناصر الطبيعة. بينما عالم الروح هو من جوهر متجانس وخال من أي تركيب، ولهذا لا يحتاج ظهوره إلى علل وأسباب كما في إبداع الصور العنصرية الطبيعية، ثم إنه سار في الوجود مثل الروح في الجسد ولهذا لا يوجد بُعدّ أو مسافة بين الله وخلقه، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وكل روح هي من عالم الأمر. ولكن الروح لا تعني الحياة، لأنه لا فائدة من إضافة الروح بمعنى الحياة، وكل شيء يسبح بحمد الله، ولا يسبح إلا حي، كما وصف الله الوجود { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } (الإسراء). فالروح إذاً حقيقة مستقلة لها دورها في الوجود وفي حياة الإنسان. ولكن الله بيّن للسائلين عن الروح، أن من صفاتها أيضاً أنها لا تعرف بالعلم بالقليل، فكيف سيوضح الله لمن يجهل سر الروح، وينكر الوحي والنبوة، التي يتم بواسطتها التبليغ الإلهي للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهي طاقة لا تُشهد، والسائلون ليسوا مؤهلين لمعرفتها أو تذوقها. إذاً، الروح يمكن أن تعرف بالعلم الكثير والمناسب لها.
2 ـ وصف الله الروح بأنها انتقلت إلى جسد آدم الطيني عن نفخ من روحه، فقال للملائكة { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } (الحجر/29). وهذا يعني أن الروح الإلهية ستنتقل للجسد الإنساني عند اكتمال تسويته، لأن ما وهب لآدم قد وهب لذريته.(1/333)
3 ـ لقد وصف الله الروح دائماً بالصدق فيما تسمع وتشهد وتخبر، لأن الروح الإنسانية لا تتلقى إلا من الله إلهاماً من وراء حجاب، أو بوساطة الملائكة. وبهذه الروح عرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان، وتلقى القرآن الذي لا علم له به من قبل، كما تلقى الرسل شرائعهم. فقال الله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاءُ من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } (الشورى/52). وبه كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لا ينطق عن الهوى } وبه نزل جبريل أيضاً { نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين } (الشعراء/ 193/194) وبه تأيد عيسى وأمه - عليه السلام - { أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس } (البقرة/ 87، و253).
4 ـ إن الروح يمكن أن يتمثل بالصور، كما كان جبريل يظهر أحياناً في صورة الصحابي "دحية الكلبي" كما ورد. وكذلك تمثل لمريم
العذراء بصورة بشرية، وكلمها { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً (18). قال إنما أنا رسول ربكِ لأهبَ لك غلاماً زكياً } (مريم/ 17/19). وهو تكريم لعبادتها وعفافها. فجعلها الله وابنها آية للعالمين، لكي لا يزعم القائلون أن الله لا يخلق إلا باجتماع الذكر والأنثى، أو إن الخلق من صدف الطبيعة. فكما خلق الله آدم من دون أم، فقد خلق عيسى من دون أب.
5 ـ إن الروح يمكن أن تنزل على غير الرسل والأنبياء، لتثبيت الذين آمنوا واستقاموا، وطمأنة قلوبهم، لأن العابد عندما يتلقى بشارة من الله سيرتقي بإيمانه من حسن الظن إلى اليقين. وهذا هو التثبيت الذي يتم بانفتاح عالم الروح. وقد تكررت الآيات التي تشير إلى مثل هذا الاتصال بالعباد. فقال الله { قُلْ نزَّلهُ روح القُدسِ من ربِّك بِالحقّ ليثبّتَ الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين } (النحل/ 102).(1/334)
... وقال { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } (النحل/ 2) و { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق } (غافر/15). وقال { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادَّ اللهَ ورسولهَ.. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيَّدهم بروح منه } (الحشر/22). وقد شجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على العمل لشهود ليلة القدر التي وصفها الله بأنها { خيرٌ من ألف شهر } فهي أفضل من عمر الإنسان بكامله فيما لو عاش ألف شهر. وأخبرنا الله عما يحدث فيها. فقال { تنزّلُ الملائكة والروح فيها } (القدر/4). فهذا الوصل الروحي للإنسان مع الله هو غاية الغايات، وجوهر الحياة الإنسانية ومعناها الذي ستتحقق به إنسانية الإنسان وخلافته في الأرض، بتحويل جسده إلى معبد، وعقله إلى محراب، وروحه إلى أرض لهبوط الملائكة، وحواسه إلى منظار لشهود الآيات الإلهية في نفسه وفي الآفاق. ولكن من يسمح له الزمان بذلك، والنفس تريد أن تستولي على الجسد والإنسان، والأطماع تريد أن تجعله آلة للإنتاج، والأولاد يريدون منه أن يكون بقرة لإطعامهم حياً وميتاً؟. فمن سيستقيم له الأمر، ويصفو معه الزمان، لينفرد مع روحه ويطير بها في العوالم، غير قلة نادرة من المغامرين الأفذاذ، الذين يكونون غالباً لا شأن لهم في المجتمع، لأنهم باعوا الدنيا وما فيها بإطلالة واحدة من عالم الروح، إلا من أمره الله بالجلوس بين الناس لهدايتهم؟. هؤلاء وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالغرباء، وقال عنهم [رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرَّه] (كنز العمال ـ 5925 / ج3). فمن سيبادل الدنيا بالآخرة، ومتع الجسد بشهود الروح غير قلة نادرة.(1/335)
6 ـ لقد وصف الله الروح بالسرعة في قطع المسافات، فقال { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنة } (المعارج/4). وهي نسبة رمزية للدلالة على سرعة حركة الروح. والروح الإنسانية من الله، وقد وصف الله نفسه بأنه نور فقال { الله نور السموات والأرض } (النور/35). ومن المعروف الآن بالحسابات العلمية أن سرعة الضوء [300.000 كم/ثا]. والروح أسرع من ذلك، وهي أشبه بسرعة انتقال الإنسان بفكره من الأرض إلى أبعد نقطة في الكون.
7 ـ لقد قال الله بأنه نفخ في الإنسان من روحه بعد تسوية جسده، وأمر الملائكة بالسجود للإنسان بعد سريان الروح الإلهي في جسده { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } (الحجر/29 ـ 72). وهذا يقودنا لعدة ملاحظات. فما دام الله قد نفخ من روحه في الإنسان بعد تسوية جسده مباشرة فلماذا لا تظهر آثار الروح إلا بالمجاهدات. هذا ببساطة يشبه من صنع محركاً كهربائياً ولكن المحرك لا يعطي النور إلا بعد تدويره بسرعة معينة، فهذه هي المجاهدات التي لابد منها لظهور نور الروح.(1/336)
... السؤال الثاني، ماذا يعني سجود الملائكة للإنسان. هل هو للطبيعة التي تكوّن منها، أم للروح الإلهي؟. من الواضح أن الأمر بالسجود جاء بعد نفخ الروح في الجسد، أي لروح المعرفة. والسجود هو تسخير المناسب لما يناسبه، ولهذا لا تنزل الملائكة إلا على من ظهرت روحه بمجاهداته لتكون له عوناً، كما ينزل العالم على طالب العلم، وكما تنزل الشياطين على الظالمين { هل أُنبئكُمْ على مَن تَنزَّلُ الشياطينُ. تَنزَّلُ على كلّ أفاك أثيم } (الشعراء/ 221 ـ 222). بمنحة الحرية سينال كل إنسان مطلوبه، ونزول من يريد أن ينزل عليه، وبقدر ما يريد، والعلم والنور ليس لهما نهاية، ومتع الجسد لها نهاية في الدنيا بالعجز والضعف، وبعد الموت بعذاب الحرمان من الماديات التي تآلف معها واعتاد عليها، وبالحساب في الآخرة، بينما عندما نتوصل إلى معرفة الأشياء، نبدأ بالإبداع الذي لا ينتهي. وهذا هو الفرق بين متعة من يأكل ومن يبدع.
8 ـ ما هي حدود علوم النفس والعقل والروح في الإنسان؟.
... حسب النص القرآني { وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها } )(البقرة/ 31). وفي شرح الألوسي "المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية" (2). وبما أنه لا يوجد شيء من دون اسم، فإن علمَ آدم بالأسماء، هو العلم بالوجود ظاهراً وباطناً دون استثناء. وفي بيان الله للملائكة عن الحكمة من خلق آدم، حسب تفسير الألوسي "فكأنه قال جل شأنه ـ أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم ـ أي خلق الملائكة ـ فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلابد من إظهار من(1/337)
تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي" (3). وهو آدم، الإنسان، المؤهل لخلافة الله في الأرض. ولكن هل سينال كل إنسان الخلافة؟. سيحيل الله كل إنسان إلى عمله لكي يحدد موقعه ومرتبته بعد أن اكتمل في الإنسان بالروح الإلهي كل ما يقتضيه علمه بالوجود والخير والشر، أي علوم النفس والعقل والروح. إذ بمعرفته بالشر وقدرته على ممارسته، وترفّعه عن ارتكابه رغم ما قد يحققه له من الأغراض النفسية، سيخرج من عالم جسده إلى عالم الحق والنور ليلاقي الروح الإلهية السارية فيه، وهي الغاية من خلق الإنسان التي لا تتحقق إلا بالحرية والمعرفة المعطاة للإنسان. هذه الحرية التي علم الله بأنها ستؤدي إلى انقسام الناس إلى أربعة أصناف، وبين كل صنف وصنف أصناف ودرجات ومراتب، الأصناف كما يفيدنا القرآن هم:
آ ـ خلفاء الله في الأرض وهم الرسل { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } (البقرة/30). ويدخل في الخلافة من سار على نهجهم ووصل إلى علم الروح. فهؤلاء هم الخلفاء سواء عرفهم الناس أم لم يُعرفوا.
ب ـ العقلاء الذين تهديهم عقولهم إلى الإيمان بالله ورسله، وبما جاؤوا به من الشرائع. فهؤلاء يأخذون دليلهم مما يقود إليه العقل من الاستنتاجات المنطقية، وإن غاب عنهم علم الوحي وأسراره. فهم عقلاء بإيمانهم.
ج ـ الناس البهائم، وهم الذين يعيشون كالبهائم، لا يفكرون ولا يعقلون، وحياتهم تشبه حياة الحيوانات. فهم يعملون ويأكلون ويتناسلون، وفيهم الشرس والأليف كما في الغابة. وهم كالدواب لا يفكرون بأكثر من حاجاتهم الجسدية والغريزية، فإذا أشبعت كانوا مسالمين وراضين بدورهم في الحياة، فهؤلاء جعلوا معبودهم مُتعهم وهواهم. وهم الذين قال الله عنهم: { أَرأيتَ من اتخذَ إلهه هواهُ أَفأنتَ تكونُ عليه وكيلاً. أمْ تَحسبُ أنَّ أكثرهم يسمعونَ أو يعقلونَ إنْ همْ إلا كالأنعامِ بل همْ أضلُّ سبيلاً } (الفرقان/ 43 ـ(1/338)
44). هذا الصنف درجته في السلوك والمعرفة كالدواب، لأنهم وإن كانوا من العلماء فإن هدفهم في الحياة هو تحقيق متعهم الدنيوية البهيمية.
د ـ الناس الذين هم أسوأ من البهائم والذين يدخلون تحت عبارة { بل هم أضل سبيلاً } هؤلاء هم الذين تجاوزوا سلوك الحيوانات. فإن أشرس الحيوانات تقتل عندما تجوع لتأكل، وتتناسل بشكل تقليدي، وتتعاون الأنثى مع الذكر لرعاية الأبناء. أما هؤلاء الذين هم أسوأ من الحيوانات ماذا يفعلون؟. إنهم يقتلون أبناء جنسهم بشكل مباشر أو غير مباشر لا لجوع ألم بهم أو بدولهم، ولكن لزيادة ثرواتهم، وهذا ما لا تفعله الحيوانات. كما إنهم لسيطرة الهواجس الجنسية عليهم يتفننون في هذه الممارسات، ولا يردعهم رادع، وصولاً لأسوأ درجات الانحطاط. وهم إضافة لذلك يتهربون من تحمل النتائج عندما يولد طفل من أصلابهم، وغالباً فإنهم يسعون إلى قتله قبل أن يشاهد النور. إنهم حيوانات في صور بشرية، وكثيرون منهم مع الأسف صاروا يحكمون ويقررون مصائر البشرية ومستقبلها، ومشت موضة المصلحة، وصار من سيقدم لشعبه طعاماً أكثر، وحرية جنسية أكبر، هو البطل الذي سيفوز في الانتخابات، بينما يموت الحكماء، ويقتل الأطهار، ولا يدري بموتهم سوى قلة لا حول لهم ولا طول، لأن قصص الفضائح وعروض الإثارة، أصبحت الغذاء السائد لعقول مليارات البشر. وهكذا تجاوز كثير من البشر في عصرنا ما تفعله البهائم، بل إنهم نظّروا وتفلسفوا لهذا الانحدار، وأثنوا عليه، واعتبره بعضهم قمة التقدم، ودليل الحرية والديمقراطية. وهذا ما سيؤدي إلى دمار البشرية بالحروب التي تشنها الدول على بعضها بسبب المصالح والمكاسب، وبعد توفر الأسلحة الفتاكة التي سيضطر الطرف الخاسر ذات يوم إلى استعمالها.(1/339)
وهكذا سيلتقي المعقول بالأسباب، والمنقول عن توقيت القيامة وعلاماتها، ومنها ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطريق] (كنز العمال ـ 38585/ج 16) و[والفاسق يتكلم في أمر العامة] (كنز العمال ـ 3810/ ج14). وهذا ما آل إليه زماننا، فمن يحكمون العالم ينشرون الفسق والرذيلة والحروب، لأن كل تجارة تدر المال أصبحت مشروعة، والويل لمن يعارضهم وإن كانوا عند التدقيق أسوأ من الحيوانات. والخلاصة كما قال الله: { قلْ كلٌّ يعمل على شَاكلتهِ } (الإسراء/84)، فهذا زمن من { هم أضل سبيلاً } من الحيوانات، الذين لم تشبعهم المليارات التي يملكونها، ولا الإباحية الجنسية التي نشروها بين الجنسين، بل باتوا يبتكرون ما هو أسوأ من الزنا، ويقترحون الانحراف والشذوذ لمعالجة العقد النفسية، كما يزعم الفرويديون ويخططون. فالسعادة لا يمكن أن تتحقق للإنسان، كما يبشرون، إلا بالحرية الجنسية المطلقة، والانحدار في عالم المتع الجسدية، والتمرد على كل رادع ديني أو أخلاقي أو اجتماعي؛ لإزالة الكبت الجنسي، الذي هو السبب الرئيسي للأمراض النفسية، حسب وصفاتهم. إذاً لكي لا تمرضوا تصرفوا كما يحلو لكم. فهذا هو الطبيب الذي جعل داء الفساد والانحلال الخلقي دواء، فزاد الداء واستشرى. وهو طبّ عجيب، يشبه من اقترح معالجة السرقة بإباحتها. وهكذا تجاوز بعض الناس، مع الأسف، حدّ المساواة مع الحيوانات حين جعلوا إلههم هَواهم وغرائزهم.(1/340)
9 ـ لقد وصف الله ذاته بأنه ذو نفس، وبأنه ذو روح، ولم يصف ذاته أنه ذو عقل، لأن العقل إنما يفيد في إدراك مستوى معين من العلم، فعلم العقل يدل على المحدودية، والله هو العليم على الإطلاق، فكيف ستصح المقارنة بين المحدود والمطلق، ولهذا يوصف الله بالعليم، ويوصف العقل بالعلم، لأن علم العقل فرع من العلوم، وصفة من صفات العليم وتجل من تجلياته، فهو فرع إنساني من أصل إلهي. ولكن ما هي نفس الله التي حذرنا من التفكير فيها بهدف معرفتها، فقال: { ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } (آل عمران/ 28). { ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } (آل عمران/ 30). ما هي الغاية من هذا التحذير؟. إننا من النفس الإلهية عرفنا الخير والشر، فالنفس الإلهية هي نفس العالم التي تمد كل مُبدَعٍ بقابلياته، ولهذا قيل الذات تُشهد ولا تعرف. فالتحذير كما يدل عليه سياق الآية لأن { الله رؤوف بالعباد } . فلرأفته بهم نصحهم بالابتعاد عن محاولة البحث في نفس الله، لأنها لا تعرف، وإن شاهدنا بعض صفاتها في المخلوقات. وإذا كنا لا نعرف نفوسنا وما سنفكر فيه غداً فكيف سنعرف "نفس الله".(1/341)
فالتحذير كان رحمة. لقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه "العجز عن درك الإدراك إدراك" فإذا كان لكل معرفة حداً، فإن الوقوف عند حدودها وعدم تجاوزه هو علم وحكمة وإدراك لما نحاول أن ندركه. ولكن هل النفس الإلهية تتعرض لما تتعرض له كل نفس. هنا أيضاً يجب أن نتوقف عن المقارنة لأن نفس الله هي نفس العالم، والعالم لا بداية له ولا نهاية. وهو لا يرضى لعباده إلا الخير، كما لا يرضى الصانع لمصنوعاته أن لا تقوم بأداء العمل الذي صنعها من أجله. وقد حدد الله غايته من خلق الإنسان فقال: { وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون } (الذاريات/56). وقال ابن عباس في تفسيره، أي ليعرفون. ومن يعرف الخير سيسعى إليه، ومن يعرف الشر سيتجنبه، ولهذا منح الله الإنسان أسرار المعرفة التي سيستحق بها العارفون الخلافة. ولهذا قال { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } (الزمر/7). وجاء في الحديث: [قال الله تعالى: يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا.. يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (كنز العمال ـ 43590/ج15). فأين المقارنة بين نفوسنا المحجوبة بظلمة الجسد وشهوات الغرائز، وبين نور الذات الإلهية الذي يضيء العالم. وقد ذهب أغلب المفسرين إلى أن الآيات { ويحذركم الله نفسه } هي للتحذير من غضب الله على الذين يخالفون ما أمر به، وهذا حكم على نتائج المخالفة. وهذا يكمل قراءتنا للأسباب التي سيصنعها الجهل الذي سيقود حتماً إلى البلاء، فالمعرفة نعمة، بل هي أعلى النعم التي جاء بسببها تسخير الملائكة لخدمة الإنسان ومساعدته، بينما سيحرم الجاهلون من هذه النعم التي رفضوها حين استبدلوا المعرفة بالمتع الجسدية الزائلة.
من النفس إلى العقل إلى الروح
ما الذي نستخلصه من هذه الملاحظات؟.(1/342)
إن جسم الإنسان هو الذي سيولد الطاقة للكشف عن المعلومات "الأسماء" الكامنة في أعماقه. وبهذا المعنى فإن المعرفة "تذكر" كما قال أفلاطون. وإن دور المعلم هو مساعدة التلميذ على اكتشاف ما بداخله، وليس إدخال علم جديد غير موجود عنده. هو أن نتعلم كيف نوجه الطاقة التي فينا ولا نبعثرها فيما لا يفيد، وعند ذلك سنترقى من النفس إلى العقل إلى الروح إذا أردنا. وإن نظريات الذكاء لا صحة لها، فقد خلق الله الناس كاملين من حيث القابلية، إلا من أصيب بعاهة مرضية. وإن البيئة ستساهم في التربية، كما تؤثر البيئة على النبات والثمار. وإن إعداد الروح للاتصال يشبه حالة جهاز الراديو أو التلفاز، فكما أنه لا بد من طاقة مناسبة وتوجيه صحيح للجهاز، لكي يستقبل بث المحطات، فكذلك الجسم الإنساني يحتاج لهذه الطاقة والصفاء لكي يتلقى البث الكوني الدائم. فالجهاز والطاقة لدينا، وما علينا إلا أن نتوجه بأرواحنا لكي نلتقط ما تتيحه لنا طاقتنا الروحية من الاتصال بالسمع، أو البصر، أو الشم، أو باقي الحواس، لأن كل حاسة ظاهرة، لها بصيرة باطنة لا تظهر إلا على مراحل تتناسب مع المجاهدات. فالإنسان بتكوينه جاهز للاتصال إذا أراد، ومعرفته بداخله وطاقته كذلك. و"من عرف نفسه عرف ربه". فالسر فينا، والظلمة تحكمنا حتى نمحوها بنور العقل أو نور الروح. وهذا هو الحجاب الذي يحول بيننا وبين الاتصال. إنه إتلاف الطاقة في طلبات النفس، ومنعها من التحول إلى نور ساطع. ألا نلاحظ أن المحرك الكهربائي المعطل، يستهلك كمية أكبر من الوقود، ومع ذلك لا ينتج غير الدخان، مع أنه مصمم لإنتاج النور. ولكن هل النفس أو العقل أو الروح، كانت قبل الإنسان. نعم كانت قبل خلق آدم وقبل تسوية جسده فكرة "خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام".(1/343)
ولكنها بعد الفيض الإبداعي، صار الإبداع آلياً وإنسانياً عبر تحولات العناصر المقررة في برنامج الخلق، وسواء كان النفس أو العقل أو الروح سينفصل عن الجسد عند الموت أو سينفى بموته، فهذه ليست قضية إشكالية بالحجم الذي أثارته الفلسفة، لأن الصانع الذي صنع الإنسان، قادر على إعادة صنعه من جديد حتى لو مات كل شيء فيه. والأقرب للواقع أن ننظر إلى حياة الإنسان عبر تحولاتها المتنوعة في الآخرة كما في الدنيا، كمراحل من عملية تطور خلاق لا نستطيع أن ندرك نهايتها وأبعادها، إلا بتصديق ما جاء في الكتب السماوية حول هذا الموضوع، سواء فهمناه بمعانيه الرمزية، أو الحرفية، فعلمنا في هذا المجال محدود، ولا يرقى إلى مستوى الحقيقة فيما يتعلق بتفاصيل النشأة الآخرة. وليس لدينا أي دليل نعتمد عليه بشأن تفاصيل الحساب والثواب والعقاب غير ما أخبر به الرسل، وإن كنا على يقين من البعث والحساب. وإن العقل لا يستطيع أن يتوصل إلى فهم الإشارات الدينية حول مصير النفس والعقل والروح بعد الموت. ولا طبيعة عودة النفس وحياتها، وخطاب الله لها { يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية } (الفجر/27)، وكلام رسول الله عن أرواح الشهداء بأنها في أجسام طيور الجنة. وكذلك خطاب الله لذرية آدم وهم في صلبه، { ألست بربكم } وحالتهم بالنسبة لما تفهمه العقول أشبه بالعدم. وكذلك خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأموات. وجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله { وهل يسمعون؟. } قائلاً { ما أنت بأسمع منهم } . فالعقل يسأل هل الأرواح في الأرض أو السماء؟. ولا توجد أدلة على مثل هذا السؤال وإن وجدت أجوبة. ولو شاء الله أن يقدم أدلة مفهومة لكل إنسان عن الحساب لقدّم، وعند ذلك ستبطل الحكمة من الامتحان.(1/344)
ولكن الله أراد أن يبدأ الناس من التصديق بما جاء به الرسل، وحسن الظن بهم، حتى يصلوا إلى اليقين والمشاهدة بالروح، لأن طبيعة الإنسان تتطلب دوام الترقي. وهذا هو امتحانه الصعب. لأن الناس منهم البطيء والسريع، ولهذا أعدت منازل الآخرة لرحلة جديدة من الترقي عبر المعرفة، بالنعم للعارفين، وبالمعاناة والعذاب للجاهلين للتخليص من شوائب المادة التي لا تساعد الروح على الانطلاق إلى جنات النعيم. وهذا ما يجعلنا ننظر إلى النفس والعقل والروح كعناصر كامنة في الجسد، لا تظهر إلا بظهوره. والجسد هو الذي سيحول الطاقة التي ينتجها إلى مفاتيح لإشعال شهوات النفس أو نور العقل أو أنوار الروح الإلهية. وعندما يموت الجسد سيتابع الإنسان مسيرته بالمركبة الجديدة التي أعدها لنفسه في عالمه الجديد، حاملاً معه المعاني التي عاشها في حياته الدنيا، والأهداف التي سعى إليها. وهذه المؤهلات هي التي ستحدد له سير مركبته ومكان هبوطها، كما يحدد الثقل النوعي للمواد من سيطفو منها على سطح البحر، ومن يغوص في أعماقه. فالروحانيون سيطيرون بأرواحهم إلى حيث شاؤوا، والماديون سيهبط بهم ثقل أمتعتهم ويمنعهم من الطيران حتى يحترق ما بهم من الأوهام والضلالات النفسية. فلكل فعل رد فعل، ولهذا سيحل المنتقم في دار الأشرار ليردّ لهم ما اقترفوه بحق الآخرين حتى يستقيم الميزان، ويتحقق الاعتدال، ويستمر الترقي. إنه مصير الإنسان وقدره الذي سيظل في رحلة دائمة بين العوالم منذ كان في عالم الذر شبحاً في باطن العالم إلى وقت ظهور جسده وتسويته ونفخ الروحية لإلهية فيه، ليكون أهلاً لحمل الأمانة المعرفية، التي بسببها أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وذريته عندما تفوق عليهم بعلوم لم يعلموها { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال أَلم أقلْ لكم إني أعلم غيبَ السموات والأرضِ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمونَ.(1/345)
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } (البقرة/33 ـ 34). إنها نار الكبرياء التي تمنع الجاهل من الخضوع لمن هو أعلم منه، وتمنع النفس من الخضوع للعقل، وتمنع العقل من الخضوع للروح. وما أكثر الشياطين التي سترفض علم من هو أعلم منها بسبب الكبرياء، وتجبٌّر النفوس، مستخدمة حجج إبليس وتبريراته { قال لم أكنْ لأسجدَ لبشر خلقتَه من صلصال من حمإ مسنون } (الحجر/33). كلها حجج سيجتهد بعض الناس في ابتكار العديد منها لرفض الإيمان. هذا لأن الرسول ليس من قومه، وهذا لأن القرآن لم ينزل على زعيم معترف بزعامته. وهذا لأن شهواته سحرته، وهو لا يسمع صوت عقله، وهذا لأن إعجابه بعقله دفعه لقتل روحه الإلهية وعدم الالتفات إليها. والغرور سلطان الجاهلين الذين يتنعمون بجهلهم كما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم(1/346)
فكيف سيخرج من أصابه الغرور، بأصله أو نسبه أو علمه أو ماله أو جسده، إلى ساحات العلم راضياً بدور التلميذ المتواضع الصامت، وهو ربما من فقهاء الكلام، وخبراء البلاغة، الذين حفظوا قواميس اللغات شرحاً وإعراباً؟. كيف سيؤمن بنبوة ورسالة، وهو عابد لهواه؟. ألم يجعل إبليس النار ربّاً له، وكان سيرضى بالسجود لآدم لو خلق من نار، وربما لغروره، لو خلق الله الإنسان من نار لقال في نفسه كيف أسجد لمن هو مثلي؟. فمن يعبد هواه لا يؤمن إلا برب من صنعه، فكيف سيدخل مثل هذا جنة المعرفة وهو مسحور بما في نفسه من أوهام؟. إنها مشكلة الأبواب المغلقة التي لا تفتح إلا للمتواضعين. إذاً على النفس أن تخضع للعقل وأن تتعلم منه، وعلى العقل أن يخضع للروح ويصغي إليها، وعندها ستنزل ليلة القدر على السالكين التي تفوق في أهميتها عمر الإنسان بكامله، فهي { خيرٌ من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلامٌ هي حتى مَطلعِ الفجر } (القدر/3 ـ 5). فمن شهدها سينعم بالسلام والاطمئنان، حتى يشرق فجر حياته في آخره ليس فيها منغصات الدنيا وهمومها. ولهذا يفرح المؤمنون بالموت وإن كانوا لا يطلبونه، لأن الموت حياة المؤمن، وجحيم الكافر. تصوروا ما هو حال الكافر الذي يبشره طبيبه بالموت الوشيك كيف يحزن ويتألم؟. بينما ستضحك فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهي الكاملة، عند إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، وهو على فراش الموت، بدنو أجلها. عن عائشة قالت" قلت لفاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رأيتك حين أكببت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فبكيت ثم أكببت عليه ثانية فضحكت! قالت: أكببت عليه فأخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أكببت عليه الثانية فأخبرني أني أول أهله لحوقاً به، وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ابنة عمران، فضحكت" (كنز العمال ـ 37730/ج13) وقد توفيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر.(1/347)
فكيف ستبحث من هي في مثل حالها وأخلاقها وإيمانها ورغبتها في اللحاق بوالدها عن دنيا فانية، وإرث. وهي التي جاعت مع علي رضي الله عنهما ليطعما الفقراء حتى إفطار الصيام؟. هل هؤلاء هم الذين سيبحثون عن دنيا، ويحاربون من أجلها، وليالي قدرهما النازلة عليهما، كانت تدفعهما لانتظار فجر الآخرة، لا نعم الدنيا؟! ولكن [الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا] كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وكل إنسان سيقيس الناس بمقياسه، فكيف سيصدق الضالّ والكافر بأن الدنيا ليست هي غاية المؤمن، وإنما وسيلته لبلوغ هدف أسمى. ولهذا لن يفهم هؤلاء سر ابتسامة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهي تتلقى البشارة بالموت القريب، حيث ستشرق حياة جديدة. ولن يفهموا سر قبول علي رضي الله عنه بحكم قاضيه شريح على سارق درعه بالبراءة، وهو الخليفة، فكيف سيفهمون سر رضاه بحكم خلفاء المسلمين وتعاونه معهم ونصرته لهم؟! وكيف سيفهمون قوله لابن عباس حين دخل عليه في خلافته، وهو يخصف نعله. فسأله علي "ما قيمة هذا النعل. فقلت: لا قيمة لها... فقال عليه السلام: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"(1). ولهذا لا يرغب المؤمن في الخلافة والإمارة إلا "لإقامة حق أو دفع باطل"، فالخلافة والإمارة بحاجة إليه ما هو بحاجة إليها. ولكن كيف سيفهم المفتونون في الدنيا معنى زهد الزاهدين، وتعففهم عن غنائم السلطة، وتجنب عمر وعلي رضي الله عنهما التوصية بالخلافة لأحد أبنائهما استجابة لطلب من اقترح عليهما ذلك. فقال عمر "بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد". وقال علي "أترككم كما ترككم(1/348)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (كنز العمال ـ 36562/ج13). هذه هي ثمار الروح التي لا تظهر لغير المتقين. "لو علم الإنسان ما كان بعد الموت ما تمنى الحياة في الدنيا، ويقول بين يدي كل لحظة ولمحة يا رب أمتني... ثم قال لي... نم عندي لا كنوم العوام ترني. فقلت يا ربِّ: كيف أنام عندك؟. قال بخمود الجسم عن اللذات، وخمود النفس عن الشهواتَ. وخمود القلب عن الخطرات. وخمود الروح عن اللحظات. في فناء ذَاتِك في الذات.. ثم قال لي: خلقت العوام فلم يطيقوا نور بهائي فجعلت بيني وبينهم حجاب الظلمة. وخلقت الخواص فلم يطيقوا مجاورتي فجعلت الأنوار بيني وبينهم حجاباً... ثم قال لي: قل لأصحابك من أراد منهم أن يصل إليَّ فعليه بالخروج عن كلِّ شيء سوائي... ثم قال لي: اخرج عن عُقبة الدنيا تصل بالآخرة، واخرج عن عُقبة الآخرة تصل إليَّ... ثم قال: اخرج عن الأجسام والنفوس. ثم اخرج عن القلوب والأرواح. ثم اخرج من الحكم والأمر تَصلُ إليَّ... ثم قال: إذا أردت أن تدخل حَرَمي فلا تَلتفتْ بالملك والملكوت ولا بالجبروت، لأن الملك شيطان العالم. والملكوت شيطان العارف. والجبروت شيطان الواقف، فمن رضي بواحد منهما فهو عندي من المطرودين"(2). فمن سيغامر بالسفر إلى مدينة الروح، وهي لا تفتح أبوابها إلا للعاشقين المتيمين، وكيف سيعشق الإنسان ما لا يعرف؟ إن كل حركة باتجاه الروح تفتح الأبواب على حيرة المعرفة والعارف والمعروف. بينما تضعنا النفس وجهاً لوجه أمام حاجات الجسد، وعندما نأخذ ما نريده ونبلغ حد الإشباع، نزهد فيما كان مرغوباً وربما نزدريه، وربما سنصاب بالغثيان، وقد ينتابنا الشعور بالإحباط مما ظننا أنه سيحقق لنا السعادة التي كنا نرجوها، وهذا ما يقلق النفوس ويعذبها دائماً.(1/349)
الشعور بالفراغ بعد الامتلاء، والإحساس باللاجدوى من الإشباع المادي للجسد، ومحدودية الخيارات المتاحة للنفس، والممثلة بالطعام والجنس، والتكرار الممل، المهين أحياناً، لإشباع هذه الرغبات. إن النفس تدرك أحياناً شقاءها ومعاناتها، فتنظر إلى العقل لإخراجها من أزمتها وعذابها. ولكن العقل سيطالبها بالتضحية بما تعتبره سر سعادتها وجوهر وجودها. سيطالبها، بالتعالي الذي فُطر عليه، إلى اتباعه وطاعته، وتسخير الجسد والنفس للارتقاء إلى مستوى معرفته وأسئلته. ولكن النفس ستكون كالولد الغادر، تخضع عند الإشباع واليأس، ثم تتمرد من جديد كلما اشتدت المثيرات المادية في التأثير عليها. ولأن العقل لا يملك أجوبة على كل الأسئلة التي يثيرها في أعماقه. ستجد النفس سبباً للتمرد، وكأنها تقول له: إذا كنت أنت نفسك الذي تطالبني باتباعك لا تعرف الجواب على كلّ الأسئلة التي تثيرها فكيف سأطمئن إليك وأضحي بما أعرف أنه يسعدني، ولماذا لا تأتي أنت معي إلى عالمي وتساعدني على تحقيق متعي بدلاً من النظر إليها بازدراء واحتقار؟. وسوف ينساق العقل إلى الاستسلام أمام تحدي النفس وإغراءاتها، كلما تضاءلت معرفته. ولهذا لا تصمد العقول غير المحصنة بالمعرفة العالية أمام الإغراءات الدنيوية. فكان لا بد لكل شريعة من تحصين العقل بالمعرفة لتدريبه على مواجهة النفس، وصدّ هجماتها الشرسة والماكرة لخرق قوانين العقل وتحطيمها، فبدأت كل شريعة بـ { اقرأ } لتعرف، وتعبر الجسر المنصوب فوق ظلمات النفس، وتخرج منه إلى نور العقل. وبإغراء من هذا النور يبدأ الإنسان العاقل بالبحث عما وراء الطبيعة فتزجه الحيرة على أبوابها حتى يصل إلى الله. فإن وصل سيعرف بأن الله لا يُعرف، إلا بما يراه من إمداد الروح المذهل. فينام في حيرته نوم الأشباح التي تطير من شهود إلى شهود، مستمتعة بحيرتها وذهولها، وطالبة له.(1/350)
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: [زدني فيك تحيراً] (الفتوحات المكية ـ 265/ج6). إنها حيرة المعرفة في العارف والمعروف التي تتجلى عند شهود الفيض لإبداعي في الأكوان ببصيرة الروح التي تسبح في فضاءات اللامتناهي، وإن كان العالم متناهياً، ولكن الإبداع هو الذي لا يتناهى. وهو مطلوب أهل المعرفة ليقولوا [زدني فيك تحيراً] فيما نشهد، فيصبح مشهودهم من فرط الذهول المبدع العظيم. فلا يشاهدون غير المبدِع في الإبداع. فيقول العارفون: "الله" عن حيرة وخبرة فيما يشهدون. ولا يقولون "يا الله"، لأن النداء بُعد. وهم معه وعنده، عندما اتسع قلبهم له. فطاروا من التحديد "ويحذركم الله نفسه" إلى المعنى، ومن الضيق إلى السعة، ومن عبادة أرباب المذاهب، إلى عبادة الرب الواحد، الذي تجلى في نار موسى، وخطابه لمريم، ونفخه للروح في آدم وعيسى، وفي قبضة النور التي قبضها الله من نور وجهه، وقال لها كوني محمداً فكانت، صلى الله عليهم أجمعين، ليختم ما بدأه، بنفخ الروح، بأنوار الوجه، التي ستجمع كل وجوه النور ظاهراً وباطناً، في رسالة من جعله دليلاً عليه، وقال له { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (الأنفال/17). وقرن اسمه بشهادة توحيده، ليكون دليلاً عليه، عندما خرجت الحقائق من عالم وحدانية الخالق إلى شفعية المخلوق الذي انطوت في أعماقه أسرار الخالق. فكانت خلافة الأرواح، ثم الأنوار، ليشهد الحق بالأبصار والأرواح، فلا يغيب عن الذين آمنوا به وعرفوه. { ولولا دَفعُ اللهِ الناسَ بعضهم ببعضٍ لهدِّمَتْ صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكرُ فيها اسمُ اللهِ كثيراً ولينصُرنَّ اللهُ من يَنصُره إن الله لقويٌّ عزيزٌ. الذينَ إنْ مكنّاهمْ في الأرض أقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ وأمروا بالمعروفِ ونهوا عن المنكر وللهِ عاقبةُ الأمورِ } (الحج/ 40 ـ 41).(1/351)
فهذا هو حجّ العارفين الدائم الممزوج برحمة الله للخلائق، فلا يهدمون ما أقامه الله، ولا يغيبون عن شهودهم لله، لأن أرواحهم تنزهت عن رؤية الأغيار، وإن كانت لهم نفوس. فهم { لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، لا بالمجاهدات والحرمان الذي لا يفيد. ولا يطفئون أنوار عقولهم بالجهل، ولا يحكّمون أرواحهم في شريعة ربهم، بعد أن صدر الحكم، واكتمل الشرع. ويعطون لكل صاحب حق حقوقه المشروعة، لأنهم يدركون أن الأجسام هي التي تحمل أرواحنا وعقولنا ونفوسنا، ولكل قوة دورها الذي لا تكتمل بدونه مسيرة الإنسان ورحلته التي بين الدنيا والآخرة. ولهذا اعتنوا بأجسامهم وأعطوا للنفوس حاجاتها المشروعة، فتوجوا كل عضو فيهم بتاج المعرفة ومراعاة الحدود، فصار خليفة على من دونه في أرض نشأته، فاستمتعوا بالطيبات في كل مجال، لأن الحق أعطى كل شيء كماله، فلم يخلق النفوس للنقصان، بل للكمال، فحبب للرسول - صلى الله عليه وسلم - [الطيب والنساء وجعلت قرة عينه في الصلاة]. وهكذا تلاقت الأكوان، لخدمة الخلفاء، فشهدوا الجمال والجلال، وهم في كل موقف على صلاتهم عاكفون، وفي محراب أفئدتهم ساجدون، وبمعبودهم إلى فيض الإبداع ناظرون. فتنعّم فيهم كل عضو وكل جزء بالحب الذي فاز بليلاه، فصارت نفوسهم عندهم ما هم عندها دليل سيادة وعبادة. فأحلوا الطيبات وحرموا الخبائث، حرصاً على الأبدان والنفوس والعقول والأرواح، فكان لهم من اسم الرحمن الظهور بالمعنى والحكم، فقد "خلق الله الإنسان على صورة الرحمن". فالتقى الظاهر بالصفات بالموصوف. فزالت الحجب وأشرق النور.
النفس والعقل والروح في اللغة(1/352)
إن هناك تداخلاً بين مفاهيم ودلالات النفس والعقل والروح في معاجم اللغة العربية، وكذلك في لغة الفلسفة. وهذا التداخل لا يساعد على فهم معاني الكلمة التي يفترض أن تعبر عن معنى له استقلاله وخصوصيته، كما لا يتوافق مع الواقع الذي يفترض بأنه يعبر عن الحقيقة المتجسدة في الإنسان، والذي يساعدنا على الإقرار بوجود النفس والعقل والروح كجواهر أو حقائق مستقلة عن بعضها البعض، كما نقول بأن للإنسان يداً أو قدماً. فهذه الكلمات رغم أهمية تحديد معانيها لفهم ما تعنيه ظلت مختلطة وغامضة، ووردت غالباً وكأنها مرادفات لكلمة واحدة، وهذا الإشكال نفسه سيتكرر في الفلسفة كما سنشاهد. ولهذا سنحاول أن نقدم معاني الكلمات كما وردت في اللغة بالاعتماد على (لسان العرب) بإيجاز وبشكل يفي بالغرض، أولاً، ثم في لغة الفلسفة ثانياً، لكي نستخلص المعنى الملائم لكل كلمة لتحديد معناها كاصطلاح لغوي يعبر عن معنى محدد بالنظر إلى الكلمة كمرآة لحقيقة لها وجودها في الواقع، ورمز له دلالته المحددة، وأيضاً بالنظر إلى اللغة كأداة للتعبير عن مشاعر إنسانية وحقائق باطنة، والوصول إلى الاقتناع إما بأن كلمات، النفس والعقل والروح، هي رموز تعبر عن حقيقة واحدة، لأن هذه القوى بالأصل في الإنسان واحدة، بمعنى إنها جوهر واحد متحد أو إنها جواهر وعناصر مستقلة عن بعضها مما يفرض علينا أن نتعامل مع كل كلمة بشكل مستقل بالنظر إلى استقلال العضو الذي نتحدث عنه. وهذا يضعنا أمام مشكلتين. مشكلة لغوية، ومشكلة تشريحية تتعلق بتكوين جسم الإنسان. وإنه مما يزيد في تعقيد المشكلة أن العناصر التي نتحدث عنها ليس لها وجود مادي، ولم يكشف الطب عن أي عضو مادي يقابل الكلمات التي نتحدث عنها، والتي سنحاول التعرف على وظيفتها بشكل محدد. وهذا ما يضعنا أمام مشكلة جديدة.(1/353)
ولكن رغم كل هذه الصعوبات فإنه لا بد لنا من استنتاج معنى محدد لكل كلمة، أو الاتفاق على هذا المعنى لكي يكون ما نعنيه بقولنا نفس وعقل وروح مفهوماً، بالقياس إلى وظيفة كل عنصر أو جوهره، سواء كان مادياً أو غير مادي، مع العلم بأن ما نعنيه باللامادي هو تحول المادة إلى طاقة كما يتحول السائل إلى بخار، لأنه لا توجد المادة في الواقع إلا بصيغتين، إما مادة كثيفة أو طاقة، وهما صورتان شاملتان للوجود، ومحيطتان به، ولا يخرج عن هذه القاعدة أي موجود، سواء كان قديماً أو محدثاً. وخارج هذا الوجود لا يوجد إلا العدم إن كان يصح أن نقول عن العدم إنه وجود. والآن ما هي النفس والعقل والروح وما هي أدوارهم في حياة الإنسان.
النفس في اللغة
سيقدم لنا ابن منظور في لسان العرب هذه المعاني للنفس التي تزيد من بلبلة القارئ كما قلنا. ونحن لن نعرض كل ما ورد حول مادة (نفس) التي تحتل ثماني صفحات في القاموس، وإنما سنختار ما يلائم البحث الذي نحن بصدده، وسنختصر بقدر المستطاع. يقول ابن منظور "النَّفْس: الرُّوحُ، قال ابن سيده: وبينهما فرق ليس من غرض هذا الكتاب، قال أبو إسحق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نفس فلان أي روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي رُوعِه، والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جُملَةِ الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسَهَ وأهلك نفسهَ أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، والجمع من كل ذلك أنفسُ ونفوس؛ قال أبو خراش في معنى النفس الروح... ومنه قولهم: فاظَت نفسهُ.... قال ابن خالويه: النفس الروح، والنفس ما يكون به التمييز، والنفس الدم، والنفس الأخ... أما النفس الروح والنفس ما يكون به التمييز فشاهدهما قوله سبحانه: { والله يتوفى الأنفس حين موتها } ؛ فالنفس الأولى هي التي تزول بزوال الحياة، والنفس الثانية التي تزول بزوال العقل؛ وأما النفس الدم فشاهده قول السموأل:(1/354)
تسيل على حَدِّ الظُباتِ نفُوسُنا ... وليست على غير الظُّبات تَسيلُ
وإنما سمي الدم نفساً لأن النفس تخرج بخروجه. وأما النفس بمعنى الأخ فشاهده قوله سبحانه: { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } ... والعرب قد تجعل النفس التي يكون بها التمييز نَفسَين، وذلك أن النفس قد تأمره بالشيء وتنهي عنه... والنفس يعبر بها عن جميعه.. قال ابن سيده: وقوله تعالى: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي تعلم ما أضمر ولا أعلم ما في نفسك أي لا أعلم ما حقيقتك ولا ما عندك علمه... وقوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه } أي يحذركم إياه، وقوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } ؛ روي عن ابن عباس أنه قال: لكل إنسان نفسان: إحداهما نفس العقل الذي يكون به التمييز، والأخرى نفس الروح الذي به الحياة. وقال أبو بكر بن الأنباري: من اللغويين من سوّى النفس والروح وقال هما شيء واحد إلا أن النفس مؤنثة و الروح مذكر، قال: وقال غيره الروح هو الذي به الحياة، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلا عند الموت، قال: وسميت النفس نفساً لتولد النَفَسِ منها واتصاله بها، كما سموا الروح روحاً لأن الرَوحَ موجود به، وقال الزجاج: لكل إنسان نفسان: إحداهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل بها يتوفاها الله كما قال الله تعالى، والأخرى نفس الحياة وإذا زالت زال معها النَّفَسُ، والنائم يتنفس، قال: وهذا الفرق بين توفي نفس النائم في النوم وتوفي نفس الحي؛ قال: ونفس الحياة هي الروح وحركة الإنسان ونموه يكون به، والنفس الدمُ؛ وفي الحديث: ما ليس له نفس سائلة فإنه لا يُنجِّس الماء إذا مات فيه... والنفس الجسد... ونَفْس الشيء: ذاته... عَيْنه يؤكد به... والنفس عين الشيء وكنهه وجوهره، والنفس الأَنَفَة. والنَّفَس: الفرج من الكرب.(1/355)
وفي الحديث: لا تسبوا الريح فإنها من نَفَس الرحمن، يريد أنه بها يفرج الكربَ وينشئ السحاب وينشر الغيث ويذهب الجدب، وفي الحديث.... أجد نَفَس ربكم من قبل اليمن... يقال إنه عنى بذلك الأنصار لأن الله عز وجل نفَّس الكرب عن المؤمنين بهم، وهم يمانون لأنهم من الأزد، والنَّفَس: مثل النسيم، والجمع أنفاس... والمنفوس: المولود..." (لسان العرب ـ باختصار من ص 233 ـ 240/ ج6).
إننا نلاحظ أن النفس هنا تؤدي إلى عدة معان منها، العقل والروح، وتشمل أحياناً وجود الإنسان أو حقيقته أو حياته التي بها قوامه وحركته. وهكذا تصبح كلمة نفس، كلمة مطاطة ليس لها ضوابط، ولا نستطيع أن نفهم منها معنى محدداً يتعلق بوظيفة النفس أو حقيقتها. وإذا عدنا إلى (أساس البلاغة ـ ص 647) للزمخشري فلن نجد جديداً في مادة (نفس) عما ورد في لسان العرب. وكذلك في قاموس (الصحاح في اللغة والعلوم ـ 1190)، وهو معجم حديث. وإننا سنواجه نفس المشكلة في مادة (عقل) وإن كان بقدر أقل، وخاصة حين نتعامل معها من خلال الفلسفة.
العقل في اللغة(1/356)
سيقدم لنا ابن منظور تحت مادة (عقل) المعاني التالية "ألعَقْلُ: الحجر والنُّهى ضدُّ الحُمقْ، الجمع عُقولٌ... عَقلَ يَعقِل عقلاً ومعقولاً، وهو مصدر؛ وقال سيبويه: هو صفة، وكان يقول إن المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتَّة... وعَقَل، فهو عاقل وعَقولٌ من قوم عقلاء. ابن الأنباري: رجل عاقلٌ وهو الجامع لأمره، ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعتَ قوائمه، وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها... والمعقول: ما تعقله بقلبك. والمعقول: العقلُ، يقال: ما له معقول أي عقلٌ... والعقل التثبت في الأمور. والعقلُ: القلبُ، والقلب العقل، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه، وقيل: العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان... والعقول فعولٌ للمبالغة... والعِقالُ: الرِّباط الذي يعقل به... والعَقلُ: الدِّية... وعقل عنه: أدى جنايته... والعقيلة من النساء: الكريمة المخدَرة... وعقيلةُ القوم: سيدُهم. وعقيلة كل شيء: أكرمه... وعقائل البحر: درره، واحدته عقيلة... وعقائل الإنسان كرائم ماله... والعقائل: القَلوص الفتية... والعقل: الملجأ. والعقل: الحصن" (لسان العرب ـ منتخب من ص 457 ـ 466
/ج11). وسوف نجد نفس المعاني مختصرة في (أساس البلاغة ـ 430) وكذلك في (الصحاح ـ 762).
الروح في اللغة(1/357)
سنواجه في مادة (روح) ما واجهناه في كلمة نفس، فإذا كانت مادة (عقل) أكثر تحديداً ووضوحاً فإن مادة (روح) ستعيدنا إلى مشكلة الغموض وعدم التحديد واتساع الدلالة. وقد جاء تحت مادة (روح) في لسان العرب الآتي: "روح: الريحُ: نسيم الهواء، وكذلك نسيم كل شيء، وهي مؤنثة... وجمع الريح أرواح، وأراويحُ جمع الجمع، وقد حكيت أرياحٌ وأراريح، وكلاهما شاذ... والريح ياؤها واو صيرت ياء لانكسار ما قبلها، وتصغيرها رويحة، وجمعها ريح وأرواح... وفي الحديث: هبت أرواح النصر؛ الأرواح جمع ريح.. وفي الحديث: كان يقول إذا هاجت الريح اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً؛ العرب تقول: لا تلقحُ السحاب إلا من رياح مختلفة؛ يريد: اجعلها لقاحاً للسحاب ولا تجعلها عذاباً... وفي الحديث: الريحُ من رَوحِ الله أي من رحمته بعباده... وراحت الريح الشيء: أصابته... والمروحَة، بالفتح: المفازة، وهي الموضع الذي تخترقه الريح... والجمع المرَاويح... والمِروحَة، بكسر الميم: التي يتروح بها، كسرت لأنها آلة؛ وقال اللحياني: هي المِروَحُ، والجمع المَراوح... ويوم ريّحٌ: طيب... والرَّوحُ: برد نسيم الريح... وقد يكون الريح بمعنى الغلبة والقوة... ومنه قوله تعالى: { وتذهب ريحكم } .. وأراح الشيء إذا وجد ريحه... والدهن المروح: المطيب... وفي الحديث: أنه أمر بالإثْمِد المروح عند النوم... والريحان: كل بقل طيب الريح... وقوله تعالى: { ولا تيأسوا من رَوح الله } أي من رحمة الله؛ سماها روحاً لأن الرَّوحَ والراحة بها؛ قال الأزهري: وكذلك قوله في عيسى: { ورُوحٌ منه } أي رحمة منه.. وفي الحديث: الولد من رَيحانِ الله... والرَّوح أيضاً السرور والفرح... عن الأصمعي: الرَّوحُ الاستراحة من غم القلب.. والروحُ، بالضم، في كلام العرب: النَّفخُ، سمي روحاً لأنه ريح يخرج من الروح... يقال خرج روحُه، والروح مذكر... والراحُ: الخمرُ، اسم لها. والراح: جمع راحة، وهي الكف.(1/358)
والراح: الارتياح.. أَراحهُ إراحةً وراحةً، فالإراحة المصدر، والراحة الاسم.. وفي الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لمؤذنه بلال: أرحنا بها أي أذن للصلاة فنستريح بأدائها من اشتغال قلوبنا بها؛ قال ابن الأثير: وقيل كان اشتغاله بالصلاة راحة له، قال: وقرّة عيني في الصلاة، قال: وما أقرب الراحة من قرّة العين. يقال: أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء؛ قال: ومنه حديث أم أيمن أنها عطشت وهي مهاجرة في يوم شديد الحر فدُلّي إليها دلوٌ من السماء فشربت حتى أراحت. وقال اللحياني: أراح الرجل استراح ورجعت إليه نفسه بعد الإعياء... وأَراحَ تنفس.. وأراح الرجل: مات، كأنه استراح.. وراحة البيت: ساحته. وراحة الثوب: طيُّه... الراحة من الأرض: المستوية... والرَّوحُ: الرحمة.. والرُّوحُ: النفس، يذكر ويؤنث، والجمع الأرواح. وفي التهذيب: قال أبو بكر بن الأنباري: الروحُ والنفس واحد، غير أن الروح مذكر والنفس مؤنثة عند العرب. وفي التنزيل: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي؛ وتأويل الروح أنه ما به حياة النفس. وروى الأزهري بسنده عن ابن عباس في قوله: ويسألونك عن الروح؛ قال: إن الروح قد نزل في القرآن بمنازل، ولكن قولوا كما قال الله عز جل: { قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ... وروي عن الفراء أنه قال في قوله: قل الروح من أمر ربي؛ قال: من علم ربي أي أنكم لا تعلمونه؛ قال الفراء: والروح هو الذي يعيش به الإنسان، لم يخبر الله تعالى به أحداً من خلقه ولم يُعطِ علمه العباد... وسمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النًّفَسُ الذي يتنفسه الإنسان، وهو جار في جميع الجسد، فإذا خرج لم يتنفس بعد خروج، فإذا تتامَّ خروجُه بقي بصره شاخصاً نحوه، حتى يغمَّضَ...(1/359)
قال: وقول الله عز وجل في قصة مريم، عليها السلام: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا } ؛ قال: أضاف الروح المرسل إلى مريم إلى نفسه كما تقول: أرض الله وسماؤه، قال: وهكذا قوله تعالى للملائكة: { فإذا سوّيته ونفختُ فيه من روحي } ؛ ومثله: وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه؛ والروح في هذا كله خلق من خلق الله لم يعط علمه أحداً؛ وقوله تعالى: { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } ؛ قال الزجاج: جاء في التفسير أن الروح الوحْيُ أو أمر النبوة، ويسمى القرآن روحاً. ابن الأعرابي: الروح الفرح. والروح: القرآن. والروح: الأمر. والروح: النَّفْسُ. قال أبو العباس: وقوله عز وجل: يُلقي الرُّوحَ من أمره على من يشاء من عباده ويُنَزِّلُ الملائكةَ بالرُّوحِ من أَمره؛ قال أبو العباس: هذا كله معناه الوَحْيُ، سمِّي رُوحاً لأنه حياة من موت الكفر، فصار بحياته الناس كالرُّوح الذي يحيا به جسدُ الإنسان؛ قال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر الرُّوح في الحديث كما تكرَّر في القرآن ووردت فيه على معان، والغالب منها أن المراد بالرُّوح الذي يقوم به الجسدُ وتكون به الحياة، وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة، وعلى جبريل في قوله: الرُّوح الأَمين؛ قال: ورُوحُ القُدُس يذكَّر ويؤنث. وفي الحديث: تَحابُّوا بذكر الله ورُوحِه؛ أراد ما يحيا به الخلق ويهتدون فيكون حياة لكم، وقيل: أراد أمر النبوَّة، وقيل: هو القرآن. وقوله تعالى: { يوم يَقُوم الرُّوحُ والملائكةُ صَفّاً } ؛ قال الزجاج: الرُّوحُ خَلْقٌ كالإنْسِ وليس هو بالإِنس، وقال ابن عباس: هو ملَك في السماء السابعة، وجهه على صورة الإنسان وجسده على صورة الملائكة؛ وجاء في التفسير: أَن الرُّوحَ ههنا جبريل؛ ورُوحُ الله: حكمُه وأَمره. والرُّوحُ: جبريل عليه السلام.(1/360)
وروى الأزهري عن أبي العباس أَحمد بن يحيى أنه قال في قوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك رُوحاً من أمرنا } ؛ قال: هو ما نزل به جبريل من الدِّين فصار تحيا به الناس أي يعيش به الناس؛ قال: وكلُّ ما كان في القرآن فَعَلْنا، فهو أَمره بأعوانه، أَمر جبريل وميكائيل وملائكته، وما كان فَعَلْتُ، فهو ما تَفرَّد به؛ وأما قوله: وأيَّدناه برُوح القُدُس، فهو جبريل، عليه السلام. والرُّوحُ: عيسى، عليه السلام. والرُّوحُ: حَفَظَةٌ على الملائكة والحفظة على بني آدم، ويروى أن وجوههم مثل وجوه الإنس. وقوله: تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ؛ يعني أولئك.(1/361)
والرُّوحانيُّ من الخَلْقِ: نحوُ الملائكة ممن خَلَقَ اللهُ رُوحاً بغير جسد، وهو من نادر معدول النسب ـ أي من عناصر نادرة ـ. قال سيبويه: حكى أبو عبيدة أَن العرب تقول لك شيء كان فيه رُوحٌ من الناس والدواب والجن؛ وزعم أَبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة والجن رُوحانيٌّ، بضم الراء، والجمع روحانيُّون. والتهذيب: وأما الرُّوحاني من الخلق فإنَّ أبا داود المَصاحِفِيَّ روى عن النَّضْر في كتاب الحروف المُفَسَّرةِ من غريب الحديث أنه قال: حدثنا عَوْفٌ الأعرابي عن وَرْدانَ بن خالد قال: بلغني أن الملائكة منهم رُوحانيُّون، ومنهم مَن خُلِقَ من النور، قال: ومن الرُّوحانيين جبريل وميكائيل وإسرافيل، عليهم السلام؛ قالَ أبو شميل: والرُّوحانيون أرواح ليست لها أجسام، هكذا يقال؛ قال: ولا يقال لشيء من الخلق رُوحانيِّ إلا للأرواح التي لا أجساد لها مثل الملائكة والجن وما أشبههما، وأما ذوات الأجسام فلا يقال لهم رُوحانيون؛ قال الأزهري: وهذا القول في الرُّوحانيين هو الصحيح المعتمد لا ما قاله ابن المُظَفَّر أن الرُّوحانيّ الذي نفخ فيه الرُّوح. وفي الحديث: الملائكة الرُّوحانيُّون، يروى بضم الراء وفتحها، كأنه نسب إلى الرُّوح أو الرَّوح، وهو نسيم الريح، والألف والنون من زيادات النسب، ويريد به أنهم أجسام لطيفة لا يدركها البصر.(1/362)
وفي حديث ضِمامٍ: إني أعالج في هذه الأرواح؛ الأرواح ههنا: كناية عن الجن سمُّوا أرواحاً لكونهم لا يُرَوْنَ، فهم بمنزلة الأرواح. ومكان رَوْحانيٍّ، بالفتح، أي طَيِّب. التهذيب: قال شَمرٌ: والرِّيحُ عندهم قريبة من الرُّوح كما قالوا: تِيهٌ وتُوهٌ... وتروّحنا: سرنا... والمُراحُ، بالضم: حيث تأوي إليه الإبل والغنم بالليل... وأما بالفتح، فهو الموضع الذي يروح إليه القوم أو يروحون منه... الروائح: أمطار العشي... وتروّحُ الشجر: تفطره وخروج ورقه... والرَّوَحُ، بالتحريك: السعة" (لسان العرب ـ منتخب من ص 455 ـ 467/ج2).
وسوف ترد نفس المعاني مختصرة في (أساس البلاغة ـ 256)، وكذلك في (الصحاح ـ ص 415). مما يدل بأن معجم (لسان العرب) عرض لكل المعاني الواردة في المعاجم وزاد عليها بالتوسع في الشرح.(1/363)
وإن ما يلفت النظر فيما ورد من تفسير لكلمة روح ما قاله الزجاج "أن الروح الوحي أو أمر النبوة" وهو تفسير جديد ستتبين لنا صحته وأهميته من حيث تحديده لمعنى كلمة روح. وبما أن تحديد معاني الكلمات مرتبط باستخدامها عبر العصور وتطور معناها. لهذا لا بد لنا من متابعة هذه المعاني في الفلسفة للمقارنة بين المعاني كما وردت في اللغة، مع استخدامات كلمات نفس وعقل وروح في الفلسفة. وسوف نحاول أن نختصر بقدر المستطاع، وبما يفي بالغرض. وربما سيفاجأ القارئ بأن الفلاسفة سيضيفون التباساً جديداً إلى هذه الكلمات بدلاً من توضيحها أو تحديد معانيها. ومن المعروف أن كل التباس في مسألة، أو عجز عن التعبير والتحديد، إنما يعود إلى طبيعة الناظر وليس إلى المنظور إليه. فالناظر أو المفسر هو ناقل لما يشاهد، وعلى قدر مشاهدته سينقل ما شاهده، إن كان حقاً أو باطلاً، أو ملتبساً أو واضحاً أو جميلاً أو قبيحاً، وإن كان الحق والحقائق لا تعود إلى الناظر، وإنما إلى المنظور إليه، فالعلم الصحيح يتبع المعلوم لا العالم كما قال الشيخ ابن عربي. أي ما يراد معرفته. فحكمنا على الأشياء منها لا منا، وبما فيها وليس بما فينا، وإن حكمنا بما علمنا فهو حكمنا على الأشياء لا حقيقة الأشياء.
النفس والعقل والروح في الفلسفة(1/364)
سنعتمد في بحثنا على كتاب (الكليات) لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، المولود في (كفا) بالقرم سنة 1028هـ، والمتوفي في القدس سنة 1094هـ ـ 1684م، لما فيه من المزايا، ولأنه يمثل المرحلة التي نضجت فيها الفلسفة الإسلامية وتعربت، وصار لها مصطلحاتها اللغوية الواضحة، ولأنه يشكل الرابط بين المرحلة الماضية، والمرحلة الراهنة حيث تطورت الفلسفة وتطورت معها مصطلحاتها، وأصبح الكثير من العلوم مستقلاً عن الفلسفة، بل تغيرت مصطلحاته ومنها علم النفس، وإن كان الالتباس في استخدام كلمة (نفس) ما زال قائماً. ولهذا فإننا سنستخدم (الكليات) للمقارنة بين المفاهيم العربية القديمة لكلمة نفس وعقل وروح، والمفاهيم الحديثة من خلال "المعجم الفلسفي" للدكتور جميل صليبا. و(موسوعة الفلسفة) للدكتور عبد الرحمن بدوي. و(الموسوعة الفلسفية العربية) التي صدرت الطبعة الأولى منها عام 1986. وسنختم عرضنا المعجمي بما قدمته الدكتورة سعاد الحكيم في "المعجم الصوفي" من إشارات "الحكمة في حدود الكلمة" حول هذه المسائل. وبذلك سنكون قد جمعنا بين القديم والجديد في عرضنا لمعاني هذه الكلمات، مما سيساعدنا على تكوين فكرة حقيقية عن حجم المشكلة، وبالتالي تقدير أسبابها، لكي يتاح لنا الوصول إلى معرفة صحيحة وواضحة، تخرجنا من الالتباس الذي يدل، بأن من استخدم كلمة نفس وعقل وروح بمعنى واحد ودون تمييز كما لو كانت مرادفات لغوية، فإنه يشبه من قال إن النحاس والقصدير والحديد هم معدن واحد لجهله بخواص المعادن وصفاتها. وهو قول لن يتوقف ضرره عند الكلام إن أخذنا به، وإنما سيدفعنا إلى استخدام الألمنيوم مثلاً في مكان نحتاج فيه إلى الحديد ما داما في اعتقادنا شيئاً واحداً. وهكذا سيكون لأخطائنا المعرفية على مستوى الفكر ما يماثله في عالم المادة.(1/365)
ولهذا منذ بدأ الإنسان في وضع رموزه اللغوية، حاول أن يجعل الكلمات بما توحيه صورة للحقائق الكونية، وما زال يحاول، ومن هنا تبدو أهمية اللغة ورسالتها في أحد الجوانب من كونها عدسة تحاول أن تصور بالحواس ما تصوره الكاميرا، وأن تحول ما صورته إلى رمز مطابق للواقع بالفكر، باستخدام الحروف كمصطلح وإشارة. وهذا ما نسعى إليه من خلال قراءتنا لمصطلح النفس في الفلسفة أو العقل أو الروح لكي نعرف أين نجح الفيلسوف وأين أخفق، ولكي نتمكن من رد الرمز إلى الصورة عندما لا يكون الرمز مطابقاً للصورة.
فهل هناك استقلال لعناصر النفس والعقل والروح أو إن النفس حقيقة واحدة تقوم بوظائف مختلفة فتصبح عقلاً أو روحاً؟
النفس في الفلسفة
قال (أبو البقاء) في تعريف النفس ما يلي: (النفس: هي ذات الشيء وحقيقته، وبهذا تطلق على الله تعالى)، "قال السيد الشريف: استعمال النفس بمعنى الذات غير مشهور". والروح: وخرجت نفسه (أي روحه)...(1/366)
و { ويحذَركم الله نفسَه } (قبل عقوبته). وتطلق على الجسم الصنوبري، لأنه محل الروح عند أكثر المتكلمين، أو معلقة عند الفلاسفة.. والنفس الحيوانية: هي البخار اللطيف الذي يكون من ألطف أجزاء الأغذية ويكون سبباً للحس والحركة وقواماً للحياة؛ وهذا البخار عند الأطباء يسمى بالروح... والحق أن النفس الحيوانية التي هي حقيقة الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليها أحداً من خلقه. وهذا قول الجنيد وغيره "ولكنه يُشْكل بقوله تعالى: { وعلمك ما لم تكن تعلم } (النساء/113)". وأما قول الخائضين فيها من المتكلمين فهي أنها جسم لطيف مشتبك بالبدن كاشتباك الماء بالعود الأخضر، قال النووي: إنه الأصح عند أصحابنا. ونقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ" وعند بعض المتكلمين بمنزلة العَرض في الجوهر. وقال بعضهم: إنها ليست بجسم بل هي عرض، وهي الحياة التي صار البدن حياً بوجودها فيه. وقالت الفلاسفة وكثير من الصوفية والحليمي والغزالي والراغب: ليست الروح جسماً ولا عرضاً وإنما هي مجرد عن المادة، قائم بنفسه، غير متحيز، متعلق بالبدن للتدبير والتحريك. وفي (المطالع): والبدن صورته ومظهره ومظهر كمالاته، وقواه في عالم الشهادة لا داخل فيه ولا خارج عنه، والقول في سريانه في البدن كسريان الوجود المطلق الحق في جميع الموجودات من مخترعات الحشوية، وقد اتخذ بعض جهال المتصوفة هذا الباطل مذهباً. كذا في (التعديل). "إلا أن يؤول بأن ذوات الأشياء مرآة ومظاهر لتجليات عين ذات الوجود، و أما ما عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم والتابعين فهو" أن الروح جوهر قائم بنفسه، مغاير لما يُحَسُّ من البدن، يبقى بعد الموت دراكاً؛ وبه نطقت الآيات والسنن. قال ابن لقمان: والذي يرجح ويغرب هو أن الإنسان له نفسان: نفس حيوانية، ونفس روحانية، فالنفس الحيوانية لا تفارقه إلا بالموت.(1/367)
والنفس الروحانية التي هي من أمر الله (فيما يفهم ويعقل، فيتوجه لها الخطاب، وهي التي تفارق الإنسان عند النوم، وإليها الإشارة، بقوله تعالى: { يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) (الزمر/42) ثم إنه تعالى إذا أراد الحياة للنائم رد عليه روحه فاستيقظ.. وأما النفس الحيوانية فلا تفارق الإنسان بالنوم، ولهذا يتحرك النائم... وعن ابن عباس: إن في ابن آدم نفساً وروحاً نسبتهما إليه، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والحياة فيتوفيان عند الموت، ويتوفى النفس وحدها عند النوم... واختلفت في قدم النفوس الإنسانية وحدوثها، قال أفلاطون وقوم من الأقدمين: إنها قديمة، وقال أرسطو وأتباعه: إنها حادثة. وليس في القول بتجرد النفوس الناطقة ما ينافي شيئاً من قواعد الإسلام، والنفوس البشرية متناهية عندنا، ولوجودها مبتدأ... "فكل عدد معين له طرفان: أحدهما واحد ليس دونه واحد، والآخر واحد ليس فوقه واحد من ذلك العدد، فإذا كان له طرفان فهو متناه لكونه محصوراً بين حاضرين فكل أفراد في الخارج متناهية". وذهب جمع من أهل النظر إلى ثبوت النفس المدركة للكليات للحيوانات متمسكاً بقوله تعالى: { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } (النور/41)... وهذا هو المرافق لما ذهب إليه الأشعري من أن إدراكها علم. والمختار عند المتأخرين والجمهور على أنه نوع من الإدراكات ممتاز عن العلم بالماهية، وهو المناسب للعرف واللغة. وعند الفلاسفة: ليس للحيوان النفس الناطقة أي: المدركة... "وفي (الملخص): العقل العلمي يطلق بالاشتراك على القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة وعلى ذلك الأمور" (الكليات ـ منتخب من ص 347 ـ 352/ج 4).(1/368)
ستظل المشكلة قائمة حول النفس وستتكرر الأسئلة ذاتها. ففي تاريخ الفلسفة كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي "وجد اتجاهان: اتجاه يحدد النفس من حيث علاقتها بالجسم، والآخر يحددها من حيث هي جوهر مستقل قائم بذاته. وفي الاتجاه الأول نجد أرسطو يحدد النفس بأنها "كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة" وهنا تثور مشكلة العلاقة بين النفس والجسم: هل كلّ منهما جوهر قائم بذاته، ويجتمعان معاً كجزئين من كل؟ أو النفس هي الصورة الجوهرية لجسم عضوي (آلي)، وتبعاً لذلك فإنهما الصورة والهيولى لجوهر مركب واحد هو الكائن الحي؟ في هذه الحالة الأخيرة، وهذا رأي أرسطو، تكون الوحدة بين النفس والجسم شبيهة بالعلاقة بين الشمع والطابع المطبوع فيه. وفي هذه الحالة أيضاً، لا توجد نفس منفصلة عن جسم، ما دامت هي صورته؛ وبالتالي هي تفنى بفناء بدنها.
أما في الاتجاه الثاني، ويمثله أفلاطون وديكارت، فإن النفس جوهر لا مادي، قادر على الوجود بنفسه مستقلاً عن البدن. وفي هذه الحالة توجد النفس قبل الجسم الذي تحل فيه، وبعد انفكاك صلتها به. ومن هنا يؤكد خلودها.
واللفظ: (نفس) سواء في العربية وفي اليونانية واللاتينية وما انحدر منهما من لغات صوتية مأخوذة من التنفس، هبوب الريح. فالكلمة اليونانية n?Y? من الفعل ?U?EW (يتنفس، يهبّ)؛ والكلمة اللاتينية المناظرة anima مأخوذة من الكلمة اليونانية vE?os (= ريح). وتقال في صيغة المذكر animus هو أيضاً مقرّ الوجدانات والشجاعة. وفي العربية (الروح) قريبة من (الريح).(1/369)
وهذه التفرقة بين anima وanimus قد بعثها في العصر الحاضر كارل جوستاف يونج، العالم النفساني، و أطلق anima على العنصر المؤنث، و animus على العنصر المذكر في النفس العميقة التي يضعها في مقابل الشخص persona. وهو يفهم الشخص persona بالمعنى الاشتقاقي اللاتيني للكلمة أي: قناع؛ ويعرفه بأنه الطباع الخارجي للفرد. وهكذا فإن الـ anima والـ animus ثمثلان الشخصية الباطنة اللاشعورية، وهي مكمّلة للشخصية الخارجية.
ولما كانت النفس هي مبدأ الحياة، فإن الكائنات المتنفّسة هي الكائنات الحية، وهذا أظهر في اللغات الأوربية حيث كلمة animal تدل على الحيوان.
وقد يميّز في اللغات الأوربية بين (F.) âme أو (G.) Seele وبين esprit أو Geist، على أساس أن الـ (Seele) âme هي مبدأ الحياة العضوية، وأن (Geist) esprit هي مبدأ التفكير العقلي أو العقل. ويفرق البعض بينهما على النحو التالي: (الـ âme هي âme من حيث هي مرتبطة بالجسم في وجودها وفعلها،وهي esprit من حيث أن من الممكن أن تكون منذ الآن مستقلة عن الجسم في أفعالها. والتمييز بين anima وspiritus ليس يعني شيئاً آخر غير هذا (A. Mager، ذكره A.Marc في كتابه (علم النفس التأملي) جـ2، ص 264).
وإذا استقرينا الآيات القرآنية التي وردت فيها الكلمة (روح) والكلمة (نفس) ـ وجدنا أن (الروح) تستعمل بمعنى إلهي، كما في الآيات: { وأيدناه بروح القدس } (البقرة/87، 253)، { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } (النساء/171)؛ { ينّزل الملائكة بالروح من أمره } (النحل/2)، { قل الروح من أمر ربي } (الإسراء/85)، { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق } (غافر/15)، { تعرج الملائكة والروح إليه } (المعارج/4)، { يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً } (النبأ/38) ـ ففي كل هذه الآيات الروح لا تدل على الروح أو النفس الإنسانية، بل على كيان إلهي يتنزل من الله، ويقرب من معنى الكلمة (اللوغوس).(1/370)
وفي مقابل ذلك، نجد أن كلمة (نفس) تدل على معنى إنساني خالص، وغالباً بمعنى ذات الإنسان، ومبدأ الحياة فيه ـ كما في الآيات: { ثم توفّى كل نفس ما كسبت } (البقرة/281)، { لا تكلّف نفس إلا وُسعها } (البقرة/233)، { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } (المائدة/45)، { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } (الأنعام/164)، { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } (النحل/111)، ولهذا فإن النفس مائتة كما في الآيات: { وما تدري نفس بأي أرض تموت } (لقمان/34)، { كل نفسٍ ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } (العنكبوت/57).
وفي الاستعمال الاصطلاحي الفلسفي ميّز بين النفس والروح، وجعلت صفة الروحية من صفات النفس في بعض المذاهب، بينما البعض الآخر يصف النفس بأنها مادية. وفي هذه الحالة يعنون بالروحية حين توصف بها النفس: اللامادية ـ فالروحية تقتضي اللامادية.
لكن العكس ليس بصحيح، أي أن اللامادية لا تقتضي بالضرورة: الروحية. فمثلاً العلاقات بين الأشياء هي لا مادية، لكنها ليست روحية: مثل العلاقة بين العلة والمعلول، العلاقة بين الوسيلة والغاية.
وتتميز النفس بخاصتين أساسيتين هما: الروحية، الجوهرية؛ ولكن من الصعب التوفيق بين كلتا الصفتين، لأننا في العادة ننظر إلى الجوهر في المقام الأول على أنه مادي.
ويمكن تعريف الروحية بأنها: صفة الموجود الذي وجوده وأفعاله مستقلة استقلالاً جوهرياً عن المادة" (موسوعة الفلسفة ـ 505/ج2).(1/371)
إن العلوم المعاصرة لم تقدم لنا إجابات شافية لتعريف النفس وتحديد وظيفتها رغم ظهور علم للنفس مستقل. ولهذا سيتجه علماء النفس إلى تحديد وظائف النفس بدلاً من البحث في ماهيتها، وستقدم لنا (الموسوعة الفلسفية العربية) هذه الملاحظات تحت عنوان (علم نفس) قائلة "إن موضوع علم النفس اختلف باختلاف المراحل التاريخية التي مر بها كما أن تحديده ما زال ـ حتى أيامنا هذه ـ يصطدم ببعض الصعوبات؛ وهي صعوبات تبرز بشكل خاص حين يحاول المرء إبراز خصوصية علم النفس، هذه الخصوصية المكونة لتحديده. ويحاول كوسينيه في كتابه (مفاتيح علم النفس) أن يبرز هذه السمة الخاصة بعلم النفس، فيقول إن تعليمه ـ أي تعليم علم النفس ـ ما زال ـ في بلد كفرنسا مثلاً ـ موزعاً بين كليات العلوم، وكليات الآداب، وكليات الطب. كما يشير كوسينيه... إلى ثلاثة اتجاهات تتنازع علم النفس وهي: علم الأحياء، وعلم الاجتماع، والفلسفة... إن الصعوبات الأساسية التي تصطدم بها كل محاولة لتحديد علم النفس ناتجة، كما قلنا، عن تبدل موضوع هذا (العلم) عبر التاريخ... ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل أساسية لتطور علم النفس، وهي المراحل التاريخية: 1 ـ المرحلة الأولى: المرحلة الفلسفية. 2 ـ المرحلة الثانية: علم النفس (كعلم) (للوعي) أو (النفس). 3 ـ المرحلة الثالثة: علم النفس (كعلم) (للسلوك)". (الموسوعة الفلسفية العربية ـ 619/ج1).(1/372)
هل حدث التخلي أخيراً عن البحث في ماهية النفس بسبب عجز العلماء عن إثبات استقلال النفس، ووجودها بمعزل عن الجسد أو سابقة له حسب أفلاطون. وكذلك إثبات علاقتها بالجسد وارتباطها معه ونموها بنموه وموتها بموته حسب أرسطو. يبدو أن السبب يعود إلى وعورة هذا البحث الذي لم يتوصل فيه أي فريق إلى البرهان على ما يقول، ولهذا سيكتفي علماء النفس بالبحث في وظائف النفس التي يمكن ملاحظتها ودراستها حتى على مستوى التجريب، أي في المخابر. ورغم ذلك فإن النفوس الإنسانية ستتمرد أيضاً على هذه الدراسات لتثبت أن القانون الذي أراد أن يحدد طبيعتها سيمنى بالفشل كما فشل من أرادوا أن يحددوا ماهيتها. ولتثبت أنها فوق القانون والتعريف. ولهذا فإن الدراسات النفسية ستتسع في محاولة للإحاطة بكافة النشاطات الإنسانية، كما سيبين الدكتور جميل صليبا في معجمه الفلسفي.
النفس في "المعجم الفلسفي"
"1 ـ اسم النفس يقع بالاشتراك على معان كثيرة، مثل الجسد، والدم، وشخص الإنسان، وذات الشيء، والعظمة، والعزة، والهمة، والأنفة، والإرادة، ووصف النفس على حقيقتها صعب جداً، والدليل على ذلك أن لها عند الفلاسفة تعريفات مختلفة، منها قول (أفلاطون): إن النفس ليست بجسم، وإنما هي جوهر بسيط محرك للبدن. ومنها قول أرسطو: إن النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي... وقد جمع (ابن سينا) بين هذين التعريفين فقال مع (أفلاطون): إن النفس جوهر روحاني، وقال مع (أرسطو): إن النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو، ويغتذي. (وهي النفس النباتية). أو من جهة ما يدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة، (وهي النفس الحيوانية). أو من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي (وهي النفس الإنسانية).(1/373)
2 ـ والنفس مبدأ الحياة، أو مبدأ الفكر، أو مبدأ الحياة والفكر معاً. وهي حقيقة متميزة عن البدن، وإن كانت متصلة به. زعم بعضهم أنها مادية... وقال ديكارت إنها لا مادية لأن جوهرها هو الفكر، وطبيعتها لا تتعلق بالإمداد، ولا بخواص المادة التي يتألف منها البدن. ومن قبيل ذلك قول (ليبنتز) إن للنفس معنيين أحدهما واسع والآخر ضيق، قال "لو أردنا أن نسمي نفساً كل ماله إدراك واشتهاء بالمعنى العام الذي تقدمت الإشارة إليه، لأمكننا أن نطلق اسم النفس على جميع الجواهر البسيطة أو المونادات المختلفة، ولكن لما كان الشعور أغنى من الإدراك البسيط، وجب علينا أن نطلق اسم المونادات والكمالات على الجواهر البسيطة التي لا تملك سوى الإدراك البسيط، وأن لا نسمي نفوساً إلا المونادات التي لها إدراك واضح تصحبه الذاكرة".
3 ـ والنفس مبدأ الأخلاق، لأنه لا وجدان، ولا إرادة، ولا عزم لمن لا نفس له... وعلى قدر ما تكون النفس أقوى وأعظم وأكمل، تكون أخلاق صاحبها أثبت وأعز وأفضل.
4 ـ والنفس والروح لفظان مترادفان. إلا أن بعض الفلاسفة يفرق بينهما.
ومهما يكن من أمر فإن النفس في اصطلاحنا مرادفة للروح ومقابلة للمادة، فالنفس هي الروح، والروح هي النفس، أو ما به حياة النفس.
النفس (علم):
"كان القدماء يعدون علم النفس فرعاً من الفلسفة، لاشتماله عندهم على البحث في حقيقة النفس وعلاقتها بالبدن، وبقائها بعد الموت. أما المحدثون فإنهم يجردون علم النفس من كل طابع فلسفي ويطلقون عليه اسم (السيكولوجيا)، فالسيكولوجيا عندهم هي البحث في ظواهر النفس للكشف عن قوانينها، لا البحث في جوهر النفس.
وعلم النفس علم وضعي يعتمد على الملاحظة، والتجربة كغيره من العلوم الوضعية، إلا أن طريقة البحث فيه مختلفة...، لاعتمادها على أساس مزدوج من الملاحظة الذاتية (التأمل الباطني) والملاحظة الموضوعية (الخارجية). ولعلم النفس أقسام وأوصاف مختلفة.(1/374)
1 ـ فإذا قصرت موضوعه على البحث في السلوك بوجه عام، سمي بعلم النفس السلوكي، أو بسيكولوجية ردود الفعل.
2 ـ وإذا قصرت موضوعه على وصف ما يشعر به الفرد من الأفكار، والانفعالات... سمي بعلم النفس الشعوري أو بسيكولوجية التعاطف.
3 ـ وإذا قصرت موضوعه على تأمل الأفكار، ونقدها، لمعرفة صفاتها الحقيقية، وشروطها، وروابطها الضرورية، وقيمتها، سمي بعلم النفس التأملي. أو علم النفس الانتقادي.
4 ـ وإذا كان غرض العالم النفسي من تأمل ذاته أن يكشف عن حقيقة جوهرية كامنة وراء الظواهر النفسية سمي بحثه عن هذه الحقيقة بعلم النفس الوجودي، أو علم النفس العقلي أو النظري.
5 ـ وأحسن تعريف لعلم النفس: إن هذا العلم لا يبحث في النفس، بل يبحث في الظواهر النفسية شعورية كانت، أو لا شعورية، للكشف عن قوانينها العامة.
6 ـ ولعلم النفس ميادين كثيرة، فهو يتناول الأسوياء والشواذ، والكبار والصغار، والإنسان والحيوان، والأفراد والجماعات، ويطبق قوانينه في عدة مجالات، كالمجال التربوي، والصناعي، والطبي، والجنائي... إلخ...
علم النفس الاجتماعي: موضوعه، البحث في علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ودراسة التأثير المتبادل بين الفرد والجماعة، وبين الجماعة والجماعة. وأهم مسائله: تأثير الأسرة، والمدرسة، والدين، والمركز الاقتصادي، والجو السياسي في تكيف الفرد، ونموه، ودراسة بعض ظواهر السلوك كالعدوان، والمشاركة، والمنافسة، والتعاون، والزعامة، والتقليد، والإيحاء، والتعصب، إلخ، وأثرها في سلوك الفرد والجماعة.
علم النفس التقني: هو العلم الذي يطبق معطيات علم النفس في حل المشكلات العملية... تنظيم العمل، والإعلان، والدعاية. وفي حل المشكلات الإنسانية.(1/375)
النفس الحسية: هي الروح الحيواني، وهو "جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن" (تعريفات الجرجاني)، أو هو جوهر مادي محض. قال (بيكون): "النفس الحسية أو روح الحيوان جوهر مادي مددته الحرارة حتى صار غير مرئي، أعني بذلك أنه نسمة سيالة مؤلفة من جوهري النار والهواء... والنفس الحسية هي المحرك الأساسي للحيوان، وجسمه آلتها، أما عند الإنسان فهي آلة للنفس الناطقة".
النفس الحيوانية: هي كمال أول لجسم طبيعي آلي، من جهة ما يدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة، ولها "قوتان: محركة ومدركة. والمحركة على قسمين، إما محركة بأنها باعثة، وإما محركة بأنها فاعلة. والحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية والشوقية... ولها شعبتان: شعبة تسمى قوة شهوانية... وشعبة تسمى قوة غضبية... و أما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات... وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين.. قوة تدرك من خارج، وقوة تدرك من داخل. والمدركة من خارج هي الحواس الخمس" (ابن سينا، النجاة)، وأما القوى المدركة من داخل فهي الحواس الباطنة، "فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات، وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات، ومن المدركات ما يدرك ويفعل معاً، ومنها ما يدرك ولا يفعل، ومنها ما يدرك إدراكاً أولياً، ومنها ما يدرك إدراكاً ثانياً" (ابن سينا، م.ن). والنفس الحيوانية مرادفة للنفس الحاسة.(1/376)
نفس العالم: نفس العالم مبدأ وحدة العالم وحركته، تدبره كما تدبر نفوسنا أجسامنا. عرفها (شللينغ) بقوله: إنها ما يوطد الاتصال بين العالم العضوي والعالم اللاعضوي، ويجمع الطبيعة كلها في جسم كلي واحد. قال بهذه النفس فريق من أصحاب مذهب وحدة الوجود، وهي عند بعضهم بمنزلة الآلهة. وعند بعضهم الآخر في مرتبة وسطى بين الإله وسائر الكائنات المرئية، وعند (أفلاطون) مصدر النظام، والانسجام في العالم. ونفس العالم مرادفة للنفس الكل وهي "على قياس عقل الكل، جملة الجواهر الغير الجسمانية التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية المحركة، على سبيل الاختيار العقلي، والجوهر الغير الجسماني الذي هو كمال أول للجرم الأقصى يحرك به كحركة الكل على سبيل الاختيار العقلي، ونسبة نفس الكل إلى عقل الكل نسبة أنفسنا إلى العقل الفعال، ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية، ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل، ووجوده فائض عن وجوده" (ابن سينا، رسالة الحدود). أما عقل الكل "فيقال لمعنيين لأجل أنه جملة العالم، والثاني الجرم الأقصى الذي يقابل لجرمه جرم الكل ولحركته حركة الكل" (ابن سينا، م.ن). والنفس الكلية مقابلة للنفوس الخاصة، وقيل: إن لجميع الأفلاك نفساً واحدة تتعلق بالمحيط وبالباقية بالواسطة. (كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي).
علم النفس الفردي: موضوعه دراسة الفروق النفسية التي تميز بها الأفراد.
علم النفس الفيزيائي: واضع علم النفس الفيزيائي (فيشنر)، وهو يعرف هذا العلم بقوله: إنه دراسة تجريبية لعلاقة النفس بالجسد، أو لعلاقة المادة بالروح. ولكن العلماء ضيقوه وجعلوه مقصوراً على البحث في قياس علاقة الإحساس بالمنبه.
علم النفس الفسيولوجي: موضوعه دراسة الأحوال النفسية من جهة علاقتها بالظواهر الفسيولوجية أي، دراسة وظائف الجملة العصبية. والبحث في علاقة السلوك المتكامل بالآليات البدنية.(1/377)
علم النفس المرضي: هو علم نظري يحلل الظواهر المرضية لاستخراج قوانينها العامة. وتطبيقها في مجالي الوقاية والعلاج.
علم النفس المقارن: هو العلم الذي يقارن بين الأحوال النفسية المختلفة لدى الأفراد، والشعوب، والأجناس، والمهن، والطبقات الاجتماعية. وكذلك غرائز الحيوان وأنماط سلوكه.
علم النفس الوصفي: هو العلم الذي يقتصر فيه على وصف الظواهر النفسية.
علم النفس الوظيفي: هو العلم الذي يدرس الظواهر النفسية وعلاقتها بالبيئة، والتكيف بين الكائن وبيئته" (المعجم الفلسفي ـ منتخب من ص 481 ـ 498/2).
العقل في الفلسفة
العقل في (الكليات):(1/378)
العقل" "في (القاموس)" العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها... ويطلق لأمور: لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن. ولمعان مجتمعة في الذهن تكون بمقدمات تستتب بها الأغراض والمصالح. ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلامه. "والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ". (والحق أنه نور في بدن الآدمي يضيء به طريقاً يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس،.. وهو كالشمس في الملكوت الظاهرة). وقيل هو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات. وهو المعني بقولهم: صفة غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات. قال الأشعري: هو علم مخصوص، فلا فرق بين العلم والعقل إلا بالعموم والخصوص. وقال بعضهم: العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم. ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة... "والصواب ما قاله بعض المحققين، وهو أنه نور معنوي في باطن الإنسان يبصر به القلب ـ أي النفس الإنسانية ـ المطلوب، أي ما غاب عن الحواس بتأمله وتفكره بتوفيق الله، بعد انتهاء درك الحواس، ولهذا قيل: بداية العقول نهاية المحسوسات". وقد جوز الحكيم إطلاق العقل على الله... وقال قوم من قدماء الفلاسفة: إن العقل من العالم العلوي، وهو مدبر لهذا العالم ومخالط للأبدان ما دامت الأبدان معتدلة في الطبائع الأربع، فإذا خرجت عن الاعتدال فارقها العقل. والحاصل أن الرسوم المذكورة لا تفيد إلا حيرة في حيرة... قيل: العقل والنفس والذهن واحد، إلا أن النفس سميت نفساً لكونها متصرفة. وذهناً لكونها مستعدة للإدراك، وعقلاً لكونها مدركة. "وللنفس الناطقة باعتبار تأثيرها بما فوقها واستفاضتها عنها يكمل جوهرها من التعلقات قوة تسمى عقلاً نظرياً. وباعتبار تأثيرها في البدن تأثيراً اختيارياً قوة أخرى تسمى عقلاً عملياً، مستعين بالعقل النظري".(1/379)
ومذهب أهل السنة: أن العقل والروح من الأعيان وليسا بعَرضين كما ظنته المعتزلة وغيرهم... والعقول متفاوتة بحسب فطرة الله... وما لم يكن بينه وبين الواجب واسطة فهو العقل الكلي، فإن كان مبدأ للحوادث العنصرية فهو العقل الفعال، وإلا فهو العقل المتوسط. والعقل الهيولاني: هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات كما للأطفال. والعقل بالمَلكة: هو العلم بالضروريات. واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات منها. وهو مناط التكليف. والعقل بالفعل: هو ملكة استنباط النظريات من الضروريات. والعقل المستفاد: هو أن يحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه. "وفي (الكشف الكبير) إن في الإنسان في أول أمره استعداداً لأن يوجد فيه العقل والتوجه حول المدركات، فهذا الاستعداد يسمى عقلاً بالقوة وعقلاً غريزياً، ثم يحدث العقل فيه شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الكمال، ويسمى هذا عقلاً مستفاداً، وما قاله الفلاسفة من التقسيم لم يثبت عن دليل كما في (التجريد)... ووجود العقل الفعال وكونه علة للنفوس وغير قابل للفساد غير مسلّم عندنا". واختلف في محل العقل ـ فقيل ـ الدماغ، والقلب، وقيل مشترك بينهما. ومن أسماء العقل: اللب... والحجَى... والحِجْر... والنُهى: لانتهاء الذكاء والمعرفة والنظر إليه" (الكليات ـ منتخب من 216 ـ 220/ج3).
العقل في "المعجم الفلسفي"
"العقل في اللغة هو الحجر والنهى... والجمهور يطلق العقل على ثلاثة أوجه (معيار العلم للغزالي).(1/380)
الأول يرجع إلى وقار الإنسان وهيئته، ويكون حده أنه هيئة محمودة للإنسان في كلامه واختياره وحركاته وسكناته. والثاني: يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية، فيكون حدّه أنه معانٍ مجتمعة في الذهن تكون مقدمات تستنبط بها الأغراض والمصالح. والثالث: يراد به صحة الفطرة الأولى في الإنسان فيكون حده أنه قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها، ونقصانها. أما الفلاسفة فإنهم يطلقون العقل على المعاني التالية:
1 ـ أول هذه المعاني قولهم: إن العقل "جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها" (الكندي).
... وهذا الجوهر "ليس مركباً من قوة قابلة للفساد" (ابن سينا). وإنما هو "مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله" (تعريفات الجرجاني)... والفارابي يقول إن القوة العاقلة "جوهر بسيط مقارن للمادة، يبقى بعد موت البدن، وهو جوهر أحدي، وهو الإنسان على الحقيقة".
2 ـ وثاني هذه المعاني قولهم، إن العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا والأقيسة. والفرق بينه وبين الحس أن العقل يستطيع أن يجرد الصورة عن المادة، وعن لواحق المادة، أما الحس فإنه لا يستطيع ذلك. فالعقل إذن قوة تجريد، تنتزع الصور من المادة، وتدرك المعاني الكلية كالجوهر والعرض، العلة والمعلول، والغاية والوسيلة، والخير والشر... إلخ. ولهذه القوة عند فلاسفة الإسلام عدة مراتب: أولاها مرتبة العقل الهيولاني: وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات "وإنما نسب إلى الهيولى لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها" (تعريفات الجرجاني). والعقل الهيولى مرادف للعقل بالقوة الذي يشبه الصفحة البيضاء.
... وثانيتها مرتبة العقل بالملكة: وهو العلم بالضروريات، واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.(1/381)
... وثالثتها مرتبة العقل بالفعل: وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة... بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد. (تعريفات الجرجاني).
... ورابعتها مرتبة العقل المستفاد: "وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه".
... وفوق العقل الإنساني عندهم عقل مفارق، وهو العقل الفعال الذي تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد... وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي.
... وهذا كله يذكرنا بقول أرسطو: إن العقل الفاعل: هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية، على حين أن العقل المنفعل: هو الذي تنطبع فيه هذه الصور.
3 ـ والمعنى الثالث للعقل هو القول: إنه "قوة الإصابة في الحكم" أي تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والحسن من القبيح (ديكارت). وهذا التمييز لا يحصل عن قياس وفكر. بل يحصل مباشرة وبالطبع. فكأن العقل كما قال (الرازي) غريزة يلزمها العلم بالأمور البديهية والكلية.
4 ـ والمعنى الرابع للعقل هو القول: إنه قوة طبيعية للنفس مهيئة لتحصيل المعرفة العلمية. قال ابن خلدون "إن العلوم التي يخوض فيها البشر... صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقي يأخذه عمن وضعه. والأول هو العلوم الحكمية والفلسفية... والثاني هو العلوم النقلية الوضعية، وهي مستندة كلها إلى الخبر عن الواضع الشرعي. ولا مجال فيها للعقل"... ولهذا العقل الطبيعي عند ابن خلدون ثلاث درجات: أولاها درجة العقل التمييزي، وثانيتها درجة العقل التجريبي، وثالثها درجة العقل النظري.(1/382)
5 ـ والمعنى الخامس للعقل هو القول إنه مجموعة المبادئ القبلية المنظمة للمعرفة، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية، ومبدأ الغائية... قال (ليبنيز): "يتميز الإنسان عن الحيوان بإدراكه للحقائق الضرورية والأبدية، فهي التي تولد فيه العقل والعلم، وتسمو به إلى معرفة ذاته، ومعرفة الله". وقد انتشر هذا المعنى في الفلسفة الحديثة بتأثير (كانت) حتى أصبح الفلاسفة يقولون: إن إدراك العالم لا يتم بما يحصل للعقل من مدركات تجريبية فحسب، بل يتم بما لديه من معانٍ فطرية... ومعنى ذلك أن المبادئ والمعاني الأولية التي يكشف عنها الفكر موجودة في العقل قبل اتصاله بالحس، وإن العقل الغريزي ليس صفحة بيضاء لم تنقش بنقش، وإنما هو ذو رسوم فطرية تنظم معطيات التجربة.
6 ـ والمعنى السادس للعقل هو القول أنه الملكة التي يحصل بها للنفس علم مباشر بالحقائق المطلقة. وإذا قلنا بوحدة العقل وموضوعه، دلّ حينئذ على المطلق نفسه. فكأن هذا العقل شيء مستقل عنا ونحن نتلقاه من الخارج... وكل واحد منا، يشعر بأن في داخله عقلاً محدوداً لا يصحح أحكامه إلا باستلهام عقلي كلي ثابت لا يتغير، فأين يوجد هذا العقل الكلي؟. إنه الله الذي أتوجه إليه... الذي يتجلى لنفسي مباشرة ـ ولكن إذا كان العقل يتلقى التوجيه من الله فهل يرشده الله إلى الخطأ والإلحاد؟ ـ
7 ـ ويطلق لفظ العقل أيضاً على مجموع الوظائف النفسية المتعلقة بتحصيل المعرفة كالإدراك، والتداعي، والذاكرة والتخيل، والحكم والاستدلال.(1/383)
8 ـ العقل المحض والعقل العملي: يطلق (كانت) هذين الاصطلاحين على كل ما هو قبلي في الفكر، أي على الملكة العالية التي تتضمن مبادئ المعرفة القبلية المستقلة عن التجربة. فإذا نظرت إلى العقل من جهة اشتماله على المبادئ القبلية للمدركات العلمية كان عقلاً نظرياً أو تأملياً. وإذا نظرت إليه من جهة اشتماله على المبادئ القبلية لقواعد الأخلاق كان عقلاً عملياً. وللعقل عند (كانت) معنى أخص، وهو إطلاقه على الملكة الفكرية العالية التي تولد فينا بعض المعاني المجردة، كمعنى النفس، ومعنى العالم، ومعنى الله، وهو بهذا المعنى ليس مقابلاً للتجربة، وإنما هو مقابل للذهن أو الفهم، وله ناحية عملية خاصة، وهي أن مسلمات الأخلاق كمعنى الحرية، وخلود النفس، ووجود الله متعلقة به.
9 ـ العقل المؤلف والعقل المؤلف: العقل المؤلِّف عند (لالاند) هو الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات مبادئ كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس. أما العقل المؤلَّف فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمد عليها في استدلالاتنا، وهي تتغير بتغير الزمان والأفراد، إلا أنها تتجه مع ذلك إلى الوحدة، فكأن العقل المؤلِّف هو العاقل، وكأن العقل المؤلَّف هو المعقول.
10 ـ والعقلي هو المنسوب إلى العقل، وتقول: المبادئ العقلية، والعلوم العقلية... والحياة العقلية وفي علم النفس مقابلة للحياة الانفعالية أو الوجدانية.
11 ـ والعاقل هو المتصف بالعقل... ويحكم على الأشياء حكماً صادقاً، ويعمل عملاً صالحاً... بخلاف الجاهل الذي يستعمل فكره في الشر.(1/384)
12 ـ والعقلانية هي القول بأولية العقل، وتطلق على عدة معان: أ ـ إن كل موجود فله علة في وجوده بحيث لا يحدث شيء إلا وله مرجح معقول. ب ـ القول إن المعرفة تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية والضرورية لا عن التجارب الحسية... والمذهب العقلي بهذا المعنى مقابل للمذهب التجريبي الذي يزعم أن كل ما في العقل فهو متولد من الحس والتجربة. ج ـ والثالث هو القول إن العقل شرط في إمكان التجربة... مثال ذلك أن المثل عند (أفلاطون)، والمعاني النظرية عند (ديكارت)، والصور القبلية عند (كانت) متقدمة على التجربة. د ـ والرابع هو الإيمان بالعقل، وبقدرته على إدراك الحقيقة... فإذا قالوا، إن العقل قادر على الإحاطة بكل شيء... كان مذهبهم مضاداً لمذهب الإيمانيين الذين يعتقدون أن العقل لا يكشف عن الحقيقة، وإنما يكشف عنها الوحي والإلهام. هـ ـ والعقلانية عند بعض علماء الدين هي القول إن العقائد الإيمانية مطابقة لأحكام العقل.
13 ـ والمذهب العقلي هو القول: إن كل ما هو موجود فهو مردود إلى مبادئ عقلية، وهو مذهب ديكارت، واسبينوزا، وليبنيز، وفولف، وهيجل" (المعجم الفلسفي ـ منتخب من ص 84 ـ 91/ ج2).
العقل في "موسوعة الفلسفة":
"يمكن تعريف العقل بعدة تعريفات:
1 ـ فهو في المقام الأول: ملكة إدراك ما هو كلي وضروري سواء أكان ماهية أو قيمة.. ـ وهو ـ (قوانين الفكر الضرورية الكلية)". وبما أن القوانين تظهر بالتجربة، فهل عرفت بالتجريب، أم إنها في طبيعة العقل؟ "بالأول قال التجريبيون: مثل لوك وهيوم؛ وبالتالي قال: أفلاطون، وديكارت، وكنت، وهيجل ـ والأخير يقول ـ بوجود عقل كلي واحد، وإن التاريخ ليس إلا معرض تجلي هذا العقل الواحد".(1/385)
"2 ـ العقل بوصفه ملكة يقسم عند المشائية بعامة إلى عقل نظري، وعقل عملي. وقد عرفهما الفارابي بدقة فقال: "العقل النظري هو قوة يحصل لنا بها بالطبع ـ لا ببحث ولا بقياس ـ العلمُ اليقين بالمقدمات الكلية الضرورية التي هي مبادئ العلوم، وذلك مثل علمنا أن الكل أعظم من جزئه، وأن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية، وأشباه هذه المقدمات. وهذه هي التي منها نبتدئ فنصير إلى علم سائر الموجودات النظرية التي شأنها أن تكون موجودة، لا بصنع إنسان. وهذا العقل قد يكون بالقوة، عندما لا تكون هذه الأوائل حاصلة له، فإذا حصلت له صار عقلاً بالفعل، وقوي استعداده لاستنباط ما بقي. وهذه القوة لا يمكن أن يقع لها خطأ فيما يحصل لها، بل جميع ما يقع لها من العلوم صادق يقيني لا يمكن غيره" أما "العقل العملي فهو قوة بها يحصل للإنسان، عن كثرة تجارب الأمور... وهذا العقل إنما يكون عقلاً بالقوة ما دامت التجربة لم تحصل. فإذا حصلت التجارب وحفظت صار عقلاً بالفعل. ويتزايد هذا العقل الذي بالفعل بازدياد وجود التجارب في كل سن". وهذان المعنيان يستبدل بهما الآن: العيان العقلي، والعيان التجريبي. والقديس توما يقول إن العقل النظري والعقل العملي ليسا ملكتين متمايزتين، وإنما يتميزان بالغاية التي يهدفان إليها.
3 ـ العقل عند الفقهاء ما يوجبه أو ينفيه، وهذا عائد لمسألة التحسين والتقبيح. وهو عند ديكارت "أعدل الأشياء قسمة بين الناس".(1/386)
4 ـ والعقل عند أفلاطون وأرسطو "قوة أو ملكة أو جزء من النفس، ويتميز بين سائر قوى النفس التي هي الاحساسات والخيال والشهوة والانفعال. ويميزان بين النفس والعقل أحياناً، على أساس أن النفس هي مبدأ الحياة وكل ألوان النشاط الحيوي، بينما العقل هو مبدأ المعرفة والرؤية والتقدير.. ويستخدم أرسطو التعبير (النفس الناطقة) للدلالة على العقل. وهذا عينه عند ديكارت.. ويدرج بين وظائف العقل: الإحساس، والتخيل، والانفعال، والشهوة" وإضافة لهذا يضيف لوك للعقل، الإرادة.
5 ـ "يحدد برونشفج.. ثلاث وظائف للعقل هي: (آ) التجريد والتصنيف. (ب) التفسير. (حـ) التنظيم".
6 ـ يستعمل كنت العقل بمعنيين، واسع، وضيق، "الواسع هو ملكة المعرفة القبلية"، والمحدود "هو الملكة العليا للمعرفة" وفي رأيه "معرفتنا تبدأ من الحواس، ومن ثم تنتقل إلى الذهن، وتنتهي في العقل" "والعقل يكون نظرياً إذا تعلق بالمبادئ القبلية للمعرفة، ويكون عملياً إذا تعلق بالمبادئ القبلية للعمل أو الفعل".
7 ـ "والعقل عند هيجل... إنه الهوية بين الفكر وبين الوجود... هو ذلك الجوهر الذي يصير ذاتاً".
8 ـ "مقابل العقل يضع برجسون الوجدان. ويقرر أن العقل أداة العلم، بينما الوجدان أداة الفلسفة. إن العقل لا يدرك إلا.. الكمي، والعدد، وما يوزن ويقاس... وبالجملة: المادة. وعلى عكس ذلك يسلك الوجدان: إنه يضعنا... داخل الواقع ويجعلنا نشهد الصيرورة الخالقة... (فالعقل يتميز بعدم فهم طبيعي للحياة)". (منتخب من موسوعة الفلسفة ـ 72 ـ 75/ج2).
"عقل" في "الموسوعة الفلسفية العربية":(1/387)
ما هو العقل: "العقل مفردة متواطئة الدلالات متعددة الأبعاد. لهذا يبدو أمراً متعذراً التوصل إلى تعريف يقيني تام يستغرق بدقة كاملة طاقة التجريد هذه... ولكن مهما اختلفت تعريفات العقل... فإنها تلتقي جميعاً أمام نقطة إحداثية مشتركة هي اعتبار العقل حامل معرفة وطاقة تجريد ومركز التفكير والأحكام وملكة متعالية شكلت التفوق النوعي للإنسان بوصفه كائناً فكرياً".
2 ـ "العقل في اللغة: اللغة أسيرة العقل لكن العقل أسير اللغة.. العقل في اللغة العربية هو الربط والحجر والنهي منعاً للشرود والتسيب... أما في اللغات الأوربية، فتعتبر كلمة لوغوس اليونانية ومفردة Ratio (راتيو) اللاتينية مفردتان تدلان على العقل والعلم والنظام. وكما أحالت مفردة عقل العربية إلى دلالات متواطئة معها كذلك أحالت مفردة (راتيو) اللاتينية على تواطؤات معها من العد والحساب إلى الفهم والنفس أو Soul المرتبطة بالروح.. على هذا النحو تبدو حياة العقل متعددة المستويات لا واحدية البعد مما ينقل تعريف العقل من مفردات اللغة إلى مناطق المعقولية".
3 ـ "مناطق المعقولية: الإنسان كائن حسي ـ متعال معاً. والمعرفة نتاج تجريدي لدماغه بوصفه عقلاً. فالعقل ينتج المعرفة. كما أن المعرفة تعيد إنتاج العقل. ولكل معرفة موضوعها... وبما أننا في منطقة المعقولية نلاحظ أن العقل يتجلى ضمن أربع مناطق تشكل مستوياته: 1 ـ العقل، العادي. 2 ـ العلمي. 3 ـ الفني. 4 ـ الفلسفي.
3 ـ 1 ـ العقل العادي: هو العقل العام المشترك أول مستويات المعرفة اليومية العادية... فالعقل العادي البسيط عقل محافظ لا يقبل الثورة بسهولة.(1/388)
3 ـ 2 ـ "العقل العلمي ـ التقني: يختلف العقل العلمي عن العقل العادي بالدرجة لا بالنوع.. لهذا تتحدد خصائص العقل العلمي بصفتين متميزتين خلقتا صفة ثالثة: (أ): ارتباطه بالرياضيات، والمنهج الاستدلالي. (ب): ارتباطه بالتجربة والمنهج الاستقرائي. (حـ): ارتباطه بالتقنية التي تولدت من تزاوج الاستدلال والاستقراء. وتشير مؤرخات المعرفة العلمية إلى أن القفزة النوعية للعقل العلمي حدثت عندما تداخلت الخاصية الأولى مع الثانية... فالمعرفة العلمية تفترض مطابقة تامة بين العقل والعلم كلياً أو جزئياً... فالقول العلمي قول رياضي يطابق بين الواقعة والرمز... لذلك يعتبر سؤال الحرية السابق سؤالاً خارجياً ينقل العلم إلى فلسفة العلم أو فلسفة العقل العلمي إلى ميدان احتجاج الفلسفة أو العقل الفلسفي".
3 ـ 3 ـ "العقل الفني: العقل الفني حدسي، يبدع موضوعه ويفعله كما تمليه مخيلته الخلاقة... مع ذلك يلتقي العلمي مع الفني في غائية قصدية... كلاهما يكشف (معنى) الوجود ويعيد صياغته مرة ثانية. لكن العقل الفني يختلف عن العقل العلمي بقدرة متميزة هي إمكانية الانتقال إلى مستوى اللامعقولية بوسائل المعقولية ذاتها... لذلك أمكن القول بإنشاء فلسفة للفن وعلم الجمال... وتعتبر الموسيقى أعظم تجليات العقل الفني دقة وتوتراً وحضوراً تجاوزياً".
3 ـ 4 ـ "العقل الفلسفي": يمكن تصنيف مستويات معاني العقل الفلسفي إلى أبعاد تعريفية: ذاتية العقل، مراتب العقل، حدود العقل.(1/389)
3 ـ 4 ـ 1 ـ "ذاتية العقل: العقل في الفلسفة مبدأ أول معرفياً وكينونياً... لأنه أساس كل حقيقة ممكنة... العقل الكينوني الخلاق في الفلسفة الهندية الذي يخلق من ذاته (القوة المدبرة) للكون أو نظامها، قانونها، منطقها، لا يفنى لأنه يتمتع بصفة الأبدية الموضوعية. أما في الفلسفة اليونانية فالعقل (لوغوس) أو (نوس) وفي كلتا الحالتين هو قانون، نظام، قوة التدبير أنطولوجياً وأبيستيمولوجياً. أما في الفلسفة العربية فيعرفه الكندي "جوهر، بسيط، مدرك للأشياء بحقائقها"... فهو حقيقة الإنسان كما يقول الفارابي، أو جوهره، ويتابعه ابن سينا.
3 ـ 4 ـ 2 ـ "مراتب العقل": كان أرسطو قد تحدث عن مرتبتين للعقل: 1 ـ العقل الفاعل أو القدرة التجريدية التي تحرر المعنى الكلي من توابعه الحسية الجزئية. 2 ـ العقل المنفعل، القوة التي تستقبل قدرة العقل الفاعل وتنطبع فيها صوره. توسعت الفلسفة العربية بدقة في نظرية النفس والعقل. لذا تركزت لديها خطوط مرتبية العقل التي تعكس طموح عقلنة الوجود من المادي إلى المقدس، من الحسي إلى المتعالي، من الواقعي إلى الماورائي:
أ ـ العقل الهيولاني أو العقل المادي بلغتنا المعاصرة، أو العقل بالفطرة والقوة، أي القابلية المحضة للإدراك الإنساني.
ب ـ العقل المكتسب: المعرفة الأولية المستمدة من أفعال التعليم والتلقين المتنوع.
حـ ـ العقل بالفعل: اكتساب المعرفة والقدرة على استعمالها دون تعلمها مرة ثانية.
د ـ العقل المستفاد: امتلاك ناصية العلوم وتمثلها بحضور دائم.
هـ ـ العقل الفعال أو المفارق: المعقولية الخالدة أو الموضوعية اللامادية للعقل الذي يفيض ويحدد صور أو ماهية ـ نظام ـ قانون ـ الكون والفساد. ولو كانت المعاني الكلية للعقل متغيرة فاسدة لما أمكن التحدث عن وحدة النوع الإنساني.(1/390)
و ـ العقل الظاهر (من افتراض الكندي)، هو مرحلة فعلية العقل الفعال أي تخارجه أو صدوره من ذاته إلى العقل المستفاد. ولربما العكس أيضاً من العقل المستفاد إلى العقل الفعال. فهو توسط ظهوري يرتبط مع مفهوم نظرية المعرفة التي تتخذ الرياضيات مقياساً لها. والرياضيات تفترض فكرة الظاهرة ـ كما سوف توضح الفلسفة الظاهراتية المعاصرة مع إدموند هوسرل.
ز ـ العقل القدسي، مرحلة المعرفة المطلقة التي يلتحم فيها العقل المستفاد مع العقل الفعال، ولنقل بصيغة ثانية تأله الإنسان.
3 ـ 4 ـ 3 ـ حدود العقل: انقسمت نظريات الفلسفة حول إشكالية محدودية العقل.. يمكن أن تصنف إلى ثلاثة مواقف. 1 ـ نظريات محدودية العقل. 2 ـ نظريات لا محدودية العقل. 3 ـ نظريات محدودية ـ لا محدودية العقل" (الموسوعة الفلسفية العربية ـ 596 ـ 603/ ج1، منتخب).
الروح في الفلسفة
الروح في "الكليات":(1/391)
"الروح، بالضم: هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه، واسم للنفس لكون النفس بعض الروح، فهو كتسمية النوع باسم الجنس، نحو تسمية الإنسان بالحيوان، واسم أيضاً للجزء الذي به تحصل الحياة، واستجلاب المنافع واستدفاع المضار. والروح الحيواني: جسم لطيف منبعه تجويف القلب... والروح الإنساني لا يعلم كنهها إلا الله تعالى ومذهب أهل السنة أن الروح والعقل من الأعيان وليسا بعرضين (كما ظنته المعتزلة وغيرهم. وإنهما يقبلان الزيادة من الصفات الحسنة والقبيحة... ولهذا وصف الروح بالأمارة بالسوء مرة، وبالمطمئنة أخرى +هذا الوصف ورد للنفس+). وملخص ما قاله الغزالي أن الروح ليس بجسم يحل بالبدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عَرَض يحل القلب والدماغ حلول العلم في العالم، بل هو جوهر لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات، وهو باتفاق العقلاء جزء لا يتجزأ أو شيء لا ينقسم إلا أن لفظ الجزء غير لائق به... فإذا أخذت جميع الموجودات أو جميع ما به قوام الإنسان في كونه إنساناً كان الروح واحداً من جملتها، لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا هو متصل، بل هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات، مقدس عن هذه العوارض، وليس(1/392)
هذا تشبيهاً وإثباتاً لأخصّ وصف لله تعالى في حق الروح، بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أي: قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به، فالقيومية ليست إلا لله تعالى، ومن قال إن الروح مخلوق أراد أنه حادث وليس بقديم، ومن قال إنه غير مخلوق أراد أنه غير مقدر بكمية فلا يدخل تحت المساحة والتقدير. ثم اعلم أن الروح هو الجوهر العلوي الذي قيل في شأنه قل { الروح من أمر ربي } (الإسراء/8) يعني أنه موجود بالأمر وهو الذي يستعمل فيما ليس له مادة فيكون وجوده زمانياً لا بالخلق، وهو الذي يستعمل في ماديات، فيكون وجوده آنياً، فبالأمر توجد الأرواح، وبالخلق، توجد الأجسام المادية. قال تعالى: { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } (الروم/25) وقال: { والشَّمْسَ والقمر والنجوم مسخًّراتٍ بأمره } (النحل/12 ـ الأعراف/54) والأرواح عندنا أجسام لطيفة غير مادية، خلافاً للفلاسفة، فإذا كان الروح غير مادي كان لطيفاً نورانياً غير قابل للانحلال، سارياً في الأعضاء للطافته، وكان حياً بالذات، لأنه عالم قادر على تحريك البدن، وقد ألف الله بين الروح والنفس الحيوانية، فالروح بمنزلة الزوج، والنفس الحيوانية كالزوجة، وجعل بينهما تعاشقاً، فما دام الروح في البدن كان البدن بسببه حياً يقظان، وإن فارقه لا بالكلية، بل كان تعلقه باقياً ببقاء النفس الحيوانية فيه كان البدن نائماً، وإن فارقه بالكلية بأن لم تبق النفس الحيوانية فيه فالبدن ميت، ثم الأرواح المخصوصة متحدة في الماهية لتصير أشخاص الإنسان ماهية واحدة، ثم هي أصناف، بعضها في غاية الصفاء، وبعضها في غاية الكدورة، (وهي حادثة. أما عندنا فلأن كل ممكن حادث، لكن قبل حدوث النفس) لقوله عليه الصلاة والسلام: { خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام } وعند أرسطو: حادثة مع البدن، وعند البعض: قديمة لأن كل حادث مسبوق بمادة ولا مادة له، وهذا ضعيف. والأرواح لا تفنى.(1/393)
أما عند الفلاسفة فلأن المجرات لو قبلت خلع صورة وأخذ أخرى كانت باقية مع الأخرى. فلا تكون فانية، وأيضاً لو قبلت الفناء لوجب بقاء القابل مع المقبول فتكون باقية مع الفناء. هذا خلف.
والحق أن الجوهر الفائض عن الله المشرف بالاختصاص بقوله: { نفخت فيه منْ رُوحي } (الحجر/29) (الذي من شأنه أن يحيا به ما يتصل به لا يكون من شأنه أن يفنى مع إمكان هذا، والأخبار الدالة على بقائه بعد الموت وإعادته إلى البدن وخلوده دالة على أبديته.)
واتفق العقلاء على أن الأرواح بعد المفارقة عن الأبدان تنتقل إلى جسم آخر بحديث: "أن أرواح المؤمنين في أجواف طير خُضُر" إلى آخره لكن اختلفوا هل تكون مدبِّرة لذلك الجسم أو لا؟ فذهب علماؤنا إلى صحة ذلك بدليلٍ آخر الحديث، وقالت الحكماء: لا يصح أن تكون مدبّرة لتلك الأبدان، وإلا لكان تناسخاً، وهو باطل، ووافق محققو الصوفية العلماء ومنعوا لزوم التناسخ، لأن لزومه على تقدير عدم عودها إلى جسم نفسها الذي كانت فيه، والعود حاصل في النشأة الجنانية. وإنما هذا التعلق في النشأة البرزخية، وإنما سمي الروح روحاً لكونه في روح، أي في نعيم وسرور وراحة لعلمه بربه ومشاهدته إياه، أو لأنه راح في فسحات أفلاك معرفة خالقه بقوةٍ ما، وراح أيضاً في معرفة نفسه بما هو فقير إلى ربه وموجده، فكأنه أمر من (راح، يروح) فلما نقل من الأمر إلى الاسم ردت الواو كما دخل عليه التعريف فإنّ حذف الواو إنما كان لالتقاء الساكنين فكأنه إذا طلب من جهة قيل: راح إلى جهة أخرى.
والروح ما به حياة البدن نحو: { ويسألونكَ عن الرُّوح } (الإسراء/85) والأمر نحو: { ورُوحٌ منْه } (النساء/171) والوحي نحو: { يُنزَّل الملائكةَ بالرُّوح) (النحل/2) و { يُلقي الرُّوح مِنْ أمرْه } (غافر/15). والقرآن نحو:(1/394)
{ وأْوحينا إليه رُوحاً منْ أمرنا } (الشورى/52). والرحمة نحو { وأيدهم بروح منه } (المجادلة/22). والحياة نحو { فروح وريحان } (الواقعة/89). وجبريل عليه السلام نحو { فأرسلنا إليها روحنا } (مريم/17). وملك عظيم نحو { يوم يقوم الروح } (النبأ/38). وجنس من الملائكة نحو { تنزل الملائكة والروح } (القدر/3)... وعيسى النبي أيضاً. والروح الكلي في مرتبة كمال القوة النظرية والعملية يسمى عقلاً، وفي مرتبة الانشراح بنور الإسلام يسمى صدراً، وفي مرتبة المراقبة والمحبة يسمى قلباً، وفي مرتبة المشاهدة يسمى سراً، وفي مرتبة التجلي يسمى روحاً. والروح مؤنث إذا كان بمعنى النفس، ومذكر إذا كان بمعنى المهجة" (الكليات ـ منتخب من ص 373 ـ 377/ ج2).
الروح في "المعجم الفلسفي"
"الروح ما به حياة الأنفس، وهو اسم للنفس، لكون النفس بعض الروح، أو لكونها مبدأ الحياة العضوية والانفعالية وله في اصطلاحنا عدة معان:
1 ـ الروح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه. وهي عند قدماء الأطباء جسم بخاري لطيف يتولد من القلب... عند ديكارت وأصحابه، هي أجزاء لطيفة من الدم تذهب من القلب إلى الدماغ، ثم تنتشر منه بواسطة الأعصاب في سائر أجزاء البدن.
2 ـ الروح مبدأ الحياة البدنية، فإن من شرط حياته سريان الروح فيه.
3 ـ الروح مرادفة للنفس الفردية. ويرى بعض المتصوفة وعلماء اللاهوت أن هذه النفوس قادرة على الاتصال بالله.
4 ـ الروح هي الجوهر العاقل المدرك لذاته من حيث مبدأ التصورات، والمدرك للأشياء الخارجية من جهة ما هي مقابلة للذات. وهذا التقابل بين (الأنا) و(اللاأنا)، له وجوه.
(آ) ـ الروح ما يقابل المادة. (ب) ـ الروح مقابلة للطبيعة، كمقابلة المبدأ المحدث للشيء الحادث. (ج) ـ الروح مقابلة للبدن، لأن الروح تمثل القوة العاقلة، والبدن يمثل الغرائز الحيوانية.
5 ـ إذا أطلق الروح على ما يقابل الحاسية دلّ على القوة المفكرة.(1/395)
6 ـ روح الشيء نفسه، فإذا أضيف لفظ الروح إلى الشيء دل على ماهيته وجوهره.
7 ـ قد يطلق لفظ الروح على الجزء الطيار للمادة بعد تقطيرها كقولنا: روح الخمر، ومنه المشروبات الروحية.
8 ـ للروح في القرآن الكريم عدة معان: (الأول): ما به حياة البدن. (والثاني): بمعنى الأمر. (والثالث): بمعنى الوحي. (والرابع): بمعنى القرآن. (والخامس): بمعنى الرحمة. (والسادس): بمعنى جبريل.
9 ـ الروح الأعظم مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، وروح القدس عند المسيحيين أحد الأقانيم الثلاثة.
10 ـ الأرواح المتمردة أو الأرواح القوية هي الأرواح الغريبة، أو الأرواح المعادية للعقائد الدينية.
11 ـ اختلف الفلاسفة في النفس والروح، فقال فريق: هما متغايران، لأن النفس بعض الروح، وقال فريق: هما شيء واحد، لأننا نعبر عن النفس بالروح وبالعكس، وهذا القول في نظرنا هو الحق" (المعجم الفلسفي ـ منتخب من ص 623 ـ 625/ج1).
الروح في "الموسوعة الفلسفية العربية":
"لفكرة الروح أو النفس أكثر من مصدر... كذلك يسود الاعتقاد بوجود أرواح منتشرة في الكون كالجن أو ما شابه. ولم تقض الأديان على هذه الفكرة، بل اعتقدت بوجود نوعين من الأرواح، الخيرة، والشريرة. وهذه الأرواح بمثابة جواهر قائمة بذاتها... اعتقاد بعض الشعوب البدائية أن مسكن الروح قد يكون خارج الجسد، كأن يكون طيراً ما أو نبتة ما. وبذلك يتحول هذا الطير أو هذه النبتة إلى طوطم مما يوجب على معتنق هذا الرأي الاتصال بهذا الطوطم والاتحاد به.
كان الفيلسوف اليوناني انكساغوراس أول من أعطى فكرة الروح أهمية كبرى. إلا أنه فهم الروح بمعنى ذهن. ومما تجدر الإشارة إليه أن كلمتي ذهن وروح هما جد متقاربتين في الفلسفة اليونانية. وقد اعتقد انكساغوراس أن هنالك قوة ذهنية أو عقلية تسيطر على العالم وتتحكم فيه.(1/396)
وقد رأى الفيثاغوريون، انطلاقاً من تصورهم أن الكون عبارة عن كائن حي يتنفس هواءً في غاية اللطافة، أن النفس عبارة عن مبدأ يشبه إلى حد ما النغم، يؤلف بين أجزاء الحياة. أو هي عبارة عن ذرات تتخلل الهواء وتدخل الجسم لتضفي عليه الوحدة والحركة. وبذلك تظل النفس قوة مادية. إلا أن قسماً من الفيثاغورية قد اعتبر النفس مبدأ روحياً أو ذهنياً، فتصورها على أنها العلة أو السبب الذي يوحد الجسد بإضفائه على ذرات الجسم الوحدة والانسجام. وقد اعتقدت المدرسة الفيثاغورية بفكرة التطهير وآمنت بالتناسخ. فالروح تتأرجح على الدوام بين الجحيم لتتطهّر بالعذاب وبين الأجسام البشرية أو الحيوانية إلى أن تتطهر وتكتمل بذلك سعادتها.
أخذ أفلاطون فكرة وجود النفس قبل حلولها البدن من الفيثاغورية على الأرجح. وقد عالج أفلاطون هذه المشكلة في عدد كبير من حواراته. ففي (فيدون) أثبت أفلاطون وجود النفس انطلاقاً من المعارف التي تدرك بطريق آخر غير طريق الحس والتجربة كمعرفة بعض المبادئ الرياضية كالأكبر أو الأصغر أو ما شابه ذلك من أوليات. ومن هنا كان قول أفلاطون بالتذكر. فالنفس قبل وجودها في الجسم واتحادها به كانت في عالم أكمل هو عالم المثل حيث تعرفت على الحقائق. وهنا يطرح السؤال حول ماهية النفس. أتكون النفس بحكم وجودها في عالم المثل فكرة أو مثالاً كالمثل الأخرى وهذا ما لا يمكن. إذ لو كانت كذلك لما وُجد إلا نفس واحدة وهذا محال إذ النفوس متكثرة بتكثير الأبدان الحاملة لها.(1/397)
ومن المواضيع التي تطرق إليها أفلاطون، علاقة الروح أو النفس بالبدن. فقد اعتبرها سجينة البدن وهذا بمثابة القبر لها. والفكرة هذه من أصل فيثاغوري أيضاً. وقد شرع أفلاطون بقوله في خلود النفس بدفاعه عن سقراط الذي لا يخشى الموت. بل إن الموت سيحرر نفسه من الجسد ليحيا مع الخالدين. ومن أول البراهين التي ساقها على خلود النفس هو برهان البساطة. فالنفس بسيطة وما هو بسيط لا ينحل إلى أجزائه والموت يعني انحلال الشيء ـ الذي هو الجسم ـ إلى الأجزاء التي تركب منها. وما دامت النفس بسيطة فهي إذن خالدة. ثمة عامل آخر يحمل على الاعتقاد بخلودها وهو مجاورتها للمثل في وجودها السابق على نزولها البدن. أضف إلى ذلك قول أفلاطون بأن الحياة في تغير مستمر، ومن ضد إلى ضد من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة ولولا هذه الحركة لانتهت الحياة. ثم إن النفس هي مبدأ الحياة وبذلك تشارك في الحياة بالذات أي بمثال الحياة فهي بذلك تنافي الموت ولا تفنى لأن ماهيتها لا تقبل ما هو ضدها.
نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها وهي تقسيم أفلاطون للنفوس إلى ما يتميز منها بالعقل أو بالغضب أو بالشهوة. وعلى أساس هذا التمييز قسّم الناس إلى فئات: الحكام، والجنود والعمال، وعلى أساس هذا التقسيم وضع أفلاطون تصوره للنظام التربوي والسياسي في كتابه (الجمهورية).(1/398)
مع أرسطو تشعب البحث في النفس واستقل وإن دار في قسم كبير منه حول فلسفة المعرفة أو حول قضايا أخرى يعتبر علم النفس بمعناه الحديث ميداناً لها. والنفس برأي أرسطو هي صورة الجسم ولا وجود لها بالتالي خارجاً عنه. والنفس تساعد الجسم بما لها من قوى مدركة ظاهرة أو باطنة على معرفة العالم الخارجي. أضف إلى ذلك أنها تحفظ للجسم وحدته. وفي كتابه (في النفس) عرف أرسطو النفس بأنها "كمال أول لجسم طبيعي آلي". أي إنها صورة جسم يعمل بواسطة أعضاء أو قوى هي بمثابة الآلات التي تتشعب وظائفها من الغذاء إلى الإحساس إلى الإدراك واكتساب العلوم والمعارف. وقد درس أرسطو عمل هذه الآلات وأضاف إليها قوة أخرى سماها الحس المشترك. ولا آلة خاصة بهذا الإحساس بل له طبيعة مشتركة بين الحواس. وبه يمكن معرفة المحسوسات التي لا يمكن التوصل إليها بواسطة حس واحد. أضف إلى ذلك أن من وظائف الحس المشترك الإحساس بالإحساس. فكل حس يدرك موضوعه دون أن يدرك هذا الإحساس وبالحس المشترك تتوصل النفس لهذا الإدراك.
ومن قوى النفس أيضاً العقل. فيه تفكر وتحصل المعاني. فقبل تحصيله المعقولات يكون العقل عقلاً منفعلاً، أو هيولانياً، عنده القابلية على تحصيل المعاني. وبتحصيله لها يصبح عقلاً مستفاداً. ثمة نقطة أخيرة يثيرها هذا الإدراك. وهي اعتبار أرسطو هذه العلوم لا تتحصل دون مشاركة العقل الفعال. وقد أثار هذا العقل عدة إشكالات أهمها هل يمكن اعتباره درجة من العقل الذي فينا أم أنه عقل مستقل موجود خارج الجسم. وقد أثار هذا العقل جدلاً بالغاً فيما بعد في الفلسفة الأرسطوية، خاصة في الفلسفة العربية ـ الإسلامية.(1/399)
مع أفلوطين اتجهت الفلسفة اتجاهاً صوفياً روحياً مميزاً. فالنفس لا تفهم إلا باعتبارها جزءاً من الحياة الروحية ككل. تنبعث هذه الحياة من الواحد بنوع من الفيض يستمر حتى آخر الأجزاء المادية المحسوسة. تشكل النفس الكلية الأقنوم الثالث في عملية الفيض هذه. فهي الوسيط بين المادة وعالم الحس والمحسوسات من جهة وبين العقل والواحد. أي الروحي من جهة أخرى. عن هذه النفس الكلية تولد النفوس الجزئية. إلا أن دخول النفس الجسد وتداخلها مع عالم المادة يعني بالنسبة لها نوعاً من الانحدار. لذا تشرع النفس بواسطة المعارف التي تكتسب، وبالتأمل خاصّة، في الانشقاق عن عالم المادة لتعود إلى عالمها الروحاني الذي انفصلت عنه. وبقدر ما تنجح في ذلك تكون سعادتها ولذتها. وقد عبر أفلوطين عن هذه العملية تعبيراً صوفياً جميلاً، خاصة في المقالة الثامنة من التاسوعة الرابعة.
في العصور الوسطى تعتبر نظرة القديس توما الأكويني مشابهةً إلى حد بعيد لنظرة أرسطو في النفس. فالنفس صورة البدن ولا يمكن أن توجد قبله. ثم إن النفس ليست مادية وإلا لما استطاعت إدراك العملية العقلية ذات الطبيعة الروحية المحض، كالأفكار المجردة العامة أو الأفكار الرياضية أو العلاقات المنطقية إلخ... ومما تجدر الإشارة إليه أن الأكويني قد أخذ القول بالحس المشترك كقوة مميزة للنفس من أرسطو، إلا أنه قد أولى هذه الميزة عناية مبالغاً فيها.(1/400)
في إثباته لوجود الروح انطلق ديكارت من مقولته الأساسية (أنا أفكر إذن أنا موجود). فهذا الموجود الذي يثبت ديكارت وجوده لا يعني أكثر من جوهر مفكر، أكثر من روح أو نفس، يثير وجودها في الجسد واتحادها به أكثر من إشكال. وهي تتحد بالبدن اتحاداً جوهرياً. والدليل على ذلك الانفعالات والإحساسات التي لا يمكن الوصول إليها بالجسم وحده. بل إن النفس تنبه عليها كذلك. ورغم القول باتحاد النفس والجسم فإن أقواله توحي بعض الأحيان أنه نظر للنفس نظرة حلولية لا اتحادية. فللنفس مكان محدد هو الغدة الصنوبرية في وسط الدماغ. والعلاقة بين ما هو مادي وما هو روحي تؤمنه الأرواح الحيوانية. وهذه من طبيعة مزدوجة، روحانية ومادية، وبذلك تستطيع لعب هذا الدور. وهذا يطرح بدوره تساؤلاً جديداً، ما ضرورة هذه الأرواح إذا كانت الروح متحدة بالبدن؟ إن هذه المفارقة لم تُخْفَ على ديكارت وجوابه في حلها كان نوعاً من الإيمان بأن الله قد رتب الأمور بهذا الشكل لخير الإنسان وحفظ كيانه.
هذه المعضلات التي أثارتها أفكار ديكارت حول الروح، ماهيتها ووحدتها بالجسد كانت من أبرز النقاط التي تعرض لها الفلاسفة بعده. وعلى رأسهم سبينوزا الذي أعاد إلى الأذهان فكرة أرسطو حول النفس مستعملاً تعابير قريبة مما استعمل أرسطو. فالنفس فكرة الجسد. والإنسان يحس بواسطة الجسم تصور الإحساس وتحوله إلى إدراك ساعة انفعال الجسم به. أما لايبنتز فقد حاول تفسير علاقة الروح بالجسم بشكل مغاير. فالنفس تتألف من جملة من المونادات الروحية. والجسد من عدد من المونادات المادية. تبقى مشكلة العلاقة بينهما. في ذلك يرى لايبنتز أن الله قد خلق حركات النفس كما خلق حركات الجسد بشكل يكون الانسجام تاماً بينهما. بذلك أوجد لايبنتز حلاً ميتافيزيقياً لمشكلة العلاقة بين النفس والجسد.(1/401)
في تحليله للنفس انطلق كانط من النتائج التي وصلت إليها الميتافيزيقا مع ديكارت. وقد رفض كانط هذه النتائج لأنها تقوم على أغاليط معينة. إذ لا نستطيع في الواقع انطلاقاً من كوننا نفكر افتراض جوهر روحاني. لأننا بذلك نتعدى حدود التجربة التي أوصلتنا إلى التفكير ناهيك عن الاعتقاد بجوهرية النفس انطلاقاً من وحدة الفكر. فعبارة (أنا أفكر...) التي رددها ديكارت تعني بالضرورة فعلاً منطقياً ولا يجوز الانطلاق من العملية الفكرية إلى الذات وتصورها على أنها جوهر مستقل. فـ (أنا أفكر) تعني أن فكرنا إنما يتعلق بالموضوع وليس مستقلاً. وإلا كان ذلك انطلاقاً من عالم الظاهر إلى ما هو خلف عالم الظواهر. وكل ما نستطيع الوصول إليه حسب كانط هو البرهنة على وجود (الأنا المتعالي) هذا المبدأ الذهني الفعال هو مصدر قدراتنا على تصور الأحكام وعلى وضع القوانين التي ليست أكثر من تنظيمنا لعالم الظاهر.
أما في فلسفة هيغل فللروح مكانها الأول. والروح في مذهبه يعني ماهية الإنسان لا جوهراً قائماً بذاته. بل إن الجوهر في فلسفته يعني ما تعنيه الذات
(Sujet) والبحث عن الروح يعني البحث عن إدراك الإنسان لذاته. هذا الإدراك الذي يبدأ لا واعياً، أو بأدنى درجاته، مجرد إدراك حسي حتى يتحقق بشكله الكامل أي إدراك الروح المطلق وذلك عبر درجات. فالروح عبارة عن التمظهرات العيانية للذهن البشري في شتى الميادين وعبر التاريخ.
الروح في الفكر العربي ـ الإسلامي:
اعتقد العرب منذ الجاهلية بوجود الأرواح. وبأن هذه تسكن بعض الأماكن وتلعب دوراً في الحياة اليومية. كذلك اعتقد الجاهليون أن أرواح القتلى لا تسكن حتى يؤخذ بالثار لها. وسموا هذه بـ الهامة. وهي أشبه بطائر يصرخ فوق قبر الميت حتى يؤخذ بالثأر له. وتشبيه الروح بالطائر فكرة تتردد لدى الساميين ولدى المصريين القدامى. فقد ورد ذلك أيضاً في بعض الخرافات اليونانية.
الروح بعد الإسلام:(1/402)
لا يميز الفكر العربي بعد الإسلام بين فكرة النفس أو الروح. والنظرة الأولى لذلك قرآنية المصدر. فالقرآن يتكلم على الصفة الإلهية التي تتميز بها النفس: { ونفخنا فيه من روحنا } أو { قل الروح من أمر ربي } . وبهذا احتج بعض المسلمين وعلى رأسهم الصوفية ليثبتوا العلاقة التي تربط العبد بالرب. فيما رأى الفقهاء في ذلك سراً لا يدرك فاعتقدوا بوجود الروح دون أن تثار مشكلة ماهيتها. بل لقد دعوا للاكتفاء بما جاء دون اللجوء إلى محاولة التفسير. وإلى جانب ذلك أعطى القرآن تقسيماً للنفوس، أكبّ عليه العلماء طويلاً، فالنفس إحدى ثلاثة، إما لوّامة وإما أمّارة وإما مطمئنة.
مع الفكر الفلسفي الإسلامي ـ العربي تأثرت نظريات النفس بالفكر اليوناني. وبتأثير الدين ركز البحث على بعض الجوانب دون أخرى كالإطناب في البحث عن خلود النفس مثلاً. فالكندي الذي كرّس إحدى رسائله للحديث عن النفس يعتقد أن النفس عبارة عن جوهر بسيط روحاني ذي طبيعة إلهية. ووجودها في البدن إنما هو عَرَض تنتقل بعده إلى عالمها الحقيقي. وللنفس جملة قوى حسية وعقلية وقوى أخرى متوسطة.
وللفارابي تقسيمه في النفس، بل النفوس. إذ إنه يعتقد أن وجود النفس يتعدى عالم الكائنات الحية. فللسماء نفسها وللكواكب كذلك وللعالم نفسه. والدافع لهذا الرأي هو الاعتقاد أن النفس مبدأ حركة. وما دامت الأجرام تتحرك فلها بالضرورة نفس تحركها. في تحديده للنفس يستعير الفارابي تعبير أرسطو فيصفها بأنها صورة الجسد. ثم يرى فيها جوهراً روحانياً مفارقاً وله على ذلك جملة أدلة منها أن النفس تدرك المعقولات أي المعاني المجردة. أو أنها تدرك الأضداد مما يوجب استقلال النفس عن المادة. إلى جانب ذلك بحث الفارابي في قوى النفس وظل في ذلك أرسطوي النزعة.(1/403)
ثمة مشكلة أخرى طرحها الفارابي وردّ عليها بشيء من الغموض. وهذه تتعلق بخلود النفس. حول هذه القضية ترك الفارابي أقوالاً توحي بخلود النفس وأخرى ضد ذلك. وسر الغموض في أقواله يعود لأخذ الفارابي لأفكار الفلسفة اليونانية ولمحاولة توفيقها مع الدين الإسلامي. وقد لاحظ بعض الفلاسفة اللاحقين تردد الفارابي وعابوه عليه. منهم مثلاً ابن طفيل وابن رشد وابن سبعين. والأرجح أن الفارابي يعتقد بخلود قسم من الأنفس العالمة التي بلغت درجة عقلية عالية. أما الأنفس الجاهلة فمصيرها الفناء. ثم إن الفارابي يقول أحياناً بخلود بعض الأنفس الجاهلة، إنما في الشقاء.
ربما كان ابن سينا من أكثر الفلاسفة عناية ببحث موضوع النفس. وفي هذا السبيل كتب عدة رسائل منفصلة وزاد على الفلاسفة الآخرين بقصيدة عينية شرح فيها جملة آرائه بهذا الصدد. وقد انطلق ابن سينا من ضرورة البرهنة على وجود النفس، وله على ذلك عدد من البراهين. منها برهان الحركة الإرادية كحركة الإنسان الذي يقضي ثقل جسمه أن لا يتحرك، أو كحركة الطائر نحو الأعلى، وهذا يوجب بالضرورة وجود محرك زائد على الجسم. كذلك الإدراك لا يتم بواسطة الجسم بل يستلزم قوى مدركة بها يتمُّ التعرف على المجهولات. وكل ذلك لا يتم إلا (بجوهر واحد يتصرف في أجزاء البدن)، وهذا الجوهر هو النفس. ثم إن الجسم يتغير من حال إلى حال. ينمو يمرض ومع ذلك نقول إن الذات لم تتغير في مدى عمرها. وقولنا هذا لا ينطبق إلا على النفس التي تحافظ على وحدة البدن.(1/404)
والنفس بتحديد ابن سينا لها، كمال الجسم الطبيعي (أرسطو). إلا أنه، وكسلفه الفارابي، يرى فيها جوهراً روحانياً. وله على ذلك جملة براهين تتشابه في قسم منها مع البراهين التي ساقها لإثبات وجودها. ولعل أهمها أن النفس تدرك المعاني الكلية وتدرك في ذات الوقت نفسها فلها بالضرورة طبيعة تختلف عن طبيعة الأشياء التي تدركها. والنفس تحدث بحدوث الأبدان الحاملة لها إلا أنها واحدة من حيث النوع. وكذلك تبقى منفردة بعد مفارقتها البدن. وابن سينا يقول صراحة بخلود النفس لأنها كما أثبت ذات روحانية بسيطة والروحي لا يفنى بفناء الجسد. ولم يزد ابن سينا كثيراً على الفارابي في بحثه لقوى النفس سوى أنه زاد على القوى العقلية أمراً لم يكن بعيداً عن ذهن الفارابي وهو الاعتقاد بتميز بعض النفوس بقوة الحدس. وهذا ما يتيح لبعض النفوس الوصول إلى أعلى درجات المعرفة والاتصال بالعقل الفعال. وهذه ميزة الأنبياء. والنفس في نظر الغزالي لطيفة روحانية. لا يؤمن الغزالي بوجودها قبل البدن. وانطلاقاً من تقسيمه العوالم، إلى عالم الملكوت وعالم الملك أو الشهادة. يرى الغزالي أن للنفس طرفين، فهي تتجه من جهة نحو الأعلى وتكتسب علومها ومعارفها مباشرة بواسطة الإشراق، أي باتصال مباشر معه تعالى. وتتوجه من جهة أخرى نحو الجسم في تصرفها، أي بالحواس والقوى الأخرى. ويقول الغزالي بعد ذلك بخلود النفس ودليله على ذلك شرعي لا برهاني... مع ابن رشد تنتهي هذه السلسلة من الفلاسفة المسلمين الكبار الذين تناولوا موضوع الروح أو النفس... وقد اهتم ابن رشد، وبوحي الدين أغلب الظن بإثبات روحانية النفس محملاً في ذلك أرسطو أشياء لم يقلها" (الموسوعة الفلسفية العربية ـ منتخب من ص 462 ـ 466/ج1).
النفس والعقل والروح في "المعجم الصوفي"
النفس الرحماني:(1/405)
المترادفات: نَفَس الرحمن ـ العماء: "العماء هو السحاب يتولد من الأبخرة، ونَفَس الرحمن، بخار رحماني. فالعماء أول صورة قبلها النَفَس. عند ابن عربي: النفس الرحماني أطلقه ابن عربي على الوجود في صورته الأولى قبل أن تظهر فيه أعيان الممكنات... لما للنَفس من علاقة: بالكلام من جهة ـ وبالنفخ من جهة ثانية [الكلام والنفخ فسّر بهما الخلق والمخلوقات]. يقول: 1 ـ النفس ا لرحماني = جوهر العالم "... وليست الطبيعة على الحقيقة إلا: النفس الرحماني، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله، لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة..." (فصوص الحكم). 2 ـ النفس الرحماني: أول غيب ظهر لنفسه = العماء: "والكلمات ظهور العالم من العماء، الذي هو نفس الحق الرحماني، في المراتب المقدرة في الامتداد المتوهم لا في جسم...". 3 ـ النفس الرحماني والكلمات [ = المخلوقات]: "فالكلمات عن الحروف، والحروف عن الهواء، والهواء عن النفَس الرحماني...". "فما ظهر العالم إلا عن صفة الكلام + فالعالم+ عين الحرف المقصود". "والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله، التي هي العالم، هي: نفس الرحمن. ولهذا عبر عنه "بالكلمات". 4 ـ النفس الرحماني والنفخ [النفخ إشارة إلى الإنسان من نفس الرحمن]: "ولما كانت نشأته [الإنسان] من هذه الأركان الأربعة.. فإنه بهذا النفَس الذي هو النفخة ظهر عينه، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال ناراً، لا نوراً. فبطن نفس الرحمة فيما كان به الإنسان إنساناً". مبررات التسمية: "فأول ما نفّس عن الربوبية بنَفَسه، المنسوب إلى: الرحمن، بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية..." (فصوص الحكم).. "الرحمن" ابن عربي يحصر معناه: بالوجود والإيجاد. فالفعل: رَحِمَ به، تعني: أوجد به. فالنفس الرحماني هو... النفس الإيجادي.(1/406)
يقول "فهذا اللوح ـ أي الطبيعة ـ، محل الإلقاء العقلي، هو للعقل بمنزلة: حواء لآدم، وسميت نَفْساً لأنها وُجدت من نفَس الرحمن، فنفَّس الله بها عن العقل إذ جعلها؛ محلاً: لقبول ما يلقى إليها. ولوحاً: لما يسطره فيها...".
يستعمل ابن عربي "النَفَس" مضافة إلى "الألوهية" لا إلى "الرحمن" ويجمعها "أنفاس" ["نفس الرحمن" لا يقبل الجمع] + لأنه خاص بالرحمن ولا ينقسم أو يتجزأ ليجمع لأنه النفس الخاص بكل صورة+" (المعجم الصوفي ـ منتخب من ص 1063 ـ 1067).
العقل في "المعجم الصوفي"
في القرآن: ورد الأصل "عقل" في القرآن بصيغة الفعل (تعقلون ـ يعقلون ـ يعقل...) على حين أن صيغة الاسم: "العقل" لم ترد، وهو يشير إلى "الفهم" المبني على تجربة معينة (سمع ـ رؤية...) والمؤدي إلى الامتناع عن الغي وسلوك طريق الصواب... وقد جعل القرآن العقل صفة "القلب" ويمكن أن نقولها بالشكل التالي: إن حاسة "العقل" عضوها "القلب".
عند ابن عربي:
إنه على خلاف المفكرين والفلاسفة... يجعل العقل أسير مجال محدود لا يتخطى نطاق الظاهر المحسوس، ويقف بالتالي عاجزاً أمام الحقائق الكبرى "العالية".
أطلق ابن عربي على أول مخلوق ظهر في الوجود عشرات الأسماء فهو: العقل الأول، القلم الأعلى، الحق المخلوق به، العدل، الإمام المبين، الحقيقة المحمدية، الدرة البيضاء، نور محمد - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ. وهذه الكثرة في الأسماء أضحت من معالم تفكير شيخنا الأكبر البارزة، فبنيانه الفلسفي قائم على حقيقة واحدة تتعدد أسماؤها بتعدد وجوهها دون أن تتعدد هي في ذاتها. ولكن هذه الكثرة الأسمائية ليست سفسطة كلامية قوامها الترادف التام الكامل، بل نشأت من اختلاف النظرة إلى هذه الحقيقة، ومن صلة هذا الوجود بوجوه حقائق أخرى.
فالحقيقة الوجودية وإن كانت واحدة إلا أنها كل نسب وإضافات ووجوه. فأول مخلوق هو "قلم" من وجه يغاير الوجه الذي يسمى من أجله عقلاً، وهكذا.(1/407)
ـ إن العقل الأول وإن كنا نستطيع أن نثبت أنه يرادف الإنسان الكامل، بطريق الاستدلال، إلا أنه لم يصل إلى مرتبته. وذلك أن الإنسان الكامل له الصورة، أي صورة الحق، على حين أن العقل الأول هو جزء من الصورة. يقول ابن عربي "فلما خلق الله الإنسان الكامل أعطاه مرتبة العقل الأول، وعلمه ما لم يعلمه العقل من الحقيقة الصورية التي هي الوجه الخاص من جانب الحق، وبها زاد على جميع المخلوقات وبها كان المقصود من العالم، فلم تظهر صورة موجود إلا بالإنسان، والعقل الأول على عظمه جزء من الصورة..." (الفتوحات).
ـ العقل الأول هو مرتبة الفعل في مقابل النفس واللوح (مرتبة الانفعال)، أو هو مرتبة الذكورة في مقابل مرتبة الأنوثة (النفس ـ اللوح).(1/408)
يقول ابن عربي "وأين مرتبة الفاعل من المنفعل ألا ترى النفس الكلية التي هي أهل للعقل الأول، ولما زوّج الله بينهما لظهور العالم، كان أول مولود ظهر عن النفس الكلية: الطبيعة..." (الفتوحات). "واعلم أن الله لما أنكح العقل النفس لإظهار الأبناء..." "وأول متعلم قبل العلم بالتعلم لا بالذات: العقل الأول، فعقل عن الله ما علمه وأمره أن يكتب ما علمه في اللوح المحفوظ الذي خلقه منه... فأول أستاذ من العالم هو العقل الأول، وأول متعلم أخذ عن أستاذ مخلوق هو اللوح المحفوظ... واسم اللوح المحفوظ عند العقلاء النفس الكلية وهي أول موجود انبعاثي منفعل عن العقل، وهي للعقل بمنزلة حواء لآدم منه خلق وبه زوّج فثنى" (المعجم الصوفي ـ منتخب من ص 812 ـ 817) وسوف تحيلنا الدكتورة سعاد الحكيم لاستكمال المعنى إلى ما ورد تحت عنوان "القلمُ الأعلى". حيث تقول، بفهم مميز وعميق لابن عربي لا تتسع له العبارات "لقد نظر الشيخ الأكبر إلى الوجود على أنه كتاب مسطور، كل حقيقة مفردة فيه هي حرف، وكل حقيقة مركبة هي كلمة. ويسمى هذا العالم: عالم التدوين والتسطير، فالأول في هذا العالم بطبيعة الحال هو القلم، وبواسطته حصل الأثر، وكان الوجود (= الكتاب)....
ـ وهكذا كل "أثر" في الكون هو نتيجة عن مقدمتين، هما بلغة ابن عربي: فاعل ومنفعل أو قلم ولوح. ولا يكون الأثر إلا بحركة مخصوصة بين القلم واللوح، يعبر عنها الشيخ الأكبر بلفظ: نكاح. وتتعدد الأقلام والألواح في الوجود، إذ أنها تُخلق عند كل فعل أو أثر" (المعجم الصوفي ـ منتخب من 922 ـ 930).
الروح في "المعجم الصوفي":(1/409)
نظرة ابن عربي إلى الروح: هو حصول الاستعداد من الصورة المسواة لقبول التجلي الإلهي الدائم الذي لم يزل ولا يزال، وهو بذلك مبدأ الاختلاف وكثرة الصور في التجلي الواحد ـ ويفترق "الروح" عن "الحياة" من حيث الحكم: فالحياة سارية في كل الكائنات دائمة الحكم، والروح متقطع الحكم ـ أي متقطع الظهورـ.
يقول ابن عربي "إن حكم الأرواح في الأشياء ما مثل حكم الحياة لها، فالحياة: دائمة في كل شيء. والأرواح كالولاة: وقتاً يتصفون بالعزل ووقتاً يتصفون بالولاية، ووقتاً بالغيبة عنها مع بقاء الولاية، فالولاية: مدبراً لهذا الجسد الحيواني، والموت: عزله، والنوم غيبته عنه مع بقاء الولاية عليه".
ـ استعمل ابن عربي عبارة "روح الأرواح" للدلالة على الإنسان الكامل. وهو بذلك يرادف هذه العبارة بعبارة "روح العالم".(1/410)
ـ يجعل ابن عربي الإنسان الكامل، لا الإنسان الحيوان، روح العالم المقصودة ومعناه. أما سبب إطلاق "روح العالم" على الإنسان الكامل من حيث: أن العالم هو جسد لا ينبض إلا بوجود الإنسان الكامل وبانتقاله عن هذه الدار الدنيا إلى الآخرة يموت العالم ـ أي تقوم القيامةـ ... فالإنسان الكامل هو أحياناً كل إنسان تحقق بالكمال الإنساني كما تقرره مبادئ ابن عربي، وأخرى هو شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - فقط. +هو شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - من حيث الصورة والمعنى، وهو الغائية الإلهية من حيث المعنى، أي الحقيقة المحمدية المعرفية التي ظهرت في كل إنسان كامل سواء جاء قبله أو بعده، فالكامل هو صورة لنور الحق الذي خلق الله من أجله العالم+ ويقول ابن عربي "فلما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه وأعطاها جميع حقائق العالم.... وجعلها روحاً للعالم، وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبر له، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم... فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه...". والروح الكل ترادف عنده: النفس الرحماني. يقول "تعيين الأرواح الجزئية المنفوخة في الأجسام المسواة المعدلة من الطبيعة العنصرية من الروح الكل المضاف إليه، ولذلك ذكر [تعالى] أنه خلقها قبل الأجسام أي قدّرها وعيّنها، لكل جسم وصورة روحها المدبر لها الموجود بالقوة في هذا الروح الكل... وذلك هو النفس الرحماني" (المعجم الصوفي، منتخب من 539 ـ 546). وقال عما قصده بالحقيقة المحمدية "كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود + الحقيقة المعرفية بالقوة في الإنسان عن نفخ روحي إلهي + وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : [كنت نبياً وآدم بين الماء والطين وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بعث] (المعجم الصوفي ـ 349).(1/411)
النفس والعقل والروح في دراسات ابن عربي
هل سيفلح ابن عربي بما يملك من المعرفة الروحية في الكشف عن حقيقة النفس والعقل والروح، وخاصة أن دراساته تمثل قمة التجارب الروحية التي جمع فيها بين الشريعة والحقيقة؟
ربما لن نجد الجواب المحدد الذي نبحث عنه، ولكننا سنجد إشارات لها أهميتها في إضاءة كثير من الأمور. وإننا لا نريد في هذا الكتاب الذي نرغب فيه بالاختصار بقدر ما نستطيع حرصاً على وقت القارئ أن نعرف بالشيخ ابن عربي وهو المعروف، ولكن لا بد لنا من الإشارة إلى أهمية النصوص التي سنقدمها للشيخ سواء عن النفس أو العقل أو الروح. فهي بالحقيقة بالنسبة لمن يعرف مكانة الشيخ قد يعتقد بأن رأيه هو القول الفصل الذي لا يحتاج فيه المتتبع له إلى علم جديد يضاف إلى علمه، فهو الشيخ الأكبر، وشارح الشريعة ومحققها وميزانها الدقيق، ولكن لا بد للإنسان لكي يعرف الحقائق من الاطلاع والمقارنة والحوار. وقد أحال الله الإنسان إلى نفسه لكي يعرف خالقه، وأحاله إلى (الآفاق)، وأحاله إلى الأكوان والمخلوقات، وطلب منه التفكر والنظر، مما يدل بأن المعرفة لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا باعتبارات ومستويات متعددة، ولو سلّم المسلمون لما ورد في القرآن تقليداً، لما احتاجوا إلى تجديد الشريعة كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كل مئة عام، مع أن القرآن الذي بين أيدينا لم يتغير. ولكن تطور الحياة اقتضى تجديد الخطاب وإن ظل الأصل على حاله كما هي حقيقة كل الرسالات السماوية وجوهرها، ولهذا لا بد للرسل من تلاميذ وأتباع ورسل في كل زمان لكي لا يخلو الزمان من مبشرين ومنذرين ومذكرين للأمم بما يحقق لها سعادتها، ويحميها من تضليل المضللين والرد عليهم.(1/412)
لهذا لم تكف الشريعة الناس وإن كانت هي الكافية، فكيف ستكون كتب الشيخ كافية؟ ولهذا كان لا بد لنا من عرض وجهة نظره مع وجهات نظر الآخرين، ولكن بما أن لآراء ابن عربي أهمية خاصة قد لا تبدو لأول وهلة، لهذا أردنا أن ننبه القارئ لكي لا يتسرع في تلاوة هذه النصوص وإن وجد في فهمها بعض الصعوبات. فقد صعّب الله الوصول إلى المعادن الثمينة، وجعل الكنوز والجواهر النادرة في أعماق البحار لكي لا ينالها إلا الغوّاصون المهرة ، وهو ضرب مثل، فكيف بمن يريد الوصول إلى كنوز العلم وأسراره، وكيف بمن يريد أن يكون الحق له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً، ليظهر إلى الخلق بنور ربه لا بنور نفسه. فإذا كنّا لا نطمح إلى هذا المقام، ولا نبحث عن هذا الارتقاء، أليس اللائق بنا أن نقتدي بمن بلغ هذا المقام، وأن نتأمل ما قال لنكون مقلدين، إذا لم نكن مبدعين. لهذا يقف العاقل طويلاً أمام كلمات العارفين ولا يسأم من النظر فيها مهما بدت الصعوبات التي سيعانيها، لأن من يمسك بها إنما يمسك بمفاتيح نفسه، ومن عرف مفاتيح نفسه سيعرف الطريق إلى ربه، فهل هناك من له هذا التأثير والدور الخطير في الدلالة على الله مثل النفس؟ فمعرفة النفس هو الباب الموصد الذي إن فتح بالطاعة بما أمر به الشرع، سيدخل الإنسان منه إلى مدن الحق. فما هي النفس؟ هل هي ذلك البحر العميق الذي يحتوي على الكنوز الثمينة، والذي لا يصل إليه إلا الغواصون العظام؟ إننا سنجد لدى الشيخ ابن عربي أقوالاً متنوعة حول النفس، ولكن في كل قول مستوى من المعرفة وإن كان لا يشبه الآخر، إلا أنه يدل على بحر النفس الذي لا ساحل له، كما تدل الأحجار الكريمة على غنى البحار. ونحن إزاء ما ننقله لن نجد وصفاً لغوياً أو تعريفاً معجمياً، وإنما سنواجه أفكاراً متنوعة متصلة بالنفس. وهذه الأفكار بمجموعها ستكشف لنا عن بعض ما نريد أن نعرفه عن النفس، وإن كانت كما يبدو لا تسير وفقاً لمنهج محدد كما في لغة المنطق.(1/413)
وربما لأننا هنا أمام لغة معرفة، لا لغة إقناع، ليس لأن ابن عربي لا يسير وفق منهج منطقي محدد، وإنما لأننا أخذنا النتائج وقدمناها للقارئ بمعزل عن مقدماتها توفيراً لوقت القارئ. ومن أراد أن يعود إلى المقدمات التي اعتمد عليها ابن عربي فعليه أن يعود إلى الأصل، وهو الأفضل لأصحاب الهمم. كما إننا ننوه بأهمية (المعجم الصوفي) للدكتورة سعاد الحكيم لمن أراد الإشارات. ولكن ما الذي سيلفت نظرنا إليه ابن عربي في هذه المقتطفات التي قمنا باختيارها؟
إن ابن عربي سيقسم لنا النفس إلى نفس ناطقة طاهرة، مطيعة لخالقها، وبها يتحقق الإلهام، والاتصال مع الله. ونفس حيوانية هي التي ترتكب الأخطاء والمخالفات بسلطتها على الحواس الطاهرة أيضاً، والتي تضطر لطاعة النفس الحيوانية، وهذه النفس الحيوانية هي التي سيقع عليها الحساب والعقاب في الآخرة. كما سيبين أن المعرفة الحقيقية للوجود هي من شأن الحواس وليس العقل، ولكن العقل مستفيد من معلومات الحواس، كما أنه يستفيد من معلومات الروح التي تقوم بدور الوسيط بين الله والإنسان، وبها يتحقق الإلهام. والروح وإن كانت تتلقى الإلهام من الله، إلا أن الحواس الباطنة هي التي ستقوم بنقل شهودها للروح، وإلى العقل المستفيد. أي أن شهود العارفين، هو شهود بالحواس، ولكن بإمداد من الله لا من أنفسهم. فالأذن لا بد أن تسمع الخطاب، والعين ستبصر، وبقية الحواس بما يناسبها. وهكذا يكون شهود الرسل ومن استفاد من علمهم في هذا الباب، شهوداً تشترك فيه الحواس والروح ويعقله العقل، ولا بد من وقوعه إن كان خبراً. وإنه يشبه علم القائلين بالتجربة الحسية للوصول إلى المعرفة اليقينية. فالإلهام للعارفين طريق يقيني للمعرفة لا شك فيه عندهم، ولكن بمشيئة الله لا بإرادتهم. هذا ما تدلنا عليه أقوال الشيخ ابن عربي.
نصوص للشيخ محي الدين بن عربي عن النفس والعقل والروح
آراء لابن عربي في النفس
وصل في ذكر ما تجب فيه الزكاة:(1/414)
"إن الله أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرهاً مقهوراً. وقد قال سبحانه { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } (النحل/16). وقد ثبت حكم المكره في الشرع. وعلم حد المكره الذي اتفق عليه، والمكره الذي اختلف (فيه). وهذه (الجوارح) من المكرهين المتفق عليهم أنهم مكرهون. فتشهد هذه الأعضاء، بلا شك، على النفس المدبرة لها، السلطانة عليها. والنفس هي المطلوبة، عند الله (بالوقوف) عند حدوده، والمسؤولة عنها. وهي مرتبطة بالحواس والقوى، لا انفكاك لها عن هذه الأدوات الجسمية، الطبيعية، العادلة، الزكية، المرضية، المسموع قولها. ولا عذاب للنفس إلا بوساطة تعذيب هذه الجسوم. وهي التي تحس بالآلام المحسوسة، لسريان الروح الحيواني فيها. وعذاب النفس بالهموم والغموم، وغلبة الأوهام، والأفكار الرديئة؛ وما ترى في رعيتها مما تحس به من الآلام؛ وما يطرأ عليها من التغييرات، كل صنف بما يليق به من العذاب" (الفتوحات المكية ـ 277/ج8 ـ غير محقق ـ 560/ج1).
وصل في فصل صوم يوم الأحد:
"كان للصوم من الطبيعة، الحرارة واليبوسة لفقد الغذاء، وهو ضد ما تطلبه الطبيعة. فإنها تطلب، لأجل الحياة، الحرارة، لا مُنفَعِلَها، وتطلب الرطوبة التي هي منفعلة عن البرودة. فقابلها الصائم بالضدِّ: فقابَلها بالأصل ومُنفَعِله، فإنه مأمور بمخالفة النفس. والنفس طبيعة محضة، منازعة للإله بذاتها، لتوقف وجود عالم الأجسام كلِّه عليها؛ ولولاها لم يظهر لعالم الأجسام عَينٌ. فزهت وتاهت لذلك.(1/415)
فقيل للروح المدبر لهذا الجسم العنصري، المأمور بحفظ الاعتدال على هذا الجسد والنظر في مصالحه: إذا رأيت النفس الطبيعية في هذا المقام من الزهو والخيلاء، فامنعها عن الطعام والشراب والاستمتاع بالجماع، بِنيه المخالفة لها، ونِيَّة التنزيه عما تتخيله الطبيعة أنك مفتقر إليها في ذلك. ولتعلم الطبيعة أنها محكوم عليها؛ فتذل تحت العبودة والافتقار لطلب الغذاء من هذا المدبر لهذا الهيكل. فَسُمّي مثل هذا التدبير صوماً" (الفتوحات المكية ـ 370/ج9 ـ محقق /647/ج1 ـ غير محقق).
في معرفة عدد ما يحصل من الأسرار للمشاهد:
"الصنف الذي تحدثه الأرواح، الطريق إليه بالرياضات النفسية، والمجاهدات البدنية، بأي وجه كان، ومن كان. فإن النفوس إذا صفت من كدر الوقوف مع الطبع، التحقت بعالمها المناسب لها؛ فأدركت ما أدركت الأرواح العلى من علوم الأسرار؛ وانتقش فيها جميع ما في العالم من المعاني، وحصلت من الغيوب بحسب الصنف الروحاني المناسب لها. فإن الأرواح وإن جمعهم أمر واحد، فلكل روح مقام معلوم، فهم على درجات وطبقات، فمنهم الكبير والأكبر" (الفتوحات المكية ـ 21/ ج2).
في ترك الجوع:(1/416)
"ترك الجوع عند القوم ليس الشبع، وإنما هو إعطاء النفس حقها من الغذاء الذي جعل الله به صلاح مزاجها، وقوام بنيتها. فإذا أحس صاحب هذه الحالة بالجوع فذلك جوع العادة. خرّج أبو بكر البزار في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من الجوع ويقول إنه بئس الضجيع. ولا يُذمُّ حال يعطي الفوائد. فدلّ أنه لا فائدة في مثل هذا الجوع، وأن الفوائد فيما أظهر الشرع ميزانه من ذلك. فترك الجوع عبادة وطريق موصلة إلى الله. وبهذا فضل سلمان على أبي الدرداء، وشهد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً. فقم ونم. وصم وأفطر. وأعط كل ذي حق حقه" فإنك لا تدخل على الحق أبداً ولأحد عليك حق. وأعظم الحقوق، حق الله، ثم حق نفسك" (الفتوحات المكية، محقق 644/ج 13 ـ ص 188/ج2/188/ج2 غير محقق).
***
في معرفة الفتنة والشهوة:(1/417)
"أما الشهوة فهي آلة للنفس، تعلو بعلو المُشتَهى، وتسفل باستفال المشتهى. والشهوة إرادة الالتذاذ بما ينبغي أن يلتذ به. واللذة لذتان، روحانية، وطبيعية. والنفس الجزئية متولدة من الطبيعة وهي أمها، والروح الإلهي أبوها. فالشهوة الروحانية لا تخلص من الطبيعة أصلاً. وبقي من يلتذ به، فلا يلتذ إلا بالمناسب. ولا مناسبة بيننا وبين الحق إلا بالصورة. والتذاذ الإنسان بكماله أشد الالتذاذ. ولا يفنى في مشاهدة شيء بكليته، ولا تسري المحبة والعشق في طبيعة روحانيته إلا إذا عشق جارية، أو غلاماً ـ بالنسبة للجارية ـ وسبب ذلك أنه يقابله بكليته لأنه على صورته، وكل شيء في العالم جزء منه، فلا يقابله إلا بذلك الجزء المناسب. فلذلك لا يفنى في شيء يعشقه إلا في مثله. فإذا وقع التجلي الإلهي في عين الصورة التي خُلق آدم عليها، طابق المعنى المعنى، ووقع الالتذاذ بالكل، وسرت الشهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهراً وباطناً. فهي الشهوة التي هي مطلب العارفين الوارثين. ألا ترى إلى قيس المجنون في حب ليلى كيف أفناه عن نفسه لما ذكرناه. وكذلك رأينا لأصحاب الوله والمحبين أعظم لذة، وأقوى محبة في جناب الله من جب الجنس. فإن الصورة الإلهية أتم في العبد من مماثلة الجنس، لأنه لا يتمكن للجنس أن يكون سمعك وبصرك، بل يكون غايته أن يكون مسموعك ومدركك اسم مفعول. وإذا كان العبد مدرِك بحق هو أتم، فلذته أعظم وشهوته أقوى. فهكذا ينبغي أن تكون شهوة أهل الله... فمن عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن. فإنه ميراث نبوي، وحب إلهي. فإنه قال - صلى الله عليه وسلم - [حُبب إليّ من دنياكم ثلاث، النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة] فلم ينسب حبه فيهن إلا إلى الله تعالى. فتدبر هذا الفصل تر عجباً" (الفتوحات المكية ـ 189/ج2).
في معرفة مقام الفراسة وأسرارها:(1/418)
"اعلم أن لطيفة الإنسان المدبرة جسده لما كان لها وجه إلى النور المحض الذي هو أبوها، ووجه إلى الطبيعة، وهي الظلمة المحضة، التي هي أمها؛ كانت النفس الناطقة وسطاً بين النور والظلمة. وسبب توسطها في المكانة، لكونها مدبرة كالنفس الكلية التي بين العقل والهيولى الكل، وهو جوهر مظلم، والعقل نور خالص. فكانت هذه النفس الناطقة كالبرزخ بين النور والظلمة، تعطي كل ذي حق حقه. فمتى غلب عليها أحد الطرفين، كانت لما غلب عليها، وإن لم يكن لها ميل إلى أحد الجانبين تلقت الأمور على الاعتدال وأنصفت وحكمت بالحق" (الفتوحات المكية ـ 239/ج2).
في معرفة كيمياء السعادة:
"إن النفوس خلقت من معدن واحد، كما قال تعالى { خلقكم من نفس
واحدة } وقال بعد استعداد خلق الجسد { ونفخت فيه من روحي } فمن روح واحد صح السرّ المنفوخ في المنفوخ فيه، وهو النفس. وقوله { في أي صورة ما شاء ركبك } يريد الاستعدادات. فيكون بحكم الاستعداد في قبول الأمر الإلهي. فلما كان أصل هذه النفوس الجزئية الطهارة من حيث أبوها، ولم يظهر لها عين إلا بوجود هذا الجسد الطبيعي؛ فكانت الطبيعة الأب الثاني، خرجت ممتزجة فلم يظهر فيها إشراق النور الخالص المجرد عن المواد، ولا تلك الظلمة الغائبة التي هي حكم الطبيعة. فالطبيعة شبيهة بالمعدن، والنفس الكلية شبيهة بالأفلاك التي لها الفعل، وعن حركاتها يكون الانفعال في العناصر" (الفتوحات المكية ـ 272/ج2).
في مقام المعرفة:(1/419)
"اعلم أن المعرفة نعت إلهي لا عين لها في الأسماء الإلهية من لفظها، وهي أحدية المكانة، لا تطلب إلا الواحد. والمعرفة عند القوم محجة.. فكل عمل لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك، فهو معرفة، لأنه عن كشف محقق لا تدخله الشبه، بخلاف العلم الحاصل عن النظر الفكري، لا يسلم أبداً من دخول الشبه عليه، والحيرة فيه، والقدح في الأمر الموصل إليه، واعلم أنه لا يصح العلم لأحد، إلا لمن عرف الأشياء بذاته. وكل من عرف شيئاً بأمر زائد على ذاته، فهو مقلد لذلك الزائد فيما أعطاه. وما في الوجود منْ عَلم الأشياء بذاته إلا واحد، وكل ما سوى ذلك الواحد، فعلمه بالأشياء وغير الأشياء تقليد. وإذا أثبت أنه لا يصح فيما سوى الله العلم بشيء إلا عن تقليد، فلنقلد الله، ولا سيما في العلم به. وإنما قلنا لا يصح العلم بأمر فيما سوى الله إلا بالتقليد، فإن الإنسان لا يعلم شيئاً إلا بقوة ما من قواه التي أعطاه الله، وهي الحواس، والعقل. فالإنسان لا بدّ أن يقلد حسه فيما يعطيه، وقد يغلط، وقد يوافق الأمر على ما هو عليه في نفسه، أو يقلد عقله فيما يعطيه من ضرورة أو نظر، والعقل يقلد الفكر، ومنه صحيح وفاسد، فيكون علمه بالأمور الاتفاق، فما ثم إلا تقليد. وإذا كان الأمر على ما قلناه فينبغي للعاقل إذا أراد أن يعرف الله فليقلد فيما أخبر به عن نفسه في كتبه وعلى ألسنة رسله. وإذا أراد أن يعرف الأشياء، فلا يعرفها بما تعطيه قواه، وليسع بكثرة الطاعات حتى يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه، فيعرف الأمور كلها بالله، ويعرف الله بالله، إذ ولا بدّ من التقليد. وإذا عرفت الله بالله، والأمور كلها بالله، لم يدخل عليك في ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب.(1/420)
فقد نبهتك على أمر ما طرق سمعك، فإن العقلاء من أهل النظر يتخيلون أنهم علماء بما أعطاهم النظر والحس والعقل، وهم في مقام التقليد لهم، وما من قوّة إلا لها غلط قد علموه، ومع هذا غالطوا أنفسهم، وفرقوا بين ما يغلط فيه الحس والعقل والفكر، وبين ما لا يغلط فيه. وما يدريهم لعل الذي جعلوه غلطاً يكون صحيحاً. ولا مزيل لهذا الداء العضال إلا من يكون علمه بكل معلوم بالله لا بغيره. وهو سبحانه عالم بذاته لا بأمر زائد، فلا بدّ أن تكون أنت عالماً بما يعلمه به سبحانه، لأنك قلدت من يعلم ولا يجهل، ولا يقلِّد في علمه، وكل من يقلد سوى الله، فإنه قلد من يدخله الغلط، وتكون إصابته بالاتفاق. فإن قيل لنا ومن أين علمت هذا، وربما دخل لك الغلط وما تشعر به في هذه التقسيمات، وأنت فيها مقلد لمن يغلط، وهو العقل والفكر؟ قلنا صدقت. ولكن لما لم نر إلا التقليد، ترجح عندنا أن نقلد هذا المسمى برسول، والمسمى بأنه كلام الله، وعلمنا + وعملنا + عليه تقليداً، حتى كان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشياء بالله، وعرفنا هذه التقاسيم الله. فكان أصابتنا في تقليد هذا بالاتفاق، لأنّا قلنا مهما أصاب العقل أو شيء من القوى أمر، أمّا على ما هو عليه في نفسه إنما يكون بالاتفاق. فما قلنا إنه يخطئ في كل حال، وإنما قلنا لا نعلم خطأه من إصابته. فلما كان الحق جميع قواه، وعلم الأمور بالله، عند ذلك عَلم الإصابة في القوى من الغلط. وهذا الذي ذهبنا إليه ما يقدر أحد على إنكاره، فإنه يجده من نفسه. فإذا تقرّر هذا، فاشتغل بامتثال ما أمرك الله به من العمل بطاعته، ومراقبة قلبك فيما يخطر فيه، والحياء من الله، والوقوف عند حدوده، والانفراد به، وإيثار جنابه، حتى يكون الحق جميع قواك، فتكون على بصيرة من أمرك. وقد نصحتك إذ قد رأينا الحق أخبر عن نفسه بأمور تردّها الأدلة العقلية، والأفكار الصحيحة، مع إقامة أدلتها على تصديق المخبر، ولزوم الإيمان بها.(1/421)
فقلد ربك، إذ ولا بدّ من التقليد، ولا تقلد عقلك في تأويله، فإن عقلك قد أجمع معك على التقليد بصحة هذا القول إنه عن الله. فما لك منازع منك يقدح فيما عندك، فلا تقلد عقلك في التأويل، واصرف علمه إلى الله قائله، ثم اعمل حتى تنزل في العلم به كهو، فحينئذ تكون عارفاً وتلك المعرفة المطلوبة به والعلم الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبعد أن تقرّر هذا فلنرجع إلى الطريقة المعهودة في هذا الباب التي بأيدي الناس من أهله. فإن هذه الطريقة التي نبهناك عليها طريقة غريبة فنقول: إن المحاسي ذكر أن المعرفة هي العلم بأربعة أشياء، الله والنفس والدنيا والشيطان. والذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن المعرفة بالله ما لها طرق إلا المعرفة بالنفس ـ فقال [من عرف نفسه عرف ربه] وقال أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، فجعلك دليلاً، أي جعل معرفتك بك دليلاً على معرفتك به. فإمّا بطريقة ما وصفك بما وصف به نفسه من ذات وصفات، وجَعْله إياك خليفة نائباً عنه في أرضه، وإمّا بما أنت عليه من الافتقار إليه في وجودك. وأما الأمران معاً لا بدّ من ذلك ورأينا الله يقول في العلم بالله المعبر عنه بالمعرفة { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فأحالنا الحق على الآفاق، هو ما خرج عنا، وعلى أنفسنا وهو ما نحن عليه وبه. فإذا وقفنا على الأمرين معاً حينئذ عرفناه، وتبين لنا أنه الحق. فدلالة الله أتم. وذلك أنا إذا نظرنا في نفوسنا ابتداء لم نعلم هل يعطي النظر فيما خرج عنا من العالم، وهو قوله في الآفاق، علماً بالله ما لا تعطيه نفوسنا أو كل شيء في نفوسنا. فإذا نظرنا في نفوسنا حصل لنا من العلم به ما يحصل للناظر في الآفاق. فأما الشارع فعلم أن النفس جامعة لحقائق العالم، فجمعك عليك حرصاً منه. كما قال فيه "حريصٌ عليكم" حتى تقرب الدلالة فتفوز معجلاً بالعلم بالله فتسعد به.(1/422)
وأما الحق فذكر الآفاق حذراً عليك مما ذكرناه أن تتخيل أنه قد بقي في الآفاق ما يعطي من العلم بالله ما لا تعطيه نفسك، فأحالك على الآفاق. فإذا عرفت عين الدلالة منه على الله، نظرت في نفسك، فوجدت ذلك بعينه الذي أعطاك النظر في الآفاق، أعطاك النظر في نفسك، من العلم بالله، فلم تبق له شبهة تدخل عليك. لأنه ما ثم إلا الله وأنت وما خرج عنك، وهو العالم. ثم علمك كيف تنظر في العالم، فقال { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل، ألا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } الآية { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } وكل آية طُلب منك فيها النظر في الآيات كما قال { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ويتفكرون، ويسمعون، ويفقهون، وللعالمين، وللمؤمنين، ولأولي النهى، ولأولي الألباب } لما علم أنه سبحانه خلق الخلق أطواراً فعدّد الطرق الموصلة إلى العلم به. إذ كل طور لا يتعدّى منزلته بما ركب الله فيه. فالرسول عليه السلام ما أحالك إلا على نفسك لما علم أنه سيكون الحق قواك فتعلمه به لا بغيره، فإنه العزيز، والعزيز هو المنيع الحمى، ومن ظفر به غيره فليس بمنيع الحمى، فليس بعزيز. فلهذا كان الحق قواك. فإذا علمته وظفرت به، يكون ما علمه ولا ظفر به إلا هو، فلا يزول عنه نعت العزة، وهكذا هو الأمر. فقد سدّ باب العلم به إلا منه ولا بد ولهذا ينزهه العقل، ويرفع المناسبة من جميع الوجوه، ويجيء الحق فيصدقه في ذلك، بليس كمثله شيء. يقول لنا صدَقَ العقل، فإنه أعطى ما في قوته، لا يعلم غير ذلك، فإني أعطيت كل شيء خلقه، والعقل من جملة الأشياء، فقد أعطيناه خلقه، وتمم الآية فقال { ثم هدى } أي بيّن فبيّن سبحانه أمراً لم يعطه العقل، ولا قوّة من القوى. فذكر لنفسه أحكاماً هو عليها لا يقبلها العقل إلا إيماناً أو بتأويل، يردها تحت إحاطته لا بد من ذلك. فطريقة السلامة لمن لم يكن على بصيرة من الله أن لا يتأوّل، ويسلّم ذلك إلى الله على علمه فيه. هذه طريقة النجاة.(1/423)
فالحق سبحانه يصدّق كل قوّة فيما تعطيه، فإنها وفت بجميع ما أعطاها الله، وبقي للحق من جانب الحق ذوق آخر، يعلمه أهل الله، وهم أهل القرآن، أهل الله وخاصته. فيعتقدون فيه كل معتقد، إذ لا يخلو منه تعالى وجه، في كل شيء هو حق ذلك الوجه. ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان إلهاً ولكان العالم يستقل بنفسه دونه، وهذا محال. فخلّو وجه الحق عن شيء من العالم محال. وهذه المعرفة عزيزة المنال، فإنها تؤدي إلى رفع الخطأ المطلق في العالم؛ ولا يرتفع الخطأ الإضافي، وهو المنسوب إلى مقابله. فهو خطأ بالتقابل، وليس بخطأ مع عدم التقابل. فالكامل من أهل الله من نظر في كل أمر على حدة حتى يرى خلقه الذي أعطاه الله، ووفاه إياه؛ ثم يرى ما بيّن الله لعباده مما خرج عن خلق كل شيء، فينزل موضع البيان من قوله { ثم هدى } موضعه، وينزل كل خلق على ما أعطاه خالقه. فمثل هذا لا يخطَى ولا يخطئ بإطلاق في الأصول والفروع فكل مجتهد مصيب إن عقلت في الأصول والفروع. وقد قيل بذلك وبعد أن تقرر ما ذكرناه فلنقل، إن المعرفة في طريقنا عندنا لما نظرنا في ذلك فوجدناها منحصرة في العلم بسبعة أشياء، وهو الطريق التي سلكت عليه الخاصة من عباد الله. الواحد علم الحقائق وهو العلم بالأسماء الإلهية. والثاني العلم بتجلي الحق في الأشياء. الثالث العلم بخطاب الحق عبادة المكلفين بألسنة الشرائع. الرابع عالم الكمال والنقص في الوجود. الخامس علم الإنسان نفسه من جهة حقائقه. السادس علم الخيال وعالمه المتصل والمنفصل. السابع علم الأدوية والعلل. فمن عرف هذه السبع المسائل فقد حصل المسمى معرفة ويندرج في هذا ما قاله المحاسبيّ وغيره في المعرفة" (الفتوحات المكية ـ 298 ـ 299/ج2).
***
في مقام المعرفة:(1/424)
"بقي الإنسان متوسط الحال بين كمال الحيرة والحدّ، وهو كمال العالم. فبالإنسان كمل العالم، وما كمل الإنسان بالعالم. فلما انحصرت في الإنسان حقائق العالم بما هو إنسان، لم يتميز عن العالم إلا بصغر الحجم خاصة؛ وبقيت له رتبة كماله. فجميع الموجودات قبلت كمالها، والحق كامل. والإنسان انقسم قسمين: قسم لم يقبل الكمال، فهو من جملة العالم، غير أنه مجموع العالم جمعية المختصر من الكبير. وقسم قبل الكمال، فظهرت فيه لاستعداده الحضرة الإلهية بكمالها وجميع أسمائها. فأقام هذا القسم خليفة، وكساه حلة الحيرة فيه. فنظرت الملائكة إلى نشأة جسده، فقالت فيه ما قالت، لتنافر حقائقه التي ركب الله فيها جسده. فلما أعلمها الحق بما خلقه عليه، وأعطاه إياه، حارت فيه، فقالت: لا علم لنا. والحائر لا علم له. فأعطاه علم الأسماء الإلهية التي لم تسبحه الملائكة بها، ولا قدسته، كما قال عليه السلام: "إنه يحمد الله غداً في القيامة عند سؤاله في الشفاعة بمحامد لا يعلمها الآن يقتضيها الموطن". فإن محامد الله تعالى بحسب ما تطلبها المَواطن والنشآت. فأعطت نشأة آدم ومن أشبهه من أولاده الأهلية للخلافة في العالم، وما كان ذلك لغيرهم. فكان كمال الإنسان بهذا الاستعداد لهذا التجلي الخاص. فظهر بأسماء الحق على تقابلها. وأعطاه الحق فيما بيّن له مصارفها. فهو يظهر بما ظهر من استخلفه، وهي المسمى في الخلافة بالحق والعدل. قال الله لداود: { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } . فيهوي بمتبعه عن هذه الدرجة التي أُهلت لها وأُهلت لكَ ولأمثالك" (الفتوحات المكية ـ 307/ج2).
في معرفة منزل تسبيح القبضتين وتمييزهما:(1/425)
"الجوارح لا تعرف ما الطاعة ولا المعصية... فإذا عذبت النفس في دار الشقاء بما يمس الجوارح من النار وأنواع العذاب، فأما الجوارح فتستعذب جميع ما يطرأ عليها من أنواع العذاب. ولهذا سمي عُذاباً لأنها تَستعذبه كما يستعذب ذلك خزنة النار، حيث ينتقم لله. وكذلك الجوارح حيث جعلها الله محلاً للإنتقام من تلك النفس التي كانت تحكم عليها. والآلام تختلف على النفس الناطقة بما تراه في ملكها، وبما تنقله إليها الروح الحيواني. فإن الحس ينقل للنفس الآلام في تلك الأفعال المؤلمة، والجوارح ما عندها إلا النعيم الدائم في جهنم مثل ما هي الخزنة عليه ممجدة مسبحة لله تعالى، مستعذبة لما يقوم بها من الأفعال كما كانت في الدنيا. فيتخيل الإنسان أن العضو يتألم لإحساسه في نفسه بالألم، وليس كذلك. إنما هو المتألم بما تحمله الجارحة. ألا ترى المريض إذا نام، لا شك أن النائم حيّ، والحسّ عنده موجود، والجرح الذي يتألم به في يقظته موجود، ومع هذا لا يجد العضو ألماً، لأن الواجد للألم قد صرف وجهه عن عالم الشهادة إلى البرزخ، فما عنده خبر. فارتفعت عنه الآلام الحسية وبقي في البرزخ على ما يكون عليه، إما في رؤيا مفزعة فيتألم، أو في رؤيا حسنة فيتنعم، فينتقل معه الألم أو النعيم حيث انتقل. فإذا استيقظ المريض، وهو رجوع نفسه إلى عالم الشهادة، قامت به الآلام والأوجاع. فقد تبين لك إن كنت عاقلاً مَنْ يحمل الألم منك، ومن يحسُّ به ممن لا يحمله ولا يحسّ به. ولو كانت الجوارح تتألم لأنكرت كما تنكر النفس، وما كانت تشهد عليه. قال تعالى: { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } وقال { إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً } . فاسم كان هو النفس، تسأل النفس عن سمعه وبصره وفؤاده كما قررناه. يقال له: ما فعلت برعيتك؟. ألا ترى الوالي الجائر إذا أخذه الملك وعذبه عند استغاثة رعيته به كيف تفرح الرعية بالانتقام من واليها.(1/426)
كذلك الجوارح يكشف لك يوم القيامة عن فرحها ونعيمها بما تراه في النفس التي كانت تدبرها في ولايتها عليها، لأن حرمة الله عظيمة عند الجوارح... فلو كانت الجوارح تتألم لوصفها الله بالألم في ذلك الوقت ولم يَرد بذلك كتاب ولا سنة" (الفتوحات المكية ـ 75/ج3).
في معرفة منزل الحراسة الإلهية لأهل المقامات المحمدية وهو من الحضرة الموسوية:
"من رزق الفهم من المحدثات فقد رزق العلم. وما كل من رزق علماً كان صاحب فهم. فالفهم درجة عليا في المحدثات، وبه ينفصل علم الحق من علم الخلق. فإن الله له العلم، ولا يتصف بالفهم. وبالعلم وفي الفهم عن الله يقع التفاضل بين العلماء بالله. والفهم متعلقة الإمداد الإلهي الصوري خاصة. فإن كان الإمداد في غير صورة، كان علماً ولم يكن هناك حكم للفهم، لأنه لا متعلق له إلا في هذه الحضرة... وكذلك أصل وجود العلم بالله، العلم بالنفس. فللعلم بالله حكم العلم بالنفس الذي هو أصله. والعلم بالنفس بحر لا ساحل له عند العلماء بالنفس، فلا يتناهى العلم بها. فالعلم بالله الذي هو فرع، هذا الأصل يلحق به في الحكم، فلا يتناهى العلم بالله. ففي كل حال يقول ـ ربي زدني علماً ـ فيزيده الله علماً بنفسه ليزيده علماً بربه. هذا يعطيه الكشف الإلهي" (الفتوحات المكية ـ 121/ج3).
في معرفة منزل سرّ صدق فيه بعض العارفين فرأى نوره كيف ينبعث من جوانب ذلك المنزل:(1/427)
"القوى الحسية... هي أتم القوى لأن لها الاسم الوهاب، لأنها هي التي تهب للقوى الروحانية ما تتصرف فيه، وما يكون به حياتها العلمية، من قوة خيال وفكر وحفظ وتصور ووهم وعقل. وكل ذلك من مواد هذه القوى الحسية. ولهذا قال الله تعالى في الذي أحبه من عباده { كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به } وذكر الصورة المحسوسة، وما ذكر من القوى الروحانية شيئاً، ولا أنزل نفسه منزلتها، لأن منزلتها منزلة الافتقار إلى الحواس. والحق لا ينزل منزلة من يفتقر إلى غيره. والحواس مفتقرة إلى الله لا إلى غيره، فنزل لمن هو مفتقر إليه لم يشرك به أحداً، فأعطاها الغنى. فهي يؤخذ منها وعنها، ولا تأخذ هي من سائر القوى إلا من الله. فاعرف شرف الحس وقدره، وإنه عين الحق. ولهذا لا تكمل النشأة الآخرة إلا بوجود الحس والمحسوس، لأنها لا تكمل إلا بالحق. فالقوى الحسية هم الخلفاء على الحقيقة في أرض هذه النشأة عن الله. ألا تراه سبحانه كيف وصف نفسه بكونه، سميعاً بصيراً متكلماً حياً عالماً قادراً مريداً، وهذه كلها صفات لها أثر في المحسوس؛ ويحس الإنسان من نفسه بقيام هذه القوى به، ولم يصف سبحانه نفسه بأنه عاقل، ولا مفكر، ولا متخيل، وما أبقى له من القوى الروحانية إلا ما للحس مشاركة فيه، وهو الحافظ والمصور، فإن الحس له أثر في الحفظ والتصوير. فلولا الاشتراك ما وصف الحق بهما نفسه، فهو الحافظ المصور، فهاتان صفتان روحانية وحسية. فتنبه لما نبهناك عليه لئلا ينكسر قلبك لما أنزلتك منزلة القوى الحسية لخساسة الحسّ عندك، وشرف العقل. فأعلمتك أن الشرف كله في الحس، وإنك جهلت أمرك وقدرك. فلو علمت نفسك علمت ربك، كما إن ربك علمك وعلم العالم بعلمه بنفسه. وأنت صورته، فلا بد أن تشاركه في هذا العلم، فتعلمه من علمك بنفسك.(1/428)
وهذه نكتة ظهرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } فذكر النشأتين، نشأة صورة العالم بالآفاق، ونشأة روحه بقوله وفي أنفسهم. فهو إنسان واحد ذو نشأتين حتى يتبين لهم، للرائين أنه الحق. أي أن الرائي فيما رآه الحق لا غيره" (الفتوحات المكية ـ 189/ج3).
في معرفة منزل ثلاثة أسرار مختلفة الأنوار والقرار والإبدار وصحيح الأخبار:(1/429)
"إن النفس الناطقة سعيدة في الدنيا والآخرة، لاحظ لها في الشقاء، لأنها ليست من عالم الشقاء. إلا أن الله أركبها هذا المركب البدني، المعبر عنه بالنفس الحيوانية. فهي لها كالدابة، وهي كالراكب عليها. وليس للنفس الناطقة في هذا المركب الحيواني إلا المشي بها على الطريق المستقيم الذي عينه لها الحق. فإن أجابت النفس الحيوانية لذلك فهي المركب الذلول المرتاض؛ وإن أبت فهي الدابة الجموح، كلما أراد الراكب أن يردها إلى الطريق حرَنت عليه وجَمحت، وأخذت يميناً وشمالاً، لقوة رأسها، وسوء تركيب مزاجها. فالنفس الحيوانية ما تقصد المخالفة ولا تأتي المعصية انتهاكاً لحرمة الشريعة، وإنما تجري بحسب طبعها، لأنها غير عالمة بالشرع، واتفق أنها على مزاج لا يوافق راكبها على ما يريد منها. والنفس الناطقة لا يتمكن لها المخالفة، لأنها من عالم العصمة والأرواح الطاهرة. فإذا وقع العقاب يوم القيامة، فإنما يقع على النفس الحيوانية، كما يضرب الراكب دابته إذا جمحت وخرجت عن الطريق الذي يريد صاحبها أن يمشي بها عليه. ألا ترى الحدود في الزنا والسرقة والمحاربة والافتراء إنما محلها النفس الحيوانية البدنية، وهي التي تحس بألم القتل وقطع اليد وضرب الظهر؛ فقامت الحدود على الجسم، وقام الألم بالنفس الحساسة الحيوانية التي يجتمع فيها جميع الحيوان المحس للآلام. فلا فرق بين محل العذاب من الإنسان، وبين جميع الحيوان في الدنيا والآخرة. والنفس الناطقة على شرفها مع عالمها في سعادتها الدائمة. ألا ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قام لجنازة يهودي. فقيل له إنها جنازة يهودي، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (أليست نفساً) فما علل بغير ذاتها، فقام إجلالاً لها، وتعظيماً لشرفها ومكانتها. وكيف لا يكون لها الشرف وهي منفوخة من روح الله. فهي من العالم الأشرف الملكي الروحاني، عالم الطهارة.(1/430)
فلا فرق بين النفس الناطقة مع هذه النفس البدنية الحيوانية، وبين الراكب على الدابة في الصورة. فإما جموح، وإما ذلول. فقد بان لك أن النفس الناطقة ما عصت، وإنما النفس الحيوانية ما ساعدتها على ما طلبت منها" (الفتوحات المكية ـ 262/ج3).
في معرفة منزل الأمة البهيمية والإحصار والثلاثة الأسرار العلْوية:
"فُطر الجن والإنس على المعرفة والشهوة، وهي تعلق خاص في الإرادة، لأن الشهوة إرادة طبيعية. فليس للأنس والجن إرادة إلهية كالملائكة، بل إرادة طبيعية، تسمى شهوة. وفطرهما على العقل لا لاكتساب علم. ولكن جعله الله آلة للإنس والجن ليردعوا به الشهوة، في هذه الدار خاصة، لا في الدار الآخرة. ولذلك قال في الدار الآخرة لأهل الجنان { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } إعلاماً لنا بأن النشأة الآخرة التي ينشأ فيها طبيعية، مثل نشأة الدنيا؛ لأن الشهوة لا تكون إلا في النفوس الطبيعية. والنفوس الطبيعية ما لها نصيب في الإرادة. فإذا استفاد الإنسان أو الجان علماً من غير كشف، فإن ذلك مما جعل الله فيه من قوة الفكر. فكل ما أعطاه الفكر للنفس الناطقة، وكان علماً في نفس الأمر، فهو من الفكر بالموافقة. فالعلوم التي في الإنسان إنما هي بالفطرة والضرورة، والإلهام والكشف الذي يكون له، إنما يكشف له عن العلم الذي فطره الله عليه، فيرى معلومه. وأما بالفكر فمحال الوصول به إلى العلم. فإن قيل من أين علمت هذا، وما هو من مدركات الحس، فلم يبق إلا النظر؟ قلنا، ليس كما تقول، بل بقي الإلهام والإعلام الإلهي، فتتلقاه النفس الناطقة من ربها، كشفاً وذوقاً، من الوجه الخاص الذي لها ولكل موجود سوى الله. فالفكر الصحيح لا يزيد على الإمكان، وما يعطي إلا هو. وهذا من علم الله وإعلامه، لم يدرك ذلك بالفكر" (الفتوحات المكية ـ 489/ج3).
آراء لابن عربي في العقل
إشعار البدن وتقليدها النعال والعهن:(1/431)
"خرج مسلم عن ابن عباس قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامِها الأيمن وسلت عنها الدم وقلّدها نعلين ثم ركب راحلتَهَ".
اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر في الإبل (أنها شياطين) وجعل ذلك علة في منع الصلاة في معاطنها. والشيطنة صفة بعد من رحمة الله لا من الله، لأن الكل في قبضة الله وبعين الله... ولا أبعد من شياطين الإنس والجن... وما يتقرب المتقرب إلى الله، من أهل الدعاء إلى الله، بأولَى من ردّ مَنْ شرد عن باب الله وبَعُد إلى الله، لتناله رحمة الله. فإن الرسل ما بعثت بالتوحيد إلا للمشركين ـ وهم أبعد الخلق من الله ـ ليردوهم إلى الله. ويسوقوهم إلى محل القرب وحضرة الرحمة. فلهذا أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدن، مع ذكره فيها (أنها شياطين) = ليثبت عند العالمين به أن مقامه - صلى الله عليه وسلم - ردُّ البعداء من الله إلى حال التقريب. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - (أشعرها في سنامَها الأيمن) وسنامها أرفعٍ ما فيها. فهو الكبرياء الذي كانوا (أي المتكبرون) عليه في نفوسهم. فكان (ذلك) إعلاماً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا بأنه من هذه الصفة أتي عليهم لنجتنبها. فإن الدار الآخرة إنما جعلها الله { للذين لا يريدون علواً في الأرض } . ـ والسنام علو. ووقع الإشعار في صفحة السنام الأيمن.. فإن اليمين محل الاقتدار والقوة.... ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً بُعث إلى الموحدين، ليشهدوا بتوحيدهم على جهة القربة التي لا يستقل العقل بإدراكها ـ أعني بإدراك القربة ـ إلا من جهة الشرع. فتحقق بعثه إلى المشرك والموحد بوجهين" (الفتوحات المكية ـ محقق ـ من ص 187 ـ 191/ ج11 ـ 753/ج1 غير محقق).
منى كلُّها مَنحر:(1/432)
ذكر مسلم في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "مِنَى كلُّها مَنْحر". قد قلنا: إن (مِنَى) = من بلوغ الأمنية. ومن بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية. فجعله محلاً للقرابين، وهو إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية. فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها: فَتُدبرِّها إنسانية بعدما كانت تدبرها إبلاً أو بقراً أو غنماً. وهذه مسألة دقيقة لم يتفطن لها إلا من نوَّر الله بصيرته من أهل الله. ويحتوي عليها قوله تعالى: { وإذ أخذ ربُّك من بني آدمَ من ظهورِهم ذريّاتهم وأَشهدهم على أنفسهم } = وكانوا في حال تفريق في أطوار من المخلوقات، يميز الله أجزاء كل مجموع، وهي معينة عند أرواحها المدبرة لها في كل حال تكون عليها، من اجتماع وافتراق، وتتبدل الأسماء عليها بحسب مزاجها الخاص بها في ذلك الاجتماع. ومن هنا هبت نفحة على القائلين بالتناسخ، فلم يتحققوا معناها: فزلوا وضلّوا وأضلّوا، لأنهم نظروا فيها من حيث أفكارهم: فأخطأوا الطريق، فغلطوا. فهم مخطئين غير كافرين. إلا من أنكر البعث منهم، الذي هو نشأة الآخرة، فهو ملحق بالكفار. ـ والأرواح المدبرة في كل حال لا تتبدل تبدل الصور، لأنها لا تقبل التبديل لأحديتها. وإنما يقبل التبديل المركب من أجسام وأجساد حساً وبرزخاً" (الفتوحات المكية ـ محقق ـ 198/11 ـ 754/ج1).
المقام الذي فوق الفكر ومراتب العلوم:(1/433)
"من علمه ـ سبحانه ـ بذاته، علم العلماء بالله من الله ما لا تعلمه العقول من حيث أفكارها الصحيحة الدلالة. وهذا العلم (هو) ما تقول فيه الطَبقة إنه وراء طور العقل. قال تعالى في عبده خضر: { وعَلمناهُ من لَدنا علماً } وقال تعالى: { علمه البيان } = فأضاف التعليم إليه، لا إلى الفكر. فعلمنا أن ثم مقاماً آخر فوق الفكر، يعطي العبد العلم بأمور شتى: منها ما يمكن أن يدركها من حيث الفكر: ومنها ما يجوِّزها الفكر وإن كان يستحيل أن يُعيِّنها الفكر؛ ومنها ما تستحيل عند الفكر ليقبلها العقل من الفكر مستحيلة الوجود، لا يمكن أن تكون له تحت دليل الإمكان، فيعلمها هذا العقل من جانب الحق واقعة صحيحة، غير مستحيلة: ولا يزول عنها اسم الاستحالة ولا حكم الاستحالة عقلاً. قال - صلى الله عليه وسلم - : [إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكرْهُ إلا أهل الغِرَّة بالله] = هذا، وهو من العلم الذي يكون تحت النطق؛ فما ظنك بما عندهم من العلم مما هو خارج عن الدخول تحت حكم النطق؟ فما كل علم يدخل تحت العبارات. وهي علوم الأذواق كلّها. فلا أعلم من العقل، ولا أجهل من العقل: فالعقل مستفيد أبداً. فهو العالم الذي لا يُعلمُ علمُهُ، وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله" (الفتوحات المكية ـ محقق، ص 59/ج13 ـ 114/ج2).
في معرفة منزل سر وثلاثة أسرار لوحية أمية محمدية:(1/434)
"ما خلق الله العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان، ليعلم أن كل ما ظهر في العالم هو فيه، والإنسان هو العين المقصودة. فهو مجموع الحكم، ومن أجله خلقت الجنة والنار والدنيا والآخرة، والأحوال كلها والكيفيات. وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية وآثارها... وعليه مدار العالم كله، ومن أجله كانت القيامة، وبه أُخذَ الجان، وله سُخّر ما في السموات وما في الأرض. ففي حاجته يتحرك العالم كله علواً وسفلاً، دنيا و آخرة... وما خَص أحداً من خلق الله بالخلافة إلا هذا النوع الإنساني... والأحكام في الحق صور العالم كله، ما ظهر منه، وما يظهر، والأحكام منه. ولهذا قال (له الحكم) ثم يرجع الكل إلى أنه عينه. فهو الحاكم بكل حكم في كلّ شيء حكماً ذاتياً. لا يكون إلا هكذا. فسمى نفسه بأسمائه، فحكم عليه بها. وسمى ما ظهر به من الأحكام الإلهية في أعيان الأشياء ليميز بعضها عن بعض، كما ميز جسم الإنسان عن روحه، وليس إنساناً إلا بمجموعه. كما تسمى خالقاً به وبخلقه. فلا يقال في روح الإنسان أنها عين الإنسان ولا غيره. وكذلك في حقائقه ولوازمه وعوارضه. لا يقال في يد الإنسان، ولا في شيء من أعضائه، إنه عين الإنسان، ولا غير الإنسان. كذلك أعيان العالم لا يقال إنها عين الحق ولا غير الحق. بل الوجود كله حق... فصورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، ثم اختلفت فيها صور الأشكال من تربيع وتثليث وتسديس إلى ما لا يتناهى حكماً، لا وجوداً. والملائكة الحافون من حول العرش، ما لهم سباحة إلا في هذا العماء المستدير الذي ظهر فيه أيضاً عين العرش على التربيع بقوائمه وحملته، من صور المعاني، وصور أجسامها التي هي الحروف الدالة عليها. فإن المعنى لا يستدل عليه إلا من حكم صورته، وهو الحرف. والحرف لا يعلم إلا من حيث معناه، فهو العالم، العلم، المعلوم. فما في الوجود إلا الواحد الكثير، وفيه ظهرت الملائكة المهيمة والعقل والنفس والطبيعة.(1/435)
والطبيعة هي أحق نسبة بالحق مما سواها، فإن كل ما سواها ما ظهر إلا فيما ظهر منها. وهو النفَس، بفتح الفاء، وهو الساري في العالم، أعني في صور العالم. وبهذا الحكم يكون تجلي الحق في الصور التي ذكرها عن نفسه لمن عقل عنه، ما أخبر به عن نفسه تعالى. فانظر في عموم حكم الطبيعة، وانظر في قصور حكم العقل، لأنه في الحقيقة صورة من صور الطبيعة، بل من صور العَماء. والعماء هو من صور الطبيعة. وإنما جعل من جعل رتبة الطبيعة دون النفس، وفوق الهيولى، لعدم شهوده الأشياء، وإن كان صاحب شهود، ومشى هذه المقالة، فإنه يعني بها الطبيعة التي ظهرت بحكمها في الأجسام الشفافة من العرش فما حواه. فهي بالنسبة إلى الطبيعة نسبة البنت إلى المرأة التي هي الأم، فتلد كما تلد أمها وإن كانت البنت مولودة عنها... إن الله ما جعل معرفة الإنسان نفسه إلا ضرب مثال لمعرفة ربه. إذ لو لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وهذا صورة العماء الذي هو الجسم الحقيقي العام الطبيعي الذي هو صورة من قوة الطبيعة تجلى لما يظهر فيه من الصور. وما فوقه رتبة إلا رتبة الربوبية التي طلبت صور العماء من الاسم الرحمن فتنفًَّس. فكان العماء. فشبهه لنا الشرع بما ذكر عنه من هذا الاسم. فلما فهمنا صورته بالتقريب، قال ـ في الحديث النبوي (ما فوقه هواء) يعلو عليه. فما فوقه إلا حق. (وما تحته هواء)، يعتمد عليه، أي ما تحته شيء. ثم ظهرت فيه الأشياء. فالعماء أصل الأشياء، والصور كلّها. وهو أول فرع ظهر من أصل. فهو نجم لا شجر، ثم تفرعت منه أشجار إلى منتهى الأمر والخلق وهو الأرض. وذلك تقدير العزيز العليم" (الفتوحات المكية ـ
420/ج3).
عن العقل:(1/436)
"ليس لأهل الجنان عقل يعرف، إنما هوى وشهوة. يتصرف العقل في أهل النار مَقيله، وبه يكثر حزن الساكن بها وعويله، لما ساء سبيله. العقل من صفات الخلق، ولهذا لم يتصف به الحق. ولولا ما حصر الشارع في الدنيا تصرف الشهوة ما كان للعقل جلوه. فما عرف حقيقة العقل غير سهل، فعيّن ما له من الأهل. قيد المكلّف بالتكليف عن التصريف، فإذا ارتفع التحجير بقي البشير، وزال النذير، وتأخر العقل لتأخر النقل. إذا محق الهلال فاتت الظلال، وفي محاقه عين كماله في حضرة إقباله، كما كان له في إبداره لإدباره. فالأمر بين الحق والخلق مناصفة. والوثيقة التي بيننا وبينه وثيقة مواصفة. فماله فليس لنا، وما ليس له فهو لنا" (الفتوحات المكية ـ 382/ج4).
في معرفة الروح الذي أخذت من تفاصيل نشأته ما سطرته في هذا الكتاب:
"فقلت له: أطلعني على بعض أسرارك، حتى أكون من جملة أحبارك". ـ قال: فإني لا أكون مكلّماً ولا كليما. فليس علمي بسوائي. وليست ذاتي مغايرة لأسمائي. فأنا العلم والمعلوم، والعليم، وأنا الحكمة والمحكم والحكيم ـ" (الفتوحات ـ 219/ج1).
***
"ولولا ما أودَع (الحق) فيّ ما اقتضته حقيقتي، ووصلت إليه طريقتي، لم أجد لمشربه نيلاً، ولا إلى معرفته ميلاً. ولذلك أعود عليَّ عند النهاية. ولهذا يرجع فَخِذُ البِركار، في فتح الدائرة، عند الوصول إلى غاية وجودها، إلى نقطة البداية. فارتبطَ آخر الأمر بأَوله. وانعطف أبده على أزله. فليس إلا وجود مستمر، وشهود ثابت مستقر... وإنما طال الطريق، من أجل رؤية المخلوق... فلو عرفوا، من مكانهم ما انتقلوا. لكن حُجبوا بشفعية الحقائق، عن وترية الحق الخالق، الذي خلق الله به الأرض والطرائق. فنظروا مدارج الأسماء، وطلبوا معارج الإسراء. وتخيلوها أعظم منزلة تطلب، وأسنى حالة يقصد الحق ـ تعالى ـ فيها ويرغب. فسير بهم على براق الصدق ورَفارفه، وحققهم، بما عاينوه، من آياته ولطائفه" (الفتوحات ـ 220/ج1).
***(1/437)
"ولولا ما طُلبَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعراج ما رحل، ولا صَعِد إلى السماء ولا نزل. وكان يأتيه شأن الملأ الأعلى وآيات ربه في موضعه؛ كما زويتَ له الأرض وهو في مضجعه. ولكنه سرٌّ إلهي: لينكره من شاء، لأنه لا يعطيه الإنشاء؛ ويؤمن به من شاء، لأنه جامع للأشياء" (الفتوحات ـ 221/ج1).
***
لما وصلت إليه من الإيمان، ونزلت عليه في حضرة الإحسان ـ أنزلني في حَرَمه، وأطلعني على حُرَمه. وقال: إنما كثَّرت المناسك، رغبة في التماسك. فإنِ لم تجدني هنا، وجدتني هنالك؛ وإن احتجبت عنك في (جمع) تجليت لك في (مِنَى)، مع أني قد أعلمتك، في غير ما موقف من مواقفك، وأشرت به إليك غير مرة في بعض لطائفك ـ أني وإنِ احتجبتُ فهو تجلٍّ لا يعرفه كل عارف، إلا من أحاط علماً بما أحطت به من المعارف. ألا تراني أتجلى لهم، في القيامة، في غير الصورة التي يعرفونها والعلامة. فينكرون ربوبيتي، ومنها يتعوذون ـ وبها يتعوذون، ولكن لا يشعرون! ولكنهم يقولون لذلك المتجلى: "نعوذ بالله منك: وها نحن (أولاء) لربنا منتظرون". فحينئذٍ، أخرج عليهم في الصورة التي لديهم، فيقرون لي بالربوبية، وعلى أنفسهم بالعبوديةً. فهم لعلامتهم عابدون، وللصورة، التي تقررت عندهم، مشاهدون. فمن قال منهم: إنه عبدني، ـ فقوله زور، وقد باهتني. وكيف يصحّ منه ذلك، وعندما تجليت له أنكرني! ـ فمن قيدني بصورة دون صورة، فتخيله عبد؛ وهو الحقيقة الممكَنَّة في قلبه، المستورة. فهو يتخيل أنه يعبدني، وهو يجحدني. والعارفون، ليس في الإمكان خفائي عن أبصارهم، لأنهم غابوا عن الخلق وعن أسرارهم. فلا يظهر لهم عندهم، سوائي. ولا يعقلون من الموجودات سوى أسمائي. فكل شيء ظهر لهم وتجلّى، قالوا: أنت المسبّح الأعلى! فليس سواءً. فالناس بين غائب وشاهد، وكلاهما عندهم شيء واحد" (الفتوحات ـ 222) ـ (الفتوحات المكية ـ محقق ـ 219 ـ 222/ج1 ـ ص 49/ج1).
في الحج وأسراره:(1/438)
"ذكر الدارقطني عن أم كبشة أنها قالت "يا رسول الله! إني آليت أن أطوف بالبيت حبواً". فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [طوفي على راحلتك سبعين، سَبعاً عن يديك، وسُبعاً عن رجليك]. اليدان للإنسان كالجناحين للطائر. فكما يسبح في الأرض برجليه حين يمشي، كذلك يسبح في الماء بيديه إذا مشى فيه. ومع كون الإنسان يمشي على رجليه، فإنه يستعين بحركة يديه إذا مشى. ولما كان باطن الإنسان ـ وهو روحه ـ ملكاً في الحقيقة من ملائكة التدبير، وهم النوع الثالث من الملائكة. وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم (ذوو أجنحة) وما خص ملكاً من ملك؛ فنعلم قطعاً أن نفوسنا من حيث هي من الملائكة الذين مقامهم تدبير هذه الأجسام العنصرية، أنهم ذوو أجنحة؛ وجعلت هذه الأجسام الطبيعية حجاباً دوننا عن إدراكنا إياها. ألا ترى إلى جبريل ـ عليه السلام ـ لما تجسَّد في صورة دِحية وفي صورة الأعرابي، ما ظهر لعين أجنحته عينٌ جملة واحدة. حكم على سترها ظهور صورة الجسم الذي ليس من شأنه أن يكون له جناح، مع كون جبريل له ستمائة جناح. فلما كانت لهم (= للملائكة) السباحة بالأجنحة التي بها يمشون في الهواء ـ هو ركن من الأربعة الأركان ـ كما هي الرجلان للسعي في ركن التراب، ألحق (الشارع) اليدين بالرجلين، فقال لها (النبيُّ) في هذا القول: [طوفي سبعاً] عن روحك لأن مشيه بالجناحين، وهو قوله: "عن يديك وسُبعاً عن رجليك" لأن بهما يكون المشي في الطواف وغيره. فضاعف (الشارع) عليها التكليف لما جعلت (أم كبشة) المشي في غير آلته" (الفتوحات المكية ـ محقق ـ 166/ج11 ـ ص 750/ج1).
آراء لابن عربي في الروح
ما بدء الوحي:(1/439)
"إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال، في نوم كان أو يقظة، (ـ هذا هو بدء الوحي). وهو من مدركات الحس في حضرة المحسوس، مثل قوله (ـ تعالى ـ): { فتمثل لها بشراً سوياً } ، وفي حضرة الخيال كما أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العلم في صورة اللبن" وكذا "أوَّل رؤياه". قالت عائشة: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلقَ الصبح" = وهي التي أبقى الله على المسلمين، وهي من أجزاء النبوة. فما ارتفعت النبوة بالكلية. ولهذا قلنا: إنما ارتفعت نبوة التشريع. فهذا معنى "لا نبي بعده"... فإن أراد الحكيم الترمذي بسؤاله، بَدءَ الوحي في كل صنفٍ صنفٍ، وشخصٍ شخص: فهو الإلهام فإنه لا يخلو
عنه موجود، وهو الوحي" (الفتوحات المكية ـ محقق ـ 184/ج12 ـ ص 58/ج2).
ما بدء الروح:
"أهل الطريق يطلقون لفظ (الروح) على معاني مختلفة، فيقولون: "فلان منه روح، = أي أمر رباني يحيا به من قام به، يعني (يحيا به) قلبه... ويطلقون (الروح) على الذي سئل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويطلقون (الروح) ويريدون به الروح الذي ينفخ منه عند كمال تسوية الخلق. والذي مدار (الطريق) عليه هو الروح الذي يجده أهل الله عند الانقطاع إليه بالهمم والعبادة، فأكثر ما يقع عنه السؤال منهم غالباً. فيكون قوله: (= الحكيم الترمذي): "ما بدءُ الروح؟" = أي ما ابتداء حصوله في قلب العارف؟(1/440)
فنقول: إن بدء الروح في نفوس أهله الذين أهَّلهم الله لتحصيله، أن نفس الرحمن إذا تحكمت في نفوسهم المجاهدات التي تعطيهم رؤية الأغيار عريةً عن رؤية الله فيها، وإنها حائلة وقاطعة بين الله وبين هذا العبد، فيكون صاحب هذه المجاهدة صاحب قَبض وهمٍّ وغمٍّ وحجبٍ يريد رفعها، فيهب عليه من نفس الرحمن في باطنه ما يؤديه إلى رؤية وجه الحق في هذه القواطع على زعمه، وفي هذه الحجب والأشياء التي يجاهد نفسه في قطع ما يتعرض له منها في طريقه، فيريه ذلك النفس وجه الحق في كل شيءٍ، وهو العين والحافظ عليه وجودها، فلم ير (صاحب المجاهدة) شيئاً خارجاً عن الحق! فزال تعبه من حيث ما يريد قطعها. ويتألم عند ذلك ألماً شديداً حيث يتوهم عدم تلك المعرفة، ثم يعقب ذلك سرور عظيم لوجود هذا النفس، فيحيا به معناه (= قلبه) ويصير به روحاً، وهو قوله (ـ تعالى ـ): { أوحينا إليك روحاً من أمرنا } = ما هو تحت كسبك، ولا تعلقَ لك خاطرٌ بتحصيله، ـ (ما كنت تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناهُ نوراً نهدي به من نشاءُ من عبادنا) = فهذا العارف ممن شاءَ (الحقُّ) من عباده! فيقال فيه عند ذلك: إنه ذو روح، ويقال فيه: إنه حيٌّ وقد التحق بالأحياء، وهو قوله ( ـ تعالى ـ ): { أو مَن كان ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ومن لم يجعلِ اللهُ له نوراً } = وهو هذا (الروح) ـ { فما له من نور } = فكان (هذا النور). بجعل الله، لم يضفه إلى الاكتساب فإنه مجهول العين لعدم الذوق. فهذا معنى (بدءِ الروح) الذي يجده العارفون في (الطريق) وهو مقصود السائلين. وهو نور من حضرة الربوبية لا من غيرها، وأصله من (الروح الذي هو من أمر ربي) = أي من (الروح) الذي لم يوجد عن خَلق، فإنّ (عالم الأمر) (هو) كل موجود لا يكون عند سبب كونيٍّ يتقدمه، ولكلٍّ موجودٍ منه شربٌ، وهو (الوجه الخاصٌّ) الذي لكل موجودٍ عن سبب وعن غير سببٍ..(1/441)
فعن هذا (الروح) يكون هذا الروح المسؤول عنه، الذي يجده أهل هذا (الطريق)" (الفتوحات المكية ـ محقق ـ 191/ج12 ـ ص 59/ج2).
لما سمّاه بشراً:
"قال تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } على جهة التشريف الإلهي... فإذا قال صاحب اللسان، إنه فعل هذا بيده. فالمفهوم منه رفع الوسائط. فكانت نسبة آدم في الجسوم الإنسانية، نسبة العقل الأول في العقول. ولما كانت الأجسام مركبة، طلبت اليدين لوجود التركيب. ولم يذكر ذلك في العقل الأول لكونه غير مركب، فاجتمعا في رفع الوسائط. وليس بعد رفع الوسائط في التكوين، مع ذكر اليدين، إلا أمرٌ من أجله سمي بشراً. وسرت هذه الحقيقة في البنين. فلم يوجد أحد منهم إلا عن مباشرة. ألا ترى وجود عيسى عليه السلام، لما تمثل لها الروح بشراً سوياً، فجعله واسطة بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى، تنبيهاً على المباشرة، بقوله { بشراً سوياً } قال تعالى(1/442)
{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وبشرة الشيء ظاهره. والبشرى إظهار علامة حصولها في البشرة. فقوله للشيء: (كن) بالحرفين الكاف والنون، بمنزلة اليدين في خلق آدم. فأقام القول للشيء مقام المباشرة، وأقام الكاف والنون مقام اليدين، وأقام الواو المحذوفة لاجتماع الساكنين مقام الجامع بين اليدين في خلق آدم، وأخفى ذكره كما خفيت الواو من كن... فالإنسان أتم المظاهر، فاستحق اسم البشر دون غيره من الأعيان. وأما قوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم } فسمى المكلم هنا بشراً بهذه الضروب كلها من الكلام، لما يباشره من الأمور الشاغلة له عن اللحوق برتبة الروح التي له من حيث روحانيته، فإن ارتقى عن درجة البشرية، كلمه الله من حيث ما كلم الأرواح، إذ كانت الأرواح أٌقوى في التشبه لكونها لا تقبل التحيز والانقسام، وتتجلى في الصور من غير أن يكون لها باطن وظاهر، فما لها سوى نسبة واحدة من ذاتها وهي عين ذاتها. والبشر من نشأته ليس كذلك فإنه على صورة العالم كله، ففيه ما يقتضى المباشرة والتحيز والانقسام وهو مسمى البشر، وفيه ما لا يطلب ذلك وهو روحه المنفوخ فيه وعلى بشريته توجهت اليدان فظهرت الشفعية في اليدين في نشأته، فلا يسمع كلام الحق من كونه بشراً إلا بهذه الضروب التي ذكرها أو بأحدها. فإذا زال في نظره عن بشريته وتحقق بمشاهدة روحه، كلمه الله بما يكلم به الأرواح المجرّدة عن المواد. مثل قوله تعالى في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي حق الأعرابي { فأجره حتى يسمع كلام الله } وما تلاه عليه غير لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - . فأقام محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصورة مقام الروح الأمين الذي نزل بكلام الله على قلب محمد. وهو قوله: { أو يرسل رسولاً } يعني لذلك البشر "فيوحي إليه بإذنه" ما يشاء الله تعالى مما أمر أن يوحي به إليه.(1/443)
فقوله: { إلا وحياً } يريد هنا إلهاماً بعلامة يعلم بها أن ربه كلمه حتى لا يلتبس عليه الأمر، أو { من وراء حجاب } يريد إسماعه إياه لحجاب الحروف المقطعة والأصوات كما سمع الأعرابي القرآن المتلو الذي هو كلام الله، أو حجاب الآذان أيضاً من السامع، أو حجاب بشريته مطلقاً، فيكلمه في الأشياء كما كلم موسى من جانب الطور الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة { أن يا موسى أني أنا الله } فوقع الحدّ بالجهة وتعين البقعة لشغله بطلب النار الذي تقتضيه بشريته. فنودي في حاجته لافتقاره إليها، والله قد أخبر أن الناس فقراء إلى الله. فتسمى الله في هذه الآية باسم كل ما يفتقر إليه، غيرة إلهية أن يفتقر إلى غير الله. فتجلى الله له في عين صورة حاجته، فلما جاء إليها ناداه منها.فكان في الحقيقة فقره إلى الله، والحجاب وقع بالصورة التي وقع فيها التجلي، فلولا ما ناداه ما عرفه. وفي مثل هذا يقع التجلي الإلهيّ في الآخرة الذي يقع فيه الإنكار. وقوله: { إنه عليّ } أي عليم بما تقتضيه المراتب التي ذكرها وأنزلها منزلتها. وقوله: { حكيم } يريد بإنزال ما علمه منزلته. ولو بدل الأمر لما عجز عن ذلك. ولكن كونه علياً حكيماً يقضي بأن لا يكون الأمر إلا كما وقع. ولما أخبر نبيه بهذه المراتب كلها التي تطلبها البشرية قال له: { وكذلك } ، أي ومثل ذلك { أوحينا إليك روحاً من أمرنا } يعني الروح الأمين الذي نزل به على قلبك، الذي هو روح القدس، أي الطاهر عن تقييد البشر. فقد علمت معنى البشر الذي أردنا أن نبينه لك بما تقتضيه هذه اللفظة باللسان العربيّ" (الفتوحات المكية ـ ص 71/ج2).
في معرفة منزل الابتلاء وبركاته وهو منزل الإمام الذي على يسار القطب:(1/444)
"قال تعالى: { وكان عرشه على الماء } على هنا بمعنى في، أي كان العرش في الماء، كما إن الإنسان في الماء، أي منه تكون. فإن الماء أصل الموجودات كلها، وهو عرش الحياة الإلهية. ومن الماء خلق الله كل شيء حي.. فالعرش هنا عبارة عن الملك. وكان حرف وجودي، فمعناه أن الملْك موجود في الماء، أي الماء أصل ظهور عينه، فهو للمُلْك كالهيولى ظهر فيه صور العالم الذي هو ملك الله. والعالم محصور في أعيان ونسب، فالأعيان وجودية، والنسب معقولة عدمية، وهذا هو كل ماسوى الله. ولما كان الماء أصل الحياة، وكل شيء حيّ، والنسب تابعة له، قرن بين العرش المجعول على الماء، وبين خلقه الموت والحياة في الابتلاء. فقال: { وكان عرشه على الماء ليبلوكم } ، أي يختبركم والعرض كما ذكرت لك أعيان موجودة ونسب عدمية. وقال:(1/445)
{ خلق الموت والحياة ليبلوكم } فالحياة للأعيان، والموت للنسب. فظهور الروح للجسم، حياة ذلك الجسم، كظهور الشمس لاستنارة الأجسام التي ظهرت الشمس لها. وغيبة الروح عن الجسم، زوال الحياة من ذلك الجسم، وهو الموت. فالاجتماع حياة، والفرقة موت. والاجتماع والافتراق نسب معقولة لها حكم ظاهر، وإن كانت معدومة الأعيان. واعلم أن القوى كلها التي في الإنسان وفي كل حيوان، مثل قوّة الحس، وقوّة الخيال، وقوة الحفظ، والقوّة المصوّرة، وسائر القوى كلها المنسوبة إلى جميع الأجسام، علواً وسفلاً، إنما هي الروح، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم، وينعدم فيها ما ينعدم بتوليه عن ذلك الجسم، من ذلك الوجه الذي تكون عنه تلك القوّة الخاصّة فافهم، فإذا أعرض الروح عن الجسم بالكلية، زال بزواله جميع القوى. والحياة وهو المعبر عنه بالموت، كالليل بمغيب الشمس، وأما بالنوم فليس بإعراض كليّ، وإنما هي حجبت أبخرة تحول بين القوى وبين مدركاتها الحسية مع وجود الحياة في النائم، كالشمس إذا حالت السحب بينها وبين موضع خاص من الأرض، يكون الضوء موجوداً كالحياة، وإنْ لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع الذي حال بينه وبينها السحاب المتراكم. وكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بدلاً منه، ظهرت في موضع آخر بنور، أضاء به ذلك الموضع. فكان النهار هنالك كما كان هنا؛ كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كانت حياته به، تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ. وهو بالصاد جمع صورة، فحييت به تلك الصورة في البرزخ. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في نسمة المؤمن: "إنه طير أخضر"، فذلك الطير كالجسم هنا، صورة حييت بهذا الروح الذي كان يحيا به هذا الجسم، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها، كذلك الروح يطلع في يوم الآخرة على هذه الأجسام الميتة فتحيا به. فذلك هو النشر والبعث.(1/446)
واعلم أن الصور أوجده الله على صورة القرن، وسمي بالصور من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له، أو كان منه بسبب، ولما كان هذا القرن محلاً لجميع الصور البرزخية التي تنتقل إليها الأرواح بعد الموت، وفي النوم فيه، سمي صوراً، جمع صورة، وشكله شكل القرن، أعلاه واسع وأسفله ضيق على شكل العالم، أين سعة العرش من ضيق الأرض؟... وتنتقل القوى مع الروح إلى تلك الصورة البرزخية نوعاً وموتاً، ولهذا تكون دراكة بجميع القوى سواء. فقد أعلمتك بما هو الأمر عليه. ومن هنا زلَّ القائلون بالتناسخ، لما رأوا أو سمعوا أن الأنبياء قد نبهت على انتقال الأرواح إلى هذه الصور البرزخية، وتكون فيها على صور أخلاقها. (+ ولما +) رأوا تلك الأخلاق في الحيوانات، تخيلوا في قول الأنبياء والرسل والعلماء أن ذلك راجع إلى هذه الحيوانات التي في الدار الدنيا، وأنها ترجع إلى التخليص، وذكروا ما قد علمت من مذهبهم، فأخطؤوا في النظر، وفي تأويل أقوال الرسل، وما جاء في ذلك من الكتب المنزلة. ورأوا النائم يقرب من هذا الأمر الذي شرعوا فيه، فاستروحوا من ذلك ما ذهبوا إليه. فما أُتي عليهم إلا من سوء التأويل في القول الصحيح. وهذا معنى قوله: { ليبلوكم } أي يختبر عقولكم بالموت والحياة "أيكم أحسن عملاً" بالخوض فيهما والنظر، فيرى من يصيب منكم ومن يخطئ، كأهل التناسخ. وجعل ذلك كله دليلاً واضحاً، ونصبه برهاناً قاطعاً على اسمه الحيّ، واسمه النور، واسمه الظاهر والباطن والأوّل والآخر، ليعلم نسبة العالم من موجده، وأنه غير مستقل بنفسه، وأن افتقاره إلى الله افتقار ذاتيّ لا ينفك عنه طرفة عين، وأن النسب دائمة الحكم لبقاء وجود الأعيان. وهو العزيز المنيع الحمى عن أن يدركه خلقه، أو يحاط بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو الغفور الذي ستر العقول عن إدراك كنهه أو كنه جلاله.(1/447)
واعلم يا وليّ نور الله بصيرتك بعد أن تقرّر عندك، أن حياة الأجسام كلها من حياة الأرواح المدبرة لها، وبانفصالها عنها يكون الموت، فيزول نظامهما، إذا القوى الماسكة لها زالت بزوال الروح المدبر الذي وكله الله بتدبيرها. فاعلم أن الحياة في جميع الأشياء حياتان حياة عن سبب، وهي الحياة التي ذكرناها ونسبناها إلى الأرواح. وحياة أخرى ذاتية للأجسام كلها، كحياة الأرواح للأرواح... فإنه لكل صورة في العالم روح مدبرة، وحياة ذاتية، تزول الروح بزوال تلك الصورة، كالقتيل، وتزول الصورة بزوال ذلك الروح كالميت الذي مات على فراشه. والحياة الذاتية لكل جوهر فيه غير زائلة" (الفتوحات المكية ـ 65/ ج3).
في معرفة منازلة من دخل حضرة التطهير:(1/448)
"إن الجوارح ارتبطت بالنفس الناطقة ارتباط الملك بمالكه، كما هو الأصل عليه، والأصل هو الحق. ولم يزل في أزله مدبراً، فلابد أن يكون تدبيره في مدبر معين له أزلاً، وليس إلا أعيان الممكنات، فهي مشهودة له في حال عدمها، ثابتة، فيدبر فيها ما يكون... فكذلك لما أراد الله إنشاء الأرواح المدبرة فهي لا تكون إلا مدبرة. فإنْ لم يكن لها أعيان وصور يظهر تدبيرها فيها بطلت حقيقتها، إذ هي لذاتها مدبرة. هكذا هو الأمر عند أهل الكشف. وهنا سر عجيب غريب... فالأرواح المدبرة إنما ظهرت بصور مزاج القوابل، فلا تتعدى الأرواح في التدبير ما تقتضيه الهياكل المدبَرة. فانظر إلى أعيان الممكنات قبل ظهورها في عينها، لا يمكن أن يظهر الحق فيها إلا بصورة ما تقبله. فما هي على صورة الحق في الحقيقة، وإنما المدبِّر على صورة المدبَّر، إذ لا يظهر فيه منه إلا على قدر قبوله لا غير. فليس الحق إلا ماهو عليه الخلق. لا يرى من الحق ولا يعلم غير هذا، وهو في نفسه على علم، وله في نفسه ما لا يصحّ أن يُعلم أصلاً. وذلك الأمر الذي لا يعلم أصلاً، هو الذي له بنفسه، المشار إليه بقوله: { والله غني عن العالمين } . وهذا الذي نبهناك عليه من العلم بالله تعالى ما أظهرناه باختيارنا، ولكن حكم الجبرية علينا، فتحفظ به ولا تغفل عنه، فإنه يعلمك الأدب مع الله تعالى. ومن هذا المقام نزل قوله تعالى: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } . أي ما أعطيتك إلا على قدر قبولك. فالفيض الإلهي واسع، لأنه العطاء، فما عنده تقصير، ومالك منه إلاَّ ما تقبله فيك هو ربك الذي تعبده، ولا تعرف إلا هو. وهذه هي العلامة التي يتحول لك فيها يوم القيامة على الكشف، وهو في الدنيا في العموم على الغيب، يعلمها كل إنسان من نفسه، ولا يعلم أنها المعلومة له. ولهذا تقول العامة إن الله ما عودني إلا كذا وكذا. فإذا فهمت هذا علمت أن الحق معك على ما أنت عليه، ما أنت معه.(1/449)
وقد نبهك على هذا في القرآن بقوله تعالى: { وهو معكم أينما كنتم } ، ما أنتم معه. ولا يصح أن يكون أحد مع الله. فالله مع كل أحد بماهو عليه ذلك الواحد من الحال.... فلا يصح التجريد عن التدبير، لأنه لو صح لبطلت الربوبية، وهي لا تبطل، فالتجريد محال. فلا مستند للتجريد لأنك لا تعقل إلهك إلا مدبِّراً فيك، فلا تعرفه إلا من نفسك. فلابد أن تكون على تدبير، فلابد من جسم وروح دنيا وآخرة، كل دار بما يليق بها من النشآت". (الفتوحات المكية- ـ 62/ ج4).
بأي شيء نال التقدم على الملائكة:
"إن الله قد بين ذلك بقوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } يعني الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد حقائق الأكوان، ومن جملتها الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد الملائكة، والملائكة لا تعرفها.ثم أقام المسمين بهذه الأسماء وهي التجليات الإلهية التي هي الأسماء كالمواد الصورية للأرواح. فقال للملائكة: { أنبئوني بأسماء هؤلاء } يعني الصور التي تجلى فيها الحق،
{ إن كنتم صادقين } في قولكم: { نسبح بحمدك } وهل سبحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجلاها لعبادي؟.. وإن كنتم صادقين في قولكم { ونقدّس لك } ذواتنا عن الجهل بك، فهل قدستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات، ومالها من الأسماء التي ينبغي أن تسبحوني بها؟ فقال الملائكة: { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ، فمن علمهم بالله أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى:(1/450)
{ إنك أنت العليم } ، بما لا يعلم، الحكيم بترتيب الأشياء مراتبها، فأعطيت هذا الخليفة مالم تعطنا مما غاب عنا. فلولا أن رتبة نشأته تعطي ذلك، ما أعطت الحكمة أن يكون له هذا العلم الذي خصصته به دوننا وهو بشر، فقال لآدم { أنبئهم بأسماء هؤلاء } الذين عرضناهم عليهم، فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات، وكانت على عدد مافي نشأة آدم من الحقائق الإلهية التي تقتضيها اليدان الإلهية مما ليس من ذلك في غيره من الملائكة شيء. فكان هؤلائك المسمون، المعروضة على الملائكة، تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق. فأولئك هم عالم آدم كلهم. فلما علمهم آدم عليه السلام قال لهم الله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات } ،وهو ما علا من علم الغيوب { والأرض } ، وهو مافي الطبيعة من الأسرار { وأعلم ما تبدون } أي ما هومن الأمور ظاهر { وما تكتمون } ، أي ما تخفونه على أنه باطن مستور. فأعلمتكم أنه أمر نسبيّ، بل هو ظاهر لمن يعلمه. ثم قال لهم بعد التعليم { اسجدوا لآدم } سجود المتعلمين للمعلم من أجل ما علمهم. فلآدم هنا لام العلة والسبب، أي من أجل آدم، فالسجود لله من أ جل آدم سجود شكر لما علمهم الله من العلم به، وبما خلقه في آدم عليه السلام. فعلموا مالم يكونوا يعلمون.فنال التقدمة عليهم بكونه علمهم، فهو أستاذهم في هذه المسألة. وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال في نفسه ـ إنه أوتي جوامع الكلم ـ وهو قوله في حق آدم عليه السلام (كلّها) وكلّها بمنزلة الجوامع،والكلم بمنزلة الأسماء. ونال التقدمة بها، وبالصورة التي خلقه الله عليها.(1/451)
قال عليه السلام: [إن الله خلق آدم على صورته] بالنشأة من أجل اليدين، وجعله بالخلافة على صورته، وهي المنزلة، فأعطته الصورتان التقدم، حيث لم يكن ذلك لغيره من المخلوقات. فليس فوق هذه المنزلة منزلة لمخلوق. فلابدّ أن يكون له التقدمة على من سواه. وكذلك الأمر الذي أعطاه هذا يتقدم على جميع الأمور كلها".(الفتوحات المكية ـ 71/ ج2).
***
الفصل الرابع
النفس والعقل والروح في الفلسفة العربية الإسلامية
الكندي فيلسوف العرب(1/452)
ولد الكندي على وجه التقريب نحو عام (185 هـ/801م ـ 252 هـ /866م). وهو أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي، ويرتقي في نسبه إلى يعرب بن قحطان من عرب الجنوب. وكان أبوه إسحاق بن الصباح أميراً على الكوفة للمهدي والرشيد، وأجداده كانوا ملوكاً على كندة. وقد لقب بـ(فيلسوف العرب). وذكر ابن أبي أصيبعة "أنه كان عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم وعند ابنه أحمد. وذكر البيهقي أنه كان أستاذاً لأحمد بن المعتصم". (تاريخ الفلسفة العربية ـ 360)، وكان الكندي قد تعلم في بغداد، وبقي فيها ليعلّم. وقد عاش الكندي في فترة الحوار الفكري بين مختلف المذاهب الدينية، والتيارات الفلسفية. وكانت حركة النقل والترجمة في ذروة نشاطها، مما أتاح له الاطلاع على الأفكار المعاصرة والثقافات السابقة. وكان على الفيلسوف أن يدرس كل علوم عصره، وأن يبدي رأيه فيها، وهذا ما فعله الكندي، فكان مجموع مؤلفاته "عند ابن النديم 241 عنواناً وعند القفطي 228، وعند ابن أبي أصيبعة 281". (1) واشتملت مؤلفاته على علوم، الفلسفة، وعلم النفس والطب، والهندسة، والفلك، والموسيقى، والتنجيم، والدين، والسياسة. فكان دائرة معارف في زمنه. وهذا ما جعله مقرّباً من الخلفاء، حين كانوا يعرفون قيمة العقول قبل أن يعرفوا قيمة القصور، وكانوا إن ضيعوا وقتهم، وأرادوا الترويح عن أنفسهم، ففي صحبة المبدعين من العلماء والشعراء والموسيقيين لا بصحبة المهرجين والمصفقين. وبإقبال حكام تلك الأزمان على ثمار العقول، وتكريم أصحابها، راج العلم وانتشرت الثقافة وتقدمت في كل المجالات، وارتقت الأمة. فظهر أبو عبد الله البتاني (235هـ/ 847م ـ 317 هـ /229م)، في مجال علم الفلك، والذي يعد من عباقرة العالم القلائل في هذا العلم.(1/453)
وظهر الخوارزمي في علم الجبر، وابن البيطار في النبات، والإدريسي الجغرافي الذي اكتشف منابع النيل، وابن خرداذبه المتوفى (271 هـ/885م)، الذي أكد كروية الأرض، وأيده ابن رسته المتوفى (291 هـ /903م)، وكانوا قد انتقلوا بعلومهم من الأفكار النظرية إلى البراهين العملية. كما ظهر ابن الهيثم المتوفي (430 هـ/ 1038م)، في البصريات والطبيعة، وسيقوم الفارابي إضافة للفلسفة بتطوير الموسيقى، وهكذا كان الإبداع يسير في كل المجالات مثل نهر جارف ليشمل كل العلوم والفنون، وكان من نصيب الكندي في هذا العصر أن يحمل مهمة توطين الفلسفة في المجتمع الإسلامي الجديد، رغم المعارضة التي سيلقاها الكندي من بعض الفقهاء كما يتبين من رسالة له إلى الخليفة المعتصم. فقد وصف المعادين للفلسفة بأنهم "من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق، لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي، والاجتهاد في الأنفاع العامة الكل الشاملة لهم، ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية.... ووضعهم ذوو الفضائل الإنسانية التي قصروا عن نيلها، وكانوا منها في الأطراف الشاسعة، بموضع الأعداد الجريئة الواترة + الموتورة + ذباً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تَجر بشيء باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً" (2) وهكذا كما يبدو فإن الفلسفة سيكون صدامها الأول مع بعض الفقهاء، وسيستمر هذا الصدام لأسباب عديدة، بعضها له شرعيته ومبرراته، منها ضلال بعض الفلسفات وانحرافها، وبعضها فيه ظلم، لأنه استمد من الحكم على الجزء حكمه على الكل دون تمييز، فحرّم كل فلسفة وحاربها.(1/454)
وإذا أردنا الإنصاف والمقارنة، فإننا سنجد بأن بعض الناس ضلوا وأضلوا غيرهم بتأويلهم لما جاء في الكتب السماوية وتحريفهم للآيات عن معناها الصحيح، وهذا ليس ذنب الدين، كما إن انحراف بعض الفلاسفة ليس ذنب الفلسفة، فهل يصح أن نمنع كل ما وقع عليه التحريف، أم نمنع التحريف والمحرفين؟... ولهذا نشعر بأن المبالغة في محاربة الفلسفة دون تحديد لا مبرر له، كما نشعر بأنها علم ضروري لبناء العقول على أسس سليمة، وموازين صحيحة، سواء أدرجت في طيات (علم الكلام)، أو بقيت مستقلة عنه، لأن الإسلام بحاجة إلى الفلسفة خاصة في زمننا لكي تدافع عنه، وتنقل مفاهيمه ومشروعه الإنساني الكبير إلى العالم. وإن ديناً عميقاً وأصيلاً وعملاقاً كالإسلام لا يمكن أن تؤثر عليه بعض الآراء والفلسفات وإن خالفته وناقضته، فالإسلام قوي بالمعرفة، وكما انتصر بها، وكانت رسالته قد بدأت بـ(إقرأ) فكذلك سينتصر بها، ولن ينتصر بغيرها. وإننا عندما نتأمل ونتابع مسيرة الفلسفة العربية الإسلامية سنعرف مقدار الخدمات التي قدمتها للإسلام، بعكس ما ظنه بعض المعارضين والمعادين لتعريبها، إذ فتحت آفاقاً لم يكن يعرفها الفقهاء، وقادت العقول إلى السير وفق منطق محدد وقوانين بشرية تقبلها كل العقول، مما ساعد على تفسير الشريعة الإسلامية وفقاً لمنهج مقبول، فأعطى للإسلام قوة كان يحتاج إليها في عصر شاعت فيه الفلسفة، وكان لابد من استيعابها والاستفادة من مناهجها بدلاً من رفضها. وهذا ما سعى إليه الكندي حيث قال: "ولعمري إن قول الصادق محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أدى عن الله جلَّ وعزَّ، لموجود جميعاً بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلاَّ من حُرم صورة العقل واتحد بصورة الجهل من جميع الناس".(1/455)
(3) فالحقيقة عالمية والفضائل إنسانية، كما هو الإسلام في جوهره، دعوة لمكارم الأخلاق، ولهذا فهم الكندي أن الإسلام، لا تناقض بينه وبين الفلسفة، كما أنه لا تناقض بين البشر الذين يتفقون على قيم روحية وأخلاقية واحدة. وإذا كان الدين قد قام بمهمة التبليغ، فإن الفلسفة ستقوم بمهمة الشرح والتوضيح. لهذا "ينبغي لنا أن لا نستحي من الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بَخْس الحق، ولا تصغير بقائله ولا بالآتي به، ولا أحد بُخِس بالحق، بل كلّ يشرفه الحق"،(4) وفي رسالته إلى المعتصم عن الفلسفة قال: "في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كلّ نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جلّ ثناؤه؛ فإن الرسل الصادقة صلوات الله عليها إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها"(5) إن هذه الرسائل بقدر ماتدل على سعة أفق الكندي، وعالميته، إذا أردنا أن ننسب الفضيلة إلى القلوب التي تحملها، وليس إلى الأوطان التي نبتت فيها، فإنها تدلّ أيضاً على صعوبة الطريق الذي كان الكندي يمهده للفلسفة بالدفاع عنها أمام الخلفاء، وتبرئتها مما كان ينسبه إليها المعارضون، كما يدل على سعة أفق خلفاء ذلك الزمان، الذين جعلوا بغداد عاصمة للعالم، ومركزاً للحوار بين الثقافات والحضارات، مما سيمهد لتعريب أرسطو، ونقله إلى الغرب عربياً، بلسان ابن رشد. وهذا يعود في جوهره إلى عالمية الإسلام، الذي لم يرغب في إقامة إمبراطورية دنيوية إلا من أجل هدف أسمى، هو نشر رايات الإسلام والسلام بين الشعوب.(1/456)
ولهذا ظلت الخلافة مضطرة في كل الظروف إلى وضعٍ هدف تبليغ الرسالة فوق الملْك، وقبول كل الأمم على قدم المساواة دون تمييز، التزاماً بمبدأ قرآني { يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } (الحجرات/13)، ولهذا ماكان بإمكان أي مسلم أن يدافع عن أي تعصب قومي أو عرقي، بل كان ما يعاب هو التعصب. ولهذا بقدر ما كانت دولة الخلافة عالمية بجيوشها والعاملين فيها، فقد كانت عقيدة التسامح السائدة تساعد الفلسفة على الانتشار والقبول، وعندما سينجح الهجوم على الفلسفة في غرب العالم الإسلامي ممثلة بابن رشد، فإنه ستكون بعض أسباب الهجوم ناجمة عن ردة فعل على الهجوم الأوروبي على المسلمين في الأندلس. وهو موقف تلجأ إليه كل الشعوب في أوقات المحنة. إذاً، لم يكن توطين الفلسفة في العالم الإسلامي بالأمر العسير، ولكنها كأي فكر جديد، وبوجود عقيدة متكاملة للدنيا والآخرة لن يخلو من صعوبات. وسوف ينجح الكندي بحنكته وحكمته بتذليل هذه الصعوبات، ونشر أفكار أرسطو الذي أعجب به، وكذلك أفلاطون، في العالم الإسلامي، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإضافة ما يجب إضافته إليهما مما رآه لازماً. ولكن الكندي عبر في فلسفته عن أفكار أرسطو غالباً، فكان ناقلاً أكثر من كونه مبدعاً. وبما أنه ليس من أهداف هذه الدراسة بحث أعمال الكندي، وإنما الاقتصار على عرض وجهة نظره في موضوع النفس والعقل والروح، لذلك فإننا سنتتبع رأيه في هذه القضايا.(1/457)
سيوافق الكندي أرسطو بأن النفس: "استكمال أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة"، أو إنها "تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابل للحياة"، كما جاء في رسائله، كما سيقول متأثراً بالفيثاغورية "هي جوهر عقل متحرك من ذاته بعدد مؤلَّف"، ولكنه سيؤكد أن النفس "جوهر بسيط إلهي روحاني"، لا طول له ولا عمق ولا عرض"، ونور "من نور الباري"(6)، وفي رأيه أن "النفس لا تنام أبداً لكنها لا تستعمل الحواس إبّان النوم، ولو كانت النفس تنام، لما عرف الإنسان ما يراه في الحلم، ولا غيره مما يراه في اليقظة، وإذا بلغت النفس تمام الصفاء، شاهدت في النوم أحلاماً رائعة، وأورت مع النفوس التي تركت أبدانها، ووهبها الله نوره ورحمته؛ هنالك تستشعر لذة دائمة تفوق كل لذائذ الطعام والشراب والفسق، والسمع والبصر واللمس. ونحن في هذه الدنيا كما لو كنا على معبر يمر عليه المسافرون. ولن نبقى فيها طويلاً. إن مقامنا الحق هو في العالم العلوي الشريف الذي ستنتقل إليه النفوس بعد الموت، حيث تكون بقرب الخالق، ونوره، وهنالك تنعم بنور رحمته"، (7) ولكن هذا المقام لن تحظى به كل النفوس حسب رأيه، إذ سيكون فقط للنفوس الطاهرة، بينما ستتدرج النفوس الأقل طهارة، بما يتناسب مع سلوكها بالصعود عبر الأفلاك بادئة من فلك القمر: "فإذا ما تطهرت وتهذبت، ترقت إلى فلك عطارد حيث تمضي فترة من الزمن، فإذا ما تطهرت ترقت إلى الفلك الأعلى، وصارت نقية من كل أدناس الحواس، وهنالك تصعد إلى عالم العقل، وتتجاوز الفلك الأقصى (السماء الأولى) وتقيم في أشرف محل. وهنالك تعرف كل الأشياء، صغيرها وكبيرها؛ ويكل الله إليها جزءاً من تدبير العالم"(8). طبعاً هذه الأفكار ليس لها أي أصل في الإسلام، ماعدا ما أخبر به الإسلام من مبدأ الثواب والعقاب بعد الموت. فمن أين جاء الكندي بهذه الأفكار والتفاصيل، التي تؤيد مبدأ الثواب والعقاب.(1/458)
إذا عدنا إلى رأي أرسطو في تقسيمه للعالم سنعرف المصدر الذي استقى منه الكندي هذه المعلومات. فالعالم :"عند أرسطو (ينقسم قسمين متباينين يفصل بينهما فلك القمر: قسم تحت فلك القمر هو الأرض وما حولها، وهو يخضع للكون والفساد؛ وقسم فوق فلك القمر أوسع جداً من الأول، ولا يخضع لعوامل الكون والفساد، بل يخضع لنظام ثابت). على أن العالم كله متناه، فليس خارج السماء شيء، ولا يمكن أن يكون خارجها شيء. ولهذا ينكر الخلاء، لأن الخلاء هو المكان الذي ليس فيه جسم... والسماء عند أرسطو كروية.... لأنه من بين الأشكال الفراغية تحتل الكرة (أو الفلك) المقام الأول والأسمى. والعالم مؤلف من كرة تطوي في داخله كل الأجسام الغريبة عن الجوهر السماوي.... وهذه الأكر (أو الأفلاك) تتألف كلها من الجوهر غير القابل للفساد، أعني من الأثير" (9). والأرض عند أرسطو هي مركز العالم، ولكنها ثابتة غير متحركة، وبهذا المعنى فالعالم عنده محدود ومتناه. وهذا ما سيستنتجه من برهانه على محدوديَّة الأجسام. وبالتالي محدودية العالم لكونه جسماً أو مجموعة أجسام مترابطة: "إن الجسم لابد أن يكون متناهياً، لأنه ما دام محدوداً فمعنى هذا أنَّه متناهٍ. ويضاف إلى هذا أيضاً أنَّ لكل جسم مكانه الطبيعي ومعنى هذا أن الجسم ينتهي عند حد، فقولنا (فوق) و(تحت) يدل دائماً على أن هنالك حداً سيُنتهى إليه، مهما بَعُد هذا (الفوق) في العلو. أو هذا (التحت) في الهبوط. ففي كلتا الحالتين لابد دائماً من تصور وجود نهاية ينتهي إليها الجسم الطبيعي في حركته. فلهذه الأسباب كلها ـ من طبيعية ومنطقية ـ لا نستطيع أن نقول حينئذٍ باللا متناهي" (10)., ولكن هذه الكواكب التي فوق فلك القمر في نظر أرسطو حية ولها نفس.(1/459)
وهذا سيضع أرسطو أمام مشكلة فهل حركة الكواكب طبيعية أم قسرية بسبب النفس، وسنجد الجواب في شرح الاسكندر الأفروديسي بقوله: "إن الطبيعة في هذه الحالة بالقوة وليست بالفعل، وما الذي يحرك بالفعل فهو النفس" (11)، من هنا سينشأ الاعتقاد بطهارة ما فوق فلك القمر، وبأنه المكان الملائم لخلود النفس وترقيها عبر تصاعد فلكي مفترض لا دليل عليه, ولا ضرورة له. أما بشأن قوى النفس فإن الكندي سيؤكد على كثرة قواها وتنوعها، وأهمها القوتين "الحسية والعقلية" التي ستكون القوى الأخرى ـ المصورة والغاذية والنامية والغضبية والشهوانية ـ كحلقات متوسطة أو رابطة بين الحس والعقل، بآلات أو دون آلات ظاهرة. وسيتبنى تقسيم أفلاطون للنفوس بقوله: "من غلبت عليه + النفس + الشهوانية، وكانت هي غرضه وأكثر همته، فقياسه قياس الخنزير.ومن غلبت عليه الغضبية، فقياسه قياس الكلب، ومن كان الأغلب عليه قوة النفس العقلية وكان دأبه الفكر والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء والبحث عن غوامض العلم، كان إنساناً فاضلاً قريب الشبه من الباري سبحانه".(12)، أما بشأن العقل فإن الكندي سيقسمه إلى أربعة أنواع: "1 ـ عقل بالفعل دائماً ـ وهو العقل الفعال؛ 2 ـ عقل بالقوة؛ 3 ـ عقل ينتقل ـ في النفس من القوة إلى الفعل وهو عقل بالملكة؛ 4 ـ عقل بياني (أو بائن).... العقل الثالث هو الذي اكتسب الملكة، والعقل الرابع هو الذي يمارس ما اكتسب: الثالث مثل الطبيب الذي تعلم الطب لكنه لا يمارسه بالفعل، والرابع مثل الطبيب الذي يمارس مهنة الطب"(13)، ويبدو أن الكندي لم تكن له قدم في الروحانيات، وظلت دراساته في إطار عقلاني، فكان معتزلي النزعة، أرسطي النهج. لكنه عارض أرسطو في لا نهائية الزمان والحركة، وفي قدم العالم. وانحاز إلى رأي أفلاطون في مسألة النفس. لكن الكندي لم يتوصل إلى بناء مذهب فلسفي متكامل. وسيكون له فضل تعريب المصطلحات الفلسفية اليونانية.(1/460)
ولعل إشادة مثل هذا المذهب المتكامل لن يخطر ببال الفلاسفة المسلمين كما سنشاهد، بسبب وجود شريعة دينية متكاملة. وما سيقال عن مذهب أي فيلسوف، فسيكون عبارة عن جمع لآرائه لاستنتاج مذهب محدد، بينما لم يسع أي فيلسوف إسلامي إلى تقديم نفسه كصاحب مذهب متكامل، وإنما كصاحب موقف ورأي في القضايا التي عالجتها الفلسفة. وهذا ليس قصوراً بحد ذاته أو تقصيراً، وإنما لأن فلسفة المسلمين كانت امتداداً لرسالة الإسلام، ومعبرة عن أفكار بلغة الفلسفة، أكثر من كونها صاحبة مشروع مستقل. وهذا ما سوف نجده في كل فلسفات الفلاسفة المسلمين، إذ كان من الصعب تصور بديل عن المشروع الإسلامي في الماضي، كما هو في الحاضر. ولهذا دارت كل الفلسفات والمذاهب في إطاره، واستمدت منه فكرها ومشروعيتها وأهدافها، وإن كان بما يبتعد عنه أحياناً وتأويلياً. وهذا يعود إلى أن القرآن كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "حمال أوجه"، ولهذا سيجد كل صاحب وجه واتجاه في الإسلام مطلوبه ومصدره ومذهبه، فأين الاستقلال، وما الحاجة إليه؟...
الفارابي الفيلسوف الزاهد(1/461)
ولد أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزّلع المعروف بالفارابي نسبة إلى فاراب عام(257 هـ/870م ـ 339 هـ /951م). وقد اشتهر الفارابي إضافة لغزارة علمه وتنوعه بالزهد، وقيل إنه رغم ما قدمه له سيف الدولة من الأموال، فقد اكتفى بأربعة دراهم في اليوم لتأمين الضروري لحياته. وقد أنشأ مذهباً فلسفياً كاملاً، إضافة لتفوقه في كل علوم زمانه. وقد لقب (المعلم الثاني) واشتهر كشارح لأرسطو إلا أن أغلب مؤلفاته ضاعت ولم يصل منها إلا ثلاثين رسالة تقريباً باللغة العربية. وقد حاول الفارابي أن يكون توفيقياً بين أفلاطون وأرسطو، وبين الفلسفة والشريعة، لأنه رأى أن الخلاف بين أهل المعرفة إنما يكمن في المصطلحات، وليس في فهمهم للحقائق. ومع ذلك فقد عارض أفلاطون وأرسطو في موقفهما من (المثل) التي اعتبرها أفلاطون قائمة بذاتها كنماذج للمحدثات، ورفضها أرسطو، فجعلها الفارابي معانٍ في الذات الإلهية، وقال الفارابي: "فالحكيمان متفقان على أن في ذات الله صوراً ومثلاً، ولولا وجود المثل في العقل الإلهي لما كان له مثل ينحو عليه في ما فعله وأبدعه"(1) وهذا الرأي سيرتبط برأي الفارابي في المعرفة حيث سيؤكد بأن للمعرفة ثلاثة مراحل في الوجود. وجود في الذهن (الذات)، ووجود في العالم الروحاني، ثم وجود في المادة. ولكنه سيفشل في التوفيق بين مصدر المعرفة عند أفلاطون باعتبارها تذكراً، وعند أرسطو باعتبارها اكتساباً. وسوف يبني الفارابي فلسفته على نظرية الفيض الأفلوطينية، ولكنه سيجري عليها بعض التعديلات التي لا تمس الجوهر. وفي مسألة النفس سيلجأ إلى حل وسط بين أفلاطون القائل بقدم النفس وخلودها، وأرسطو القائل بحدوثها وموتها مع البدن.(1/462)
وسيقول: "لا يجوز وجود النفس قبل البدن كما يقول أفلاطون، ولا يجوز انتقال النفس من جسد إلى جسد كما يقول التناسخيون، وللنفس بعد البدن سعادات وشقاوات"، وسيؤكد "إنها مفارقة باقية بعد الموت، فليس فيها قوة قبول الفساد"(2). ولكن الفارابي سيقع فيما يناقض مذهبه إذا كان قد قال بأن النفوس المنحطة ستتعرض للفناء وهم "أهل المدن في الجاهلية... كذلك مرضى النفوس.... فهؤلاء تبقى أنفسهم هيولانية مستكملة استكمالاً لا تفارق به المادة حتى إذا بطلت المادة بطلت أيضاً"(3). فهل شك الفارابي في إمكانية خلود النفوس التي لا ترتقي إلى مستوى التجرد عن الماديات في الحياة الدنيا؟ (فالعقل الهيولاني) نسبة إلى (المادة) هو جزء من النفس، وعليه أن يبلغ درجة (العقل المستفاد) بتحصيله: "المعقولات كلها معقولة بالفعل أو جلها"، بحيث: "لا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر" (4)، حتى يستحق الخلود، ويسمي (العقل الفعال) (الروح الأمين)، و(روح القدس). وهو (لم يكن في مادة ولا يكون أصلاً). وهذا (العقل الفعال) الذي قال به أرسطو ليعلل عملية انتقال العقل من القوة إلى الفعل هو عند الفارابي "آخر العقول السماوية المفارقة"، والذي باتصال "العقل الإنساني المستفاد"، به يبلغ الإنسان درجة الكمال والتجرد عن المواد، ويصبح قادراً على شهود الصور المعرفية التي لا تدرك بالعقل الهيولاني أو (العقل بالفعل). إن "فعل هذا العقل المفارق +أي العقل الفعال +في العقل الهيولاني شبيه بفعل الشمس في البصر. فلذلك سمي العقل الفعال... وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر، حصلت المحسوسات حينئذٍ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة، وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس"(5).(1/463)
إنه الفيض النوراني الذي سيقود عند حصوله إلى المعرفة، وهي النظرية التي سيبني الفارابي فلسفته عليها، كما هي عند أفلاطون. وإذا كان الفارابي أقرب لأفلاطون في هذا الموقف، فإنه وافق أرسطو بأن المعرفة لا تأتي إلا عن طريق الحواس، فقال: وحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس... والحواس هي الطرق التي تستفيد منها النفس الإنسانية المعارف".(6). وقد قسم الفارابي العقل إلى عقل عملي "يحوز به الإنسان الصناعات والمهن"، و(عقل نظري) يُحصّل به المعرفة على ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة أطلق عليه اسماً بالقياس إلى رقيه، فهو أولاً عقل بالقوة، وثانياً (العقل بالفعل) وثالثاً وهي المرحلة الأعلى التي سيتاح للإنسان فيها الاتصال بالعقل الفعال هو (العقل المستفاد). وإذا أردنا أن نحكم على الفارابي من أقواله، فإنها تدل بأنه قد نجح في تحقيق مستوى محدود من الاتصال بعالم الروح، وإلا ماكان سيؤمن بمثل هذا الاتصال، وماكان سيحسن الحديث عن أدواته (بالقوة المتخيلة) كما سماها عن طريق الحواس التي جعلها أدوات المعرفة. ومما يؤكد ما نذهب إليه هو أن الفارابي جعل مصدر معرفة رئيس المدينة الفاضلة التي دعى لإقامتها الإلهام الإلهي، وهو مستوى لا يمكن لمن لم يتذوقه أن يتحدث عنه، أو يؤمن به "فرئيس المدينة الفاضلة يتلقى المعرفة مباشرة من العقل الفعال، عن طريق الوحي، إما في وقت اليقظة وإما في وقت النوم.(1/464)
وليس العقل الفعال هنا إلا واسطة ـ لأن العقل الفعال فائض عن وجود السبب الأول فقد يمكن أن يقال إن السبب الأول هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسط العقل الفعال + ويكون + ما يفيض عن الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون" (7)، وهو هنا يلتقي مع أفلاطون حول طبيعة من يجب أن يحكم المدينة الفاضلة. فهو الفيلسوف الذي يتلقى بإلهام من الله، أي الحائز على درجة النبوة. وسيبين الفارابي شروط هذا الطريق وأسسه كما سيبين طبيعة الوحي عن خبرة، مما يدل بأن زهده في الحياة لم يكن عبثاً، بل كان لغاية معرفية ودواع إيمانية، فقال عن الوحي: "إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها... تقبل عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات وتقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة وتراها. فيكون (للإنسان) بما قَبِله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية. فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة".(8).(1/465)
هذا التأكيد على طبيعة النبوة كإمكانية، يستطيع البشر أن ينجحوا في الوصول إليها، تدل على المستوى المعرفي والروحي الذي وصل إليه الفارابي. وإن ما قاله عن فناء (النفوس الهيولانية) يجب أن يكون قد قاله في مرحلة معرفية أدنى، أو إنه قصد أن هذه النفوس ستعاني من ارتباطها المعنوي بالمادة في العالم الآخر حتى تتخلص منها قبل الوصول إلى السعادة، إذ إن الإيمان بالثواب والعقاب في العالم الآخر، يقود إلى هذا الاستنتاج الذي يتطلب بقاء النفس الإنسانية مهما كانت شريرة كي تحاكم. ومما يدل على إيمان الفارابي بالحساب دفاعه عن أفلاطون وأرسطو ضد من اتهموهم بعدم الإيمان بوجود حساب وثواب وعقاب بعد الموت. وقد بين د.بدوي كيف دافع عنهم فقال: "يقول الفارابي إن البعض يزعم أنه لا أفلاطون ولا أرسطو يعتقدان في وجود عالم آخر، ولا في الثواب والعقاب في عالم آخر. لكن الفارابي يرى أن هذا الزعم غير صحيح"(9)، وقام بتقديم مالديه من الأدلة لإثبات إيمانهم. فهل يمكن للفارابي أن يدافع، وأن يفتش عن أدلة للدفاع عن اعتقاد آخرين فيما لا يؤمن به؟... أليس الأقرب إلى المنطق أن يفتش عن أدلة عدم الإيمان لديهم لو كان لا يؤمن بالحساب ليتستر الفارابي وراءهم، على فرض أن الظروف التاريخية لا تسمح له شخصياً بالتشكيك بالحساب. ولكننا عندما نجمع بين زهده وإيمانه بالرؤيا الصادقة والوحي والإلهام، إلى جانب دفاعه عن أفلاطون وأرسطو في الحساب، سنعرف بأن الفارابي لم يكن مؤمناً فقط، بل كان على درجة عالية من الإيمان مما أتاح له أن ينال قبسات من عالم الروح، وإلا ماكان بإمكانه أن يصف لنا طريقة شهود الحقائق بالروح، وصف الخبير والمعاين له.(1/466)
وإن أهمية الفارابي لا تكمن فقط في توطيد أركان الفلسفة العربية الإسلامية، وفي بحثه عن (المدينة الفاضلة) بل في عالميته، حيث تجاوز في هدفه سعي أفلاطون لبناء المدينة الفاضلة اليونانية، والمشاعر العنصرية السائدة في عصره، وسعى لبناء دولة الأمة الفاضلة، والعالم أيضاً فقال: "والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة... وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة"(10)، ومن الواضح من تقسيم الفارابي للمدن، أن المدينة الفاضلة التي اختار لها رئيساً، أقرب إلى النبوة، هي المدينة القائمة على الإيمان والأخلاق والفضائل الروحية. ولهذا لم يفرق بين الأخلاق والسياسة في بحثه، إذ أن السياسة هي أداة لبناء المجتمع الإنساني المتكامل والمتعاون والفاضل، ولذلك لا تنفصل قوانين الدولة عن الغايات التي وضعت من أجلها، وهذا ما فعله أيضاً أفلاطون وأرسطو في أبحاثهما السياسية من قبل.(1/467)
لقد ألف الفارابي كثيراً من الكتب والرسائل، ولكن معظمها فُقد. وسوف يقتل الفارابي على يد جماعة من اللصوص وهو في الطريق إلى عسقلان(سنة 339 هـ في شهر رجب/ كانون الأول 950م أو كانون الثاني 951م)، وقد نقل جثمانه إلى دمشق. وصلى عليه سيف الدولة مع جماعة من رجاله ودفن بظاهر دمشق، خارج الباب الصغير. ولن يظهر له تلاميذ لكي يتابعوا رسالته، إلا أن ابن سينا سيكون تلميذه الأقرب الذي سيأخذ عنه، وإن لم يعرفه. وهكذا انتهت حياة هذا الرجل الحكيم الزاهد على يد فئة من أصحاب (العقل الهيولاني)، الذين لم يعرفوا غير فضيلة المال والثراء ولو بإزهاق أرواح الآخرين، وهو لعنة كل العصور، ونعمتها أيضاً، التي لم يتوقف (الهيولانيون) من الأفراد والدول عن ارتكاب الجرائم للوصول إليه والتنعم به، وهم يشهدون ببلادة دماء من سرقوهم وهي تنزف، وتحت أسماء وشعارات الوطنية والقومية والدين. فهل يستحق مثل هؤلاء غير الجحيم.
ابن سينا وسر الحكمة المشرقية(1/468)
ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، في قرية أمه التابعة لبخارى (أفشنة) سنة (370هـ/ 980م ـ 428هـ/ 1037م). ودفن في همذان. وقد درس ابن سينا كل العلوم التي كانت سائدة في عصره، وكتب فيها، وقيل إن عدد كتبه زاد على المئة إضافة إلى الشعر والرسائل. وإن ابن سينا الذي تفتحت عبقريته في عمر مبكر تحدث عن إتقانه للعلوم وهو في الثامنة عشرة من العمر قائلاً: "تعهدت للمرضى فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصفاً. فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة... وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق وتيسّر المتعسر. وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام. وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها. بحسب الإمكان الإنساني... فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها. وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء"(1)، إن هذه العبقرية المتفتحة باكراً، ستنتهي باكراً بسبب إقبال صاحبها على الدنيا واستمتاعه بها، كما أقبل على العلم. ولكنها ستترك تأثيراً هائلاً ومحيَّراً سيمتد لقرون. وسيقول عنه د.عبد الرحمن بدوي "إن مذهب ابن سينا يُعدّ أوسع نتاج في الفكر الفلسفي في الإسلام. وقد حاول فيه المزج بين فلسفة أرسطو ـ وهو قد تمثلها خير تمثيل ـ وقسمات متناثرة من فلسفة أفلاطون... + وقد + استطاع..(1/469)
في موسوعته الفلسفية الكبرى (الشفاء) أن يقدم أوفى معارف فلسفية عرفتها العصور الوسطى. أما تأثيره في العالم الإسلامي، والعالم اللاتيني الأوروبي في العصر الوسيط، فقد كان هائلاً... ومن هنا سنجد في العالم الإسلامي سلسلة تمتد من القرن الخامس إلى القرن الحادي عشر الهجري تتأثر بفلسفته أو تستلهمها أو توسع جوانب بدأها"(2)، وسيقول عنه محمد عابد الجابري: "إنَّ ابن سينا قد حاول ـ قد قصد ذلك أم لم يقصد ـ الجمع والتوفيق بين أربعة عناصر متنافرة بل متعارضة: "علم الكلام، التصوف، الفلسفة، الأرسطية (=الفارابي)، والفلسفة الإسماعيلية الهرمسية. ومن هنا شهرته بين أوساط المتكلمين والمتصوفة والفلاسفة والإسماعيلية، ومن هنا أيضاً اختلاف الناس فيه، وتعدد اتجاهات أتباعه ومعارضيه سواء بسواء".(3)، وإذا كانت فلسفة ابن سينا هي حصيلة لفلسفات وأفكار متعددة، فإنه من جهة الإسماعيلية، كان عندما التقى بداعية لهم، وانحاز والده إليهم، ظل هو بعيداً عنهم، وقال عن نفسه أنه كان: "يفهم أقوالهم وقلبه بعيدعنهم"(4)، وأما بشأن الهرمسية فهل يصحّ الاستنتاج بهرمسية كل من تلاقت بعض أفكاره مع أفكار قالت بها الهرمسية، وقال بها غيرها بعدها مثل، وجود إله متعالٍ، ونفس إنسانية من نفحة إلهية، ومادة غير طاهرة هي سبب الشر، وطريق لتطهير النفّس... الخ، مما حفلت به جميع الأديان؟ ولماذا بدلاً من ذلك لا نستنتج، الوحدة الجوهرية لجميع الأديان، لأنها من مصدر إلهي واحد، وكان الفرق بينها في طريقة الوصول إلى الهدف وهو الارتقاء بالإنسان إلى الله، فحددت كل شريعة لأتباعها طريقاً لإنجاز رحلة المعرفة الإنسانية الممكنة والمطلوبة.(1/470)
وهذا ما بيّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، (كنز العمال ـ 32346/ج11)، إن البحث عن الإله الخالق، وانتشار الأديان، وأفكار التطهير الروحي للارتقاء بالإنسان، كان سمة لكل العصور ولهذا لم يعرف شعب بلا دين، حتى عندما اكتشفت أمريكا تبين أن لقبائلها أديان، وأساليب للترقي الروحي مثل الصوم والاستحمام والعزلة، فهل يمكن أن نحكم بأن طقوس هؤلاء مستمدة من مصادر هندية أو هرمسية، أو إسلامية لمجرد التشابه القائم بينها وبين الطرق الصوفية المنتشرة في كل أنحاء العالم. إننا لا نريد أن نقلل من تفاعل الثقافات السائدة وتأثيرها في بعضها وخاصة عندما تلتقي في ظل حضارة واحدة، كما حدث في ظل دولة الإسلام، إذ من الطبيعي أن تستوعب الحضارة الجديدة أفضل مافي الثقافات التي سبقتها، ولكن ما الذي سيحدث عندما يكون في الحضارة الجديدة كثير من السمات المشتركة، مثل الإيمان بإله واحد خالق للعالم؟.. هل سنستنتج بأن الحضارة الجديدة، الإسلام مثلاً نقل عن الهرمسية؟... إننا بسبب مثل هذه المفاهيم الخاطئة مازلنا نعاني من تحديد هوية التصوف الإسلامي، ويطرح هذا السؤال كثيرون هل هو هندي؟... وكأن كل معرفة يجب أن تخضع لتسلسل معين، وكأننا نفترض بأن كل معرفة لا يمكن أن يكتشفها إلا شخص فريد من بين كل البشر، ثم لن يتكرر مثل هذا الشخص، مع أن الكثير من المعلومات السرية توصل إليها علماء في مخابر مختلفة وفي أوقات متقاربة.(1/471)
وهذا لا يمنع أن يكتشف ابن سينا الهرمسية دون اطلاع عليها، ولا أن يمارس المسلمون التصوف قبل الاتصال بالهند، وعندما نشاهد اتفاق كل الشعوب على تحديد معظم مفاهيم الخير والشر، فإننا لا نستطيع أن ننسب هذا التوافق إلا للروح الإنسانية السارية في كل البشر، أي للفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما نشاهد بالمثل تشابهاً في طبائع كل نوع من الكائنات الحية وإن عاشت في قارات منفصلة عن بعضها، ودونما حاجة لتلقين ثقافي من أي نوع. إننا لا نرفض تأثر ابن سينا بالهرمسية أو غيرها، فالحكمة ضالة المؤمن، والحكيم، ولكن أليس الإبداع هو جمع لأفضل مافي الماضي والحاضر وتنسيقه وتقديمه في برنامج موحد جديد؟.. إذا كان هذا هو الإبداع فإن ابن سينا لم يكن جامعاً فقط لفلسفات، وتوفيقياً بين اتجاهات فكرية، بل كان مبدعاً في انتقائه لأفكار من سبقه، لأنه صب كل العلوم التي اطلع عليها في قالب إبداعه النقدي، ثم أشاد منها ومما أضافه إليها بناءه الفكري، الأصيل والجديد، فكان بناء استحق عليه لقب الشيخ الرئيس. هذا البناء الفكري ستظهر أهميته لكونه أول محاولة إسلامية لتقديم فلسفة متكاملة تملك أجوبة للرد على المشاكل الفكرية المعاصرة. ولكن بما أن ما يهمنا في هذا البحث هو تقديم فكرة عن النفس والعقل والروح، فإننا سنكتفي بعرض وجهة نظر ابن سينا في هذه المسائل. وسنبدأ أولاً بالنفس، ولعله من أكثر فلاسفة المسلمين الذين كتبوا في هذا الموضوع.(1/472)
لقد قسم ابن سينا النفس إلى ثلاثة أنواع ـ نباتية، وحيوانية، وإنسانية، وهو سيصف النفس كما وصفها أرسطو ـ كمال أول لجسم طبيعي آلي ـ ولكن ما يتميز به كل نوع هو أن كمال النباتية في التغذي، والحيوانية في الحركة الإرادية، وإدراك الجزئيات، والإنسانية بإدراك الكليات وحرية الفكر والاختيار. وأما ما يساعد كل نفس على الكمال الخاص بها. فهو للنباتية ـ القوة الغاذية، والمنمية، والمولدة وهو مابه تحول عناصر الغذاء إلى ما يناسب النبات. أما الحيوانية فإضافة إلى شبهها بالنفس النباتية بآلات مختلفة فلها قوتان: محركة ومدركة. فالمحركة تحرض القوة النزوعية والشوقية بما للشهوة والغضب من تأثير في الأعصاب والعضلات. والمدركة لها طرفان خارجي وداخلي. الخارجي هو الحواس الخمس "وأما القوى المدركة من باطن: فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات. وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات... والفرق بين إدراك الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً، لكن الحس الظاهر يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس مثل إدراك الشاة لصورة الذئب... فإن نفس الشاة الباطنة تدركها، ويدركها أولاً حسها الظاهر. وأما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولاً".(5)، وما تدرك به النفس الحيوانية معاني الصور بالقوى الباطنة هو: "1 ـ قوة فنطاسيا، أي الحس المشترك، وهي قوة تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس التي تصل منها إلى الحس المشترك. 2 ـ الخيال والصورة: وهي قوة تحفظ ما قَبِله الحس المشترك...3 ـ قوة تسمى متخيلة بالنسبة إلى النفس الحيوانية، ومفكرة بالنسبة إلى النفس الإنسانية... وهي قوة تركب بعض مافي الخيال. 4 ـ القوة الوهمية: وهي قوة تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب منه، والولد معطوف عليه.(1/473)
5 ـ القوة الحافظة ـ الذاكرة، وهي قوة تحفظ ماتدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية. ونسبة القوة الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس".(6). فالنفس عند ابن سينا، ذات واحدة لكل نوع تخدمها عدة قوى، وبها تؤدي النفس وظيفتها لتحقيق الغاية من وجودها. وهكذا تترتب قوى النفس في خدمة بعضها وصولاً إلى النفس الناطقة الخاصة بالإنسان الذي يرأسه العقل القدسي والذي "هو الغاية القصوى،ويتلوه العقل المستفاد، ويخدمه العقل بالملكة، وآخره العقل الهيولاني الذي يخدم العقل بالملكة بما فيه من الاستعداد. والعقل العملي يخدم جميع هذه، على أساس أن العقل العملي يدبر العلاقة بالبدن من أجل تكميل العقل النظري وتزكيته. والوهم يخدم العقل العملي. ويخدم الوهم قوتان: قوة قبله هي جميع القوى الحيوانية، وقوة بعده هي التي تحفظ ما أداه. والمتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذ: فالقوة النزوعية تخدمها بالانتماء لأنها تبعث على التحريك، والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب والفصل في صورها. والقوة الخيالية تخدمها فنطاسيا، وفنطاسيا تخدمها الحواس الخمس. والقوة النزوعية يخدمها الشهوة والغضب، والشهوة والغضب تخدمها القوة المحركة المنبثة في العضل. وإلى هاهنا تنتهي القوى الحيوانية، والقوى الحيوانية بالجملة تخدمها النباتية. وعلى رأس هذه توجد القوة المولدة، وتخدمها النامية، ثم الغاذية تخدمها جميعاً. ثم القوى الطبيعية الأربع وهي: الهاضمة، والماسكة، والجاذبة، والدافعة ـ تخدم القوة الغاذية"(7).ولكن ماهي النفس، هل هي مستقلة عن البدن وسابقة عليه، وخالدة أم فانية معه حسب أرسطو. سيتفق ابن سينا مع الفارابي: "إن النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث ممتلكها وآلتها". و"إن الأنفس الإنسانية لم تكن قائمة مفارقة للأبدان ثم حصلت في البدن".(1/474)
(8)، ودليله تكثّر النفس بتكثّر النوع، ولو كانت النفس الممدة لوجود النفوس واحدة فإنها لا يجوز أن تتجزأ. ولكن هل ستموت مع البدن، لأنها كما رأى أرسطو بأنها متعلقة بالقلب، أو البدن؟... ابن سينا سيرى أن النفس هي جوهر غير مادي من نوع الجواهر السماوية، ولا تعلق لها بالبدن، ولذلك فإنها لا تفنى "مدرك المعقولات، وهو النفس الإنسانية، جوهر غير مخالط للمادة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والفعل"(9).(1/475)
ولإثبات استقلال النفس ومغايرتها للبدن وروحانيتها قدم العديد من البراهين. منها الحركة القسرية والإرادية. "كالطائر الذي يحلق في الجو بدل أن يسقط... هذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركاً خاصاً زائداً على عناصر الجسم المتحرك وهو النفس... وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة فإنما نسميه نفساً"(10) وهذا برهان ورد عند أفلاطون وأرسطو. كما سيقدم براهين إضافية منها، برهان الاستمرار: أي تجدد الجسم وثبات علوم النفس وخبرتها، وبرهان (الأنا)، وهو شبيه بأنا ديكارت "أنا أفكر أنا موجود"، فهو يقول: "الإنسان يشير إلى نفسه (بأنا) مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن"(11)، وهناك برهان الإنسان المعلق في الهواء: حيث استنتج منه أن "للذات التي أثبت وجودها خاصية على أنها هو بعينه (أي الإنسان بعينه) غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت. فإذن المثبت له سبيل أن يثبته، على وجود النفس شيئاً غير الجسم، بل غير جسم، وإنه عارف به، مستشعر له". (12)، وهناك البرهان النفسي: وهو تعقل الإنسان للمعقولات المجردة عن المادة. إذ "القوى المحركة والمدركة والحافظة للمزيج شيء آخر لك أن تسميه بالنفس، وهذا هو الجوهر الذي يتصرف في أجزاء بدنك ثم في بدنك. فهذا الجوهر فيك واحد وهو أنت على التحقيق". (13). وإن ابن سينا سيختلف مع أرسطو حول مفهوم الكمال، وهل هو مرادف للصورة، مما يجعل النفس في هذه الحالة صورة للجسد؟: ابن سينا سينفي هذه العلاقة أو المعلولية التي لا تتعارض مع السببية كوجود، ولكن كمعنى بعد الوجود، لما كان سبباً لوجود الصورة والمعنى.(1/476)
فإذا كانت "كل صورة كمال، فليس كل كمال صورة؛ فإن الملك كمال المدينة والربان كمال السفينة وليسا بصورتين للمدينة والسفينة؛ فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة وفي المادة، فإن الصورة التي هي في المادة هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها".(14)، وكما رفض ابن سينا وجود النفس قبل البدن، رفض أيضاً فكرة التناسخ: "فإذا فرضنا أن نفساً تناسختها أبدان، وكل بدن فإنه بذاته يستحق نفساً تحدث له وتتعلق به، فيكون البدن الواحد فيه نفسان معاً... فإن كان هناك نفس أخرى... ولا تشتغل بالبدن، فليست لها علاقة بالبدن، لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النحو + أي علاقة تأثير +فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه". (15). فالنفس واحدة، وقواها متعددة، وأعلى النفوس هي النفس الناطقة والإنسانية. وسوف يقسم قوى النفس الناطقة إلى عاملة وعالمةٍ أو عملية تقوم بتدبير البدن، ونظرية وبها يكون العقل عقلاً بالفعل، ولكن هيولانياً، ثم يصبح عقلاً ممكناً كعقل الطفل وقبوله للتعلم، ثم عقلاً بالملكة، أي عقلاً بالفعل، وهذا العقل بالفعل قد يتاح له الاتصال بالعقل الفعال، إذ قد "يكون شخص من الناس مؤيد النفس بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل حدساً، أعني قبولاً لإلهام العقل الفعال من كل شيء.... فترتسم فيه الصور التي في العقل الفعال..... وهذا ضرب من النبوة بل أعلى قوة النبوة، والأولى أن تسمى هذه القوة قوة قدسية، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية"(16)، إذن، فإن المعرفة العليا للإنسان لا يمكن أن تتحقق إلا بهذا الاتصال "فكمال الجوهر العاقل أن تتمثل فيه جلية الحق، قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصه، ثم يتمثل فيه الوجود كلّه، على ماهو عليه، مجرداً عن الشوب، مبتدأ فيه بعد الحق الأول بالجواهر العقلية العالية، ثم الروحانية السماوية والأجرام السماوية، ثم مابعد ذلك، تمثلاً لا يمايز الذات.(1/477)
فهذا هو الكمال الذي يصير به الجوهر العقلي بالفعل، وما سلف فهو الكمال الحيواني". (17)، هل قصد ابن سينا الاتحاد أو الحلول فيما يقول عن التمثل الذي لا يمايز الذات؟... سينفي ابن سينا إمكانية الحلول والاتحاد كما نفاها ابن عربي لاحقاً، والسبب "قول القائل إن شيئاً ما يصير شيئاً آخر، لا على سبيل الاستحالة من حال إلى حال، ولا على سبيل التركيب مع شيء آخر ليحدث شيء ثالث، بل على أنه شيئاً واحداً فصار واحداً آخر، قول شعري غير معقول؛ فإنه إن كان كل واحد من الأمرين موجوداً فهما اثنان متميزان، وإن كان أحدهما غير موجود، فقد بطل الذي كان موجوداً".(18) وإذا كان كل كمال لا يحقق الاتصال بين ما صار عقلاً بالملكة، والعقل الفعال، لا يصير عقلاً بالفعل، ويظل قبل هذا الاتصال أقرب إلى الكمال الحيواني منه إلى الكمال الإنساني، فهل نجح ابن سينا في تحقيق مثل هذا الاتصال الذي يمثل ليس نقلة معرفية فقط، وإنما نقلة نوعية، وخروجاً من عالم المادة إلى عالم الروح، من عالم العقل المرتبط بحقائق الأكوان ومظاهرها، إلى رب الأكوان؟... سيجيب ابن سينا قائلاً: "إني لو اقتصصت جزئيات هذا الباب، فيما شاهدناه، وفيما حكاه من صدّقناه، لطال الكلام". (19) بأي وسيلة حدثت المشاهدات لابن سينا، سيشير إلى الرؤيا في النوم، أو في اليقظة، بعد الرياضات والعبادات، وتطهير النفس، وتوجيهها نحو الحق. والسبب "أن معاني جميع الأمور الكائنة في العالم مما سلف ومما حضر ومما يريد أن يكون موجودة في علم الباري والملائكة العقلية من جهة، وموجودة في أنفس الملائكة السماوية من جهة... وإن الأنفس البشرية أشد مناسبة لتلك الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة، وليس هناك احتجاب ولا بخل، إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها في الأجسام، وإما لتدنسها بالأمور الجاذبة على الجنبة السافلة، وإذا وقع لها أدنى فراغ من هذه الأفعال حصل لها مطالعة لما تم"(20).(1/478)
يجب أن نتذكر بأن ابن سينا قد تعلم في الرؤيا بعض ما استعصى عليه فهمه من المسائل كما قال منذ حداثته. وهذا يدل بأنه حقق الاتصال بالروح منذ بداياته، فلا غرابة بأن تتطور المشاهدات إلى اليقظة، وإن وجهت الاتهامات إليه بسبب عدم زهده. وربما لهذا السبب وضع حدوداً للتمييز بين الزاهد والعابد والعارف "فالزاهد: هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها. والعابد: هو المواظب على فعل العبادات. والعارف: فهو المنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لنور الحق في سره. والعارف (يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه. وتعبده له فقط، ولأنه مستحق للعبادة، ولأنها نسبة شريفة إليه ـ لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا، فيكون المرغوب فيه أو المرهوب منه هو الداعي، وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس الغاية، بل الواسطة إلى شيء غيره هو الغاية، وهو المطلوب دونه). (21) إن ابن سينا لن يؤكد إمكانية الاتصال مع العقل الفعال آناً وآن، بل إنه سيؤكد على إمكانية هذا الاتصال بشكل دائم إذاً وفّر الإنسان الشروط المناسبة لذلك، مما يعني أن الاتصال في حقيقته هو بيد العبد، بالرحمة الدائمة من الرب، مصداقاً للحديث الشريف ـ من جاءني ماشياً أتيته هرولة ـ ولهذا كتب ابن سينا في تعليقه على كتاب النفس لأرسطو "والذي عليه المشرقيون أن الاستكمال التام بالعلم إنما يكون بالاتصال بالفعل بالعقل الفعال.(1/479)
ونحن إذا حصلنا الملكة ولم يكن عائق كان لنا أن نتصل به متى شئنا، فإن العقل الفعال ليس مما يغيب ويحضر، بل هو حاضر بنفسه، وإنما نغيب نحن عنه بالإقبال على الأمور الأخرى، فمتى شئنا حضرناه"(22) فهل سيظل الشرق مصدراً للروحانيات التي لا يدركها إلا القلائل في الغرب، بكلام ابن سينا عن المشرقيين، الذين صدّروا للغرب فلسفات الروح إضافة لمسيحيته، التي لم يبق منها، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو يحذر المسلمين من أكل ذبائح نصارى بني تغلب، غير شرب الخمر. فقال: "لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر".(كنز العمال ـ 32346/ج6) وفي الختام إذا كانت فلسفة ابن سينا تهدف إلى الكمال الإنساني الذي لا يمكن أن يتحقق إلا باتصال الإنسان بالعقل الفعال فإلى أي حد نجح في تحقيق هدفه، سواء بالدلالة عليه، أو توظيف معرفته لهذه الغاية؟.. إذا أخذنا ما كتبه ابن سينا حتى في قصصه (سلامان وأبسال)، و(رسالة الطير)، و(رسالة حي بن يقظان) التي سيعيد كتابتها ابن طفيل بشكل آخر، فإننا سنشعر بأن ابن سينا قد نجح في أداء رسالته، ولكن بشكل عالٍ، وبروح لا تعرف غير التحليق، ولهذا لم يكن فكره في متناول الجميع، وظل زاداً للخواص، بل لخواص الخواص، كما أن انغماسه في الحياة العامة والعلاقات السياسية، حجبه عن النور الفائض والدائم من الحق، وقد أدرك أسباب الحجاب، وإن كان قلبه عند الحق كما نعتقد به. لأن من ذاق الأنوار لا يستطيع أن يطيق ظلمة الحجاب، وإن لم يحقق من هذا النظر شيئاً، لأن الحق لا يعبد لغاية، كما لا يُحبُ الجمال لفائدته ونفعه، وإن كان بحد ذاته نافعاً ومنعشاً للروح. ومن ينظر إلى ما وراء كلمات ابن سينا سيدرك بأن هذه الكلمات وليس النفوس الإنسانية فقط قد
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاءُ ذات تعزّز وتمنُّع
محجوبة عن كلِّ مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع(1/480)
وبدت تغرّد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يُرفع
فإذا كان قد عجز ابن سينا عن سلوك الزاهد والعابد، فإنه قد حظي بطريق المعرفة والإيمان واليقين، فنال درجة العارف، وإن كان طريقه لا يصلح لكل سالك. ورحم الله الشيخ الرئيس الذي قطف ثمار الحكمة من فوق رأسه، وشفى بنور معرفته نفوساً، كما شفى أبداناً، وظل لعدة قرون، طبيباً للفاني والخالد في الإنسان. وإذا كانت الحضارة المعاصرة قد اكتشفت أدوية للفاني جديدة، فسوف تبقى أدوية ابن سينا إكسيراً للخالد. وهذا هو سرّ الحكمة المشرقية كما سماها.
ابن باجه فيلسوف الحرية والإرادة(1/481)
كما بدأت الفلسفة في الشرق العربي الإسلامي على يد الكندي ضعيفة القوام والبنيان، وكانت أساساً لمن سيأتي وينهض بها، حيث ستكتمل ملامحها على يد الفارابي وابن سينا. فكذلك سيحدث نفس الأمر في غرب بلاد الإسلام، إذ سيحمل لواء التأسيس للفلسفة وتوطينها في الأندلس والمغرب، أبو بكر محمد بن يحيى بن الصايغ، المعروف بابن باجه، المولود في سرقطة قبل نهاية القرن الخامس الهجري والمتوفى عام (533 هـ/1138م) في فاس. وكان إضافة للفلسفة، عالماً في الطبيعة والفلك والرياضيات والطب والموسيقى، إلا أن أكثر مؤلفاته ضاعت، وما بقي منها وصلنا مترجماً عن اللاتينية والعبرية، رغم أن ما ألفه من الكتب تجاوز المئة كتاب ورسالة. ولكن فيما يبدو فإن ظروف عدم الاستقرار في الأندلس والحروب ساهمت ليس في ضياع كتبه فقط، بل حالت دون إكمالها. إذ اضطر ابن باجه للرحيل عن سرقسطة قبل احتلالها عام (511 هـ/1118م) من قبل الفونس. فتنقل بين باجه والمرية وغرناطة وقاين، ثم استقر في إشبيلية وعمل فيها بالتدريس بعض الوقت، ثم رحل إلى فاس وقضى فيها بقية حياته. وقد قال ابن طفيل عنه: "لم يكن فيهم أثقب ذهناً، ولا أصح نظراً، ولا أصدق روية من أبي بكر بن الصائغ؛ غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي غير كاملة ومخرومه من أواخرها، ككتابه (في النفس) و(تدبير المتوحّد)، وما كَتبه في المنطق وعلم الطبيعة. وأما كُتبه الكاملة فهي كتب وجيزة ورسائل مختلسة... وإن ترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتّسع له الوقت مالَ لتبديلها. فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه".(1) إذاً ما وصلنا لا يعبر عن فلسفة ابن باجه تعبيراً حقيقياً، ولكنه يعطينا فكرة عن طبيعة هذا الرجل (الثاقب الذهن). فما هو رأيه في قضايا النفس والعقل والروح؟..(1/482)
سيؤكد ابن باجه على وحدة النفس مستدلاً عليها من كونها المحرك الدائم لكل مراحل العمر، وكذلك على لا ماديتها وثباتها. فالنفس لا تتغير مثل الجسم الذي يختلف لمن "يشاهده طفلاً ثم يشاهده شاباً. فإذن ما به الإنسان واحد لا يلحقه الحس، بل إنما تلحقه قوة أخرى... فظاهر من هذا القول أن المحرك الأول مادام باقياً واحداً بعينه، كان ذلك الموجود واحداً بعينه"(2). ولكننا أمام مشكلة في تحديد ابن باجه للروح، فعنده: "النفس والروح اثنان بالقول، واحد بالموضوع. والروحاني منسوب إلى الروح... ويدلون به على الجواهر الساكنة المحركة لسواها،(1/483)
وهذه ـ ضرورة ـ ليست أجساماً، بل هي صور لأجسام، إذ كل جسم فهو متحرك"(3)، فهل اعتبر ابن باجه بناء على وحدة النفس، أن الروح، كما العقل، هما تجل من تجليات النفس، أو مراحل من تطور النفس عبر ارتقاء الإنسان. يبدو أن الأمر كذلك عند ابن باجه. وهذا ما تُوحي به آراؤه في الأفعال الإنسانية والغايات وهو يثير هنا مسألة في غاية الأهمية بتحديده لصفات الفعل الإنساني. فالإنسان سيكون في مراحل نموه في حالة "بها يشبه النبات...وذلك عند النشوء... وإذا خرج الجنين من بطن أمه واستعمل حسّه، أشبه عند ذلك الحيوان غير الناطق... فيكون عند ذلك في الإنسان ثلاث محركات كأنها في مرتبة واحدة: القوة الغاذية النزوعية، والقوة المنمية الحسية، والقوة الخيالية. وكل هذه القوى هي قوى فاعلة. وهي موجودة بالفعل، لا عدم فيها: وهذا هو الفرق بين القوى الفاعلة والمنفعلة: "فإن في المنفعلة، العدم. لأن الصورة الروحانية المحسوسة هي أول مراتب الروحانية... لأنها إدراك... ولذلك لا تنسب إلى النبات معرفة أصلاً، وتنسب إلى الحيوان، فإن كل حيوان هو حساس".(4). فالإدراك هو روحانية بمستوى معين. وبما إن في الإنسان كما في مراحل نموه، الجماد والنبات والحيوان وصولاً إلى النفس الناطقة التي تميزه عن بقية الأنواع، فإنه يشارك هذه الأنواع فيما تتأثر به بشكل لا إرادي أو طبيعي"فالحي والجماد يشتركان فيما... ركبا منه، مثل السقوط إلى أسفل. ويشارك الإنسان الحيوان غير الناطق في النفس الغاذية والمولدة والنامية... لكن الإنسان يمتاز... بالقوة الفكرية... والإنسان بما هو حيوان تلحقه الأفعال التي لا اختيار له فيها أصلاً، كالإحساس. لكنه بما هو إنسان له أفعال لا توجد لغيره من الموجودات.(والأفعال الإنسانية الخاصة به هي ما يكون باختياره. فكل ما يفعله الإنسان باختيار فهو فعل إنساني، وكل فعل إنساني فهو فعل باختيار.(1/484)
وأعني بالاختيار: الإرادة الكائنة عن روية) أما الانفعالات العقلية ـ (إن جاز أن يكون في العقل انفعال) ـ فلا يختص بها الإنسان، بل يشاركه فيها الحيوان...(والفعل البهيمي هو الذي يتقدمه أمر يوجبه، عند فاعله، الفكر، سواء تقدم الفكر انفعال نفساني أو أعقب الفكر ذلك... فالبهيمي (هو) المحرك فيه ما يحدث في النفس البهيمية من الانفعال، والإنساني هو المحرك فيه ما يوجد في النفس من رأي أو اعتقاد... فأما من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى النفس البهيمية ولا ما يحدث فيها، فذلك الإنسان أخلق به أن يكون فعله ذلك إلهياً من أن يكون إنسانياً... ولذلك كان الإنسان الإلهي ـ ضرورة ـ فاضلاً".(5) إن ابن باجه يضعنا أمام مشكلة الحقيقة الإنسانية، ومفهوم الحرية والمسؤولية، لتحديد مواصفات الفعل الإنساني المشروط، بالحرية والقصدية والعقلانية. وسينقلنا عبر فهمه لأهمية المعرفة إلى غاياتها ومظاهرها وتعلقاتها وكمالاتها. وكأنه أراد أن يضع لكل إنسان مرآة يشاهد فيها نفسه ليعرف النوع الذي ينتمي إليه، وكأنه يؤسس لعلم للنفس لا ينخدع فيه الناظر إلى نفسه أو إلى غيره. فالإنسان سيتحدد بغاياته في الحياة، وهذه الغايات هي التي ستعطيه صورته الحقيقية، الجسمانية، أو الروحانية الخاصة، أو الروحانية العامة. فالناس يدورون بين هذه الأصناف، فمنهم: "من يراعي صورته الجسمانية فقط وهو الخسيس... ومنهم من يعاني صورته الروحانية فقط، وهو الرفيع الشريف.وكما أن أخس (مراتب) الجسماني من لا يحفل بصورته الروحانية عند صورته الجسمانية ولا يلتفت إليها، كذلك أفضل مراتب الشريف من لا يحفل بصورته الجسمانية ولا يلتفت إليها... ومن شرف الأشراف الكبار الأنفس صنف دون هذا، وهو الأكثر، وهو من لا يحفل بصورته الجسمانية عند الروحانية غير أنه لا يتلفها" (6). وعلى هذا المقياس سيحدد سعادة الناس بالقياس إلى معرفتهم، وأنواع لذاتهم.(1/485)
فاللذة الحقيقية هي التي تدوم، ولذلك فإن "مرتبة السعداء الذين يرون الشيء بنفسه" أي الحقائق. والأسوأ (المرتبة الجمهورية) كما يسميها "وهؤلاء إنما لهم المعقول مرتبطاً بالصور الهيولانية، ولا يعلمونه إلا بها وعنها ومنها ولها".(7). وهنا يذكرنا بالفارابي الذي شك في جدارة أصحاب العقول الهيولانية للبعث والحساب. ومن المعروف أن ابن باجه، استند في كثير من أبحاثه إلى الفارابي، إلا أنه لم يذكر ابن سينا لتأخر وصول كتبه إلى الأندلس، وسوف يتعرض ابن باجه لمسألة (المثل) عند أفلاطون، وسيؤيد تفسير الفارابي لمدلولها، مبيناً رده على أرسطو: "إن نقد أرسطو الوارد في كتاب (ما بعد الطبيعة) يصح لو كان المقصود من القول بالصور أنها تفعل فعل الكائنات التي هي صور لها بأن نقول إن صورة النار تفعل فعل النار فتحرق، إذ لوكان الأمر كذلك للزمت المحالات التي ذكرها أرسطو. وإنما المقصود بالصور أنها معانٍ مجردة من المادة، ولا تفعل فعل الأشياء التي هي في مادة، والصور بهذا المعنى حقيقية، ـ واحدة، باقية، غير بالية ولا فاسدة"، (8). ربما أصبحت المثل الأفلاطونية بمعنى ما أقرب إلى مفهوم الأسماء الإلهية، مما ساعد الفلاسفة المسلمين على فهمها وتبنى رأي أفلاطون القائل بها، في الوقت الذي رفض تلميذه أرسطو الأقرب إليه مثل هذا التجريد. وهذا ما يشعرنا بعمق الإسلام، ودوره في تقريب المفاهيم العقلانية والفلسفية في الأذهان، مما جعل كل الفلاسفة المسلمين متبنين لمشروعه الروحي على خلاف مذاهبهم وأساليبهم، وظلت المدينة الفاضلة، وهي مدينة إسلامية منفتحة على العالم والإنسانيةهدفاً لهم يكتبون عنه، وإن كانت بالأصل مدينة أفلاطونية من حيث الاسم، ولم يوافق الفلاسفة المسلمون على كثير مما ورد فيها، وإن أفلاطون نفسه سيعيد النظر فيها، ولكنها ستظل يونانية، أي قومية.(1/486)
بينما المدينة الفاضلة الإسلامية ستكون دائماً عالمية، بسبب إيمان من كتبوا عنها بالأخوة الإنسانية التي رضع كل مسلم إيمانه بها مع حليب أمه، وبدايات تلاوته لقرآنه، ودونما تذويب للآخر، أو فرض الإسلام عليه. وهذه المسائل بمثابة قوانين ثابتة في الشريعة لا يحق لأي مسلم المساس بها. ولهذا ظلت المدن الإسلامية الكبرى، والعواصم، مدناً تتسع لجميع الأديان والمذاهب والقوميات. وظلت الدول الفاضلة في مفهوم الفلاسفة المسلمين مثلها، تتسع لكل الشعوب. وإن كان الطموح لأن يكون فيها الحاكم دائماً هو نبي، أومن هو أقرب إلى النبوة.ومن هذا العرض الموجز يتبين لنا أن ابن باجه كانت له إطلالات على عالم الروح، ومن دلالات معرفته أنه جعلها المرحلة العليا من مراحل ترقي النفس في سلم المعرفة، واعتبر الواصل إلى هذه المعرفة هو السعيد حقاً، كما إنه الأفضل لقيادة المدن الفاضلة، كما بيّن في كتابه (رسالة الوَداع)، و(رسالة الاتصال) وما بقي من (في تدبير المتوحد) حيث حدد صفات الحكومة الكاملة التي ستقود شعبها إلى السعادة، بحيث لا يحتاج الناس إلى قضاة أو أطباء، والتي سيكون فيها الهدف الأسمى للمتوحد هو إدراك الصور الروحانية. ومما يدل على أهمية ما كتبه ابن باجه، يكفي أن نقرأ ما كتبه ابن رشد عن رسالة (تدبير المتوحد) في كتابه ـ العقل الهيولاني ـ لقد قال "أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة لتدبير المتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها، وكثير منها غامض،وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة، لأنه أول من سار في هذا المضمار ولم يسبقه فيه أحد"(9).(1/487)
ومن المعروف أن ابن رشد ماكان ليعد بذلك، وإن لم يصلنا هذا الشرح، وهو شارح أرسطو، لولا المكانة الفكرية التي كانت لابن باجه. وهذه شهادة تدل على عظمة هذا الفيلسوف، كما يدل تحديده لهدف الإنسان لتحقيق كماله الذي يجب أن يتمثل بالسعي للاتصال بالعقل الفعال على إيمانه، وشهوده لأنوار من عالم الروح، وإلا ما كان بإمكانه أن يدعو الناس للبحث عن قضايا لا يعرفها ولا عِلم له بها،وإن سمع عنها.فالسماع لا يكفي، وخاصة لفيلسوف يبحث عن الحقائق بعقله قبل أن يبحث عنها بروحه. وقد شهد له من تمكنه في هذا العلم ابن أبي أصيبعة، فقال: "وأما العلم الإلهي ـ كما لاحظ صاحبه الوزير ابن الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام ـ فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصاً تاماً، إلا نزعات تستقرأ من قوله في (رسالة الوداع) و(اتصال الإنسان بالعقل الفعال)، وإشارات مبددة في أثناء أقاويله، لكنها في غاية القوة والدلالة على براعته في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها وكل ما قبله من المعارف فهو من أجله وتوطئة له".(10). وإن الدكتور عبد الرحمن بدوي سيقترح "أن نطلق على فلسفته اسم: علم الإنسان، لأن ما تناوله فيها يدور معظمه حول موضوعات هذا العلم".(11). وابن باجه جدير بهذا اللقب، وهو أيضاً فيلسوف الحرية والإرادة. ولقد بدأ عالياً في غرب العالم الإسلامي رغم أن الأرض لم تكن ممهدة إلا بفلسفة الكندي والفارابي، فكان المؤسس لمدرسة الفلسفة في بلاد الأندلس، التي ستشكل صدمة ويقظة في الغرب على يد ابن رشد أكثر منها في الشرق.
ابن طفيل والمعرفة بالفطرة(1/488)
ولد أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي، الذي يعود نسبه إلى قيس بن عيلان بن مضر من العرب المستعربة الشمالية في وادي آش من إقليم غرناطة نحو عام (506هـ/ 1110م) وتوفي في مدينة مراكش ودفن فيها سنة (581هـ/ 1185م)، واشترك السلطان أبو يوسف يعقوب ثالث خلفاء الموحدين في تشييع جنازته، وكان ابن طفيل الطبيب الأول في بلاد السلطان أبي يعقوب يوسف ومن ثم لدى ابنه أبي يوسف. وهو الذي سيستدعي ابن رشد للعمل لدى السلطان، الذي كان محباً للعلم، وكان ابن طفيل إضافة لعلمه في الطب شاعراً. وقد نُقل عن لسان الدين بن الخطيب "أنه ألف كتاباً في الطب في مجلدين"، وأن له(أرجوزة في الطب).وله كتب في علم الفلك. وقد أشار "ابن رشد إلى أحدها في شرحه الأوسط على كتاب (الآثار العلوية) لأرسطو طاليس. ويقول إن ابن طفيل لم يكن راضياً عن نظام بطليموس وإنه اقترح نظاماً جديداً. ويشير تلميذه البطروجي إلى هذا أيضاً في مقدمة كتابه الشهير في الفلك، فيقول إن ابن طفيل ذكر له انه عثر على نظام فلكي وتفسير لحركات الأفلاك على نحو مخالف لما قاله بطليموس، استغنى فيه عن الدوائر الداخلية والدوائر الخارجية". (1)، ولكن المؤسف أن كل ما كتبه ابن طفيل سيكون مصيره الضياع، ولن يبقى من آثاره غير قصته الفلسفية (حي بن يقظان)، رغم أنه كتب أيضاً في الفلسفة كما ذكر عبد الواحد المراكشي معاصره وصديق ابنه وقال إن له رسالة: "في النفس رأيتها بخطه رحمه الله، وكان قد صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونبذ ما سواه".(2). ومع ذلك فإن رسالة (حي بن يقظان) ستكون شاهداً على عبقرية هذا الفيلسوف، وستكون موضع اهتمام أجيال من الباحثين، وبشكل خاص في أوربا كما ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي.(1/489)
حيث قال: "منذ منتصف القرن التاسع عشر والدراسات حولها في أوروبا تتوالى في غير انقطاع وبمختلف اللغات حتى الآن، حتى ليمكن أن نقرر في اطمئنان أن قصة (حي بن يقظان) كانت أوفر الكتب العربية حظاً من التقدير والعناية والتأثير في أوروبا في العصر الحديث".(3) فما هي الأسباب التي جعلت لهذه القصة كل هذه الأهمية والشهرة؟...(1/490)
لقد بدأ ابن طفيل هذه القصة على شكل رسالة رداً على سؤال أحد الأصدقاء قائلاً: "سألت أيها الأخ الكريم..... أن أبث ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، فاعلم أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبها والجدّ في اقتنائها". ولابد أن يكون ابن طفيل الذي "صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي". كما ورد، قد سبقته فترات تأمل وحوار، وكان عليه أن يحدد موقفه من المسائل المعرفية المطروحة في زمانه، والتي كانت تتأرجح بين تأييد الفارابي وابن سينا أو الغزالي بكل ما شكله هجومه على الفلسفة من تأثير، والذي سيقود لاحقاً إلى نقد ا بن رشد لكتابه (تهافت الفلاسفة) ومن ثم إلى الحرب التي ستنتهي باتهام ابن رشد، والأمر بحرق كتبه، وإخفاق الفلسفة في إيجاد مكانة محترمة لها في العالم الإسلامي لفترة طويلة بعد ذلك التاريخ، مما سيؤدي إلى جمود حركة الفكر والفقه أيضاً لغياب التحدي الذي كانت قد فرضته الفلسفة على المفكرين المسلمين، والذي أدى إلى ظهور المعتزلة والأشعريين والغزالي أيضاً، الذين كان عليهم أن يواجهوا التحدي على الجبهات التي فتحتها الفلسفة، والتي فرضت على المتصدين الاعتماد على لغة المنطق ومفاهيم العقل، بعد أن كانت لغة التسليم هي اللغة السائدة. فنشأ علم الكلام في موازاة المنطق. وهكذا تحركت العقول وتطورت، وساهم الفلاسفة المسلمون بمد الشريعة بروح جديدة وإن لم تعجب أكثر الفقهاء. وكما دار الحوار، وحدث الانقسام في المشرق، انتقل الوضع إلى المغرب، فأراد ابن طفيل أن يساهم في هذا الحوار كما يظهر من كلامه.(1/491)
فقال في قصته "ولم يتخلص لنا الحق الذي انتهينا إليه، وكان مبلغنا من العلم تتبع كلامه (الغزالي)، وكلام الشيخ أبي علي (ابن سينا)، وصرف بعضهما إلى بعض، وإضافة ذلك إلى الآراء التي نبغت في زماننا هذا ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة، حتى استقام لنا الحق أولاً بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة، وحينئذٍ رأينا أنفسنا أهلاً لوضع كلام يؤثر عنّا، وتعين علينا أن نكون، أيها السائل، أول من أتحفناه بماعندنا"، إذن ستشكل رسالة (حي بن يقظان) موقفاً من الحوار الدائر حول طريق وصول الإنسان إلى المعرفة الإلهية. هل بسلوك طريق الغزالي وأمثاله، أم عن طريق الفلسفة التي تعتمد في مفاهيمها على العقل ومنطقه، فإلى أين سينتهي ابن طفيل، وماذا سيختار، الخلوات والتأمل، أم المنطق العقلاني للوصول إلى الإشراق. إن قصة (حي بن يقظان) في الواقع سترسم طريقاً وسطاً بين الطريقين، بل إنها ستثبت حاجة الباحث إلى الطريقين، لأن كل طريق سيلتقي مع الآخر في الوصول إلى نفس الحقائق. فحي بن يقظان بطل القصة سينشأ في جزيرة إما بسبب تفاعلات في الطبيعة، أو بسبب إلقائه في البحر خوفاً من فضيحة. وفي كلا الحالين فإن ظبية ستلاقي هذا الطفل، الذي لا يعلم هو نفسه عن أصله وسبب وجوده شيئاً في جزيرة، وستقوم بإرضاعه وستكون بمثابة الأم له حتى يكبر. إلا أن الغزالة الأم ستموت فجأة. وسيدرك ابن طفيل بفطرته أن عضواً أو شيئاً ما تعطل في الغزالة ومنعها من الحركة. وسيضطر إلى البحث في جسدها عن هذا الخلل على أمل أن يعيد الحياة إليها. وسيكتشف خلال بحثه في جسدها أن ما خرج منها وأدى لموتها هو هواء حار كان يملأ تجويف القلب "وأن هذا الجسد بجملته إنما هو كالآلة لذلك....(1/492)
فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، لم يبق له شوق إلا إليه"، فقد لاحظ "بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد"، واستنتج أن أجسام الحيوانات مؤلفة من مواد الطبيعة التي تشكل صورة الحيوانات، وهي أعراض لا بقاء لها، تتحلل بالموت، وتؤدي إلى تلاشي الصورة، ومن عنصر غير مادي هو الذي يبث الحياة في الصورة، ويجعل كل عنصر يقوم بعمله، وبه تسمع الأذن، وتبصر العين، وتعمل جميع الحواس والأعضاء. وهكذا انتقل بتأمله في حادثة الموت من المادة إلى التفكير في السر الكامن وراء المادة الذي يمد العناصر بالحياة "لقد تبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وإن كان كثيراً بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته، فإنه واحدٌ بذلك الروح الذي مبدأه من قرار واحد، وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه، وإن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له"(حي بن يقظان ـ 80) لقد توصل ابن يقظان بتفكيره إلى ملاحظة ذلك السر الذي يعطي للصور المادية قدرتها وأفعالها. فقد تأكد له أن "الروح الحيواني واحد، وإذا عمل بآلة العين كان فعله إبصاراً، وإذا عمل بآلة الأنف كان فعله شمّاً. وإذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقاً، وإذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمساً، ولا يتم لشيء من هذه فعل إلا بما يصل إليها من ذلك الروح الحيواني على الطرق التي تسمى عصباً. ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت تعطل فعل ذلك العضو. وهذه الأعصاب إنما تَستمدُّ الروح من بطون الدماغ، والدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح كثيرة لأنه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة، فأي عضو عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله، وصار بمنزلة الآلة المطرّحة". (4). إن هذا الفاعل المؤثر في الأجسام لا يمكن أن يكون من نوع الأجسام. هذا العنصر "لابد له من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة التي تختص به من ضروب الإحساسات وفنون الإدراكات وأصناف الحركات.(1/493)
وذلك المعنى هو صورته وفصله به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبّر عنه النظار بالنفس الحيوانية" وهذا العنصر أو الجوهر هو "الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان... وهو الذي يعبّر عنه النظار بالنفس النباتية"(5). وبموجب هذه الملاحظات سيميز ابن يقظان بين مظاهر الحياة وفاعليتها التي تملأ الطبيعة، والتي تجعل الصور أكثر امتلاءً بالروح، وأكثر فاعلية كلما تنوع تركيبها "إن جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية، وهذه هي الأسطقسات (العناصر) الأربعة، ومنها ما تتقوم حقيقتها بأكثر من ذلك كالحيوان والنبات، فما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أقل وبعده عن الحياة أكثر. فإن عَدِمَ الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في حال شبيهة بالعدم. وماكان قوام حقيقته بصور أكثر كانت أفعاله أكثر ودخوله في حال الحياة أبلغ. وإن كانت تلك الصور بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها كانت الحياة حينئذٍ في غاية الظهور والدوام والقوة".(6). وهكذا تمايزت العناصر بقوة قبولها للحياة أي الروح. وكما أن "من هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس، كذلك أيضاً من الحيوان مايزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته، وهو الإنسان خاصة"(7).(1/494)
وهنا سنواجه تشبيه ابن طفيل للجوهر الذي يمد المادة بالفاعلية، بالماء الذي يأخذ شكل الأواني التي صُبَّ فيها، فالروح "لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وإنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد لكان كله شيئاً واحداً بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد يفرق على أوان كثيرة ثم يجمع بعد ذلك" ولكن هذه الأواني اختلفت فاعلياتها بسبب تركيبها الخاص "النبات والحيوان شيء واحد بسبب شيء واحد مشترك بينهما هو في أحدهما أتم وأكمل، وفي الآخر قد عاقه عائق ما". أما بالنسبة للإنسان، وكما أن له ما للنبات والحيوان من الحواس والآلات، فإن ما يتميز به من إدراك للروحانيات لابد أن يكون بوسيلة إضافية وهي النفس الناطقة "وهي أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس، ولا يُتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه... فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم. لا يتباين في شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم".(8). وما يقصده ابن طفيل بالفساد هو ما تتعرض له المادة من تغير وتحول من صورة إلى صورة "إن الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام بأن تخلع صورة وتلبس أخرى مثل الماء إذا صار هواءً، والهواء إذا صار ماءً، والنبات إذا صار تراباً أو رماداً، والتراب إذا صار نباتاً؛ فهذا هو معنى الفساد.(1/495)
وأما الشيء الذي ليس بجسم، ولا يحتاج قوامه إلى الجسم، وهو منزه بالجملة عن الجسميات فلا يتصور فساده البتة". (9) وبفعل هذه التأملات سيكون من الطبيعي أن يفكر ابن يقظان بحقيقة الكون والخالق العظيم الذي رتب الأسباب التي لابد لها من نهاية تبدأ منها، فقد تبين له أن الكون "هو أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان، ومافيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان، ومافيه من ضروب الأفلاك المتصل بعضها ببعض هي بمنزلة أعضاء الحيوان، وما في داخله من عالم الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات التي كثيراً ما يتكون فيها أيضاً حيوان كما يتكون في العالم الأكبر"(10) ولكن هل العالم الذي يراه، قديم لا بداية له، أم محدث؟... وهنا ستبدو له عدة احتمالات لا يمكن أن يخرج عنها "إنه إن اعتقد حدوث العالم وخروجه إلى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك ضرورة أنه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وأنه لابد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وأن ذلك الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس، لأنه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسماً من الأجسام، ولو كان جسماً من الأجسام لكان من جملة العالم وكان حادثاً واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسماً لاحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، وهو باطل؛ فإذن لابد للعالم من فاعل ليس بجسم؛ وإذا لم يكن جسماً فليس إلى إدراكه بشيء من الحواس سبيل، لأن الحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام أو ما يلحق بالأجسام، وإذا كان لا يمكن أن يُحسَّ، فلا يمكن أن يُتخيل لأن التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبها؛ وإذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه، وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق وهو منزه عن ذلك وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام"(11).(1/496)
وبنفس طريقة التحليل سيناقش حركة الكون، ومبدأ الحركة، فكل حركة لابد لها من مُحرِك. وقوة التحريك لابد أن تكون في الجسم المتحرك أو في جسم آخر "وإما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة في جسم"، وقد تبين أن "كل قوة في جسم فهي لا محالة متناهية، فإن وجدنا قوة تفعل فعلاً لا نهاية له فهي قوة ليست في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبداً حركة لا نهاية لها ولا انقطاع إذا فرضناه قديماً لا ابتداء له؛ فالواجب على ذلك أن تكون القوة التي تحركه ليست في جسمه، ولا في جسم خارج عنه، فهي إذن لشيء بريء عن الأجسام، وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية... فإذن وجود العالم كله إنما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة وعن صفات الأجسام، المنزه عن أن يدركه حس أو يتطرق إليه خيال سبحانه. وإذا كان فاعلاً لحركات الفلك على اختلاف أنواعها فعلاً لا تفاوت فيه، ولا فتور، فهو لا محالة قادر عليه وعالم به"(12) وإن ابن طفيل إضافة لفنه القصصي، سيكشف لنا كلما تعمقنا في هذا النص الوحيد الباقي له عن قدراته التحليلية، وعمق تفكيره، وتحويله كل تلك الحوارات الفلسفية المعقدة إلى قصة ستقود ابن يقظان إلى البحث عن الفاعل الحقيقي لكل ما يراه، بالتفكير فيه، وإهمال كل شيء سواه. وهكذا بدأت محاولاته "يروم بمبلغ طاقته أن لا يفكر في شيء سواه، ولا يشرك به أحداً، ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها"، وهو طريق معرفة النفس لمعرفة الرب، بالترقي من معرفة المعلوم إلى المجهول. وبهذه الرياضات والمحاولات المتكررة سينجح ابن يقظان في معرفة الله "إنه بعد الاستغراق المحض، والفناء التام، وحقيقة الوصول، شاهد الفلك الأعلى الذي لا جسم له، ورأى ذاتاً بريئة عن المادة، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرهما، وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة، فإنها ليست الشمس، ولا المرآة، ولا هي غيرهما...(1/497)
وما زال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة... فرأى له ذاتاً بريئة عن المادة.. ولهذه الذات سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يسبح ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها لا يفتر... ثم شاهد لنفسه ذاتاً مفارقة، لو جاز أن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا إنه بعضها. ولولا أن هذه الذات حدثت بعد أن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث"..."وهكذا تتلاشى الكثرة عند من تخلص من المادة وبلغ حالة الاتصال، فينتقل في العوالم وهو لا يرى فيها إلا إشعاعات إلهية، تظهر بقوة في العالم السماوي، ولا تبدو في عالم الكون والفساد إلا كصورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج"(13) لقد حقق ابن يقظان الاتصال مع العقل الفعال بالتأمل والرياضة، وهذا النجاح هو إشارة إلى قدرة الإنسان على معرفة الله بالفطرة. وهنا يطرح السؤال إذا كانت معرفة الله ممكنة بالتأمل والرياضات فما هي الحاجة إلى الشريعة؟ سيختم ابن طفيل القصة بلقاء ابن يقظان مع زاهد متصوف هو أبسال الذي لجأ إلى تلك الجزيرة للاعتزال بنفسه عن الخلق. وحين تعارفا، أخبر ابن يقظان رفيقه بما توصل إليه من المعرفة. فتأكد لأبسال التطابق بين ما علمه أبسال بفكره، وما جاءت به الشريعة. فنقل إليه أبسال شريعته وما تتطلبه من عبادات. وهنا احتار ابن يقظان، لسببين "أحدهما لم ضرب الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه في أمر العالم الإلهي وأضرب عن المكاشفة... والأمر الآخر لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات، وأباح الاقتناء للأموال، والتوسع في المآكل حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل والإعراض عن الحق؟".(14).(1/498)
وخطرت لابن يقظان فكرة السفر إلى جزيرة أبسال لإنقاذ الناس مما هم فيه، وتلقينهم المعلومات التي توصل إليها، ودعوتهم للعيش بالطريقة التي عاش فيها. فسافر مع أبسال إلى جزيرته "وكان رأس تلك الجزيرة كبيرها سلامان، وهو صاحب أبسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة. فشرع حي بن يقظان في تعليمهم، وبث أسرار الحكمة إليهم... فجعلوا ينقبضون منه، وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطونه في قلوبهم، وإن أظهروا له الرضا في وجهه إكراماً لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أبسال. ومازال حي بن يقظان يستلطفهم ليلاً ونهاراً، ويبين لهم الحق سراً وجهاراً، فلا يزيدهم ذلك إلا نبواً ونفاراً، مع أنهم كانوا محبين للخير، راغبين في الحق، إلا أنهم ـ لنقص فطرتهم ـ كانوا لا يطلبون الحق عن طريقه، ولا يأخذونه بجهة تحقيقه، ولا يتلمسونه من بابه، بل كانوا لا يريدون معرفته عن طريق أربابه، فيئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من اصلاحهم... فانصرف إلى سلامان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معهم... وعلم هو وصاحبه أبسال أن هذه الطائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذا الطريق.... فودعاهم وانفصلا عنهم، وتلطفا في العودة إلى جزيرتهما"(15). وهكذا فهم ابن يقظان حكمة الرسل فيما دعوا إليه من الشرائع. وكشف ابن طفيل عما أراد أن يقوله عن توافق العقل مع الشريعة، لكونهما من مصدر واحد هو الله، ولذلك فإنه لا يجوز أن يختلف العقل مع الوحي، وكل خلاف، هو خلاف في الظاهر لا في الباطن.(1/499)
ولكن هل يفهم هذه الحقائق كل إنسان؟ إن ابن طفيل كما تكشف معاني قصته سيقسم الناس معرفياً إلى أربع مراتب. وسيأتي على رأسها: 1 ـ الفيلسوف الذي يمثله حي بن يقظان. وثانيهما: عالم الدين، البصير بروح الشريعة الذي يمثله أبسال، والزاهد في الدنيا. والثالث: المتدين المتمسك بتطبيق نصوص الشريعة، ولا يتجاوز بفهمه هذا الحد، ويمثله سلامان. وهو حاكم المدينة أو ما يحكم المدن (شريعة الحكام) والرابع: الجمهور الذي لا يستطيع الترقي إلى مستوى إنسانيته وعقله، ولهذا فإنه يكره الحكمة والحكماء ويضيق بها وبهم ذرعاً. ولهذه الأسباب كأنما سيحكم ابن طفيل على الفيلسوف، وعالم الدين المتبصر بالانسحاب من الحياة والعزلة، كما فعل ابن يقظان وأبسال، وربما على وجوب التلاقي أيضاً لأن لغتهما مشتركة وكذلك أهدافهما. وهذا ماسيفعله ابن طفيل في أواخر حياته كما ورد، مؤثراً العزلة والتأمل، ربما للتحقق من المعرفة التي نسبها لابن يقظان ولم يتحقق منها.(1/500)
إن دراسة ابن طفيل من خلال (حي بن يقظان) تضعنا أمام مشكلة معرفية، لأنها النص الوحيد الباقي من كتبه.وهذا النص لا يدل بأن ابن طفيل فهم عالم الروح، أو حقق أي تواصل فعلي معه، وإنْ كتب عن هذه المعرفة، وآمن بها نظرياً. ولهذا السبب يخطئ الفلاسفة حين يظنون أن ما يمكن معرفته بالوحي أو الإلهام يمكن أن يعرف بالعقل. ولكن ما يضعنا في حيرة هو حديث ابن طفيل عن رياضات ابن يقظان وسلوكه لمعرفة خالقه، وهو سلوك يمكن أن يقود السالك إلى المعرفة الإلهامية. ولكن وصف مشاهدات ابن يقظان بعد وصوله، لا تدل على الوصول، لأن لوصول الواصلين علامات لا تخفى على الخبير. وهي أبسط من كشف العالم للجاهل بعلم الحساب بالنسبة إليه. فكل وصول له بدايات وتسلسل، وبهذا التسلسل يتميز الواصلون ويُعرفون، وإن كانت المعرفة الإلهامية لا تعني تفوقاً على الآخرين في أي علم آخر، كما قد يزعم بعض المدّعين. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين اقترح عليهم ترك تأبير النخل فلم تنضج ثماره (أنتم أدرى بأمر دنياكم). مع أنه قال في حديث آخر "إني لستُ أنسى، ولكني أنسى لأَسنّ".(16). فهو الذي لا ينطق عن الهوى. ولا يتكلم إلا لحكمة، وهذا مقام فريد، ودعوة للتفكير.
إن الفرق بين ما يدرك بالعقل، وبين ما يدرك بالإلهام في أي مسألة، كالفرق بين السامع للخبر، وبين المشاهد له. وما يتوصل إليه الفيلسوف بعقله لايؤدي إلى اليقين، لأن الحواس لا تشاركه في هذه الشهادة. ولهذا قلنا إن شهادة العارفين يقينية، وآراء الفلاسفة، عقلية ونظرية، ولا تثبت على حال، وإذا لم يرتق الفيلسوف إلى المعرفة الروحية، فليس له منها غير السمع، وربما التعجب، إن أحسن الظن بأهل المعرفة الروحية، وأخبارهم. ولكن ليست كل معرفة يجب أن تكون روحية لكي تكون صالحة وصحيحة. فربما توصل أصحاب الحكمة إلى الحق الذي يقره الوحي، ولكن بطريق العقل الذي يخطئ ويصيب، بعكس الوحي والإلهام الذي لا يخطئ.(2/1)
ابن رُشد الفيلسوف المحارَِب حياً وميتاً
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد سنة (520 هـ/ 1126م) في قرطبة. وتوفي (مساء الخميس 9 صفر عام 595هـ/ في العاشر من كانون الأول سنة 1198م) في مدينة مراكش، ودفن فيها، وله من العمر اثنتان وسبعون سنة. ثم نقلت رفاته بعد ثلاثة أشهر إلى مسقط رأسه في قرطبة ودفن في مقبرة أسرته. وكان نقل رفاته إلى الأندلس كأنما هو إشارة للدور الذي ستلعبه فلسفته في حياة الغرب ومستقبله، بعكس الشرق الذي سيهجر الفلسفة والفلاسفة لفترة طويلة، وسيكتفي بما سيقدمه الفقهاء من غذاء للفكر. وهي مرحلة ستجعل ديار المسلمين عرضة لشتى أنواع الغزو والعدوان. وستكون المناعة، التي ساهم فيها الأمويون بتكريمهم للشعر والفكر إضافة للفقهاء، وكذلك العباسيون بجعل قصورهم مركزاً للحوار بين المذاهب والآراء، قد انقضت وضعفت، برحيل الفلسفة واختفائها، وهو مؤشر على غياب الفكر والحوار، ودليل على توقف مغامرات العقول وسباقها، الذي تمخر به الأمم التاريخ، وترسم ملامح طرق المستقبل وضفافه التي سترسو عليها، مما يعني عند غياب أصحاب العقول أو رحيلهم أن الأمم في ظلمة، أو أنها تفضل الظلمة على النور، وإن كانت تقول غير ذلك وتصرح به على لسان من يحكمها أو يمثلها. لقد رحل ابن رشد ورحلت معه الفلسفة وبدأت شمس العرب والإسلام، وكل الثقافة والعلوم التي أنتجها علماء الأمة، تغرب عن الأرض التي نبتت فيها لتطلع في مكان آخر... على الضفة المقابلة لشاطئ المتوسط، لأن الحضارة لا تموت، ولكنها مثل نور الشمس تنتقل من مكان إلى آخر، فلم يبق من ابن رشد وغيره إلا ذكريات تستثير حماس بعض أفراد الأمة بين حين وآخر، بينما الأغلبية نائمون، مع انسجام الأفكار وسلامها ولونها الموحد الذي دعمته كل سلطة بما يناسبها من التفاسير والآيات والأدعية وأنظمة الحكم التي زعمت أنها تمثل رغبة الأمة والمدافعة عن عقيدتها.(2/2)
في ظل هذا السكون الذي تحقق عربياً بنقل جثمان ابن رشد إلى الضفة الأخرى من المتوسط بعد إحراق كتبه، بدأ التمرد في الغرب على قاعدة القديس انسليم أسقف كانتربري، المتوفي عام (1109م) التي تقول بأن ـ الفلسفة خادمة للاهوت ـ واضطرت الكنيسة إلى الإيعاز لمفتشها بباريس (اتيان تامبييه) إلى إصدار حرمان للأفكار الرشدية ومن يتعامل معها. فصدر هذا الحرمان في كانون الأول عام 1270م واجتهدت الكنيسة في بيان الأسباب التي تؤدي من وجهة نظرها إلى تكفير من يؤمن بأفكار ابن رشد الفلسفية. إلا أن أساتذة السوربون انقسموا إلى فريقين. ووقف توما الأكويني (1225 ـ 1274م)، موقفاً وسطاً بتبني أرسطو وابن رشد في النظريات التي لا تتعارض مع الكنيسة، وبتوجيه اللوم لشروح ابن رشد فيما لا يرضي الكنيسة، لتبرئة أرسطو من الاتهام بتعارض أفكاره مع الكنيسة. وبسبب هجوم الرشديين اللاتين ورفضهم الامتثال لتهديدات الكنيسة وحرماناتها، أصدرت حرماناً جديداً أكثر تشدداً من السابق عام (1277م) طال حتى بعض أفكار الأكويني الذي كان قد توفي قبل ثلاث سنوات. وأدى القرار الجديد إلى إبعاد بعض أساتذة السوربون عن الجامعة. لقد أدرك الغربيون الذين تبنوا الرشدية، وعلى رأسهم "سيجر البربنتي (دي برابان)، وبويس الدانمركي (دي داسي)، أن (الخير الأعظم) الذي جعله بويس عنواناً لكتاب له "لا يمكن أن يكون إلا بممارسة الإنسان لأعظم قواه أي لعقله. والعقل هنا هو العقل التأملي، أي النظر العقلي المحض الذي يقودنا إلى معرفة الحق، وإلى التمتع بالحقيقة، اللذات العقلية هي اللذات الحقيقية للسعادة والإنسان العاقل لا يقوم بأي عمل لا يساهم في تعزيز سعادته وزيادتها. وكل عمل لا يساهم في هذه السعادة هو خطيئة وبالتالي فإن العامة التي تجري وراء اللذات الحسية والشهوات وحب المجد والمال، لا تستحق منا أي احترام أو تكريم.(2/3)
لنكرم إذن أولئك الذين يكرسون حياتهم لدراسة الحكمة ويعيشون حسب النظام الطبيعي، وهؤلاء الذين يعيشون حسب النظام الطبيعي هم الفلاسفة، وبالتالي فإن الحياة الفلسفية هي الخير الأعظم"(1). ولكن الرشدية ستظل ملاحقة في الغرب كما لوحقت في الشرق فسلطة العقل كما فهمت تعني التمرد على الكنسية. وسوف يضطر (مارسيليو البادوي) (1275 ـ 1343) وزميله (جان دي جاندون) للفرار من جامعة باريس واللجوء إلى ملك بافاريا (لويس) خوفاً من سلطة البابا. لأن جان هذا من الرشديين المتعصبين وكان ابن رشد في رأيه "أتم وأكمل وأمجد صديق ومدافع عن الحقائق الفلسفية" (2) ولكن رشدية العقل كانت قد شقت طريقها رغم الصعوبات في الغرب. وألف الشاعر الكبير دانتي (1265 ـ 1321م) كتاباً بعنوان (النظام الملكي)، هاجم فيه السلطة الزمنية للكنيسة، ووضع فيه سيجر زعيم الرشديين في فردوسه بدلاً من الجحيم حسب تعاليم الكنيسة. وهكذا فإن الموقف من الرشدية كان نقطة تحول فاصلة في تاريخ أمتين وديانتين، العرب المسلمون، والغرب المسيحي. العرب في تراجعهم عندما سيطر عليهم التقليد وجمود العقل، والغرب في تقدمه عندما أيقن أن العقل هو الخير الأعظم الذي يجب أن يكون موجهاً للإنسان ومرشداً، فكانت الرشدية تمثل تيار الإقناع في مواجهة التخويف، وتيار الحوار في مواجهة الأوامر. فبدت هنا وهناك متمردة باسم العقل على سلطة الاستبداد. وبهذا الانحياز لصالح العقل نجحت أوروبا في الانتقال إلى عصر جديد، وصولاً إلى عصر النهضة. لقد أصبح ابن رشد في الغرب يمثل الحيوية وتجلي المعرفة الإلهية في الإنسان. فقال عنه سافونا رولا سنة (1440) إنه "ملك العبقرية الإلهية التي شرحت كل مؤلفات أرسطو"(3).(2/4)
وإذا كان ابن رشد قد لعب كلّ هذا الدور في حياة الغرب ومستقبله، فماهي الفلسفة والشروح التي أتى بها على كتب أرسطو، مع أنه لم يكن يعرف اليونانية واعتمد في شروحه لأرسطو على الترجمات العربية؟ إننا لأهمية ابن رشد سنحاول أن نقدم لمحة عن فلسفته، إضافة لتركيزنا على مسائل النفس والعقل والروح.
فلسفة ابن رشد(2/5)
إن السؤال الأول الذي يحتاج إلى جواب. هو هل يستحق ابن رشد الاتهام، والتعرض لما تعرض له، من قبل بعض الفقهاء، أو الكنيسة فيما بعد، أم إن الجهل هو الذي حاكم ابن رشد وحكم عليه بما ليس فيه رغم إيمانه؟ إذا عدنا إلى آراء الغربيين وعلى رأسهم آرنيست رينان (1823 ـ 1892م)، الذي نال الدكتوراه من جامعة السوربون برسالتيه عن (ابن رشد والرشدية) و(الفلسفة المشائية عند السريان). فإننا سنجد بأن رأي رينان في عقيدة ابن رشد يتلخص بالآتي: "إنه يقرر مستويين: مستوى العامة، وهو الذي يكتفي بظاهر النصوص الشرعية، ومستوى العلماء الراسخين، وهو الذي يعتمد على البرهان العقلي، وحين التعارض يؤّل ظاهر النصوص الشرعية كيما تتفق مع ما يتأدى إليه البرهان العقلي". وهذا يعود من وجهة نظر ابن رشد إلى عدم التعارض بين الشريعة والعقل، و"إن الحق لا يضاد الحق. بل يوافقه ويشهد عليه". ولهذا لابد من التأويل لحسم أي خلاف لأن للشريعة ظاهراً وباطناً لا يعلمه إلا الله "والراسخون في العلم". فالراسخون في العلم طريقهم للمعرفة برهاني، بينما الجمهور طريقه إيماني، أي الأخذ بظاهر الكلام. وقد اعتُرِض على ابن رشد في تفسيره (للواو) في الآية بأنها حرف عطف، وقال بعض المفسرين إنها بداية لجملة جديدة مفادها { والراسخون في العلم يقولون آمناً } (آل عمران/7) ومع ذلك فإن الآيات التي تدعو لإعمال الفكر لمعرفة الله كثيرة. ولكن الهجوم سيستمر على ابن رشد لأسباب كثيرة منها اتهامه بخرق إجماع الأمة. وسيرد ابن رشد بقوله "إنه لا يوجد إجماع يقيني لا في الأمور العملية ـ ولا ـ وبالأحرى ـ في الأمور النظرية. وأبو حامد الغزالي نفسه وأبو المعالي(2/6)
عبد الملك الجويني (إمام الحرمين) لم يقطعا بكفر من خرق الإجماع في التأويل"(5). إذن لا يوجد تأويل نهائي للآيات والوحي.ومثل هذا الرأي لن يرضي حراس النصوص لا في الشرق ولا في الغرب. مع أن ميرن، وأسين بلاثيوس، سيؤكدان "أن ابن رشد كان ذا نزعة دينية قوية، وأنه سعى بإخلاص للتوفيق بين الدين والفلسفة. فقال ميرن: إن موقف ابن رشد في هذه المسألة لايختلف عن موقف ابن سينا،وإن الفلسفة عنده تستند إلى الوحي الإلهي وإلى العقل معاً... أما بلاثيوس انتهى... إلى توكيد أن ابن رشد لم يكن فيلسوفاً عقلياً، بل على العكس: اعتمد على الوحي وقرر أن الوحي والعقل لا يتعارضان، وتبعاً لذلك يرى أسين أن ابن رشد بقي صحيح الإيمان، ولم يتعد حدود المذهب السني" وسيقول د.عبد الرحمن بدوي: "إن ابن رشد كان حر الفكر، ولكنه لم يسع إلى الاصطدام بالشريعة".(7) ولبيان مواقف ابن رشد لابد لنا من العودة إلى آرائه التي كانت سبباً للإثارة، والتي سيتبين صحة أغلبها، وإن كنّا نعارض أي مبالغة في دور العقل وقدرته على فهم تنزلات الوحي، بينما نؤيد قدرته على فهم ما جاء به الوحي. فالعقل يدرك عن طريق الحكمة والقياس والأدلة، ما ينزل به الوحي مباشرة ودون مقدمات. ولهذا لا تعارض بين العقل والوحي. ولكن عند عجز العقل يجب إتباع الوحي. وهذا ما يظهر في حكمة الوحي في تحريم لحم الخنزير مثلاً، فالعقل وقف عاجزاً عن إدراك سبب التحريم إلى عصرنا الحاضر حتى كشف عنه الطب الحديث. وهذا مثال لحدود إدراك العقل، الذي يستطيع أن يجتهد في فهمه للوحي، وأن يستخدم التأويل، ولكنه لا يستطيع الآن مثلاً أن يبين سبباً لتحريم الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها كما أمرت الشريعة. ثم إن العقل متغير في فهمه وأحكامه، وهذا يدل على نقصه وعدم كماله، أما الوحي فهو ثابت في جوهره بسبب كماله وصحته، سواء تبين للعقل وجوه كمال الوحي أو لم يتبين له.(2/7)
لهذا لا يجوز إتباع من يخطئ ويصيب في أحكامه (عقلاً)، أي العقل ويجب اتباع من ثبتت صحة أحكامه على مر العصور، أي الوحي. فهذا ما تقودنا إليه الحكمة ويأمرنا به العقل. وعندما سيكون مستند ابن رشد الوحي في تفسيره لما عقله بعقله أو عقله أرسطو، فإننا سنقبل منه، كما سنقبل حكم العقل فيما سكت عنه الشرع الذي دعانا لإعمال العقل في حياتنا، بل جعل العلم أهم من عبادة التطوع مئات المرات. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "ساعة من عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خيرٌ من عبادة العابد سبعين عاماً".(كنز العمال ـ 28789 /ج10).
وقال: "ما قبض الله تعالى عالماً من هذه الأمة إلا كان ثغرة في الإسلام لا تُسدُّ ثُلمته إلى يوم القيامة"(كنز العمال ـ 28812/ج10). فإذا كان علينا أن ننظر إلى موت العالم كخسارة دائمة للأمة، فكيف علينا أن ننظر إلى علمه الذي ضيعناه، ولسانه إذا قطعناه، وعمره إذا قتلناه. فهل حين ضيعنا ابن رشد، كان ثُلمة في تاريخنا لم تسدُّ حتى الآن؟..(2/8)
يبدو أن ملاحقة الرشدية من قبل النصوصيين والحَرفيين في بلادنا العربية والإسلامية قد فتحت ثغرات لم نسدّها حتى الآن، بإحالة العقل على التقاعد في مرحلة الركود بالإكراه الداخلي، مما أتاح المجال لتقدم أوربا وتخلفنا، وفي المرحلة الثانية حين عدنا لاستخدام أسلحة الرشدية، وكان الأوان قد فات، فجاء الغرب موجة إثر موجة، لمنع عقولنا من الانطلاق بالقوة المسلحة، بإجهاض كل محاولة للتصنيع بدءاً من مصر بالهجوم على محمد علي باشا، وصولاً إلى منع العرب كلهم بما فيهم الصديق والعدو من امتلاك أي سلاح استراتيجي يحقق التوازن مع الدولة العبرية التي تلوح بعصاها النووية فوق رؤوس كل العرب. وعلاقة الفلسفة بالموضوع هي العلاقة مع طموحات العقل وقدراته الدنيوية التي لابد منها لمواجهة الأخطار، وتطوير سبل الدفاع عن الأمة، التي توقف كل شيء فيها بمنع العقول من الانطلاق لمواجهة حتى ما نراه بحواسنا، أي بالعين من أسلحة عدونا المخيفة والمبتكرة. فاستقالة العقل لا تعني استقالة الفلسفة فقط، بل تعني هزيمة الإنسان وسقوطه، وتسهيل العدوان عليه، والاستهانة بكرامته، وهزيمة شريعته أيضاً وقيمه ومثله العليا. هذه هي الثغرات، والثلمة التي سيفتحها موت العلماء، وموت علمهم أحياء وأمواتاً. لأن العالم الذي تستفيد الأمة من علمه هو حيّ بينها وإن مات. وإن هزيمة الرشدية هو إشارة لسيادة الغوغاء، والعقل الهمايوني الذي قتل الفارابي من قبل، مع أن ابن رشد ظل في كل كتاباته مدافعاً عن الشريعة ولكن بأساليب الفلسفة، لأن العصر تغير، والفلسفة انتشرت، والغرب يهاجم، وكان على المسلمين أن يجددوا خطابهم الديني للصمود في وجه العواصف، فحاول ابن رشد أن يقوم بهذه المهمة، التي رُفضت في الشرق، وتلقاها توما الأكويني والرشديين الغربيين لإيقاظ الغرب.(2/9)
وكان الإسلام بروحه المنفتحة على العلم، والمنطق أكثر اتساعاً لفكر أرسطو وابن رشد معاً، بعكس الغرب الذي اضطر فيه الرشديون إلى الصدام مع الكنيسة والتمرد عليها. ولكن حراس إسلام الحروف جعلوا الإسلام أضيق من جدران الكنائس بحيث لم يتح للهاربين أن يجدوا ملاذاً آمناً لإعادة الرشدية إلى مكانتها، أو إيجاد مركز تنطلق منه لإشعال نور العقل في الشرق الذي سيطر عليه التقليد والجمود. وهكذا انتهت الرشدية بصمت وكأنها لم تولد. ما الذي ارتكبه ابن رشد؟.. لقد أبدى رأيه في قضايا الفلسفة التي كانت مطروحة في زمنه لكي لا تسرق الفلسفة شباب المسلمين، وربطها بالوحي لبيان تطابق الشريعة مع العقل. فقال بقدم العالم، وهو رأي قال به أرسطو. فالعالم لا بداية له "وإنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة نور الشمس للشمس، وإن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان (كما شرح الغزالي في التهافت)... ويتفرع على ذلك أن العالم كما أنه (أزلي لا بداية لوجوده، فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده وفناؤه، بل لم يزل كذلك، ولا يزال أيضاً كذلك).... ويؤيد ابن رشد رأي الفلاسفة بقوله، إنه "يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء إلى لا موجود أصلاً، لأنه لو كان كذلك لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم".(8). وسيدعم ابن رشد هذا الرأي بالنصوص القرآنية قائلاً: "إن ظاهر الشرع إذا تصفح، ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع، وذلك أن قوله تعالى: { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } ، (هود/7) يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزماناً قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك.(2/10)
وقوله تعالى: { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } (إبراهيم
/ 48)، يقتضي أيضاً بظاهره أن وجوداً ثانياً بعد هذا الوجود. وقوله تعالى:
{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان } (فصلت/11)يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء. فالمتكلمون ليسوا في أقوالهم أيضاً في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون: فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نص أبداً".(9).(2/11)
وأما بشأن تكفير الغزالي للفلاسفة الذين أباحوا لأنفسهم تعيين ما يعلمه الله وما لا يعلمه كقولهم إن علم الله بالكليات لا بالجزئيات. فإن هذه مسألة لا يمكن معرفتها إلا من خلال نصوص الوحي، وإلا فإن المعيّن لعلم الله وحدوده يجب أن يكون معه، وهذا ما لا قدرة لأحد على الزعم بالوصول إليه، ولذلك فإن ابن رشد حاول أن يفسر المقصود من كلام الفلاسفة بتحسين المعنى المراد وتأويله فقال "العلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، إلا أنه غير متعلق أصلاً، كما حكي عن الفلاسفة إنهم يقولون، لموضوع هذا الشك، إنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وليس الأمر ما توهّم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذا كان علة لها، لا معلولاً عنها كالحال في العلم المحدث. وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به"(10). وإننا هنا نواجه أخطاء متماثلة وقع فيها الغزالي بتعميم حكمه وتهجمه على الفلاسفة، كما نواجه خطأ ابن رشد بتبرئته كل الفلاسفة من تهمة الغزالي، والأولى هو الحكم على كل قائل بما قال. وإن من أصول الحكم في الشرع "ادرؤوا الحدودَ بالشبهات" (كنز العمال ـ 12957/ ج5). كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بالبحث عن الحق والأسباب الموجبة للتخفيف قبل إصدار الحكم وإقامة الحد، وليس من أصول الشرع البحث عن الشبهات لإقامة الحدود، وتكفير الناس أو اتهامهم. وهذا ما فعله ابن رشد بتفسيره للشبهات التي أصابت الفلسفة، بتفريقه بين علم الله كعلة للموجودات، وعلمنا نحن كمعلول لها، حيث لا يصح في هذه الحالة قياس الغائب على الشاهد. فهو فرق في طبيعة العالم لا في العلم. أما بشأن إنكار الفلاسفة للحساب، حسب رأي الغزالي. فإن ابن رشد سينفي عن الفلاسفة هذه التهمة. والمشكلة أن الطرفين ذهبا في الاتهام والتبرئة إلى أقصى حدّ، إذ كلاهما عمّمَ حيث لا يصح التعميم.(2/12)
وكما كان على ابن رشد أن يدافع عن الفلسفة لمواجهة هجوم الفقهاء، فقد أراد أن يقوم بدور آخر وهو إصلاح أخطاء الفلاسفة. وهي مهمة تدل على أهمية الدور الذي كان ابن رشد قد ندب نفسه لتحقيقه بحماس نادر، وشعور بمسؤولية العالم وغيرته على الأمة، رغم إدراكه لخطورة ما قد يسببه له هذا الدور من أخطار ومشاكل هو بغنى عنها. وكان يكفيه أن يكون الرجل الأول كطبيب خاص للحاكم في دولة الموحدين. ولكن ابن رشد أراد أن يكون طبيباً للعقول أكثر من رغبته بأن يكون طبيباً للأجسام. لهذا فإنه سينتقد بشدة ماقال به الفارابي وابن سينا عن نظرية الفيض، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحداً، لأنهما كما قال:"أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة". (11)، وفي رأيه أن الواحد يمكن أن تصدر عنه كثرة بسبب اختلاف المواد، والصور، والآلات، والمسببات المتسلسلة. وهذا ما يقوله أرسطو عن كثرة الأسباب والنتائج، وكلها في النهاية تعود إلى الواحد بالمعنى المتقدم، الذي هو سبب الكثرة وعلتها.(2/13)
وسيقول ابن رشد: "إن الله خالق كل شيء وممسكه وحافظه، كما قال الله سبحانه { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } ، وليس يلزم من سريان القوة الواحدة في أشياء كثيرة أن يكون في تلك القوة كثرة، لما ظنَّ من قال إن المبدأ الواحد إنما فاض عنه أولاً، واحد، ثم فاض من ذلك الواحد كثرة، فإن هذا إنما يظن به أنه لازم إذا شبه الفاعل الذي في غير الهيولى بالفاعل الذي هو هيولى. ولذلك إن قيل إن اسم (الفاعل) على الذي في غير الهيولى، والذي في هيولى ـ فباشتراك الاسم. فهذا يبين لك جواز صدور الكثرة عن الواحد"(12). ومن المعروف أن فكرة الفيض، وتسلسلها، القائل بها هو (أفلوطين) دون أي سند علمي أو منطقي. وإن الوحي إذ يؤكد على تسلسل عملية الخلق بما تقتضيه حكمة الإيجاد والخلق، مثل سبق ظهور النبات على الحيوان الذي سيتغذى به، فإن الادعاء باكتشاف نظام الفيض، والوقوف به عند الفيض العاشر أو أكثر أو أقل، ودون دليل، فإضافة لغرابته، فإنه لا يساعد على زيادة معرفتنا لا بالخلق ولا بالخالق. ولهذا رفض ابن رشد مثل هذه الأفكار كما أن ابن عربي سيؤكد دائماً أن نهاية الفيض الذي اكتمل بخلق الإنسان هو قمة الكمال والحكمة والإعجاز، ولهذا كان الإنسان خليفة الله في الأرض من حيث المؤهلات، على عكس أفلوطين الذي رأى أن الفيض الذي انتهى بوجود الإنسان كان من حيث الكمال في قمة النقص أو العجز، لأنه ظهر عن الفيض الأخير. لأن قوة الفيوضات وكمالها تعود إلى مراتبها، الأول، فالثاني، فالثالث وهكذا... وسيكون لابن رشد موقفه المعتدل من قضية الحرية الإنسانية التي اختلفت حولها الفرق الإسلامية، من معتزلة، وجبرية، وأشعرية. فقال ابن رشد: "إن الإرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما أو تصديق بشيء، وهذا التصديق ليس هولاختيارنا بل هو شيء يعرض لنا عن الأمور التي من خارج...(2/14)
ولما كانت الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود لا تخلّ في ذلك، بحسب ماقدرها بارئها عليها. وكانت إرادتنا وأفعالنا لا تتم ولا توجد بالجملة
إلا بموافقة الأسباب التي من خارج، فواجب أن تكون تجري على نظام محدود... وإنما كان ذلك واجباً لأن أفعالنا تكون مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج"(13). وسيضيف الشارح: "ثم هناك أسباب داخل الأبدان طبيعية تحرك الإرادة وتجعل لها دوافع ونوازع، فبناء عليه: إن العوامل التي تحرك إرادة الإنسان من تقدير الله، بحيث يكون بين فعل الإنسان وسلسلة الأسباب الخارجية ارتباط وثيق فيضاف إليها العوامل الداخلية للبدن، لتشكل مجتمعه الشروط اللازمة لحصول الفعل. فالقضاء والقدر هو انسياق هذه الأسباب مجتمعة على نظام ثابت وسنة لا تتغير. وهذا هو اللوح المحفوظ.... وهكذا توجد الأشياء بإرادة الإنسان وبحريته من غير استقلال... حاصلة بالأسباب الخارجية التي قدرها الله... فالله هو الذي يفعل الأسباب الداخلية والخارجية ويحفظها في الوجود. هنا اجتمع النص والعقل. التفسير والتأويل. فحرية الإنسان مرتبطة بضرورة العلم الطبيعي والعلم العضوي النفسي"(14). فالحرية هي وعي الضرورة، كما سيقول هيغل (1770 ـ 1831م). وقد سبقه ابن رشد بهذا الفهم للحرية كما سيقول (رفيق العجم). وبالنظر لأهمية الأسباب والمسببات في وجود النظام والمعرفة فقد بيّن ابن رشد أن الأسباب هي وسائط أفعال الحق في الطبيعة معارضاً القائلين بتدخل الله المباشر والدائم في عملية الخلق. وسيحذر القائلين برفع الأسباب لأن: "من رفع الأسباب فقد رفع العقل... وإن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها، فرفع الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له".(15).(2/15)
وفي هذه النقطة سيلتقي مع الغزالي، الذي سيبين أن السببية هي حكم الله، وكذلك تغييرها عندما يشاء:"إن الله تعالى قادر على كل شيء، وليس من ضرورة الفرس أن يخلق من النطفة، ولا من ضرورة الشجرة أن تخلق من البذر". (رسائل الغزالي). وهذا لا خلاف عليه. كما سيلتقي ابن رشد مع الغزالي حول مسألة التفريق بين العلم المباح للعلماء، وحدود العلم المسموح بنشره بين الجمهور. فقد حدد الغزالي هذا المباح في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام)، كما سيقول ابن رشد "إن أهل الفرق ضلوا الطريق، لأنهم حاولوا تفسير وتأويل النصوص للجمهور، بينما كان عليهم إبقاء الظاهر للجمهور وجعل المؤول فرضاً على العلماء فقط. لأنه لا يحلّ للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور".(16). ولكن رغم اتفاق الرجلين في هذه النقطة، فإن ابن رشد سيتهم الغزالي بأنه باح بأكثر مما يجوز البوح به في كتبه فقال: "يجب أن لا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين... وأما إذا ثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيراً".(17). وهكذا أراد ابن رشد أن يقوم بعدة أدوار، قاده إليها سعة اطلاعه، والحروب الفكرية التي تعرض لها، ورغبته في تصحيح أخطاء الفلاسفة وكذلك الفقهاء، ورؤيته للصلة بين الوحي والعقل كعلاقة تكامل، وفي سبيل هذا الاتجاه، سيخالف أرسطو في فهمه للألوهية، لأن "الله في تصور أرسطو هو جوهر أول وعقل محض، وهو مكتف بذاته ولا علاقة له مع الكون. لكن الله عند ابن رشد على صلة مع العالم... إن الله حي وخالق وفاعل وغاية، يحدث الأحداث باستمرار ويوهب الوجود والحياة للموجودات.. وليس سواه فعل مطلق من غير انفعال". (18).(2/16)
وهكذا كما اضطر ابن رشد إلى الحرب على كافة الجبهات الفكرية في زمنه، فإنه سيتعرض للحرب في حياته وبعد مماته، بما ستثير أفكاره من مشاكل لرجال الدين في الشرق والغرب. ولكن هل يستحق ابن رشد كل الاتهامات التي وجهت إليه؟... إننا بعرض وجهة نظره في النفس والعقل والروح، ربما سيتاح المجال أمامنا لفهمه والحكم عليه.
النفس والعقل والروح في فلسفة ابن رشد:(2/17)
لقد حيرت النفس ابن رشد، وإن كان قد أخذ بوصف أرسطو لها، بأنها "استكمال أول لجسم طبيعي آلي". فبما هي (أول) تعبّر عن تركيب عناصر الطبيعة في الصورة، ولهذا فإن النفس لكونها تجسيد للطبيعة في صورة، فإنها تدخل كعلم في موضوع الطبيعة، حسب أرسطو، ولأنها أيضاً تفنى بفناء الجسد. ولكن في المفهوم الإسلامي النفس ستحاسب، وهذا يقتضي بقاءها بعد الموت. وهنا كان على ابن رشد أن يواجه مشكلة مشهودة للعقل، وهي فناء الصورة الإنسانية بعد الموت، مما يقود إلى الاستنتاج بأن ما نتج عن الجسد سيفنى بفنائه، وخاصة أن آلات الجسد التي تشكل الحواس ستفنى بالموت، وقد وضع ابن رشد قاعدة للتفريق بين الخالد والفاني تتعلق بموضوع المعرفة، والأداة التي نعرف بها، فإذا كان ما نعرفه يتعلق بالمادة، فإن الأداة التي نعرف بها فانية كالمادة، وإذا كان ما نعرفه مفارقاً للمادة، فإن ما نعرفه به ـ العقل الفعال ـ يجب أن يكون مفارقاً للمادة، فالمعروف هو من جنس العارف، والفاني يعرف الفاني، والخالد يعرف الخالد. عند هذا التحديد الرشدي، تصبح النفس بأدواتها المدركة (الحواس) التي تدرك المادة القابلة للفساد والتغير فاسدة، وتدخل في علم الطبيعة. أما مابه تدرك النفس المفاهيم المجردة عن المادة فإنه يدخل في علم ما وراء الطبيعة، لأن النفس بما هي (استكمال أول) فإن لها كمالات متسلسلة، هي خمسة، رتّبها ابن رشد حسب تقدمها في الزمان، كتقدم الزهرة على الثمرة، والأب على الابن، وهي: 1 ـ النفس النباتية، 2 ـ الحسّاسة. 3 ـ المتخيّلة. 4 ـ الناطقة. 5 ـ النزوعية. وقد رأى أن كلّ قوة من هذه القوى تتألف من مادة وصورة، مثلاً مادة الإحساس هي الآلة التي بها يحدث الإحساس، والصورة هي ما يتم به إدراك معنى الإحساس وتمييزه، حيث يتحول الإحساس المادي إلى معنى مجرد، وصورة لا مادية.(2/18)
ولكن إدراك معاني الحواس يتلقاها الإنسان بطريقتين، الخيال الذي لا تنفصل معرفته عن الهيولى إلا جزئياً، وهذه هي حدود الإدراك الحيواني الذي يؤدي إلى ظهور القوة النزوعية لديه، والتي تجعل الحيوان ينزع إلى النافع، ويبتعد عن الضار. وهذه قوة موجودة في الإنسان، ولكن وراءها النفس الناطقة التي يختص بها الإنسان، والتي يتم بها إدراك المعاني مجردة عن الهيولى. والقوة الناطقة تقسم إلى قسمين: عملية، ونظرية. وبالعملية يصنع الإنسان المصنوعات، كما أن لدى الحيوان بعض الخبرات التصنيعية إلا أنها غريزية، ولا يحدث فيها أي ابتكار كما لدى الإنسان. ولكن العقل العملي فاسد لتعلق معرفته بالمادة، ولكون "هذه المعقولات إذن مضطّرة في وجودها إلى الحس والتخيل، فهي ضرورة حادثة بحدوثها، وفاسدة بفساد التخيل"(19). والفرق بين الإنسان والحيوان في هذه المعرفة "كالتسديس الذي يوجد للنحل، والحياكة التي توجد للعناكب، حاصلة عن الطبع، ولذلك لا يوجد متصرِّفاً فيها، بل إنما يُدرك منها حيوان صوراً ما محدودة، وهي الضرورية في بقائه"(20). هذا الجانب من العقل (العملي) بما أن معرفته مرتبطة بالمادة المتغيرة، والصور الفانية فهو فان مثلها. كأن ابن رشد رسخت لديه قناعة بأن الصور المادية، وكل ماهو مادي بشكّل عام، لا يدرك إلا بنوع من الآلات المادية، أي بما هو من جنس المادة. وبما أن كل ماهو مادي محكوم عليه بالفناء بتأثير المادة نفسها، بما تتعرض له من علل الفساد والتحلل، فإن مصير المدرِك والمدرَك به فانيان لا محالة. إننا عندما نتأمل المراحل التي نتوصل فيها إلى المعرفة التجريبية سيتبين لنا أنها معرفة مرتبطة بالحواس، والحواس آلات، وإذا غابت فينا إحداها غاب عنّا العلم المتعلق بها.(2/19)
"إنه إذا تؤمِّل كيف حصول المعقولات لنا، وبخاصة المعقولات التي تلتئم منها المقدمات التجريبية، ظهر أنَّا مضطرون في حصولها لنا أن نُحسَّ أولاً، ثم نتخيّل، وحينئذٍ يمكننا أخذ الكلّي، ولذلك من فاتته حاسة ما من الحواس فاته معقول ما".(21). ولكن المعرفة في النهاية هي تجريد عقلاني للمعقولات وإن كانت مادية، فهل يتعرض العقل أيضاً للفناء كالنفس؟...(2/20)
إن المنطق العقلاني الذي حاكم به ابن رشد الأمور، وأرسطو من قبل، سيقود إلى الحكم على فناء المحمول أي العقل مادام الحامل أي الجسم سيفنى. الاستنتاج الرياضي والمنطقي لا يسمح بغير ذلك، ولكن إيمان ابن رشد يتعارض مع قبول هذه النتيجة، فأين الحقيقة؟.. سيشكل هذا السؤال الذي لن يستطيع ابن رشد الإجابة عليه بمنطق العقل صدمة له لن يبرأ منها كما يبدو، لأنه لن يجد الجواب أيضاً عند أرسطو، وإن قال: "إنَّ أرسطو ينص على أن العقل الهيولاني أزلي".(22). لقد قسم ابن رشد العقل إلى عقل هيولاني، وعقل بالملكة، وعقل بالقوة، ولكن هذا التقسيم لا يجعل إدراك العقل منفصلاً عن علاقته بالمادة، وإن جرد المعرفة في العقل الفعال (العقل بالقوة) عن الماديات. فهذه مراحل لا يستقل فيها العقل الفعال (العقل بالقوة) عن الماديات. فهذه مراحل لا يستقل فيها العقل الفعال عن المعرفة بآلات مادية، وإن صارت معرفته غير مادية في العقل النظري، فكيف سيكتب له الخلود؟... ابن رشد لن يصل إلى نتيجة مرضية لتعلقه بالأدلة العقلية وإصراره على استخدامها في موقع لا تصلح فيه للدلالة على الحقيقة. فلم يبق له غير التسليم بأنه لا يُعلم كل مايراد بالعقل.فنبوة الأنبياء تُعلم "بما ينذرون به من وجود الأشياء التي لم توجد بعد، فتخرج إلى الوجود على الصفة التي أنذروا بها، وفي الوقت الذي أنذروا، وبما يأمرون به من الأفعال، وينبهون عليه من العلوم التي ليست تشبه المعارف والأعمال التي تدرك فتُعلم. وذلك أن الخارق للمعتاد إذا كان خارقاً في المعرفة بوضع الشرائع دل على أن وضعها لم يكن بتعلم، وإنما كان بوحي من الله. وهو المسمى نبوة".(23). ولهذا مع إيمانه الشديد بالعقل واعتباره الأداة الرئيسية للمعرفة، ونقده لطريق المعرفة الصوفية، فإنه سيضع العقل وراء الوحي معترفاً بقصور العقل وعجزه عن الإجابة على أسئلة الإنسان الكبرى بالدليل والبرهان.(2/21)
ولهذا سيقول: "إن العلم المتلقّى من قبل الوحي إنما جاء متمماً لعلوم العقل، أعني أن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قِبَل الوحي".(24). بهذه الشهادة، وبما كتبه للبرهان على وجود الله، نستدل على إيمان ابن رشد، ولا يطعن في إيمانه محاولاته لإدراك مسائل خلود النفس بالعقل، أو فهمه لهذا الخلود بطريقة خاصة لا تتعارض مع جوهر الإيمان. وإن طريقة البحث التي اتبعها ابن رشد في كل المسائل تدلنا بأنه كان صادقاً في إيمانه وإسلامه، إلا أنه حاول أن يعقلن كل مسائل الإيمان بالاعتماد على المنطق والقياس لحماية العقيدة الدينية من تشكيك العقلانيين، والارتقاء بوعي المسلمين بإثبات التوافق والتكامل بين المنقول والمعقول، بين الوحي والعقل،وإذا كان ابن رشد قد فشل في بعض الأمور، فإنه قد نجح في فتح معركة العقول البشرية لفهم الوحي بالعقل، ومجابهة كل تضليل وتحريف وسوء فهم أصاب العقائد في الشرق والغرب. وهي معركة لن تنتهي بسبب تغيّر علوم العقل. وإعجاب كل عاقل بعقله، وطموح الإنسان إلى الكمال الذي لن يعتقد ذات يوم بأنه توصل إليه، وإن وصل. وهكذا سيكون لابن رشد الفضل في تحريض العقول على البحث والمغامرة لبناء عقيدتها وحياتها ونظامها السياسي. وإنه سيؤيد النظام الجمهوري الذي اقترحه أفلاطون ولكن بشريعة إسلامية، وإن خالفه في مسائل المعرفة من حيث هي تَذكر، لأنه كان نصيراً لأرسطو. فـ"الحكم العربي، في صدر الإسلام، كان في نظر أبي الوليد موافقاً لنظريته في الجمهورية الفاضلة، وهو يحمّل معاوية بن أبي سفيان تبعة ما جرى من انقلاب في النظام العربي، ومن تحويله إلى حكم استبدادي، ومن ثم إلى فوضى واضطراب".(25).(2/22)
ولعله سيكون من المفاجئ في ذلك العصر أن يدعو ابن رشد إلى تحرير المرأة، وتأهيلها للعمل، حتى لا تكون عالة على المجتمع، وحتى لا تقتل قدراتها العقلية:"لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءنا أتلفت مواهبها العظمى، وقضت على اقتدارها العقلي". (26) ومع الأسف فإن هذا التحرير للمرأة سيأتي من الغرب لا لكي يرتقي بمواهبها العقلية، وإنما لكي ينحط بها إلى مستوى السلعة. ولكي يجعل منها وسيلة لإشباع غرائز الرجال، وانحرافاتهم الجنسية، وإقناعها بالضغط الاقتصادي والنفسي والإعلامي أن المرأة الناجحة هي وسيلة لإغراء الرجال واصطيادهم أكثر من كونها إنسانة لها مشاعرها وطموحاتها في الاستقرار والإنجاب وبناء أسرة مثالية. فتحولت المرأة بعد أن كانت زوجة في بيت، وأمّاً في أسرة، إلى(زوجة المكتب) كما كتب أحدهم، وسلعة تجارية خاضعة لقوانين العرض والطلب والاستثمار في السوق الرأسمالية التي سخرت من العقل والحكمة والأخلاق والأديان، وجعلت المال ربّاً يجب الوصول إليه بأي وسيلة. فضاع العقل والعقلانية في زحمة الفوضى والسباق المحموم على المال، وخسر العقلاء المعركة حتى على مستوى العقَل الفعال، لصالح العقل الهمايوني.مما يدلّ بأن المبالغة في حسن الظن بالعقل، دون وضع ضوابط له لن يؤدي فقط لإنتاج سلوكيات لا عقلانية وشاذة، وإنما سيذهب بأصحاب العقول أنفسهم، لحساب الغوغاء. ولهذا لابد من الاعتراف بسلطة الوحي، وإن عجزت العقول عن فهم هذه السلطة، كما اعترف ابن رشد بعجزه عن فهمها، كلّها بأدوات العقل. وهذا يدل بأن ابن رشد لم يصل إلى معرفة عالم الروح، ولهذا استمرت حيرته في فهم النفس الإنسانية، وقلقه حول مصيرها الذي لم يتمكن من تقديم تصور يقيني لنهايته ومآله. صحيح إننا نقدر محاولاته للتوفيق بين الوحي والعقل،ولكننا نعترض على المبالغات التي صدرت بشأن العقل سواء كانت من قبله أو من قبل أتباعه.(2/23)
فالعقل كما يكشف عن نفسه لا يستطيع أن يعرف لغة الحدس،فكيف سيعرف لغة الروح؟؟..
وهذا ما أكده ابن عربي بعد لقائه مع ابن رشد في قرطبة، حيث سأله: "كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي: هل هو ما أعطاه لنا النظر؟.. قلت له: نعم، لا! وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها. فأصفر لونه، وأخذه الإفْكِل، وقعد يُحوقل، وعرف ما أشرت إليه... وطلب بعد ذلك من أبي الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا: هل هو يوافق أو يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلاً،وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: هذه حالة أثبتناها، وما رأينا لها أرباباً. فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها. الفاتحين مغالق أبوابها! والحمد لله الذي خصني برؤيته".(27).
وأضاف ابن عربي أن ابن رشد أراد الاجتماع به مرة ثانية، ولكنه فهم من مشهد برزخي ظهر له فيه: "إنه غير مراد لما نحن عليه"، فاعتذر عن الاجتماع به، لأن مطلوبه كان عالم العقل الذي حظي به ولم يرغب بتجاوزه إلى سواه. فأمد الله ابن رشد بما أراد، كما أعطى لكل طالب مطلوبه الذي جدَّ في طلبه واجتهد. فظل ابن رشد شارحاً لأرسطو الذي جدَّ في فهمه حتى بدا وكأنه أرسطو الثاني، والتقت أفكارهما ومصائرهما. فقد اتُهم أرسطو بالإلحاد، واضطر للفرار من أثينا قائلاً:"لا حاجة لأن أهيئ للأثينيين فرصة جديدة للإجرام ضد الفلسفة" مشيراً إلى قتلهم لسقراط. وكما هو معروف فقد لعبت المصالح والسياسات دورها في مطاردة أرسطو، كما ستلعب هذا الدور في حياة ابن رشد ومصيره.
***
مراجع الفصل الرابع:
"النفس والعقل والروح في الفلسفة العربية".
الكندي فيلسوف العرب
(1) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 298/ ج2.
(2) تاريخ الفلسفة العربية ـ عن رسائل الكندي الفلسفية ـ 364.
(3) م.س.336.
(4) م.س 363.
(5) م.س 363.(2/24)
(6) م.س 366.
(7) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 307 / ج2.
(8) م.س 308/ج2.
(9) م.س 305/ج2.
(10) م.س 107/ج1.
(11) م.س 113/ج1.
(12) تاريخ الفلسفة العربية ـ 397.
(13) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 308/ج2.
الفارابي الفيلسوف الزاهد
(1) تاريخ الفلسفة العربية ـ 382.
(2) م.س.397.
(3) م.س 398.
(4) م.س 404.
(5) م.س 408.
(6) م.س 406.
(7) م.س 418.
(8) م.س 425.
(9) د.عبد الرحمن بدوي ـ موسوعة الفلسفة ـ 100/ج2.
(10) م.س 113/ج2.
ابن سينا وسر الحكمة المشرقية
(1) د.عبد الرحمن بدوي ـ موسوعة الفلسفة ـ 41/ج1.
(2) م.س 76/ ج1.
(3) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 791/ج2.
(4) تاريخ الفلسفة العربية ـ 442.
(5) د.عبد الرحمن بدوي ـ موسوعة الفلسفة 56/ج1. عن كتاب "النجاة".
(6) د.عبد الرحمن بدوي ـ موسوعة الفلسفة 56/ج1. عن كتاب "النجاة".
(7) م.س 57.
(8) تاريخ الفلسفة العربية ـ 455.
(9) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 58/ج1. عن "عيون الحكمة".
(10) تاريخ الفلسفة العربية ـ 449.
(11) م.س 451.
(12) م.س 452.
(13) م.س 450.
(14) م.س 454.
(15) م.س 457.
(16) م.س 473.
(17) م.س 475.
(18) م.س 484.
(19) م.س 480.
(20) م.س 471.
(21) الموسوعة الفلسفية ـ 63 /ج1.
(22) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 485/ج2.
ابن باجه فيلسوف الحرية والإرادة
(1) تاريخ الفلسفة العربية ـ 582.
(2) م.س 587.
(3) موسوعة الفلسفة ـ 14/ج1.
(4) م.س 13/ج1.
(5) م.س 13/ج1.
(6) م.س 14/ج1.
(7) م.س 16/ج1.
(8) م.س 17/ج1.
(9) تاريخ الفلسفة العربية ـ 583.
(10) موسوعة الفلسفة 13/ج1.
(11) موسوعة الفلسفة ـ 13/ج1.
ابن طفيل والمعرفة بالفطرة
(1) الموسوعة الفلسفية العربية 69/ج1.
(2) الموسوعة الفلسفية العربية 69/ج1.
(3) م.س 75/ج1.
(4) ابن طفيل ـ حي بن يقظان ـ 81.
(5) م.س 87
(6) م.س 104
(7) م.س 80
(8) م.س 106
(9) م.س 100
(10) م.س 94
(11) م.س 96
(12) م.س 97
(13) م.س 115(2/25)
(14) تاريخ الفلسفة العربية ـ 596.
(15) ابن طفيل ـ حي بن يقظان 128.
(16) الغزالي ـ رسائل الغزالي ـ 133.
ابن رشد الفيلسوف المحارب حياً وميتاً
(1) تاريخ الفلسفة العربية ـ 620/ج2.
(2) م.س 621/ج2.
(3) الموسوعة الفلسفية 38/ج1.
(4) م.س 30/ج1.
(5) م.س 29/ج1.
(6) م.س 30/ج1.
(7) م.س 30/ج1.
(8) م.س 31/ج1.
(9) م.س 32/ج1.
(10) م.س 32/ج1.
(11) م.س 36/ج1.
(12) م.س 36/ج1.
(13) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 607/ج1.
(14) الموسوعة الفلسفية العربيةـ 607 /ج1.
(15) م.س 602/ج1.
(16) م.س 605/ج1.
(17) تاريخ الفلسفة العربية ـ 651.
(18) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 613/ج1.
(19) تاريخ الفلسفة العربية ـ 659.
(20) تاريخ الفلسفة العربية ـ 659.
(21) م.س660.
(22) م.س664.
(23) م.س683.
(24) م.س682.
(25) م.س684.
(26) م.س685.
(27) ابن عربي ـ الفتوحات المكية ـ تحقيق د.عثمان يحيى 372/ج2.
***
الفصل الخامس
المعرفة الروحية ومشكلاتنا المعاصرة
مصادر التشريع في الأنظمة السياسية المعاصرة.
إن مشكلات الإنسان المعاصر بشكل عام، والمسلم بشكل خاص، تتعلق بمصدر التشريع الذي يحكم المجتمع البشري. هل هو، الوحي، أو العقل، أو النفس؟... وفي كل الحالات علينا أن نقدم تصوراً لدولة الوحي، ودولة العقل،ودولة النفس إن وجدت، لأنه لا أحد يريد أن يعترف بوجود مثل هذه الدولة رغم أنها موجودة وقائمة، ولكن باسم آخر، هو دولة العقل. وإننا لكي لا ندخل في جدل الأسماء، فإننا سنحاول أن نقدم بإيجاز الملامح الأساسية التي يتميز بها كل نظام. وعلينا أن نعترف كما تبين لنا من خلال أبحاثنا بأن هناك أربعة مصادر للتشريعات الفردية البشرية التي تتحول إلى قوانين وسلطة بالعودة إلى المصادر التي يستمد منها كل إنسان ومجتمع مواقفه وسلوكه في الحياة. وهذه السلطات هي:(2/26)
1 ـ الروح، وهي مصدر قرار الرسل والأنبياء مع العصمة، والأولياء مع عصمة نسبية غير مطلقة. وهم الخلفاء. لذلك فإن الأولياء يستمدون شريعتهم من الرسل.
2 ـ العقل، وهو مصدر سلوك الإنسان المتوازن ومصدر قراراته.
3 ـ النفس، وهي مصدر سلوك الإنسان الحيوان الذي لم يرتق إلى مستوى حكمة العقل، لأن رغباته النفسية هي الدافع الرئيسي لتصرفاته وسلوكه وقراراته؛ ولكن إن ظل في تصرفاته كالحيوانات التي تسلك سلوكاً طبيعياً في غرائزها دون انحراف، وظلت أهدافه وطموحاته محدودة، ومتمثلة في الوصول إلى إشباع رغباته النفسية من طعام وجنس، أو مكانة اجتماعية لا لغاية إنسانية، ولكن حباً في الظهور. هؤلاء هم الذين ينطبق عليهم قول الله: { أم تحسبُ أنَّ أكثَرَهُم يسمعونَ أو يعقلونَ إنْ همْ إلا كالأنعام } (الفرقان/44). فهذا الصنف من الناس لا يستخدم سمعه ليتعلم، وكأنه لا يسمع، ولا يستفيد من عقله لكبح جماح ما يهوى، وما يهوى به ويخرجه عن صفات إنسانيته، لذلك فهو كالحيوان لا يفكر إلا بحاجات نفسه ورغباتها، وإن كان متعلماً ومثقفاً، أو حتى من العلماء الأفذاذ، فالإنسانية مشاركة وتعاون وتعاطف ورحمة. والعقلانية من شروطها سيادة العقل على النفس وليس العكس، لأن العقل هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. فإذا غاب العقل وغلب الهوى دخل الإنسان في عداد الحيوانات بأفعاله. ويجب أن لا يخدعنا التنظيم الاجتماعي في أرقى الدول للاستنتاج بأن العقل هو الذي يحكمها، وليست النفس، وغرائز الإنسان الحيوان. لأننا إذاكنا سنجعل مستوى التنظيم الاجتماعي مقياساً للرقي العقلي، دون اهتمام بأهداف هذا التنظيم وغاياته، سنكون قد فقدنا الاتجاه الصحيح لمثل هذا التقييم الذي يتعلق بهدف النظام والقوانين، وليس بإنجازات الدولة، وإبداعات الشعوب. فالإنسان يبدع بالدوافع النفسية والنفعية أيضاً، ولكن من أجل جسده وغرائزه وليس من أجل الآخرين.(2/27)
وكل وسائل اللهو هي من أجل النفس، وأفضل الإبداعات قد تكون للتجارة فقط أو لقتل الآخرين ونهبهم، وهذه غايات شريرة تأمر بها النفس، والعقل يرفضها عند المحاكمة. إذاً ليس التفوق في تنظيم الدول وإنتاجها هو المقياس، بل الغايات التي تسعى الدول لتحقيقها، فإذا كانت الدول تقام، وتحشد الجيوش للعدوان، وتدرس العلوم للكسب والاستغلال، فإن مثل هذه الدول لم تخرج عن غايات النفس، وهي ليست إلا دول الإنسان الحيوان. وبالقياس إلى نظام الحيوانات، فإن أي دولة لا تستطيع أن تصل إلى مستوى دقة نظام مجموعات النمل أو النحل الذي ينتج عسلاً لا يستطيع الإنسان إنتاجه، وبهذا المقياس وعند تشابه الأهداف بين تجمعات الإنسان والحيوان، فإن بعض الحيوانات أفضل تنظيماً من دول النفس البشرية. وهي تتفوق عليها. ويصبح الإنسان في درجة أدنى منها في سلم التفوق والتنظيم. وهذا وإن كان محزناً، ولكنه الواقع الأليم الذي ستنحدر إليه دول النفس. والأفراد الذي لا يفكرون إلا بأنانيتهم الخاصة.(2/28)
4 ـ الغرائز، وهي مصدر سلوك من هو أضل من الحيوان، الذي ينطبق عليهم قول الله { إنْ هُمْ إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً } (الفرقان/44). فهذا النمط من البشر لا يكتفي بإشباع غرائزه، بل يتفنن في إشباع هذه الغرائز بالشذوذ والانحراف والانحدار في عالم الغواية والهوى.و لا يتورع عن فعل أي شيء لتحقيق غاياته الدنيئة. إنه يقتل ويدمر ويمارس كل أنواع الشذوذ التي تحقق له الفائدة والمتعة. هذا الإنسان الذي هو بالصورة فقط، والذي لا يرقى لرتبة الحيوان، لا يتورع عن شن الحروب على الضعفاء لنهب أموالهم وإن كان يملك الملايين لا لغاية سوى النهب وغياب أي رادع أخلاقي لديه. إنه ليس كالحيوان في جميع المقاييس، بل هو أدنى منه، لأن هدفه ليس إشباع حاجاته الغريزية كالحيوان وبأسلوب الحيوان، بل تكديس الثروة وزيادتها بالطرق غير المشروعة ولأهداف غير مشروعة حتى حيوانياً. وإن النماذج لهذا النوع من الناس ازداد في حضارتنا مع انتشار جشع السياسات،وعقيدة المصلحة، وسياسات الغزو والاستعمار، وإن لم يغب عن الحضارات القديمة. فقد ظل هذا النوع الشرس من البشر الحيوانات جرثومة في كل الحضارات والعصور، بسعيه الدائم لقتل القيم وتشويهها، وترجمة كل علاقة إنسانية إلى مصلحة يجب أن تخدم الجيب أو المعدة أو العورة. وإذا كان الحيوان يفهم لغة المعدة أو العورة ويحس بهما،فإنه لا يفهم لغة الجيب، أو المال، التي تدور كل أهداف من هو أضل من الحيوان حولها.. إننا في هذا الوضع وكأننا نشاهد الإنسان مقلوباً، فهو يسير على رأسه بدلاً من قدميه. وبدلاً من تاج العقل الذي جعله الله في أعلى الإنسان، الرأس، وألحق به الحواس في ترتيب خبير حكيم، فجعل العالي منها عالياً والأدنى متدنياً، هذا الإنسان الحيوان قلب الآية فجعل عورته ومعدته حاكمان عليه، فجعلهما تاجه بدلاً من رأسه، فهو لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم معاني الحياة إلا من خلالهما.(2/29)
وربما لو أردنا أن نعدد أسماء بعض من ينطبق عليهم هذا الوصف في زمننا، سنجد حكاماً وقادة، وعلماء قد يعتبرون أجلاء في نظر بعض الناس وحتى حكماء، ولكنهم ويا للأسف يدخلون في لائحة من هم أضل سبيلاً من الحيوانات. فالحضارة ليست تفوقاً في الإنتاج، وصعوداً إلى القمر والمريخ، إنها تفوق في القيم الإنسانية والأخلاق وفي إنسانية الإنسان، ونبل أهدافه ورحمته، فهذا هو السمو الذي كان محور كل الرسالات السماوية والحضارات العظيمة وهدفها الدائم. الإنسان في مواجهة الإنسان الحيوان. الرأس في مقابل العورة. السمو بالمعرفة في مقابل الانحطاط والانحدار.
والآن وبعد أن بينا مرجعية كل إنسان، وكل سلطة ونظام فإنه سيكون بإمكاننا المقارنة بين الملامح الرئيسية لدول النفس، أو العقل، أو الوحي. وهذا لا يعني أن البشر أو الدول يمكن إخضاعها لمثل هذا التصنيف الصارم. فربما يتغير الإنسان والنظام والدول، ولكن حكمنا في كل الأحوال ينطلق من تقدير السمات العامة لكل فرد ودولة، من الأهداف التي تحرك الأفراد والدول، لئلا ننخدع ببعض الأعمال أو التصريحات الإنسانية التي تسعى إلى ذر الرماد في العيون، وظهور الأشرار بثياب القديسين. وإذا كنت سأركز على دور الدولة لما لها من تأثير في توجيه الأمة، ولأن روح الدولة لا تتغير بين عشية وضحاها كالأفراد الذين ربما يقررون التوبة أو الانحدار في ساعة، فيغيرون حياتهم ومصيرهم. فإننا مع ذلك سنتحدث عن دور الفرد في أي مجتمع لما له من أهمية وإن كانت محدودة، أو ذات تأثير بعيد. وسيكون لدينا ثلاث قضايا يجب أن يشملها بحثنا لكي يفي بالغرض وهي:
1 ـ نظام دولة العقل، لأن كل دولة تزعم بأنها تستمد سلطتها وتشريعاتها من العقل. مما يجعل الحديث عن دولة النفس لا مبرر له إلا من خلال دولة العقل.
2 ـ نظام دولة الوحي.
3 ـ مشكلات الإنسان المسلم مع الأنظمة السياسية المعاصرة.(2/30)
وبما أن أكثر الدول تستمد سلطتها من العقل كما تقول، وقد قسمت العقول العالم إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي لهذا فإننا سنبحث عن طبيعة هذين النظامين في الفكر والتطبيق لتحديد المصدر الذي استمدا منه عقيدتهما وشرائعهما، للتمييز بين ما ينتمي إلى العقل وما ينتمي إلى النفس. وإننا سنؤجل الحديث عن نظام دولة الوحي لأن كل مسلم يستطيع أن يشاهد في الدولة الراشدية النموذج التطبيقي لهذه الدولة. وأما مشكلات الإنسان المسلم في غياب دولة الوحي فإن مرحلة التأسيس التي سبقت قيام دولة المدينة ستبين لنا عند استيعابها الطرق التي يستطيع كل مسلم أن يتعامل فيها مع الظروف المعاصرة طبقاً لظروفه الخاصة. ولهذا سأكتفي في هذا الكتاب بعرض مشكلات النظامين الرأسمالي والاشتراكي، للتأكد من حاجة البشرية لنظام روحي يرتقي بالإنسانية إلى المعنى والسمو، بدلاً من الانحطاط الذي تُدفع إليه. وإذا تبين أننا بحاجة إلى روح الإنسان كما أننا بحاجة إلى جسده، فإن كل القيم الروحية التي حملتها الأديان والحضارات ستكون مطلوبة للمشاركة في إشادة نظام جديد للعالم بدلاً من الأنظمة الراهنة، والمهم أن ندرك أننا في أزمة عالمية وليست محلية. وإذا أدركنا أننا في أزمة فسيكون على البشرية أن تبحث عن حل. فهل نحن في أزمة فعلاً؟...
النظام الليبرالي والطريق الرأسمالي(2/31)
إن النظام الاقتصادي الحر هو أقدم الأنظمة الاقتصادية المعمول بها في العالم، وإن هذا النظام المألوف للبشرية، والذي نشأ بشكل طبيعي عبر علاقات الإنتاج التي فرضت نفسها في التاريخ هو الذي تمخضت عنه النظرية الليبرالية في الاقتصاد والسياسة بعد أن دخلت علاقات الإنتاج في طور جديد مع تطور الصناعة وتزايد الإنتاج وظهور الأثرياء الجدد من الصناعيين، مما أدى إلى التسابق على المستعمرات لتأمين الأسواق للدول الأوروبية المتطورة. وبسبب الأزمات التي تعرضت لها الدول الأوروبية مع صعود البورجوازية وصراعها مع الإقطاع ورجال الدين والحكومات ذات السلطة المطلقة، جاءت النظرية الليبرالية عبر هذا المخاض الطويل لكي تضع أسساً علمية وعملية، تحدد بها، نشاطات الأفراد الاقتصادية، وحقوقهم السياسية.
وقد تم تطوير هذه النظرية وما زال على يد العديد من المفكرين المؤمنين بها، وإن كان الأساس الذي انطلق منه صاحب النظرية آدم سميث ما زال هو نفسه. فما هي غاية النظرية.(2/32)
إن غاية الليبرالية هي باختصار "المنفعة" أي ترك الحرية للفرد في المجتمع للبحث عن مصلحته الخاصة التي تعود عليه بالنفع. ومن هنا نشأت أفكار جديدة حول مهمة الدولة, وتتلخص بأن مهمة الدولة هي إفساح المجال أمام الناس لممارسة نشاطاتهم الاقتصادية بحرية دون أي تدخل منها. ووضع القوانين لحماية هذه النشاطات وما ينجم عنها من فوائد وأرباح. وقد "ظهرت النفعية، في آخر القرن الثامن عشر، بمظهر الفلسفة الرسمية عند: بورك، ومالتوس، وباين، وغودوبين، والخ.... وهم ينادون جميعهم بمبدأ المنفعة من تأييد قضايا متعارضة متضاربة أحياناً".(1) وقد صدرت أهم المؤلفات حول موضوع المنفعة وأفضل السبل لتحقيقها على مستوى الاقتصاد في كتاب آدام سميث (1723 ـ 1790) الذي أصدر كتابه الشهير عام (1776) "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها". وجاء جيريمي بنتام (1748 ـ 1832) مؤيداً في فكره السياسي لما دعا إليه سميث من إطلاق النشاطات الاقتصادية للمجتمع من أجل تحقيق أقصى مايمكن من الرفاهية. وقد عرف بنتام الاقتصاد السياسي بقوله: "إنه معرفة الوسائل الخاصة بإنتاج الحد الأعظم من السعادة، بالقدر الذي يكون فيه سبب هذه الغاية الأعم هو إنتاج الحد الأعظم من الثروة والحد الأقصى من السكان"(2). وسوف يشرح مالتوس (1766ـ 1834) في كتابه "البحث في مبدأ السكان". بأن الحفاظ على سعادة الأقلية في المجتمع لابد أن يكون بالحد من عدد المستفيدين من الثروة كأمر طبيعي يجب قبوله. وكان يكرر دائماً أن "ليس للفقراء أي حق بأن يعالوا... وليس من قدرة الأغنياء بأن يمدوا الفقراء بالشغل والخبز، وبالتالي ليس للفقراء، بطبيعة الأشياء ذاتها، أي حق بأن يطلبوا ذلك منهم".(3). وسوف يتطور مبدأ المنفعة على يد بنتام الذي كان الممثل الرئيسي للراديكالية النفعية.(2/33)
كما سيقوم الفيلسوف الإنكليزي جيمس مل (1773 ـ 1836)، الذي قضى القسم الأعظم من حياته موظفاً في مكتب شركة الهند الشرقية التي كانت الوجه الاقتصادي للاستعمار البريطاني، بدور المنظر النموذجي لفلسفة النفعية بإضفاء الطابع الإنساني عليها.وسوف يقوم ابنه جون ستيورت مل (1803 ـ 1873) بمتابعة طريق أبيه في تطوير الفلسفة الخاصة بمبدأ المنفعة، الذي غدا عقيدة رجال الحكم والصناعة والرأسماليين في كل أوروبا وانتقل إلى أمريكا. حيث سيظهر بأشكال وصيغ جديدة منها فلسفة جون ديوي الذرائعية. كما سيتطور على يد كنز، وسيتم إدخال بعض اللمسات الإنسانية على يد بعض أنصاره للتخفيف من سيطرة الرأسماليين على السوق والتقليل من أزمات الفقراء التي بدأت تتزايد. إلا أن المبدأ الجوهري للنفعية سيظل هو العقيدة المسيطرة على كل الأنظمة الرأسمالية، والمتمثل بحق كل مواطن في اختيار السبل التي يريدها في ممارسة نشاطه الاقتصادي، بما لا يتعارض مع قوانين البلاد التي سيكون من طبيعتها الابتعاد عن التدخل في نشاطات المواطنين الاقتصادية. وذلك بهدف دفع كل مواطن للإنتاج، مما سيؤدي إلى الرفاه العام لكل المجتمع كما سيؤدي إلى تحسن مستوى الإنتاج وغزارته بسبب السباق الذي سيضطر إليه كل منتج في اختصاصه للوصول إلى السوق وتحقيق الربح، وهذا السباق سيؤدي إلى ثراء كافة أفراد المجتمع وفتح المزيد من فرص العمل مما سيعود بالنفع العام على جميع المواطنين. هذا ملخص مبدأ المنفعة. ولكن كيف سيتحقق النجاح لهذا المبدأ؟...(2/34)
إن المنظرين الذين وضعوا أسس الليبرالية استنتجوا من دراستهم لقوانين العرض والطلب السائدة في السوق أن كل سلعة عندما تكون نادرة سيرتفع سعرها. ولكن إذا زاد عرض إنتاج هذه السلعة في السوق فإن سعرها سينخفض بمقدار زيادة عرضها، كما أن الطلب عليها سينخفض. واستنتجوا من هذه المعادلة أن، (قلة العرض =شدة الطلب =زيادة السعر)، واستنتجوا بأنه لتحقيق أكبر قدر من الإنتاج، مع تخفيض الأسعار، لابد من إفساح المجال أمام الناس لإطلاق نشاطاتهم الاقتصادية. لأنه مادام كل إنسان سيسعى إلى ممارسة نشاطه الاقتصادي الذي يعود عليه بالنفع، فإن كل فرد سيحاول أن يمارس نشاطه في المجال الذي يحقق له أكبر قدر من الربح. وفي ظل هذا السباق سيقوم أفراد المجتمع بالتوجه إلى إنتاج السلع النادرة، مما سيؤدي إلى زيادتها وانخفاض أسعارها. وهكذا سيتاح للمشترين إشباع حاجاتهم من السلع المرغوبة بأسعار معقولة، كما سيؤدي هذا السباق بين المنتجين لكسب المشترين إلى قيام كل منتج بإدخال تحسينات على منتجاته ليتفوق على المنتجين الآخرين، ويحصد أكبر قدر من الأرباح، مما سيساعد على تطوير أدوات الإنتاج بشكل دائم وبالتالي إلى غزارة الإنتاج. وهكذا ستتحقق مصلحة كافة أفراد المجتمع. المنتج بحصوله على الربح، والمستهلك بتوفير السلع التي يرغب في الحصول عليها بأرخص الأسعار، والعمال بتوفير فرص العمل لهم. وقد نشأت إلى جوار هذه النظرية الاقتصادية النظرية السياسية حول دور الدولة حيث رأى أصحاب النظرية، أن على الدولة عدم التدخل في النشاطات الاقتصادية للأفراد، ونشأت فكرة الديموقراطية والحرية وممارسة المواطن لنشاطه السياسي والتعبير عنه لضمان ممارسة نشاطه الاقتصادي. فلابد لضمان الحرية الاقتصادية من الحرية السياسية.(2/35)
وهكذا نشأت نظرية الحقوق السياسية وفلسفاتها وتطورت من نظرية في الاقتصاد إلى نظرية في السياسة، وفلسفة تجمع بين الأمرين، وهذا أدى لبناء الدول الأوروبية على أسس جديدة تكفل للأفراد حقهم في ممارسة نشاطاتهم الاقتصادية والسياسة. إن الاقتصاد في هذه المرحلة من التاريخ، أي مع الثورة البرجوازية خلافاً للسابق، سيلعب الدور الرئيسي في التاريخ الحديث. وستصبح الثروة بدلاً من النبالة والمكانة الخاصة لرجال الدين والوجهاء وحتى للأسر الحاكمة وسلالات الملوك، ستصبح هي الملك الحقيقي الذي يملك ويحكم. وإن فلسفة المنفعة ستطيح بكل المقدسات التي لن تكون إزاء المال إلا شيئاً ثانوياً لا قيمة له، إذ إن المنفعة والنفعية ستصبح مقياساً لكل الأشياء والقيم. وسيحكم حتى على القيم الأخلاقية والجمالية بأنه لا قيمة لها إلا بمقدار نفعها. وستفسر المتعة لمقتني الأشياء الجميلة بأنها منفعة. إنه المصطلح الجديد الذي سيطبع العصر بطابعه، وسيتم بالنظر إليه تفسير علاقات الإنسان مع الإنسان وعلاقة الإنسان مع الدولة، وعلاقته مع الطبيعة والأخلاق والفن. وسيصبح بحث الناس عن المنفعة، بعد أن اعترفت المذاهب الاقتصادية والسياسية والفلسفية بشرعيتها وصحتها، الغاية المعلنة لكل فرد، والطريق الوحيد للوصول إلى الثروة والمكانة الاجتماعية. وقد حققت الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في هذا السباق الوفرة والجودة في الإنتاج، كما أنجزت على المستوى السياسي ثورة سياسية أتاحت الفرصة لانتزاع حقوق التحرر للمواطن من الأنظمة الاستبدادية الملكية والجمهورية. ولكن هل تحققت كل أحلام الذين اعتقدوا أن طريق الليبرالية سيكون الطريق الموصل إلى السعادة والحرية؟... وإن النظام الرأسمالي هو النظام الذي يجسد حكمة العقل ونهاية التاريخ، وقمة تطور الإنسان ورقيه، أم إنه قمة انحطاط الإنسان وانحداره، كما يقول خصومه؟...
نظرية الأزمة وأزمة النظام(2/36)
إذا كنا نرغب في الوصول إلى نتائج علمية تشبه القوانين الرياضية للحكم على النظرية الليبرالية في الاقتصاد والسياسة والحقوق، فإنه لابد لنا من دراسة الجوهر الذي قامت عليه كل الأسس الحقوقية والقانونية. هذا الجوهر كما عبر عنه أصحاب النظرية هو "المنفعة"، الذي سيؤدي عند إطلاق حرية العمل للمواطنين إلى دفع الناس للبحث عما ينفعهم. أي أن قانون المنفعة يجب أن يكتب هكذا "المنفعة =العمل +الإنتاج= الربح =السعادة". وهذا صحيح من الناحية النظرية.ونحن لا نتهم الذين وضعوا القانون بسوء النية، ولكننا نلاحظ أنهم لم يشاهدوا الجانب السيء في القانون. فإذا كانت "المنفعة" هي المبدأ، فقد لا تتحقق المنفعة لشخص ما إلا بإيذاء شخص آخر بشكل غير مباشر، بحيث لا يعرض المعتدي نفسه للمساءلة أمام القانون. وهكذا ستنشأ صيغة جديدة للقانون تقوم على مبدأ "المنفعة =القوة +المعرفة+مخالفة القوانين=الربح =السعادة". قد تكون المخالفة بالتهرب من الضرائب وقد تكون بالجريمة. وهكذا سيضيف كل مواطن إلى مبدأ "المنفعة" مفاهيم جديدة تتناسب مع وضعه وظروفه وتفكيره. وسينجم عن توسيع قواعد القانون، الذي اتجه بالأصل لإحداث تطور في عملية الإنتاج لإشباع الأفواه الجائعة والقضاء على البطالة، سينجم عنه ظهور أعمال لا تساهم في عملية الإنتاج وإنما ستعمل حتى في المجال الاقتصادي على إعاقتها، هذا إذا أهملنا دور الطفيليين والمجرمين الذين سيسلكون كل الطرق لتحقيق مبدأ "المنفعة" الذي صار فلسفة العصر وحكمته.(2/37)
إذ أن كل صناعي سيسعى إلى السيطرة على السوق ومنع المزاحمين من التأثير على أرباحه في مجال اختصاصه، وإن المواجهة مع الصناعيين الآخرين ستأخذ إما شكل المضاربات المشروعة، والتي ستؤدي في النهاية إلى إفلاس البعض وخروجهم من السوق، وإما سيكون عنيفاً، ولا شرعية للأساليب التي ستتبع في حسم نتائجه، والصراع في كلا الحالين سيؤدي إلى خروج الصناعيين الضعفاء من الساحة وبقاء الأقوياء، مما سيؤدي إلى الاحتكار وتحكم الرأسماليين في الأسعار، وبالتالي تعطيل قانون العرض والطلب القائم على المنافسة الحرة، لأن المنافسة حتى باستخدام وسائل أخلاقية مع الأقوياء ستكون مضحكة وخاسرة. لأنه ببساطة عندما يتقدم منتج جديد للثلاجات مثلاً فينتج مئة ثلاجة في اليوم، ورغب صاحب مصنع قديم وكبير، ينتج ألف ثلاجة بنفس المواصفات، بإخراج المصنع الجديد من السوق، فإنه بسبب قوته وسمعته يستطيع أن يخفض أرباحه، وأن يقبل بالخسارة حتى ينهار صاحب المصنع الجديد. ولهذا سيكون الدخول إلى ساحات الأقوياء ممنوعاً إلا بإذنهم. وهكذا لن يتم التحكم في الأسعار فقط وإنما بأجور العمال أيضاً. والدليل هو تواجد الشركات المعروفة في الأسواق الرأسمالية منذ عشرات السنوات في كل المجالات واتساع رقعة سيطرتها مع الزمن، فهل بقي لقانون المنافسة الحرة أي تأثير، وإن كان ما زال مكتوباً في كل الدساتير الرأسمالية. إن التطور الرأسمالي نفسه هو الذي سيؤدي إلى تعطيل كل قوانين الاقتصاد الرأسمالي، وسينجح أيضاً في تعطيل مفهوم الحرية كلما تعارضت مع مصالح الشركات، ومن الطبيعي أن تكون الدولة الرأسمالية بكل هيبتها وجيوشها خادمة للرأسماليين الكبار بتحديد قيادة البلاد من خلال التحكم بقرارات الأحزاب الكبيرة التي يتم تداول السلطة فيما بينها.(2/38)
وهكذا فإن كل شيء سينهار أمام قوة رأس المال، وليس رأس الإنسان فقط، بل حرية المنافسة، وقوانين العرض والطلب، والحرية السياسية رغم أن المواطن يختار، ولكن من اختاره الرأسماليون. ومن أراد أن يتكلم فليتكلم وليصرخ لأن الصراخ لن يغير الواقع القائم، ومن أراد أن يكتب ويتهم فلن تنشر له المؤسسات الإعلامية إلا ما تريد لأنها جزء متمم للسيطرة الرأسمالية. وحتى الأحاديث عن الفساد بكل أشكاله لن يؤثر في طبيعة النظام القائم فهو صراخ، وسيبقى صراخاً يذهب مع الريح، وبعضه يساعد على تحسين أداء النظام وإقناع المواطن بوجود الحرية وإن كانت لا تفيد في إصلاح الجوهر أو تغييره. إن أزمة النظام الرأسمالي تكمن إذاًَ في الفكرة الأساسية، في مبدأ المنفعة الذي حول البلاد والعالم إلى غابة كل واحد عليه أن يأخذ منها على قدر قوته. وهنا يكمن الخطر، بسبب غياب أي هدف أخلاقي، وإفساد العقل والفكر بتحديد طموحات الإنسان وحصرها بالمنفعة التي سيأخذ البحث عنها أشكالاً لا تعرفها حتى الشياطين.(2/39)
ولكن هل الرأسمالية هي النظام الأسوأ في عالمنا؟... إنها ليست الأسوأ إلا بالقياس لما هو أسوأ منها. وهي أفضل بالقياس إلى الأنظمة التي تمردت على شريعة الله، ولم تضع شريعة بشرية وقوانين صالحة للتطور، بل إنها لا تحترم حتى القوانين التي وضعتها. وإذا كانت كل الأنظمة تستخدم الذكاء الإنساني والإبداع لتقوية نظامها، فإن الرأسمالية متفوقة أكثر من غيرها، في الاستفادة من الذكاء الإنساني، وفي بعث الحيوية والأمل في كافة المجالات كل بضع سنوات بالتغيير الذي تحدثه الانتخابات. وإن وجود عدد كبير من الرأسماليين الأقوياء لا يتيح للسلطة الانفراد باتخاذ القرارات أو تجاوز حدودها المرسومة، مما يجعل الفرص متاحة دائماً للتراجع عن أي خطأ قد يؤثر على البلاد. وبهذه المرونة والاستفادة من الذكاء البشري لأقصى حد ممكن تفوقت الرأسمالية على كل الأنظمة في عصرنا. ومع ذلك فإن خطورة النظام الرأسمالي تكمن في قدرته على إنتاج الشر، وترسيخ أسسه، وتبرير ارتكابه في النفس البشرية، بسبب الجوهر الذي قام عليه النظام والذي ما زال يدور حوله. وإذا كنا قد تحدثنا عن الأزمة الفكرية للنظام الرأسمالي في النظرية، فإنه لابد لنا من شهود النظرية في التطبيق، لكي نكتشف المرجعية التي يستند إليها هذا النظام إن كانت عقلية أو نفسية، ولا مجال للحديث عن مرجعية الوحي في هذا النظام، لأنه وإن كان لا يتدخل في مسائل الاعتقاد الديني للمجتمع، فإن كل الدول الرأسمالية تعلن أنها علمانية العقيدة، بمعنى أنها لا تستمد قوانينها من أي شريعة سماوية، وإنما ما تقرره عقول المشرعين، وإن كان التعصب الديني، رغم مخالفة أغلب من يدّعون الإيمان لشرائعهم، ما زال يؤثر في سلوك هذه الدول ومواقفها. وما زالت الأحزاب الدينية ناشطة في بعض الدول لاستلام السلطة، رغم أنها لم تحرم شيئاً مما حرمه الله بموجب معتقداتها حين استلمت السلطة. بينما يتهم المسلمون فقط بالتعصب.(2/40)
وتشجع أغلب هذه الدول على قمع الأحزاب الإسلامية لأنها تخاف منها على مصالحها. بينما لا تتهم إسرائيل بالتعصب رغم أنها دولة دينية بكل المقاييس، وعنصرية في معتقداتها وسلوكها ولكن الحب أعمى، كالكراهية تماماً.
النظام الرأسمالي في الممارسة
إن الشهود على مساوئ النظام الرأسمالي كثيرون، وقد كتبت مئات الكتب عن مشكلاته،ومع ذلك مازال يتخبط في مشكلات لن تحل إلا بتغيير طبيعة النظام، والانتقال به من حق "الأنا" إلى حق الآخر "الإنسان". لأن حق الأنا المجرد هو الشر الذي ستنشأ منه كل مشكلات البشر سواء كان دينياً أو قومياً، فكيف إذا كان ذاتياً. هذا ماسنحاول أن نبينه في هذا النقد الموجز.
1 ـ لا توجد مساواة حقيقية، وإن كتبت في الدستور، بين من يملك ومن لا يملك من المواطنين. ولهذا لا يصل إلى القيادة إلا الأثرياء بشكل عام، وإذا وصل مسؤول من أصول فقيرة، فهذا يحدث بالصدفة، ووجود بضعة أشخاص من الفقراء لن يغير من طبيعة النظام السياسي القائم حتى لو أرادوا. وإن من لم يذق طعم الخنوع والحرمان لا يمكن أن يشعر بآلام الفقراء. ولهذا فإن النظام الرأسمالي الذي يقوده الرأسماليون لا يمكن أن يفكر إلا بمصالح الأثرياء.(2/41)
2 ـ إن نظام الانتخابات المعمول به قائم بشكل عام على تنصيب من لا يعلم مرجعاً وحكماً فيما لا يعلم. فإذا كان العقل يقول بأنه لا يصح أن نطلب الحكم في قضايا من الذين لا علم لهم بها. فإن الديموقراطيات تطبق القانون المعاكس بقبول حكم من لا يعلم. إذ ماذا يعرف المواطن الذي يُسأل عن رأيه في رئيس الجمهورية عن السياسة والاقتصاد وقرارات الحرب والسلام، وما هي نسبة الذين يعرفون مثل هذه الأمور إلى الذين لا يعرفون.وهكذا تربط الديموقراطيات الراهنة قرار اختيار أعلى سلطة، رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، بيد أغلبية من الشعب لا تعرف عن السياسة أكثر مما تعرف عن خبزها اليومي. وهكذا تتحول برامج الانتخابات إلى مزايدات شعبية ووعود بالرفاهية، وأكاذيب مدروسة يطلقها المرشحون لكسب أصوات الناخبين، ولا بأس من إطلاق وعود متفائلة وغامضة لكل الشرائح الاجتماعية بما فيهم الشاذين جنسياً. فكل شيء مشروع لكسب الأصوات والفوز في المعركة. صحيح إن الأحزاب السياسية هي التي تختار مرشحيها من النخبة ثم تقدمهم للجمهور لإبداء رأيه فيهم. ولكن قيادة هذه الأحزاب غير منزهة وغير بريئة عن عقد الصفقات وشراء الولاء بأسعار مناسبة في مجتمعات أصبح ربّها الأوحد المال والثروة. وفي إشارة إلى دور الأحزاب الكبرى في إفساد الديموقراطية قال آلان تورين "إذا لم تكن بنا من حاجة لذكر الفساد الشخصي لبعض الزعماء السياسيين،وهو فساد واسع الانتشار في إيطاليا، ومحدود أكثر بكثير في البلدان الأوربية الأخرى، ومألوف بخلاف ذلك في العديد من البلدان خارج أوربا، من اليابان إلى الولايات المتحدة...(2/42)
أما الفساد الأكثر خطورة على الديموقراطية فذاك الذي أتاح للأحزاب السياسية أن تكدس موارد على درجة من الضخامة والاستقلالية عن مساهمة أعضائها الطوعية، مما يتيح لتلك الأحزاب أن تختار المرشحين للانتخابات وتضمن نجاح عدد منهم، جاعلة مبدأ الاختيار الحر للقادة من قبل المحكومين موضوع سخرية. فهل يسعنا الكلام على الديموقراطية حين ترتكز الانتخابات على دور البلدان العفنة... أو حين تقوم الأحزاب الإيطالية باقتطاع نسبة مئوية كبرى من قسم كبير من العقود المبرمة مع المشاريع العامة؟... لقد قام الإيطاليون بمظاهرات حاشدة في نيسان 1993 بناء على مبادرة من الرئيس ماريوسيني وذلك للتعبير عن رفضهم للنهج الذي حول بلادهم إلى بلاد عمولة، بلاد رشاوى وإكراميات".(1). هذه هي الديموقراطيات التي تتغذى على ورقة الناخب لتعيش وتمارس ما يحلو لها بعد الفوز في الانتخابات. ولكنها مع ذلك لعبة خبيثة أطالت من عمر النظام الرأسمالي ببث الأمل بالتغيير في نفوس المواطنين، وبسبب وجود الأنظمة الأسوأ، وغياب النظام الأفضل، أو عدم السماح له بالظهور.(2/43)
3 ـ إن خطورة الديموقراطية تتمثل فيما سينتج عنها، بجعلها الحرية والنفعية كأساس لعلاقة المواطنين ببعضهم عبر ما يسمى بالعقد الاجتماعي. فالحرية ستولد الأنانية، والنفعية ستقود لجعل الثروة هدفاً لن يتورع أي إنسان عن عمل أي شيء للوصول إليه. وهكذا تزدحم على طرق المدنية الحديثة لافتات لبيع أي شيء مادامت تدر مالاً، المخدرات، والأجساد، حيث يتحول الإنسان إلى عبد للمال، مما ينسف الحرية المعطاة له نظرياً، والتي إن شعر بها ستضخم مكانته إلى حد رفض العلاقات الإنسانية المطلوبة لبناء المجتمع والتفاعل بين أفراده. وهذا ما يدلنا عليه الحديث عن الاغتراب، وحوادث الانتحار، ووصية بعض الناس بثرواتهم لقط أو كلب بسبب التفكك الاجتماعي وغياب العلاقات الإنسانية وهذا ما جعل أفلاطون وأرسطو يخافان الديموقراطية، مع أن أرسطو لم ينقد الديموقراطية كما نقدها أفلاطون. إذ "يمكن اعتبار أرسطو الملهم الرئيس للحرية عند القدماء رغم أنه يدين ما يدعوه بالديموقراطية التي كان يرى فيها انتصار المصالح الأنانية للأغلبيات، ولأنه كان يخشى على المدينة من الدمار بسبب تلك الديموقراطية".(2).(2/44)
4 ـ إن الديموقراطيات الغربية لم تنشئ هدفاً إنسانياً لا في الداخل ولا في الخارج، إذ ظل سباق الأحزاب فيما بينها لكسب صوت المواطن يعتمد على وعود الرفاهية وزيادة الثروة، وهذا أدى إلى غياب أي حس أخلاقي في تعاملاتها الخارجية. ودفع بالديموقراطيات الغربية إلى التسابق على الحروب الاستعمارية ونهب الشعوب، واستخدام أبشع الأساليب للسيطرة عليها ومصّ دمها، فلم تتورع بريطانيا وحلفاؤها عن شن حربين على الصين في أعوام (1840 ـ 1842م) و(1856 ـ 1860) للسماح لها ببيع الأفيون في الصين التي كانت تحتكر بيعه شركة الهند الشرقية بموجب قرار أصدره الحاكم العام البريطاني الأول في البنغال "ورن هستينكس" الذي عرف فائدة الأفيون في قتل الشعوب، وإدراره للربح على الخزانة البريطانية. فأصدر "قرارات في سنة 1773 وسنة 1797 أعلن بموجبها إنتاج الأفيون وبيعه احتكاراً لشركة الهند الشرقية. وقد أجبروا الفلاحين المسلمين البنغاليين على إنتاج الأفيون الذي كان المستعمرون البريطانيون يسممون به مئات الملايين من سكان آسيا".(3). وسيضيف ول ديورانت بعض الشرح إلى هذه الحرب البشعة قائلاً: "بينما كانت فتنة تاي ـ بنج الصماء تمزق الصين وتقطع أوصالها، اضطرت الحكومة إلى مواجهة أوربا مرة أخرى في ـ حرب الأفيون ـ الثانية (1856 ـ 1860). وكان سببها أن بريطانيا العظمى، تعاونها فرنسا والولايات المتحدة معاونة تقوى تارة وتضعف تارة أخرى، طلبت إلى الصين أن تجعل تجارة الأفيون تجارة مشروعة (وكانت هذه التجارة قد ظلت قائمة بين الحربين رغم ما صدر من الأوامر بتحريمها)، وأن تسمح لها بالدخول في مدن جديدة غير التي كانت قد سمح لها بدخولها، وأن يستقبل الرسل الغربيون بما يليق بهم من التكريم في بلاط بكين.(2/45)
فلما رفض الصينيون هذه المطالب استولى البريطانيون والفرنسيون على كانتون، وأرسلوا حاكمها مقيداً بالأغلال إلى الهند، واقتحموا حصون تينتسين وزحفوا على العاصمة ودمروا القصر الصيفي... وأملى الغزاة الظافرون على المهزومين معاهدة فتحت لهم بمقتضى شروطها ثغور جديدة كما فتح نهر جنج ـ دزه للتجارة الأجنبية، وحددت طريقة لاستقبال الوزراء الأمريكيين والأوروبيين في الصين على قدم المساواة مع الوزراء الصينيين، ووضعت الضمانات القوية لسلامة المبشرين والتجار الأجانب والسماح لهم بممارسة نشاطهم في جميع أجزاء الصين، وأخرجت البعثات التبشيرية من اختصاص المحاكم والموظفين، وزادت في امتيازات أبناء الأمم الغربية وتحررهم من الخضوع لقوانين البلاد، وأعطت بريطانيا قطعة من الأرض مقابل لهج كنج، وجعلت استيراد الأفيون عملاً مشروعاً، وفرضت على الصين غرامة حربية لينفق منها على إخضاعها لسلطان الغربيين وتدريبها على أساليبهم".(4). أما كيف سيتفق التبشير بالمسيحية وتجارة الأفيون، فهذا سر لا يفهمه إلا الديموقراطيون النفعيون، الذين أدت سياساتهم الإجرامية إلى قيام الحربين العالميتين واستعمار الشعوب، بسبب غياب الحس الأخلاقي والإنساني، وانتساب هذه السياسات إلى المصالح الدنيوية التي لم تعد هذه الدول تحسن الحديث إلا عنها. وقد انتهت بحروب الرفاهية والنفط التي ستساعد على تحسين معيشة المنتصرين وزيادة كمية الغذاء التي يستهلكونها، وإن كان سيقتل عشرات الآلاف من مواطني البلد المحتل،وتدمر بيوتهم، ويحرمون من ضروريات الحياة. فهذه هي ضريبة العيش في غابة الديموقراطية التي لم يشاهد الضعفاء والفقراء منها غير أنيابها القاتلة.(2/46)
5 ـ إن الحرية غير المحدودة، إلا في مجال الأخلاق والإيمان، أدت إلى انتشار تجارة الفساد بشكل جعل مثلاً قيمة "صادرات الولايات المتحدة من التسجيلات أكبر من صادراتها من القمح".(5). ويأتي على رأس هذه التسجيلات ما تنتجه مادونا وأمثالها، التي كما يقول "هامش ماكري" عن إنتاجها إنه يسبب صدمة، فـ"حرية العمل وأحياناً الحرية المنحرفة التي تسبب صدمة، تنتج مطربة مثل مادونا. فقد أتى جزء من أرباحها الهائلة عام 1992، من كتابها، وهو كتاب مع سلسلة من الصور المتألقة لها...إن الخلاعة جزء أساسي من الإغراء وهو جانب أساسي من الإنتاج الذي تصدره الولايات المتحدة للعالم... ولكنه مناخ لا يشجع، مثلاً، على إقامة زيجات مستقرة أو حتى علاقات مستقرة".(6). ومن المناسب التذكير بأن مادونا هذه اعتنقت اليهودية حديثاً، وصار اسمها "أستير". إنها الحرية، وحرية العمل، ولذلك فإن السباق على تجارة الجنس يأخذ شكلاً تصاعدياً في كافة المجتمعات الحرة، لأن من هم أضلّ من الحيوانات ليس لديهم رادع ذاتي يمنعهم من عمل أي شيء للحصول على المال، ولا يوجد لهم رادع خارجي من الدولة أو المجتمع، بل إن مادونا وأمثالها تلقى الاستحسان والتصفيق من جمهورها العريض كلما ظهرت على المسرح الذي تمتلئ مقاعده بنموذج الإنسان الحيوان. وتكميلاً لمشروع التجهيل وتحريض الغرائز تتخذ قرارات رعاية الرياضة، وإقامة الأولمبيادات التي تكلف مليارات الدولارات ـ قدرت اليونان نفقات الأولمبياد الذي سيقام على أراضيها بـ[7.(2/47)
3] مليار دولار، لعام 2004، بينما تهمل الثقافة وكل ما يغذي الرأس والعقل، لأن أغلب من يشرفون على القرارات الدولية ليس لديهم اهتمام بغير الغرائز أو العضلات المشدودة، وركلات القدم الناجحة، ومع أننا لسنا ضد الرياضة التي تتاح لكل الناس لكي تعود عليهم بالفائدة، إلا أننا لم نتوصل إلى فهم هذا السر الذي يكمن وراء كل هذا الإنفاق على الرياضة إلا من قبيل إشغال الناس بما لا يفيد، وتضييع وقتهم بالنظر إلى كرة تتدحرج بين أقدام اللاعبين. هذا هو إنتاج الديموقراطيات التي جعلت مما لا يفيد، ولا يقبله العقل، إنتاجاً مفيداً، بالقوانين التي جعلت من حرية التجارة حتى فيما يضر المجتمع، ويدمر أخلاقه، ويهدر وقته وماله، عملاً مشروعاً، مادام يعود بالفائدة على بعض الفاسدين والمفسدين في الأرض. ولا ندري كيف ستدافع مجتمعات، صار قدسها المال، ومقياس تحررها الإباحية والانحدار في عالم الشهوات، عن آخر شعار رفعته والمسمى بحقوق الإنسان. فهل هو خدعة جديدة لإغراء الجماهير المقهورة ببؤسها وحرمانها بانتظار الفرج وتعليق الآمال على المستعمر القديم الذي زين اسمه ببريق الإعمار وصاغ منه اسم الاستعمار؟... إنه لا حاجة للمراوغة وانتظار دخول التجربة فالدول الديموقراطية والشركات التي تحكمها ليست مؤسسات خيرية، ولا أجهزة ملائكية لتحرير البشر. إنه حتى في الغرب يعاني الناس من سلطة هذه الحكومات، أو الشركات تحديداً "إن هذه السلطة التعسفية، التي تحملها شهوات الجمهور وتحركها شهوات الأفراد الذين يتولونها، بلا قاعدة ولا مكبح وبلا حدود، تشكل، مهما كانت البهارج التي تغطيها، استبداداً لم يعرف الغرب مثيلاً له من قبل، إنه ليس أقل خطراً لكونه غير ثابت مثلما هو حال كل النظم الاستبدادية. إنه قادر على القيام بكل السيطرات، وهو ينشر المذلة، المهيأة لكل الإغراءات، ويبذر الطموح"(7).(2/48)
إنها الحكومات الديموقراطية الأكثر خبثاً في التاريخ، فهي لا تأتيك ومعها السلاح لتقتلك وإنما لتحميك من جيرانك أو من أهلك الذين حرّضتهم لكي يسيئوا معاملتك، ولكي تنتزع من الجميع آخر قرش وفروه أو سرقوه ووضعوه في بنوكها، وهكذا "تبذر الطموح" بين أمم لم تحصد غير البؤس من سياساتهم وشعاراتهم التي تهدف لإثارة الفتن وإضعاف الحاكمين والمحكومين لكي تظل هي السلطة الحاكمة الحقيقية، والمرجعية التي سيلجأ إليها الحاكم والمحكوم مضطراً لنيل رضاها، مقابل الصفقات التي ستبرمها مع الفريق الفائز. ولسنا بحاجة لتقديم الأدلة من التاريخ على هذا الأسلوب المتبع. ويكفي أن نذكر منها، ما قام به الحلفاء في الحرب العالمية الأولى من تحريض على الثورة العربية، والوعود التي قطعوها للشريف حسين، ومنها إنشاء مملكة موحدة بقيادته تشمل كل الدول العربية الآسيوية، مقابل إعلان الثورة على الدولة العثمانية لتمزيقها. وبعد أن نفذ لهم كل ما أرادوه كوفئ بنفيه إلى قبرص، وتحريض خادمه لإقامة دعوى مالية عليه لإيقافه أمام المحاكم بشكل مهين. وزيادة في الغدر سلمت فلسطين للصهيونية لإقامة دولة إسرائيل، وقسمت البلاد العربية إلى دويلات. وأما معاملة أمريكا لشاه إيران بعد الثورة الإسلامية فيكفي أن نستشهد بما قاله نيكسون للدلالة على طرق تفكير هذه الدول العظمى. فقد قال "أعتقد أن الطريقة التي عالجت بها إدارتها (الحالية) +إدارة كارتر +أمر الشاه سينظر إليها كإحدى الصفحات السوداء في التاريخ الأمريكي".(2/49)
(8). وقال جون ماكلوي:"إن معاملتنا له لم تكن مشرفة".(9). فهو لم يُقبل في أمريكا للعلاج بعد سقوطه إلا بصعوبة ولأيام وضع خلالها في مستشفى غير لائق، رغم أن كيسنجر قال عنه: "لقد كان صديقاً جيداً للولايات المتحدة ووقف إلى جانبنا في كل الأزمات".(10). وكان صديقاً لإسرائيل أيضاً. ولكن كل هؤلاء تخلوا عنه. وفي بنما التي سافر إليها بتوجيه أمريكي قُطع عنه الهاتف "وقيل لهم أن سبب القطع هو عدم دفعهم للفاتورة".(11). وحين وافق الرئيس السادات على السماح له للإقامة في مصر سعى الرئيس كارتر، لمنع قبوله في مصر بحجة الخوف على نظام السادات. وحين وصل الشاه لمصر: "قال للسادات وهو يبكي: أنا لم أفعل شيئاً من أجلك... ولكنك الشخص الوحيد الذي يستقبلني بطريقة كريمة. فالآخرون الذين ساعدتهم لم يردّوا عليَّ بالمثل قط".(12). لقد أصبح الشاه عبئاً على الولايات المتحدة، ولهذا كانت تريد أن تتخلص منه. وقد فهم الرسالة. فكتب في مذكراته الأخيرة "خلال السنة ونصف السنة الماضيتين لم يكن للوعود الأمريكية قيمة تذكر، فهي كلفتني عرشي، وستكلفني حياتي إذا ماعدت ووثقت بها من جديد".(13). أما حليف الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام الجنوبية، الرئيس دييم، فقد كان مصيره القتل على أيدي الانقلابيين الذين قاموا بانقلابهم عليه تحت سمع وبصر القوات الأمريكية عام 1963 في عهد الرئيس كيندي. وسيقول الرئيس نيكسون في مذكراته عن هذه العملية: "قد تكون التهم التي وجهت إلى الولايات المتحدة حول اشتراكها المباشر في تلك العملية عارية عن الصحة، وغير عادلة، وعلى أية حال، فإن أكثر التفسيرات إنصافاً للدور الذي شغلته إدارة الرئيس كيندي في تلك القضية، هي أنها طلت المزلاج بالشحم لتسهيل سقوط دييم، ولم تقم بأي إجراء من شأنه أن يحول دون قتله، وكان ذلك بمثابة حدث خسيس وشائن لطخ صفحة السياسة الخارجية الأمريكية".(14).(2/50)
ولا حاجة لرواية المزيد عن الخسة التي تعاملت بها الدول الكبرى والديموقراطية مع أصدقائها كلما وجدت بأن من مصلحتها استبدالهم، أو إذا سقطوا لسبب آخر، والسبب أن شعار هذه الدول الخلقي وفلسفتها في العلاقات الدولية هو "المنفعة"، أما الصداقة فهي للمغفلين. هذه هي نتائج الحرية في مجتمعات تحكمها المصالح والشركات وأصحاب رؤوس الأموال، إذ سيكون على الناخب أن يختار السلطة ذاتها التي ستحكمه بنفس القوانين والتوجهات، ولكن من خلال وجوه متعددة، حيث ستنتهي مهمة الناخب بعد إسقاط ورقة الانتخاب كل بضع سنوات، وتبدأ حرية الفساد والجشع والصفقات والحروب بالانطلاق في الداخل والخارج. وكمثال على الحرية التي ستتيحها الشركات الكبرى لمواطنيها أو غيرهم نقدم هذا المثال الذي لم تطلق فيه النيران على الخصوم، كما حدث مع الرئيس سلفادور اللندي في تشيلي الذي دفعت شركة الهاتف الأمريكية (I.T.T) "مليوناً من الدولارات إلى المخابرات الجاسوسية الأمريكية (C.I.A) إسهاماً منها في المؤامرة على الإطاحة به"(15). وكانت النتيجة قتله في عام 1973، مع أنه منتخب ديموقراطياً، وقد "اعترف الرئيس جيرالد فورد جهاراً، في أيلول 1974، أن الجاسوسية الأمريكية، قد أسهمت في الإطاحة بحكم اللندي، وأضاف قائلاً كان لمصلحة شعب التشيلي".(16). نعود إلى مثال الشركة التي لم تطلق النيران على خصومها، وإنما استخدمت القانون في هجومها عليهم. وهو فرع شركة ماكدونالد الأمريكية في لندن. ففي هذا الفرع تورط عاملان إنكليزيان من أصدقاء البيئة بذم الوجبات السريعة التي يقدمها الفرع لرواده، وهما يعملان فيه، ومطلعان على تركيبة الوجبات التي يقدمها. فقامت الشركة بتقديم دعوى ذم وقدح ضد العاملين في محاكم لندن عام 1997. وبالنتيجة "ربح ماكدو القضية وحُكم له بمبلغ 96 ألف دولار كتعويض ورد للاعتبار ولكن المحكمة كلفته 16 مليون دولار أجرة محامين.(2/51)
هذا إن لم نحسب ما دفعه للدعاية المضادة بحربه ضد العاملين اللذين فضحا أساليبه".(17). هل هناك ما يدهش في هذه النتيجة، حيث ستجتمع بلاغة المحامين وتلفيقات الشهود للإيقاع بعصفورين ظنا أن الحرية التي كفلها لهما دستور بلادهما، تسمح لهما بأن يحلقا بين الصقور، وحتى بوجود أعدل القضاة.فالقاضي العادل إن وجد ماذا سيفعل أمام شهود يمكن أن يباعوا بالمال، وأن يقولوا كل ما يطلب منهم في عالم يغص بأناس يبحثون عن زبون ليبيعوه لسانهم وبناتهم وأبناءهم؟.. ولذا علينا أن نعتبر، وأن نحفظ الدرس. فعندما يكون المال مقياساً للأشياء والحقوق تصبح الحرية والحقوق مساوية لما نملك. وبالمقارنة بين من يملك ألفاً ومن يملك مليوناً، فإن حرية وحقوق من يملك ألفاً = ما نسبته واحد بالألف. أي أنت واحد، وهو واحد بقوة ألف. ولكن إذا كان المالك إنساناً فيصبح مثلك وإن امتلك الملايين. ولكن هل يستطيع صاحب المال أن يدافع عن ماله إذا وسوست له جوقة المنافقين الذين ينتشرون كالذباب حول موائد الحلوى، بأن هذا العامل أو ذاك خطر على الشركة، وبأنه يسيء إليها حتى لو كان المالك ملاكاً؟.. إن حجم التعقيدات التي تفرضها العلاقات بين المالك وعماله ستقود دائماً إلى إشكالات لا يمكن حلها ومعالجتها إلا بوجود مبادئ خلقية تجعل من كل طرف إنساناً يتمنى الخير للآخر بالأقوال والأفعال. أما في مجتمع يقرر بأن المنفعة هي الهدف والغاية، فإنه بالواقع يسعى لتدمير نفسه، وسيضطر دائماً إلى استخدام الشرطي والرقيب لحماية نفسه من الذين رباهم على مبدأ المنفعة. ولذلك فإن من لا يملكون ينتظرون الفرصة للإيقاع بمن يملك وسرقته أو تدميره إذا فشلوا، أو إذا ما اشتراهم زبون لأعمال التخريب والإساءة للمصنع. وكم في عصرنا من الأولاد سعوا لقتل آبائهم سراً أو جهراً لأنهم ورثتهم، ولأنهم ربوهم على قيم المنفعة.(2/52)
إننا لا نريد أن نقدم المواعظ، ولكننا عندما تدعي الحضارات المعاصرة بأنها تبني حضارتها ومستقبلها على أسس علمية فإن عليها لكي تكون نظرياتها علمية أن تربط بين الأسباب والنتائج. وفي حضارات تنشر الإلحاد، أو تمارسه وهي تدعي احترامها للدين، أو تزعم التدين، بينما تمارس الكذب والزنا والقتل والسرقة والتواطؤ مع المستغلين. مثل هذه الحضارات ستدفع الجمهور دفعاً للاستخفاف بكل شيء، بالقيم والأخلاق والأمانة والإخلاص.وعندما يتجرد الإنسان من القيم ومن الإيمان، ومن الخوف من الحساب في الآخرة سيكون مخيفاً، ويجب أن نتوقع بأنه سيصبح وحشاً ضارياً إذا لم يراقبه الشرطي الذي يجب أن يكون ليس مثله لنأمنه. ولكن عندما يفسد المجتمع ويصبح المثل الأعلى فاسداً فمن سيراقب من؟.. هنا يكمن الخطر الذي لم تدركه الدول المتحضرة رغم ارتفاع نسبة الجريمة باستمرار، وكذلك الدول التي تدعي الإيمان وتمارس الفجور، وتختار واعظين وإعلاميين جاهلين لا يتورعون عن زج اسم الحاكم في كل مناسبة وتزيين أعمال الحكومات، والصراخ بالجمهور، معتبرين أن الناس أغبياء إلى الحد الذي سيصدقون كل ما يقال لهم؛ وهؤلاء يصبحون عبئاً على الحاكم والمحكوم بجهلهم، وتعاملهم مع الناس على اعتبار أنهم جهلاء وأميين، مع أن الحاكم قد يكون لتقصيره ما يبرره، ولكن الأصوات الجاهلة التي تجعل من النهر بحراً، ومن حادثة عادية سبباً للثناء أو الغضب، لا تفيد الأمة التي تسعى للتماسك والتقدم والتسابق مع الأمم الأخرى على فعل الخير والدعوة إليه. إننا بالواقع أمام كارثة ستؤدي بالعالم، إن استمرت الأحوال دون وقف هذا الانهيار في الأخلاق العامة والسلوك، إلى الانفجار والانحلال والخراب. وإذا كنا لا نطلب ولا نتوقع أن يكون الحكام والقادة قديسين بسلوكهم وأعمالهم، فإنه لا يجوز أن يكونوا سافلين ولصوصاً وزناة، وأن تعلن خياناتهم على الملأ.(2/53)
وإن عليهم أن يتذكروا بأنهم المثل الأعلى الذي يجب أن يعبروا عنه بأقوالهم وأفعالهم في كل أمة. وإذا انهار المثل الأعلى، فيجب أن لا نستغرب ولا ندهش لانهيار المجتمعات والأمم، لأننا لم نحصد إلا ما زرعناه. فالقادة هم ملح الأرض ونورها، أو هكذا يجب أن يكونوا "ولكن، إذا فَسَدَ الملح فبماذا يُردُّ إليه طعمهُ". كما قال المسيح عليه السلام،وبماذا نصلح الطعام؟..(2/54)
6 ـ إن توقعاتنا بتوجه النظام الرأسمالي نحو الانحطاط بشكل دائم لا يعود إلى أقدار مقررة، ولا إلى غياب الناس الأخلاقيين والإنسانيين من المجتمع الرأسمالي في كل طبقاته، فهؤلاء لا يخلو منهم أي مجتمع مهما كان فاسداً، وإنما يعود إلى الأسباب والنتائج والقوانين التي قد تسمح بإنتاج الخير أو الشر وتدفع إليه، والتي لابد أن تفعل فعلها، وتنتج آثارها، وتعطي ثمارها في كل مجتمع، حيث ستدفع به إما إلى نمو الخير أو الشر. وعندما ندرس الأفكار التي أسست للمجتمع الرأسمالي سيتبين لنا بشكل مؤكد بأنها لا تسمح لنمو الخير، وإن وجدَ الأخيار. وكمثال، لنفرض أن أحد أصحاب المصانع رغب في تحسين دخل عماله، فإن تكاليف إنتاج السلع التي ينتجها ستزيد، وسيضطر إلى رفع سعر بضاعته عن السعر السائد في السوق. وبما أن المشتري لا يبحث عن أخلاق المنتج، فإنه سيشتري السلعة الأرخص. وهكذا ستعمل آلية السوق على وأد أي إرادة طيبة وقتلها. وسيضطر أي صناعي إلى التخلي عن طموحاته الخيرة، والعمل بعقلية السوق، والالتزام بأسلوب الاحتكارات، إذا كان لا يرغب بالفشل والإفلاس. وعندما تكون البلاد بلاد رشاوى فإن المؤسسات التي تريد أن تعمل عليها أن تدفع وإن كان أصحابها يكرهون الرشوة والفساد ويدركون خطورة هذا السلوك على الوطن. وهذا ما يدفعنا إلى الشك بل إلى اليقين، بعجز النظام الرأسمالي عن مواجهة الفساد ونشر الفضيلة. وإن مسيرة هذا النظام منذ بداياته إلى اليوم، وتطور مستويات الجريمة والانحطاط داخلياً، وخارجياً بشن حروب النهب، واستخدام الحنكة والدبلوماسية للسيطرة على الاقتصاد العالمي، كل هذه النتائج المعروفة تدل على إنتاج هذا النظام وثماره المرة. فهذا النظام المرسوم وفق خطط بنتام سميث والمقترن لاحقاً بفلسفة دارون عن الطبيعة والقوة اللازمة للبقاء،وبفلسفة فرويد عن وعود السعادة التي ستتحقق بالحرية الجنسية، لا يستطيع أن ينتج غير الفساد.(2/55)
وإذا أردنا أن لا نحمل النظام الرأسمالي، المبتلي بالفساد، المسؤولية عن انتشار المخدرات في عقر داره وفي عواصمه، نظراً لتحريمه لها. فإننا سنجد أن الإنتاج الرأسمالي يعاني من الفوضى لغياب التخطيط، مما أدى في كثير من الأحيان إلى الكساد والبطالة، وانهيار مؤسسات على رؤوس أصحابها. وإذا أردنا أن ننظر إلى نوعية الإنتاج، فإن هذا النظام لا يكترث باللازم للناس والنافع لهم. وإنما يقوم على تعويد الناس على الاستهلاك الذي لا مبرر له على كافة المستويات، بما يعود بالضرر على المجتمع. وإذا أخذنا مثالاً بسيطاً لما تنتجه المصانع من مواد غذائية للأطفال بهدف الربح، فإننا سنجد خطورة هذه الأطعمة على صحة الأطفال، وعلى عاداتهم، إذ أنها منذ بداية حياتهم ستعودهم على التوجه إلى الطعام كغاية، وليس كوسيلة للعيش السليم. وبدلاً من تقديم وجبات الطعام بانتظام وفي مواعيد محددة يعتاد الأطفال على مضغ كل ماهب ودب مما تنتجه المصانع بالألوان حتى أصبحوا كالأبقار لا هم لهم إلا المضغ. والأهل رغم معرفتهم بضرر هذه الأنواع على نظام حياة الطفل وعاداته، فإنهم مضطرون للرضوخ إلى طلبات الطفل الذي يصغي إلى دعايات التلفزيون، ويتأثر بالأطفال الآخرين الذين يذهبون إلى المدرسة وأكياسهم المغرية معهم. وإذا أردنا أن ننظر إلى الألبسة وما فعلته عقلية الموضة التي فرضت نفسها على حياة كل البشر سنجد أن اللباس أصبح غاية بعد أن كان وسيلة لستر الإنسان وحمايته من الحر والبرد.كما أصبح أداة للكشف عن مفاتن المرأة وإغراء الرجال بها. ونحن نسأل لماذا تحدث الجرائم الجنسية، في مجتمع يخلق الإثارة والفتنة ولا يحسب حساباً للنتائج التي ستنجم عنها.(2/56)
مع أننا في شأن المال، نضع الأقفال والحراس عليه، ونتعلم منذ نعومة أظفارنا أن ـ المال المعروض يعلم الناس السرقة ـ ولكننا في حالة عرض المرأة لمفاتنها، تصيبنا الدهشة من وقوع الجرائم الجنسية، ويتساءل بعضنا ببلاهة عن الأسباب، مع أن هذا الحصاد من ذاك الزرع. وإذا نظرنا إلى عادات الاستهلاك المتنوعة التي تخلقها الرأسمالية المعاصرة فإننا سنجد بأن مئات المصانع تقوم بأعمال لا جدوى منها، بل إنها ضارة بالناس والبيئة، وأبسط مثال يلفت النظر، أن اتساع استخدام السيارات بشكل مبالغ فيه قد أدى إلى أزمات واختناقات في المدن وتلوث لا يمكن تقدير مدى ضرره على الصحة العامة. وكان بالإمكان تلافي هذه الأضرار بتوفير وسائل نقل سريعة ودائمة، وتأمين طرق آمنة للدراجات العادية، وتعويد الناس على استخدامها كما فعلت الصين واليابان. ولكن هل يناسب مثل هذا التوجه شركات السيارات التي عارضت تطوير صناعة القطارات وتوسيعها. فالسؤال عن الفائدة العامة لا يهم الشركات، ولا يرضيها. وهذا ما فعلته شركات إنتاج السجائر التي قاومت أي محاولة دعائية مؤثرة على حجم الاستهلاك. بل إنها سعت دائماً إلى نشر الدعاية للتدخين وقرنته دائماً بعلامات الرجولة والرومانسية حتى لا تسمح لأي حديث عن أضراره بالتأثير على الأجيال الشابة. فالاقتصاد الرأسمالي لا يعترف بالغايات، ولا يقيم أي وزن إلا للأرباح التي سيحصل عليها المنتجون من طرح كل جديد في الأسواق. ولهذا تلوثت الأرض والهواء والسماء بنفايات المصانع التي تدور ليل نهار، وهي تتسابق على الأسواق وجيوب المستهلكين. وسلاحها الموضة والإغراء والرفاهية القاتلة، وخلق عادات التبذير والإسراف في كل شيء بدلاً من الاعتدال، لهذا لونوا حتى الخبز والمعكرونة.(2/57)
ولو أردنا أن نقيّم الطرق والأساليب التي طبق بها الرأسماليون نظريات بنتام وآدم سميث على الأرض فإننا سنكتشف حجم الكوارث التي ما زالت تصيب المجتمع البشري الناجمة عن خضوعه لسباق رأس المال الذي طحن في دورانه القيم والأخلاق والرحمة وإنسانية الإنسان، ولا حاجة بنا لأن نثبت بأن الثروات الهائلة التي جمعها الرأسماليون هي من جوع مواطنيهم الفقراء وبؤسهم وعرقهم، أما في الخارج والدول التابعة فإن تطور الرأسمالية والإمبريالية، فقد اختلطت مشاريعها بدماء الشعوب، وبدلاً من رائحة العرق التي كانت تفوح من الثروة، أصبحت ثروات كثيرة تفوح منها رائحة الدم واللحم البشري الذي أحرقته تجارات الأسلحة والحروب الظالمة. وإذا كان علينا أن نستعرض بعض مظاهر الانحطاط التي يدفع إليها البشر في سباقها المحموم على الثروة بسبب نظام المنفعة المعمول به، فإننا سنكتشف بأن "اليد غير المنظورة" التي توقع منها آدم سميث أن تؤدي إلى الخير العام للمجتمع، لا وجود لها، بل إن هذه اليد تحولت إلى أداة لنشر الشر والفساد في العالم كله. فهل كان آدم سميث لا يدرك النتائج الكارثية التي سيقود إليها فتح الباب على مصراعيه أمام ضواري الرأسماليين، أم إن فكره كان نتاجاً لمرحلة قادته إلى رسم طريق الانهيار القادم وهو يظن أنه يعبد طريق الأمل والسعادة للناس؟.. ولكن هل فقد الحلم الرأسمالي بريقه؟..
هل تحطم الحلم الرأسمالي(2/58)
منذ بدايات حرب الاستقلال التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد بريطانيا شعر جورج واشنطن قائد هذه الحرب بوطأة الفساد الرأسمالي، وتأثيره على المجهود العسكري، واستغلال التجار البشع لدماء الجنود النازفة لزيادة ثرواتهم، فكتب في رسالة إلى جوزيف ريد(1741 ـ 1775)، وكان محامياً مرافقاً له "يلح فيها على ضرورة إنزال (عقاب رادع) بجميع أولئك المجرمين، قتلة قضيتنا، من المحتكرين والمضاربين". وكتب في رسالة إلى بنيامين هاربسون (1726 ـ 1791). مندوب ولاية فرجينيا إلى الكونغرس "يبدو أن المضاربة وابتزاز أموال الشعب وظمأ للثراء لا يرتوي، قد تغلبت على كل اعتبار آخر، وعلى كل قيمة إنسانية".(1). ربما بسبب اليأس سيقول "هذه القبضة من المحتالين الساعين وراء الثراء، وابتغاء ذلك وإرواء لجشعهم، هل سيطيحون بالبناء الجميل الذي رفعناه، بعد لأي وزمن طويل، وبالدم والمال؟... هل سنغدو في نهاية المطاف، ضحايا ظمئنا للكسب والربح؟". (2). هذا السؤال الذي طرحه جورج واشنطن مع بدايات بناء الحلم الأمريكي، والإيمان بقدسية الحرية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي انتابه الشك في تحقيقه، سيأتي المفكر الياباني الأصل، الأمريكي الهوى فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" المنشور قبل نهاية عام ألفين ليؤكد أن الحلم تحقق والتاريخ اكتمل بما أنجزته الرأسمالية. وهو يتساءل "هل من المعقول بالنسبة لنا، في نهاية القرن العشرين أن نستمر في الحديث عن تاريخ للبشرية متماسك وموجه، ينتهي بدفع القسم الأكبر من البشرية نحو الديموقراطية الليبرالية؟.. إن الجواب الذي توصلت إليه هو إيجابي".(3).(2/59)
الأسباب كما سيبينها بالاستناد إلى هيغل، وحتى إلى ماركس بشكل تحريفي، كما سيستخدم فكر أفلاطون بشكل مشوه فيما بعد، هي:"كان هيغل وماركس أيضاً يعتقدان أن تطور المجتمعات البشرية ليس بلا نهاية، ولكنه قد يكتمل عندما تجد البشرية الشكل الاجتماعي الذي يشبع حاجاتها الأكثر عمقاً والأكثر أساسية. وهكذا يكون المفكران قد وضعا (نهاية للتاريخ): فبالنسبة لهيغل، تتجلى تلك النهاية في الدولة الليبرالية، أما بالنسبة لماركس ففي المجتمع الشيوعي. هذا لا يعني أن الدورة الطبيعية للولادة والحياة والموت سوف تتوقف وأن أحداثاً مهمة لن تحصل... ولكن ذلك يعني أنه لن يكون هناك إمكانية للتقدم في تطور المؤسسات الرئيسية والمبادئ المتعلقة بها، لأن كل المسائل الكبرى سيكون حلّها قد تم"(4).(2/60)
لم يعد أي مبرر لشكوك جورج واشنطن حسب رأي فوكوياما فقد أُنجزت المهمة، والحلم أصبح حقيقة، فقد أُشبعت حاجات البشرية الأكثر عمقاً والأكثر أساسية ـ وحتى بالمقاييس الأفلاطونية التي سيستند إليها فوكوياما بشكل مراوغ، منتزعاً فكرة "التيموس" من سياقها الخاص، كما انتزع فكرة "الإشباع" عند ماركس التي تفترض زوال سلطة الدولة لأنها دولة كل المجتمع، والتي من شرطها زوال الطبقات، بهدف تجيير كل ذلك الفكر لصالح الرأسمالية أو دولة الحرية التي حذّر منها أفلاطون، كما مر معنا في "الجمهورية". ولكن فوكوياما رغم كل الوقائع التي دمرت الحلم، وجعلته وحشاً ينقض بشراسة على كل من يعارضه، سيستخدم خليطاً من الأفكار لإثبات أن الحلم قد تحقق، وللإيهام بأبدية النظام الرأسمالي، مما يعني أن مقاومته غير ممكنة، وغير مجدية، وهذا تنبؤ لا يناسب دور الباحث، وإنما يصلح للعرافين، ولكن فوكوياما المشغوف بالدفاع عن الرأسمالية سيستخدم العرافة والسحر وسيحرف فكرة "التيموس" الأفلاطونية في كتابه للتأكيد على أصالة الرأسمالية التي امتزجت لديه بالنيتشوية. مع أن أفلاطون قصد بالتيموس كما قال الأستاذ مطاع صفدي "هذا الجزء الراغب من النفس والطامح إلى تأكيد الذات، وانتزاع اعتراف الآخرين بها. ولقد اعتقد فوكوياما أن هيغل تبنى هذا التيموس معزولاً عن بقية قوى النفس، وخاصة منها الوعي... لقد أُعجب فوكوياما بالتيموس، كجانب مُجتزأ من النفس، ومن بنية المجتمع، ومن حركة ومحركات التاريخ، وصعده إلى مستوى أقنوم الأقانيم"(5).(2/61)
إن الخلط الفكري، واستخدام الأسماء اللامعة، مفيدان في التضليل، لتنظيف الراية الرأسمالية التي تخفق فوق كومة البؤس والجثث، وخاصة بعد سقوط الاشتراكية "كان أفلاطون يعتبر أن "التيموس" وإن هو أساس الفضيلة، ليس بحد ذاته جيداً أو سيئاً، ولكنه ينبغي أن يكون معدّاً ومدرباً بحيث يخدم الخير المشترك. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون "التيموس" محكوماً بالعقل، ومتحولاً إلى حليف للرغبة. والمدينة العادلة هي في نظره مدينة تكون فيها أجزاء النفس الثلاثة راضية وموحدة في توازن تحت رعاية العقل. والنظام المثالي كان تحقيقه في منتهى الصعوبة، إذ كان عليه أن يرضي جملة الإنسان في الوقت نفسه ـ عقل، رغبة، وتيموس... وأفضل الأنظمة هو ذلك الذي يرضي على أفضل وجه الأجزاء الثلاثة من النفس في آن معاً، يبدو أن الديموقراطية الليبرالية، إذا ما قورنت بحسب هذا المعيار، بالبدائل التاريخية التي وصلت إلينا، فإنها تقدم أفضل الاحتمالات المتعلقة بالأجزاء الثلاثة. وإذا لم يكن بالوسع اعتبارها أصوب الأنظمة "نظرياً"، يمكن القول إنها الأفضل "عملياً"... فقد وصل الفكر الحديث إلى الممر المسدود.. كون التاريخ موجهاً في اتجاه ثابت بواسطة الاعتراف والرغبة العقلانيين، وعلى الرغم من كون الديموقراطية الليبرالية تمثل في الواقع الحل الممكن الأفضل للمسألة الإنسانية"(6)، إن سوء الفهم أو التحريف يتجلى في هذا الخلط الذي يتحدث فيه فوكوياما عن دولة أفلاطون حين يفهم أن "أفضل الأنظمة + حسب فهمه لأفلاطون + ذاك الذي يرضي على أفضل وجه الأجزاء الثلاثة من النفس في آن معاً + ليستنتج + أن الديموقراطية الليبرالية...(2/62)
تقدم أفضل الاحتمالات المتعلقة بالأجزاء الثلاثة" وبالتالي فهي النظام الأفضل، متجاهلاً أو جاهلاً، أن أفلاطون اقترح وضع كل قوة من قوى النفس، الممثلة بالشعب، في مكانها المناسب، بحيث يحتل العقل أو الفلاسفة الذين لا يسمح لهم بالملكية، ولا بالهبوط لممارسة الرغبات، مركز القيادة. فأفلاطون كان يعارض تسليم أي مسؤولية للأفراد إلا بالنظر لسلوكهم وأخلاقهم. وقد وجه أشد النقد لدول الحرية المطلقة التي تمثلها الدول الرأسمالية اليوم.(2/63)
ولم يقصد أن الدولة المثالية هي التي تحقق لكل فرد، وتسمح له بإشباع الرغبات الثلاث "في آن معاً"، وإنما هي الدولة التي تضع كل صاحب رغبة في مكانه، ولا تبيح للحاكم أن يتصرف كالصعاليك، وليست مهمة الحكومات إباحة الرغبات وإطلاق حرية الغرائز، وإنما ضبطها للارتقاء بالإنسان، فهي دولة أخلاقية تهدف إلى نشر الفضيلة، وليس تسهيل الانحدار الأخلاقي الذي وصلت إليه المدينة الحديثة. ولا نعتقد بأن فوكوياما لم يفهم أفلاطون الواضح كل الوضوح، ولكنه التحريف، لوضع هذه النهاية البائسة للتاريخ، التي يجعل فيها فوكوياما هدف الدولة المثالية، تحقيق الرغبات الثلاث "في آن معاً"، بدلاً من الارتقاء بالعقل، وبالتالي تصبح الدولة الرأسمالية هي المثالية لأنها أتاحت لشعوبها تحقيق الرغبات الثلاث، بل احتقرت العقل والارتقاء الروحي، الهدف الأساسي في دولة أفلاطون، وليس في دولة فوكوياما. ولكن إذا كان الأمر كذلك، والرأسمالية هي "نهاية التاريخ" فعلينا أن نقطر كل الشعوب إلى المدينة الليبرالية، إذا كانت غير مقطورة بالفعل، وإن تعددت أشكال وألوان الرايات التي ترفعها. ولكن أليست الليبرالية هي نفسها التي تدمر الليبرالية وتعلن أنها غير قابلة للحياة، لأنها تعيش في صحراء الأنانية واللذة الجسدية التي تقتل العقل والروح، وإن لعبة الديموقراطية والحرية والانتخابات ما هي إلا محاولة للتستر على المنتن من علاقات الربح والخسارة التي تدفع باتجاه تحويل المجتمع إلى لصوص وقاطعي طريق وقتلة يطلقون الرصاص على الناس يومياً على طريقة "رامبو" لأن مصالحهم وشراهتهم وأنانيتهم هي المحرك الوحيد لحياتهم؟. وهل يمكن للعقل أن يحكم إذا لم يعرف ولم يُعرف؟.(2/64)
إن الديموقراطيات في تناقضها مع نفسها وهي تحد من المعرفة وتضيق مساحاتها، بتعليم الناس كيف يهدرون أوقاتهم في مراقبة المباريات الرياضية والأعمال البهلوانية والمغامرات والهموم القاتلة، والثقافة المتسربة من أنابيب أقلام خبيرة في فن الإثارة الجنسية والانحطاط، تطالبهم في نفس الوقت باختيار الحكومات الصالحة؛ فيختارون كما اختاروا في حمية البحث عن المصالح هتلر. ثم نكتشف أن الديموقراطية الألمانية فقط هي التي اختارت الأسوأ، لأن المستعمرات يجب أن تكون حكراً على البنائين من المستعمرين الآخرين، وهكذا تفرز ديموقراطية الجهل عناصرها ورموزها وعنصريتها وفاشيتها "القوة البوليسية نفسها، التي تعتبر الصفة التي لا تطاق للطغيان، فقد كبرت في ظل الديموقراطية، أما النظام القديم فلم يكد يعرفها. إن الديموقراطية. كما مارسناها، الشديدة المركزية والتنظيم والمطلقة، تبدو إذن كمرحلة حضانة للطغيان"(7). ولهذا لن تكون هناك أي فائدة من تحطيم هتلر إلا لاستبداله بوجه آخر يطل علينا من خلال طغيان جديد كما قال برتران: "إننا لم نعد نستطيع، للأسف! الاعتقاد بأننا، بتحطيمنا لهتلر ونظامه، نضرب مصدر الشر؛ وذلك حين نقوم، في الوقت نفسه، بوضع مخططات لمرحلة ما بعد الحرب، تجعل الدولة مسؤولة عن كل المصائر الفردية ونضع، بالضرورة، في أيدي السلطة وسائل تتناسب وضخامة مهمتها"(8). إذن لم يمت هتلر ما دامت أحلامه وليبراليته حية في أذهان آخرين، ولكن الذي تغير هو الأسلوب، فبعد فشل هتلر تعلم الليبراليون الجدد أن يتستروا على عنصريتهم وأنانيتهم بالعلم أو التفوق الحضاري، وأن يعاملوا فريستهم على طريقة الصيادين البحريين بوضع طعم طيب للفريسة، مثل منشورات إنسانية عن السلطة العدو، وليس الشعب، وطعام قد يكون صالحاً للأكل بتغيير تاريخ فساده، ورشوة للحكومات المعارضة لتقليل عدد المعارضين للحروب الظالمة في الأمم المتحدة.(2/65)
ومخاطبة غرائز الأمة بإخبارها عما ستجنيه من هجومها على عدو ضعيف.
فالديموقراطية طورت أشكال البربرية والطغيان لتحظى بقبول عالمي. لقد صرح عضو مجلس الشيوخ ترومان قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وبعد هجوم هتلر على الاتحاد السوفييتي "إذا ضعف الاتحاد السوفيتي فيجب أن نساعده، وإذا ضعفت ألمانيا فيجب أن نساعدها. الأمر الجوهري هو أن يدمر كل منهما الآخر"(9)، إنها فلسفة كل الديموقراطيات التي تستمد روحها من بنتام وذرائعية المطلق الذي اسمه المنفعة، والتي عرفت كيف تستثمر أسوأ ما في الديموقراطية، دون أي قلق من منظر الدم والإجرام الذي سحق المدن الأوربية. فهل من المستغرب أن تكون نهاية تاريخ الليبرالية، وليس التاريخ، روح الوحش الذي لا يفكر إلا بمتطلبات جسده مع شعب محطم بالجهل، لا يعرف عن العالم إلا حبوب الفياغرا، وثقافة "مادونا". وإلا فكيف سيختار أي شعب حر كل هذه الحكومات المتتابعة التي لم تتوقف عن إطلاق الرصاص وإلقاء القنابل على الشعوب؟.
قد يكون الحكم على الديموقراطية والشعارات التي ترفعها محيراً، فإذا كانت هذه هي ثمار الحرية، حروب يومية، وحربين عالميتين، وتحضير للحرب للعالمية الثالثة، فأين الخطأ؟. وهل حققت هذه الدول حتى الأمان لشعوبها لنأمل منها أن تحققها للآخرين؟ وإذا كان النموذج الأمريكي هو المثال فلنقرأ بعض ما يقال عنه. لقد "أدى تحقيق أجراه مركز التكنولوجيا في ولاية الماسوشوست إلى الاستنتاج: ـ أن صبياً أمريكياً من مواليد عام 1974، في منطقة من مناطق المدن أكثر تعرضاً للقتل من جندي أمريكي قاتل في الحرب العالمية الثانية"(10)، كما "يتوقع معظم الأمريكيين أن يتعرضوا للسرقة ثلاث مرات أو أكثر خلال حياتهم"(11).(2/66)
فالحرب العالمية انتقلت إلى المدن الأمريكية بالفعل، كما إن النظام الأمريكي يشن حربه العالمية الثالثة ضد العالم بأجمعه الآن كما لاحظ النقابي البرازيلي "لولا". فقال: "لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة. هي حرب صامتة لكنها ليست أقل شؤماً من جراء ذلك... فبدلاً من أن يموت الجنود، يموت الأطفال، وبدلاً من ملايين الجرحى، ملايين العاطلين عن العمل، وبدلاً من تدمير الجسور، إغلاق المصانع والمستشفيات... إنها الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة على القارة الأمريكية وكل العالم الثالث"(12). هذه الحروب يديرها "5% من الأمريكيين + الذين + يملكون 90% من الثروة الوطنية"(13)، ويساق لخوضها الشعب الذي ذهبت بعقله إغراءات الغرائز "ففي نهاية القرن التاسع عشر (في الولايات المتحدة) + كما في سائر الدول الاستعمارية + صار العمال، بدورهم، جهلة ذهبت بعقولهم وأخبلتهم ساعات العمل الاثنتا عشرة والخمرة... فأية حرية يتجرؤون على المطالبة بها؟..."(14). مع كل مرحلة تبددت أجزاء من الحلم الأمريكي، ولم تعد تكفي الخمرة لتحمل مواجهة الحقيقة فانتشرت المخدرات. وقد قدرت الخسائر الناجمة عن الإدمان "بما يقرب من 60 ملياراً من الدولارات الأمريكية، يمثل نصفها الإنتاجية الضائعة لمتعاطي المخدرات، ويمثل ثلثها تكاليف الجرائم المتعلقة بالمخدرات، ويذهب ما تبقى من مصاريف على الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية"(15). أما في(2/67)
مجال الجريمة فإن الرئيس فورد سيعلن "الجرائم كثيرة جداً، وقد آن وقت العمل"(16)، وسيقول وزير العدل الأمريكي (ب ـ ساكسب) في عام 1974 "لسنا الآن الرابحين في معركتنا ضد الجريمة... بل نحن، في الواقع، نتراجع"(17)، وسيكون الحل في اللجوء إلى مؤسسات الحماية الخاصة، لأنه لا يوجد أمان في الغابة الرأسمالية "إذ نتيجة فشل قوى الشرطة الواضح من جهة، ونتيجة للتغيرات التي طرأت على المجتمع من جهة أخرى، قامت بعض المؤسسات الأمنية الخاصة بالاضطلاع تدريجياً بالكثير من أعمال حماية المدنيين العاديين في مكاتبهم أو مراكزهم التجارية. وكما يتبين من حال الجماعات التي تعيش في لوس أنجلوس خلف البوابات المغلقة، فإن الناس يتحولون بشكل ما إلى مفهوم المدينة في العصور الوسطى، حيث يعيش الناس خلف أسوار البلدة المدججة بالحراس، وحيث لا يمكن الولوج إليها إلا من خلال بوابات محروسة"(18)، هل في هذه البيانات ما يكفي للدلالة على ما تبقى من حلم "اللذة" الذي كان هدف بنتام، وكان محتقراً في الماضي مما دفع القدماء إلى "تشبيه تلامذة أبيقور بالخنازير"(19)، وكان "أرسطو يؤكد بأن اللذة التي نتوخاها تجعلنا نتصرف بحقارة، كما أن الألم الذي نخشاه يجعلنا ندير ظهرنا لعمل الخير"(20)، ولكن ما هي أهمية أفلاطون وأرسطو وحتى الأنبياء عند النفعي الذي حدد هدف حياته باللذة التي لا تكترث لآلام الآخرين وإن كانت لا تتحقق إلا ببؤسهم أو قتلهم؛ فالبنتامي كالأبيقوري لا يكترث بالعقل البشري إذا كان لا يصلح إنتاجه للصرف في سوق الأوراق المالية.(2/68)
ولهذا "لم يكن ـ بنتام ـ يكترث لتاريخ الفلسفة، بل كان يحتقر قُدماءها، وخاصة أفلاطون وأرسطو، فهو حين يقول بأن الطبيعة قد وضعت الإنسان تحت سيطرة سيدين هما اللذة والألم، يتنكر لكل تاريخ الفلسفة ويمسحه، فلا يبقى منه أية جذور، وينطلق من هذا الواقع دائراً ظهره لكل ما أتى به السلف قبله، في حين أن جون ستورت مل يطرح المشكلة الأخلاقية كمشكلة فلسفية قديمة، ثم يبحث عن جذورها ليؤكد بأن أبا النفعية هو سقراط عينه"(21). ولكن أي لذة؟. هل هي لذة المعرفة، أو لذة الأكل والجنس؟. تماماً مثل (فوكوياما) سيزج (جون ستورت مل) باسم سقراط، الذي فضل تجرع السم على التخلي عن الدعوة إلى المبادئ الأخلاقية، في مذهب النفعية، وسيجعله المؤسس الحقيقي لهذا المذهب؛ لأن تقاليد الرأسمالية التحريفية قديمة قدم الخبث البشري والانحطاط، ومؤسسات الفحش الجديدة التي تغطي فسادها بأسماء لامعة لمفكرين وشعراء كبار. نعم لقد اكتمل شك جورج واشنطن وليس ـ كمال التاريخ ونهايته ـ حين جعلت الرأسمالية البشر "ضحايا ظمئها للكسب والربح". ولكن هل هناك أمل في إصلاح النظام، وتبديل المظهر دون تغيير الجوهر الفكري. لقد تحدث (ألفين توفلر) عن حادثة مفيدة في هذا المجال، فقال: "بعد قليل من انتخاب رونالد ريغان لرئاسة الولايات المتحدة عبّر لي آتواتر وهو أحد مساعديه الرئيسيين (والذي قاد فيما بعد حملة جورج بوش الانتخابية ثم ترأس اللجنة الوطنية الجمهورية) بصراحة ملفتة وهو في جمع من الأصدقاء يتناولون الإفطار في البيت الأبيض. عبَّر بقوله: (سوف تسمعون في الأشهر القادمة كلاماً كثيراً عن ثورة ريغان وسوف تمتلئ عناوين الصحف بأنباء عن تغييرات يعتزم ريغان إجراءها، فلا تصدقوا ذلك. صحيح أن ريغان يريد أن يغير أشياء كثيرة، لكنه في الحقيقة لن يستطيع ذلك. فلقد انحرف جيمي كارتر بالنظام خمس درجات في الاتجاه.(2/69)
وإذا ما عملنا بدأب وكان لدينا الشيء الكثير من الحظ فربما تمكن ريغان من تعديلها خمس درجات في الاتجاه الآخر. وهذا هو ما تعنيه ثورة ريغان في الواقع)... إن ملاحظات آتواتر... تظهر إلى أي حد يكون القائد أسيراً "للنظام" مهما تكن شعبيته كبيرة ومهما يكن مركزه سامياً"(22).
إذاً لا فائدة، ولا وجود حتى للأمل بالتغيير. وسيظل قادة أكبر دولة رأسمالية خطراً على العالم كما قال الأمريكي (بول غودمان) عام 1967، في خطاب ألقاه أمام "زهاء مئتي رجل من قادة بلاده، بينهم عسكريون ودبلوماسيون ورجال أعمال، وخاطبهم قائلاً بكل هدوء: (أنتم مجموعة الرجال الأشد خطراً وضرراً في عالم اليوم). وهؤلاء في الحقيقة، يمسكون بزمام السلطة الفعلية، وبول غودمان يتهمهم بزرع البؤس والشقاء في الأرض، بتفتيت المجتمعات وزعزعتها، وبإفساد ثقافتها، وبالإقدام على استخدام أساليب الإبادة والتعذيب استخداماً واسعاً للقضاء على الشعوب، يدفعهم اهتمام أناني بمصلحتهم الخاصة والضيقة"(23)، ولكن من يسمع منهم ليكترث بالحلم الذي ضاع، والذي توقع جورج واشنطن بأنه سيضيع منذ البداية؟.(2/70)
وكيف سنصدق بأن هذه الحكومات الرأسمالية التي تقتل الشعوب لتبشر بالإنجيل والحشيش والاحتلال بآن واحد على إنجاز حلم أفلاطون بدولة الفلسفة، وهيغل بكون الدولة التعبير المطلق عن تطور الروح في التاريخ، بمعنى التسامي إلى الأعلى، وماركس بكون الدولة مالكة لوسائل الإنتاج نيابة عن المجتمع، المالك الحقيقي لها؟. بل كيف سنصدق بأن الحكومات التي تجبر الصين مثلاً بمعاهدات رسمية على فتح أبوابها للمبشرين بالإنجيل وتجار الحشيش، بأنها تحترم الإنجيل الذي تزعم أنها تدافع عنه، وتسعى إلى نشر رسالته في العالم؟!!!، إنها قصص تدعو للعجب، فهل هؤلاء الذين لا يفرقون بين المقدس والشيطان ويخلطون بينهما عن تعمد لا يستخفون بالإنجيل حينما يخلطون بينه وبين النفعية، الرسالة الوحيدة التي حملوها إلى العالم، والتي تبشر بالنهب، وتسعى إلى نشر الفساد؟. فلماذا يتسترون بالإنجيل، ويتكلمون باسمه، ولو كان له لسان لاستغاث منهم، كما سيستغيث أفلاطون وهيغل وماركس من فوكوياما لأنه زج بأسمائهم للبرهان على اكتمال الحضارة، وإنجاز الحلم، في الدولة الرأسمالية التي تنحدر من عالم الروح والعقل إلى عالم الجسد، وتكلف الشياطين بحمل رسائل الأنبياء إلى العالم. فهل بقي شيء لم تلوثه الرأسمالية، ولم تستخدمه في سبيل تحقيق مبدأ المنفعة؟.(2/71)
ولكن هل بقي بعض الحياء للاعتراف بالإجرام الذي ارتكب حتى الآن بسبب هذه النفعية التي مسخت إنسانية الإنسان وشوهت المستقبل، وما زالت تلقي بثقلها على كاهل البشر حين تسعى لانتزاع آخر ما بقي فيهم من المشاعر بإنسانيتهم؛ بتحويل الحب إلى جنس يمكن تناوله كما في مطاعم الوجبات السريعة، والموسيقى إلى إثارة وتحريض على الشهوات وكشف العورات، بدلاً من السمفونيات، وأحلام الروح، والشوق إلى المعرفة، والتأمل في نجوم الليل وإشراق الصباح وغروب المساء، والذوبان في نشوة الروح، وعبير الوجود الذي يطل ببهائه من خلال الإحساس العميق بتسربه في كياننا مثل نغمات الموسيقى التي تتدفق من قلوب المبدعين، الذين يتم قتلهم باحتقار إبداعاتهم، واستبدالها بالطبول التي تقرع وتدعو إلى هز الأرداف والانحلال والانحدار إلى مستوى الدعارة. وماذا نقول عن الشعر المدعو إلى الانحدار هو الآخر بإنتاج الكلمة المناسبة لكل هذا الصخب الوضيع الذي أحدثه التطور في الموسيقى ولكن إلى الأسفل، من عالم الروح والعقل إلى عالم الجسد، فهل نحن نتقدم بفضل هذه الحضارة؟ إذا كنا نتقدم فيجب أن نسير من عالم الجسد إلى عالم العقل والروح. ولكن الذي يحدث بالواقع هو العكس. والجزر التي بقيت وما زالت تكافح ضد التيار والانحلال يتم الهجوم عليها بشتى الأساليب والطرق لإجبارها على رفع راية الاستسلام والخضوع، لأن الحرية لا تعني للأقوياء النفعيين غير العناية بالجسد وعبادة الغرائز.
وهل تبالي الحيوانات المفترسة بغناء بلبل أو زقزقة عصفور. ألا تتغذى الأفاعي ببيض هذه الطيور الجميلة وبأجسادها دون أن تحس بأي رعشة من إقدامها على التهام كل هذا الجمال؟. يجب أن نقول بنفس المستوى عما يحدث في الغابة الرأسمالية بأنه طبيعي. لأن فلسفة النفعية "الخنزيرية" كما سميت منذ البداية، لن تنتج غير هذه الثمار.(2/72)
لأنه كما قال هيغل: "إن فلسفة ناقصة تبعدنا عن الله. ولكن الفلسفة الكاملة تقودنا إلى الله. والأمر هو كذلك بالنسبة إلى الدولة"(24).
الحلم الاشتراكي الذي ضاع
لقد عانت البشرية من الظلم دائماً. وإذا ما قرأنا تاريخ جميع الدول والإمبراطوريات فإننا سنواجه تاريخاً أسود من الإجرام بسبب الأطماع المادية للبشر.
وقد بدأ هذا التاريخ الأسود حتى قبل قيام الدول، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، لأن جرثومة الشر تبدأ بالنمو في النفس الإنسانية منذ البداية، فإن لم يوقف تطورها العقل، فإنها لن تنتج غير الأنانية والعدوان والجشع. ومن المؤسف أن التاريخ الإنساني كان وما زال يتغذى من لبن الأنانية، ولم تحكم الأنظمة الإنسانية العادلة إلا نادراً. وقد نشأ من جور الظلم والعدوان الرغبة في الانتقام والتمرد والثورات. وربما كان سبارتاكوس السوري الأصل أول ثائر في التاريخ حاول أن يواجه الظلم بجيش منظم، نجح بواسطته في مجابهة السلطة الرومانية لبعض الوقت. إذ "لما فر زعيم العبيد السوريين، سبارتاكوس، من جلاديه جلب معه جيشاً مؤلفاً من سبعين رجلاً، فلم يلبث هذا الجيش أن عظم فبلغ رجاله سبعين ألفاً. ويعد سبارتاكوس جَدُّ جميع الثوريين الذين ظهروا من الشعب فهزوا البحر المتوسط"(1) أما عن أسباب الثورة، فيقول إميل لودفيغ بالاستناد إلى خطبة لأحد الثائرين سنة 100 قبل الميلاد يصرخ خطيب روماني قائلاً: "ترون لحيوانات إيطالية الوحشية عرائنها ومغاورها وأما أنتم، أيها الفلاحون والجنود الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل إيطالية، فليس لكم غير الهواء والشمس! أجل، إنكم تدعون سادة العالم، ومع ذلك لا يملك الواحد منك فِتْر أرض"(2)، فالدعوات للثورة على الظلم والاستغلال، وتوزيع الثروة بالعدل بين الناس، لم تبدأ في عصرنا الراهن، ولم يخترعها ماركس اختراعاً.(2/73)
وإنما كانت الماركسية والدعوة لإقامة مجتمع الملكية المشتركة ثمرة مخاض طويل من المعاناة والفشل في إيجاد حل للأزمات الاقتصادية والحرمان والبؤس الذي تعرضت له الشعوب. وقد انخرطت كل الأديان منذ البداية في الكفاح ضد الظلم بكل أشكاله الاقتصادي والعرقي والقومي، ساعية لإقامة مجتمع العدل والمساواة والرحمة فوق كل ربوع الأرض. ومع أن الأديان ساعدت على التخفيف من وقع البؤس كلما تزايد عدد المؤمنين، إلا أن ضعف الإيمان وانتشار الإلحاد عطل القيم الأخلاقية، ولم يبق من الأديان إلا تسكين الفقراء بالخطب البليغة، ودعوتهم للعمل من أجل آخرة بلا دنيا، وهذا ما سعت إليه الفئات المسيطرة بتفريغ الدين من مضمونه الاجتماعي والإنساني، وتحويله إلى مخدر للفقراء، بالحديث عن الفردوس القادم، والصمت عن الجحيم القائم، وتبرير ما يحدث بالأقدار والمشيئة الإلهية زوراً وبهتاناً، وتناسي أن الله أمر بالعدل ولم يأمر بالظلم، ولم يأمر بالسكوت على الظلم. ولكن أجهزة الظلم التي دخل كثير من الدعاة والوعاظ في تحالف معها، لأن الوعظ أصبح مهنة، وأكل عيش، وصار الواعظ يخاف أن يفقد مكانته ورزقه، وهو مدين بهما لمن رسمه واعظاً، فقد أصبحت مؤسسات الوعظ مثل مؤسسات الدولة التي يتزاحم الموظفون فيها على نيل رضا أولي الأمر، وتبرير النظام، ودعوة الناس للصبر والرضى، مما أدى لانتزاع أجمل ما في الدين من النفوس، النطق بكلمة الحق عند سلطان جائر. وهكذا مع عصور الانحلال فقد الدين دوره كمؤسسة إنسانية تدافع عن الحق، وخاصة في الغرب، الذي جعله سلعة للتصدير مقروناً بحرية التجارة وتسويق المخدرات كما مر معنا في معاهدة الدول الغربية مع الصين.(2/74)
وقامت البرجوازية تؤازرها الفلسفة النفعية الليبرالية بتوجيه آخر الضربات للدين، الذي أصبح طقوساً تؤدى في الكنائس، عندما ظن العقل أنه اكتشف طريقه الصالح للتقدم، وتبين له بسبب الأخطاء التي ارتكبها بعض رجال الدين ضد العلماء، بأن الدين، وليس من حملوا الدين هو معيق للتطور، وكان جيش الماديين قد كبر إلى الدرجة التي أصبح فيها الإلحاد شعاراً، واعتبار العمل بكل ما يخالف الوصايا الإلهية تقدماً. وعندما سقط حتى الحلم بفردوس للفقراء في عالم آخر، كان لا بد من البحث عن الفردوس الموعود في الأرض. فجاءت الماركسية لترسم من خيوط اليأس حلمها الجديد، وكان بالنسبة إليها الحديث عن دنيا بلا آخرة كسباً مفيداً وضرورياً لتحريض الفقراء على التعاون وصنع هذا الفردوس على الأرض. ولهذا انتقلت الماركسية من موقعها السياسي كفكرة لا تتعارض مع الدين من حيث الأهداف إلى الموقع المعادي للدين لكي تزج بالناس في المعركة النفعية، تماماً كالليبرالية، ولكن لمصلحة الفقراء بدلاً من الأغنياء. فالبرجوازية كما يقول أنجلس "لم تبق على صلة بين الإنسان والإنسان إلا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف (نقداً وعداً). وأغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقة البرجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليدية المشبعة بالأنانية، وجعلت من الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لا أقل ولا أكثر، وقضت على الحريات الجمة، المكتسبة والممنوحة، وأحلت محلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية التي لا تشفق ولا ترحم، فهي، بالاختصار، استعاضت عن الاستثمار المقنع بالأوهام الدينية والسياسية باستثمار مكشوف شائن مباشر فظيع...(2/75)
ومزقت البرجوازية الحجاب العاطفي الذي كان مسدلاً على العلاقات العائلية وأحالتها إلى علاقات مالية صرف"(3)، لقد استخدمت الماركسية نفس الأسلحة الفكرية للبرجوازية ولكن بشكل معاكس لكي تقيم دولة "المصلحة" للفقراء على الأرض، التي ستحقق الحرية والكفاية، ولهذا دعت العمال إلى الالتفاف حول الحزب الذي سيحقق لهم مصالحهم. لقد كان الفريقان يتكلمان بنفس اللغة لإنجاز هدفين متناقضين. إن على البروليتاريا أن تتمرد، وأن تجتمع تحت راية المصالح التي تجمعها "لا تستطيع البروليتاريا الاستيلاء على القوى المنتجة الاجتماعية إلا بهدم أسلوب التملك الخاص بها حالياً، وبالتالي بهدم كل أسلوب للتملك مرعي الإجراء إلى يومنا هذا. ولا تملك البروليتاريا شيئاً خاصاً بها حتى تصونه وتحميه، فعليها إذن أن تهدم كل ما كان يحمي ويضمن الملكية الخاصة"(4)، من قهر البؤس والجوع انطلقت الدعوة لعمال العالم إلى الاتحاد والثورة. وكتب كلام كثير عن الدولة التي ستقوم على أنقاض الرأسمالية، لكي تحقق توزيعاً عادلاً للثروة، دولة الكادحين الاشتراكية التي ستزول فيها الطبقات والاستغلال، وحتى الإكراه على العمل، لأن العمل سيكون حاجة إنسانية ومتعة بدلاً من كونه قهراً في النظام البرجوازي. كُتب كلام كثير أشبه بالشعر عن الدولة الاشتراكية التي ستزول مع انتصار الاشتراكية وبزوغ فجر الشيوعية، حيث ستكون دولة تنظيم لا دولة قمع وقهر. دولة فنية يقودها اختصاصيون، ويتبارز فيها شعب سعيد على الإبداع.(2/76)
وكان حسب تقديرات ماركس وانجلس أن تكون الثورة عالمية، وأن تبدأ شرارتها في البلدان الأكثر تقدماً، ألمانيا، وإنكلترا، ولذلك اشتد الجدل في الحزب الشيوعي الروسي حول جواز قيام الثورة في بلد واحد مثل روسيا، وإمكانية نجاحها في هذه الحالة، بما يخالف آراء ماركس وأنجلس، وقد حسم لينين هذا الجدال بدعوته للعمل على الثورة في روسيا، لأنها الإمكانية الوحيدة المتاحة للثوريين في الوقت الراهن. وقامت الثورة في عام 1917. فماذا كانت النتيجة؟.(2/77)
صحيح إن الثورة استطاعت أن تنتقل بالاتحاد السوفيتي نقلة نوعية بدخوله العصر الصناعي وريادة الفضاء، وتوفير العمل وضروريات العيش من مسكن وطعام ورعاية صحية وتعليم، ولكن الثمن كان باهظاً في روسيا، كما كان باهظاً في كل مكان حكم فيه الحزب الشيوعي. وإذا قارنا بين التقدم الذي حصل في الاتحاد السوفييتي مع التقدم الذي حصل في العالم. فإن الدول الاشتراكية وغير الاشتراكية قد حققت تقدماً متشابهاً، وإن بعض الدول غير الاشتراكية حققت تفوقاً على الدول الاشتراكية في مجالات التصنيع والإنتاج، مثل كوريا الجنوبية بالمقارنة مع كوريا الشمالية، وإذا نظرنا إلى وضع روسيا قبل الثورة واعتبارها من الدول الخمس الكبرى في ذلك الوقت، وسعيها لمزاحمة هذه القوى، فإننا سندرك بأن التقدم الذي حققته الثورة للروسي لم يكن أمراً خارقاً في بلد كان يعد نفسه ويسعى لتحقيق هذا التفوق قبل الثورة. مع ذلك لا نريد أن نقلل من إنجازات الثورة الروسية بالحديث عن توقعات قد تنجزها القيصرية، فالثورة لم تكن حلاً فقط في تلك المرحلة لمشاكل روسيا، وربما كانت ضرورة. وكانت ذات فائدة على المستوى العالمي حتى بالنسبة لخصومها الدول الرأسمالية حيث أجبرتهم على فتح أعينهم على ما قد يحدث بسبب الظلم والجوع والقمع، مما دفعهم إلى إدخال تحسينات على النظام الرأسمالي، واستبدال العصا الغليظة التي كانت تستخدم لتركيع الفقراء وإجبارهم على العمل في ظروف غير إنسانية، إلى الحوار بلغة العقل والحنكة، مما ساعد على امتصاص الأحقاد، وكبح جماح الثورات، التي مهما كانت نتائجها خيرة، فإنها ستمر عبر الدم والخراب الذي لا يفيد أحداً. ولهذا تعلمت البرجوازية والحكومات من الثورة الروسية دروساً كثيرة، ساعدت الأعداء الرأسماليين على استخدام لغة الحوار بدلاً من اللجوء إلى السلاح.(2/78)
فحققت الدول التي استفادت من التجربة الروسية نجاحات هائلة عادت بالنفع على الفريقين، العمال، والمالكين، الذين يفترض أنهما في حرب طبقية، واضطرت وحدها شعوب المعسكر الاشتراكي إلى دفع الثمن الباهظ مقابل ما تحقق لها من مكتسبات، كانت أقل مما تحقق لمثيلها من الشعوب في المعسكر الآخر، وبآلام أكبر، فما هو سبب هذه الآلام والفشل الذي أدى في النهاية إلى سقوط المعسكر الاشتراكي بين ليلة وضحاها، وانقلاب أكثرية الشعب على حكوماته بعد زوال الطبقات والصراع الطبقي نظرياً؟. هل العلة نشأت عن ممارسات السلطة ودكتاتورية البروليتاريا التي اختصرت في الحزب واختصرها الحزب في شخص الرفيق القائد؟ أم إن الجوهر الكامن والفاسد في النظرية هو الذي قاد إلى كل هذا الفساد الذي أدى إلى انحلال المعسكر الاشتراكي وسقوطه؟. قد لا يكون من الضروري المقارنة بين النظام الرأسمالي والاشتراكي لفهم أسباب سقوط الأخير وفشله. ولكن لأن البشرية لم تعد تعيش في عزلة عن بعضها، ولأنه لا بد من مقياس لكل شعب ودولة لكي يقيس عليه مستوى إنجازاته، فإن النظام الأفضل سيظل مقياساً للأسوأ، والنجاح في مكان سيظل مقياساً للفشل في مكان آخر. وهكذا ستستدعي العلاقات الإنسانية والطموح البشري دائماً حضور مثل هذه المقارنة لتقييم إنجازات الشعوب والدول. وحين ندرك عمق مثل هذا التأثير وحضوره الدائم في الأذهان سنعرف حجم الضغط النفسي الذي أججه نجاح المعسكر الرأسمالي في نفوس شعوب المعسكر الاشتراكي، والذي أدى من جملة الأسباب لوقوع الانفجار المفاجئ، الذي كانت تعالجه أجهزة الأمن من قبل بالقمع والتخويف بدلاً من الحوار، مما أدى عندما زال الخوف ليس إلى محاولة إصلاح الفاسد في النظام، وإنما إلى هدمه والتضحية بكل الإنجازات التي كانت تصلح لكي تكون قاعدة لبناء المستقبل على أسس جديدة. ولكن لماذا كانت ردة الفعل بكل هذا العنف؟.(2/79)
إذا نظرنا إلى جوهر النظام، والعقيدة التي انطلق منها، فإن شعار المصلحة هو الذي بنيت فوقه العقيدة والحزب والدول الاشتراكية. هذا الشعار كان يقابل الشعار الليبرالي "المنفعة". وفي كلا الشعارين كان لا بد من إلغاء الأخلاق والدين لتفعيل الجوهر الذي قام عليه النظامان. ولكن الليبرالية عرفت كيف تناور، ولم تعارض من الدين إلا ما يمس مصالحها، بل إنها ادّعت غالباً بأنها الحامية للدين والمدافعة عنه، فسمحت للأديان أن تقوم بدورها الاجتماعي، والذي كان يساعد على امتصاص نقمة الفقراء. بينما كانت الحكومات الشيوعية تنشر الإلحاد وتعلمه في المدارس وتدعو إليه على اعتبار أنه ركن من العقيدة الماركسية. وفي ظل هذا التعليم، نشأت أجيال راغبة في الاستمتاع بالحياة إلى الحد الأقصى، طالما أن حياتها الراهنة هي الفرصة الوحيدة لتحقيق سعادتها، وبفضل شعار "المصلحة" كان على كل فرد أن يبحث عن مصلحته دون خوف من أي شيء سوى سلطة الدولة والبوليس. وعلى ضوء ما استنتجه كل مواطن من العقيدة الماركسية كانت الفرصة الوحيدة أمامه للوصول إلى المال هو السلطة، وتبوأ مركز مناسب بأي وسيلة كانت، بينما يتطلب الحصول على المال في الدول الرأسمالية العمل والكفاح. ويجب أن نستنتج في ظل الظروف التي فرضتها طبيعة النظام الاشتراكي ما هي نوعية الناس الذين سيحتلون مراكز السلطة، لتحقيق مصالحهم الشخصية لا الاشتراكية، كما هو الحال في ظل كل نظام ديكتاتوري. إن أغلب الناس الذين سيحتلون مراكز القيادة والتأثير سيسعون إلى استخدام مواقعهم لتحقيق مصالحهم الشخصية. ومع الوقت ستنشأ دائرة من الفساد ستتسع لتحيط بالدولة كلها.(2/80)
وفي دولة هي دولة كل المواطنين، وهي المالكة لوسائل الإنتاج، وهي القاضي والحكم، سيكون التذمر أكبر، لأن الدولة التي وضعت نفسها في موقع المسؤولية عن كل شيء حياة المواطن وخبزه وأمنه وصحته وسعادته، سيلقى عليها باللوم في كل تقصير، وفي كل شيء لا يرضي الناس. وعندما تصبح الدولة دولة قهر وفساد سيكون من الطبيعي أن يتمنى الناس زوالها. إذن ما تحقق وما حدث هو حصاد لما تم زرعه في السابق. فالشعار الذي رفع لتوحيد الطبقة العاملة "المصالح" لم يكن شعاراً أخلاقياً يصلح لبناء مجتمع متعاون، هذا الشعار لم يؤد إلى إنتاج مجتمع الرعب فقط كما حدث، وإنما أدى منذ البداية إلى إبعاد الخيرين والأخلاقيين من الأغنياء والمثقفين عن التعاون مع الحزب الذي استنتج بأن ما يجمع الناس هو مصالحهم فقط. ومنه نشأت فكرة الدولة التي تجمع بين أفرادها المصالح الاقتصادية، وبأنه مع زوال الطبقات ستزول أسباب الصراع، ومن شعار المصالح فرضت الدولة السوفييتية نفسها على رعاياها. وعندما وجدت الشعوب السوفييتية مصالحها مع دول أخرى، وجهت معاولها لهدم الدولة التي قامت على فكرة وحيدة هي المصالح والاقتصاد. وإذا كنا لا نريد أن نقلل من الدور الذي قامت به الدول الرأسمالية في تفسخ المعسكر الاشتراكي، إلا أننا يجب ألا ننسى أن المعسكر الاشتراكي قام بنفس المحاولات ضد المعسكر الرأسمالي. وعندما يفوز أحد الفريقين فإن علينا أن نبحث عن عوامل الانهيار داخل المجتمع وليس خارجه.(2/81)
فالدول الشيوعية لم تعد مقنعة حتى لأعضاء حزبها، ولهذا لم يبق من أعضاء الحزب الذين كانوا يعدون بالملايين بعد سقوط المعسكر الاشتراكي إلا قلة ضئيلة. وهذه القلة شعرت بأن قيادتها لم تحسن استخدام سلطته لإنجاز المشروع الاشتراكي، لأنها لم تدرك أن السوس الذي نخر أركان الحزب والدولة هو شعار "الأنا" الذي تسلل إلى النفوس ودمر كل شيء. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل إلى أنه خلافاً للحيوانات التي تجتمع لاصطياد حيوان آخر حين تجوع، فإن البشر هم بحاجة إلى علاقات أكثر سمواً من نظريات تجعل هدفها إشباع المعدة، وحرية العورة، لأن مثل هذا الاجتماع الذي بني على أسس عملية ومصلحية سينهار بعد تحقيقه، أو عند العجز عن تحقيقه. وإذا كانت لغة المصالح يمكن أن تجمع بين الشعوب، فإنها لا يمكن أن تكون سبباً وحيداً لمثل هذا الاجتماع إلا في مجتمع لا يفكر ولا يسأل ولا يعقل. إنه اجتماع وإن نجح لبعض الوقت إلا أنه لا يمكن أن يناسب الإنسان بما له من طموحات وأحلام وعواطف، "فالأنا" لوحدها تقتل وتدمر وتمزق، بينما الحب يجمع وينتج قلوباً دافئة ورحيمة ومتعاونة، والحب لا يمكن أن ينشأ إلا بتفعيل كل الحاجات الإنسانية، المصلحة، والحرية، والاحترام المتبادل، والتعاون، والحوار مع الآخر بدلاً من احتقاره وقمعه واعتباره كياناً لا قيمة له، فابتذال الإنسان واحتقاره والاستهانة بكرامته لن يساعد على بناء المواطن الصالح الذي يثيره عدوان الآخر عليه وإن كان معادياً، فمن يهن يسهل الهوان عليه. ولذلك فإن الطبيب يحاول أن يعيد الحساسية للمريض الذي فقدها لكي يشعر بالحشرة التي تهاجمه، أو البعوضة التي تمتص دمه، ليمنعها. فالشعور بالألم نعمة لا نقمة، وحساسية الشعوب تجاه أنظمتها دليل على حيويتها، بينما إنشاء شعب من العبيد الطائعين ظاهراً، واختصار دور الأمة في شخص أو بضعة أشخاص، لن يؤدي إلا إلى موتها، والرغبة في موت من أماتها وإن كان على يد العدو.(2/82)
هذا هو واقع الحال الذي فرخ الفساد وكل هذه النتائج في المعسكر الاشتراكي الذي اختصر الجماهير بالحزب، واختصر الحزب بالقيادة، واختصرت القيادة بالزعيم الذي لا يخطئ. والذي أدى إلى تسلط مجموعة من الانتهازيين على الشعب، من الذين تعلموا كيف يكيلون المديح للزعيم، ويربحون الحروب العسكرية والاقتصادية والسياسية على الخرائط، لكي يسرقوا شعبهم، وهم يقولون للقيادة إن كل شيء بخير والأمور على ما يرام. أليس المنصب هو فرصتهم الوحيدة للاستمتاع بحياتهم التي لن تتكرر، والصراع الطبقي، والعالمي هو صراع على مصالح اقتصادية، فلماذا لا يفوزون بالأرباح والفرص ونعم السلطان بخطابات حماسية يلقونها في كل مناسبة، وهكذا بدلاً من الإيمان والتضحية من أجل المبادئ، انتشر التحريف والخداع والتضليل، وعلا الصدأ والقذارة فوق كل الأحلام التي صاغها المؤمنون ببناء مجتمع لا طبقي وحدثت الكارثة، التي كان لا بد لها أن تحدث بتواطؤ المتواطئين، وطبيعة الشعارات التي لن تنتج غير الفساد والإفساد. فهل علينا أن نستغرب هذا الحصاد من النظرية الماركسية، رغم كل الزخرفات التي أضيفت عليها. وهل يستطيع الناس أن يشكوا بأن هذه الأنظمة التي تحول بعضها إلى أنظمة ملكية هي في الطريق إلى السقوط عاجلاً أو آجلاً بسبب البؤس والقمع والقهر، لأن الإنسان لا يمكن أن يتحول إلى بقرة حتى وإن نجحت هذه الأنظمة في تقديم الطعام له طيلة حياته دون عمل ودون جهد، ولم تطلب منه سوى تمجيد الزعيم، لأن الإنسان لن يقبل بأن يكون بقرة لأنه لا يستطيع وطبيعته لا تسمح له. فمتى سندرك بأن الشعارات الصغيرة المبتذلة لا تقود إلا إلى امتهان الإنسان وتحقيره ولا تنتج شيئاً عظيماً على المستوى الإنساني وإن نجحت في الوصول إلى القمر، وبنت ناطحات السحاب، وأصبحت مخيفة كالطاعون والأسلحة النووية، فهي بالنهاية ستنهار بتفسخها من الداخل، لأن القيم التي رفعتها كانت تقود إلى هذا التفسخ والانحلال.(2/83)
وإننا عندما لا نجد فرقاً بين النظريتين الليبرالية والماركسية فلأننا ننظر إلى الجوهر وإن كان النظامان قد سارا في اتجاهين متعاكسين، ولكن من أجل نفس الأهداف والغايات. وإن انهيار النظام الاشتراكي قد لا يدل إلا على فشله في حربه مع الرأسمالية، وهذا بحد ذاته لا يشكل إدانة له، لأن كثيراً من الأنظمة الصالحة عبر التاريخ قد تسقط بضربات دول شريرة أقوى منها. ولكن ما يشكل إدانة لأي نظام هو موته في نفوس شعبه قبل سقوطه، وتمني هذا الموت له. فهل ستكفي الدروس التي مرت لكي تتعلم البشرية عبر الآلام والدماء، وبسبب الغرور، والانحلال الأخلاقي، وتحقير الإنسان وامتهان كرامته، بأن عليها أن توجه الاهتمام لخدمة عقل الإنسان وروحه، بدلاً من إعطاء الأولوية لجسده؟. هل ستكفي كل هذه الدروس والحروب التي شنها الطغيان والفساد في الداخل والخارج لتعليم الأنظمة والدول أن تحقير الإنسان ومسخه إلى معدة وجنس ومصالح لن ينتج غير الآلام والدمار؟. هل ستتعلم الدول التي هرمت وهي تقوم بنشر الفساد والإفساد وتصديره بأنها ستتعرض لنفس المصير كأنظمة وشعوب إذا لم تُعد للإنسان مكانته واحترامه وكرامته كمبدع لفكر، وحامل لرسالة، وناطق بالكلمة التي صار بها الإنسان إنساناً، ونوراً من أنوار الحق، فصارت الكلمة جسداً وكوناً وفناً وشعراً وفلسفة وديناً وروحاً وسمواً، طار بها الإنسان وحلق، وظلت البهائم على بهيميتها رغم أنها تأكل وتمارس الجنس وتتناسل، وتبني مستودعات من الطعام كالنمل وغيره من الحشرات، فهل سنتعلم بأن علينا أن نبني دولة الإنسان بدلاً من السعي المبتذل لبناء دول النمل البشرية. هل سنكرم العقل والروح بدلاً من الجسد الذي جعلته كل الحضارات المنحطة هدفها الوحيد.(2/84)
إن الشعوب بسبب جهلها وسكرها بالخمرة أصبحت في أغلبها عاجزة عن الحكم على نتائج تغرير السياسيين بها والتلاعب بعواطفها الدينية أو القومية أو الوطنية، ولهذا فإننا في عصرنا الذي استشرى فيه الفساد والدجل نحن بحاجة لأنبياء لإزالة القذارات التي سكبت فوق عقول الملايين وأرواحهم. نحن بحاجة إلى إنقاذ من الانحطاط والتردي الذي وصلنا إليه، لأن كل الشعوب تقاد إلى الهاوية، وبين كل شعب وآخر ربما بضع خطوات، لأننا ما زلنا نصدق أن جمهوريات النمل ستحقق لنا السعادة. هذه الدول التي لا تتحدث إلا عن الاقتصاد والثروة، ولكنها مع كل ثرواتها وثرائها يجوع الملايين من أبنائها، ويضطرون لبيع أجسادهم وكرامتهم من أجل الثروة، التي أصبحت آلهة عصرنا المتعددة بدلاً من الإله الواحد. ففي كل دولة توجد عملة وطنية هي إله البلد وربه، فمتى سنحطم هذه الأرباب التي قادت البشرية، إضافة لكل الحروب التي لم تتوقف يوماً، إلى حربين عالميتين، وإلى استعداد الدول الكبرى للحرب العالمية الثالثة؟. هل يعقل أننا سنظل عمياناً إلى هذا الحد حتى تقع الكارثة، وتقتلنا الأرباب التي عبدناها بدلاً من الله؟ وإذا لم نتعلم الآن من دروب الآلام التي سلكنا عليها، فهل ستتاح لنا الفرصة مرة ثانية لكي نتعلم إذا ما وقعت الكارثة، وانتشر طاعون الحرب النووية؟.(2/85)
من المؤكد أن الفرصة ستكون قد فاتت لأننا نستحق، ولأن حضارتنا ستكون قد قتلت الأنبياء الذين يعيشون بينها وهم يتلون رسالات السماء التي لم تحرف، رسالة الأخوة الإنسانية والسلام. ولكن الأنبياء وإن وجدوا في كل العصور فإنهم لا يستطيعون أن يُسمعوا الوحوش الذين يفتخرون بأعمال القتل والنهب والفساد، لأن آذان الوحوش لا تسمع كلمات الروح، وإنما حاجات الجسد ونداء الغرائز. ونرجو أن لا تظل حضارتنا حضارة غرائز، وإنما حضارة عقل وروح، بعد أن سقطت الشيوعية بسبب سوء فهمها للإنسان، واعتقادها أن المعدة هي باب نعيم الإنسان وجحيمه.
بلد واحد هو العالم
سيكتب بول هازار تعليقاً على كتاب "الأمير" "من أين أخذ ماكيافيلي أننا مصنوعون من تلك العجينة الرديئة؟ ويلٌ لماكيافلي! وينبغي إحراق كتابه "الأمير" فهو سفر مشؤوم تحركه تلك القاعدة الزائفة التي مؤداها أن صالح الدولة يجب أن يكون هو مبدأ الحكومة، وكل فصل من فصوله هو سم، وإذا لم تكن أوروبا تستشفي كل يوم من الماكيافيلية، وهي مرض عقلي، فإنه ينبغي اليأس" (1) .
__________
(1) بول هازار ـ الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر ـ ص213.(2/86)
ولكن مع الأسف فإن هذا السم قد سرى في أوصال الأقوياء على سطح الكرة الأرضية وأصبح بدلاً من اعتباره سماً، أصبح مدعاة لفخر السياسيين، ودليلاً على عبقريتهم، حتى عندما يتواطؤون على استغلال شعوبهم لأغراض دنيئة. وهذا ما يدعونا للقول إن كل السياسات على الكرة الأرضية بحاجة للاستشفاء من هذا السم، ولكن هل يمكن الاستشفاء من سم المكيافلية بعقول السياسات الراهنة؟ وهل نحن بحاجة لنظام عالمي آخر ـ لنظام جديد؟ إذا كنا قد توصلنا لرؤية دروب الانحطاط التي تساق إليها الشعوب بعصا السياسات الكبرى، وما تؤدي إليه من الحروب والدمار، فإن علينا أن نبحث عن هذا النظام الذي سيقود البشرية إلى السلام، والطمأنينة، ويحقق العدالة ويوفر الكرامة لكل إنسان على الأرض. إن البشرية بحاجة اليوم لإجبار السياسات على الرضوخ لصوت العقل، والإصغاء لصوت الحكماء الذين حلموا بالمدن الفاضلة التي لم تبن حتى الآن، لأن السياسات استولت دائماً على إرث الأنبياء والحكماء وحولته إلى رايات للقتال، وممالك للسلب والنهب.(2/87)
والغريب أن كل أحلام الإنسان القديم قد تحققت أو هي في طريقها للتحقق. فقد طار الإنسان كما حلم البشر في الماضي، ومَنْ في المشرق يكلم الآن مَنْ في المغرب كما لو كان أمامه، وأصبح حتى الخيال حقيقة مجسدة بفضل العلوم التي تشق طريقها إلى آفاق جديدة كل يوم. ولكن الغريب، أن شيئاً واحداً لم يتحقق، وهو أهم من كل إنجازات الإنسان، وهو مواجهة الوحش الذي ما زال يأكل كل هذه الإنجازات، باسم المنفعة والحروب المجنونة على الأرض، والتي قادت إلى العبودية ، فلماذا؟ وهل حقاً نحن عاجزون عن بناء المدن الفاضلة التي حلمت بها وتخيلتها وكتبت عنها أرقى عقول البشرية؟. هل نحن عاجزون، أم إننا لا نريد، أم إن السياسات البشرية الحمقاء عجزت حتى الآن عن الاتفاق على رسم سياسات السلام والتعاون الإنساني؟ وإذا ظلت هذه الحكومات والسياسات تفشل ألا نعرف إلى أين نسير وما هي النتائج؟ هل ستنجو سياسات المكر والغدر والتآمر في كل مرة من مواجهة الحرب، ومن استخدام كل ما بحوزتها من أسلحة الدمار ضد العدو الذي لم تعرف كيف تسير معه على طريق السلام.(2/88)
لا أدري إلى أي حد نستطيع أن نقول إن قادة العالم يملكون عقولاً، وكم هم الذين يملكون العقول، وإلى أي حد، وهنا لا نتحدث عن أرواح. لا أدري كيف سنحكم ونحن نشاهد مباريات الكبار على المسرح الدولي وهم يتبارزون فيما بينهم بدماء شعوبهم ودماء الآخرين، مبارزات وحشية لا حدود لها، ولا فائدة منها إلا الدمار وترويع الآمنين والمسالمين من البشر، ومن أجل المال والثروة فقط، مما يدل بأن رب الحكام الذين من المفترض أنهم حكماء الأمم، لم يختلف عن رب العوام الذين يحلمون بالثروة لأنهم حُرموا منها. فإلى متى ستظل تدور رحى المال لتطحن عظام الأمم وإنجازات البشرية؟. أما آن الأوان؛ بدلاً من حروب الانتقام والأحقاد والإرهاب، للبحث عن أسباب كل هذه الحروب والعمل على إيقافها، وإنشاء محكمة أممية عادلة لإنصاف المظلومين وإغاثة المنكوبين وإطعام الجائعين؟ أما آن الأوان لكي نفهم أن الأمم باتفاقها على الحق والتزامها به تستطيع أن تحقق كل الأحلام بالمدن الفاضلة التي تبددت حتى الآن، وعند ذلك سيتاح لنا الحديث عن عولمة الأمل بدلاً من عولمة اليأس. وعند ذلك سيكون بإمكان كل الشعوب أن تردد مع الشاعر السوري (مليغر بن يوكراتيس) ما كان يفهمه ويحس أننا بحاجة إليه، من أجل كل البشر منذ القديم وحتى الآن. نعم ليغني الشعر، ولتغني الأمم كلها مع "مليغر للحلم المأمول.
"جزيرة (صور) كانت مربيتي.
(وجدرة) التي هي (أتيكية) ولكنها تقع في سورية ولدتني
لقد انبثقت من (يوكراتيس) أنا (ميلغر)
الذي سرت بجانب عرائس (مينبوس) بمساعدة آلهة الشعر.
فإذا كنت سورياً ما هي الغرابة؟؟
أيها الغريب إننا نقطن بلداً واحداً هو العالم، وشيء واحد أنبت كل البشر.
***
سر بهدوء أيها الغريب، فالرجل المسن ينام بين الموتى الأتقياء
يلفه النوم الذي هو نصيب الجميع
هذا هو (مليغر بن يوكراتيس)
الذي قرن آلهة الحب الدامعة العذبة وآلهة الشعر مع العرائس..(2/89)
لقد ولدته (صور) التي ولدتها السماء
وتراب (جدرة) المقدس حتى بلغ أشده
ورعت (كوس) المحبوبة من الميروبس شيخوخته
فإذا كنت سورياً فأقول لك (سلام)
وإذا كنت فينيقياً أقول لك (نايديوس)
وإذا كنت يونانياً فأقول لك (شيري)
وقل لي أنت نفس القول"*
ولكن لكي نفهم "أننا نقطن بلداً واحداً هو العالم، وشيء واحد أنبت كل البشر".
ألسنا بحاجة إلى فلسفة كاملة تبني لنا هذا العالم وتعيد صياغته على أسس جديدة؟ هنا تبدو مهمة البحث عن روح الإنسان في عصرنا ضرورية لـ "أن فلسفة ناقصة تبعدنا عن الله، ولكن الفلسفة الكاملة تقودنا إلى الله. والأمر هو كذلك بالإضافة إلى الدولة"، كما قال هيغل* وإن ما يقودنا إلى الله سيقودنا إلى الإنسان.. إلى الروح التي تقول لكل إنسان "سلام".
ـــــــــ
* مليغر بن يوكراتيس شاعر ولد عام 90 ق. م في بلدة (جدرة) المعروفة بـ (أم قيس) حالياً.
* هيغل ـ مبادئ فلسفة الحق ـ ص43.
***
الفصل الخامس "المعرفة الروحية ومشكلاتنا المعاصرة"
النظام الليبرالي والطريق الرأسمالي
(1) جان توشار ـ تاريخ الأفكار السياسية 59/ ج2.
(2) م. س 60/ ج2.
(3) م. س 58/ ج2.
النظام الرأسمالي في الممارسة
(1)آلان تورين ـ ما الديمقراطية 99.
(2) م. س 42.
(3) بونداريفسكي ـ الغرب ضد العالم الإسلامي ـ 34.
(4) ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ 292/ ج4.
(5) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 94.
(6) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 94.
(7) برتران دو جوفنيل ـ في السلطة التاريخ الطبيعي لنموها ـ 552.
(8) وليم شوكروس ـ رحلة الشاه الأخيرة ـ 526.
(9) وليم شوكروس ـ رحلة الشاه الأخيرة ـ 526.
(10) وليم شوكروس ـ رحلة الشاه الأخيرة ـ 526.
(11) م. س 11.
(12) م. س 509.
(13) م. س 503.
(14) مذكرات نكسون 143.
(15) كلود جوليان ـ الحلم والتاريخ ـ 53.
(16) م. س 450.
(17) ميشيل بوغنون موردانت ـ أمريكا المستبدة ـ 186.
هل تحطم الحلم الرأسمالي(2/90)
(1) كلود جوليان ـ الحلم والتاريخ ـ 95.
(2) كلود جوليان ـ الحلم والتاريخ ـ 95.
(3) فرانسيس فوكوياما ـ نهاية التاريخ والإنسان الأخير ـ 24.
(4) فرانسيس فوكوياما ـ نهاية التاريخ والإنسان الأخير ـ 24.
(5) م. س 8.
(6) م. س 309.
(7) برتران دو جوفنيل ـ في السلطة ـ 26.
(8) م. س 27.
(9) روجيه غارودي ـ كيف نصنع المستقبل ـ 247.
(10) كلودجوليان ـ الحلم والتاريخ 230.
(11) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 72.
(12) روجيه غارودي ـ كيف نصنع المستقبل ـ 255.
(13) روجيه غارودي ـ كيف نصنع المستقبل ـ 255.
(14) كلودجوليان ـ الحلم والتاريخ ـ 27.
(15) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 74.
(16) كلودجوليان ـ الحلم والتاريخ ـ 229.
(17) م. س 228.
(18) هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ 374.
(19) الموسوعة الفلسفية العربية ـ 1339/ ج2.
(20) م. س 1366/ ج2.
(21) م. س 1357/ ج2.
(22) ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ 489.
(23) كلودجوليان ـ الحلم والتاريخ 17.
(24) هيغل ـ مبادئ فلسفة الحق 43.
الحلم الاشتراكي الذي ضاع
(1) إميل لودفيغ ـ البحر المتوسط ـ 255/ ج1.
(2) م. س 249/ ج1.
(3) ماركس وإنجلز ـ مختارات ـ 53/ ج1.
(4) م. س 64/ ج1.
***
المصادر والمراجع
ـ محمد فؤاد عبد الباقي ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ـ منشورات دار المعرفة ـ بيروت.
ـ الفخر الرازي ـ التفسير الكبير ـ الطبعة الثالثة ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
ـ محمود الألوسي البغدادي ـ روح المعاني ـ الطبعة الأولى ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
ـ جلال الدين المحلي، وجلال السيوطي ـ تفسير الجلالين ـ الطبعة الثانية ـ دار المعرفة ـ بيروت.
ـ محمد علي الصابوني ـ صفوة التفاسير ـ طبعة عام 1421هـ ـ 2001م ـ دار الفكر ـ بيروت.
ـ محيي الدين درويش ـ إعراب القرآن الكريم ـ الطبعة التاسعة ـ دار ابن كثير واليمامة ـ دمشق.(2/91)
ـ صحيح مسلم بشرح النووي ـ منشورات مؤسسة مناهل العرفان ومكتبة الغزالي ـ دمشق وبيروت.
ـ ابن الأثير ـ جامع الأصول ـ تحقيق عبد القادر أرناؤوط ـ الطبعة الثانية ـ دار الفكر ـ دمشق.
ـ علاء الدين الهندي ـ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ـ الطبعة الخامسة ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
ـ ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة.
ـ علي بن أبي طالب ـ نهج البلاغة ـ جمع الشريف الرضي وشرح الشيخ محمد عبده ـ منشورات دار الفكر.
ـ العهد القديم ـ منشورات دار المشرق ش م م ـ طبعة 1988 ـ بيروت.
ـ أبو حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ منشورات دار المعرفة ـ بيروت.
ـ أبو حامد الغزالي ـ مجموعة رسائل الغزالي ـ الطبعة الأولى ـ دار الفكر ـ بيروت.
ـ عبد القادر الجيلاني ـ الفيوضات الربانية ـ جمع إسماعيل القادري ـ منشورات عيسى البابي الحلبي ـ مصر.
ـ عبد القادر الجيلاني ـ فتوح الغيب ـ دار الألباب ـ دمشق.
ـ عبد القادر الجيلاني ـ سر الأسرار ـ الطبعة الأولى ـ دار ابن القيم، والسنابل ـ دمشق وبيروت.
ـ عبد القادر الجيلاني ـ الغنية ـ دار الألباب ـ دمشق.
ـ صفي الرحمن المباركفوري ـ الرحيق المختوم ـ الطبعة الأولى ـ درا السلام ـ الرياض.
ـ محيي الدين بن عربي ـ الفتوحات المكية ـ منشورات دار صادر ـ بيروت.
ـ محيي الدين بن عربي ـ الفتوحات المكية ـ تحقيق د. عثمان يحيى ـ الطبعة الثانية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ـ محيي الدين بن عربي ـ فصوص الحكم والتعليقات عليه ـ تحقيق د. أبو العلا عفيفي ـ دار الكاتب العربي ـ بيروت.
ـ محيي الدين بن عربي ـ مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم ـ طبعة 1965 ـ مطبعة محمد علي صبيح ـ القاهرة.
ـ أحمد المبارك ـ الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ ـ طبعة 1047 ـ 1987م ـ دار أسامة ـ بيروت.(2/92)
ـ يوسف النبهاني ـ جامع كرامات الأولياء ـ الطبعة الثانية ـ المكتبة الشعبية ـ بيروت.
ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ دار صادر ـ بيروت.
ـ الزمخشري ـ أساس البلاغة ـ طبعة 1385هـ ـ 1965م ـ دار صادر ـ بيروت.
ـ أبو البقاء الكفوي ـ الكليات ـ الطبعة الثانية ـ 1981 ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ نديم مرعشلي وأسامة مرعشلي ـ الصحاح في اللغة والعلوم ـ الطبعة الأولى 1975 ـ دار الحضارة العربية ـ بيروت.
ـ عبد الرحمن بدوي ـ موسوعة الفلسفة ـ الطبعة الأولى 1984 ـ المؤسسة العربية للدراسات ـ بيروت.
ـ د. جميل صليبا ـ المعجم الفلسفي ـ دار الكتاب اللبناني، والمصري ـ بيروت والقاهرة.
ـ د. سعاد الحكيم ـ المعجم الصوفي ـ الطبعة الأولى، 1401هـ ـ 1981م ـ بيروت.
ـ بإشراف د. معن زيادة ـ الموسوعة الفلسفية العربية ـ الطبعة الأولى 1986 ـ معهد الإنماء العربي ـ بيروت.
ـ حنا الفاخوري، د. خليل الجر ـ تاريخ الفلسفة العربية ـ مؤسسة بدران ـ بيروت.
ـ د. زكريا إبراهيم ـ مشكلة الفلسفة ـ طباعة 1971 ـ منشورات مكتبة مصر.
ـ ابن قيم الجوزية ـ زاد المعاد ـ 1991 ـ مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار ـ بيروت.
ـ ابن الفارض ـ ديوان ابن الفارض ـ الطبعة الأولى ـ دار القلم العربي ـ حلب.
ـ الحلاج ـ الديوان والطواسين ـ الطبعة الأولى ـ منشورات الجمل ـ كولونيا، ألمانيا.
ـ د. زكريا إبراهيم ـ كانت أو الفلسفة النقدية ـ منشورات مكتبة مصر.
ـ مصطفى حسن النشار ـ فكرة الألوهية عند أفلاطون ـ الطبعة الثانية ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة.
ـ شهاب الدين يحيى السهروردي ـ مجموعة مصنفات شيخ إشراق، طباعة إيران.
ـ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلاني ـ الإنسان الكامل ـ مطبعة محمد علي صبيح ـ القاهرة.
ـ ابن عساكر ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير ـ الطبعة الثانية ـ دار المسيرة ـ بيروت.
ـ ابن رشد ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ـ الطبعة الأولى ـ دار الجيل ـ بيروت.(2/93)
ـ محمد باقر الصدر ـ اقتصادنا ـ دار التعارف للمطبوعات.
ـ د. عبد الحليم محمود ـ المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي ـ دار النصر ـ القاهرة.
ـ ندره اليازجي ـ الأعمال الكاملة ـ الطبعة الأولى ـ دار الغربال ـ دمشق.
ـ عبد المتعال محمد الجبري ـ الناسخ والمنسوخ بين الإثبات والنفي ـ الطبعة الأولى ـ مكتبة وهبة ـ مصر.
ـ عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ الطبعة الثانية ـ دار الآداب ـ بيروت.
ـ خالد محمد خالد ـ رجال حول الرسول ـ الطبعة الثانية ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.
ـ أفلاطون ـ طيماوس ـ ترجمة الأب فؤاد جورجي بربارة ـ طباعة 1968 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ أفلاطون ـ جمهورية أفلاطون ـ ترجمة حنا خباز ـ الطبعة الثانية، 1980 ـ دار القلم ـ بيروت.
ـ أفلاطون ـ الفيلفس ـ ترجمة الأب فؤاد جرجي بَربارة ـ طباعة 1970 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ أفلاطون ـ السُّفسْطائي ـ ترجمة الأب فؤاد جرجي بَربارة ـ طباعة 1969 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ أفلاطون ـ البَرمنيذس ـ ترجمة الأب فؤاد جرجي بَربارة ـ طباعة 1976 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ أفلاطون ـ الثئيِتتُس ـ ترجمة الأب فؤاد جرجي بَربارة ـ طباعة 1971 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ أفلاطون ـ المأدبة ـ ترجمة د. وليم الميري ـ منشورات دار المعارف ـ مصر.
ـ أفلاطون ـ فايدروس ـ ترجمة د. أميرة حلمي مطر ـ الطبعة الأولى ـ دار المعارف ـ مصر.
ـ ول ديورانت ـ مباهج الفلسفة ـ ترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني.
ـ هوميروس ـ الإلياذة ـ ترجمة عنبرة سلام الخالدي ـ 1974 ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
ـ هوميروس ـ الأوذيسة ـ ترجمة عنبرة سلام الخالدي ـ 1974 ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
ـ تيودوسيوس دوبزنسكي ـ الوراثة والطبيعة البشرية ـ ترجمة إحسان سركيس ـ طباعة 1981 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ إميل لودفيغ ـ البحر المتوسط ـ ترجمة عادل زعيتر ـ طباعة 1952 ـ دار المعارف ـ مصر.(2/94)
ـ هيغل ـ مبادئ فلسفة الحق ـ ترجمة تيسير شيخ الأرض ـ طباعة 1984 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ كارل ماركس ـ رأس المال ـ ترجمة أنطون حمصي ـ الطبعة الأولى ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ ماركس، إنجلز ـ مختارات ـ دار التقدم ـ موسكو.
ـ بوندا ريفسكي ـ الغرب ضد العالم الإسلامي ـ ترجمة إلياس شاهين ـ طباعة 1985 ـ دار التقدم ـ موسكو.
ـ بونداريفسكي ـ سياستان إزاء العالم العربي ـ ترجمة خيري الضامن ـ طباعة 1975 ـ دار التقدم ـ موسكو.
ـ روجيه غارودي ـ كيف نصنع المستقبل ـ ترجمة صياح الجهيم ـ الطبعة الأولى ـ دار عطية ـ لبنان.
ـ مارتان هيدجر ـ الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية ـ ترجمة د. فاطمة الجيوشي ـ 1998 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ فرانسيس فوكوياما ـ نهاية التاريخ والإنسان الأخير ـ ترجم بإشراف مطاع صفدي ـ مركز الإنماء القومي ـ بيروت.
ـ كلود جوليان ـ الحلم والتاريخ ـ ترجمة نخلة كلاس ـ 1978 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ هامش ماكري ـ العالم عام 2020 ـ ترجمة نعمان علي سليمان ـ 2000 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ برتران دوجوفنيل ـ في السلطة التاريخ الطبيعي لنموها ـ ترجمة محمد عرب صاصيلا ـ 1999 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ جان توشار ـ تاريخ الأفكار السياسية ـ ترجمة ناجي الدراوشة ـ 1984 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ جورج لوكاكش ـ تحطيم العقل ـ ترجمة الياس مرقص ـ الطبعة الأولى ـ دار الحقيقة ـ بيروت.
ـ أسوالد اشبنغلر ـ تدهور الحضارة الغربية ـ ترجمة أحمد الشيباني ـ دار مكتبة الحياة ـ بيروت.
ـ جان بول سارتر ـ الوجود والعدم ـ ترجمة عبد الرحمن بدوي ـ الطبعة الأولى ـ دار الآداب ـ بيروت.
ـ ميرسيا إيلياد ـ ملامح من الأسطورة ـ ترجمة حسيب كاسوحة ـ 1995 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ ميرسيا إيلياد ـ التنسيب والولادات الصوفية ـ ترجمة حسيب كاسوحة ـ 1999 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.(2/95)
ـ ارنست وود ـ اليوغا، فلسفة الانعتاق والاتحاد ـ ترجمة ديمتري افييرينوس ـ الطبعة الأولى ـ دمشق.
ـ ميشيل بوغنون موردانت ـ أمريكا المستبدة ـ ترجمة د. حامد فرزات ـ 2001 ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.
ـ جماعة من الأساتذة السوفيت ـ موجز تاريخ الفلسفة ـ ترجمة توفيق سلوم ـ إصدار دار الفكر ـ دمشق.
ـ جورج مونو ـ المصادفة والضرورة ـ ترجمة حافظ الجمالي ـ 1975 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ جياني فايتمو ـ نهاية الحداثة ـ ترجمة فاطمة الجيوشي ـ 1998 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ بول روزان ـ فرويد وتوسك ـ ترجمة علي محمد الجندي ـ 1998 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ نيكولاس برديائف ـ العزلة والمجتمع ـ ترجمة فؤاد كامل ـ 1985 ـ المنشورات الجامعة ـ طرابلس.
ـ نيكولاس برديائف ـ الحلم والواقع ـ ترجمة فؤاد كامل ـ 1985 ـ المنشورات الجامعة ـ طرابلس.
ـ هنري برغسون ـ منبعا الأخلاق والدين ـ ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم ـ الطبعة الثانية ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
ـ رايموت رايش ـ النشاط الجنسي وصراع الطبقات ـ ترجمة محمد عيتاني ـ الطبعة الأولى ـ دار الآداب ـ بيروت.
ـ كولن ولسون ـ سقوط الحضارة ـ ترجمة أنيس زكي حسن ـ الطبعة الثانية ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
ـ فرويد ـ الرئيس ودروولسون ـ ترجمة هاني الراهب ـ 1983 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ تشارلز داروين ـ أصل الأنواع ـ ترجمة إسماعيل مظهر ـ 1973 ـ مكتبة النهضة ـ بيروت، بغداد.
ـ آلان تورين ـ ما الديمقراطية ـ ترجمة عبود كاسوحة ـ 2000 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
ـ الرئيس نكسون ـ الحرب الحقيقية ـ ترجمة د. سهيل زكار ـ الطبعة الأولى ـ دار حسان ـ دمشق.
ـ وليم شوكروس ـ رحلة الشاه الأخيرة ـ ترجمة دار الأهالي ـ الطبعة الأولى ـ منشورات الأهالي ـ دمشق.
ـ ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ الجمالي وأسعد صقر ـ 1991 ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.(2/96)
ـ بول هازار ـ الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر، من منتسكيو إلى ليسنج ـ ترجمة د. محمد غلاب، وإبراهيم بيومي مدكور، 2004 ـ وزارة الثقافة ـ دمشق.
***
فهرس المواضيع
مقدمة ... 2
الفصل الأول حدود المعرفة بالعقل ... 2
أسئلة ما زلنا نبحث عن أجوبة لها ... 2
مشكلة المعرفة ... 2
مشكلة العقل ... 2
أدوات المعرفة ... 2
الطريق المسدود أمام المعرفة ... 2
محاولة ثانية للمعرفة بالعقل ... 2
حوار العقل ومسلماته ... 2
الفيض الذاتي للطبيعة ... 2
الفيض الإبداعي ... 2
الفيض الإبداعي في القرآن ... 2
تجلي الذات ... 2
كنز العقل المكنون ... 2
القرآن والحديث مصدران للقياس ... 2
بين عجز العقل وطموحه ... 2
حدود الحكمة العقلية في الدراسات الأفلاطونية ... 2
موقف أفلاطون من الأنظمة المعاصرة: ... 2
عالم العقل وعالم الروح ... 2
الروح في نصوص أفلاطون "الروح البشرية" ... 2
1 ـ أقسام الروح: ... 2
2 ـ الأرواح السفلى: ... 2
3 ـ الحوارات الأخرى ومصاعب هذا التعليم. ... 2
4 ـ التقمّص: ... 2
5 ـ اتحاد الروح والجسد: ... 2
ثمار التجربة الأفلاطونية: ... 2
مراجع الفصل الأول "حدود المعرفة بالعقل" ... 2
الفصل الثاني المعرفة بالروح ... 2
الحدس ... 2
مدينة الروح ... 2
العلم بالتعلم ... 2
الرسل وعالم الروح ... 2
من مظاهر السيرة الروحية للرسول الخاتم ... 2
العلم بالله والاعتبار ... 2
النفاق والحروب المستمرة ... 2
مظاهر التلفيق ... 2
قراءة في مواقف بعض الصحابة على ضوء علم الروح ... 2
صلح الحديبية وعلامات العارفين ... 2
من عمير إلى عمر إلى أمير المؤمنين ... 2
التجربة الروحية للغزالي ... 2
طرق المعرفة الروحية ... 2
التقدّم والتأخر في علم الروح ... 2
أساليب قديمة في المعرفة الروحية ... 2
"اليوغا" والمعرفة الروحية ... 2
مراجع الفصل الثاني "المعرفة بالروح ... 2
الفصل الثالث المذاهب والاتجاهات في تعريف النفس والعقل والروح ... 2
المناسبات التي وردت فيها كلمات النفس والعقل والروح في القرآن
(النفس في القرآن) ... 2
العقل في القرآن ... 2
الروح في القرآن ... 2
الإشارات والمعاني في الآيات القرآنية للنفس والعقل والروح ... 2(2/97)
من النفس إلى العقل إلى الروح ... 2
النفس والعقل والروح في اللغة ... 2
النفس في اللغة ... 2
العقل في اللغة ... 2
الروح في اللغة ... 2
النفس والعقل والروح في الفلسفة ... 2
النفس في الفلسفة ... 2
العقل في الفلسفة ... 2
الروح في الفلسفة ... 2
النفس والعقل والروح في "المعجم الصوفي" ... 2
النفس والعقل والروح في دراسات ابن عربي ... 2
نصوص للشيخ محي الدين بن عربي عن النفس والعقل والروح
آراء لابن عربي في النفس ... 2
آراء لابن عربي في العقل ... 2
آراء لابن عربي في الروح ... 2
الفصل الرابع النفس والعقل والروح في الفلسفة العربية الإسلامية ... 2
الكندي فيلسوف العرب ... 2
الفارابي الفيلسوف الزاهد ... 2
ابن سينا وسر الحكمة المشرقية ... 2
ابن باجه فيلسوف الحرية والإرادة ... 2
ابن طفيل والمعرفة بالفطرة ... 2
ابن رُشد الفيلسوف المحارَِب حياً وميتاً ... 2
مراجع الفصل الرابع: ... 2
الفصل الخامس المعرفة الروحية ومشكلاتنا المعاصرة ... 2
مصادر التشريع في الأنظمة السياسية المعاصرة. ... 2
النظام الليبرالي والطريق الرأسمالي ... 2
نظرية الأزمة وأزمة النظام ... 2
النظام الرأسمالي في الممارسة ... 2
هل تحطم الحلم الرأسمالي ... 2
الحلم الاشتراكي الذي ضاع ... 2
بلد واحد هو العالم ... 2
مراجع الفصل الخامس "المعرفة الروحية ومشكلاتنا المعاصرة" ... 2
المصادر والمراجع ... 2
فهرس المواضيع ... 2
***(2/98)