(الغلاف)
خرافات يهودية
خرافات يهودية
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م
? خرافات يهودية
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved.
تمهيد:
... كتاب "خرافات يهودية" هو الجزء الأول من آخر مؤلف وضعه المرحوم أحمد الشقيري بعنوان "خرافات يهودية ... .. وجهالات عربية" ولم يمتد به العمر ليتم الجزء الثاني منه وينشره كاملا. وقد ظل الجزء الأول هذا بين يدي فقيدنا في مرضه الأخير وهو حريص على مراجعته وتنقيحه.
لقد آثرنا نشر هذا الكتاب أملا في تعميم الفائدة منه، وعملا بوصية فقيدنا التي جاء فيها " ... حرصت كل أيام حياتي أن أترك لأمتي ميراثا من الرأي والجهد في سبيل قضايانا القومية وشؤوننا العامة. وقد هيأ الله لي في سبيل هذا القصد مجالا رحبا من التأليف والترجمة والخطب والمقالات ... أما موضوع كتبي وأوراقي فإنني أدعو أبنائي وجميع أصدقائي في الوطن العربي أن يراجعوا هذه الكتب بالتصحيح والتنقيح.."
جرت عادة فقيدنا أن يكتب المقدمة لمؤلفاته في آخر مراحل الطباعة لكي يضمنها ما يرى من متغيرات هامة قد تطرأ، لذا فإن هذا الكتاب يخلو من مقدمة بقلم مؤلفه الراحل. فكتب المقدمة مشكورا الأديب الوطني الأستاذ جميل بركات ... . وهو صديق وفيّ لفقيدنا الذي كان ممن يقدرون الوفاء ويرونه عزيزا في هذا الزمان.
عمان 1981 أسرة أحمد الشقيري
المحتويات
- تمهيد ... ............................................................. ... 5
- المقدمة........................................................... ... ... 8
- خطاب بيجن رئيس وزراء العدو إلى الشعب المصري في 11/11/1977 ... .................................... ... 15(1/1)
- الفصل الأول: لستم أبناء إبراهيم أنتم أبناء إبليس................. ... ... 19
- الفصل الثاني: إسرائيل يصارع الرب.............................. ... ... 45
- الفصل الثالث: وأين أهل الراين من أهل الأردن ................... ... ... 67
- الفصل الرابع: أكبر حملة سلب في التاريخ يقترفها بنو إسرائيل في مصر.................................. ... ... 91
- الفصل الخامس: التمييز العنصري والربا والصرافة والتسلط والاستعباد في صميم الدين اليهودي.................................. ... 115
- الفصل السادس: يا موسى لا تعبر الأردن لأنك عصيتني وخنتني ... ... 137
- الفصل السابع: جفف النهر وأوقف الشمس والقمر وما انتصر..... ... 163
- الفصل الثامن: الخلاص هو من اليهود، والحل هو الجلاء......... ... 185
- الفصل التاسع: قضاة إسرائيل المجرمون من ابن زانية، إلى قاطع طريق، إلى قاتل الأخوة السبعين..................................... ... 193
- الفصل العاشر: ملك الدولة الإسرائيلية لاجئ في أرض الفلسطينيين والإسرائيليون يهربون من مدنهم ويسكنها الفلسطينيون ... 209
- الفصل الحادي عشر: النبي الزاني والنازي من هو؟.............. ... ... 227
- الفصل الثاني عشر: الشقيقتان تحملان سفاحا من أبيهما النبي.... ... 243
- الفصل الثالث عشر: هؤلاء هم اليهود وهذه مملكتهم ............. ... ... 255
- الفصل الرابع عشر: كانت يدا بريطانية ثم أمريكية ولم تكن إسرائيلية أبدا ..................................................... ... ... 257
- الفصل الخامس عشر: عروبة القدس – الحفائر والمقابر والتوراة كلها تدين بيجن ... .................................................... ... 295
المقدمة
كاتب وكتاب
بقلم الأستاذ: جميل بركات(1/2)
مؤلف هذا الكتاب، الأستاذ أحمد الشقيري، مناضل عربي فلسطيني قضى عمره في الجهاد، وعرفته المحافل العربية والدولية لأكثر من خمسين عاما. لم ينتم إلى حزب ولم يذعن بالتبعية لأحد، وكان مبدؤه العمل لإنقاذ فلسطين من محنتها والمحافظة على حقوق أهلها، مع إيمانه التام بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.
حين كان طالبا بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1927، وألقى خطابا قوميا في ذكرى الشهداء، دعا فيه إلى الخلاص من الاحتلال الأجنبي فأبعدته على إثر ذلك السلطات الفرنسية المهيمنة على لبنان يومئذ، وقذفت به إلى حدود فلسطين فرجع إلى بلدته عكا وهو أقوى إيمانا وأمضى عزيمة، ليواصل بعد ذلك الدراسة في معهد الحقوق بالقدس ... ويواصل معها الكفاح بقلمه ولسانه ... .
قبل النكبة، يوم كان كفاح عرب فلسطين على أشده ضد الاستعمار والصهيونية المتمثلين في صك الانتداب ووعد بلفور والهجرة اليهودية، ساهم الشقيري المحامي الشاب بمواهبه في الدفاع عن المجاهدين والمناضلين أمام المحاكم العسكرية البريطانية التي كانت تحكم تعسفا بالإعدام على أي عربي تجد في حوزته رصاصة ... فما بالك لو كانت بندقية . كما شارك في إعداد المذكرات والوثائق التي كانت توضع أمام ما يسمى بلجان التحقيق الموفدة إلى فلسطين كلما اشتد الخطب والنزاع بين الأهل من جهة وبين قوات الانتداب الظالمة واليهود الغازين من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى نشاطه الوطني في الندوات والاجتماعات والصحافه ومساهمته عام 1945 في تأسيس المكتب العربي في واشنطن.
وكانت سلطة الانتداب تقبض عليه بين الحين والحين لتزجه في السجن أو ترسله للمنفى، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من المناضلين الفلسطينيين الذين عملت هذه السلطة الغاشمة على ملاحقتهم طيلة مدة حكمها ... . ثم انسلت يوم 15 أيار عام 1948 بعد أن سلمت اليهود كل شيء!!(1/3)
استمر الشقيري في نشاطه الوطني بعد خروجه من البلاد إثر وقوع النكبة وإعلان دولة إسرائيلي، ولم يترك فرصة لخدمة القضية المقدسة والقضايا العربية الأخرى.الا واغتنمتها حيث شارك في العديد من النشاطات العربية والدولية فعمل أمينا عاما مساعدا للجامعة العربية وممثلا لسوريا في هيئة الأمم المتحدة حتى سنة 1957، وبعدئذ اختارته المملكة العربية السعودية ليكون وزير دولة وممثلا لها في الهيئة نفسها، وظل كذلك حتى عام 1963، وقد كان لمواقفه الحرة الجريئة فوق منبر الهيئة الدولية، على مدى خمس عشرة سنة، في نصرة قضايا الحق والتحرر حيثما كانت، أن دأبت وسائط الإعلام الغربية على الإشارة إلى أن الشقيري عضو مستقل بذاته، فكان بذلك شخصية فريدة في تاريخ هذه الهيئة العالمية.
في أواخر عام 1963، وقع الاختيار على أحمد الشقيري ليشغل مقعد ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية الذي شغر بوفاة السيد أحمد حلمي، فبادر الشقيري من موقعه الجديد إلى القيام بزيارات متتابعة واتصالات مكثفة استمرت عدة شهور مع تجمعات الشعب الفلسطيني ومع الحكومات العربية، إلى أن توِّج سعيه وجهده في عام 1964 بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي جسدت كيان الشعب وآماله وأرست مبادئه في ميثاقها الوطني.
وقد انبثق عن هذه المنظمة جيش التحرير ومركز الأبحاث وغيرهما من المؤسسات في مدة قصيرة لم تتجاوز الثلاث سنوات. وفي أواخر عام 1967 استقال الشقيري من رئاسة المنظمة نتيجة لظروف عربية معينة ... وعكف بعد ذلك على وضع مذكراته والعديد من المؤلفات القومية مساهما في خدمة القضية التي عاش من أجلها بفكره وعلمه، وعرض آرائه وخبراته في اللقاءات المختلفة مع المواطنين والمسؤولين. وبقي كذلك إلى أن انتقل إلى جوار ربه.(1/4)
وامتثالا لوصيته، دفن بجوار ضريح الصحابي البطل أبي عبيدة بن الجراح، فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس. ولعله إختار أن يرقد على امتداد تراب فلسطين السليبة في صحبة أمين الأمة، ليدعو الأمة العربية إلى استلهام روح الأمانة والتحرير، والاقتداء بسير الفاتحين الأولين. وبهذا فإن أبا مازن قد ظل يعمل في سبيل القضية المقدسة حتى في اختياره لمدفنه، ويبقى في خدمتها بعد مماته.
الشقيري الذي عاش لقضية وطنه بكل فكره وقلبه وجوارحه لم يتحمل قيام الرئيس أنور السادات بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الإسرائيلي. فقضت مشيئة الله- أوهي رجته- أن يصاب على إثر ذلك بمرض عضال في دماغه. ثم قضت مشيئة الله- أو هي رحمته أيضا- أن يفارق الحياة في فجر يوم 26/2/1980. قبل ساعات معدودة من قيام أول سفير للعدو بتقديم أوراق اعتماده للسادات نفسه !!
وفي اللحظة التي كنت أكتب فيها هذه المقدمة حملت الأنباء اغتيال الرئيس السادات الذي كان الأستاذ الشقيري قد بعث إليه برسالة ينصحه فيها بألا يوقع مع العدو الصهيوني أية وثيقة مهما كانت الظروف وذلك من أجل الحفاظ على حقوق الشعب العربي الفلسطيني. وقد اختتم رسالته إليه بقوله:
كتبت لسيادتكم هذه الرسالة بعد صلاة الفجر ويداي مرفوعتان إلى السماء، تضرعان إلى الله بأن يهيئ لك من أمرك رشدا وأن يخرجك مما أنت فيه مخرج صدق. واذكروا قول الله تعالى في كتابه الكريم:
"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجونً" صدق الله العظيم.(1/5)
كان الشقيري من خلال المراكز التي تبوأها والفرص التي سنحت له يعمل للدفاع عن قضايا الأقطار العربية في الشمال الإفريقي التي كانت تطالب بحريتها واستقلالها وثارت من أجلهما، وهي ليبيا، تونس، مراكش، والجزائر التي امتدت ثورتها الأخيرة على الاستعمار الفرنسي لمدة ست سنوات متواصلة تُوِّجت بالنصر وتحقيق الأماني، كما كان يذود عن الشعوب المضطهدة المغلوبة على أمرها ويسعى لكسب التأييد لمطالبها ... لإيمانه العميق بحقوق الإنسان وبما وهب من سعة اطلاع ومعرفة وقوة حجة وطلاقة لسان.
ومن تجاربه الطويلة في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تأكد له أن فلسطين لن تعود عن طريق القرارات والمفاوضات، وإنها لن تحرر إلا بمثل واحدة من تلك الفتوحات التي عرفها التاريخ الإنساني. لأن العدو الصهيوني أذناه لا تسمع وعيناه لا ترى إلا ما هو لصالحه، ولأن حق الرفض "الفيتو" الذي يستعمل في مجلس الأمن من قبل أي عضو من الخمسة الكبار يحول دون فرض أية عقوبة، وهذا ما تلجأ إليه الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لإسرائيل لوقايتها من العقوبات..مما حال خلاف نيف وثلاثين سنة بين الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة ... . وقد ذكر الشقيري في أحد مؤلفاته السابقة أن الصهيونية العالمية قوة ديناميكية هائلة لا يمكن أن يقف في وجهها إلا الوحدة العربي ... جيش عربي واحد ... لدولة اتحادية واحدة ... دولة حول إسرائيل على الأقل. وأشار بأن الوحدة العربية هدف مقدس، وهي ليست وحدة إمبراطورية أو إمبريالية، لأن العرب أمة واحدة، لها تاريخ مشترك ولغة وآمال واحدة، وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل هو إقامة دولة كبرى من الفرات إلى النيل..علينا أن نقيم دولة الوحدة من الفرات إلى النيل.(1/6)
صور شتى ومتزاحمة تمر في خاطري وأنا أكتب هذه المقدمة، ولعل من أبرزها زيارة الشقيري إلى الصين في آذار عام 1965 على رأس أول وفد لمنظمة التحرير الفلسطينية كنت أحد أعضائه، حيث وقع أول بيان رسمي مع الرئيس شوان لاي اعترفت الصين بموجبه بالمنظمة وسمحت لها بإنشاء أول بعثة دائمة في بكين، وبهذا تكون الصين أول دولة أجنبية تعترف بمنظمة التحرير. ويومها خطب الشقيري في عشرات الألوف من أبناء الشعب الصيني الذين جلسوا صفوفاً ليستمعوا إلى هذا اللاجيء الفلسطيني الذي جاء إلى بلادهم طالبا السلاح ومساندة الثورة الفلسطينية .ومحمِّلا الاستعمار والصهيونية وزر ما أصاب عرب فلسطين من اضطهاد وظلم واغتيال لحقوقهم الإنسانية.
ومما قاله الشقيري:
"فلسطين أرضنا نحن الشعب العربي الفلسطيني، إنها جزء لا يتجزأ من أرض الأجداد الممتدة من المحيط إلى الخليج، وببساطة فإن فلسطين عربية كما أن الصين صينية.
نحن الشعب العربي الفلسطيني شعب قديم مثل شعبكم، عشنا في فلسطين منذ التاريخ وقبل التاريخ المسجل. حرثنا الأرض مثلكم , وبنينا مدننا وقرانا، ملكنا أرضنا باستمرار بعرقنا ودموعنا وجهدنا، ولكن وجودها على مفترق القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا جعلها محط أنظار الغزاة، غزاها العبرانيون والفرس والرومان واليونان والصليبيون وغيرهم وصمدنا، وخرج الغزاة، وأخيرا جاء الإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى وجلبوا معهم الخراب والدمار والهجرة اليهودية التي حدثتكم عنها، ولا أغالي إذا قلت أن ثلاثة أرباع شعبنا من اللاجئين ووفدنا الموجود بينكم الآن ممثل شعب فلسطين هو منهم، وطبيعتنا كلاجئين تعني أن قلوبنا حزينة ولن يعود لها انشراحها إلا إذا عدنا إلى بلدنا فلسطين، وسيظل شعبنا يقاوم الظلم إلى أن تعود إليه حقوقه ويسترد أراضيه وحريته لأن قوة الشعب أقوى من مختلف الأسلحة التي اخترعها الإنسان".(1/7)
في كتابه هذا أراد الشقيري أن يرد على خطاب الإرهابي مناحم بيغن الذي وجهه للشعب المصري عن طريق الإذاعة والتلفزيون في اليوم الحادي عشر من شهر تشرين ثاني-نوفمبر عام 1977 إثر إعلان الرئيس السادات حاكم مصر عن استعداده لزيارة الأرض المحتلة ولقائه بقادة إسرائيل وزعمائها من أجل تحقيق سلام عادل وشامل في المنطقة كما خيل له ... !!!!
وقد جاءت أهمية كتاب "خرافات يهودية" أن مؤلفه العالم المطلع على بواطن الأمور قد اعتمد في تحليله وآرائه على نصوص التوراة لنسف ادعاءات مناحم بيغن من أساسها وليثبت أن عروبة فلسطين قديمة قدم الزمن قبل مجيء الغزاة الإسرائيليين وانتزاعهم لجزء من أراضيها وقيام مملكة عابرة قصيرة الأجل فيها، وليؤكد أن الحق الإلهي التاريخي الذي يتشبث به الصهاينة لا وجود له، ومثلهم في هذا "كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" صدق الله العظيم.
فمتى كانت مصر وإسرائيل حليفتين صديقتين عبر التاريخ، ومتى حرر اليهود فلسطين "بلدهم" على حد تعبير الإرهابي مناحم بيغن من الإنجليز؟؟
ومن ذا الذي تحالف مع الفرس في التاريخ القديم ضد مصر، ومن سرق حلي النساء المصريات عند الخروج؟؟
ومن الذي أتاح الفرصة لإقامة وطن قومي لليهود بفلسطين وفتح أبوابها لهجرة صهيونية عارمة، ودرّب رجالها على القتال ومنحهم السلاح والحماية والامتيازات؟؟
ومن الذي فتك بالشعب الفلسطيني وأضعف قواه وسلبه أرضه وممتلكاته وشرّده عن وطنه ... ؟؟
كل هذه الأمور الخطيرة يجدها القارئ في هذا الكتاب الوثائقي القيم الذي ضم بين دفتيه خمسة عشر فصلا أظهر فيها الأستاذ الشقيري الحقيقة ... "ومن توراتك أدينكِ يا إسرائيل".
وختاما فإنني أقدر للأستاذ الشقيري كل التقدير ما جاء بكتابه الذي صور حقيقة زيف الصهيونية ومبادئها. فقد بيّن للناس أن هؤلاء الغزاة يطبقون الجانب الجهنمي من التوراة!(1/8)
ومن يمعن قي قراءة هذا الكتاب، حتى من الصهيونيين أنفسهم، يجد أن الأستاذ الشقيري كان باحثا منصفا.
من أجل ذلك فإنني أحث كل عربي ومسلم أن يطالع "خرافات يهودية" بتأمل وإمعان ليعرف حجم الخطر الذي يهدد مصير الأمة العربية بأسرها.
رحمك الله أبا مازن وأجزل لك الثواب، بقدر ما قمت به من خدمات قيمة لفلسطين ووطنك العربي الكبير، وفي هذا فليتنافس المتنافسون ... !!
عمان في 6/10/1981
جميل بركات
عضو المؤتمر الفلسطيني الأول
لمنظمة التحرير الفلسطينية
خطاب بيجن..
رئيس وزراء العدو
إلى الشعب المصري في 11/11/1977
يا مواطني مصر، هذه هي المرة الأولى التي أخاطبكم فيها مباشرة، ولكنها ليست المرة الأولى التي أفكر فيكم وأتحدث عنكم. فأنتم جيراننا وهكذا ستكونون دائما.
وطوال السنوات التسع والعشرين الماضية، استمر نزاع مأساوي لا ضرورة له بالمرة بين بلدكم وبلدنا. فمنذ الوقت الذي أمرت فيه حكومة الملك فاروق بغزو أراضينا، أرض إسرائيل، كيما تخنق ما استعدناه حديثا من حرية واستقلال، نشبت أربع حروب كبيرة بينكم وبيننا، وأريقت دماء كثيرة على الجانبين. ويتمت أسر كثيرة وحرمت من آبائها في مصر وإسرائيل. وإذا تأملنا الأحداث الماضية نعلم أن جميع تلك المحاولات الرامية إلى تدمير الدولة اليهودية كانت بلا جدوى، وكذلك كانت التضحيات التي دعيتم لتقديمها في الأرواح، في التنمية , في الاقتصاد، في التقدم الاجتماعي. كل هذه التضحيات التي لا ضرورة لها كانت أيضا بلا جدوى. وإني أقولها لكم، أيها الجيران، إنه هكذا سيكون الحال في المستقبل.
ينبغي أن تعلموا أننا عدنا إلى أرض أجدادنا، وأننا نحن الذين حررنا البلد من الحكم البريطاني وأقمنا استقلالنا في أراضينا لصالح كافة الأجيال المقبلة.(1/9)
ونحن نود لكم الخير. فالواقع أنه لا يوجد سبب أيا كان للأعمال العدوانية بين شعبينا. وفي العصور القديمة، كانت مصر وإسرائيل حليفتين، صديقتين، وحليفتين حقيقيتين ضد عدو مشترك قادم من الشمال. نعم لقد حدثت في الحقيقة تغييرات كثيرة منذ تلك الأيام، ولكن ربما لا يزال الأساس الفعلي للصداقة والمساعدة المتبادلة قائما.
ونحن الإسرائيليين نمد يدنا إليكم ويدنا كما تعلمون ليست يدا ضعيفة، وإذا ما هوجمنا فإننا ندافع دائماً عن أنفسنا، كما فعل أجدادنا المكابيون وانتصروا.
ولكننا لا نرغب في أية صدامات معكم. فلنقلها الواحد للآخر، وليكن قسماً صامتاً من شعبيْ مصر وإسرائيل: ألا أن تقوم حروب أخرى ولا يراق مزيد من الدماء، ولا يكون هناك مزيد من التهديدات. هلم بنا، لا لنقم السلام فحسب، بل ولنبدأ على طريق الصداقة والتعاون المخلص والمنتج ...
فبإمكاننا أن يساعد كل منا الآخر، وبإمكاننا أن نجعل من حياة شعبينا حياة أفضل وأيسر وأسعد.
لقد أعلن رئيس جمهوريتكم قبل يومين أنه مستعد للمجيء إلى القدس، إلى برلماننا-الكنيست-إذا كان ذلك سيمنع أن يصاب جندي مصري واحد. وهذا بيان طيب، وقد رحبت به بالفعل، ويسعدنا أن نرحب برئيس جمهوريتكم وأن نستقبله بالضيافة التقليدية التي ورثناها أنتم ونحن من أبينا المشترك إبراهيم. وأنا من جانبي سأكون بالطبع مستعداً للحضور إلى عاصمتكم القاهرة لنفس الهدف: لا مزيد من الحرب-السلم- السلم الحقيقي والى الأبد. لقد بينت السورة الخامسة من القرآن الكريم حقنا في هذه الأراضي وجعلته مقدسا. هل لي أن أتلو عليكم هذه السورة الخالدة. وإذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء.. يا قوم، ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" ... (السورة الخامسة الآية رقم 21 –المائدة).(1/10)
وبهذه الروح من إيماننا المشترك بالله، وبالرعاية الإلهية، وبالحق والعدل، وبكل القيم الإنسانية العظيمة التي تركها فيكم النبي محمد وأنبياؤنا. موسى وأشعيا، وجيرمياه وحزقيال- بهذه الروح الإنسانية أقول لكم من أعماق قلبي: شالوم. وهذه تعني" صلح " . بالمقابل "صلح" يعني شالوم.
الفصل الأول
لستم أبناء إبراهيم..
أنتم أبناء إبليس
من كلام السيد المسيح إلى اليهود
لستم أبناء إبراهيم..
أنتم أبناء إبليس
في اليوم التاسع من شهر نوفمبر (تشرين ثاني) من عام 1977، أطلق الرئيس السادات من مجلس الشعب المصري مبادرته الشهيرة، ولا حاجه بنا أن نذكر تفاصيلها فقد نقلتها الأقمار الصناعية وأجهزة الإعلام العالمية إلى جميع أرجاء العالم، وكذلك فإنه لا حاجة بنا أن نخوض في تحليلها وتقييمها، فإن الحكم العادل بشأنها موكول إلى نهايتها، وما أعظم أسلافنا القدامى حين
قالوا : الأمور بخواتيمها .. وهذا هو أعف ما يقال بشأن هذه المبادرة وكفى.
غير أن هذه المبادرة قد فجرت مبادرات إسرائيلية ضخمة، في مجال الإعلام والسياسة معا، وراح العالم يصغي إلى مهرجانات خطابية، عربية وإسرائيلية، حيث يدلي كل فريق بمطالبه ودعاواه، شارحا أسانيده وحُججه.
وجاءت أولى المبادرات الإسرائيلية، في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، مباشرة بعد يومين من مبادرة الرئيس السادات، وكانت لا تزال ساخنة، تعوج وتموج في أرجاء العالم الفسيح ... وكأنما كانت إسرائيل على موعد مع مبادرة القاهرة ساعة بساعة ...
ففي عشية ذلك اليوم، تأبط، مناحيم بيجن رئيس وزراء العدو ذراع المبادرة المصرية.. وصعد بها إلى الأقمار الصناعية الأمريكية ليذيع إلى الشعب المصري خطابا يتحدث فيه عن موقف إسرائيل من مواضيع الساعة التي تستأثر باهتمام الرأي العام العربي والدولي على السواء ...(1/11)
وفي مثل وميض البرق أرسلت إسرائيل النص الكامل لهذه الخطاب إلى الأمم المتحدة، باللغات الثلاثة العربية والإنجليزية والعبرية، يوزع على أعضاء الأمم المتحدة كوثيقة دولية.
والمواطن العربي القومي، الحريص على حاضر الأمة العربية ومستقبلها، يجب أن ينصرف بالضرورة إلى دراسة خطاب العدو الإرهابي مناحيم بيجن، تاركا خطاب الرئيس السادات جانبا، فالخطاب الإسرائيلي يكشف عن مواطن الخطر العدواني الرهيب، على حين أن العربي يلهث وراء سراب لا يكاد يصل إليه حتى ينجذب إلى سراب جديد في الأفق البعيد.
وخطاب رئيس وزراء العدو، ليس طويلا ولا عريضا، ولكنه عميق الأغوار، عبأ فيه صاحبه كل ما يريد أن يقوله لمصر وللعرب، والرأي العام الدولي.. وفوق ذلك فإن مناحيم بيجن قد استخدم أقل العبارات والألفاظ لإبراز أضخم الأهداف، ومن كان له أذنان للسمع فليسمع، ومن كان لا يعجبه ما يسمع، فليشرب البحر ... وهو غير بعيد، فهناك الأبيض وهناك الأحمر، وللناس فيما يشربون مذاهب.
وبكلمة موجزة، فإن خطاب رئيس وزراء العدو، يمثل في تعبير العصر الحديث "كبسولة" صغيرة تحتوي القضية الصهيونية برمتها، ومن هنا كان الاهتمام به أجدر وأجدى ... وأصبح الواجب القومي يقتضي منا أن نقرأه بتدبر وروية وأن ندرسه بتعمق عميق، كشفا عن أغواره البعيدة وأباطيله المختلفة واحدة واحدة ... والقضية الصهيونية ركام من الأباطيل اكتست مع الزمن والتكرار والإصرار رداء من الحق والحق بعيد عنها بعد النجوم والأفلاك.
ومما يحمل على الأسف أن المبادرة المصرية قد لقيت تأييداً أو تنديداً من الإعلام العربي بكل فنون الإعلام، شعراً ونثرا، وفقها وتاريخا، مما لا يقع تحت حصر، ولم تلق خطبة العدو الإسرائيلي جوابا ولا ردا.. وكان الرد الوحيد الذي ظفر به خطاب رئيس وزراء العدو، ما قالته إحدى الصحف العربية "برشاقة وأناقة".. إنه لا يستحق الرد "لأننا معنيون بالحاضر والمستقبل، وأن الماضي قد أصبح ملك التاريخ".(1/12)
والعناية بالمستقبل، دون الالتفات إلى الماضي هي أول بوادر الهزيمة في المعركة ... لأن القضية بالأصل، بيننا وبين إسرائيل تقوم على الماضي ... وهذا الماضي هو الذي صنع الحاضر، ... والحاضر هو الذي سيصنع المستقبل، ولكن في مزيد من الشر ما بعده مزيد ...
والمواطن العربي، القارئ كل أدبيات الصهيونية، ولكل منطقيات سيدتها الكبرى أمريكا، يرى باستمرار وإصرار أن الصهيونية وأمريكا تناشدان العرب على الدوام نسيان الماضي بكل مآسيه، والتطلع إلى مستقبل ينعم بالإزدهار.
وقد كانت على الدوام مناشدة الاستعمار إلى جميع الشعوب المناضلة لتحقيق حريتها وسيادتها، التخلي عن الماضي، واعتماد الواقع القائم، وبناء حياة جديدة ولكن على أساس هذه الواقع..
ولو أن الحركات التحريرية في العالم قد ألقت بالها إلى هذه المناشدة وأمثالها، لم تتحقق للشعوب المغلوبة على أمرها حرية ولا سيادة، ولبقي الاستعمار جاثما على صدر القارات القديمة في هذا العالم ...
وفي مسيرة الصهيونية وهي تحقق انتصاراتها مرحلة بعد مرحلة كانت دائما تدعو كلما أثيرت مناسبة لتحقيق تسوية سلمية، إلى نسيان الماضي، والانطلاق من الواقع الذي وصلته الصهيونية دون أن تتراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء ولا تفتأ الصهيونية تحقق الواقع بعد الواقع، مرحلة بعد مرحلة ... ويكون الواقع الجديد دعوة متجددة لنسيان الماضي والأخذ بالواقع الجديد، وهكذا دواليك.. !!
ومن هنا، تبدو المفارقة حزينة ومفجعة في موكب هذه المبادرات العربية والإسرائيلية، حينما يسمع المواطن العربي دعوة واحدة من الطرف العربي والطرف الإسرائيلي معا وفي وقت واحد.. هذه الدعوة تقول بالعبرية والعربية، دعونا ننسى الماضي نحن أبناء اليوم ولننظر إلى المستقبل.. وفي هذا القول وحده تصفية وتسوية قبل الدخول في التسوية.(1/13)
وموقف اللاّردّ ، أو اللامبالاة من الجانب العربي، له أبعاده الخطيرة على الصعيدين العربي والدولي، وخاصة أن الجانب الإسرائيلي يصر على التحدي، والجانب العربي لا ينهض للتصدي.
وعلى الصعيد العربي فإن الخطر العربي يتمثل في أن المواطن العربي لا يسمع رداً عربيا على التحدي اليهودي ... وهذا يفضي في النهاية إلى ضعف القضية العربية وتراخي أصحابها في الدفاع عنها..
أما على الصعيد الدولي، فإن القضية الصهيونية تزداد إقناعا لدى الإنسان العادي في العالم ، ولماذا يكترث العالم إلى قضية، أي قضية لا يدافع عنها أصحابها.
ومن هنا فإن عدم التصدي لخطاب رئيس وزراء العدو، وعدم مطاردته الحجة بالحجة، تماما كمطاردة العدو في الميدان حتى يسقط على الأرض إعياء وإغماء، إنما هو خطأ فادح، وإثم قومي لا يغتفر، وذلك أكثر الألفاظ تهذيبا ورأفة ورحمة ...
ومما يزيد في خطورة الأمر، أن خطاب بيجن قد جاء في أعقاب خطاب الرئيس السادات، وفي موكب إعلامه وكأنهما طرفان لقضية واحدة، عادلة وشريفة!!
ولقد يبدو خطاب رئيس وزراء العدو، في قراءته السريعة، أنه يردد كلاما عاديا ومعادا ولكن الحقيقة غير ذلك، فإنه في ظاهره كالأفعى ناعم الملمس وفي أنيابه العطب.. والخشية الخشية أن تتخذ الأفعى من بيوتنا جحورا لها ... ومن بيوتنا تنساب إلى عقولنا وأفئدتنا .
وقد وردت في خطاب مناحيم بيجن مقولات خطيرة، تجدد الدعوى الصهيونية وتؤكدها، ولا يصح أن تمر من غير مناقشة أو تفنيد، حرمة للحق والتاريخ معا، وذودا عن القضية العربية وعن قضية فلسطين بالذات، وخاصة في هذه الأوقات حيث تجري محاولات استعمارية جادة لإفراغها من مضامينها القومية، وقدسية موقعها في ضمير الأمة العربية ووجدانها.(1/14)
ولكن أخطر هذه المقولات التي تصل إلى حد الترهات هو ما ورد في آخر خطاب مناحيم بيجن حين أعلن للشعب المصري قوله "وسيسعدنا أن نرحب برئيس جمهوريتكم وأن نستقبله بالضيافة التقليدية التي ورثناها أنتم ونحن من أبينا المشترك إبراهيم".
ولا شك أن عبارة "الضيافة التقليدية" التي يتمسح به مناحيم بيجن تثير الغضب على هذا الكذب، فإن الذين نهبوا ثروات الشعوب بالربا والابتزاز والاختلاس ناهيك عن الوسائل الأخرى المنافية للشرف والقيم الأخلاقية، وكذلك فإن الذين اغتصبوا وطنا بكامله وسرقوا ممتلكات الشعب الفلسطيني من مدنه إلى قراه، إلى مزارعه إلى مصانعه، إلى فراشه وأثاثه، إلى مدخراته ومقتنياته، هؤلاء إنما يوجهون أكبر إهانة لكلمة "الضيافة" حينما يلوكونها بألسنتهم..ومتى كانت اللصوصية الدولية كرما وضيافة ...
ولكن قصة أبينا المشترك إبراهيم على حد تعبير مناحيم بيغن لا بد أن نفرد لها هذا الفصل لانها تنطوي على أكبر أكذوبة عرفها التاريخ الانساني وهي أكذوبة افتراها أخبار اليهود لأغراض سياسية ودسوها في كتبهم الدينية ومنها انتقلت إلى مراجع تاريخية ومضت تكرر عبر العصور والأجيال حتى غدت من المسلمات في الثقافة العامة الشائعة .
وهذه الأكذوبة لا يشفع لها قدم الزمان الذي ترجع إليه، فإن سطحية الأرض قد امتدت زمنا طويلا ثم ما لبث العالم أن أسقطها إلى الأرض من غير هوادة ولا رحمة.
وآية العجب العجاب أن يتولى مناحيم بيجن بنفسه ترديد هذه الأكذوبة، ناسياً نفسه إلى إبراهيم، وهو آخر يهودي على وجه الأرض يستطيع أن يرفع نسبه إلى إبراهيم.. ويربط قرابته بالشعب المصري وبالأمة العربية عن طريق أبينا المشترك إبراهيم.(1/15)
وحسبنا، كرّد أوَّلي على الأكذوبة،أن نرجع إلى كتاب "الثورة" الذي وضعه مناحم بيجن عن حياته الإرهابية في فلسطين، لنرى أن سفاح دير ياسين، قد كتب بيديه الملطختين بدماء الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال، أنه ولد في بولونيا، وأنه دخل إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية الثانية في غمرة من يسمون بالمهاجرين اليهود غير الشرعيين.
وفي فلسطين اليوم ما يقارب نصف سكان إسرائيل، من هم على شاكلة مناحيم بيجن، من مواليد بولونيا ورومانيا وهنغاريا وألمانيا وروسيا وكثير من بلدان العالم، وجميع هؤلاء لا يستطيعون أن يرتقوا إلى أبوة إبراهيم عبر رحلة تاريخية طويلة تقرب من أربعة آلاف عام هلكت خلالها أقوام، وبادت دول، وتشتت أمم، وانصهرت في غضونها شعوب وشعوب.
ولو أن أحداً من يهود اليمن قد زعم الذي أعلنه مناحيم بيجن، لكانت بين يديه قلامة ظفر من شبهة تاريخية في أنه تحدر من ملوك حمير الذين اعتنقوا اليهودية في سالف العصر والزمان، وإن كان هؤلاء ليسوا من مواليد إبراهيم، فالثابت أنهم كانوا من وثنيي العرب، وما حل إبراهيم في ديارهم.. فالحجاز كانت آخر ما وصل إليه إبراهيم في رحلاته ...
وكذلك لو أن أحداً من يهود العراق قد انتحل النسب إلى إبراهيم، لكان له خيط نحيل من الشك في أنه من بقايا السبي البابلي، أو السبي الآشوري ومن هنا جاءت الصلة بإبراهيم.
بل لو أن أحداً من يهود المغرب أو تونس أو مصر قد نادي بأبوة إبراهيم، لأنصرف الظن أنه من يهود الأندلس الذين عاشوا مع العرب وشاركوا في الحكم ومجالات العلم والاقتصاد، ثم هاجروا منها إلى الوطن العربي بعد أن استعاد الإسبان أرضهم.
أما أن يتمسح مناحيم بيجن بأعتاب إبراهيم، فذلك هو الباطل الصارخ، بل هو باطل الأباطيل، على حد تعبير سليمان الحكيم.(1/16)
ومن حق المواطن العربي أن لا نقف عند حدوده هذ الردود المنطقية الحاسمة فلا بد لنا أن نكشف عن الحقيقة بكل أبعادها وأطرافها، حتى لا تبقى في الأمر شبهة ... وخاصة أن بعض "قادة العرب" ولا نريد أن نشير إليهم بأسمائهم، يتحدثون ومعهم أجهزة إعلامهم، عن "اليهود أبناء عمومتنا" وهم يحسبون أنهم بذلك يثبتون أنهم قوم متحضرون، وأنهم يعرفون درجة القرابة بيننا وبين اليهود.. وهي قرابة لا تنحدر إلا من الجد الأعلى آدم عليه السلام، لا من إبراهيم ولا من أبناء إبراهيم، فإن آدم هو أبو البشر، الأخيار منهم والأشرار.
وقد يبدو لأول وهلة، أن هذا الكلام نرسله جزافا من غير دليل علمي أو برها ن تاريخي .. ولنرجع إلى العلم و إلى التاريخ، بل فلنرجع أولا إلى التوراة وهي كتاب اليهود دينا، ودستور الصهيونية حركة وسياسة وعقيدة وهدفا ...
وخلاصة ما ورد في التوراة بشأن القرابة التي نحن بصددها أن اليهود هم ذرية يعقوب ومن أبنائه الذكور الإثني عشر ... وأن يعقوب هو ابن اسحق، واسحق بن إبراهيم ... وفي القصص اليهودية أن يعقوب له اسم آخر وهو "إسرائيل " ويعني جندي الله، ومن هنا يسمى اليهود بني إسرائيل ...
وسنعرض لهذا الموضوع، وتعقيداته والتواءاته في مواضع أخرى من هذا الكتاب.. وأول ما يجب أن نلفت إليه النظر، أن إبراهيم اليهود هو غير إبراهيم المسلمين، فالأول، كما هو في توراة اليهود، يختلف اختلافا تاما عن إبراهيم المسلمين.
وإبراهيم المسلمين ورد ذكره عدة مرات في القرآن الكريم، وصورته الرائعة في هذه السور الجميلة قد بلغت أرقى درجات الكمال الإنساني، وصفات التوحيد، وسمو القيم الروحية الرفيعة، ومن هنا فهو عند المسلمين "أبو الأنبياء" و "خليل الرحمن" و "أبو الضيفان"، وفي الصلاة في قراءة "التحيات" يدعو المسلمون قائلين: اللهم بارك على سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم. يرددونها في كل صلاة.(1/17)
أما إبراهيم اليهود فإنه شخص آخر لا يمت بصلة إلى إبراهيم المسلمين، وها هي التوراة بين أيدينا لنتعرف على سيرة إبراهيم كما وردت في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة.
إبراهيم –أو إبرام كما ورد في التوراة قبل أن يتحَّول اسمه إلى إبراهيم-ولد في أور (1) "الكلدانيين" أما آباؤه فقد ذكرت التوراة أنهم يرجعون بنسبهم إلى سام ابن نوح ...
وتقول التوراة في الإصحاح الحادي عشر عن بداية القصة، أن "تارح" والد إبرام قد خرج من أور الكلدانيين إلى حاران (2) . ومعه أسرته الصغيرة، ابنه إبرام وزوجته ساراي، وابن أخيه لوط وزوجته ملكة. وأقاموا هناك وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين ومات في حاران".
وجاء في الإصحاح الثاني عشر أن الرب قال لإبرام :" اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة ... وفيك تتبارك جميع قبائل الأرض ... فذهب إبرام كما قال له الرب ... وكان ابن خمس وسبعين سنة حين خرج من حاران".
ثم تذكر التوراة أنهم " أتوا أرض كنعان ومعهم ذخائر وعبيد وماشية.. واجتاز إبرام في الأرض إلى مكان شكيم-نابلس-وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض" وتحدثت التوراة بعد ذلك عن تجوال إبرام في الأرض.
وتقول التوراة فيما بعد أنه "حدث جوع في الأرض وكان شديدا"، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب فيها، معه زوجته ساراي.. وكانت حسنة جدا كما تؤكد التوراة.. وهنا تأتي قصة خليعة لعلها أقدم قصة مدونة في تاريخ "الأدب" المكشوف ...
__________
(1) * مدينة أور تقع أطلالها غربي مدينة الناصرية بالعراق، وكانت مركز عبادة القمر، ومن هنا كان عزوف إبراهيم عن عبادة القمر لأنه رآه من الآفلين كما ورد في القرآن الكريم.
(2) ** حاران" اسمها الآن حران تبعد ثلاثماية ميلا إلى الشمال الشرقي من دمشق.(1/18)
وخلاصة القصة كما ترويها التوراة، "أن إبرام قال لساراي امرأته وهي على مقربة من مصر.. إني علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فإذا رآك المصريون قالوا هذه امرأته فيقتلوني ويستبقونك.. قولي أنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك ... "!!
وذلك ما وقع فعلا، كما تروي التوراة "فلما دخل إبرام على مصر رأى المصريون أن المرأة حسنة جدا فأخذت إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء واثن جمال.. وضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة، ودعا إبرام وقال له :" ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت لي هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي.. خذها واذهب. ووكل به أناسا شيعوه إلى خارج الديار".
وهكذا فإن التوراة تقذف بزوجة إبراهيم ستنا سارة كما يسميها المسلمون إلى أحضان فرعون في فراشه، ليعود بها إبراهيم "مشيعا" خارج الديار، مجللا بالإثم والعار.. ويقينا فإن إبرام هذا هو جد اليهود حقا، وحاشا الله أن يكون جد المسلمين.. فالقصة إثم وعار في حق الأنبياء. إثم أن يتزوج الرجل اخته، وعار أن يبيع عرضه بالجمال والعبيد والحمير ... !!
ثم تروي التوراة في الإصحاح الثالث عشر أن الرب قال لإبرام :
... سأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضا يعد.."
وتتحدث التوراة بعد ذلك عن حرب محلية اشترك فيها إبرام، سنعرض لها في الفصول التالية. ثم يشكو إبرام في الإصحاح الخامس عشر إلى الرب قائلا :" إنك لم تعطيني نسلا.. فأخرجه الرب إلى خارج، وقال انظر إلى السماء وعد النجوم أن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك".(1/19)
ويستأنف الإصحاح السادس عشر قصة إبرام فقول :" أما ساراى امرأة إبرام فلم تلد له ... وكانت له جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراي لإبرام ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين ... فدخل إبرام على هاجر فحبلت.. فلما رأت ساراي أن هاجر حبلت أذلتها فهربت هاجر من وجهها ... فوجدها ملاك الرب على عين في البرية فقال لها: ... تكثيراً أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة وستلدين ابنا تدعين اسمه إسماعيل.. وكان ابرام ابن ست وثمانين لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام. (1) .
وقال الله " ها أنا أبارك إسماعيل وأثمره وأكثره كثيرا جدا، أثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة".
يبدأ الإصحاح السابع عشر حديثه قائلا " ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الرب وقال له.. سأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً.. و تكون أبا لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد اليوم إبرام بل يكون اسمك إبراهيم، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم ... وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمما، وملوك منك يخرجون، وساراي امرأتك لا تدعوها ساراي بل اسمها سارة وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجه وضحك وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة، وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة". ولم تقل لنا التوراة كيف سجلت ما قاله إبراهيم في "قلبه"!!
__________
(1) * إسماعيل أصله في اللغة القديمة (ليسع إيل) و (إيل) إله كنعاني معناه الإله الأكبر، وكان مولد إسماعيل في نحو عام 1794 ق.م في بلدة الشميلة بين بئر السبع والعوجا من إعمال فلسطين ,أما أمه هاجر فهي من (أم العرب) إحدى قرى بلدة الفرما إلى الجنوب الشرقي من بور سعيد.
وهاجر تعرف (بأم العرب) ويرجح أن يكون هذا هو سبب تسمية القرية على اسمها.(1/20)
وفي الإصحاح التاسع عشر تروي لنا التوراة قصة طريفة تقول أن الرب ظهر لإبراهيم وقال له "سيكون لامرأتك سارة ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء، فضحكت سارة في باطنها وقالت "أبعد فنائي يكون لي تنعمُ, وسيدي قد شاخ , فقال الرب لإبراهيم "لماذا ضحكت ساره , هل يستحيل على الرب شيء؟! ... في الميعاد أرجع إليك ويكون لسارة ابن فأنكرت سارة قائلة لم أضحك, لأنها خافت.. فقال الله: لا بل ضحكت." ...
وبسبب هذا الضحك بين سارة "وربها" فقد سمى المولود إسحق فهذا اللفظ معناه باللغة العبرية القديمة تضحك!! والحكاية كلها تدعو إلى الضحك فعلا. إذ كيف عرفت التوراة أن سارة قد انقطعت عنها "عادة النساء".. وكيف عرفت أن سارة ضحكت في باطنها من حديث الرب..!!
ويأتي الإصحاح العشرون ليكرر لإبراهيم نفس القصة المرذولة التي وقعت له مع فرعون مصر، لتكون هذه المرة مع ملك آخر هو ابيمالك ملك جرار وتقول التوراة "إن إبراهيم تغرب في جرار وأقام عند أبيمالك ملك الفلسطينيين، وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، وأخذ أبيمالك سارة.. وجاء الله إلى أبيمالك في الحلم وقال له : إنها متزوجة ببعل فالآن رد امرأة الرجل".
ودعا أبيمالك إبراهيم وعنْفه بغضب على فعلته، فقال له إبراهيم لقد خفت أن يقتلوني "من أجل امرأتي وبالحقيقة هي أختي، أبنة أبي(!!) غير أنها ليست ابنة أمي (!!) فصارت لي زوجة(!)" فأعطى أبيمالك إبراهيم غنما وبقراً وعبيداً وأماءً ورد إليه سارة امرأته ...(1/21)
وتنتهي القصة البشعة "بأعجوبة" طريفة تقول "أن إبراهيم صلى إلى الله فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه ,فولدن لأن الرب كان قد أغلق كل رحم لبيت أبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم". ويبدو أن "الرب" قد أغلق أرحام البيت الملكي بأسره، ليفتح رحم سارة فيما بعد، وقد بقيت ما بقيت من الأيام والليالي مع ملك جرار من غير خمار ولا إزار.
وفي الإصحاح الحادي والعشرين تأتي التوراة مباشرة لتقول أن الرب "افتقد سارة كما قال، وفعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته أسماه إسحق.. وكان إبراهيم ابن مئة سنة".
ويأتي بعد ذلك الإصحاح الثاني والعشرون ليروي قصة الفداء على نقيض ما يقول به الإسلام في القرآن . فالضحية في التوراة هو إسحق وليس إسماعيل ... وموقع الفداء هو في أحد جبال القدس لا في مكة، والتفاصيل الأخرى تكاد أن تكون متقاربة وتقول التوراة أن الرب قال لإبراهيم "من أجل أنك لم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر.. ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي" وسكن إبراهيم بعدها في بئر السبع. وعبارة "ابنك وحيدك إسحق" يجب أن تبقى في ذاكرة القارئ لنرى كيف أصبحت محور القضية اليهودية، بالإضافة إلى حصر الحكاية الفداء في إسحق دون إسماعيل".
ويقول لنا الإصحاح الثالث والعشرون أن سارة عاشت مئة وسبعا وعشرين سنة.. وأنها ماتت في حبرون في أرض كنعان- الخليل، وفي حوار مع أهل المدينة، ناشدهم إبراهيم أنه غريب ونزيل عندهم، ويرجو إبراهيم دفن سارة في مغارة حقل المكفيلة في حبرون في أرض الكنعان.(1/22)
ويقول الإصحاح الرابع والعشرون أن إبراهيم شاخ وتقدم في الأيام فدعا إليه اليعازر الدمشقي "عبده وكبير بيته " وقال له "ضع يدك تحت فخذي فاستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لإبني-اسحق-من بنات الكنعانيين الذي أنا ساكن بينهم، بل إلى أرضي والى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني أسحق".. وليلاحظ القارئ استمرار التركيز على إسحق دون اسماعيل كما عليه أن يلاحظ روح العداء على الكنعانيين وبناتهم، وهم أهل البلاد وأصحابها الشرعيون.
وتمضي التوراة في عدة صفحات لتروي قصة طريفة مليئة بالمفاجآت تنافس الأساطير القديمة سردا وتخريفا ونسيجا ...
وخلاصة القصة كما يرويها الإصحاح الرابع والعشرون أن "عبد إبراهيم" ذهب على رأس قافلة من الجمال حتى وصل إلى أرام النهرين، حيث تسكن عشيرة إبراهيم، وكيف تعرف عند البئر على ابنة ابن أخي إبراهيم " رفقة" وعلى كتفها جرتها، "وكانت الفتاة حسنه المنظر جداً. وعذراء(!!) لم يعرفها رجل" ولم تذكر لنا التوراة كيف عرفت ان رفقة كانت عذراء، وهي ما تزال عند البئر لم يمسسها بشر!!
ثم تمضي القصة فتروي حديث (عبد إبراهيم) مع رفقة، وكيف تم التعارف بينهما، وكيف دعته إلى البيت، وما كان من الحديث بينه وبين أبيها، وعن المهمة التي أوفده إبراهيم من أجلها، ثم كيف عرض العبد موضوع زواج إسحق من أهله وعشيرته ومن غير بنات الكنعانيين.
ثم تحكى القصة أمر الموافقة على الزواج وكيف أن رفقة وفتياتها ركبن الجمال قاصدين أرض الجنوب وكيف تم اللقاء مع إسحق.. فأدخلها إلى خباء أمه سارة، "وأخذ رفقة فصارت زوجة له وأحبها إسحق وتعزى بعد موت أمه".
ومع أن هذا الأسطورة تبرز الكراهية الشديدة التي يضمرها إبراهيم للبنات الكنعانيات إلا أن مرجعا تاريخيا مرموق يقول إن إبراهيم تزوج بعد وفاة سارة امرأتين كنعانيتين رزق منهما بأحد عشر ولدا (1) .
__________
(1) تاريخ الطبري، ج1، ص309-311.(1/23)
ويبدو أن إبراهيم قد أحب لنفسه ما كرهه لولده إسحق، أو أن الكنعانيات أصلح للشيوخ من الشباب!!
ثم يطالعنا الإصحاح الخامس والعشرون ليقول لنا أن إبراهيم أخذ زوجة أسمها قطورة فولدت له ستة أولاد وردت أسماؤهم ومعظمها على وزن فعلان وهو وزن عربي في الصميم، وولد الأبناء ثمانية أولاد ذُكرت أسماؤهم ... ويروي الإصحاح أن "إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة وأسلم روحه ومات بشيبة صالحة شيخا شبعان أياما وأنضم إلى قومه ودفنه إسحق وإسماعيل في مغارة المكفيلة حيث دفنت امرأته سارة.
ويذكر الإصحاح الخامس بعد ذلك مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية ... فذكرت أسماءهم بديارهم وحصونهم إثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم وعاش إسماعيل مئة وسبعا وثلاثين سنة وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه".
تلك هي قصة إبراهيم كما وردت في التوراة منذ مولده في أور الكلدانيين حتى هجرته إلى سوريا، والى فلسطين والى مصر ثم عودته إلى فلسطين وما تخلل ذلك مما جرى من حكايات لسارة ومعها، ثم وفاته فيها ودفنه في حبرون المدينة التي تحمل اسمه إلى اليوم مدينة خليل الرحمن ...
فأين هذه القصص اليهودية الخليعة من السيرة الإسلامية الطاهرة لسيدنا إبراهيم كما وردت في القرآن الكريم وفي كتب التراث الإسلامي وفيها من جليل المواقف ما يأخذ بمجامع القلوب.
أين هذه الفضائح الأخلاقية مما يسرده كتاب "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" حين يقول "رُوي عن ابن عباس أن إبراهيم كان أول من لبس السراويل لأنه كان من حيائه يستحي أن، ترى الأرض عورته" ولتكن الرواية أسطورة، ولكنها أسطورة تبالغ في الحياء والشرف والعفة (1) .
__________
(1) ج1، ص48.(1/24)
بل أين متاجرة إبراهيم بزوجته كما سردتها التوراة مما جاء في التراث الإسلامي "أن آزر أبا إبراهيم كان يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها، فكان إبراهيم يقول :" من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟" فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى النهر فصوب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه (1) فأي التاجرين أرفع وأروع في التاريخ الإنساني، التاجر الذي جاء ذكره في التوراة أم التاجر الذي جاء ذكره في القرآن؟.
بل إن حوار إبراهيم مع عقل إبراهيم ووجدانه، كما جاء في القرآن، يعتبر أعظم ما قصّه القرآن على مسامع الزمن، حين نظر إبراهيم إلى الكوكب فقال هذا ربي.. فلما أفل انصرف عنه وهو يقول: "لا أحب الآفلين ... " ثم رأى القمر بازغا فقال: "هذا ربي".. فلما غاب انصرف عنه وقال: "ولئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين" ... فلما طلعت الشمس فقال: "هذا ربي هذا أكبر" فلما أفلت انصرف عنها وقال لقومه: " إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاًوما أنا من المشركين" (2) .
وبعد، فإن قصة إبراهيم كما جاءت في التوراة تؤدي إلى استنتاجات هامة، تناقض الدعوى اليهودية من الرأس إلى الأساس، وتكفينا مؤونة الرد على بيجن من نص التوراة نفسها فهي في كلمة بسيطة تثبت بصورة قاطعة أن إبراهيم ليس جدا لليهود، فهو يكاد أن يكون "آدم" الثاني، جداً للإنسانية بأسرها وليس جداً لليهود وحدهم. ويكفي في هذا المجال أن نبرز النقاط التالية:-
أولاً:- أن الرب قد وعد إبرام أن "يجعله أمة عظيمة .. وأن جميع قبائل الأرض تتبارك فيه. وذلك حينما طلب إليه الخروج من العراق .. وواضح من هذا الكلام أن إبرام ليس خاصا بشعب واحد، اليهود أو غيرهم، ولكن لجميع قبائل الأرض ,وهذا يشمل البشر جميعا على وجه التعميم".
__________
(1) المرجع نفسه ص27.
(2) القرآن الكريم، سورة الأنعام.(1/25)
ثانياً:- حينما عاد إبرام من مصر أكد الرب أنه "سيجعل نسل ابرام كتراب الأرض" لا يستطيع أحد أن "يعده" وهذا لا ينطبق على اليهود لأن عددهم كان محدودا على مر التاريخ، وهم من أقل الأقوام عددا، ومفهوم التأكيد الإلهي أن نسل إبراهيم سيكونون بني البشر أجمعين.
ثالثاً:- وعاد الرب، في موضع لاحق من سفر التكوين، وأكد مرة أخرى أن "نسل إبراهيم سيكونون بعدد النجوم" إذا كان يستطيع أن يعدها، وكان الرب في المناسبة السابقة قد أشار إلى نسل إبراهيم "كتراب الأرض" والنجوم والتراب أقرب إلى عدد البشر أجمعين لا إلى شعب بذاته.
رابعاً:- ولم تقتصر توكيدات الرب على إبراهيم بل أنها شملت هاجر زوجة إبراهيم المصرية , فقد أعلن إليها الرب بعد أن ولدت إسماعيل "أن يكثر نسلها بحيث لا يحصى".
خامساً:- وبعد ميلاد إسماعيل يظهر الرب لإبراهيم ليعلن إليه توكيدات جديدة يقول له فيها "سأكثرك كثيراً جداً، وتكون أبا لجمهور من الأمم،
ويكون أسمك بعد اليوم إبراهيم فلا يكون إسمك بعد إبرام بل يكون أسمك إبراهيم، لأني جاعلك أبا لجمهور من الأمم وأثمرك كثيرا جدا، وأجعلك أمما", وهذه التوكيدات تشير كلها إلى أن إبراهيم هو الجميع القبائل والشعوب والأمم وأنه يكون أبا لهم جميعا ... وهذا هو السبب في تغير اسمه لأن لفظة "إبراهيم" في اللغات القديمة معناها "أبو الجمهور".
سادساً: وعادت توكيدات الرب لتشير إلى سارة فتذكر أن الرب قال لإبراهيم أن ساراى سيصبح أسمها سارة "أباركها وأعطيك منها إبنا، فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون"، وبهذا أصبحت سارة وكأنها الأم الثانية للبشرية، بعد حواء، كما أصبح إبراهيم الأب الثاني بعد آدم.
سابعاً: ولم تستطع التوراة أن تغفل إسماعيل ابن الجارية فقالت إن الرب "سيباركه ويثمره ويكثره كثيراً جداً، ويلد إثني عشر رئيسا ويجعله أمة كبيرة".(1/26)
ثامناً: ولا يفوتنا في هذا المجال أنه بالإضافة إلى الزوجتين سارة وهاجر فإن إبراهيم قد تزوج قطورة وكان له منها أولاد وأحفاد وتزوج امرأتين كنعانيتين أنجب منهما بنيناً وبنات.
تاسعاً: يبرز من هذه المقتبسات أن النزعة العنصرية عند اليهود قديمة قدم التاريخ، فإن إبراهيم اليهود، الذي أعلن عن نفسه أنه "غريب ونزيل" في مدينة حبرون وفي كنف الكنعانيين، يضمر كراهية شديدة للشعب الكنعاني، ويبعث بعبده إلى العراق، ليختار لإبنه إسحق زوجة من آل بيته ...
عاشراً: كما تبرز هذه المقتبسات إسحق بأنه بطل الفداء، وأن إسحق هو ابنه الوحيد مع أن إسماعيل هو إبنه الكبير ويكبره ثلاثة عشر عاما ... ولكن إسماعيل عربي الأم، واسحق هو أبو يعقوب، ويعقوب اسمه إسرائيل، وإليه ينتسب بنو إسرائيل، فكان لا بد لأحبار اليهود الذين كتبوا التوراة أن يدسوا في التوراة هذه الوقائع (1) .
حادي عشر: ويتبع ذلك أن الذين كتبوا التوراة قد جعلوا بيت المقدس لا مكة موضع الفداء، توكيداً على دعوى بني إسرائيل لبيت المقدس، وإن يعقوب الذي هو إسرائيل، كان بطل الفداء.. دون أن يكون لإسماعيل العربي، ابن هاجر المصرية، أي أثر أو خبر.
ثاني عشر: وقبل هذا وذاك فإن التوراة قد أغفلت أن إبراهيم هو عربي وابن قبيلة عربية. فهو من العراق، أور الكلدانيين، وكان العراق يستوطنه في ذلك العهد القبائل العربية التي نزحت من الجزيرة العربية وقد أوضح ذلك الأستاذ عباس العقاد في كتابه الشهير "إبراهيم أبو الأنبياء".
ثالث عشر: وأخيرا فإن التوراة تبرز نزوع اليهود إلى الإثراء الحرام.
بكل وسيلة، ولا حرج أن تكون الزوجة أو الشقيقة، هي الوسيلة، ولم يجد أحبار اليهود حرجا لإلصاق هذا العار بأبي الأنبياء، إبراهيم عليه السلام.
__________
(1) * سنشرح أمر التوراة وظروف تدوينها بيد أحبار اليهود في فصل آخر.(1/27)
ونخلص من هذا التلخيص السريع، كما نقرأه في التوراة نفسها، وهي كتاب اليهود المقدس، إلى أن نصيب اليهود في أبوة إبراهيم لا يتجاوز حفنة رمل صغيرة من رمال البحر، وما هو أقل من ذلك من تراب الأرض.
وقد جاء العلم الحديث ليخبرنا عن عالم الفضاء، أن نجومه لا تعد ولا تحصى وبهذا أصبح سهم إسرائيل في إبراهيم أقل من القليل، بل أقرب إلى العدم.
هذا ما تنتهي إليه الدراسة الصابرة للتوراة وهي تقودنا إلى الحقيقة الصائحة الصارخة إلى عنان السماء، بأن حديث بيجن عن صلة اليهود بإبراهيم تكذبه التوراة بنفسها ونصها.
ولكن هذا الفصل يظل ناقصا إذا لم نتناول ولو بصورة سريعة موقف المسيحية من هذه الأسطورة اليهودية، والسيد المسيح عليه السلام هو أصدق من يتكلم في هذه الموضوع، وقد تصدى السيد المسيح وهو يدعو إلى رسالة الخير والمحبة والسلام، لدعوى اليهود بأنهم أبناء إبراهيم وقام بينه وبينهم حوارعنيف يجد القارئ العربي تفاصيله الوافية في الأناجيل وهذه خلاصته.
كان المجتمع اليهودي قد بلغ أقصى درجات الإلحاد والانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي، وقد أثار ذلك في نفس السيد المسيح ثورة عارمة على الحياة اليهودية برمتها، وهو بنفسه يهودي المولد والنشأة، فانطلق يدعو إلى الثورة على أباطيل اليهود وخرافاتهم، فكان أعظم ثائر يهودي على مر العصور والأجيال.
وثار أول ما ثار على العقدة الكبرى في نفوس اليهود ألا وهي أنهم أبناء إبراهيم وأنهم في عصمة من العذاب والعقاب، وإنا لنجد في إنجيل يوحنا (الإصحاح الثامن) حواراً عنيفاً بينه وبينهم.
قال اليهود للمسيح: أبونا هو إبراهيم..
قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تفعلون أعمال إبراهيم ... ولكنكم تطلبون أن تقتلوني .. هذا لم يعلَّمه إبراهيم ... أنتم من أب هو إبليس".(1/28)
ولم يتردد السيد المسيح من أن يترجم غضبه من الوعظ والإرشاد، إلى الشدة والعنف فقد دخل الهيكل-معبد اليهودي، مرة ورأى فيه الصرافين وباعة الحمام فأخرجهم وهو يعلن في وجههم "لقد جعلتم بيت الله مغارة لصوص".
وفي جبل الزيتون الواقع شرقي بيت المقدس وقف السيد المسيح يبعث صيحاته الواحدة تلو الأخرى منذراً جموع اليهود بقوله "يا أورشليم،يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها، ولم يريدوا هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا (إنجيل متى الإصحاح 22).
وفي سفر أعمال الرسل يشتد الإنجيل على اليهود بكلام غليظ فيسخر من معتقداتهم وخاصة من موضوع الختان حيث يقول الإصحاح السابع "يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان..كما كان آباؤكم كذلك أنتم.. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا".
ويأتي بعد ذلك دور بولس الرسول، وهو من أبرز تلاميذ السيد المسيح وقد ولد ونشأ يهوديا، واضطهد المسيحية أول الأمر ثم اعتنقها وأصبح من أشد دعاتها وها نحن نراه في رسائله البليغة يدخل في حوار عنيف حاد مع جموع اليهود ويصيح في وجههم قائلا :" هل الله لليهود فقط؟ أليس للأمم أيضا" ثم يتحدث عن أبوة إبراهيم ويفرق بين "إبراهيم الجسد" و "إبراهيم الأعمال" في رسالة بولس إلى أهل رومية (الإصحاح الرابع ) وهو يؤكد بذلك أن الإنتساب إلى إبراهيم ليس بالدم ولكن بالأعمال الصالحة.(1/29)
يعود بولس الرسول لتوكيد هذه المعاني فيتحدث في رسالته إلى أهل كورنثوس (الإصحاح العاشر) عن "إسرائيل الجسد" وهو يعني بذلك أولئك الذين يزعمون أنهم من نسل إبراهيم ويردد في رسالته إلى أهل رومية قائلا :" لأنه ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون كل ذلك ليؤكد أن (أبوة) إبراهيم هي مسألة رمزية، وليست العبرة بالقرابة، وإنما بالأعمال الصالحة ، لأن "إبراهيم هو أب لجميعنا" كما يردد المرة بعد المرة، وبهذا تصبح علاقة اليهود بإبراهيم كعلاقة الناس أجمعين.
وبولس الرسول هذا كان يعنف اليهود ويسخر من أباطليهم، يتحدث إليهم بالعبرية ويرد على دعاواهم بمنطقهم فقد كان متفهما في دينهم، وبلغ من جداله معهم أن أثار معهم موضوع "الختان" وهو علامة الإيمان عند اليهود فقال لهم "نحن الختان، نعبد الله بالروح ولا نتكل على الجسد.. مع أن لي أن أتكل على الجسد أيضا. وأنا بالأولى أن أتكل على الجسد، من جهة الختان , أنا مختون في اليوم الثامن (مثلكم) أنا من جنس إسرائيل ومن سبط بنيامين عبراني من العبرانيين ومن جهة الناموس الناموس فريسي (من رسالته إلى أهل فليبي) .. وبهذا قطع الطريق على كل حججهم، من الختان إلى نسب العبران..الى أبوة إبراهيم..
وتصدى لهم مرة أخرى بكل دعاواهم وخاصة فيما يتعلق بانتسابهم إلى إبراهيم، فقال في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس "أهم عبرانيون فأنا أيضا، أهم إسرائيليون فأنا أيضا، أهم نسل إبراهيم فأنا أيضا". (الإصحاح الحادي عشر).
ومع أن هذه الحجج الدامغة قد انقضى عليها عشرون قرنا من الزمان إلا أنها لا تزال حية نابضة، تدمغ الإسرائيليين في كل مكان من بيجن العدو المحتل في بيت المقدس، إلى الحاخام اليهودي في نيويورك إلى الأعضاء اليهود في الكونجرس في واشنطن..(1/30)
وليس لنا أن ننسى في هذا المجال أن يوحنا المعمدان قد صاح في وجه اليهود صيحة عالية، فلنستمع إليه وهو يصيح "يا أولاد الأفاعي ... لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً ... . لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم". ومعروف أن يوحنا المعمدان كان يهودياً وقد عرف كيف يخاطبهم من معتقداتهم وفي لغتهم ... وكان السيد المسيح يقول لليهود في وجوههم : "إنكم قتلة الأنبياء.. أيها الحيات، أولاد الأفاعيً.
وفي الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا يصل السيد المسيح إلى قمة الثورة على اليهود ويقول "إن الخلاص هو من اليهود" فكانت هذه أعظم صيحة تداوت وما تزال في سمع الزمان ...
وهكذا فقد كانت المسيحية في واقع الأمر أكبر ثورة تصحيحية على أباطيل اليهود، وكان السيد المسيح نفسه هو رافع علم الثورة. فقد تصدى للعصبية اليهودية والإنتساب إلى إبراهيم كطريق للخلاص والعصمة ودعى إلى طهارة القلوب أولا، لا إلى طهارة الجسد بالإختتان.
والى هذه المعاني وأمثالها أشار المؤرخ الشهير الأستاذ جيبون في كتابه "آضمحلال الإمبراطورية الرومانية" حيث قال: " إن المسيحية انتشرت لأنها صححت الكثير من تطبيقات اليهود لعقيدتهم في الرب ووسائل عبادته ... وبعد أن كان الوعد برضاء الله محصوراً في ذرية إبراهيم-تميزا وتحزبا- أصبح في المسيحية قدراً مشترطاً للأحرار والعبيد، واليونانيين والبربر، واليهود والأمميين على السواء.."
وبعد المسيحية جاء الإسلام والحديث هنا لا يتسع له إلا كتاب كبير، فإن حوار اليهود مع الرسول عليه السلام بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة يستنفد صبر الصابرين.(1/31)
وكانت حكاية إبراهيم من أبرز المواضيع التي دار حولها الحوار، وقد حسم القرآن الكريم الأمر بأبلغ الحديث كما جاء في سورة آل عمران مخاطبا اليهود مباشرة ... "يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .. ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفا مسلما , وما كان من المشركين.. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا والله ولي المؤمنين".
صدق الله العظيم
وكأنما جاءت هذه الآية تحمل "الدليل المادي" القاطع كما يقول رجال القانون، فإن التوراة قد تم تدوينها، باعتراف أحبار اليهود أنفسهم، بعد ألف عام من حياة إبراهيم ... ومن هنا فإن القرآن يوجه سؤاله الصارخ إلى اليهود :" لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده" ومن بعده بألف عام!!
تلك هي صفوة القول في علاقة اليهود بإبراهيم، بدأناها بالتوراة، ثم بالإنجيل، وجعلنا خاتمتها ما جاء بالقرآن الكريم.
ولا بد لنا بعد ذلك أن ننزل في شجرة النسب من إبراهيم إلى ولده إسحق ثم إلى حفيده يعقوب المسمى إسرائيل لنتابع أساطيرهما كما وردت في التوراة، مليئة بالمكر والخديعة والاحتيال على الله. وما هو أسوأ من ذلك, تلك المعركة التي خاضها يعقوب مع الرب.
أجل إنها معركة مصارعة بين يعقوب والرب امتدت طيلة الليل حتى شروق الشمس وكانت السبب في تسميته "إسرائيل".
وفي الصفحات التاليات سنقف على تفاصيل هذه المعركة وميدانها وأسبابها، ومن الغالب فيها ومن المغلوب، ونستغفر الله العظيم.
تلك هي أساطير الأولين كما دونها الأحبار الإسرائيليون، وسبحان رب العزة عما يصفون.
الفصل الثاني
إسرائيل يصارع الرّب
... ... ... ...
إسرائيل يصارع الرّب(1/32)
وكما جاءت سيرة إبراهيم في التوراة نموذجا فذا في الأساطيرو الخرافات، نجد أن سيرة ولده إسحق وحفيده يعقوب تمثل إضافة ضخمة في مسلسل الأساطير والخرافات، أدنى بكثير من أن تكون كتابا سماويا مقدسا، أو مرجعا دينيا له جلاله، أو حتى سجلا تاريخياً يركن إليه في التعرف على تلك الحقبة الزمنية والموغلة في القدم ... أجل إنها مجموعة من الخرافات والأساطير لا تنقصها إلا عذوبة الخرافات وسحر الأساطير.
ولقد رأينا في الفصل السابق كيف جاء مولد إسحق في تضاعيف الحوار بين الرب من جهة وإبراهيم وزوجته سارة من جهة أخرى, وما كان من أمرهما من الضحك على "الرب".. ثم كيف سافر إليعازر الدمشقي عبد إبراهيم في رحلة طويلة، وعاد مع "رفقة" لتكون زوجة لإسحق.. كل ذلك في قصص خرافي أفضى إلى النهاية السعيدة، بأن "أدخل إسحق رفقة إلى خباء أمه سارة حيث تزوجها وتعزى بها عن وفاة أمه".
ولم يبق على التوراة إلا أن تذكر لنا ماذا كان بين الزوجين في تلك الليلة السعيدة.. فمن عادة التوراة أن تذكر أن هذه المرأة عذراء .. وتلك المرأة لا تزورها "عادة النساء"، وغير ذلك من ساقط الأقاصيص!!
ثم تمضي التوراة في سرد حياة إسحق، وكأنما تكرر مرة ثانية سيرة إبراهيم في معظم تفاصيلها، بل أنه يكاد يبدو لنا أن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة لم يكن في خيالهم إلا "سيناريو" واحد ينهلون منه قصصهم بأبطالها وأحداثها.
والذين يملكون الصبر على قراءة التوراة، وعندهم الروية على متابعة ما فيها من التواءات واستطرادات يستطيعون أن يجدوا في سيرة إسحق تكراراً للأحداث التي وقعت لإبراهيم مرحلة مرحلة، وتكاد أن تكون العبارات والتبريرات والتفسيرات واحدة.(1/33)
وأول ما يطالعنا في هذا الباب قول التوراة "أنه حدث جوع في الأرض فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين في جرار ... وظهر له الرب وقال له: "لا تنزل إلى مصر.. اسكن في الأرض التي أقول لك.. فأقام إسحق في جرار" (سفر التكوين الإصحاح 26)
وحين نعود إلى الوراء في سفر التكوين نفسه في إصحاح سابق نجد أن ما جرى لإسحق عن ارتحاله إلى جرار قد تم لوالده إبراهيم ... وكذلك الحديث عن الأرض والنسل، فإنه معاد بكلماته وعباراته.
وتمضي التوراة بعد ذلك في الحديث عن "رفقة" امرأة إسحق فتضيف قائلة" وأهل جرار سألوا إسحق عن امرأته فقال هي أختي.. فقد خاف أن يقول هي امرأتي حتى لا يقتلوه من أجل رفقة لأنها كانت حسنة المنظر ... وحدث أن أبيمالك أشرف من الكوة ونظر وإذا إسحق يلاعب رفقة امرأته, فدعاه وقال له ... كيف قلت هي أختي ... فقال إسحق لأني خفت أن يقتلوني .. وتعاظم إسحق حتى صار عظيماً جدا فكان له مواش من الغنم والبقر وعبيد كثيرون .. ومضى إسحق ونزل في وادي جرار ومن هناك ذهب إلى بئر السبع وهناك ظهر له الرب وقال: "له أباركك وأكثر نسلك".
ومرة ثانية، يلاحظ القارئ أن حكاية إسحق "وزوجته الجميلة" مع أبيمالك ملك الفلسطينيين هي نفس الحكاية التي سردتها التوراة عن إبراهيم وامرأته "الجميلة والحسنة المنظر جدا" مع أبيمالك ملك الفلسطينيين ومسرح الأحداث هو هو في جرار، والبطل هو هو ملك الفلسطينيين.. والتفاصيل هي هي عن المواشي والبقر والحمير والعبيد ... والكذبة الكبرى واحدة: أن زوجة إسحق هي أخته .. تماما كما أن زوجة إبراهيم هي أخته .. أخته لأبيه لا لأمه.
وعلى ذلك فنحن نرى أن التوراة قد سردت في سفر واحد هو سفر التكوين، ضيافة إسحق وزوجته عند أبيمالك ملك الفلسطينيين في مسلسل واحد من الوقائع كما جرى لإبراهيم وزوجته في الضيافة نفسها.. ولكن بفارقين اثنين:(1/34)
الفارق الأول: أنه في قصة إبراهيم وزوجته ذكرت التوراة أن أبيمالك "لم يكن قد اقترب من سارة" وقد أهملت التوراة ذكر هذه الواقعة في قصة إسحق وزوجته, هذا مع العلم أن التوراة لم يكن أمامها مرجع تعتمده في قولها أن أبيمالك قد اقترب أو لم يقترب من سارة.
والفارق الثاني: أن التوراة قد جعلت واقعة " الكوة" خاصة بإسحق وزوجته، وهي الكوة التي نظر منها أبيمالك إلى إسحق وهو يداعب زوجته مع أن إبراهيم وزوجته قد أقاما مدة طويلة في ضيافة أبيمالك ولم تجعل لهما نصيبا من المداعبة ولا كانت لهما "كوة" تسر الناظرين.
وتورد التوراة بعد ذلك حكاية الحبل والولادة، ونرى أن التوراة تعيد وتكرر. فها نحن نقرأ أن زوجة إسحق هي عاقر، كأمه سارة. وكذلك فإن التوراة تقول أن إسحق فعل كأبيه إبراهيم " فصلى إلى الرب من أجل امرأته رفقة.. فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته".
وهنا تكرر التوراة التمييز بين إسحق وإسماعيل، ولكن بأسلوب آخر.. فتقول " أن الرب قال لرفقة في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوي على شعب، وكبير يستعبد لصغير، وخرج من بطنها توأمان الأول أحمر فدعوا أسمه عيسو وخرج الثاني ودعى اسمه يعقوب.. وأحب إسحق عيسو أما رفقة فقد أحبت يعقوب" وبذلك فإن التوراة تسجل أول قصة للحقد الأعمى بين أخوين شقيقين بدلا من أن تكون دعوتها إلى الحب والمودة والألفة بين الأخوة ناهيك بين الأمم والشعوب.
وقد أراد أحبار اليهود من البداية أن يمهدوا لسيطرة يعقوب على عيسو، فإن عيسو فيما ستروي التوراة سينتمي إليه الأدوميون، ويعقوب ينتمي إليه الإسرائيليون ... ومن هنا بدأت بوادر التمييز. وكان ذلك أقدم تمييز عنصري عرفة التاريخ الإنساني.. وسنرى أن التوراة قد حبست كل أسفارها التالية على سيرة يعقوب وأبنائه تاركة سيرة عيسو وقبائله تمضى إلى زاوية النسيان.(1/35)
والتوراة نفسها هي التي تفضح هذه المبادرات العنصرية، وها نحن نجدها بادئ ذي بدء في قولها، من غير مقدمات ولا تمهيد ولا تبرير، أن "عيسو باع بكوريته إلى يعقوب".
ولقد كان عيسو هو الإبن الأكبر، والبكر في ذلك العهد الاجتماعي له مزاياه وحقوقه.. فلم يجد أحبار اليهود أمامهم إلا أن يقولوا أن "أن عيسوا باع بكوريته" دون أن تذكر لماذا وكيف ومتى ... وهذا أول بيع من نوعه في التاريخ.
والحكاية ببساطة تزوير وأفتآت أراد منها أحبار اليهود، أن يجعلوا الكلمة العليا ليعقوب، تماما كما فعلوا بين إسماعيل وإسحق ... وجعلوا إسحق بطل الفداء والتضحية دون إسماعيل، وأضافوا إلى ذلك أن إسحق هو ابن إبراهيم الوحيد، مع أن إسماعيل هوالكبير يكبره بثلاثة عشر عاما كما تقول التوراة نفسها، فضلا عن أن له أثني عشر ولدا آخرين.
وهذا ينطبق على أبناء إبراهيم الآخرين.. فقد أهملت التوراة ذكرهم والإشارة إلى تنقلاتهم ومصائرهم، واكتفت في عبارة غامضة مغمغمة، بالقول بأن إبراهيم قد "صرف أبناءه شرقا وهو حي".. ولم تذكر عنهم بعد ذلك شيئا لا قليلا ولا كثيرا ... . كأنهم ما ولدوا ولا وجدوا أصلا.
وفي مثل هذه الأسلوب المعمم المغمغم ذكرت التوراة أن "عيسو باع بكوريته إلى يعقوب" هكذا بكل بساطة وبالبيع والشراء، دون أن تذكر ثمنا أو مقابلا حتى ولو كان تافها وسخيفا.. ولكن أحبار اليهود قد رأوا أن هذا التعميم سيجعل القصة مفضوحة بذاتها فعمدوا إلى اختراع قصة أخرى منسوجة بالمكر والخديعة والمؤامرة جعلوا أبطالها يعقوب وأباه إسحق وأمه رفقة.. لتكون خاتمة القصة في النهاية أن إسحق قد منح بركته لإبنه يعقوب وحرم منها عيسو تماما كما خصوا إسحق نفسه ببركة أبيه إبراهيم وحجبوها عن إسماعيل ابن الجارية.(1/36)
وخلاصة هذه الخديعة القذرة، فيما ترويه التوراة، أنه لما شاخ إسحق وكلّت عيناه عن النظر "أخذت رفقة ثياب ابنها عيسو الفاخرة وألبستها إلى ابنها يعقوب، ثم ألبست يديه وعنقه جلود جدي الماعز حتى يبدوا كأخيه كث الشعر، ودخل يعقوب بثياب عيسو على أبيه وهو يقول له أنا عيسو بكرك وأطلب أن تباركني ، وما كان من إسحق إلا أن قال له تقدم حتى أجسك يا أبني.. وتساءل أأنت هو عيسو ابني أم لا؟ فجسه إسحق وقال له : الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين هما يدا عيسو ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فبارك إسحق ابنه يعقوب قائلا له ... لتستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل، كن سيدا لإخوتك وليسجد لك بنو أمك". (سفر التكوين الإصحاح 27).
وقد كانت هذه الحكاية مضرب الأمثال عبر العصور والأجيال، فإن عبارة التوراة "الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو" صارت تتردد على ألسنة الأقدمين كلما جرت لهم أحداث مماثلة من الخديعة والمكر.
ولم تكتف التوراة بسرد وقائع المؤامرة ولكنها رفعت يعقوب إلى مقام "الرب" يسجد له أبناء أمه، بل "وتسجد له الشعوب وتستعبد له قبائل" ... ومع هذا يزعم الزاعمون أن اليهودية هي إحدى الديانات السماوية الثلاثة التي تدعو إلى التوحيد.
ولا تتورع التوارة أن تشرك "الرب" في هذه المؤامرة.. وبدلا أن تتحدث عن غضب الرب.. وبدلا من أن ينزل عقاب الرب على يعقوب، نرى أن التوراة تروي أن الرب قد ظهر ليعقوب وقال له "اسكن في الأرض التي أقول لك، فأكون معك وأبارك لأني لك ولنسلك أعطى جميع هذه البلاد، وأكثر نسلك كنجوم السماء وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض".
وهكذا فإن الرب قد بارك يعقوب بعد أن باركه أبوه اسحق، وبارك الله في الكذب والخداع!!(1/37)
وقد تمت هذه المؤامرة في غياب الأخ الأكبر عيسو صاحب الحق في البكورية والبركة. فعاد من الصيد، وتقول التوراة "أنه صنع طعاما لأبيه وقال له قم وكل حتى تباركني نفسك أنا بكرك عيسو.. فأرتعد إسحق ارتعادا عظيما جدا وقال له قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك، وصرخ عيسو صرخة عظيمة ومُرة جداً ... وحنق عيسو على يعقوب من أجل البركة وقال عيسو في قلبه سأقتل يعقوب أخي ... . ولما علمت رفقة بذلك قالت لابنها يعقوب أهرب إلى أخي لابان في حاران وأقم عنده أياما قليلة حتى يرتد سخط أخيك".
هذا ما توريه توراة اليهود عن المؤامرة البشعة التي اقترفها يعقوب الذي ينتسب إليه الإسرائيليون، أضف إلى ذلك أن التوراة قد غرست الحقد بين الأخوين الشقيقين إلى درجة القتل، دون أن تذكر لنا كيف عرفت أن، عيسو "قال في قلبه أنه سيقتل أخاه يعقوب". وهذه واحدة من مئات غرائب التوراة.
وكما توغلت التوراة عميقا في قاع الأساطير فيما روته عن مولد إسحق نفسه وولديه عيسو ويعقوب، فقد سردت حكاية زواج يعقوب بنفس القصص الخرافي الذي سردته بالنسبة لزواج أبيه إسحق ... إسحق تزوج من أهله من العراق لأن والده إبراهيم حذره من الزواج من بنات الكنعانيين ولذلك فإن التوراة تكرر القصة بذاتها.. شكلا وموضوعا، وها نحن نقرأ في التوراة "أن إسحق دعا يعقوب وأوصاه وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات كنعان.. اذهب إلى فدان أرام إلى بيت أبى أمك وخذ لنفسك زوجة من هناك من بنات لابان، أخي أمك، والله يجعلك مثمرا ويكثرك فتكون جمهور من الشعوب" (تكوين 28).(1/38)
وهنا تبدأ أسطورة إضافية تجدد أسطورة أبيه، فتروي التوراة أن يعقوب، إذعاناً لنصيحة والده خرج من بئر سبع إلى حاران. وصادف مكانا وبات هناك.. ورأى حلما "وإذا سُلّم منصوبة على الأرض ورأسها عند السماء.. ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها(!) وهو ذا الرب واقف عليها (!!) فقال له الرب يكون نسلك كتراب الأرض.. ويتبارك فيك وفي نسلك قبائل الأرض.. ثم نهض وذهب إلى أرض بني المشرق، حتى وصل إلى بئر وحولها قطعان المواشي ورعاتها ... وهناك لقي راحيل (أبنت خاله) مع غنم أبيها.. فتقد يعقوب وقبّل راحيل وأخبرها أنه ابن رفقة.. وذهبت راحيل إلى أبيها وأخبرته بما كان فعاد وتم اللقاء والتعارف مع يعقوب. وبعد حديث طويل تمّ الاتفاق أن يقوم يعقوب بخدمة خالد سبع سنوات مقابل زواجه بابنته الصغرى راحيل التي كانت حسنة الصورة وحسنة المنظر ... وأحب يعقوب راحيل أما أختها الكبرى ليئة فكانت عيناها ضعيفتين".
و إلى هنا فإن القصة تمضي في سياق شبه عادي ولكن التوراة تواجهنا فيما بعد بفضيحة يكون ضحيتها يعقوب نفسه، ذلك أنه حينما أتم يعقوب مدة الخدمة قال "أعطوني امرأتي لأن أيامي كملت فأدخل عليها"، وتروي التوراة أن لآبان، خال يعقوب، صنع وليمة كبرى وعند المساء أخذ ابنته ليئة وأتى بها إلى يعقوب فدخل عليها. وفي الصباح، تروي التوراة اكتشف يعقوب أن زوجته ليئة وليست راحيل..وقال يعقوب إلى لابان لماذا خدعتني.. فقال لأبان : "نحن لا نعطي الصغيرة قبل الكبيرة".. وبعد حوار تم الاتفاق أن يخدم يعقوب سبع سنين أخرى مقابل الأخت الصغرى.. وتم الأمر وتزوج يعقوب راحيل وأحبها أكثر من ليئة.. وكانت راحيل عاقر ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها فحبلت ليئة وولدت أربعة أولاد ...(1/39)
وهكذا فإن التوراة تعود إلى مسلسل العواقر، الذي بدأته بسارة زوجة إبراهيم ثم برفقة زوجة إسحق, وها نحن نراه في المرحلة في راحيل حتى لقد أصبح هم هذا " الكتاب المقدس" أن يسجل لنا سيرة النساء العواقر، ومتى حبلن ومتى ولدن.
وتكون النتيجة من كل ذلك أن يعقوب زوجته راحيل عاقر، ,أمه رفقة عاقر، وجدته سارة عاقر.. ثم تسجل لنا التوراة حلقة أخرى في سلسلة الخرافات والأساطير، فتقول أن "راحيل غارت من أختها فقالت ليعقوب هو ذا جاريتي بلهة أدخل عليها فتلد لي.. فدخل عليها وولدت له".
وجاء دور ليئة بعد أن توقفت عن الولادة، لتقول إلى يعقوب كما تروي التوراة "هو ذا جاريتي زلفة أدخل عليها فدخل عليها وحبلت وولدت له أولادا".
وعادت التوراة إلى مسلسل الخرافات عن ولادة الزوجات وجواريهن، فقالت " إن الله ذكر راحيل وسمع لها وفتح رحمها فحبلت وولدت له ... "
وكانت نتيجة "تدخلات الرب" في فتح الأرحام وتوليد الأولاد أن رزق يعقوب أثني عشر ولدا وهم روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون ويوسف وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، ولدوا جميعا في الأراضي السورية إلا بنيامين فقد كان مولده في بيت لحم من أعمال فلسطين ... وهؤلاء الأبناء هم آباء القبائل الأسباط اليهودية العشر، فيما ترويه الخرافات الإسرائيلية.
ولم تنته سيرة يعقوب عند هذه الأحداث، فقد مضى أحبار اليهود يشغلون "الرب" في الخلافات التي وقعت بين يعقوب وخاله بسبب قطعان المواشي، هذه لمن وتلك لمن؟ ولا تتسع هذه الفصول لسردها رغما عن طرافة تفاهاتها.(1/40)
وحسبنا أن نشير إلى أن هذه الخلافات قد حملت يعقوب على الرحيل من البلاد، وتقول التوراة أن "ملاك الرب ظهر ليعقوب وقال له : أخرج من هذه البلاد وارجع إلى أرض ميلادك.. وقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال وساق أمامه كل مواشيه، وسرقت راحيل أصنام أبيها.. وقام يعقوب بخداع خاله لابان فخرج هاربا دون أن يخبره ... وتتبعه لابان في مسيرة سبعة أيام إلى أن أدركه في جبل جلعاد (الأردن)."
وتقول التوراة بعد ذلك أن الله أتى إلى لابان في حلم الليل وحذره أن يكلم يعقوب في خير أو شر ... ولكن لابان سأل عن سرقة أصنامه ... ففتش في خباء يعقوب وخباء ليئة والجاريتين فلم يجد شيئا.. ثم دخل إلى خباء راحيل، وهي التي سرقت الأصنام ووضعتها في حداجة الجمل وجلست عليها، فقالت لأبيها "إني لا أستطيع أن أقوم أمامك لأن علي عادة النساء" (!!) ففتش ولم يجد الأصنام.. وقد أصبح لهذه العاقر عادة النساء ... ولم يقل لنا أحبار اليهود كيف ومتى، وهل تدخل الرب في ذلك؟!
وهكذا فإن توراة اليهود شغلت وقتها بـ"عادة النساء"، وسرقة الأصنام، وظهور الرب إلى لابان عابد الأصنام الذي قطع البراري والقفار بحثا عن أصنامه المقدسة.
وكائنا ما كان الأمر فقد تصالح يعقوب ولابان ووضعا "رحمة على الأرض وتعاهدا أن لا يتجاوز لابان هذه الرحمة إليك ... وأنت لا تتجاوزها إليه".
وتعود التوراة بعد ذلك لتقول أن يعقوب قد وصل إلى أرض أخيه الكبير عيسو فخادعه وصالحه وقدم إليه الهدايا وسجد بين يديه هو وزوجاته وجواريه وأولاده وعبيده، ولم يبق إلا أن تسجد له مواشيه!! وهنا تناست التوراة حكاية البكورية وكأن شيئا ما كان، بين يعقوب وأخيه عيسو.
ولكن القصص الخرافي لا ينتهي عند هذه المصالحة بين الأخوين الشقيقين.. فإن توراة اليهود تقدم لنا بعد ذلك أسطورة كبرى تصل إلى قمة السخافة والإلحاد والاستخفاف بالله، كل ذلك ترويه التوراة بفخر واعتزاز ...(1/41)
والإسطورة أشبه ما تكون بمسرحية تتم فيها مصارعة بين اثنين "الرب
في صورة إنسان من جانب، ويعقوب من جانب آخر.. ولولا أن هذه المسرحية مدونة بالنص في التوراة لظنها القارئ افتراء على اليهود من غير دليل ولا برهان ولكن التوراة تقول لنا ، "حينما كان يعقوب وحده صارعه إنسان حتى طلوع الفجر ... ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه ... فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه ... ثم دار بينهما الحوار الآتي:
? الرب في صورة إنسان قال ليعقوب "أطلقني لأنه قد طلع الفجر".
? يعقوب : لا أطلقك إن لم تباركني.
? الرب : ما اسمك؟
? يعقوب : يعقوب.
? الرب : لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل.. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت
? يعقوب : أخبرني ما اسمك؟
? الرب : لماذا تسأل عن اسمي.
وتقول التوراة أن الرب بارك يعقوب هناك.. وقال يعقوب "نظرت الله وجها لوجه" وأشرقت الشمس ويعقوب يخمع على فخذه.
وتختم التوراة هذه المسرحية البلهاء بقولها :" لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء الذي على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النساء".
ومن شاء أن يقرأ هذه المسرحية التوراتية، وأن يشهد بنفسه حلبة الصراع بين "الرب" ويعقوب فليرجع إلى الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر التكوين وسيجد فيه الخبر اليقين.
وسيخرج القارئ من هذه الملحمة بين الرب ويعقوب بأن حسابات المصارعة كانت كلها لصالح يعقوب فيمايلي :
أولا: أن المصارعة كانت حامية جداً بين الرب ويعقوب فقد امتدت حتى طلوع الفجر.
ثانيا: أن الرب لما رأى أنه لا يقدر على يعقوب ضرب حق فخذه فانخلع فخذ يعقوب.
ثالثا: أن يعقوب قد أمسك بالرب بقوة وشدة ولم يستطيع أن يفلت منه فقال ليعقوب أطلقني لأنه قد طلع الفجر.
رابعا: أن يعقوب راح يساوم الرب ليطلق سراحه.. مشترطا أن يباركه حتى يطلقه.
خامسا: أن الرب كان يجهل مع من يتصارع فسأله ما اسمك؟
سادسا: أجاب يعقوب اسمي يعقوب.(1/42)
سابعا: فأراد أن يكافأ يعقوب فقال له لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت.
ثامنا: وسأل يعقوب الرب ما اسمك ... وقال الرب لماذا تسأل عن اسمي وبارك يعقوب في ذلك المكان. وهذه مفاوضات أخرى بين إسرائيل والرب؟
وتوكيداً لهذا الأسطورة الكبرى فإن الإسرائيليين يقولون بأن لفظة يعقوب في لغتهم القديمة معناها "جندي الله".
إما حكاية ما قالته التوراة أن الإسرائيليين لا يأكلون عرق النساء بسبب هذه الأسطورة "الى هذا اليوم" فإنها أسخف من أن تحتاج إلى تعليق، ويكفي أن عبارة "الى هذا اليوم" وقد تكررت عشرات المرات في التوراة إنما تدل أن أحبار اليهود قد كتبوا التوراة بعد يعقوب بمئات السنين ولم يجدوا مناصا من أن يرددوا عبارة "الى هذا اليوم" وذلك أصغر الدلائل على التزوير.
وتأبى التوراة أن تفرغ من سيرة يعقوب قبل أن تروي أخبار مجزرة إنسانية رهيبة وراء حادث تقع أمثاله حتى في زماننا هذا ... ملخص هذا الحدث أن ابنة يعقوب خرجت لتنظر نبات الأرض فرآها شكيم ابن حيمور رئيس الأرض فأخذها وأضطجع معها .. وتدخل حيمور طالبا الصلح والوفاق فقال لآل يعقوب إن ابنه قد تعلق بابنة يعقوب ... "أعطوه إياها زوجة وصاهرونا تعطوننا بناتكم وتأخذون لكم بناتنا وتسكنون معنا وتكون الأرض قدامكم".
كان هذا هو الحادث وكان هذا هو العرض الذي اقترحه حيمور رئيس الأرض، وكان ذلك قبل عهد موسى بقرون، في وقت لم تكن الشريعة اليهودية قد نزلت، والناس يتزاوجون بلا قيود ولا حدود ... غير أن أبناء يعقوب غضبوا، فيما تروي التوراة وأنهم أجابوا بمكر وقالوا:" لا نعطي أختن لرجل غير مختون ولكن "ان صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم ونسكن معكم ونصير شعبا واحدا.. وإن لم تختنوا نأخذ بنتنا ونمضي".(1/43)
ولولا المكر الذي بيته آل يعقوب في نفوسهم، لكان هذا الوفاق رائعا وعظيما وخاصة حديثهم أن يصبحوا شعبا واحدا مع أهل البلاد.. وهذا ما يردده الإسرائيليون منذ أن وطئت أقدامهم أرض فلسطين، في الأزمنة المعاصرة.
وعلى كل حال فقد تحدثت شكيم وحيمور كما تقول التوراة، فقبلوا هذا العرض على السكنى معا وأن يصيروا شعبا واحدا، ويختتن كل ذكر منهم ويتبادلون بناتهم زوجات ... واختتن كل ذكر في المدينة تنفيذا لهذا الاتفاق وبذلك كانت أكبر حملة اختتان في التاريخ!!
وتمضي توراة اليهود لتقول أنه في اليوم الثاني للختان.. حين كان أهل المدينة متوجعين (بسبب الختان) خرج ابنا يعقوب "وأخذ كل واحد سيفه وأتيا على المدينة وقتلا كل ذكر، وقتلا حيمور وشكيم بحد السيف" وأخذا ابنة يعقوب من بيت شكيم وخرجا، ثم نهب بنو يعقوب المدينة وأخذوا ما في الحقل، وسبوا كل الأطفال والنساء، وسلبوا كل ما في البيوت.
وتفاصيل هذه المذبحة الرهيبة، وأمثالها مما تقصه التوراة، كما سنبين في الفصول التالية، إنما تؤكد أن الإرهاب اليهودي المعاصر ليس ناشئا كرد فعل للحركة النازية الهتلرية كما يفلسف بعض أنصار إسرائيل ولكنه مستقر في الوجدان اليهودي وفي العقيدة اليهودية منذ آلاف السنين.. منذ عهد يعقوب إلى عهد كارتر في زماننا هذا.
وهذه المذبحة الرهيبة التي اقترفها يعقوب وأبناؤه على مدينة بكاملها ذبحا وتقتيلا وسبيا ونهبا وسلبا تفتح أمام الذاكرة سجل الإرهاب اليهودي منذ قامت إسرائيل إلى يومنا هذا.(1/44)
ولسنا نريد أن نستعيد فظائع دير ياسين وناصر الدين وكفر قاسم وقبية ولا قصف مخيمات اللاجئين وعشرات من أمثالها إذ يكفي أن نشير بكلمة عابرة إلى جريمة الإبادة الجماعية التي اقترفتها إسرائيل على جنوب لبنان، في ربيع عام (1978) وكان من نتائجها أن كان عدد القتلى من الفلسطينيين واللبنانيين حوالي ألفي إنسان، ما عدا الجرحى والمشوهين فضلا عما أحدثته من الدمار في المزارع والمساكن والمصانع والمرافق العامة، ويأتي على رأس ذلك تهجير ربع مليون إنسان من أهل الجنوب إلى كل قرية ومدينة في لبنان.
ولقد اقترفت إسرائيل هذه الجريمة الكبرى، بالطائرات الأمريكية والأسلحة الأمريكية.. وكان من بعضها القنابل المعروفة (البلي) التي تتفجر كل واحدة منها إلى مئات الشظايا.
وقد انطوت هذه المجزرة على مخالفات دولية وإنسانية كبرى، وكان أقلها أن قنابل البلي محرمة دوليا، وكما كشفت الصدفة بأن إسرائيل كانت قد التزمت باتفاقها مع أمريكا أن لا يُستخدم هذا السلاح إلا في حالة الدفاع عن النفس.. ولكن هذه المخالفة وغيرها قد طوتها يد النسيان، باعتذار من الحكومة الإسرائيلية، والتزام جديد بعدم التكرار ... ويا ضيعة الإنسان وحقوق الإنسان.
ولنترك هذا الاستطراد جانبا، ونعود إلى سيرة يعقوب، والمذبحة الوحشية التي اقترفها هو وأبناؤه على المدينة الآمنة، بعد أن تم الوفاق مع أهلها، واختتنوا، ثم غدروا بهم، وهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وهم متوجعون من الختان كما تذكر التوراة.
وقد يخطر بالبال أن ما فعله يعقوب وأبناؤه هو ثأر للشرف والعرض.. وقد يصح هذا التبرير لو أن آل يعقوب هم من أهل الطهر والشرف.. ولكن التوراة تكشف غير ذلك ... بل ان التوراة كما سنرى في الفصول التالية قد فصلت حوادث كريهة منافية للشرف والدين نُسبت إلى قادة اليهود ممن يعتبرهم الإسلام من الرسل والأنبياء ذوي العصمة والكرامة.(1/45)
وحسبنا في هذا الفصل، أن نقتبس بالنص ما جاء في ختام الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر التكوين حيث يقول "وحدث إذ كان إسرائيل (يعقوب) ساكنا في تلك الأرض أن رأوبين (ابن يعقوب) ذهب واضطجع مع بلهة سرية أبيه، وسمع إسرائيل.."!!
وهكذا بكل بساطة سمع إسرائيل بالزنا مع سريته، وجعل أذنا من طين وأذنا من عجين.. وحادثة مماثلة، أشنع وأبشع، نقتبسها من الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين حيث تقول التوراة "وحدث في ذلك الزمان أن يهوذا (ابن يعقوب) نزل من عند أخوته .. ونظر هناك أبنة رجل كنعاني فأخذها ودخل عليها فحبلت وولدت ابناً ودعا اسمه عيرا وزوجه فناه اسمها تامار ... ومات ابنه عيرا.. وصادف أن التقى يهوذا بكنته (زوجة 7بنه ) في الطريق، وقد خلعت ثياب ترملها وتغطت ببرقع.. فنظرها يهوذا وحسبها زانية ... فمال إليها على الطريق ودخل عليها لأنه لم يعلم أنها كنته .. وأعطاها خاتمه وعصابته وعصاه علامة ... وحبلت منه.. ولما اكتشف أهل البلد أنها حامل من الزنا أبرزت الخاتم والعصابة والعصا وقالت : أنا حامل من رجل صاحب الخاتم والعصابة والعصا ... " ووقفت التوراة عند هذا الحد من قصة الزنا مكتفية بالقول "أنه وقت ولادتها إذا في بطنها توأمان، دعي أحدهما فارض والثاني زارح"؟
و هكذا لم يفت التوراة أن تسجل حكاية الزنا بتفاصيلها وأن تذكر كذلك أسماء أولاد الزنا.. وهنا.. أجل هنا.. لا بد لنا أن نذكر يهوذا هذا صاحب هذه الحكاية هو ابن يعقوب وهو الذي ينتسب إليه اليهود ... وهو السبب في تسميتهم باليهود انتسابا إلى يهوذا.. هذه هي أقاصيص إسحق ويعقوب كما سجلتها التوراة، توراة اليهود.. وهي التوراة التي حملها رئيس وزراء العدو بيجن هدية إلى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، لتكون سجلا حافلا بالمخازي والسوابق.(1/46)
والدكتور حاييم وايزمن أول رئيس لإسرائيل، وعم عزرا وايزمن وزير الدفاع كان قد سبق وأهدى إلى الرئيس ترومان "التوراة" لمناسبة صدور قرار التقسيم عام 1947 وقد تصدرت صورتها الصحافة الأمريكية في سبق صفحي عالمي.
بل إن التوراة هذه التي سجلت الفضائح الأخلاقية، كما سنرى في الفصول التالية، ومخازي ملوك إسرائيل وأنبيائهم هي التي يعتمد عليها بيجن في تمسكه بقطاع غزة والضفة الغربية بأنهما هما "يهودا والسامرة" بنص التوراة، وأنهما أرض الشعب اليهودي التاريخية تحررت الآن، ولن تخرج من سيادة "إسرائيل بعد الآن"!!
وأخلاقيات يعقوب كما تسجلها التوراة تمثل قطرة من بحر بالنسبة إلى سيرة أنبياء إسرائيل كما فصلتها التوراة في الأسفار اللاحقة، الزنا والقتل والغدر وجميع الكبائر وسائر الموبقات.
ويكفي أن نشير أن جمهرة من علماء اللاهوت من مختلف المذاهب قد أدانت سلوك يعقوب الأخلاقي.
وليس هذا هو الرأي الذي يمليه الموقف العربي من إسرائيل ... بل إنه هو رأي العلم والدراسة الحقة لأسفار التوراة وما حوته من أساطير وترهات.
فقد جاء في فهرس الكتاب المقدس (ص1075) وهي أوسع دراسة دينية وتاريخية عن التوراة قولهم "كانت ليعقوب نقائص ظاهرة في طباعه دفعته إلى ارتكاب أخطاء فاحشة كان يجب أن يتحمل نتائجها ومغباتها".
وأن يعقوب هذا الذي حكم عليه علماء اللاهوت ذلك الحكم العادل، هو إسرا6يل الذي ينتسب إليه الإسرائيليون.. ويكفي أن نلخص حيثيات هذا الحكم في الترهات التوراتية والخرافات اليهودية فيما يلي":
أولا: كانت سيرة إسحق ويعقوب تكرارا لسيرة إبراهيم لا في التفاصيل فحسب ولكن في السلوك الأخلاقي، وكأنما تؤكد التوراة الانحراف الخلقي، وتدعو إلى تجنب المثل الروحية والقيم الإنسانية الرفيعة.
ثانيا: أبرزت التوراة ظاهرة البغضاء بين الأخوين الشقيقين عيسو ويعقوب بأسوأ مما فعلت بين الأخويين إسماعيل واسحق.(1/47)
ثالثا: أكدت التوراة أقدم ظاهرة للتمييز العنصري في تاريخ الإنسانية المبكر في استبعاد العلاقات الاجتماعية مع الكنعانيين أهل البلاد الأصليين، مع أن إبراهيم وأبناءه وأحفاده هم غرباء عن البلاد وضيوف عليهم في عقر دارهم.
رابعا: أشادت التوراة بالمؤامرة التي كان بطلها يعقوب وبطلتها أمه رفقة لإقصاء الأخ الأكبر عيسو عن مقامه الاجتماعي وجعل مقام الصدارة الابن الأصغر يعقوب، حتى يصبح بنوه شعب الله المختار.
خامسا: توكيد النزعة العنصرية البغيضة بالإلحاح على يعقوب أن لا يتزوج من بنات كنعان وأن يتخذ له زوجة من أهله في العراق.
سادسا: إتمام زواج يعقوب بالأخت الكبرى خديعة وكذبا، ثم بزواجه بالأخت الكبرى وما انتهى إليه الأمر من زواجة بجواريهن.
سابعا: ظهور الرب على رأس سلم ومخاطبته يعقوب وكأنما الرب يشيد بسلوك يعقوب وتصرفاته.
ثامنا : حكاية المصارعة التي نشبت بين الرب ويعقوب فيما توحي تفاصيل الصورة أن الغلبة كانت ليعقوب.. وأن الله كافأ يعقوب بأن باركه وخلع عليه اسما مجيدا "إسرائيل" بمعنى جندي الله.
تاسعا: وقائع المذبحة الوحشية التي قام بها آل يعقوب على مدينة شكيم وانتهت إلى ذبح أهلها , شيوخا ونساء وأطفالا، ونهبها وأحراقها، نكثا بالوفاق الذي تم بين آل يعقوب وأهل المدنية.. مما ينبئ أن الإرهاب ونقص العهد خصلتان عريقتان في السلوك اليهودي.. وأن الإرهاب اليهودي المعاصر هو امتداد لذلك السلوك الإجرامي العريق.
وبعد فهذا هو يعقوب أبو الإسرائيليين بلحمه ودمه كما نراه في التوراة وهذا هو أبوه إسحق، كما وردت سيرته في التوراة.
فأين ذلك من سيرتهما المجيدة الرفيعة كما دوّنها القرآن الكريم في بضع عشرة آية بكل تكريم وتقدير، وجاء ذكر "إسحق نبيا من الصالحين" و"إسحق ويعقوب .. وكلا جعلنا من الصالحين".(1/48)
أجل إن الله جعلهما من الصالحين ولم يجعلهما من المصارعين.. كما ذكرت التوراة، والكارثة أن يكون الصراع مع الله. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون.
الفصل الثالث
وأين أهل الراين..
من أهل الأردن؟
وأين أهل الراين من أهل الأردن؟
في الفصلين السابقين أمسكنا بتلابيب بيجن رئيس وزراء العدو، ودفعنا به إلى قاع التوراة بحثا عن سيرة إبراهيم، وابنه إسحق، وحفيده يعقوب لنرى موضع الصدق فيما زعمه في خطابه الموجه إلى الشعب المصري عن حكاية "أبينا المشترك إبراهيم" على حد تعبيره.
وقد استعرضنا في الفصل الأول سيرة إبراهيم وهجرته من العراق إلى سوريا إلى فلسطين، إلى مصر، ثم عودته إلى فلسطين، وما جرى له ولزوجته الجميلة سارة من أحداث مع فرعون مصر، ومع ملك الفلسطينيين، ثم ما كان بينه وبين "الرب" من حوار.. وأخيرا وفاته وزوجته في المدينة التي سميت باسمه ... مدينة الخليل. من أعمال فلسطين.
وخرجنا من هذا العرض المفصل الدقيق، بأن أبوه إبراهيم هي من المعاني الرمزية الروحية، وأن اليهود وسائر البشر سواء في أبوة إبراهيم، وانتقلنا بعد ذلك من التوراة إلى الإنجيل لنرى ثورة السيد المسيح على تلك المزاعم اليهودية معلنا أن إبراهيم هو أبو الناس أجمعين بالإيمان، ثم ما أكده الإسلام فيما بعد أن إبراهيم لم يكن يهوديا.. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ...
ثم تابعنا في الفصل الثاني سيرة إسحق ويعقوب وما تخللها من أساطير وخرافات يأباها الدين الحق، وخاصة ما كان منها مجافيا للسلوك الخلقي الكريم، والعقيدة التوحيدية الصافية، مقتبسين ما سردته التوراة من حوادث الإرهاب اليهودي ، ونقص العهد، وأخيرا ملحمة الصراع بين "الرب ويعقوب" فيما يوحي بانتصار العبد على ربه، مما كان سببا في تسميتة إسرائيل، أي جندي الله.. وكان ذلك أشنع ما سردته التوراة من خرافات.. على كثرة ما تضمنته من خرافات، ما أنزل الله بها من سلطان ولا برهان.(1/49)
وقد أصبح من واجبنا بعد أن احتكمنا إلى التوراة، وهي المرجع الوحيد لليهود في كل دعاواهم السياسية والدينية والتاريخية، أن نحتكم إلى التاريخ، والى العلم، لنتبين مدى الصلة بين اليهود وإبراهيم.. فإن هذه المقولة اليهودية ليس لها ذرة من الصدق. وليس لها ما يؤيدها إلا شيوعها القديم، حتى لقد أصبحت مسلمة بسيطة تقبلها الكثيرون على أنها حقيقة علمية ... يقابلونها بعدم المبالاة، ويهزون أكتافهم حين يسمعونها.. لا يبالون أكانت صحيحة أم باطلة، ولا يقفون أمامها لحظة واحدة ليلقوا عليها نظرة فاحصة.
ومما أعان على شيوع هذه المقولة اليهودية الباطلة، أن ضحاياها العرب لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث العلمي الصابر للكشف عن بطلانها مكتفين بالتنديد والعبارات العامة دون أن يفعلوا كالعرب القدامى الذين يقصون أثر الجريمة بين كثبان الرمال حتى يصلوا إلى الجاني في مأواه ...
والواقع أنه لولا الكسل العقلي الذي هو داء عضال في أجيال الرأي العام عبر التاريخ، لكان من السهل تبيان الصواب والخطأ في المقولة اليهودية السخيفة، فهذه لا تحتمل الصمود أمام التساؤل المنطقي العادي..
والمنطق يتساءل أولا:- هل المسيحيون هم أبناء السيد المسيح ومن
ذريته ؟. ويتساءل ثانياً : وهل المسلمون هم أبناء محمد ومن ذريته؟.
بل إنه يتساءل ثالثا:- وهل البوذيون والهندوس والبراهمة هم أبناء أصحاب هذه المذاهب الدينية ومن ذريتهم؟
ولو أننا خرجنا من إطار الدين إلى السياسة المعاصرة، فإن المنطق يتساءل رابعا وهل الماركسيون من أبناء ماركس ومن ذريته ؟ وهل المغول المعاصرون من أبناء تيمور لنك وجنكيز خان ومن ذريتهما؟
إن جواب النفي على كل هذه الأسئلة ينطبق على اليهود أنفسهم، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا أبناء إبراهيم ومن ذريته.(1/50)
وهنا حجة إضافية أخرى وهي أن اليهود واليهودية لم يكن لهما وجود في عهد إبراهيم، فإن موسى صاحب الديانة اليهودية قد جاء بعد إبراهيم بمئات الأعوام، والجماعة اليهودية قد نشأت بعد عهد موسى، ولم يكن لها وجود في عهد إبراهيم فكيف يمكن لهذه الجماعة أن تنسب إلى إبراهيم؟.
وكذلك فإنه لا يمكن أن يكون إبراهيم إسرائيليا، لأن إسرائيل (يعقوب) هو حفيده ومن البلاهة أن ينتسب المرء إلى إحفيده ولا يمكن أن يكون يهوديا: لأن، يهوذا الذي سُمِي اليهود باسمه هو واحد من أبناء يعقوب (إسرائيل) ، أي ابن حفيده.
وقد أشار إلى هذا المعنى عدد من المؤرخين المحققين وعلى رأسهم المؤرخ العربي أبو الفدا، فقد نبه إلى أن "اليهود" أعم من بني إسرائيل لأن كثيرا من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهودا ولم يكونوا من بني إسرائيل (1) .
وغني عن البيان أن رأي "أبو الفدا" قد صدر عنه قبل قيام الصهاينة بقرون وأجيال، ولا يمكن أن يكون محل شبهة أو نزوع إلى العصبية العربية.
ولعله يكون من المفيد ونحن نعرض لهذا الجانب التاريخي أن نضع أمام القارئ العربي بعض التواريخ التقريبية تبين التسلسل التاريخي للأحداث المتصلة بهذا الموضوع (2) قبل الميلاد:-
1880 ... مولد إبراهيم الخليل في أور الكلدانيين بالعراق.
1805 ... هجرة إبراهيم مع أسرته من العراق في طريقه إلى فلسطين.
1794 ... رحيل إبراهيم إلى مصر ومولد إسماعيل من هاجر المصرية.
1780 ... مولد إسحق من سارة العراقية.
1656 ... هجرة يعقوب(إسرائيل) وأولاده إلى مصر.
1227 ... خروج موسى مِن مصر.
وواضح من هذا التقويم الزمني أن بين عهد إبراهيم وموسى أكثر من ستماية عام، وبين عهد يعقوب (إسرائيل) وموسى حوالي 430 عاما ... فيكف يمكن أن يكون اليهود موجودين قبل وجودهم التاريخي بمئات السنين.
__________
(1) أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر، ص87.
(2) الأستاذ مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين .(1/51)
وفي مرجع تاريخي يعود زمانه إلى القرون الوسطى نقرأ في كتاب "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" لمؤلفه مجير الدين الحنبلي، في سياق سيرة إسحق أن أمه سارة ولدته ولها من العمر تسعون سنة، ومن ولده الروم والأرمن واليونان ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل.
وهذا المرجع العربي، قد سبق الصهيونية بمئات السنين.. ولا يمكن أن ينسب إليه الانحياز إلى وجهة النظر العربية.. فلم يكن يومئذ وجهة نظر عربية وأخرى صهيونية.
غير أن للموضوع جوانب أخرى تسندها حقائق علمية كلها حول قضية أساسية جوهرية تقتلع القضية اليهودية من الجذور تذروها هشيما مع الرياح.
هذه القضية الأساسية تتمثل في السؤال البسيط ... ما هي اليهودية؟ ومن هم اليهود؟
وعلى الجزء الأول من السؤال يمكننا الجواب بأن اليهودية هي الرسالة الدينية التي جاء بها نبي اليهود موسى.. أما القسم الثاني من السؤال فإنه على بساطته فقد جعله أحبار اليهود غاية في التعقيد والغموض، والمحاكم الإسرائيلية مشغولة منذ زمن في تعريف من هو اليهودي؟ والاجتهادات متناقضة في هذا الموضوع .. وسيظل الجواب تائها شأن اليهودي التائه عبر العصور الخالية..
غير أننا سنتناول الموضوع من الزاوية القومية والعنصرية ... لأن قيام إسرائيل بذاته يقوم على أسس قومية وعنصرية ... فاليهود أنفسهم قد اختاروا أن تكون الصهيونية قائمة على هذه الأسس.
ولكن الحقيقة العلمية كما اعترف بها عدد غير قليل من علماء اليهود ومفكريهم الأحرار، أن اليهود ليسوا شعبا ولا قوما، ولا جنسا، ولكنهم جماعات تؤمن بالديانة اليهودية منتشرة في جميع بقاع العالم وأن هذه الجموع تنتمي إلى أصول متعددة، وأجناس متباينة وأنها لا تستمد وجودها من أصول واحدة ...
وهذه النظرة العلمية المجردة، يفرض العقل والمنطق صوابها وصحتها، فإن أصحاب الأديان، السماوية وغيرها، لا تجمعهم إلا رابطة الدين، ولا يعودون بأصلهم إلى "أصل واحد" سوى الإنسان الأول، أصل كل الأصول.(1/52)
فالمسيحيون مثلا ... ينسبون إلى أعراق ودماء متعددة، وأصول متباينة، وكذلك المسلمون فإنهم أمم منتشرة في شتى بقاع الأرض، وذلك شأن أصحاب المذاهب والعقائد الأخرى.
ويثور السؤال الخطير الكبير ... ولم يكون اليهود غير ذلك؟ لم الإصرار على أن اليهود ينحدرون من جنس واحد، ودم واحد ومن أب واحد" مع الاستحالة المطلقة لإثبات هذا النسب أو ذاك عبر القرون والعصور، وفي عالم اختلطت فيه الدماء اختلاط مياه البحار بعضها ببعضِ، وامتزاج الرياح بالرياح من المشرق إلى المغرب.
وامتزاج اليهود بالشعوب الأخرى ظاهرة خفيت على كثيرين إحساساً منهم بأن اليهود قد عزلوا أنفسهم عن بقية الشعوب سكنا وعملا وزواجا ... ولكن الواقع التاريخي كان أغلب من العزلة اليهودية.. فإن تشتت اليهود في كل أقطار العالم، قد فرض عليهم أن يعيشوا في كل المجتمعات العالمية والاختلاط بها أحبوا أم كرهوا، رغما عن أن عامل الشتات قد انفرد به اليهود دون غيرهم من الشعوب.
واليهودية منذ نشوئها لم تكن قاصرة على أمة بذاتها، فقد انتشرت اليهودية، شأنها شأن الديانات الأخرى، في أقطار متعددة ولأسباب مختلفة.. والتاريخ يحدثنا عن أقوام كثيرة اعتنقت الديانة اليهودية.. وإن تكن هذه العقيدة قد اقتصرت في بادئ الأمر على قوم موسى.. وهؤلاء كما سنرى في الفصول التالية ينحدرون من أصول متعددة، سامية وغير سامية.
والتوراة نفسها قد اعترفت بأن أقوام كثيرين قد اعتنقوا اليهودية، ففي سفر استير الذي يستعرض سيرة اليهود في بلاد فارس نجد في الإصحاح الثامن عرضا تفصيليا لأحداث وقعت لليهود ويشير إلى فرح اليهود في "كل بلاد ومدينة ومكان وصل إليه كلام الملك وأمره وكان فرح وبهجة عند اليهود وولائم ويوم طيب, وكثيرون من شعوب الأرض تهودوا".(1/53)
والذي يقرأ هذه السفر بجميع إصحاحاته يتبين أن مملكة "احشر ويروش الذي ملك من الهند إلى كوش على مائة وسبع وعشرين كورة" كانت تعيش فيها جماهير غفيرة من اليهود.. ومثل هذه المملكة لابد أن تكون مؤلفة من أقوام متعددة، تنحدر من أصول مختلفة هندية وفارسية.. فأين صلة هذه الأقوام بإبراهيم العراقي.. أو بموسى المصري العربي؟
ولذلك فإن كلام بيجن رئيس وزراء العدو عن إبراهيم أبا مشتركا للعرب واليهود تكذبه التوراة بصورة قاطعة.. فأين إبراهيم من الفرس والهنود والأقوام المتعددة التي كانت تعيش في مملكة فارس المترامية الأطراف كما وصفتها التوراة في سفر أستير؟
وما يقال عن يهود مملكة فارس يصح أن يقال بشأن يهود أوروبا بصورة عامة، فهؤلاء هم من أصل أوروبي صميم وقد اعتنقوا الدين اليهودي على أيدي مبشرين من اليهود في القرن الثالث قبل الميلاد وفيما تلاه من القرون ... وقد كان التجمع اليهودي مستقرا في حوض نهر الراين الشمالي والأوسط ومن هناك انتشروا في وسط أوروبا وفي شرقها وغربها ... وهؤلاء لا صلة لهم بفلسطين، ولا كان لآبائهم وأسلافهم أية علاقة بفلسطين من قريب أو بعيد، فإن هؤلاء من أصل جرماني أو سلافي أو بلقاني.
والقول بأن اليهود المعاصرين الذين يبلغون اليوم بضعة عشر مليونا هم أحفاد اليهود الذين كانوا في فلسطين وطردهم الرومان منها قبل ألفي عام.. مثل هذا القول ليس له برهان، ويستحيل اثباته بعد عشرين قرنا من الزمان.
وملامح هؤلاء اليهود المعاصرين تناقض هذه الدعوى، لأننا نجد فيهم الشقر ذوي العيون الزرقاء، والشعر الأصفر في أوروبا وأمريكا، وفيهم السمر ذوي الشعر المجعد في هضبة الحبشة، والسمر في جنوب الهند، والصفر المغول في الصين، واختلافات كثيرة قلما أن تجدها في شعوب أخرى في العالم.
وأنه من غير المعقول أن تكون هذه السمات من الأسود إلى الأشقر إلى الأصفر، كلها منحدرة من سلالة واحدة.(1/54)
والعقيدة اليهودية لم تكن قاصرة على أوروبا وحدها بل إنها انتشرت في الجزيرة العربية، وفي مصر قبل الإسلام بقرون وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى ذلك وخاصة في سورة النحل.
ولا يغيب عن البال أن المبشرين اليهود كان لهم نشاط كبير في أنحاء متعددة من العالم للدعوة إلى الدين اليهودي والحث على اعتناقه وقد كتب العالم اليهودي (Lou Sillaberman) وهو أستاذ جامعي في الأدب اليهودي مقالا في دائرة المعارف البريطانية تحت مادة (Judaizm) أيد فيه أن اليهود نشطوا إلى التبشير عندما رأوا الوثنية قوية النفوذ منتشرة في العالم، وأن الكتاب القدماء من اليونان والرومان كانوا يشيدون بقوة النشاط التبشيري الذي قام به اليهود.
وإذا ذكرنا أن الديانة اليهودية قد جاء بها موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد أتضح لنا أن اليهود قضوا بضعة عشر قرنا يعملون بجد ونشاط في نشر ديانتهم لبضعة قرون قبل العهد المسيحي وبعده، ويقينا فإن الشعوب والأمم التي دخلت في الدين اليهودي لا تمت بصلة إلى إبراهيم أو يعقوب (إسرائيل)، ولا إلى يهود فلسطين بصورة عامة، ولذلك فإنه لا صلة لهم ببني إسرائيل، وبالتالي فلا يمكن أن يوصفوا بأنهم إسرائيليون وإن كان صحيحا أنهم يهود تهودوا على أيدي دعاة اليهودية. ونحن لا نعرف سجلا يهوديا أو عالميا يحدد لنا يهود فلسطين الأصليين، ويهود العالم الآخرين ...
ولذلك فالقول بأن اليهود هاجروا ويهاجرون إلى فلسطين إنما يعودون إلى أرض آبائهم يكذبه التاريخ والعلم والواقع.. فإن آباء الشعب اليهودي ينتمون إلى سلالات متباعدة فيما بينها ولا ترتبط برابطة جنسية أو سلالية.(1/55)
ويكفينا في هذا المجال أن نشير إلى ما كتبه علامة محايد، هو الأستاذ أوجين بيتار أستاذ علم الأنثروبولوجيا في جامعة جينف من أن "جميع اليهود بعيدون عن الانتماء إلى الجنس اليهودي، وأن اليهود يؤلفون جماعة دينية اجتماعية، ولكن العناصر التي تتألف منها متنوعة تنوعا عظيما" (1) ، وقد أضاف الأستاذ بيتار أن "الصهيونية قد قذفت إلى فلسطين بجماعات يهودية متعددة الأصول والأجناس".
وهذا القول يؤيده واقع التجمع اليهودي فإن انتشار الدين اليهودي إلى ارض الصين شرقا و إلى حوض الراين وبلاد أوروبا غربا يقطع على وجه اليقين أن الوحدة الجنسية بين الجماعات اليهودية غير قائمة إطلاقا وأن الشعب اليهودي هو مجموعة شعوب غريبة بعضها عن بعض.
ومن أبرز الدلائل على تعدد أصول "الشعب اليهودي" يهود بلاد القوقاز الذين كانوا يؤلفون مجموعة هامة في القرون الوسطى، ومن هذه المجموعة امتد انتشار الدين اليهودي في شعب الخزر أيام الإمبراطور شرلمان.. ففي ذلك الوقت اعتنق الخزر جميعا الدين اليهودي جماعة واحدة وأصبح شعب الخزر بكامله يهوديا بين عشية وضحاها ... فقد كانوا وثنيين في العشية وأصبحوا يهودا في الضحى..
ومعروف أن الخزر هم من القبائل المغولية.. فأية صلة للمغول بفلسطين، أو إبراهيم، أو يعقوب، أو يهود فلسطين.
ولا يفوتنا كذلك أن الدين اليهودي قد انتشر بين الشعوب الجرمانية والسلافية في عهودها الأولى، قبل المسيحية بقرون.. ومن الوقائع التاريخية الثابتة وجود تجمع يهودي كبير تم تكوينه قبل ميلاد المسيح بقرنين أو ثلاثة، في الحوض الشمالي لنهر الراين ومنه تفرعت مجموعات أخرى في بولندا وروسيا الغربية.
__________
(1) الجنس والتاريخ Eugen pittard-les Races et Historie(1/56)
وعلى ذلك فإن هذه الجماعات اليهودية تنتمي إلى سلالات سلافية وجرمانية، وهؤلاء لم يكن لهم في ذلك العهد أي تاريخ أو صلة بفلسطين والشرق الأوسط، كالفرس والرومان مثلا، فإن هذه الإمبراطوريات قد بسطت سلطانها على الشرق الأوسط لزمن طويل.
وما يقال عن يهود أوروبا صحيح بالنسبة إلى يهود اليمن والحبشة ومصر، فإنه من الجائز أن يهود فلسطين كانوا في القدم من المبشرين للديانة
اليهودية .. ولكن الذين تهودوا على أيديهم هم أحباش ومصريون ويمنيون أبا عن جد، لا تربطهم بفلسطين أية رابطة، ولا نسب بينهم وبين بني إبراهيم، أو بني يعقوب، ولم يكن أحد منهم من قوم موسى في رحلته المضنية في سيناء إلى الأردن، إلى فلسطين.
ولا نريد أن نسرد تحقيقات علماء الأجناس في هذا الموضوع، ولكن ما دام اليهود يزعمون أنهم منحدرون من جنس واحد وأن اليهود العالم قد ولدوا جميعا من الشعب الإسرائيلي الذي عاش في فلسطين أصبح من واجبنا أن نرجع إلى أقوال علماء الأجناس في هذا الصدد..
وعلى رأس العلماء في هذا البحث يأتي الأستاذان وولي وبيتار، فهذان الباحثان الكبيران قد توصللا إلى نتائج حاسمة بعد دراسات مستفيضة لصفات الطوائف اليهودية في مختلف الأقطار ووجدا أن اليهود في أفريقيا الشمالية لا يختلفون عن العرب والبربر، وفي ألمانيا فإنهم يشبهون الألمان شبها واضحا، وفي البلاد السلافية فاليهود لا يختلفون عن مواطنيهم السلاف.. وعلى هذا فقد وجد هذان العالمان اختلافا بعيدا بين هذه الجماعات اليهودية.. ولو كانت من سلالة أو جنس واحد لوجدا فيها تشابها وتماثلا..
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ وولي في كتابه عن "أجناس أوروبا" أن تسعة أعشار يهود العالم يختلفون عن سلالة أجدادهم اختلافا واسعا ليس له نظير، وأن الزعم بأن اليهود جنس نقي حديث خرافة.(1/57)
وقد وضع الأستاذ وولي كتابه هذا في أواخر القرن الماضي، قبل أن تنشأ المشكلة الفلسطينية، وقد اعتمد هذا المؤلف كلمة رينان الفيلسوف الإفرنسي الشهير في تأكيده بأن كلمة يهودي ليس لها معنى أنثروبولوجي لا في أوروبا ولا في حوض نهر الطونة، وكذلك أيد ما قاله الأستاذ لمبروزو في ملاحظته بأن اليهود الحديثين هم أقرب إلى الجنس الآري منهم إلى الجنس السامي.
والأستاذ بيتار تناول هذا الموضوع من جوانب أخرى فقال في كتابه الذي أشرنا إليه "إن اليهود عبارة عن طائفة دينية اجتماعية انضم إليهم في جميع العصور أشخاص من شتى الأجناس، وهؤلاء المتهودون جاءوا من جميع الآفاق، فمنهم الفلاشا من سكان الحبشة، ومنهم الألمان ذوو السحنة الجرمانية، ومنهم التامل اليهود السود من الهند، ومن الخزر وهؤلاء من الجنس التركي".. ومن المستحيل أن نتصور أن اليهود ذوي الشعر الأشقر أو الكستنائي والعيون الصافية اللون الذين تلقاهم في أوروبا الوسطى يمتون بصلة القرابة إلى أولئك الإسرائيليين القدماء الذين كانوا يعيشون بجوار نهر الأردن.
وما أبعد أهل الراين والطونة عن أهل الأردن، دما وتاريخا ووجودا ؟؟
وثمة عالم كبير له مقام مرموق في مجال الأبحاث الأنثروبولوجية، ومن حسن الحظ أنه يهودي أباً وأما واسما هو فريدريخ هرتس، صاحب كتاب(1/58)
"الجنس والحضارة تناول فيه موضوع التكوين الجنسي لليهود، وقد قال بعد دراسة مستفيضة في هذا الموضوع: لقد استطاع اليهود أثناء تاريخهم الطويل أن يمتصوا مقدارا كبيرا من الدماء الأجنبية, وهذه الحقيقة تفسر ما نراه فيهم من اختلاف في الصور والأشكال، ومشابهتم للشعوب التي يعيشون فيها.. وقد كان اعتناق الديانة اليهودية بواسطة اليونان والرومان والشعوب الأخرى أمراً كثير الحدوث، وعلى الأخص في القرن الأول والثاني قبل الميلاد. أما في العصور الوسطى فعلى الرغم من جميع العقبات فقد حدث مثل هذا التحول إلى الديانة اليهودية خاصة في البلاد السلافية، وهذا هو السبب في أننا نرى اليهود الروس والبولونيين يشبهون السلاف شبها لا شك فيه ... واليهود الألمان أقرب شبهاً بسائر الألمان منهم بإخوانهم في الدين من أهل فلسطين.. (1)
والمتأمل في وجه بيجن، وهو بولوني الأصل، يستطيع أن يتفق تماما مع الأستاذ هرتس، ويستطيع أن يرى فيه الملامح السلافية وأن هذا اليهودي الأجنبي العدو، ومعه سائر اليهود الأوروبيون لا يشبهون في شيء، يهود فلسطين القدامى، ولا يهود البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.. وهذا ينطبق على كثيرين من زعماء اليهود من أمثال وايزمن وجولدا مائير وأشكول وغيرهم.
ولم يكن انتشار اليهودية بين مختلف الأقوام والأمم نتيجة التبشير والدعوة فقط ولكنه جاء كذلك بأسلوب العنف والقوة ... وقد أشار إلى ذلك المؤرخ البريطاني الشهير توبيني في مقالة نشرها في مجلة جويش فرونتير في فبراير 1955 قال فيها "إن المكابيين (اليهود) أجبروا أدوم والجليل على اعتناق اليهودية بالقوة، وبذلك مهدوا لأن يكون هيرود والمسيح يهوديين وليسا من الأمميين".
__________
(1) فريدريخ هرتس ، الجنس والحضارة، ص313 (Frdrich Herz- Race & Culture).(1/59)
وأنها لمفارقة عجيبة أن تهويد السيد المسيح جاء بأعظم مصلح يهودي ثار على كل مفاسد اليهود، وأن هيرود حاكم القدس فيما بعد كان أعظم أعداء اليهود في زمانه.
ولكن المرجع الأكبر عن مملكة الخزر اليهودية الذي نستطيع اعتماده بكل ثقة واطمئنان بشأن الخزر الذي أشرنا إليهم هو دائرة المعارف اليهودية بمجلداتها الضخمة وهي موسوعة كبرى عن تاريخ اليهود منذ أقدم العصور وقد تفرغ لكتابتها عدد وافر من علماء اليهود، ومؤرخيهم وحاخاماتهم. وهذا المرجع قد كشف عن حقائق علمية متعددة ولا يتسع هذا الفصل لترجمة مقتبسات وافية عنها.. وتكفينا إشارات عابرات لأهم ما جاء فيه، وللقارئ العربي إذا أراد المزيد أن يرجع إلى دائرة المعارف اليهودية نفسها. فقد كان لهؤلاء الخزر، وهم من أصول تركية مغولية، مملكة في روسيا، وتحدثت الموسوعة اليهودية عن الأثر الديني والثقافي لليهود على جماعات الخزر، واعتناقهم الدين اليهودي، ومبلغ أهمية هذه
الدولة اليهودية بين القرنين السابع والعاشر بعد الميلاد.. وتنكر الموسوعة حتى مجرد وجود جنس يهودي له أية صلة تاريخية بفلسطين أو أية رابطة بالأقوام التي استوطنت فلسطين قبل ألفي عام.
ويأتي بعد الموسوعة اليهودية، مرجع لا يقل عنها أهمية، ويفوقها تخصصا ، وهو كتاب تاريخي مرموق وضعه عالم يهودي كبير هو الأستاذ دانيا عن "تاريخ اليهود في روسيا وبولندا من أقدم العصور" وشرح فيه الحماسة الدينية للملك عباديا ملك الخزر وعن تقدم المملكة اليهودية وقوتها، كما تحدث عن حماسة الحكام اليهود اللاحقين، وقد ندّد الأستاذ دانيا في آخر "تاريخ اليهود" بجهل اليهود في الأقطار الأخرى بأحوال مملكة الخزر.(1/60)
وفي هذا المجال لا نستطيع أن نغفل ذكر عالم يهودي آخر هو الأستاذ جريننز، فقد كشف في كتابه القيِّم "تاريخ الشعب اليهودي" عن حقائق فريدة تتصل بحياة مملكة الخزر، منها أن عرش هذه المملكة قاصر على اليهود فقط فلا يتولاه إلا أمير يهودي متمسك بالتعاليم اليهودية، وأن الملك عبادا كان قد أصدر أوامره إلى علماء اليهود أن يعلموا الشعب مبادئ دينهم ... ويستعرض هذا الكتاب فيما بعد كيف انتهى أمر هذه الدولة اليهودية بعد القرن الثالث عشر وكيف ذاب شعبها في الدولة الروسية.. وأن أبناء آخر ملوك الخزر قد هربوا إلى إسبانيا.. والنتيجة التي تستخلص من هذا الكتاب القيم أن يهود أوروبا الشرقية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا من نسل سكان فلسطين الذين شردوا من البلاد قبل ألفي سنة.
ولا بد لنا من الإشارة إلى مرجع أمريكي معروف في مجالات الأبحاث الأنثروبولوجية، وخاصة أن أمريكا لها النصيب الأوفر في إنشاء إسرائيل وتسليحها ودعمها بكل الأسباب الاقتصادية والسياسية ... هذا المرجع هو العالم الأمريكي الأستاذ رولاند ديكسون، أستاذ الأنثروبولوجي في جامعة هارفارد.
يقول العالم الأمريكي المذكور في كتابة " جنس الإنسان وتاريخه" أن بلاد الأناضول وأرمينيا والقفقاس وأواسط آسيا هي المهد الأصلي للأكثرية العظمى لليهود المعاصرين في العالم، وأن هؤلاء ليسوا ساميين إلا باللغة فقط".
وكل هذه المراجع العلمية، وغيرها تقود الباحث المنصف، إلى مفارقة عجيبة، وهي أن جميع يهود أوروبا الشرقية، وفي مقدمتهم بيجن رئيس وزراء العدو، هم من أحفاد الخزر، لا صلة لهم ولا لآبائهم بفلسطين من قريب ولا من بعيد، وأن هؤلاء الذين تقول عنهم الصهيونية أنهم عائدون إلى وطنهم التاريخي فلسطين إنما هم غرباء وغزاة محتلون، يتوجب إجلاؤهم عن البلاد كما تم إجلاء كل غزوة أجنبية عن أي قطر في آسيا وأفريقيا، وأية بقعة أخرى ابتليت بالاحتلال الأجنبي.(1/61)
والواقع أن غربة اليهود بالنسبة إلى فلسطين قديمة قدم التاريخ، فإن تاريخهم هو تاريخ غربة في فلسطين، وقد وردت إشارات متعددة عن ذلك في كتابهم المقدس "التوراة".
ويكفينا أننا نقرأ في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين أن "الرب ظهر لإبرام"-(إبراهيم) وفي حديث معه وصف "كل أرض كنعان" –فلسطين بقوله "أرض غربتك وهو في الواقع غريب عن فلسطين هاجر إليها من أور الكلدانيين- موطن آبائه وأجداده.
فإذا كان بيجن رئيس وزراء العدو يعود بنسبة إلى إبراهيم فإن إبراهيم نفسه غريب عن فلسطين بأكملها , كما قال له "الرب" رب إسرائيل ورب بيجن , ما دام موصوفاً بتمسكة باليهودية .
وتأتي التوراة بعد ذلك لتكشف أمر الغربة بوضوح أقطع وأسطع، ففي الإصحاح الثاني والعشرين في سفر التكوين تحدثنا التوراة أن سارة (زوجة إبراهيم) ماتت ... "فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بني حث قائلاً أنا غريب ونزيل أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي"، وتقص التوراة بعد ذلك كيف أعطاه أهل البلدة مغادرة ليدفن فيها زوجته.. ودفنها.
وهل نحن في حاجة إلى دليل أوضح من نص التوراة ذاتها، ومن فم إبراهيم نفسه يستنفر مروءة الأهلين بأنه "غريب ونزيل عندهم" ويطلب منهم مدفنا لزوجته وهي مسجاة على فراش الموت أمامهم.
وهذه الغربة بالنسبة لإبراهيم وردت بعد ذلك في مواضع متعددة من التوراة ومن الإنجيل كذلك.
بل أن "إبرام" قد أضيف إليه في التوراة تعريف محدد "إبرام العبراني".. واختلف علماء التوراة في تفسير هذا اللفظ فقيل أنه نسبة إلى "عابر" أحد أجداد إبرام ... وقيل إنه نسبة إلى عبوره نهر الفرات في ارتحاله من العراق إلى البلاد العربية الأخرى.
وكل ذلك توكيد أنه غريب عن فلسطين بأسرها، ذلك أنه منذ القدم، كان لا بد أن يلحق باسم المهاجرين والوافدين صفات تدل على أنهم غرباء وأنهم ليسوا من أهل البلاد الأصليين.(1/62)
وكائنا ما كان السبب في إلحاق لفظ "العبراني" إلى اسم إبراهيم، فإن لفظة العبرانيين تمتد جذورها إلى إبرام العبراني، وبذلك يكون العبرانيون جماعة من الغرباء , وأن إبراهيم هو الغريب الأول وأن جميع سكان إسرائيل هم مجموعة من الغرباء الوافدين.
ولكن أسو أ التفاسير التي قدمها العلماء في أصل لفظة العبرانيين أنها مشتقة من لفظة "الخابيرو" وقد وجدوا هذا الاسم في النقوش المصرية والبابلية وبعض المراجع التاريخية.
وقيل في تعريف "الخابيرو" أنهم قوم-من غير حسب ولا نسب، ليس لهم أصل معروف وأنهم جماعة من شذاذ الأرض عاشوا في الشرق الأوسط يرتحلون من إقليم إلى إقليم، يعيثون في الأرض فساداً، ويقطعون الطريق وهم أشبه ما يكونون بمرتزقة هذه الأيام، يؤجرون شقاوتهم لكل طالب أو راغب.
وفي خضم هذه المراجع العلمية عن أصل العبرانيين وانتشار الديانة اليهودية فيما بعد في أقطار أوروبا الشرقية وغيرها، يجب أن لا يغيب عن بالنا نشوء اليهودية والجماعات اليهودية في الوطن العربي..
وإذا بدأنا بفلسطين فإنه مما لا شك فيه أن قوم موسى، ومعظمهم من اليهود، قد دخلوا إلى فلسطين قي قصة طويلة سنشرحها في فصول تالية. ومن فلسطين انتشرت الديانة اليهودية إلى أقطار أخرى بالتبشير تارة وبقوة السلاح تارة أخرى-كما أشار إلى ذلك كثير من المراجع العلمية.
ولكن يهود فلسطين هؤلاء قد تشتت معظمهم إلى أقطار أخرى في الوطن العربي وفي خارجه. وأكثرهم كان نصيبه إلى بابل وآشور. وقد استقر الكثير من هؤلاء في مواطنهم الجديدة في العراق ولم يعودوا إلى فلسطين مع من عاد.. وذابوا في الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها.(1/63)
ودخلت اليهودية كذلك إلى الحبشة، بالتبشير أو بأسباب أخرى، وكان لليمن نصيب غير قليل من تاريخ اليهودية ومن علمية التهويد.. فإن ملوك حمير وهم من العرب الصرحاء الأقحاح قد تهودوا لأسباب سياسية ولا يتسع هذا الفصل للخوض فيها.. ومن الطبيعي أن جماهير كثيرة من الشعب اليمني قد تهودت، والناس على دين ملوكهم كما يردد القول المأثور.
ولم يكتف ملوك اليمن اليهود بتهويد شعبهم، ولكنهم حاولوا أن يهودوا نصارى نجران، فإن الملك اليهودي ذانواس قد راح ينكل بالنصارى ليحملهم على التخلي عن دينهم واعتناق اليهودية فأعمل فيهم السيف وألقى بأجسادهم في أخدود تشتعل فيه النيران، وقد ذكر القرآن هذا الإرهاب اليهودي في آيات غاضبة جاء فيها "قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (سورة البروج4-8).
وما كان من نجاشي الحبشة المسيحي إلا أن ينتقم من ملوك اليهود في اليمن، فجهز لهم حملة عسكرية، فأزال دولتهم، وكما زالت دولة الخزر اليهودية في شرقي أوروبا زالت دولة اليهود اليمنية في جنوب الجزيرة.
وكما كان لليهود تاريخ في جنوب الجزيرة العربية، فقد سجل لهم التاريخ وجودا بارزا في شمال الجزيرة العربية، في الحجاز، وفي يثرب بالذات، المدينة المنورة.
والمراجع العربية الإسلامية قد تضمنت فصولا مطولة عن يهود المدينة المنورة، وما بلغوه من مكانة مرموقة في التجارة والزراعة والصناعة، واشتهارهم في بناء الحصون.
وقد كان الوجود اليهودي في الحجاز يتمثل في قبائل برمتها وخاصة في يثرب، وهؤلاء جميعا منحدرون من أصول عربية اعتنقوا الديانة اليهودية لسبب أو لآخر، ولم يكونوا من قوم موسى الذين دخلوا معه إلى فلسطين ولا من أحفاد إبراهيم ولا أبناء يعقوب، فإنهم عرب أقحاح، وليسوا إسرائيليين من أبناء يعقوب إسرائيل.(1/64)
وبهذه الصفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب لهم عهدا بيَّن لهم حقوقهم وواجباتهم.. وكان العهد بين محمد النبي.. ويهود بني عوف.. ويهود بني النجار .. ويهود بني الحارث .. ويهود بني ساعده ويهود بني جمح.. ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة وقد وقع بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير، وهم القبائل اليهودية الأخرى عهودا مماثلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.. وكل هذه أسماء قبائل عربية تعرف أنسابها ومواطنها في الجزيرة العربية، ولم يكن لها وجود في فلسطين، ولا في سيناء التي عبر منها اليهود إلى فلسطين.
وهذه القبائل اليهودية حاربت الدعوة الإسلامية كما فعلت القبائل العربية الأخرى غير اليهودية.. وتحالف اليهود مع المشركين الأوس والخزرج، لمناهضة الإسلام والكيد لصاحب الدعوة الإسلامية لأنها كانت تخشى انتشار الدين الجديد بين القبائل اليهودية.
ولم يكن من فارق بين القبائل اليهودية، والقبائل العربية غير اليهودية، فقد كان لهم شعراؤهم كشعراء العرب الآخرين، ينظمون في الهجاء والغزل تماما كما ينظم شعراء العرب في الجاهلية.. وقد شارك شعراء اليهود في رثاء قتلى بدر من المشركين تعاضدا معهم وحقدا على الإسلام والمسلمين.
وقد نظمت الشاعرة اليهودية أسماء بنت مروان كثيرا من القصائد في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنشد الشاعر اليهودي كعب ابن الأشرف عدة قصائد يحرض فيها القرشيين على الأخذ بثار قتلاهم في معركة بدر-أنشدها على مسمع عدد من المسلمين والقارئ لهذه القصائد لا يستطيع أن يرى فيها كلمة واحدة تدل على يهودية صاحبها.. فهي لا تقل جودة عن الشعر الجاهلي الجيد.(1/65)
وقصيدة السموأل-صموئيل- الشاعر اليهودي المعروف من أروع ما جاء في الشعر العربي عن السجايا العربية الكريمة. وكنا نحفظها عن ظهر قلب في أيام الصبا الباكر وننشدها بكل فخر واعتزاز، قبل أن تقتحم علينا الصهيونية وطننا، وتجلينا عن ديارنا وتوقع النكبات الكبرى في الأمة العربية بأسرها.
ولم تكن مصر بعيدة عن الدعوة اليهودية.. فإن بني إسرائيل قد أقاموا في مصر قرابة أربعة قرون ونصف كما سنرى في الفصول التالية.. ثم قام فيهم موسى فقادهم إلى سيناء ومنها إلى فلسطين، وأصبح قومه يهودا فيما بعد.
ولكن اليهودية تسللت إلى مصر بطرق شتى بعدئذ، وكان لليهود شأن كبير في الإسكندرية وغيرها، وكان لهم معبد في أقصى الجنوب، في جزيرة الفنتين في أسوان.
وامتد وجودهم في العصور الإسلامية في عهد الفاطميين وغيرهم من الدول الإسلامية ... وأصبح لهم شأن كبير في تصريف أمور الدولة مما أغضب الشاعر المصري ابن البواب فأنشد يقول ...
يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر لقد نصحت لكم
تهودوا قد تهود الملك
وهذا الشعر ينطبق على مصر في عهد السادات.
ونخرج من هذا العرض السريع في تلخيص تاريخ اليهود في أوروبا وفي الوطن العربي، أنهم منحدرون من شعوب وأقوام وسلالات متباعدة بعضها عن بعض، وأن بيجن رئيس وزراء العدو، ومعه الألوف المؤلفة من اليهود، لا قرابة لهم بإبراهيم، ولا أبنائه، ولا صلة لهم بموسى إلا عن طريق العقيدة اليهودية.. ولا شأن لهم بالتالي بقوم موسى الذين خرجوا من مصر، وعبروا سيناء إلى فلسطين.. وأن ما يزعمونه من "العودة" إلى فلسطين أرض الآباء والأجداد ما هو إلا غزو وعدوان واحتلال.. وكل ذلك إلى زوال.. وكذلك يجب أن يكون.
وبعد، فأين أبناء الخزر من أبناء بيت المقدس..
وأين أهل الراين والطونة (الدون) من أهل الأردن..
وأين أهل الصين من أهل فلسطين.
الفصل الرابع(1/66)
أكبر حملة سلب في التاريخ
يقترفها بنو إسرائيل في مصر
أكبر حملة سلب في التاريخ
يقترفها بنو إسرائيل في مصر
كان من أعجب العجيب، وأغرب الغريب، في خطاب بيجن رئيس وزراء العدو الذي أذاعه على الشعب المصري في الحادي عشر من شهر نوفمبر 1977 .. أن يتحدث عن الحق والعدل والقيم الإنسانية العظيمة ..و إلى الشعب المصري بالذات ...
ولو كان ذلك الخطاب موجها لغير الشعب المصري لكان الأمر مقبولا بعض الشيء وخاصة لدى الذين لا يعرفون تاريخ اليهود ولا مفهومهم للحق والعدل والقيم الإنسانية العظيمة التي تبجح رئيس وزراء العدو بالإشادة بها..
ولكن تاريخ اليهود في مصر يمثل صفحة سوداء في السيرة الإنسانية منذ أقدم العصور، لا يشبهها تاريخ أي شعب في العالم على الإطلاق.. والتوراة حافلة بالمنكرات والمخازي التي اقترفها العبرانيون على الشعب المصري، وبقدر ما هي حافلة بالمكارم التي أغدقتها مصر عليهم منذ أن وطئوا أرضها ونعموا بخيراتها.
وقصة اليهود في مصر، تمثل منذ البداية أبشع مؤامرة في تاريخ السلوك الإنساني ... وكان الجيل الأول من أبناء إسرائيل-يعقوب-هم أبطال هذه المؤامرة .. ومنذ ذلك الجيل تحدرت إلى أجيال بني إسرائيل، طبائع الغدر والاستغلال، وهي ما تزال ماثلة أمامنا في جيل مناحم بيجن وأمثاله من قادة إسرائيل، السابقين والمعاصرين.
وقد سجلت التوراة تفاصيل تلك المؤامرة القذرة التي قام بها بنو إسرائيل الأوائل.. وهم أبناء يعقوب الأحد عشر، حين تآمروا مجتمعين على أخيهم يوسف، الإبن الثاني عشر.. ونحن لا نرجع في تفاصيلها إلى القرآن الكريم.. وإنما نقتبس ما جاء في التوراة عن ظروفها وملابساتها ودوافعها.. وربما كانت تلك المؤامرة أول مأساة إنسانية مسجلة يستبيح فيها الأخ دم أخيه ثم يستغل إسم أخيه.(1/67)
يقول الإصحاح السابع والثلاثون من سفر التكوين أن إسرائيل-يعقوب- أحب ولده يوسف أكثر من سائر بنيه" لأنه ابن شيخوخته.. فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" وهكذا كانت بداية القطيعة والبغضاء بين يوسف وإخوته.
وتروي التوراة بعد ذلك أن يوسف بدأ يحلم أحلاما ويقصها على إخوته "فازدادوا بغضا له" وتوالت أحلامه بعد ذلك وازدادوا غضباً عليه , وحسداً له , كلما كان يقص عليهم أحلامه وكانوا يحسبون أنه سيكون خيراً منهم وأكبر شأنا، فقد كان ذلك هو تفسيرهم لأحلام أخيهم.
ثم تروي التوراة أن إسرائيل-يعقوب-أرسل ولده يوسف إلى منطقة دوثان حيث كان أبناؤه يرعون غنم أبيهم ... "فلما أبصروه من بعيد قبل أن يقترب إليهم احتالوا له ليميتوه" هكذا أراد الإخوة الأحد عشر قتل أخيهم غيلة وغدرا.
ولكن أحد إخوته واسمه "روبين" قال "اطرحوه في هذه البئر التي في البرية".
وتقول التوراة أن قافلة إسماعيليين كانت مقبلة من جلعاد-الأردن- "وجمالهم حاملة وذاهبين لينزلوا بها إلى مصر، فقال يهوذا لإخوته-كأنه يهودي أكثر منهم، ينظر إلى المؤامرة من زاوية المنفعة"- ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه، تعالوا نبيعه للإسماعيلين"، وباعه أخوته للإسماعليين بعشرين من الفضة فأتو بيوسف إلى مصر.. وكأن إخوة يوسف أخذوا قميصه وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم وأحضروه إلى أبيهم وقالوا له "وحش رديء أكله، افترس يوسف افتراسا".. فمزق أبوه-ثيابه "وناح على ابنه أياما كثيرة"..
تلك هي المؤامرة، ولعلها أول تراجيديا إنسانية مدونة، يتآمر فيها الأخوة على أخيهم، فكروا بادئ ذي بدء بقتله لأنه يحلم أحلاما كانت تغيظهم وتخيفهم .(1/68)
ثم تكشف القصة عن الخلق اليهودي في نزعته إلى المنفعة المادية والاستغلال.. وتتحول المؤامرة من قتل أخيهم إلى بيعه، وتتكامل القصة بعد ذلك بإخفاء الجريمة على أبيهم، بعد أن غمسوا قميص أخيهم بدم تيس من الماشية التي كانوا يرعونها لأبيهم.
وتمضي القصة فيما بعد، ليبدأ تاريخ بني إسرائيل مع مصر، وتتكشف أخلاق بني إسرائيل على حقيقتها بكل ما فيها من مكر وخداع وكذب وتضليل، ونكران للجميل، وجحود للمعروف. كل ذلك بنص التوراة نفسها، بعباراتها وكلماتها.. وكان مقدرا أن يكون يوسف هو بطل القصة، ليأتي بعده بطل آخر، في سياق قصة أخرى، وسيكون موسى هو البطل الثاني.
وقصة يوسف في مصر معروفة عند العامة، ناهيك عن المثقفين، ولا داعي للدخول في تفاصيلها.
وبكلمة موجزة، يمكننا تلخيص سرد التوراة للتفاصيل، أن يوسف أصبح ذا شأن كبير في مصر، بعد أن سجن وامتحن في حصانته وعفته.. وقال له الفرعون "أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك" وبهذا أصبح يوسف هو الرجل الثاني في الأرض لا يعلو عليه إلا الفرعون.
وتوكيدا لذلك فإن الفرعون قال ليوسف، فيما تروي التوراة، "جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه وأركبه في مركبته الثانية ونادوا أمامه اركعوا.." وأصبحت مصر تركع ليوسف كما تركع للفرعون.. وأضاف الفرعون قائلا ليوسف "بدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر" وأصبح هذا الإسرائيلي، يوسف بن يعقوب (إسرائيل)، هو حاكم بأمره على كل أرض مصر.
ولم يكتف الفرعون بذلك، ولكنه أراد أن يجعل هذا الإسرائيلي اللقيط-الذي التقطه بعض السيارة من البئر-مصريا أرستقراطيا من الأسرة المالكة، فأعطاه أبنة كاهن مصر زوجة له.
وكان أمراً خطيرا في حياة مصر أن تُعطي أبنة الكاهن الأكبر إلى إنسان أجنبي ليس معروف الأب والأم تم بيعه وشراؤه بالأمس في سوق العبيد.(1/69)
وقد بلغ من شأن يوسف في مصر أنه خرج في جولة تفقدية لوطنه وشعبه كما يتلطف كل ملك مع رعاياه، وتقول لنا التوراة أن يوسف خرج في جولة كبرى "واجتاز في كل أرض مصر"، وليس بعد هذا الإكرام إكرام، ولا بعد هذا التفخيم والتعظيم من تفخيم وتعظيم.
وطابت الأيام ليوسف في مصر وولد له ولدان من زوجته إبنة كاهن مصر الأكبر وبلغ من سروره ونعمائه أن أسمي ابنه الاكبر"منسي الله قد أنساه كل تعبه وكل بيت أبيه".. وسنرى فيما بعد إذا كانت مصر قد أصبحت جزءا من حياته، أو أن بيت أبيه هو البداية والنهاية بعد أن تآمروا عليه وأرادوا قتله..
وحدثت مجاعة في كل الأرض كما تقول التوراة، فأرسل يعقوب أبناءه إلى مصر ليشتروا قمحا.. ولما وصلوا مصر استقبلهم يوسف وملأ أوعيتهم قمحا من غير ثمن، وحينما عادوا إلى فلسطين سردوا على أبيهم يعقوب ما كان بينهم وبين أخيهم يوسف، وما بلغه من عز وسلطان.. ثم عادوا مرة أخرى إلى مصر ليشتروا قمحا.
وبعد استطرادات في الأحداث كما ترويها التوراة، تم التعارف بين يوسف وإخوته وحمَّلهم رسالة إلى أبيه "قولوا لأبي يعقوب قد جعلني الله مسيراً لكل مصر، أنزل إليَّ لتسكن في أرض جاشان-المنطقة الشرقية بمصر-ولتكون قريباً مني أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وتجدون أبي بكل مجدي في مصر.. وتستعجلون وتنزلون بأبي إلى هنا".
وعلم فرعون بما كان بين يوسف وإخوته فقال لهم خذوا أباكم وبيتكم وتعالوا إليَّ فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلوا دسم الأرض خذوا من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا ولا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم" وهكذا زودهم الفرعون بالعربات ليسهل ذهابهم و إيابهم، وناشدهم أن لا يأسفوا على ترك أثاثهم، فإن دسم مصر وخيراتها ستكون لهم وبين أيديهم. وليس في التاريخ كرم أعظم من هذا الكرم.. وسنرى إذا كان بنو إسرائيل سيقابلون هذا الكرم بالعرفان والوفاء.(1/70)
وعاد أبناء يعقوب إلى أرض كنعان، بعد أن أغدق يوسف عليهم الزاد والملابس والهدايا بأمر فرعون وأوصاهم أن "لا يتغاضبوا" كما تقول التوراة، فقد أدرك أن سيماهم في وجوههم وأنهم قوم أشرار لا يؤِّمن بعضهم على بعض.
وسُرَّ يعقوب بالذهاب إلى مصر فارتحل هو وأولاده ونساؤه على العربات المصرية وكانت هذه أرفع مظاهر التقدم والترف والحضارة ... . وجاءوا إلى مصر وكان "جميع بيت يعقوب الذين جاءوا إلى مصر سبعين نسمة"، رجالاً ونساءً وبنين وبناتٍ، وعلم الفرعون بمقدم يعقوب وأهل بيته، فاستدعى إليه يوسف وقال له :"أرض مصر قدامك في أفضل الأرض أسكِن أباك وإخوتك، ليسكنوا في أرض جاشان" ... واستقبل الفرعون يعقوب وأكرم مثواه ومن كان يحظى، في ذلك الزمن، أن يدخل على الفرعون ويحظى بشرف المثول بين يديه.
وتقول التوراة أن يوسف "أسكن أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض في أرض رعمسيس كما أمر فرعون", وبهذا أصبح بنو إسرائيل الأوائل أصحاب أملاك في أجود الأراضي في مصر، "فقد تملكوا فيها وأثمروا وكثروا جداً" ... وعاش يعقوب في مصر سبع عشرة سنة وهي عمر طويل كان يكفي أن يجعل منه مصريا وفيا لمصر، لولا أن الوفاء ليس من طبائع هؤلاء القوم.
وشاخ يعقوب ولما أدركته المنية أوصى إبنه يوسف أن لا يدفنه في مصر بل مع آبائه في مقبرتهم.. وحل الأجل ومات يعقوب "وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه فحنط الأطباء إسرائيل.. وبكى عليه المصريون سبعين يوما" وهكذا مات يعقوب في ظلال عز مصر وخيرها وكرمها ... يحنطه الأطباء . وهم من عبيد يوسف وحنطوه كما يحنطون الفراعنة حكام مصر والعظام.(1/71)
ولولا وصية يعقوب الآنفة الذكر لدفن يعقوب في مقابر الملوك أو في جوف هرم لا يقل ضخامة عن أهرامات مصر الشهيرة، ولو تم ذلك، لاتخذ منه بنو إسرائيل المبكى الثاني لهم يبكون جدهم الأعلى الذي خلع عليهم لقب بني إسرائيل. ولكن الله سلم وما تم ما كان يمكن أن يتم.. بل إنه لو تم لصدر وعد بلفور بشأن مصر لا فلسطين!
وفي موكب جنائزي فخيم.ينُقل يعقوب من أرض مصر إلى أرض كنعان كما تروي التوراة "ومعه عبيد فرعون شيوخ بيته، وجميع شيوخ أرض مصر"..وسار في الموكب "فرسان ومركبات.. فكان الجيش كثيرا جدا.. فأتوا إلى بيدر أطاد الذي في عبر الأردن وناحوا هناك نوحا عظيما وشديدا جدا وصنع لأبيه مناحة سبعة أيام" وهكذا جعل المصريون من جنازة يعقوب أكبر جنازة في التاريخ القديم والحديث، فقط قطعت سيناء والأردن إلى فلسطين في موكب عظيم يقوده جيش مصر وأعيانها، بما ليس له مثيل في تاريخ الموتى من عظماء البشر.
وعاد يوسف بعد دفن أبيه إلى مصر، معززا مكرما إلى أن حل أجله هو كذلك ... فاستحلف بني إسرائيل أن ينقلوا عظامه من مصر. كما تقول التوراة بصراحة ومن غير اعتذار.
وتذكر التوراة أن "يوسف مات وهو ابن مئة وعشر سنين فحنطوه ووضع في تابوت في مصر"، ولا تذكر لنا التوراة تفصيلا بعد ذلك، ولكنها توجز القول بأن أهل يعقوب قد أصبحوا شعبا كبيرا فقد تكاثر بنو إسرائيل "وأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا وامتلأت الأرض منهم (الإصحاح الأول من سفر الخروج).(1/72)
والى هنا فقد رأينا فضل مصر على اليهود، أقاموا فيها في رغد العيش، فملكوا الأراضي وأصبح لهم شأن كبير وامتدت إقامتهم في البلاد أربعمائة وثلاثين عاما ... لتأتي بعد ذلك صفحة حديدة من نكرات الجميل وجحود المعروف والنزوع إلى التآمر مع أعداء البلاد.. "وخيانة العيش والملح", والإقدام على أكبر عملية سلب ونهب في التاريخ.. سلب الشعب المصري من كنوزه من الذهب والفضة.. وإننا نجد صفحة الخيانة هذه مدونة في التوراة نفسها..
ففي الإصحاح الأول من سفر الخروج، عبارة لها مدلول خطير يضع العلاقات المصرية الإسرائيلية في مرحلة حاسمة.. تقول التوراة "مات يوسف وأخوته وجميع ذلك الجيل ,وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثرو كثيراً جداً وامتلأت الأرض منهم"..
"ثم قام ملك جديد على مصر فقال لشعبه هو ذا إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون-يخرجون-من الأرض". وهذا هو كلام التوراة يصف المشاعر المصرية الإسرائيلية في ذلك العهد.
ومعنى ذلك أن مصر قد أفاقت على حقيقة رهيبة، وهي أن بني إسرائيل قد أصبحوا قوة كبرى في مصر.. وأن ولاءهم ليس لمصر. والخوف كل الخوف أن ينضموا إلى أعداء مصر ويحاربوها، ويخرجوا من مصر، ليكونوا حلفاء على مصر مع أعدائها.
وتاريخ مصر في ذلك العهد كان تاريخ حروب، ولم تكن قد فرغت بعد من إجلاء غزوة الهكسوس الذين اجتاحوا مصر وأقاموا فيها "دولة الرعاة" كما كانت تعرف.
وما هو الحل؟.. كان هذا هو السؤال الكبير أمام مصر.. وتشير التوراة إلى الحل بأن يفرضوا عليهم أعمال السخرة في بناء المدن لفرعون وكانت السخرة نظاما عاما في ذلك العهد مفروضا على الجميع دون تمييز.
ورغما عن هذا التدبير تقول التوراة أن الإسرائيليين "نموا وامتدوا" وأن الفرعون اختشى من بني إسرائيل فقد ازدادوا قوة وعددا وأصبحوا خطرا على أمن مصر وسلامتها.(1/73)
ثم تقول التوراة أن ملك مصر طلب إلى القابلتين اللتين تولدان النساء الإسرائيليات أن تقتلا المولود إذا كان ذكرا وأن تبقياه على قيد الحياة إذا كان أنثى.
ويبدو أن القابلتين لم تأبها لهذا الطلب، وقالتا للفرعون، فيما تروي التوراة " أن النساء العبرانيات لسن كالمصريات فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة" وهذا جواب يهودي ماكر لا يخلو من نباهة، ومضت التوراة لتقول "نما الشعب وكثر جدا".
وتمضي التوراة بعد ذلك إلى أسلوب الأسطورة تمهيدا لمولد موسى فتقول أن الفرعون أمر جميع شعبه قائلا "كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها. ويأتي بعد ذلك مولد موسى ونشأته وقصته، وسنتابع سيرته في فصل لاحق.
والمهم في هذه القصة أن الرب ظهر لموسى وقال له "لقد رأيت مذلة شعبي-بني إسرائيل-الذي في مصر، وسمعت صراخهم.. فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين. وقد أتى إلى صراخ بني إسرائيل.. فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعب بني إسرائيل من مصر.. ولكن اعلم أن ملك مصر لا لايدعكم تمضون إلا بيد قويه.. فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها، وبعد ذلك يطلقكم".. وهكذا سيتولى الرب ضرب مصر بعجائبه حتى يطلق بني إسرائيل..
وهكذا بدأت التوراة تمهد لخروج الإسرائيليين من مصر، بعد أن أصبحت مصر عندهم حسب تعبير التوراة "بيت العبودية" فاعترفت بادئ ذي بدء، بأن الفرعون لا يوافق على خروجهم من مصر، إلا بعد أن يستعمل الرب الشدة مع المصريين وينزل المصائب على رؤوسهم، حتى يذعن الفرعون أخيرا ويرضى بأن يطلق سراحهم إلى حيث يريدون ... و من هنا فقد جعلت التوراة من الخروج أسطورة كبرى بين الرب والفرعون من جانب، وبين الفرعون وموسى من جانب آخر، وبين موسى وبني إسرائيل من الجانب الآخر.(1/74)
وأسطورة التوراة هذه لم تبق بين دفتي التوراة، فقد جعل منها الإسرائيليون، فيما بعد، أسطورة أكبر، نشرتها وسائل دعايتهم إلى كافية أقطار الأرض، وجعلوا من الخروج ملحمة تحرر كبرى.
ولم يسلم القرن العشرون من هذه الملحمة الكاذبة، فقد أخرج اليهود الفيلم الشهير الخروج (Exodus) ملأوه بالأباطيل والخرافات ليستدروا عطف الرأي العام العالمي ليؤيد دعاواهم في فلسطين.
والواقع أن القراءة الواعية المتدبرة للتوراة في سطورها وما بين سطورها تكذب تلك الأسطورة تكذيبا قاطعا وأن الموضوع السخرة لم يكن السبب لخروج اليهود من مصر.. ذلك أن السخرة كانت في ذلك العهد نظاما عاما في مصر مطبقا على اليهود وغير اليهود، ولم يكن مقصوداً به اليهود بالذات ليخرجوا من البلاد.
والتوراة نفسها تشير بصورة واضحة أن فرعون مصر كان لا يريد خروج اليهود لأنه كان يخشى خروجهم وانضمامهم إلى صفوف الأعداء ... وخاصة أن مصر في تلك المرحلة بالذات كانت تخشى هجوما عسكريا والمراجع التاريخية التي تؤيد ذلك كثيرة ولا يتسع هذا الفصل للرجوع إليها.
وسنتحدث في الفصول اللاحقة عن تآمر اليهود مع الإمبراطورية الفارسية وكيف كانوا عونا لها على غزو مصر واحتلالها، وتلك صفحة تاريخية مثبتة لا مجال لإنكارها.
وعبارة التوراة تتحدث عن مخاوف فرعون مصر بصورة واضحة حين أبدى قلقة من أن يخرج بنو إسرائيل من أرض مصر إذا حدثت حرب "وأنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا" فهل من كلام أوضح من هذا الكلام".
وعلى ذلك فإن الفرعون كان يريد بقاء اليهود في مصر لا خروجهم، والتوراة نفسها تؤكد هذا المعنى حين تذكر أن الرب قال لموسى-(الإصحاح الثالث من سفر الخروج) "ولكني أعلم أن فرعون مصر لا يدعكم تمضون إلا بيد قوية، فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم".(1/75)
ومعنى ذلك، كما سنرى بعد قليل، أن الرب-حاشا لله-سيضرب مصر بالويلات والكوارث حتى يضطر فرعون مصر للسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر.
وقد جاءت التوراة لتصدق هذا القول، فنراها تورد عجائب الرب ومصائبه واحدة بعد واحدة حتى يكون من نتيجتها أن يطلق الفرعون سراح بني إسرائيل ويخرجوا، ويكون "سفر الخروج" هو السفر الثاني من أسفار التوراة ومن أهمها.. ليروي قصة الخروج من المنطقة الشرقية في مصر إلى المنطقة الغربية في الأردن.
وهكذا فنحن نقرأ في الإصحاح الخامس من سفر الخروج أن موسى قال لفرعون "يقول الرب أطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية" وأجاب فرعون "لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه"
وعاد الرب وكلم موسى قائلا "أدخل قل لفرعون ملك مصر أن يطلق بني إسرائيل من أرضه" (الإصحاح الخامس)، ولكن موسى لم يستطع القيام بهذه المهمة فقال له الرب " يا موسى أنظر، أنا جعلتك إلها لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيك" (الإصحاح السابع)، وهكذا فإن الرب صنع من موسى إلهاً.
وحين لم يستمع فرعون إلى مطالب موسى بدأ دور العجائب لإجباره على إطلاق بني إسرائيل ليخرجوا من مصر حين يشاءون.
فكانت العجيبة الأولى وهي تحويل العصا إلى الأفعى.. إلى آخر القصة المعروفة ... ." ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع لموسى كما تكلم الرب".(1/76)
ثم جاءت العجيبة الثانية "التي تحول فيها ماء النهر إلى دم وماتت الأسماك وأصبح الماء نتنا وعاف المصريون أن يشربوا من من مساء النهر ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع لموسى كما تكلم الرب , وقال الرب لموسى مره أخرى ,"أدخل إلى فرعون وقل له يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني وإن كانت تأبى تطلقم فها أنا أضرب جميع تخومك بالضفادع", وتمت العجيبة الثالثة فقد صعدت الضفادع وغطت أرض مصر (الإصحاح الثامن)، وطلب فرعون من موسى "أن يصلي إلى الرب ليرفع الضفادع فأطلق الشعب وصرخ موسى إلى الرب من أجل الضفادع فماتت الضفادع من البيوت والحقول وجمعوها أكواما كثيرة حتى أنتنت الأرض ... فلما رأى فرعون أنه قد حصل الفرج أغلظ قلبه ولم يسمع لموسى كما تكلم الرب". (الإصحاح الثامن).
وجاءت بعد ذلك العجيبة الرابعة " وأصبح تراب الأرض بعوضا.. وصار البعوض على الناس والبهائم، وكل تراب الأرض صار بعوضا.. ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع لموسى كما تكلم الرب".
وجاءت بعد ذلك العجيبة الخامسة "وأصبحت كل أرض مصر ذبابا وامتلأت به كل بيوت المصريين إلا أرض جاشان حيث يقيم شعبي بنو إسرائيل، فإني أمير أرض جاشان لأنها أرض شعبي"وسلم بنو إسرائيل من الذباب (الإصحاح الثامن).
والتوراة هنا، كما نلاحظ، تقول عن الرب أنه يميز بني إسرائيل على المصريين، وفي هذا الكلام نرى جذور التمييز العنصري وهو التعبير الحديث الذي نشأ بعد ثلاثين قرنا من عهد موسى.
ثم بدأت مرحلة من المفاوضات بين موسى والفرعون، وعرض الفرعون على بني إسرائيل أن يعبدوا الرب في أرض قريبة، وقال لهم أنا أطلقكم لتعبدوا الرب إلهكم في البرية " ولكن لا تذهبوا بعيدا، وصليا من أجلي".. وصلى موسى إلى الرب "فارتفع الذباب عن فرعون وعبيده وشعبه. ولم تبق واحدة.. ولكن أغلظ فرعون قلبه هذه المرة أيضا فلم يطلق الشعب".(1/77)
وجاءت بعد ذلك العجيبة السادسة: وباء على جميع المواشي في جميع الدول "فماتت جميع مواشي المصريين. أما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد.. لأن الرب "يميز بين مواشي إسرائيل ومواشي المصريين.. ولكن أغلظ قلب فرعون فلم يطلق الشعب".. وهكذا شمل التمييز المواشي، فهلكت مواشي المصريين وسلمت مواشي بني إسرائيل، والغريب أن التوراة تستخدم لفظة "التمييز" بالنص.
وجاءت العجيبة السابعة.. رماد الأتون يصبح غبارا.. "فيصير على الناس دمامل طالعة ببثور في كل أرض مصر.. ولكن قلب فرعون لم يسمع كما تعلم الرب".
وجاءت العجيبة الثامنة "السماء تمطر بردا عظيما لم يكن له مثيل منذ صارت مصر أمة.. فضرب البرد الناس والبهائم وجميع الأشجار والزروع. إلا أرض جاشان حيث كان بنو اسرائيل.. ولكن فرعون أغلظ قلبه فلم يطلق بني إسرائيل كما تكلم الرب" وسلم بنو إسرائيل مرة أخرى.
وجاءت العجيبة التاسعة "جراد يغطي وجه الأرض ويأكل كل شيء.. وهنا قال عبيد فرعون له، إلى متى يكون لنا هذا الحال.. أطلق الرجال ألم تعلم أن مصر خربت". ولكن فرعون ازداد عنادا فلم يطلق بني إسرائيل.
وجاءت العجيبة العاشرة ... "ظلام على كل أرض مصر لثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه .. ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم". ونجت إسرائيل من الظلام.
وجاءت العجيبة الأخيرة، وكانت أم العجائب والمصائب، وكانت أم المصائب فعلا، فقد عزم الرب كما تقول التوراة، أن ينزل على مصر بيتا بيتا ويهلك من فيها من أبكار البشر إلى أبكار البقر، ولكنه سيتجاوز عن بيوت إسرائيل فلا يقترب منهم ولكن عليهم أن يرشوا أبوابها بالدم حتى تكون علامة للرب فلا يقترب منها"، ويسلم أهلها من عقاب الرب !!
والتوراة تلخص هذه المصيبة الكبرى في إطار خطة الخروج التي وضعها الرب، تخطيطا وتنفيذا على الوجه الآتي:(1/78)
يخرج الرب نصف الليل في "وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة.. ويكون الدم لكم علامة على البيوت "على القائمتين وعلى العتبة العليا" فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر.. وحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون إلى بكر الأسير الذي في السجن وبكر كل بهيمة ... فقام صراخ عظيم في مصر لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت".. فدعا الفرعون موسى وقال "قوموا أخرجوا من بين شعبي-أنتم بنو إسرائيل جميعا.. خذوا غنمكم وبقركم واذهبوا .. وألح المصريون على الشعب ليطلقوهم عاجلا من الأرض لأنهم قالوا جميعنا أموات.."
وكان صباح غريب عجيب لم تر البشرية له مثيلا، فقد أفاقت مصر كلها لترى جميع أبكارها من البشر قد ماتت، وكل أبكارها من البهائم قد نفقت.. وغدا الموت سيدا في كل البيوت والحقول والزرائب والحظائر ... كل ذلك من أجل بني إسرائيل!!
وبعد هذه العجائب العديدة، تقول التوراة، "فحمل الشعب-بنو إسرائيل-عجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم ... وارتحل بنو إسرائيل عن رعمسيس نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضا مع غنم وبقر ومواشٍ وافرة جدا".
وهكذا يبدوا لنا أن جالية بني إسرائيل الجائعة التي لجأت إلى مصر من فلسطين في عهد يعقوب قد ارتفع عددها في عهد موسى من سبعين نفسا، هم بيت يعقوب إلى ستماية ألف ماعدا الأولاد وأصبح كل واحد منهم مضرب المثل في إنكار الجميل.. ولم يذكروا جميل مصر إلا عند الشدة حينما وصلوا فيما بعد إلى سيناء وصاحوا في وجه موسى "ليتنا متنا في أرض مصر ... ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض، أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر" (الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد).(1/79)
وفي موضع آخر من التوراة يقول الإصحاح 14 من سفر الخروج.. وتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى في البرية وقالوا "هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية.. ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر، أليس هذه هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين كف عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية".
وهذا الكلام يكشف بوضوح أن جمهور بني إسرائيل لم يكن راغبا في الخروج، وأنه كان يريد خدمة المصريين وأن يعيش في جوارهم وكنفهم، لولا أن أحبار اليهود هم الذين دسوا في التوراة أسطورة الخروج ليجعلوا منها ملحمة تاريخية، بل لولا أن الخروج كان يستهدف التحالف مع أعداء مصر.
وناهيك عن هذه المؤامرة، فإن إصرار بني إسرائيل على الخروج من مصر وعلى الصورة التي سردتها التوراة، يكفي بحد ذاته أن يكشف عن سوء أخلاقهم وانعدام ولائهم للبلد الذي أطعمهم من جوع، وجعل منهم في عهد يوسف أصحاب الأرض والسيادة، حتى امتدت إقامتهم فيها أربع ماية وثلاثين عاما، فيما تروي التوراة.
وهكذا فقد خرج بنو إسرائيل، بعد أن دبروا أمرهم في الليل البهيم بعد إقامة زادت عن أربعة قرون،واستعانوا في خروجهم من مصر بجميع المصائب: البرد والجراد والرماد والضفادع والدمامل والوباء وأخيرا إهلاك الأبكار الذكور من البشر إلى البقر.
ولم يكتف الإسرائيليون بذلك، ولكنهم قاموا ليلة سفرهم بأكبر حملة نهب وسلب في التاريخ.. وقد أشارت التوراة إلى هذه اللصوصية الكبرى في عبارة عادية كأنما هي عمل من أعمال المروءة والنخوة، فيروي الإصحاح الثالث من سفر الخروج أن الرب قال لموسى لمناسبة الخروج من مصر "حينما تمضون لا تمضون فارغين بل تطلب كل امرأة من جارتها ونزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياب، وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين" هكذا: سلب ونهب بأمر الرب.(1/80)
وبعد أن وقعت العجائب والمصائب بمصر، ورضي فرعون مصر بخروج بني إسرائيل، تقول التوراة في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج :" وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى ... طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا.. فسلبوا المصريين".
أجل لقد سلبوا المصريين، بحسب قول موسى كما تروي التوراة، وقد فات أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة أن من بين الوصايا التي نزلت على موسى الوصية الشهيرة لا تسرق, فكيف نسبوا إلى موسى أنه أمر بني إسرائيل بأن يسرقوا المصريين.. وأن الرب هو الذي أمر بالسرقة؟!
لعل الجواب على هذا نجده في القاعدة القانونية الشهيرة : إن القانون ليس له أثر رجعي، ولا يطبق على ما قبله .. وحادثة سلب المصريين كانت قبل نزول الوصايا العشر في سيناء ... ومعنى ذلك أن بني إسرائيل قد جردوا مصر من كل الفضة والذهب الذي اقتنته نساء مصر من مدخراتهن ووفورات أمهاتهن وآبائهن.. ولم يعرف التاريخ أشنع ولا أبشع من هذه اللصوصية الكبرى، يقترفها شعب لاجئ شريد طريد كان ضيفا على شعب كريم، وكل ذنبه أن أحسن مثواهم ومأواهم، وأعطاهم الأرض ملكا لهم.
بل إنه أعطاهم دسم الأرض.. ولم يعرفوا هذا الفضل إلا حينما اشتدت عليهم الحياة في سيناء فثار بعضهم في وجه موسى وقالوا له غاضبين "أقليل أنك أصعدتنا من أرض تفيض لبنا وعسلا، لتميتنا في البرية، حتى تترأس علينا ترؤسا"، وقد انطقتهم الباساء في سيناء ؟؟ أن مصر تفيض لبنا وعسلا، مع أن هذا التعبير كان قاصرا على فلسطين!!
وبعد فهذه هي التقاليد والقيم الروحية التي تبجح بها مناحم بيجن رئيس وزراء العدو وهو يوجه خطابه إلى الشعب العربي في مصر.
وهؤلاء هم أجداده، إذا صح النسب، وهم الذين أنكروا الجميل، وجحدوا المعروف، وخرجوا من مصر على غير رغبة من ملك مصر، بعد أن أهلكوا ما فيها من الزرع والضرع..(1/81)
وفوق ذلك، فإن أولئك الأجداد، قد قاموا بأكبر جريمة نهب وسلب عرفتها العصور والأجيال، كما روتها توراتهم،وبأمر الرب، ربهم وحدهم.. لا ربنا ورب العالمين الآمر بالمعروف والإحسان والناهي عن المنكر والبغي.
وقد يلاحظ القارئ أَننا أطلنا بعض الشيء في مقتبسات التوراة ولكن لم يكن مناص من ذلك، فإن الخرافات اليهودية قد تسللت إلى كثير من كتب التاريخ والتراث الديني حتى غدت لتكرارها حقائق عامة.. وكان لا بد مِن مناقشتها وتفنيدها والعودة بها إلى الصواب.
ومن هنا فإن واجب العلم يفضي أن نختم هذا الفصل بإعطاء خلاصة عن المناهل الأولى التي غذت الفكر اليهودي منذ فجر التاريخ، وصنعت له عقيدة دينية وسلوكا اجتماعيا.. ويمكننا أن نلخص ذلك فيما يلي:-
أولا: أن قصة يوسف مع إخوته والتآمر على قتله، وبيعه، تكشف عن أخلاق بني يعقوب باعتبار أنهم الجيل الأول من بني إسرائيل ومنهم وعنهم تحدر السلوك الخلقي المشين عبر الأجيال اليهودية، ممثلا في الحقد والبغضاء والاستغلال إلى درجة القتل، حتى في حق الأخوة فيما بينهم.
ثانيا: أن يوسف، رغما عن المنصب الكبير الذي بلغه، والحياة الطويلة التي قضاها في مصر ورأى فيها أحفاده من الجيل الثالث، لم يحفظ ولاءه لمصر، وبقى غريبا عنها. وها نحن نقرأ في عجب واستغراب في التوراة. أن موسى –عند خروجه – "أخذ معه عظام يوسف، لأنه كان قد استحلف بني إسرائيل بحلف قائلا إن الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا معكم" مع أن التاريخ لم يعرف شبها ليوسف فيما وجده في مصر من سؤدد وعز وأمجاد، وقد جاءَها طريداً ليباع في سوق النخاسة.
ثالثا: وقد بلغ هذا الإكرام والعز أوجه في الجنازة الكبرى التي قامت بها مصر ليعقوب حين نقلت جثمانه من أرض مصر إلى أرض فلسطين عبر سيناء تتقدمها العربات ذات العجلات وأعيان مصر جيش مصر ، ولم يشهد التاريخ مثيلا لهذه الجنازة في مسيرتها من البداية إلى النهاية.(1/82)
رابعا: أن موسى نشأ في بيت فرعون وأصبح له شأن عظيم في مصر، وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج تقول التوراة في معرض حديثها عن موسى "الرجل موسى كان عظيماً جداً في أرض مصر في عيون عبيد فرعون وعيون الشعب". وقد تربى موسى في بلاط رعمسيس حتى عرف عند عامة الشعب أنه ابن بنت فرعون، وتلقى علومه الدينية والمدنية على أيدي معلمين مهرة، من كبار حكماء البلاط المصري ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعروف أن موسى كان له منصب قيادي كبير في الجيش المصري وأنه قاد حملة عسكرية في جنوب السودان وكانت له مواقف باهرة.
خامسا: ومع كل ذلك فقد كان شأنه شأن يوسف، ولا ولاء له لمصر، مع أنه نشأ فيها وتربى في كنفها بالعز والإكرام.. وتقول التوراة أنه في رحلته الأولى إلى سيناء تزوج صفورة أبنة كاهن مَدْيَن شعيب النبي العربي وأنجب منها غلاما أسماه جرشوم أي المولود في أرض غريبة "سفر الخروج الإصحاح –2) وهكذا ظل موسى يعيش غريبا عن أرض مصر.. وخلع على إبنه أسماً يذكره على الدوام بغربته.
سادسا: وعدم الولاء هذا كان هو الخلق العام لبني إسرائيل في حياتهم في مصر-حياة العزلة والتعالي، وعدم الولاء لمصر، رغما عن الخيرات التي أغدقتها مصر على بني إسرائيل ولم يذكر بنو إسرائيل مكارم مصر إلا حين كانوا في سيناء بعد خروجهم من مصر، تذكروا نعم مصر عليهم "حيث كانوا جالسين عند قدور اللحم يأكلون الخبز والمرق حتى يملئوا بطونهم شبعا وتمنوا قائلين: ليتنا متنا بيد الرب بأرض مصر". (سفر الخروج-الإصحاح2) وهذا هو نفس السلوك الاجتماعي العام الذي ساد حياة الأجيال اليهودية في جميع الأقطار التي حلّوا بها.(1/83)
سابعا: أن قصة بالخروج التي جعلت منها الدعاية اليهودية ملحمة تحررية تاريخية إنما هي خرافة كبرى بالكذب والتزوير، والتوراة نفسها تفضح وقائعها ويكذب بعضها بعضا، فإن نصوص التوراة نفسها في الحوار بين موسى وفرعون تثبت بما لا يرقى إليه الشك أن فرعون مصر كان يرفض وبعناد خروج بني إسرائيل من مصر ... ولم يأذن لهم بذلك إلا بعد أن نزلت المصائب العشر على شعب مصر، حتى اضطر الفرعون إلى السماح لهم الخروج، بعد أن هلك الذكور من البشر إلى البقر، وبعد أن عم الخراب في البلاد.
والواقع أن خروج بني إسرائيل من مصر، كان جزءا من التآمر على مصر، وسنرى في فصل لاحق كيف تحالف بنو إسرائيل مع الفرس على مصر، وأعانوهم على احتلالها.. وكلام التوراة بأن ملك مصر خاف أن ينضم بنو إسرائيل إلى الأعداء ويحاربوا في صفوفهم، كان صحيحا وقد أثبته الواقع التاريخي فيما بعد.
ثامنا: وفي المصائب التي سردتها التوراة، كما رأينا، يبدو التمييز العنصري البغيض.. حين يبقي الرب بني إسرائيل على قيد الحياة هم وبهائمهم ويهلك شعب مصر ومواشيه ...
وحين يعيش المصريون في الظلام ويكون النور لبني إسرائيل وحدهم في ديارهم.. ولا يصيبهم ما يلحق المصريين من وباء ودمامل وضفادع وأوبئة لا حصر لها ولا عدد. وكأنما لم يعد للرب من شغل يشغله إلا إهلاك الناس جميعا وإبقاء بني إسرائيل على قيد الحياة في عز ورخاء.
ومع كل هذا التاريخ الحافل بالخيرات والميزات والمكارم التي أغدقتها مصر على بني إسرائيل.. فإن الخروج من مصر قد أصبح عيدا لبني إسرائيل، كما أمر الرب، يحتفلون به في صلوات وموائد وشراب وأناشيد، ثم يرددون اللعنات على المصريين طوال الليل.(1/84)
ولا يخلو العيد من تهريج قبيح، من ذلك أنه يتعين على أحد أفراد الأسرة أن يحمل صينية الخبز الفطير على كتفيه ويقول "هكذا كان آباؤنا راحلين عندما خرجوا من مصر ومعاجنهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم" والخبز الفطير لأن بني إسرائيل حملوا خبزهم قبل أن يختمر استعجالا للهروب من مصر كما تقول التوراة..
ويجيء عيد الفصح هذا وهو من أكبر أعيادهم، يحتفلون به كل عام في الرابع عشر من شهر أبيب من الشهور العبرية الذي أصبح شهر نيسان وهذا العيد مكرس ليلْعنوا المصريين طيلة أيام العيد.. أجل ليلعنوهم بعد أن سلبوهم.
هذه هي التوراة، وهذه هي أخلاق التوراة ولقد تساءل العلامة الكبير (ه.ج. ويلز) هل التوراة هي التي صنعت اليهود أم أن اليهود هم الذين صنعوا التوراة، هو سؤال قديم يشبه السؤال عن البيضة والدجاجة، ماذا كان قبل ماذا.
والواقع أن اليهود وأحبارهم القدامى الذين صنعوا التوراة، وكانت التوراة بعد ذلك تصنع اليهود جيلا بعد جيل.
وجاءنا جيل بيجن يمثل في سلوكه وأقواله كل خرافات التوراة وعلى الذين يريدون أن يتعاملوا مع المجتمع اليهودي أن يقرأوا التوراة أولا، فإن التوراة هي التي صنعت أخلاقهم وسبكت طبائعهم وصاغت عقولهم.
ومن لا يعرف التوراة وأخلاق أصحابها، سيكون في هذه الدنيا أعمى، وفي الآخرة أضل سبيلا.
الفصل الخامس
التمييز العنصري.. والربا والصرافة.. والتسلط.. والاستعباد..
في صميم الدين اليهودي
التمييز العنصري والربا والصرافة والتسلط والاستعباد في صميم الدين اليهودي
وينتقل مناحيم بيجن رئيس وزراء العدو، في خطابه إلى الشعب المصري، من الكلام عن الحق والعدل إلى الحديث عن القيم الإنسانية العظيمة.. ويستشهد بهذا الصدد بأنبياء إسرائيل يذكرهم واحداً واحدا، وفي مقدمتهم موسى..(1/85)
وهذا الاستشهاد بموسى إنما يصيب مقتلا في القضية الصهيونية، بل وفي العقيدة اليهودية نفسها.ذلك أن سيرة موسى في التوراة تثير أشنع الذكريات في حياة إسرائيل وتاريخها وفي سلوك الشعب اليهودي برمته.. وإذا كانت هناك من سيرة تدين اليهود إدانة كاملة، فإن سيرة موسى كما جاءت في التوراة كافية لأن تلطخ الشعب اليهودي بالعار إلى الأبد.. وتؤكد اللعنات التي رددتها التوراة عليهم مرة بعد مرة في جميع أسفارهم..
ولسنا نريد في هذا الفصل أن نترجم لموسى، وحياته، ودعوته، وما احتمل من عناء وبلاء مع بني إسرائيل، فذلك لا يتسع له المجال، ولكننا سنقتصر على تلك الجوانب، ذات الصلة بما في ذلك اليهود واليهودية، وما وضعه اليهود لأنفسهم، من قواعد وتقاليد للسلوك الاجتماعي.. وسنظل على الدوام نتابع الدرس من التوراة نفسها، ما دامت هي التي صنعها اليهود أنفسهم، وما دامت هي التي صنعت اليهود.
وأول ما تذكره التوراة عن سيرة موسى، يفاجأ القارئ بالنزعة العنصرية العنيفة المتأصلة في النفس اليهودية.. ويتمثل ذلك في مولد موسى منذ البداية ونقرأ في الإصحاح التاني من سفر الخروج حكاية ميلاده فنقول التوارة " وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بيت لاوي فخيلت المرأة وولدت ابنا، ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر" وبعد ذلك "وضعته في سفط من البردى ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر.."
"بيت لاوي" يقصد منه أنه إسرائيلي لأن لاوي هو أحد أبناء يعقوب.. وبهذا أراد أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة من البداية أن يؤكدوا أن موسى هو إسرائيلي من أب لاوي، ومن أم لاوية.. دون أن يذكر اسم الأب ولا اسم الأم مع العلم أن التوارة لم تكن تتورع أن تذكر اسم أولاد الزنا من اليهود في أكثر من موضع، ولم تذكر لنا اسم والد موسى وأمه.. مكتفية بأنهما من بيت ولاوي.. وانتهى..(1/86)
والتوراة التي حرصت أن تغفل نسب موسى ولا تذكر أبويه بالاسم، نراها تولى اهتماما بالغا باسم زان وزانية في سفر العدد مشيرة إلى اسم زان وزانية مغمورين، ووالديهما كذلك، وكأنما القصة لها أهمية تاريخية جديرة بالتدوين.
ففي الإصحاح الخامس والعشرين من ذلك السفر تتحدث التوراة في قصة طويلة عن زنا بامرأة وجاء بها "أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إٍسرائيل " .. فقام الكاهن "وأخذ رمحا بيده ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنهما. وكان اسم الرجل الإسرائيلي المقتول الذي قتل مع المديانية زمرى بن سالو من الشمعونيين، واسم المرأة المديانية المقتولة كربى بنت صور رئيس قبائل بيت أب في مديان" ...
بل إننا نقرأ في رأس الصفحة التي روت حكاية موسى في التوراة-اسم القابلتين العبريتين "شفرة وفوعة" وهما اللتان طلب منهما الفرعون قتل الذكور من أبناء العبرانيين.
وكان من الأجدر، وموسى سيكون له تاريخه، أن يُذكر نسبه.. والتوراة لم تترك شخصا مرموقا في التوراة وإلا وذكرت نسبه أبا عن جد حتى أوصلته إلى آدم أبي البشر.. كما فعلت بالنسبة لإبراهيم وداود والعديد من الشخصيات التوراتية الكبيرة.
والتفسير الوحيد لهذا الإهمال في ذكر نسب موسى، والاكتفاء بأنه إسرائيلي من بيت لاوي، يكمن بأن موسى لم يكن إسرائيليا وإنما هو مصري صميم لا علاقة له ببني إسرائيل.. دون أن يستبعد أنه أصبحت له علاقة وتاريخ مع بني إسرائيل.. فيما بعد.
ولدينا مرجع علمي قيِّم، وضعه عالم اجتماعي ونفساني كبير، وهو فوق ذلك من أعلام اليهود البارزين هو الأستاذ فرويد، فقد أكد استنادا إلى دراسات وأبحاث متعمقة أن موسى لم يكن عبرانيا ولكنه كان مصريا.(1/87)
ونحن حين نمضي في قراءة التوراة في العبارات التالية، سنجد قرينة تؤيد هذا الرأي، ذلك أن ابنة فرعون، كما تروي التوراة، "نزلت إلى النهر لتغتسل فرات السفط بين الحلفاء، فأرسلت أمتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي، فرقت له وقالت هذا من أولاد العبرانيين".
"هذا من أولاد العبرانيين" هذا كلام أحبار اليهود.. نسبوه إلى لسان إبنة الفرعون.. ولكن السؤال هنا هو كيف عرفت ابنة الفرعون أن هذا الطفل هو من أولاد العبرانيين، وهو لا يزال ابن ثلاثة أشهر لم تتحدد لمحاته وقسماته؟
يضاف إلى ذلك أن أخت موسى وهي التي كانت واقفة قريبا لترى المشهد، قالت لابنة الفرعون فيما تروي التوراة :" هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات.. وذهبت الفتاة ودعت أم الولد ... " لتؤكد التوراة مرة ثانية "عبراينة" موسى.. وعبرانية أمه.
وتمضي التوراة لتقول بعد ذلك، أن أمه أرضعته، "ولما كبر الولد جاءت به إلى أبنت فرعون فصار لها ابنا ودعت اسمه موسى وقالت إني انتشلته من الماء..".
وهنا كشف التوراة، دون أن يدري أحبارها الذين كتبوها، أن هذا الاسم هو مفتاح الحقيقة فإن "موسى" لفظ مصري في اللغة المصرية القديمة، معناه انتشل من الماء ولهذا فقد أعطته ابنة فرعون اسما مصريا يدل على الحادث بنفسه، ويدل أنه في الواقع كان مصريا.
ولفظ "موسى" لم يكن غريبا في مصر، ولا هو قد ابتدعته ابنة الفرعون، لإنها انتشلت موسى من الماء، فقد كان اسما معروفا عند قدماء المصريين، وكان من أسماء فراعنة مصر الكبار.
ويأتي في المقدمة الفراعنة الكبار "رع موسى الكبير" (رعمسيس) وكذلك أحمس (أح موسى) وتحوتمس (تحوت موسى) وقد أثبتت النقوش المصرية أن اسم موسى كان شائعا في المجتمع المصري وخاصة في عهد الإمبراطورية ... وفي زمن يقارب عهد موسى الموصوف بالتوراة بأنه من بيت "لاوي".(1/88)
وإيضاحا لذلك كله فإن "موسى" معناها باللغة المصرية القديمة ابن.. ولذلك فإن رع مس هو ابن الإله رع وكذلك فإن تحوتمس ابن الإله تحوت.
ولم يكن من المعقول أن تعطي ابنة الفرعون هذا الاسم المصري الصميم لأحد من أولاد العبرانيين وخاصة أننا نعلم أن المصريين كانوا يأنفون من العبرانيين فكانوا كما تروي التوراة "لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين" (الإصحاح الثالث والأربعون من سفر التكوين)، فإذا كان الطعام مع العبرانيين رجسا، فكيف يُقبل هذا الغلام العبراني في بلاط الفرعون، ويُعطى اسما مصريا ثم تقول التوراة أن ابنة الفرعون جعلته إبنا لها..؟؟
وتروي التوراة بعد ذلك حكاية غريبة، وما أكثر غرائب التوراة، فتقول التوراة "وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أن خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته. فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل". وتكرار لفظ (إخوته) مرتين في سطرين يكشف قصد أحبار اليهود بأنهم يشيرون إلى العبرانيين.. وغرائب هذه الحكاية تفضح الحكاية نفسها بالنسبة إلى جنسية القاتل والمقتول. والسؤال هنا كيف عرف موسى، أن رجلا عبرانيا هو المضروب وأن الضارب هو مصري.. وهل من لافتة كانت تعلق على كتف هذا وذاك تحدد جنسيته، وخاصة أن العبرانيين في ذلك العهد قد بلغ عددهم "ستماية ألف عدا الأولاد" فيما تروي التوراة (سفر الخروج-الإصحاح12).. وليس من السهل تمييزهم عن المصريين.
والجانب الآخر من القصة يكشف مزيدا من التساؤل ومزيدا من الغرابة، فالتوراة تمضي لتقول أن موسى خرج في اليوم الثاني وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان "فقال للمذنب، لماذا تضرب صاحبك.. فقال أتفكر أنت بقتلي كما قتلت المصري.. فخاف موسى وقال حقا قد عرف الأمر، فسمع فرعون هذا وطلب أن يقُتل موسى. فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان وجلس عند البئر".(1/89)
ويثور السؤال نفسه مرة ثانية: وكيف عرف موسى أن اللذين كانا يتضاربان هما عبرانيان، فهل من علامة كانت تميز العبرانيين عن غيرهم من الناس..؟
وسؤال ثان، كيف عرف هذا العبراني أن موسى قد قتل المصري في اليوم السابق مع أنه طمره في الأرض دون أن يرى موسى أحد كما تقول التوراة.؟
كل هذه الإشارات الواردة في التوراة حول عبرانية موسى، وأبيه وأمه، وقتله المصري انتصارا للعبراني، ثم تدخله بين أثنين من العبرانيين، تشير بإصبع الاتهام إلى أن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة، كانوا على الدوام ينطلقون من النزعة العنصرية البغيضة، ويؤكدون على العبرانية مرة ، واليهودية مرة أخرى.. تمييزا لليهود عن الأمم والشعوب.. وأنهم قد استخدموا اسم موسى المصري الصميم لإبراز هذه النزعة، كما استخدموا من قبل اسم إبراهيم العراقي العربي وأولاد إسحق ويعقوب.
وقد فعلوا ذلك مع أيوب، فقد حشروا اسمه بين أبنائهم وكتبوا سفرا باسمه، مع أن أيوب عربي، من قبائل الأدوميين، ولد على مقربة من الشوبك في الأردن وقد لقبه الأديب الإفرنسي الشهير فيكتور هوجو بأنه بطريق العرب وأنه أول من ابتدع أدب المآسي (DRAMA) واعتبر كثير من العلماء أدب أيوب بأنه من أعظم آيات الأدب العالمي.
وثمة دليل آخر يمدنا للتعرف على جنسية موسى، نجده في قصة هربه إلى أهل مَدَين: فتقول التوراة بعد أن هرب موسى من وجه الفرعون إلى أهل مَدَين، أن موسى حين كان جالسا عند البئر لقي بنات كاهن مديان فأنجدهن موسى وسقى غنمهن، وسألهن أبوهن "ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم، فقلن رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة وسقا الغنم " وتمضي التوارة لتقول أن موسى سكن في بيت الكاهن وتزوج ابنته صفورة.(1/90)
والمهم في قصة التوراة هذه أن الفتيات السبع، بنات الكاهن، قلن لأبيهن عن موسى " أنه مصري" كما تقول التوراة، ولعلهن عرفن جنسيته ومن هو، من ملامحه العامة، أو من حديثه معهم.. وخاصة أن أرض مديان هذه التي وقعت فيها الحادثة تقع في منطقة نهر الأردن، حيث القبائل العربية وليس بينها مصري واحد.
يضاف إلى ذلك أن التوراة ذكرت أنه "رجل مصري" دون أن تأتي بتعليق أو إيضاح.. فإذا كانت بنات مدين قد عرَّفن موسى بأنه "الرجل المصري" وهي معرفة فطرية، من النظرة الأولى، فإن أحبار اليهود لا يستطيعون أن يجعلوا منه عبرانيا ومن بيت لاوي ابن يعقوب..
ونحن في إلحاحنا على جنسية موسى ومصريته، لا نريد أن نضيف عظيما إلى قائمة العظماء في مصر، وإنما نقصد أن نشير إلى النزعة العنصرية الشريرة الكامنة في سويداء النفس اليهودية منذ أقدم العصور.
وسيرة موسى تمدنا بالكثير من هذا الشر الكبير الذي أنزل البلاء بالشعب اليهودي وفجر كثيراً من النكبات في التاريخ الإنساني , فلندخل على التوارة والذي أبشع أنواع التمييز العنصري البغيضن
وها نحن نرى التوراة تتحدث في هذا المعنى لتقول أن موسى حين كان في البرية يرعى الغنم جاء إلى جبل حوريب وظهر له الرب وقال له "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. أني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم.. وعلمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم-أخرجهم-من تلك الأرض_. فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتُخرِج شعبي بني إسرائيل من مصر".(1/91)
وهنا يأتي مرة ثانية دور التمييز العنصري البغيض، بين شعب مصر وبني إسرائيل، فإذا كان "الرب" قد نزل لينقذ بني إسرائيل من أعمال السخرة، فقد كان الشعب المصري كله يعاني من السخرة، بل إن كثيراً من شعوب الأرض يومذاك كانت تعيش تحت بلاء هذا النظام البغيض.. فلماذا ينزل الرب من أجل بني إسرائيل وحدهم، وليسوا وحدهم هذا في العالم واقعين تحت نير السخرة.. فإن سائر البشر هم عباد الله، وجديرون بعطفه ورحمته، جديرون بأن يرفع عن أكتافهم هذا البلاء؟
ولكن هذه الخصوصية اليهودية مع الرب، كما نراها في سيرة موسى في جميع أدوار حياته، كانت هي المأساة في حياة اليهود في جميع مراحل حياتهم ... وستظل على هذا الحال ما بقيت اليهودية تحتوي هذه النزعة الشريرة الطاغية، وترضعها الأجيال اليهودية من الأمهات إلى الأمهات.. وتجعل من "الرب" إلها يهوديا عبرانيا إسرائيليا وصهيونيا.
ويود بيجن رئيس وزراء العدو لو أن "الرب" يكون من حزب ليكود لو استطاع إلى ذلك سبيلا.. ونحن نستغفر الله العظيم أن يكون كذلك، وهو رب العالمين الرحمن الرحيم.
ولكن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة قد أباحوا لأنفسهم أن يجعلوا "الرب" بالشكل الذي يختارونه .. وأن يجعلوا من موسى نفسه " إلها" إذا اقتضى الأمر ... ففي الإصحاح الرابع من سفر الخروج نقرأ حوار بين الرب وموسى ليقنعه بالذهاب إلى بني إسرائيل وإخراجهم من مصر، وأن يستعين بأخيه هارون، لأنه أفصح منه لسانا، فيقول الرب، حسب رواية التوراة، لموسى، "أنت تكون له إلها (أي إلها لأخيه هارون) وهو يكون لك فيما يكلم الشعب عنك".. وبعد ذلك يحمله الرب رسالة إلى فرعون يقول له فيها "تقول لفرعون أطلق إسرائيل ابني البكر ليعبدني.. وأن أبيت أن تطلقه ها أنا أقتل إبنك البكر..".
ومعنى ذلك أن بني إسرائيل جميعا هم بمثابة الابن البكر "للرب" وللإبن البكر السيادة على الأسرة بكاملها، وبهذا يكون بنو إسرائيل سادة البشر أجمعين.(1/92)
وتمضي التوراة في ذكر سيرة موسى، ويزداد الكشف عن السلوك اليهودي فيما أسموه ملحمة الخروج، فإذا بالخروج يكشف عن تخاذلهم وافترائهم على موسى وعلى الله معا.
فبعد أن عبر اليهود بحيرة المنزلة في طريقهم من مصر إلى سيناء ... إذا بجموع اليهود يرفعون عقيرتهم بالشكوى من موسى ومن الخروج ... وتقول التوراة في ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج: "فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم واذا المصريون راحلون وراءهم , ففزعوا جداً وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب, وقالوا لموسى هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية، ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر". وهذه هي قمة الجبن والثورة على موسى.
ثم تكشف التوراة عن أسرار آخرى كانت بينهم وبين موسى تظهر أنهم كانوا غير راغبين في الخروج أصلا، فتضيف التوراة إلى ذلك قائلة "أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين: "كف عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية".
"كف عنا" قالها بنو إسرائيل لموسى، ومعناها العادي البسيط اتركنا وحالنا في مصر يا موسى.. إنهم لا يريدون أن يتركوا مصر، ويفضلون أن يبقوا في خدمة المصريين، ولكن موسى صبر على بني إسرائيل، وحين راحوا يواصلون مسيرة الخروج، بدأوا يشكون من التعب والشظف هنا، ومن العطش والجوع هناك، إلى أن جاءوا إلى برية سيناء في الشهر الثالث بعد خروجهم من أرض مصر ونزلوا مقابل الجبل.
وهنا يبرز التمييز العنصري البغيض، ولكن هذه المرة لينزل فريضة من السماء وعلى لسان "الرب" فيقول الإصحاح التاسع عشر من سفر الخروج "وأما موسى فصعد إلى الله. فناداه الرب إلى الجبل قائلا هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل.. انتم رأيتم ما صنعت بالمصريين ,وأنا حملتكم على أجنحة النسور.. فإن حفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب فإن لي كل الأرض وانتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة".(1/93)
هكذا "أمة مقدسة.. وخاصة للرب من بين جميع الشعوب" وتلك هي أبجدية العقيدة اليهودية يحفظها أجيال الشعب اليهودي قبل أن يحفظوا أبجدية القراءة والكتابة، لتكون بلاء عليهم وعلى الإنسانية جمعاء.
ومع هذا فإن عبارة "بين جميع الشعوب" قد قطعت شوطا متقدما قي موضع آخر من التوراة، فتصبح العبارة "فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" ففي سفر التثنية (الإصحاح الرابع عشر) تقول التوراة أن الرب قال لبني إسرائيل، عن طريق موسى، "أنتم أولاد الرب ... لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك لتكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض"ِ !!
والرب كما صوره موسى لبني إسرائيل فيما تروي التوراة، هو المسؤول أمام إسرائيل، في كل حياتهم فهو يسير أمامهم في عمود سحاب ليهديهم في الطريق نهارا، وليلا في عمود نار ليضيء لهم.. ويمطر عليهم خبزا من السماء، وفي الحرب فإن "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون".
فإن الرب يقاتل المصريين نيابة عنهم.. وتروي التوراة أنه بعد أن عبر بنو إسرائيل البحر، مشوا على اليابسة، وكان المصريون أمواتا على شاطئ البحر ولم يبق منهم أحد (سفر الخروج-الإصحاح14).
كل ذلك: إهلاك فرعون وقومه من أجل نجاة بني إسرائيل ووصولهم سالمين إلى برية سيناء ليعبدوا الرب كما قالت التوراة.
ولكن هل عبدو الرب .. إن التوراه تجيب على ذلك .. إنهم عبدوا العجل وعلينا أن نترك التوراة تتحدث ...(1/94)
تقول التوراة ... في الإصحاح الثاني والثلاثيين من سفر الخروج أن الشعب قد استبطأ موسى في العودة من الجبل-وعودته من الله-فقالوا لهارون أخيه:" قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا فقال لهم هارون "انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم.. وأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا، فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل" واحتفل الشعب بالأكل والشرب واللعب والرقص وسجدوا للعجل وهكذا أضاف بنو إسرائيل على أنفسهم عبادة العجل كما تعلقوا بالعنصرية البغيضة.
وعاد موسى إلى قومه وهو يسمع صوت غنائهم، وأبصر العجل والرقص واشتد الغضب بموسى، وندد بأخيه هارون "وأخذ العجل وأحرقه بالنار وطحنه " إلى آخر القصة.
وغضب الرب كذلك، كما تروي التوراة وقال :" ورأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة ... اتركني أفنيهم". ولكن موسى تضرع إلى الرب وطلب إليه أن يتراجع عن إيقاع الشر ببني إسرائيل، وأن لا يفنيهم.
ولكن الرب، كما تقول التوراة، "ندم على الشر الذي قال إنه سيفعله بشعبه".
وهكذا غفر لبني إسرائيل عبادة العجل وندم وتراجع عن العقاب ومن أجل بني إسرائيل ندم الرب وتراجع ...
ومن عبادة العجل الذي سجد له بنو إسرائيل، عبدوا فيما بعد إلها آخر حينما كانوا في برية سيناء، وأضافوا إلى ذلك فاحشة الزنا بصورة جماعية ... كأنما أخرجهم موسى من أرض مصر ليرتكبوا هذه الكبائر الكبرى.. وكانت هذه الفاحشة حينما وصل بنو إسرائيل إلى أرض مؤآب.
وتقول التوراة أن بني إسرائيل ابتدأوا "يزنون مع بنات موآب، فدَعوْنَ الشعب (بني إسرائيل) إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن وتعلق الشعب ببعل فغور (إله الموآبيين).. وغضب الرب على إسرائيل وقال الرب لموسى "خذ جميع رؤوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس.. وقال موسى لقضاة إسرائيل اقتلوا كل واحد قومه المتعلقين ببعل" ... (سفر العدد-الإصحاح 25).(1/95)
ومع هذا فقد استمر أحبار اليهود يكتبون في توراتهم أن بني إسرائيل هم شعبه المقدس وأنه فوق جميع شعوب الأرض.. وأن خروجهم من مصر كان ليعبدوا الله في البرية.. فإذا بهم يعبدون الأوثان ويجعلون الصحراء بيت دعارة مكشوفة.
وراحت التوراة تتحدث عن رحلة الخروج من مكان إلى مكان، ومن جبل إلى جبل وبنو إسرائيل يشكون ويتذمرون، والرب يندد على الدوام، ويقول لموسى في كل مرة :" قل لبني إسرائيل أنتم شعب صلب الرقبة".. وبهذه الألفاظ على وجه التحديد..
كان موسى يستغفر لقومه كلما اقترفوا سيئة من السيئات، وتضرع إليه أن يسير معهم وقال له متوسلا:" أليس بمسيرك معنا. فنمتاز أنا وشعبك على جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (سفر الخروج- إصحاح 33) وكان ذلك أوضح اعتراف بنزعة التمييز العنصري البغيض الذي يدين به بنو إسرائيل.. والغريب أن أحبار اليهود قد استعملوا لفظة "التمييز" بالنص وتعبير التمييز العنصري لم يكن وأورداً يومئذ، فقد عرفته اللغة السياسية في هذا العصر، ليبدأ بعد قرون من الأحداث التي دونتها التوراة..
وأكثر ما تتجلى هذه المعاني في الترنيمة التي دونتها التوراة بنصها الكامل بعد أن انتهت معركة العبور ونجا بنو إسرائيل وغرق فرعون وجنده ... فقد أنشدوا قائلين عن المصريين.. "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة.. هبطوا في الأعماق كحجر، فغطاهم البحر. تمد بيمينك فتبلعهم الأرض ترشد برأفتك الشعب الذي فديته .. يسمع الشعوب فيرتعدون..تأخذ الرعدة سكان فلسطين. حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياء مؤآب تأخذهم الرجفة ، يذوب جميع سكان كنعان.. حتى يعبر شعبك يا رب" (الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج).
وهذا التهديد والوعيد موجه إلى شعوب الشام: سكان كنعان، وأدوم، موآب، وكأنما أراد أحبار اليهود أن يشنوا حرب الأعصاب على ديار الشام قبل أن يصل بنو إسرائيل إلى فلسطين.(1/96)
ومن هنا فإن التوراة تسجل لنا أكبر حفلة رقص شهدتها سيناء تمجيدا للعبور، فتقول التوراة، بعد أن سردت الترنيمة، "أن مريم النبيه أخت موسى أخذت الدف بيدها وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص وكانت مريم تهتف أمامهم قائلة : رنموا للرب فإنه قد تعظم .. الفرس وراكبه طرحهما البحر" يعنون بذلك فرعون وجواده.
ولم تكتف التوراة بسرد الأحداث وتدوين الترنيمة لتكون تاريخا لبني إسرائيل فحسب، ولكن أحبار اليهود أرادوا أن يجعلوا من كل ذلك عقيدة دينية يتوارثها الأبناء عن الآباء، بكل ما احتوته من استعلاء على بقية الشعوب وبغض لها، والرغبة في تدميرها وإهلاكها.
ومن هنا فقد حرصت التوراة أن تجعل من ذكرى الخروج عيدا دينيا تقام فيه طقوس مطولة ومعقدة، تقدم فيها الذبائح ولا يؤكل الخبز إلا فطيرا، كيوم خرجوا من مصر.
ثم تأمر التوراة رب الأسرة قائلة "ومتى سألك إبنك غدا قائلا ما هذا، تقول له أخرجنا الرب من مصر بيت العبودية.. وقتل الرب كل بكر في أرض مصر من بكر الناس إلى بكر البهائم" إلى آخر القصة (سفر الخروج- الإصحاح13) وبذلك تنشأ الأجيال اليهودية على البغضاء والاستعلاء والنزوع إلى الانتقام.
والتمييز العنصري، وهو الآفة الكبرى التي تمثل المساهمة المفجعة لبني إسرائيل في حياة الإنسانية، انتقل من أسلوب السرد التاريخي إلى أن دخل في صميم الدين، وأصبح جزءا من الوصايا العقائدية التي أنزلها الله على موسى كما تقول التوراة.. والأمثلة على ذلك متوافرة.(1/97)
ففي أحكام المعاملات جعلت التوراة "القرض" نظاما عاما ومن كماله بركة الرب. ففي سفر التثنية في الإصحاح الخامس عشر تقول التوراة في صدد وصايا الرب :" يباركك الرب إلهك، فتقرض أمما كثيرة، وأنت لا تقترض، وتتسلط على أمم كثيرة وهم عليك لا يتسلطون". وبهذا يكون نظام الصرافة والتسلط على الشعوب قد أصبح في صميم الدين اليهودي.. ولعله كان السبب المباشر في أن اليهود أصبحوا فيما بعد أعظم الصيارفة في العالم، وتجمعت بين أيديهم ثروات الشعوب كما هو معروف في هذا وبهذا الثراء الضخم استطاعوا أن يتسلطوا على الشعوب.. كما أمرتهم التوراة بالنص.
والتوراة لم تأمرهم بالتسلط على الشعوب فحسب، بل بالاستعباد والسخرة والرق وها نحن نقرأ في التوراة في الإصحاح العشرين من سفر التثنية ما قاله الرب لموسى بالكلمة والحرف :" حين تَقُربْ من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك."
وهذا أمر عجيب يصل إلى درجة المأساة، فإن "الرب" الذي أنقذ بني إسرائيل من "سخرة" فرعون.. هذا الرب يأمر بني إسرائيل أن يفرضوا نظام السخرة والعبودية معا على الشعب الذي يقبل الصلح مع إسرائيل، ويفتح له بلاده على مصراعيها في وجهه.
ولكن هذا هو الدين اليهودي يأمر بالربا والسلب والسخرة والعبودية، كل ذلك من فم الرب وعلى لسان موسى.
وتمضي التوراة في تفصيل هذه الأحكام وتميز بين اليهودي وغير اليهودي فيقول الإصحاح الثالث والعشرون من سفر التثنية ما يلي :" لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة وربا طعام، أو ربا شيء ما مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك إلهك في كل ما تمتد إليه يديك".(1/98)
تلك هي الشريعة التي تلقاها موسى من الرب وأبلغها إلى قومه، كما تروي التوراة.. لكي يعملوا بها، وقد أشهد موسى السماء والأرض على بني إسرائيل لينفذوها بحذافيرها، وإن لم يفعلوا فإن "الرب يبيدهم" كما تهددهم التوراة..
وواضح أن ديناً يأمر بمثل هذه الوصايا لا يمكن أن يكون ديناً سماوياً , فلا بد أن يكون ديناً أرضياً كتبه أحبار اليهود وهم قاعدون في أدنى الأرض وفي صدورهم شهوات الأرض في أدنى مطالبها .
ومع ذلك فإن موسى لم يسلم من قومه بني إسرائيل، فقد أوردت التوراة أن قومه قد ضاقوا به ذرعا وتذمروا منه أكثر من مرة وثاروا عليه وفكروا في القيام "بانقلاب" على موسى، وفي الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد تقول التوراة: وتذمر كل الشعب على موسى.. وقال "ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا متنا في هذا القفر، ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة.. أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر، وقال بعضهم نقيم رئيسا ونرجع إلى مصر".
وكان موسى يشكو قومه إلى الله بسبب عصيانهم وفساد أخلاقهم حتى أنه تمنى الموت ويكون الفراق بينه وبينهم، ففي إحدى المرات قال للرب: "لماذا أسأت إلى عبدك.. حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ.. لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع الشعب لأنه ثقيل عليَّ.. فإذا كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلا.. فلا أرى بليتي".
وحين عطش بنو إسرائيل ثاروا على موسى، فصرخ موسى إلى الرب، كما تقول التوراة، قائلا:" ماذا أفعل بهذا الشعب بعد قليل يرجمونني" (الإصحاح السابع عشر من سفر الخروج).(1/99)
وكذلك فإن الرب لم ينج من شرور بني إسرائيل وإيذاءاتهم، إذ تمضي التوراة لتقول :" وقال الرب لموسى حتى متى يهينني هذا الشعب وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم.. وحتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليَّ " (سفر العدد-الإصحاح 14) وبذلك وصل سلوك اليهود مع الله إلى درجة الإهانة، ونعوذ بالله من بني إسرائيل.
وفي النهاية، فإن موسى لم يسلم من أحبار اليهود في ختام حياته، فحينما اقترب أجله حرمه الله كما تقول التوراة من أن يدخل إلى فلسطين مع بني إسرائيل "جزاء خيانته" إذ يقول الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر التثنية.. وكلم الرب موسى قائلا :" إصعد إلى جبل نبو في أرض مؤآب الذي قباله أريحا ومت في الجبل الذي تصعد إليه. فإنك تنظر الأرض من قبالتها ولكنك لا تدخل إلى هناك إلى الأرض.. لأنك أنت وأخوك هارون خنتماني في وسط بني إسرائيل".
والواقع أن التوراة قد سجلت لموسى، على يد أحبار اليهود، وقائع غير لائقة ولا كريمة، وأبرز هذه الوقائع حادثان جديران بالإشارة.
الأول : أن موسى صنع لبني إسرائيل تمثالا من نحاس بصورة حية فاغرة فاها، ووضع التمثال على راية الجيش.. والقصة كما ترويها التوراة أن حيّات الصحراء المحرقة اندفعت في وجه بني إسرائيل عقابا لهم على تمردهم وعصيانهم ومات منهم كثيرون فشكوا إلى موسى أن يدعوا ربهم لينجيهم من هذا العقاب الرهيب، فقال الرب لموسى :" اصنع لك حيَّة محرقة وضعها على راية فكل من لدُغ ونظر إليها يحيى" (سفر العدد-الإصحاح 21) فصنعها موسى وعادت الحيات إلى جحورها واستراح بنو إسرائيل..
وهكذا فقد جعل أحبار اليهود من موسى "حاويا" للحيات بعد أن كانت الأفعى هي معجزته الكبرى هي معجزته في وجه فرعون..وكذلك فإنهم ألجأوا موسى إلى نوع من الوثنية وهو الذي كان يتوسل إلى فرعون أن يخرج بقومه إلى "البرية ليعبدوا الرب".(1/100)
أما الحادث الثاني فإنه يمثل الإرهاب اليهودي بأبشع صوره.. وأسوأ ما فيه أن يكون على يد موسى. وخلاصة القصة كما سردتها التوراة- في الإصحاح الحادي والثلاثين من صفر العدد- أنه بعد أن عاد بنو إسرائيل من معركتهم مع المديانيين :" قال لهم موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية. فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأه عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها"، وأعمل بنو إسرائيل السيف في الرقاب-رقاب الأطفال والنساء- بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. أما أوزار الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء، فقد وضعتها التوراة على أكتاف موسى.
وهذان حادثان لا يحتاجان إلى تعليق، ذلك أن التوراة تكشف في هذين الحادثين عن مفارقة مأساوية كبرى، فإن موسى الذي كاد أن يكون واحداً في مذبحة الأطفال التي أمر بها فرعون كما تروي التوراة، قد أصبح هو فرعون الثاني في نهاية حياته يأمر بذبح الأطفال ومعهم أمهاتهم.. وكانت أبشع مذبحة في التاريخ.
ذلكم هو موسى الذي استشهد به رئيس وزراء العدو مناحيم بيجن، كما صورته التوراة.. أما موسى عليه السلام فقد ذكر في القرآن عشرات المرات، بأحسن الذكر، ذكر التقدير، ويكفي منها قول الله مخاطبا الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) "واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا" (سورة مريم) صدق الله العظيم.
وصفوة القول، أننا قد قرأنا في هذا الفصل، ومن عبارات توراة اليهود أن التمييز العنصري والربا والصرافة والتسلط والاستعباد كل ذلك كان في جسم الدين اليهودي..
بل إنه يجري في الجسد اليهودي جريان الدماء في شرايين الإنسان..
فكيف تستطيع الأمة العربية أن تعيش في سلام مع جماعة هذه أخلاقها وهذا دينها؟. بل كيف تستطيع أن تعقد معها سلاما، ودينها يأمرها أن تبيد الشعوب الأخرى وتستعبدها من غير وازع ولا رادع..!!
الفصل السادس
يا موسى لا تعبر الأردن..
لأنك عصيتني وخنتني
يا موسى لا تعبر الأردن..
لأنك عصيتني وخنتني(1/101)
في جملة ما تثبته التوراة، أن أحبار اليهود الذين كتبوا أسفارها، إنما هم قصاصون من الدرجة الثالثة، ولا يقاسون بشيء إلى جانب المعاصرين من القصاصين اليهود المعروفين فيما كتبوا من روايات وصنفوا من سيِّر وتراجم، وكان الكثير منها أدبا رائعا جديرا بالقراءة والمتعة.
ولكن ما كتبه أحبار اليهود في أسفار التوراة عن خروجهم بني إسرائيل من مصر ودخولهم إلى فلسطين , يكشف عن ضعف في التأليف واضطراب في التفكير، وغفلة في التلفيق تفضح أصحابها، وتكشف جوانب الكذب والتزوير في اقصاصيهم من البداية إلى النهاية.
وكثير من القصص، أي قصص، خيال ليس له ظل من الواقع، سواء في الأحداث والأشخاص والأبطال، وكذلك في الخاتمة التي تنتهي بها القصة.. ولكن تلك القصص تظل متسلسلة بذاتها، آخذ بعضها برقاب بعض، وبدايتها تقود إلى نهايتها.
أما قصص التوراة، وخاصة بالنسبة إلى موسى وخروجه على رأس بني إسرائيل إلى سيناء بهدف الاستيلاء على فلسطين، فإنها تثير كثيرا من التساؤلات التي لا جواب لها، والشكوك التي يستحيل تفسيرها، ناهيك عن التناقضات الكثيرة التي تتضارب فيما بينها، بحيث يستحيل على العقل أن يقبل بأن تلك القصص هي من وحي السماء، ذلك بأنها هي من خيال أولئك القصاصين القدامى من رعاة المواشي. يخرفون، ويهرفون بما لا يعرفون.
ولو شئنا دليلا واحداً يثبت هذا الحكم لوجدنا أن ما أرادته التوراة من أمر موسى وخروجه من مصر إلى البرية، وما وقع لبني إسرائيل فيها لكفى ذلك كله أن يكون دليلا قاطعا بأن التوراة لا يمكن أن تكون من كلام الله، كما لا يكمن أن تكون أعمال موسى وأقواله، من أعمال نبي الله وأقواله.
وثمة دليل آخر يؤيد ما ذهبنا إليه.. ذلك هو كثرة الفجوات والسقطات التي لم ينتبه إليها الذين كتبوا التوراة، فجاء قصصهم منقوصا فيه فراغ هنا وهناك.. ولننتقل من التعميم إلى التخصيص.(1/102)
في مجال التخصيص، يجد القارئ الصابر للقراءة، بعد أن يفرغ من قراءة الأسفار الخمسة الأولى من التوراة، أن موسى له أخ أسمه "هارون اللاوي"، وأن له أخت اسمها مريم النبية.
ونلاحظ هنا أن التوراة لم تذكر لنا شيئا عن مولد هارون ولا عن مولد أخته مريم.. وقد اقتصرت على ذكر مولد موسى وقصته، دون أن تُذكر له أخا أو أختا، مع أن سياق القصة يقتضي أن تذكر الأسرة وأولادها وسائر ما يتصل بها.
وعلى حين أن التوراة لم تبخل في سردها لقصة إبراهيم، أن تذكر الكثير من تفاصيل حياته وحياة زوجته سارة، وضرتها هاجر، ومولد ولديه إسماعيل واسحق، وما كان من أمور العائلة مع فرعون، وأبيمالك ملك الفلسطينيين، وشؤون الزوجات والسراري والزواج من العراقيات وأولادهما.. كما فصلنا في الفصول السابقة.
ولم تبخل التوراة كذلك أن تذكر بالتفصيل حياة إسحق ويعقوب وأولادهما، وما رافق زواجهما من قصص وطرائف لا نجد مثيلا لها إلا في أساطير اليونان، لولا أنها تقل عنها في جمال الأداء وسلاسة التعبير.
أما بالنسبة إلى سيرة موسى وأهل بيته، فقد اقتصرت التوراة على حكاية وضعه في الصندوق وإلقائه في النهر، ثم ما كان من أمر التقاطه من قبل إبنة فرعون واتخاذها له ولدا..
غير أن هارون، وهو طفل ذكر، فإن التوراة لم تذكر لنا كيف لم يذبحه الفرعون، وكيف نجا من مذبحة الأطفال، وأين تربى وأين عاش.. فكلها مجهولات لا تعرف من أمرها شيئا..
وكل ما نعرفه عن هارون أن التوراة، تقذف به على مسرح الأحداث من غير مقدمة ولا تمهيد كأنما هو يسقط فجأة من السماء إلى الأرض، فتلتقطه التوراة، وتحشره في سفر الخروج في سياق الحوار غير الطريف بين "الرب وموسى" حين عاد من برية سيناء وظهر له الرب ودعاه إلى أن يذهب إلى فرعون ويطلب إليه أن يطلق بني إسرائيل من مصر-بيت العبودية، إلى البرية ليعبدوا له..(1/103)
وتقول لنا التوراة في سياق ذلك الحوار أن موسى نبه الرب قائلا: "اسمع أيها السيد (!!) لست أنا صاحب كلام، أنا ثقيل الفم واللسان" يريد بذلك أن يعتذر عن هذه المهمة فهو لا يحسن الكلام.
وهنا، هنا فقط، تقفز التوراة وتذكر لنا أسم "هارون اللاوي" ويروي لنا الإصحاح الرابع من سفر الخروج أن الرب قال لموسى "أليس هارون اللاوي أخاك، أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضا هاهو خارج لاستقبالك , فحينما يراك يفرح بقلبه، فتكلمه وتضع الكلمات في فمه"!!
وهذه أول مرة يذكر فيها اسم "هارون اللاوي". وها نحن نراه على مقربة من جبل حوريب ... خارجا لاستقبال موسى.. والتوراة لا تذكر لنا متى جاء وأين كان، وكيف عرف بعودة أخيه .. تلك كلها فراغات في القصة، تركها أحبار التوراة على فراغها، مكتفية بأن هارون هولاوي-يعني إسرائيلي.. وهذا هو كل ما يهم أحبار اليهود.
وتمضي التوراة في الإصحاح نفسه، لتضع أمام القارئ مفاجأة أخرى، غير مفهومة ولا معقولة.. وهذه المفاجأة تضعنا أمام قصة مفقودة الحلقات.
تقول التوراة بهذا الشأن.. "وحدث في الطريق في المنزل (؟) أن الرب التقاه (التقى موسى) وطلب أن يقتله (؟) فأخذت صفورة (امرأتة) صوانة وقطعت غُرْلة ابنها ومست رجليه.. فانفك عنه..حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان"!!
ومفهوم هذه القصة أن الله قد عدل عن قتل موسى وانفك عنه، بعد أن قامت زوجته بختن ابنها بحجر صوان.. ومست رجليه.
وأحبار التوراة لا يذكرون لنا في سياق هذه القصة لماذا أراد الله أن يقتل موسى.. وأمن أجل أن ابنه لم يكن مختونا؟ أم لسبب آخر.. وهل القتل هو عقاب عدم الختان؟
ثم يأتي السؤال بعد ذلك وكيف عدل "الرب" القاتل عن القتل؟.. وتساؤلات أخرى لا داعي لسردها.. لأن الجواب الأكثر عقلا ومنطقا.. أن القصة كلها خرافة.. إحدى خرافات التوراة وما أكثرها..(1/104)
وكما فاجأتنا التوراة بهارون "اللاوي" على النحو الذي ذكرناه فإنها تبرز لنا مفاجأة أخرى يحسن بنا أن نسميها مفاجأة "مريم النبية أخت هارون".
ويأتي ذكر هذه النبية بعد حكاية العبور، كما شرحتها التوراة، حين مشى بنو إسرائيل على اليابسة وسط البحر، والماء عن يمينهم ويسارهم.. ثم رد الرب البحر على المصريين فغرقوا أجمعين.
وتقول التوراة بعد ذلك أن موسى وبني إسرائيل احتفلوا بهذا النصر فرنَّموا ترنيمة الفرح "فأخذت مريم النبية أخت هارون الدف بيدها وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنِّموا للرب فإنه قد تعظم.." (الخروج 15) وبهذا لم يصبح الرب عظيما إلا بعد نجاة بني إسرائيل وهلاك قوم فرعون.
وهذا هو أول ذكر لمريم أخت هارون.. ولا تذكر لنا التوراة متى أصبحت نبية وكيف ومتى ظهر لها الله وماذا أوحى إليها.
بل لم تذكر لنا التوراة متى ولدت هذه النبية .. وهل هي أخت هارون فقط، وليست أختاً لموسى.. وهل هي أخت لأب أو لأم ومن الأب ومن الأم؟
كل ذلك لا تتحدث عنه التوراة من قريب أو بعيد.. بل إن مريم لا يرد لها ذكر في التوراة بعد ذلك.. بعد حفلة الرقص والغناء إلى حين موتها (سفر العدد-20).
ثم تمضي أسفار التوراة في "تفصيل" وصايا "الرب" وشرائعه وأحكامه .. ومعظمها لا تخطر إلا في خيال الرعاة القدامى حين يكونون في الجبال والوديان ... يشتهون ويتمنون .
ومن أطرف هذه الخيالات التي سردتها التوراة أن الرب طلب إلى موسى أن يصنع له تابوتا حتى يظل ساكنا في وسط بني إسرائيل وأن يكون هذا التابوت على هيئة صندوق، ويكون طوله كذا، وعرضه كذا، وأن يكون من خشب السنط وأن يكون مغشى، من الداخل والخارج.وأن يكون وأن يكون إلى آخر المواصفات التي استغرقت من التوراة صفحات وصفحات. (الخروج-25).(1/105)
ثم تتحدث التوراة عما يجب أن يلبسه الكاهن، وهو من سلالة هارون أخي موسى، وعن الأجراس التي تكون في أسفل ثوبة وأن على الكاهن أن يهز ثوبه حتى يسمع الرب الأجراس حين دخوله أمام الرب وحين خروجه.. لئلا يموت، والموت للكاهن.. أو "رب" لا ندري، فإن الإصحاح الثامن والعشرين من سفر الخروج الذي يذكر هذه الخرافات غير واضح بهذا الشأن ولا يقول لنا من الذي يموت الرب أو الكاهن أو كلاهما معا..
أضف إلى ذلك أن تلك الأحكام تفرض على الكاهن أن لا يصعد على درج المذبح حتى "لا تنكشف عورته أمام الرب" ويكفينا ما ذكر عن سرد بقية الخرافات.. إلا خرافة واحدة تغرينا بأن نشير إليها ولو إشارة عابرة.
خلاصة هذه الخرافة فيما تروي التوراة أن الرب قد أمر بني إسرائيل قائلا :" لا تأكلوا جثة ما، تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي، لأنك شعب مقدس للرب إلهك" .. (سفر التثنية الإصحاح الرابع عشر).
وهذا هو غاية الطغيان والتعالي على الأجنبي أن يعطى الجثة ليأكلها أو يبيعها.. أما الإسرائيلي فلا يأكلها لأن بني إسرائيل شعب مقدس والشعوب الأخرى نجس في نجس.
تلك أحكام الإنسان، أما أحكام الحيوان فهي أغرب وأعجب، فإن إحدى هذه الأحكام تنص أنه إذا نطح ثور إنسانا أو ثوراً، فإن الثور الناطح "يرجم ولا يؤكل لحمه" (الخروج –21) ولم تتكلم التوراة عن الثور المنطوح بعد رجمه إذا كان يؤكل لحمه أو لا يؤكل.. ولم تتكلم كذلك عن الإنسان المنطوح ما هو الحكم في جثته.. لعل الحكم هو ما ذكرته التوراة آنفا. لا يأكلها الإسرائيلي ولكن يعطيها للغريب لبيعها للأجنبي!!
وما من شك أننا لو قارنا بين الشرائع التي وضعها قدماء المصريين في وادي النيل أو حمورابي الرافدين لوجدنا مبلغ التدني الذي كان عليه الفكر الإسرائيلي في ذلك العهد.(1/106)
وهذا الذي اقتبسناه من أحكام التوراة ينم عن فكر بدائي موغل في البدائية ولا يمكن أن يرقى إلى الله، ولا يمكن أن ينسبه إليه إلا رعاة البوادي الجاهلون لحقائق الحياة.
بل إن هذه النصوص المتعلقة بالجثث والثيران لا تصدر إلا عن مستوى دون مستوى البادية.. فإن الرعاة القدامى الذين وصلت إلينا أخبارهم يعرفون كيف يتعاملون مع الثور النطَّاح دون أن يرجموه.. وأن الجثة مكانها تحت التراب لا تعطي للغريب.. لا يبيعها لأحد، ولا يأكلها أحد.
وكائنا ما كان الأمر، فإنه تحت هذا الركام من الخرافات والترهات اليهودية تكمن حقيقة كبرى، قل أن يلتفت إليها القارئ وهو يعبر في التوراة من خرافة إلى خرافة.
هذه الحقيقة الكبرى هي التي تفسر لنا كثيرا من مغلقات رحلة الخروج التي "قام بها بنو إسرائيل من مصر عبر سيناء ومنها إلى فلسطين".
وقد ركزت التوراة منذ البداية أن خروج بني إسرائيل كان "لتحريرهم من بيت العبودية" في مصر ليعبدوا الرب في البرية.
ولكن السبب الحقيقي هو غير ذلك بالمرة.. فلم يكن التحرير هو الهدف، ولا عبادة الرب هي السبب..
السبب هو الحرب من أجل الحرب.. والهدف هو العدوان من أجل العدوان.. وقد يبدو هذا الكلام غريبا لأول وهلة، ولكن التوراة نفسها تقودنا إلى هذه الحقائق بكل يسر ووضوح، وها نحن نجد مقدمات الدليل في الإصحاح الثاني من سفر الخروج حيث تروي التوراة "أن الله سمع صراخ بني إسرائيل وأنينهم من استعباد الفرعون لهم".. ثم تقول بعد ذلك أن "الله تذكر ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب"-وهو الميثاق الذي يمنح فلسطين إلى بني إسرائيل-كما ورد في سفر التكوين.
وسنترك أمر هذا الميثاق إلى فصل لاحق لنثبت بطلانه.. ويكفينا الآن أن نشير أن التوراة قد أرادت أن تنقل الميثاق من الوعد اللفظي إلى مرحلة التنفيذ.(1/107)
حكاية العبودية والسخرة التي فرضها الفرعون على الإسرائيليين هي القصة التي قصمت ظهر البعير، وهي السبب الظاهري لتبرير مرحلة الخروج من مصر والزحف إلى فلسطين.. تماما كما فعل اليهود بعد ذلك بأربعين قرنا حينما قامت النازية بمذابحها البشعة مع اليهود في ألمانيا وفي أروربا الغربية.
وكما استغلت الدعاية الصهيونية "التعذيب" اليهودي على أيدي هتلر، وحملوا الألوف من اليهود للهجرة إلى فلسطين، فقد استغل أحبار اليهود "عبودية" الفرعون ليستنفروا بني إسرائيل للخروج من مصر والزحف على فلسطين وإبادة الشعب الذي يقيم فيها.
ولم تتردد التوراة أن تقول ذلك بكل صراحة ووضوح، كما لم يتردد أحبار اليهود أن يكتبوا ذلك على لسان الرب كذبا وزورا: فقد جاء في الإصحاح الثالث من سفر الخروج أن الرب قال لموسى:" لقد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم ... وعلمت بأوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم-أخرجهم-من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة إلى أرض تفيض لبنا وعسلا.. إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين".. وهذه تشمل أرض فلسطين وما جاورها..!!
وواضح من هذا الكلام أن الأمر يتعدى إنقاذ بني إسرائيل من العبودية، إلى هدف آخر.. وهو احتلال أرض جيدة واسعة- أرضك مسكونة من أقوام آخرين ذكرهم بالإسم واحدا بعد واحد؟
هذا على حين أن مصر أجود أرضا وأوسع مساحة.. ولكن الأمر عدوان .. إن التوراة وفي نفس الإصحاح والسفر تكرر العبارة عن أرض كنعان مرة ثانية بألفاظها واسماء الأقوام إياهم.
وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية في مرحلة التنفيذ على يد بني إسرائيل .. فتقول التوراة أن الرب قال لموسى: قل لبني إسرائيل سأدخلكم إلى الأرض التي أعطيت لإبراهيم. وأعطيكم إياها ميراثا. ولكن بني إسرائيل "لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية" (الخروج –6).(1/108)
ومعنى هذا الكلام ببساطة أن بني إسرائيل قد رفضوا القيام بهذه المغامرة، لأن نفوسهم كما تقول التوراة قد صغرت بسبب قسوة العبودية.. أي أنهم لم يقدروا على الخروج وعلى الحرب.. وأنهم يؤثرون البقاء في خدمة المصريين كما أشارت التوراة فيما بعد.
وتأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة من التنفيذ .. فتحدثنا التوراة أن بني إسرائيل قد خرجوا في الليل بعد أن أطلقهم فرعون، ثم تكشف التوراة عن سر له دلالته على أهداف المسيرة وموقف بني إسرائيل منها, كما تفضح تخاذل اليهود ومخاوفهم من التوجه إلى فلسطين، وهنا نقرأ في الإصحاح الثالث عشر من سفر الخروج عبارة واضحة صريحة تدين رحلة الخروج كلها، وتكشف عن خوف بني إسرائيل من الحرب ولو كانت من أجل الوصول إلى فلسطين.
وتقول العبارة: وكان لما أطلق فرعون الشعب "أن الله لم يهد بني إسرائيل في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة، لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذ رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر".
وما نحسب أن هناك كلاما أوضح من هذا الكلام ... الطريق إلى فلسطين قريبة، ولكن الله يخشى أن يندم بنو إسرائيل ويرجعوا إلى مصر إذا رأوا أنهم ذاهبون إلى الحرب. ولذلك ما هداهم الله إلى الطريق.. بل إن الله، كما تواصل التوراة كلامها "أدار الشعب في طريق برية بحر سوف" أي في طريق آخر ليس قريبا إلى فلسطين.
ونخلص من ذلك كله أن أحبار التوراة الذين لفقوا مسيرة الخروج قد جعلوا الرب يضلل بني إسرائيل عن الطريق القريبة إلى فلسطين حتى لا يندموا ويرجعوا إلى مصر فأدار وجوههم في اتجاه آخر، وبهذا طالت عليهم الطريق، وتدخلت في خطة الخروج عوامل متعددة لم تكن في الحسبان.
ويحسن بنا قبل أن نتابع خطة الخروج في مسيرتها الجديدة أن نتعرف على الأقوام الذين ذكرتهم التوراة، فهؤلاء هم هدف الخروج، وسيكونون ضحية العدوان.. وأسماؤهم غريبة علينا في هذه الأيام ولكن التاريخ يسعفنا في التعرف عليهم.. ولو بإيجاز..(1/109)
الكنعانيون نسبة إلى جدهم الأعلى كنعان، من أقدم القبائل العربية التي استوطنت فلسطين ولذلك سميت فلسطين أرض كنعان كما تذكر التوراة مرارا، نزح إليها العرب من مواطنهم الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي، وهم في الأصل ينحدرون من قبيلة عربية كبرى تحركت في إحدى الهجرات التاريخية الشهيرة من الجزيرة العربية، والمراجع التاريخية التي تثبت ذلك متوافرة، بدءا بالمؤرخ هيرودوتس واسترابو إلى الطبري، إلى المؤرخين المعاصرين من العرب والفرنجة، إلى عالم المصريات المعروف جيمس هنري برستد.
وما هو جدير بالتنويه أن مراسلات تل العمارنة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقول أن قدماء المصريين كانوا يطلقون لفظ كنعان على جميع السواحل السورية..
وقد بنى الكنعانيون مدنا وقرى كثيرة لا تزال أسماؤها الكنعانية باقية إلى الآن، ومن المعروف أنه كانت للكنعانيين حضارة متقدمة في مجال الزراعة والصناعة وقد امتد تاريخهم في البلاد قرونا عديدة.. ومن هنا فإن التوراة تردد اسم أرض كنعان عدة مرات في العهد الذي دخلها إبراهيم.. فهي أرض الكنعانيين قبل إبراهيم، وقبل الميثاق الذي تزعم التوراة أن الرب قد وعد به أرض كنعان ميراثا له ولأبنائه من بعده.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بني إسرائيل- المهاجرين الأوائل إلى مصر، عاشوا فيها أربعماية وثلاثين عاما كما تذكر التوراة.. وكانت تلك الفترة ذروة ازدهار واستقرار في أرض كنعان، وكانت ذات علاقات وطيدة مع وادي النيل ووادي الرافدين معا.
واليبوسيون هم إحدى القبائل الكنعانية وينسبون إلى جدهم الأعلى يبوس.. وكانت حاضرتهم هي مدينة القدس، وسميت يبوس باسمهم لأنهم هم الذين بنوها وقد ورد اسمهم واسمها عدة مرات في التوراة قبل أن يصبح اسمها فيما بعد أورسالم، أو إيليا، أو بيت المقدس.. وحينما دخل إبراهيم إلى فلسطين، كان "ملكي صادق"،كما تذكر التوراة هو ملك القدس وهو أول ملك عربي في فلسطين.(1/110)
والحويون هم كذلك إحدى القبائل العربية التي استوطنت فلسطين وكانت منازلهم في مدينة نابلس ثم انتشروا في شمال فلسطين حتى جبل الشيخ. وقد نزل فريق منهم في شمال القدس وأنشأوا عددا من القرى.
والفرزيون، كذلك من القبائل العربية التي استوطنت فلسطين، وكانوا يسكنون القرى، ويرى بعض المؤرخين أنهم فرع من الكنعانيين.
أما الأموريون فهم من القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية، وأسسوا لهم دولة في منطقة الفرات الأوسط، ثم اجتاحوا العراق وأسسوا الدولة البابلية الأولى.. والأموريون نزلوا جنوبي فلسطين وشواطئ البحر الميت وكان لهم ملوك وأسسوا مدنا ذات شأن في التاريخ العربي.
أما الحثيون فإنهم من الشعوب الآرية.. ولكن جماعات منهم استوطنت في بعض قرى فلسطين، ولا تزال بعض المدن تحمل أسماءهم إلى يومنا هذا.
وتذكرة التوراة أن إبراهيم لما جاء إلى حبرون-الخليل-كان بنوحث مقيمين فيها.. كما تذكر أن أورياالحثي كان أحد قادة الجيش الإسرائيلي في عهد داود.
يقودنا هذا التلخيص السريع إلى أن أرض كنعان لم تكن أرضا خالية بل كان أصحابها فيها أجدادا عن أجداد، ومن أحفاد إلى أحفاد، وكل ذلك كما تعترف به التوراة نفسها.
وكائنا ما كان تاريخ أولئك الأقوام، فإن الحقيقة كما تقول التوراة، أن هؤلاء الأقوام كانوا يسكنون فلسطين، التي عرفت باسم أرض كنعان.. كانوا يسكنون بها قبل إبراهيم وقبل أن تطأ قدماه أرض البلاد ... وكانوا كذلك يسكنون بها قبل أن يظهر "الرب" لموسى في سيناء.. وقبل أن يطلب إلى موسى إخراج بني إسرائيل من مصر " ليصعدهم إلى أرض جيدة واسعة تفيض لبنا وعسلا".(1/111)
وبعد أن رسمت التوراة الهدف من رحلة الخروج، وعلى لسان الرب، راحت تفصل خطة الحرب وتنسبها كذلك إلى الرب، وأنه هو الذي يتولى تنفيذها، فإن "الرب سيحارب عنكم" كما رددت التوراة مرة بعد مرة.. وأول ما نجد في هذا الصدد ما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج وفيه يقول الرب لبني إسرائيل "ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته .. وإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم.. وأزعج جميع الشعوب الذين عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين، وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحويين الكنعانيين والحثيين من أمامك ... وتملك الأرض.. ولا يسكنون في أرضك".
وبكلمة بسيطة فإن الرب الذي أعد خطة الخروج لبني إسرائيل، هو الذي سيتولى تنفيذها وسيقودها إلى البلاد وسيتولى أبادة الأقوام الستة في أرض كنعان، ويعمل على إزعاجهم وطردهم من أراضيهم ليمتلكها إسرائيل، ولا يسكنون معهم فيها.
ويتساءل أي عبد من عباد الله.. ولماذا يقدم الرب على هذه الإبادة الجماعية تنزل بتلك الأقوام من أجل أن يسكن فيها بني إسرائيل؟.. حقا إنها حرب إبادة جماعية يشنها "الرب" على أقوام من عباده يخرجهم من أرضهم حتى تكون لبني إسرائيل خالصة من دون العالمين أجمعين.
ثم يتساءل المرء، وهل فعل الرب مثل هذا الفعل في أية أمة، من أجل أية أمة، وفي أية أرض من أرضه الواسعة، في أي عهد من عهود التاريخ؟
فإذا كان الجواب أن الله لم يفعل مثل ذلك، وهو لم يفعل قطعا، فإذن تكون قصة التوراة خرافة كبرى وتكون المصيبة الكبرى فيها أنها أصبحت عقيدة دينية أنزلت نكبات كبرى تعد بحق من أكبر نكبات الإنسانية في التاريخ.(1/112)
وشأن كل خطة عسكرية وخاصة إذا كانت عدوانية، كان لا بد لها من مقدمات وحركات تجسس واستطلاع حتى يكتب لها النجاح، وتتحقق خطة الإبادة وطرد أهل البلاد من أرضهم وإحلال بني إسرائيل على أنقضاضهم وفي منازلهم .. وهذا ما تحدثت عنه التوراة فعلا.
تروي لنا التوراة في الإصحاح الثالث عشر من سفر العدد أن الرب كلًّم موسى قائلا "أرسل رجالا ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل" ثم أوردت التوراة أسماء الجواسيس واحدا واحداً مع أسماء القبائل التي ينتسبون إليها. فكانوا اثني عشر جاسوسا بعدد أسباط بني إسرائيل.
وقد أوردت التوراة نص أوامر موسى بالتجسس، فقد قال لهم "اصعدوا من هنا إلى الجنوب واطلعوا إلى الجبل وانظروا الأرض ما هي، والشعب الساكن فيها أقويّ هو أم ضعيف. قليل أم كثير؟ وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها أجيدة أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها؟ أمخيمات أم حصون، وكيف هي الأرض أسمينة أم هزيلة؟أفيها أشجار أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمرة الأرض. وكانت الأيام أيام باكورات العنب".
وتقول التوراة أن مجموعة الجواسيس ذهبوا وتجسسوا الأرض حتى مدخل حماة وأتوا إلى حبرون-الخليل –وكان فيها فلان وفلان وفلان وبنو عناق.. وأتوا وادي أشكول وقطعوا من هناك عنقودا واحدا من العنب حملوه بالدقرانة على أكتاف أثنين من الجواسيس مع شيء من الرمان والتين ورجعوا من تجسس الأرض بعد أربعين يوما.
وهكذا فقد كانت عملية تجسس في منتهى الدقة والتفصيل، وموسى كما عرفنا في الفصول السابقة كان له موقع ممتاز في جيش فرعون.. والرب كما وصفته التوراة في أكثر من موضع فإنه "إله حرب". فلم لا تكون هذه الخطة الحربية بارعة وكاملة، ومفصلة إلى أقصى حدود التفصيل؟(1/113)
وقد نجحت خطة التجسس فعلا، فقد عاد الجواسيس بأحسن الثمار من البلاد، وبأحسن المعلومات عنها.. وقالوا في تقريرهم كما أوردته التوراة "حقا إنها تفيض لبنا وعسلا وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن الحصينة عظيمة جدا.. وأيضا قد رأينا بني عناق هناك، والعمالقة ساكنون في أرض الجنوب والحثيون واليبوسيون والأموريون ساكنون في الجبل والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن".
والتقرير أمين وصادق حقا، فقد أورد أسماء سكانها، ووصف مدنها الحصينة واعتزاز أهلها بها، وسرد أسماء القبائل أصحابها واحدة واحدة.
أما بالنسبة لدخول أرض كنعان حربا ومقاتلة أهلها، فقد انقسم الجواسيس إلى مجموعتين، الأولى مجموعة الحمائم لا توافق على الحرب وهذه المجموعة مؤلفة من عشرة أعضاء قالوا :" لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنه أشد منا بأسا وأشاعوا بين الإسرائيليين أن الأرض قبيحة تأكل سكانها. وجميع شعبها أناس طوال القامة.. وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق". (سفر العدد-الإصحاح13).
والمجموعة الثانية وهم جماعة الصقور تدعو إلى الحرب، وهما كالب ويشوع قالا "إننا نصعد ونملكها لأننا قادرون عليها.. والأرض جيدا جدا، ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا والرب معنا ولا تخافوهم ." (سفر العدد14).
ذلك كله كلام التوراة عن الحرب.. وعن أرض كنعان وأنها خبزإسرائيل تنتظر آكلها، وهنا أصيب بنو إسرائيل بالفزع من الحرب، تماما كما قالوا لموسى في بداية مسيرة الخروج. ويقول التوراة ... وبكى بنو إسرائيل تلك الليلة.. وهمّوا بأن برجموا موسى وأخاه هارون بالحجارة.(1/114)
وكان أن ساد الاضطراب صفوف بني إسرائيل، وقع موسى في حيرة كبرى، وأصبحت مسيرة الحرب مهددة بالفعل فقد أعلن اليهود تمردهم وعصيانهم، وكان لا بد له أن يتدخل الرب فهو الذي يحارب عن إسرائيل ولا بد أن يتدخل لإنقاذ الموقف، فلم يكن أمام الرب من بديل إلا أن يترك مهمة الدخول إلى فلسطين إلى جيل آخر.. وتقول لنا التوراة أن الرب قضى بأن هذا الجيل الشرير، المتمرد العاصي، جيل العشرين عاما فصاعدا لا يرون الأرض، وأنهم يتيهون في البرية أربعين عاما وفيها يموتون وفيها يفنون، ويموت معهم جماعة الحمائم العشرة-الجواسيس الذين عارضوا في الحرب- وهكذا فقد حل الوباء بذلك الجيل الشرير ودفنوا في البرية ونشأ جيل جديدا.
أما كالب ويشوع وهما من جماعة الصقور فقد قضى الرب أَنهما يعيشان ويدخلان الأرض كما تروي التوراة.
وكان تمرد بني إسرائيل طبيعيا وفطريا، ذلك أنهم حين استمعوا إلى تقرير الجواسيس الذين يمثلون جميع أسباطهم، وحينما تبين لهم أن الأرض مسكونة بأهلها، وأن فيها مدنا حصينة، وأن سكانها أهل حرب ويعتزون ببلادهم، إلى آخر ما جاء في التقرير، كان من الطبيعي في ضوء ذلك كله أن يترددوا في الإقدام على الحرب، فأحجموا عن الدخول إلى أرض لا يعرفونها ولا يملكون فيها شبرا واحدا.
غير أن أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة، قد أرادوا غير ذلك، فراحوا يقصون مسيرة الحرب بروح سافرة من العدوان والإرهاب والنزوع إلى الإبادة.. كما نرى في معظم أسفار التوراة.
ومضت التوراة تتحدث عن نشوء جيل جديد من بني إسرائيل، مهيأ للحرب والعدوان، بعد أن فني الجيل السابق المترد في القتال، المتخوف، من العواقب وأمامه شعوب مستعدة للقتال والدفاع عن أرضها ومدنها وقراها..(1/115)
وفي هذه الحقبة تذكر التوراة أن مريم-أخت موسى-ماتت في برية صين ودفنت هناك (سفر العدد-20)وبذلك أسدلتْ الستارعلى شخصية أخرى من آل موسى دون أن يُكتب لها الدخول إلى فلسطين، كما لا يكتب لأخويها موسى وهارون أن يدخلاها، فيما ستروي التوراة بعد ذلك في الإصحاح نفسه.
فقد وصل بنو إسرائيل، كما تقول التوراة،و إلى جبل هود في طرف أرض أدوم، وهناك مات هارون-أخو موسى- وكان ابن مئة وثلاث وعشرين سنة، وقال الرب :"إن هارون لا يدخل الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل لأنكم عصيتم قولي"، ودفن هارون في رأس الجبل. "وبكاه بيت إسرائيل ثلاثين يوما" (سفر العدد-20) وكان هذا الكلام تمهيداً غير مباشر لنفس المصير الذي سيلقاه موسى نفسه.
وأخذت التوراة بعد ذلك تروي أنه نشأ جيل من بني إسرائيل، واستمر "الرب"وموسى في مسيرة الحرب. ويجد القارئ نفسه أمام صفحات وصفحات تسرد أخبار بني إسرائيل وتنقلاتهم من موقع إلى موقع إلى أن أصبحوا قريبا من شرق الأردن حيث نزلوا في وادي الحسا ومنه إلى الموجب، وأنهم حاربوا الأموريين واستولوا على أراضيهم .. ثم تأتي بعد ذلك مهاجمتهم لأهل مدياِن واستيلاؤهم على أرضيهم.
وفي هذه الحرب مع المديانيين، تذكر التوراة (في سفر العدد-الإصحاح) أن بني إسرائيل قد لجأوا إلى كل أنواع الوحشية والهمجية، فقد قتلوا من المديانيين "كل ذكر" وقتلوا فوقهم ملوكهم الخمسة. ذكرت أسماءهم واحدا واحدا، وسبوا نساءهم "وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم ومواشيهم وأملاكهم وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار". ذلك هو الإرهاب اليهودي القديم نراه يتجدد بعد قرون وقرون !!
وراحت التوراة بعد ذلك تسرد أخبار المناوشات بين بني إسرائيل والقبائل الأخرى المنتشرة على أطراف الصحراء، وموسى يراسلها يطلب إليها السماح له بالمرور في أراضيها فلا يجد منها إلا صدودا أو رفضا وينتهي الأمر بمحاربتها، وتصبح البلاد كلها ساحة حرب ومعركة بعد معركة.(1/116)
وتصف التوراة بعد ذلك، كيف أصبح بنو إسرائيل على مقربة من أرض كنعان، ولا يبقى إلا أن تدخل التوراة في مرحلة الهدف الأكبر من مسيرة الخروج، وهو اجتياح أرض كنعان، وطرد أهلها منها، ومن ثم تقسيم "الأرض" على الأسباط اليهودية، تقسيما بالقرعة حتى يكون التوزيع "عادلا ومنصفا" .. فلا يأخذ هذا الفريق أكثر من الفريق الآخر.. وعدالة بين الأسباط فيما بينهم، وظلما لأهل البلاد أصحاب الأرض الشرعيين.
وما أن وصل بنو إسرائيل إلى عربات مؤآب عند أردن أريحا، بدأ "الرب" يصدر أوامره لتنفيذ المرحلة النهائية.. وهنا تقول التوراة أن الرب كلم موسى قائلا، وعلى القارئ أن يقف طويلا أمام كل كلمة وكل عبارة..
"كلِّم بني إسرائيل وقل لهم أنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم،.. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها. وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم، وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكا في أعينكم ومناخس في جوانبكم" (سفر العدد-33) ثم تذكر التوراة بعد ذلك تخوم أرض كنعان من أين تبدأ، وكيف يدور الحد من جبل إلى واد بالأسماء والتفاصيل، كأن "الرب" قد اصبح مساحا يضع الحدود بكل دقة وعناية.. ثم أن الرب قد أمر بأن يقوم يشوع بن نون وابنه الكاهن ومعهم رؤساء الأسباط بمهمة القسمة والقرعة، تماما كما يفعل أهل القرى فيما بينهم بأراضيهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.
ولو أن القارئ قد أخذ نفسه بالصبر ليقرأ هذه الحدود وأسماء المواقع،ومعظمها قائم بأسمائها حتى الآن، يستطيع أن يصل إلى اليقين القاطع بأن هذه الحدود هي من وضع أناس عرفوا الأرض شبرا شبرا، كتبوا على الطبيعة، وهم في الأرض نفسها، كما نرى في فصل لاحق، وأنه لا شأن للسماء بها.. ولا يمكن أن تكون من وحي السماء.(1/117)
وهنا يتساءل العقل والمنطق : وهل في أي كتاب سماوي آخر سجل بمواقع الحدود للشعوب الأخرى في العالم .. وهم يزيدون في زماننا هذا عن ماية وخمسين شعبا ممثلين في الأمم المتحدة وكلهم لهم حدود لم يذكرها الله في أي كتاب.
تكشف التوراة فلماذا تكون إسرائيل هي الفرد الأحد نزلت حدودها من السماء وضمها كتاب مقدس.
وتكشف التوراة بعد ذلك بأن الرب الذي أمر بالعدوان على الشعب في كنعان، وسلب أراضيه وقسمتها بالقرعة على بني إسرائيل.. هذا الرب نفسه قد أمر، كما تروي التوراة، بعد التعرض لشعوب أخرى في المنطقة، وتركهم في أراضيهم ... لسبب ذكرته التوراة ، بصراحة لا مواربة فيها.
ومن الخير أن نترك التوراة نفسها تتحدث عن هذا الجانب "الإنساني الرحيم" الذي أمر به الرب لبني إسرائيل ليتقيدوا به..
وهنا تقول التوراة، أن موسى قد أوصى الشعب، بأمر الرب، قائلا: "أنتم سائرون بتخم-حدود-أخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير.. لا تهجموا عليهم لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم، لأني قد أعطيت لعيسو جبل سعير ميراثا.. طعاما تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماء أيضا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا.." ومن هو هذا عيسو الذي أمر الرب بحمايته وعدم التعرض له..
إن عيسو هو الإبن الأكبر ليعقوب-إسرائيل.. ولأنه إسرائيلي فليس لبني إسرائيل أن يأخذوا منه طعاما أو ماء إلا بالفضة.. وأن لا يأخذوا من أرضه موضع قدم..
أما أرض الأقوام الآخرين فإنها تكون حلالا لبني إسرائيل، تنهبها لنفسها، فتلك هي إرادة "الرب".
وكذلك فقد حرَّم الرب على بني إسرائيل أن يقتربوا من أراضي بني لوط كما حرم عليهم أن يقتربوا من أراضي عيسو، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم فهو من الأسرة التي ينتمي إليها الإسرائيليون.. وهذه الأسرة محرمة على الغير،والغير حلال لها..(1/118)
ويتضح من نصوص التوراة هذه، أن "الرب" رب إسرائيل، يدعو إلى محاربة الغير جميعا ونهب أراضيهم وخيراتهم، ولكنه ينهاهم أن يقتربوا من أي قوم ينتسبون إلى بيوت بني إسرائيل من قريب أو بعيد، وذلك هو قمة العنصرية البغيضة، والقصة أبغض ما فيها أنها بأمر "الرب" كما تقول التوراة.
والغريب العجيب أن يكون ذلك كله في صلب ديانة توصف بأنها إحدى الديانات السماوية الثلاث، "والرب" فيها لا هم له إلا أن يصون إسرائيل ويحفظها .. وأن يبيد بقية الشعوب.. وها نحن نرى أن سفر القضاة، قد كرسته التوراة ليكون سجلا للدمار والهلاك لجميع الأقوام التي يتصدى لها بنو إسرائيل على حين أنه يكتب النجاة لأقوام آخرين يلوذون بصلة رحم أو نسب إلى بني إسرائيل.
وفي النهاية تأتي التوراة على ذكر آخر الأوامر الصادرة من موسى إلى بني إسرائيل، وكأنها الأوامر العسكرية التي يوجهها القائد العام قبيل ساعة الصفر.. ويبدأ الأمر قائلا :" اسمع يا إسرائيل. أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبا أكبر منك وأعظم، ومدنا عظيمة محصنة إلى السماء، قوما عظاما وطوالا.. بنى عناق الذين عرفتهم.. وسمعت من يقف في وجه بني عناق،، فأعلم أن الرب إلهك هو العابر أمامك، نارا آكلة، هو يبيدهم ويذلهم فتطردهم وتهلكهم سريعا كما كلمك الرب" (سفر التثنية-الإصحاح 9).
وبهذا أصبح الرب، كما تقول التوراة، هو الرب العابر، وهو النار الآكلة، مُهلِك الشعوب من وجه بني إسرائيل، وطارد الأمم من أوطانهم.
ثم تصل التوراة إلى الخاتمة الحزينة لحياة موسى، فتقول في سفر التثنية في الإصحاح الثاني والثلاثين (وقال الرب لموسى هو ذا أيامك قد قربت لكي تموت.. أصعد إلى جبل عباريم-جبل نبو الذي في أرض مؤآب الذي قبالة أريحا وانظر إلى أرض كنعان.. ومت في الجبل.. كما مات أخوك هارون في جبل هود.. لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل.. فإنك تنظر الأرض و لكنك لا تدخل الأرض التي أنا أعطيها لبني إسرائيل".(1/119)
ومات موسى ودفن هناك كما تصف التوراة، وما كلت عيناه ولا ذهبت نضارته وبكاه بنو إسرائيل ثلاثين يوما.
وهكذا كانت نهاية موسى ، محروما من الدخول إلى أرض كنعان، مغضوبا عليه من الله، خائنا لله هو وأخوه..
وقد انتقلت بقية المهمة في قيادة بني إسرائيل، إلى خادمه يوشع، الجاسوس الذي استطلع أحوال البلاد، وكان على رأس الصقور الذين نادوا بالحرب..
وتلك سيرة أخرى سنرى أنها حافلة بالخرافات، كما كانت سيرة السابقين واللاحقين من بني إسرائيل.
... وهذه هي التوراة بأسعار أخباراها التي يتشدق بيجن رئيس وزراء العدو بكلماتها وعباراتها .
بل هذا هو موسى الذي استشهد به بيجن رئيس وزراء العدو في خطابه إلى الشعب المصري.. قالت عنه التوراة أنه عصى الله وخانه فحرَّم عليه دخول أرض كنعان.. فكيف تكون حلالا لبني إسرائيل، وحراما على بني إسرائيل..
الفصل السابع
جفف النهر.. وأوقف الشمس والقمر
ولكنه ما انتصر
جفف النهر.. وأوقف الشمس والقمر
ولكنه ما انتصر
توفي موسى في مشارق نهر الأردن، ودفن في واحد من جبالها بعيدا عن أرض كنعان حين أعلن إليه الرب أنه لا يعبر الأردن ولا يرى أرض كنعان عقابا له على عصيانه وخيانته كما كتب أحبار اليهود في التوراة.
ولم يكن موسى وحده هو الذي أنزل الرب عليه هذا العقاب، بعد ما لقي من الأهوال والمتاعب على يد بني إسرائيل منذ أن خرجوا من مصر وعبروا سيناء في طريقهم إلى أرض كنعان، فقد قضى الرب بإبادة "الجيل الإسرائيلي الشرير" في متاهات الصحراء ليموتوا في فيافيها ويدفنوا في بطونها، دون أن يتركوا وراءهم قبرا أو أثرا.
وبعد موسى، عهد (الرب) إلى خادمه يشوع بن نون بأن يقود الجيل الإسرائيلي الجديد، إلى أرض كنعان، فيجتاحها ويدمرها، ويطرد أهلها، ويسكن بني إسرائيل في مدنها وقراها..(1/120)
وكما ترك لنا أحبار اليهود أخبار الخروج بقيادة موسى في سفر الخروج وما بعده من أسفار التوراة، فقد تركوا لنا سفرا باسم يشوع القائد الجديد، ليفصل لنا مسيرة الدخول إلى فلسطين منذ تولي أمور القيادة إلى أن توفي وهو ابن مئة وعشرين سنة.
ويتناول سفر يشوع خمسة جوانب رئيسية من تلك المرحلة، وهي:
1 - خطة الحرب التي اتبعها يشوع في هجومه على أرض كنعان.
2 - العجائب والمعجزات التي صنعها (الرب) لتحقيق النصر لبني إسرائيل على أهل البلاد.
3 - اجتياح أرض كنعان وتدمير حصونها وإحراق مدنها وقراها، وإبادة أهلها وسبي نسائها وأطفالها ونهب مواشيها وأموالها.
4 - تقسيم الأرض بالقرعة بين أسباط إسرائيل، وبيان الحدود بالتفصيل مدينة مدينة وقرية وقرية.
5 - مصير أهل البلاد وملوكها وما استقرت عليه حملة يشوع في النهاية.
وفي تضاعيف هذه الجوانب الخمسة، سنجد أن السفر يحتوي كثيرا من الغرائب والخرافات تتفق مع نسيجها مع مسيرة الخروج مما يقطع بأن مؤلف هذه وتلك إنما هو مؤلف واحد، أو جماعة واحدة عكفت على كتابة التوراة وصولا إلى أهداف معينة.. مثلهم في ذلك مثل أصحاب العقائد السياسية والاجتماعية والاقتصادية الذين ظهروا في القرون الأخيرة.. وضعوا أفكارهم في إطار عقيدة محددة تحقيقا لأهداف معينة.
ورغما عن جميع تلك الخرافات ومعها معجزات "الرب" فإن هذا السفر بعض الوقائع الأساسية، مدفونة هنا وهناك تحت ركام هذه الغرائب أو تلك.. ومن هنا فإن "الحقيقة" مدينة أكبر الدين لسفر يشوع لأنه تضمن تلك الوقائع .. بل إن سفر يشوع يجب أن يعتبر منجما ثمينا يحتوي كنوزا ثمينة من الحقائق .. حقائق مطمورة تحت أثقال الخرافات والترهات..(1/121)
ولسنا نريد أن نسبق التحليل والحكم، فذلك متروك للقارئ، ولكنّنا نستطيع أن نقول من الآن أن من يقرأ سفر يشوع من بدايته إلى نهايته بصبر وأناة ستفاجئه الحقيقة الكبرى بأن جانبا كبيرا من التاريخ اليهودي، كما كتبه اليهود بأنفسهم، إنما هو كذب وتزوير.
والذي نعنيه بالتحديد، أن سفر يشوع الذي سرد بالتفصيل حروب إسرائيل" وانتصاراتها" في أرض كنعان، هذا السفر نفسه هو الذي يثبت كذب هذا السرد ويحكم عليه بالتزوير، وخاصة فيما يتعلق بمصير "البشر" الذين كانوا يعيشون في وطنهم في أرض كنعان.. ولنبدأ القصة من أولها كما جاءت في هذا السفر الخطير..
يبدأ سفر يشوع بإصدار أمر العبور.. ويقول الإصحاح الأول أن الرب كلم يشوع قائلا :" موسى عبدي قد مات. فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل".
وشأن كل خطة عسكرية، كان لا بد لأمر العبور أن يتضمن حدود الأرض التي يتعين أن تكون هدف الخطة.. وتفاجئنا التوراة بأن تضع حدودا جديدة، موسعة، وكأنما العدوان والتوسع تقليدان عريقان في حياة الشعب اليهودي.
والحدود الجديدة، كما يقول هذا الإصحاح " كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته،.. من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحثيين، والى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخكم" ، وهذه الحدود تتجاوز كل الحدود التي وعد بها إبراهيم وإسحق ويعقوب، في سفر التكوين.
بل إنها أرض بلا حدود.. إلى حيث تصل بطون أقدامكم!!
وقام يشوع بدوره فأمر"عرفاء الشعب" بأن يهيئوا زادا لثلاثة أيام يعبرون بعدها الأردن.(1/122)
ووضع يشوع خطة للتجسس، وقد سبق أن كان هو بنفسه على رأس الجواسيس الذين أرسلهم موسى إلى أرض كنعان، واختار يشوع جاسوسين اثنين بعث بهما إلى مدينة أريحا، وهي أول مدينة ذات شأن لمن يعبر الأردن غربا ... وقد أوضحت آثارها التي اكتشفت أخيراً بأن الكنعانيين بنوا هذه المدينة قبل عشرة آلاف عام.. أي قبل مولد الإسرائيليين كجماعة بخمسة آلاف عام.
ويقول الإصحاح الثاني من السفر أن يشوع قد طلب إلى الجاسوسين أن يستعينا بـ"راحاب الزانية" المقيمة في أريحا، والغريب في هذه الحكاية كما ترويها التوراة أن الزانية قد قصت على الجاسوسين كل ما جرى لبنى إسرائيل ابتداء من عبور البحر الأحمر، واجتيازهم برية سيناء وحروبهم مع ملوك شرق الأردن، كل ذلك بتفصيل كأنما كانت تلك الزانية مرافقة لبني إسرائيل في مسيرة الخروج من بدايتها..وقالت للجاسوسين :"لقد سمعنا-بكل ذلك-وذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم".. وطلبت منهما علامة حتى لا يؤذوها، هي وأهلها، حين يدخلون أريحا.. فأعطياها العلامة وانصرفا إلى يشوع بعد أن ساعدتهما في الهرب من أريحا والعودة إلى بني إسرائيل.
وأمر هذين الجاسوسين يوضح أن التجسس تقليد قديم عند بني إسرائيل، برعوا فيه، وفي التاريخ المعاصر، يعتبر الخبراء أن الجاسوسية الإسرائيلية تأتي مرتبتها العالمية بعد الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
وكذلك فإن استخدام النساء، والزانيات في أداء هذه المهمة يعتبر تقليدا إسرائيليا عريقا عرف عبر جميع العصور، وقصص الجاسوسية العالمية، حافلة بأخبار النساء اليهوديات في هذا الشأن وخاصة في الحربين العالميتين ؛ الأولى والثانية، تداولتها دور التأليف والنشر والأفلام السينمائية في جميع أرجاء العالم.(1/123)
وتقول التوراة أن الجاسوسين نزلا من مخبأهما في الجبل وعبرا نهر الأردن "وأتيا إلى يشوع بن نون وقصا عليه كل ما أصابهما، وقالا ليشوع أن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا"، ومعنى ذلك أنه لم يبق إلا الزحف ... وأنهما حققا النصر حتى قبل أن تبدأ الحرب.
وبدأ بنو إسرائيل الزحف فعلا، وابتدأ الرب من جانبه القيام بدوره في المعركة.. فقال ليشوع " إن الرب يعمل غدا في وسطكم كعجائب" وقال يشوع لبني إسرائيل "إن الله الحي في وسطكم .. وطردا يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحويين والفرزيين والجرجاشيين والأموريين واليبوسيين.. هو ذا تابوت العهد عابر أمامكم في الأردن"، وبدأ الله يصنع عجائبه كما تسرد التوراة.
وكانت العجيبة الأولى أنه حينما دخل حاملو تابوت الرب إلى الأردن، وانغمست أرجل الكهنة في ضفة المياه وقفت مياه الأردن المنحدرة من فوق وقامت سدا واحدا.. وانقطعت المياه تماما وعبر الشعب مقابل أريحا حتى انتهى جميع الشعب من عبور الأردن. ولا تبعد العجيبة في تفاصيلها التي ذكرتها التوراة عن عبور البحر الذي تم لبني إسرائيل في بداية الخروج تحت قيادة موسى. والتكرار وحده يثبت أنها أكذوبة!!
وعلينا أن نلاحظ هنا أن كلمة الطرد سترد كثيرا في سفر يشوع.. وسنرى إذا كان أولئك الأقوام طردوا في النهاية فعلا.. وما إذا كانوا قد خرجوا من مدنهم وقراهم ومزارعهم ومن بيوتهم.. أو أن الأمر مجرد كلام في كلام وأوهام في أوهام، وسنرى بعد حين.
ولكن معجزة عبور الأردن كانت قد وصلت أخبارها إلى أهل البلاد، دون أن تذكر لنا التوراة كيف تم ذلك.. وكانت تلك المعجزة بمثابة حملة الرعب التي سبقت بني إسرائيل ونزلت على الأقوام أهل البلاد، نزول الصاعقة.(1/124)
ويقول لنا الإصحاح الخامس أنه "عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في "عبر الأردن" غربا وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر أن الرب قد يبس مياه نهر الأردن من أمام بني إسرائيل.. ذابت قلوبهم ولم تبق فيهم روح بعد من جراء بني إسرائيل"!!
وحدثت بعد معجزة العبور، فيما تروي التوراة،معجزة صغرى تمهيدا لمعجزات كبرى، ذلك أنه لما أشرف يشوع على أريحا، "رفع عينيه وإذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده، فسارع يشوع إليه وقال "هل أنت لنا أو لأعدائنا" فقال: "كلا بل أنا رئيس جند الرب الآن أتيت".. فسقط يشوع على وجهه على الأرض وسجد وقال له: "بماذا يكلم سيدي عبده"، فقال رئيس جند الرب ليشوع: اخلع نعلك من رجلك لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس".. ففعل يشوع ذلك وهذا هو ما جرى لموسى في سيناء، حيث خلع نعله لأن المكان مقدس.. كما طلب منه الرب.. والتوراة عند أحبار اليهود تكرر نفسها على الدوام في كثير من الأحداث.
ويجيء الإصحاح السادس بعد ذلك لنقرأ فيه مجموعه من الخرافات كلها منسوبة إلى الرب، لأن الرب هو الذي يحارب عن إسرائيل كما تقول التوراة في كل مناسبة ويضع لهم خطط الحرب ثم يتولى تنفيذها.
وخطة الحرب التي أعدها الرب وأمر بها يشوع تتلخص في أن يدور جميع رجال الحرب حول دائرة المدينة مرة واحدة يوميا على مدى ستة أيام، يتقدمهم تابوت العهد، وأمامه سبعة كهنة يحملون الأبواق، وفي اليوم السابع، كما قال الرب، يدورون دائرة المدينة سبع مرات والكهنة يضربون الأبواق.. ثم يهتف الشعب "هتافا عظيما فيسقط سور المدينة في مكانه".
وشرح يشوع لبني إسرائيل خطة الرب وطلب إليهم أن يعملوا بها.. فسار الموكب كما رسمه الرب، وداروا حول المدينة لسبعة أيام حسب الخطة الموضوعة، وهتف الشعب هتافا عظيما فسقط السور في مكانه وصعد الشعب وأخذوا المدينة!!(1/125)
وهنا تسرد التوراة تفاصيل المذبحة الرهيبة التي اقترفها بنو إسرائيل واستباحوا، كما تنص التوراة "كل ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف" وقد استثنيت الزانية راحاب التي آوت جواسيس يشوع فقد أخرجت المرأة وأبوها وأمها وكل مالها وكل عشائرها من المدينة، حتى "يتوِّج " بنو إسرائيل مذبحتهم الكبرى بالمأساة العظمى..
وتروي التوراة بكل هدوء، كما تروي أي حدث عادي أن بني إسرائيل "أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب.. وحلف يشوع في ذلك الوقت قائلا :"ملعون قدام الرب الرجل الذي يبني هذه المدينة أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها".
وبعد أريحا أتجه بنو إسرائيل إلى بقية البلاد.. ووصلوا إلى بلدة عاي، وأرسل إليها يشوع الجواسيس ليتعرفوا على أحوالها، كما فعلوا مع أريحا.. وعاد إليه الجواسيس بتقرير يهون من شأن أهل عاي.. فقد قالوا أن أهل عاي قليلون ويكفي لمحاربتهم ثلاثة آلاف رجل.
وكان هذا التهوين في التقرير لتبرير الهزيمة التي مني بها بنو إسرائيل، فتقول التوراة أن ثلاثة آلاف رجل صعدوا وهربوا أمام أهل عاي.. وطاردهم أهل عاي وضربوهم حتى المنحدر.. "فذاب قلب الشعب وصار مثل الماء فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء هو وشيوخ إسرائيل ووضعوا ترابا على رؤوسهم" كل ذلك كما تقول التوراة كلمة كلمة.
وقد أصيب يشوع بالفزع وبدأ يتذمر على الرب، فقال "آه يا سيدي الرب، لماذا عبرت هذا الشعب الأردن تعبيرا لكي تدفعنا إلى يد الأموررين ليبيدونا.. ماذا أقول بعدما حول إسرائيل قفاه أمام أعدائه".
وقد حاول أحبار اليهود أن يجدوا تفسيرا لهذه الهزيمة، ولكن حبل الكذب قصير كما يقول المثل العادي- فإن التفسير الذي أوردته التوراة قد كذبته التوراة بعد عبارات أخرى..(1/126)
كان هذا التفسير أن الرب قد غضب على بني إسرائيل وأنزل بهم الهزيمة لأن واحدا من بني إسرائيل اسمه "عخان" قد سرق من الغنيمة رداء نفيسا ومئتي شاقل فضة وطمرها في الأرض في وسط خيمته .. وإزاء ذلك فقد أخذ يشوع عخان هذا ومعه المسروقات "وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته.. فرجمه جميع بني إسرائيل بالحجارة وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة.. ورجع الرب عن حمو غضبه".
ولكن ما ينتهي الإصحاح السابع من هذا الكلام حتى يأتي الإصحاح الثامن ليكذب هذا التفسير.. بل إنه يجعل النهب حلالا مباحا، وبأمر من الرب..
ويقول الإصحاح الثامن بكل بساطة أن الرب قال ليشوع "لا تخف، خذ رجال الحرب وقم واصعد إلى عاي.. انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه، فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها، غير أن غنيمتها وبهائمها تنهبونها لأنفسكم".
وهكذا فإن الإصحاح السابع الذي قال أن بني إسرائيل لم يتمكنوا من الثبوت أمام أعدائهم وأداروا لهم قفاهم لأنهم أخذوا من الحرام بل سرقوا ووضعوا السرقة في أمتعتهم.. "ولا أعود معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم" هذا الرب نفسه طلب إبادة السارق حتى يعود الرب إلى بني إسرائيل، هو الذي أمر في الإصحاح التالي أن يقوم بنو إسرائيل بنهب أغنام عاي وبهائمها.. وأن يفعلوا بها ما فعلوه بأريحا وملكها..
ويمضي الإصحاح الثامن بعد ذلك ليروي لنا ماذا فعل بنو إسرائيل بعاي، فقد جعلوا لأهلها كمينا واستدرجوهم إلى خارج المدينة فدخلوها وأحرقوا المدينة بالنار وصعد يشوع ورجاله وضربوا رجال عاي.." حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت".. وضربوا أهل المدينة بحد السيف حتى فنوا جميعا وقتلوا جميع سكانها وبلغ عددهم من النساء والرجال اثني عشر ألفا، "جميع أهل عاي"، ونهب بنو إسرائيل البهائم والغنيمة "لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا.."(1/127)
وأما ملك عاي فتقول التوراة أنهم امسكوه حيا وعلقوه على الخشبة إلى وقت المساء ثم أنزلوا جثته وطرحوها عند مدخل باب المدينة.
والمواطن العربي، حين يقرأ تفاصيل هذه المذابح الرهيبة التي اقترفها اليهود في أريحا وعاي لا يملك إلا أن يتذكر المذابح التي اقترفها اليهود في فلسطين منذ أن حلوا بالبلاد، وخاصة ما ارتكبوه في عامي 1947 و 1948، ابتداء بمذبحة دير ياسين وكفر قاسم وقبيه، وسائر حوادث الإرهاب، فضلا عن أن اعتداءاتهم المتكررة على قرى الحدود في الأردن ولبنان وقصف مخيمات اللاجئين وأخذهم الثأر أضعافا مضاعفة، لا على شريعة السن بالسن، وإنما بشريعة جديدة وضعها زعماؤهم المعاصرون، ألفي رأس برأس..
وما أن انتهت أحداث الحرب الساخنة حتى انتقلت التوراة إلى الحرب الباردة فذكرت أن أهل البلاد قد أصيبوا بالجزع ولم يبق أمامهم إلا الاستسلام والصلح، فيذكر الإصحاح التاسع "أن سكان جبعون لما سمعوا ما علمه يشوع بأريحا وعاي فهم عملوا بغدر" وجاءوا إلى يشوع بثياب بالية متظاهرين بالفقر والمسكنة وأنهم وفدوا عليه من ديار بعيدة يطلبون الإبقاء على حياتهم وأن يقطع لهم عهدا بالأمان واستجاب لهم يشوع رأفة بهم..
وبعد العهد، تقول التوراة، اكتشف بنو إسرائيل أن أهل جبعون قد خدعوهم، وأنهم لم يأتوا إليهم من ديار بعيدة، وإنما هم "ساكنون في وسطهم". وكاد بنو إسرائيل أن يبطشوا بهم لولا أن تدخل يشوع، ولا يجد يشوع مناصا من أن يحكم عليهم "بالعبودية" فدعاهم وقال لهم :"لماذا خدعتمونا وأنتم ساكنون في وسطنا، فالآن ملعونون أنتم فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبو الحطب ومستقو الماء" وهكذا فقد قضى بنو إسرائيل، وبأمر الرب، أن يصبح أهل البلاد عبيدا لبني إسرائيل، يستقون له ماء ويقطعون لهم حطبا.(1/128)
ولقد رأينا تلخيص هذه الحادثة لأنها مع غيرها ستكون محوراً التكذيب مدى الوجود اليهودي في فلسطين في تلك الحقبة.. ولأن هذه الحادثة بالذات قد أثارت ملوك البلاد وحفزتهم على التصدي لليهود ومحاربتهم دفاعا عن وطنهم ووجودهم.. فالتوراة تذكر في الإصحاح التاسع أن "جميع الملوك الذين في عبر الأردن، في الجبل والسهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان:الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون اجتمعوا معا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد".
ويمضي الإصحاح العاشر في سرد أخبار هذه الحرب، من وجهة النظر اليهودية طبعا،ويذكر أن "أدوني صادق" ملك أورشليم، هو الذي أخذ زمام المبادرة حين سمع بما جرى لأهل أريحا وعاي وجبعون فدعا ملوك الأموريين الخمسة للحرب، فتصدوا أولا لأهل جبعون لأنهم صالحوا بني إسرائيل.
وتدخل بنو إسرائيل في الحرب.. وكذلك تدخل الله معهم لمحاربة الملوك الأموريين الخمسة "وأزعجهم أمام إسرائيل وضربهم ضربة عظيمة" وطاردهم من مدينة إلى مدنية "ورماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء فماتوا، والذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف"، كما تقول التوراة، لأن الرب هو الذي يحارب عن إسرائيل، دوما!!
ولم يكتف الرب بذلك ولكنه جعل الشمس تدوم على جعبون،والقمر على وادي أيلون.. "فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه .. ووقفت الشمس في كبد السماء نحو يوم كامل ولم يكن مثل ذلك اليوم لا قبله ولا بعده.. لأن الرب حارب عن إسرائيل"!!(1/129)
ويصف الإصحاح نهاية هذه المعركة بأن بني إسرائيل قد ضربوا أعداءهم ضربة عظيمة جدا حتى فنوا.. وأخذ يوشع "مقيدة" وضربها بحد السيف وكل نفس بها ولم يبق شاردا.. وحارب "لبنة" وضربها بحد السيف وكل نفس بها ولم يبق بها شاردا .. وحارب "لخيش" وضربها بحد السيف وكيف نفس بها ولم يبق شاردا.. وحارب ملك "جازر" ولم يبق منهم شاردا.. وكذلك بملك "عجلون" ومنها إلى "حبرون-الخليل" ولم يبق منها شاردا.. ومنها إلى "دبيرولم يبق منها شاردا.
وقد ذكرنا هذه المواقع واحدة واحدة، وما تم لشعوبها من إبادة.. لأننا سنرى، أن هذه الشعوب باقية على قيد الحياة، وأن أهلها فيها.. وأن هذه الحروب لا وجود له إلا في التوراة وعلى الورق، تماما كالتعبير الصيني المعاصر، الذي يتحدث عن "نمور الورق".
وبعد هذه التفاصيل، وبعد عبارة "لم يبق منهم شاردا" التي تكررت في كل الحروب، تلخص التوراة الموقف الحربي، بأن يشوع ضرب "كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها، ولم يبق منهم شاردا بل حرَّم كل نسمة كما أمر الرب وأخذ يشوع الملوك وأرضهم دفعة واحدة لأن الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل" ... أما الملوك الخمسة الأوائل الذين بدأوا المعركة فأولئك قد أمر يشوع بقتلهم ووضع بنو إسرائيل أرجلهم على أعناقهم وعلقوهم على الأخشاب حتى المساء ثم طرحوهم في المغارة ووضعوا حجارة على فمها.(1/130)
وبعد أن قتل يشوع الملوك وشعوبهم واستولى على أراضيهم ومدنهم، وإذا بالإصحاح الحادي عشر يبدأ الحرب من جديد مع الأموريين والكنعانيين واليبوسيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين ومع كل جيوشهم ومعهم "شعب غفير كالرمل الذي على شاطئ البحر، ومعهم الخيل ومركبات كثيرة جدا.. ولكن بني إسرائيل ضربوهم حتى لم يبق منهم شارو وأحرقوا مركباتهم بالنار ولم يبق نسمة ونهب بنو إسرائيل لأنفسهم كل المدن والبهائم التي فيها ... وأخذ يشوع كل تلك الأرض الجبل وكل الجنوب والسهل وأخذ جميع ملوكها وضربهم وقتلهم.. وأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى وأعطاها يشوع ملكا لإسرائيل واستراحت الأرض من الحرب" وهذا كله هو سرد التوراة.
وسنرى أن "استراحت الأرض من الحرب" هي عبارة كاذبة فإن الأسفار التالية ستبدأ الكلام عن الحرب من جديد..
ويأتي الإصحاح الثاني عشر من سفر يشوع ليسرد قائمة بأسماء الملوك الذين قتلوا في الحرب ومواقع ممالكهم وحدودها، مملكة مملكة، "وامتلك بنو إسرائيل أرضهم" ثم ينتهي الفصل من غير ملل، في سرد أسمائهم، ليقول في النهاية " جميع الملوك واحد وثلاثون" . وبعد أن تنتهي التوراة من قتل الملوك والواحد والثلاثين، وإبادة الشعوب حتى آخر نسمة، وإحراق مدنهم المحصنة، ونهب أموالهم ومواشيهم ... والاستيلاء على أراضيهم، بحدودها ومواقعها تنتقل التوراة إلى مهمة أخرى مقدسة هي مهمة تقسيم الأراضي وتسليمها لأصحابها الجدد، بطريقة القرعة كما يفعل أهل القرى حين يقسمون أراضيهم فيما بينهم..
ويخصص أحبار اليهود الإصحاح الثالث عشر لشرح هذه المهمة .. مبتدئاً القول: أن يشوع قد شاخ وتقدم في الأيام وأن أرضا كثيرة جدا قد بقيت "للامتلاك" .. وأن الرب سيطرد أهلها من أمام بني إسرائيل، وأمر أن يقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمر الرب، هذا الذي يسلب الناس أرضهم وديارهم وينهبها لبني إسرائيل!!(1/131)
وتولى الإصحاح الرابع عشر بيان حصة "كالب" أحد الجواسيس الصقور الذين أرسلهم موسى للتجسس على أرض كنعان وعاد ليدعو إسرائيل إلى دخول كنعان ومحاربة أهلها وإخراجهم من أراضيهم.. ولذلك فقد جاء كالب هذا إلى يشوع يطلب إليه أن يخصه بجبل حبرون، الخليل، لأن موسى كان حلف له "بأن الأرض التي تطأها رجلك تكون نصيبا لك ولأولادك، إلى الأبد.." فأعطاه يشوع أرض حبرون حتى يعاونه الرب على "طرد أهلها منها وهم العناقيون".. وقد اعترفت التوراة، على غير وعي منها أن حبرون كان اسمها سابقا "قرية أربع".. وأربع هو "الرجل الأعظم في العناقيين" ومعنى ذلك أن هذه القرية هي ملك واحد من العناقيين، قبل الإسرائيليين!!" ويختتم الإصحاح كلامه بالعبارة العجيبة.. "واستراحت الأرض من الحرب".. وسنرى في الفصول التالية أن الأرض قد أنهكتها حروب وحروب..
أما الإصحاح الخامس عشر فقد كرسه أحبار التوراة لبيان القرعة التي جرت بين أسباط إسرائيل حسب عشائرهم، مبتدئة بحصة سبط بني يهوذا، وقد وردت حدود هذه الأراضي بالتفصيل الكامل، مع ذكر أسماء الجبال والوديان والسهول والمدن التي تدخل في هذه القرعة.
والإصحاح السادس عشر ذكر القرعة التي خرجت لبني يوسف فسرد الحدود والمواقع بغاية التفصيل، وكذلك فعلت الإصحاحات التالية إلى الإصحاح الثاني والعشرين.. وكل منها يسرد المدن والقرى والمواقع التي خرجت لهذا السبط أو ذاك، ولم ينقص التوراة إلا أن تلحق بها خريطة ملونة تبين "ملكية" أسباط بني إسرائيل نتيجة للقسمة والقرعة على جميع الأراضي التي كانت قبل ذلك ملكا خالصا متوارثا لأقوام يعيشون في واحد وثلاثين مملكة على رأسها واحد وثلاثون ملكا حسب إحصاء التوراة نفسها.(1/132)
والقراءة السريعة لأسفار التوراة ربما توحي بأن بني إسرائيل قد انتصروا على أهل البلاد وطردوهم من أرضهم، وأن القسمة التي ذكرت تفاصيلها في الإصحاحات السالفة الذكر تعني أنه قد قُضي على أهل البلاد وأن الأرض قد دانت لبني إسرائيل وأصبحوا هم سادتها من غير معارض ولا منازع..
هذه الصورة التي تصفها التوراة غير صحيحة إطلاقا.. فرواية التوراة فيها كثير من الكذب والتزوير، والتوراة نفسها هي التي تكشف عن هذا الكذب والتزوير.. فإن أصحاب الكذب يقعون عادة في حبائل كذبهم دون أن يدروا.. وهذه هي شواهد التوراة.
أولا: يذكر الإصحاح الثالث عشر من سفر يشوع في صفحة كاملة "جميع الأراضي الكثيرة جدا الباقية للامتلاك".. يذكرها بمواقعها وحدودها وأسماء الممالك التي تتبعها، وقد وعد "الرب" بشأن هذه الأراضي الباقية "أن يطرد أصحابها منها من أمام بني إسرائيل"، كما أمر يشوع قائلا "إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمرتك".. وبهذا أصبح الأمر قاصرا على وعد بالطرد "وأمر" بقسمتها بالقرعة.. ولذلك فإن هذا الإصحاح يعترف في منتصفه بأن بني إسرائيل "لم يطردوا الجشوريين والمعكيين" لأنهم سكنوا "في إسرائيل إلى هذا اليوم" ومعنى ذلك أن إقامتهم امتدت قرابة ألف عام، إلى وقت كتابة التوراة، وهذا تم بعد ألف عام من هذه الأحداث التي نحن بصددها.
... ثانيا: يذكر الإصحاح نفسه، في جملة ما يذكر من حدود الأراضي، أسماء خمسة أمراء من بني مديان ويصفهم بأنهم "ساكني الأرض" وبذلك تعترف التوراة أن الأرض يسكنها أمراؤها.
... ثالثا: وفي صدد بيان الحدود، يذكر الإصحاح الخامس "وصعد التخم في وادي ابن هنوم إلى جانب اليبوسي من الجنوب هي أورشليم". ومعروف تاريخيا أن يبوس هو اسم آخر لأورشليم، ومعنى هذا التحديد أن أورشليم بقيت خارج حدود القسمة والقرعة.. وأنها بقيت بيد أهلها اليبوسيين العرب.(1/133)
... رابعا: وفي نهاية الإصحاح الخامس عشر من سفر يشوع نجد دليلا ناصعا حيث يذكر في القسمة والقرعة أسماء ست مدن وضياعها تخص بني يهوذا ثم تقول التوراة بالنص "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم". ومرة ثانية فإن ذلك معناه أن اليبوسيين قد سكنوا بلدهم أورشليم على مدى ألف عام أخرى..
... خامسا: وفي الإصحاح السادس عشر، حيث يحدد نصيب سبط بني إفرايم، تقول التوراة أنهم "لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسط إفرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيدا تحت الجزية".
... سادسا: والإصحاح السابع عشر يذكر أسماء المدن والقرى التي خرجت في قرعة بني منسي ثم يضيف قائلا: "ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض وكان لما تشدد بنو إسرائيل أنهم جعلوا الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردوهم طردا".
... سابعا: وفي الإصحاح السابع عشر اعتراف آخر حيث يقول أن بني يوسف شكوا إلى يشوع لأنه أعطاهم قرعة واحدة وحصة واحدة "لأن الجبل لا يكفينا ولجميع الكنعانيين الساكنين في الوادي" وطلبوا إليه أن يقطع لهم في أرض الفرزيين والرفائيين.
... ثامنا: وفي الإصحاح الثامن عشر نجد أن يشوع قد شكا من تكاسل بني إسرائيل، فقد قال لهم مثلا: "حتى متى أنتم متراخون عن الدخول لامتلاك الأرض التي أعطاكم الرب إله آبائكم".. وكان سبعة أسباط منهم لم يقسموا نصيبهم فيما بينهم.. وطلب يشوع إلى رؤسائهم أن يذهبوا ويسيروا في الأرض "ويكتبوها بحسب أنصبتهم.. فساروا وعبروا الأرض وكتبوها.. في سفر" وجاءوا بها إلى يشوع فعمل لهم القرعة "وقسم الأرض لبني إسرائيل حسب فرقهم" وواضح أن القسمة والقرعة والملكية كانت عبارة عن عملية كتابية، على الورق، ووصفت في سفر كما تعترف التوراة، وأصبح هذا السفر هو شهادة الملكية وانتهى.(1/134)
... تاسعا: وفي هذا الإصحاح نفسه تحديد لنصيب سبط بني بنيامين ورد فيه بشأن الحدود "وادي هنوم إلى جانب اليبوسيين من الجنوب" وهذا استثناء ثان لأراضي اليبوسيين ومنها أورشليم.
... عاشرا: يبدو مما ورد في التوراة أن القسمة والقرعة لم تتناول حيازة الأرض، وإنما كان يقصد منها "حيازة" أصحاب الأرض واستعبادهم، ففي الإصحاح الثالث والعشرين نقرأ أن يشوع، حينما شاخ وتقدم في الأيام، دعا بني إسرائيل وشيوخهم وقال لهم ".. أنتم قد رأيتم ماذا عمل الرب بجميع أولئك الشعوب من أجلكم لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم.. انظروا قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكا حسب أسباطكم.. والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم". ومعنى ذلك أن القسمة جرت على الورق لتشمل الأرض بشعوبها، مع وعد بأن الرب ينفيهم ويطردهم، بعد أن وصفهم (بالشعوب الباقين).
... حادي عشر: ويزداد هذا المعنى توكيدا موضوحاً حينما نرى يشوع يواصل حديثه إلى بني إسرائيل وينهاهم أن يدخلوا إلى "هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم".
... ثاني عشر: وفي مزيد أكثر من الوضوح والتوكيد لهذا المعنى يعيد يشوع القول لبني إسرائيل بلهجة التحذير يهددهم "ولكن إذا رجعتم ولصقتم ببقية هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم وصاهرتموهم ودخلتم إليهم وهم إليكم فاعلموا يقينا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم.." وهنا فإن يشوع يعترف بوجود أولئك الشعوب في أرضهم باقين مع بني إسرائيل، وينهاهم أن يتعاملوا معهم.. وإلا فإن الرب لا يطردهم..
... ثالث عشر: وفي الإصحاح الرابع والعشرين، يفرض يشوع على بني إسرائيل "أن يختاروا بين الآلهة الذين عبدهم آباؤكم أو آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون في أرضهم" وفي ذلك اعتراف صريح بأن الأموريين ما زالوا على قيد الحياة ولم يموتوا إلى آخر نسمة وبحد السيف كما زعمت الإصحاحات السابقة، وأن بني إسرائيل ساكنون في أرضهم – أرض الأموريين.(1/135)
... رابع عشر: وقد اعترف بنو إسرائيل بهذه الوقائع، فقد ورد في الإصحاح السالف الذكر أن الشعب، بني إسرائيل، استجابوا لنصائح يشوع والتزامهم بأوامره ونواهيه، وقالوا "حاشا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى.. لأن الرب هو الذي طرد من أمامنا جميع الشعوب والأموريين الساكنين الأرض". فيبدو جليا من هذا الاعتراف بأن الأموريين أصحاب الأرض الشرعيين قد بقوا ساكنين في الأرض.
... وهكذا نرى أن سفر يشوع قد ناقض بعضه بعضا، وأن نهايته تنفي بدايته، وأن الشعوب التي انهزمت أمام بني إسرائيل في الإصحاحات الأولى، نجدها في الإصحاحات الأخيرة، حية مقيمة في أرضها ومدنها.. وأن كل الانتصارات التي توهمها أحبار التوراة لم تكن إلا أضغاث أحلام.
وبعد فإنه ليس يجدي أن تقول التوراة أن يشوع قد جفف النهر، وأوقف الشمس والقمر، فإنه قد كذب وما انتصر..!!
ذلك ما يثبته سفر يشوع من أوله إلى آخره، وسنجد في السفر التالي، سفر القضاة الدليل تلو الدليل، على ذلك كله.
ولا بأس أن نسارع إلى هذا السفر لنجد في صدره عبارة دامغة تقول "وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين من منا يصعد إلى الكنعانيين لمحاربتهم".
ذلك ما يقوله سفر القضاة، وعهدها في سفر يشوع أن الكنعانيين قد أبيدوا منذ زمن طويل.. وأصبحت عظامهم رميما وديارهم قفرا يبابا وعالما خرابا.. فإذا سفر القضاة، كما نرى، يروي حروب الفلسطينيين، ومقاومتهم لبني إسرائيل، وانهزام بني إسرائيل أمام الفلسطينيين المرة بعد المرة!!
وعلى رئيس وزراء العدو، بيجن، أن يقرأ التوراة من جديد.. وسنفتح التوراة أمامه من جديد!!
الفصل الثامن
الخلاص هو من اليهود
والحل هو الجلاء
الخلاص هو من اليهود..
والحل هو الجلاء(1/136)
... قلت في خاتمة الفصل الرابع أن المتعامل مع المجتمع اليهودي لا بد له أولا أن يعرف توراة اليهود معرفة شاملة كاملة فهو بذلك يعرف جيدا الأخلاق التي جبل عليها اليهود، وأنه من غير هذه المعرفة فإن من يتعامل مع اليهود سيكون في هذه الدنيا أعمى، وفي الآخرة أضل سبيلا.
... وقد يبدو هذا الحكم في غاية القسوة والجفوة، ولذلك فقد أردنا هذه الوقفة القصيرة أمام يشوع الذي أشغل الفصل السابق بكامله، لنؤكد الحقيقة الصارخة أن العقيدة اليهودية قائمة على العداء والبغضاء للشعوب غير اليهودية.. وأنه ما بقيت التوراة هي الينبوع الفكري للمجتمع اليهودي من المهد إلى اللحد، فإنه لا أمل في التعايش مع الجماعات اليهودية بسلام ووئام لأن العقيدة اليهودية كما غرستها التوراة في ضمير الأجيال اليهودية تقوم على العدوان والطغيان، وتأبى هي بنفسها أن تأتلف مع النظم الأخرى أو تتعايش مع العقائديات المتباينة معها.
... هكذا كان سلوك الشعب اليهودي في كل أجياله منذ كانت التوراة إلى يومنا هذا.. وبين أيدينا دراسة علمية تؤيد هذا الرأي بصورة قاطعة لا يرقى إليها الشك.
... الدراسة التي نعنيها، قام بها عالم أمريكي مسيحي، معروف بحياده، وهو من الذين قرأوا التوراة شأن كل مسيحي في عهد الدراسة.. وهذا العالم الأمريكي هو الأستاذ تامارين.
... وقد خطر في بال الأستاذ تامارين، أن يدرس التكوين النفسي للجيل اليهودي الناشئ في فلسطين، ليتعرف على مشاعره إزاء العرب عامة، وعرب فلسطين خاصة وهم أصحاب البلاد الأصليون.
... وقد اختار الأستاذ تامارين سفر يشوع محورا لدراسته، لأن مناهج وزارة التعليم الإسرائيلية تركز على تعليم التوراة، وبصورة خاصة سفر يشوع بالذات..
... وثمة سبب آخر دفع الأستاذ تامارين أن يختار سفر يشوع، ذلك أن هذا السفر، يتميز عن أسفار التوراة كلها، بأنه يسجل خطط الحرب اليهودية وتقاليدها وكيفية التعامل مع الشعوب (الساكنة) في الأرض، حسب تعبير التوراة...(1/137)
... وقد وضع العالم الأمريكي الأستاذ تامارين مجموعة من الأسئلة على الطلاب اليهود من مختلف المدارس لاختبار تكوينهم الفكري ومعرفة الخلفية العقائدية التي صاغت عقولهم.. وتحقيقا لهذه التجربة العلمية الرائدة فقد أعد الأستاذ الأمريكي استمارة موحدة ضمنها الأسئلة التي يراد الإجابة عليها.. وكانت الأسئلة منصبة على ما ورد في سفر يشوع من أعمال القتل والنهب والتدمير والإحراق التي قام بها الإسرائيليون حين اجتاحوا فلسطين تحت قيادة يشوع بن نون.
... وقد وضع الأستاذ تامارين المقتبس التالي من سفر يشوع وذلك فيما يختص باحتلال أريحا، تمهيدا للأسئلة المطلوبة.
... وجاء في سفر يشوع ما يلي: "فهتف الشعب – بنو إسرائيل – وضربوا الأبواق، وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة وحرموا (أي استباحوا) كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف" (سفر يشوع الإصحاح 6/20).
... "وأخذ يشوع مقيدة في ذلك اليوم (بجوار الرملة) وضربها بحد السيف وحرم (استباح) ملكها هو وكل نفس بها، ولم يبق شاردا. وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا، ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى لبنة (بجوار مدينة الخليل) فدفعها الرب أيضا بيد إسرائيل مع ملكها فضربها بحد السيف وكل نفس بها. لم يبق شاردا، وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا" (يشوع 10/28-30).
... وبعد هذين الاقتباسين من سفر يشوع وضع الأستاذ تامارين للطلبة اليهود السؤالين الآتيين:-
... أولا: هل تعتقد أن يشوع بن نون والإسرائيليين قد تصرفوا صحيحا أو غير صحيح؟ اشرح سبب الرأي الذي تبديه.
... ثانيا: لنفترض أن الجيش الإسرائيلي قد احتل خلال الحرب قرية عربية، فهل هو عمل جيد أو سيئ أن يتصرف على هذا النحو مع سكان هذه القرية كما تصرف يشوع بن نون مع شعب أريحا؟ واشرح السبب.(1/138)
... وقد تم توزيع هذه الأسئلة، باقتباساتها الآنفة الذكر، في مدارس تل أبيب، ومستعمرة يهودية بالقرب من الرملة وفي مدينة شارون اليهودية، وفي مستعمرة معوتشد، وغيرها من المدارس اليهودية.
... وكشفت الأجوبة عن الروح العدائية العمياء التي غرستها التوراة في عقول الجيل اليهودي الناشئ فقد قال أحد الأجوبة ما يلي:-
... "كان هدف الحرب (بقيادة يشوع) هو الاستيلاء على البلاد من أجل الإسرائيليين، ولذلك فقد تصرف الإسرائيليون تصرفا حسنا لاحتلالهم المدن وقتل سكانها وليس من المرغوب فيه أن يكون في إسرائيل عنصر غريب أن الناس من مختلف الأديان يمكن أن يؤثروا تأثيرا لا حاجة إليه على الإسرائيليين".
... وأجابت فتاة من مستعمرة معوتشد "لقد تصرف يشوع بن نون تصرفا حسنا بقتله جميع الناس في أريحا لأنه كان من الضروري احتلال البلاد كلها ولم يكن لديه وقت لإضاعته على الأسرى" ويقول تامارين، تلخيصا لأجوبة الطلبة اليهود، أن الأجوبة التي من هذا النوع تشكل ما بين 66 إلى 95 في الماية.
... وكان هناك سؤال بصيغة أخرى يقول: "وهل يمكن في عصرنا تصفية جميع سكان قرية عربية"... ويقول الأستاذ تامارين في تلخيصه للأجوبة أن ثلاثين في الماية من التلاميذ أجابوا على هذا السؤال بشكل قطعي "نعم". وهذه نسبة عالية جدا على سؤال يتسم بهذه الشناعة والبشاعة.
... وقد أورد الأستاذ تامارين في تلخيصاته، نبذا مما كتبه الطلبة اليهود.. وكان مما قاله أحدهم "أعتقد أن كل شيء قد جرى بشكل صحيح.. إذ أننا نريد قهر أعدائنا وتوسيع حدودنا، ونحن أيضا قتلنا العرب كما فعل يشوع والإسرائيليون" (طالب من الصف السابع".
... وكتب تلميذ يهودي آخر في الصف الثامن "في رأيي ينبغي على جيشنا أن يتصرف في القرية العربية كما فعل يشوع والإسرائيليون لأن العرب هم أعداؤنا" (1) .
__________
(1) New Outlook, Tel Aviv – Jan. 1960 P. 49-58.(1/139)
... وبعد فإن هذه الدراسة العلمية تقودنا إلى النتيجة التي لا مناص من الوصول إليها، وهي أن الشعب اليهودي يولد، وينمو، ويعيش، ويموت، بين دفتي التوراة وتعاليمها.. وقد تكوَّن بكيانها – من غير استعداد للتغيير أو التطوير – :يهودي ابن توراة، بكل بساطة.
... وعلى سائر البشر أن يتعاملوا معه على هذا الأساس، دون أن يكون هو مستعدا لأن يتعامل معهم على غير هذا الأساس..
... وتلك هي مشكلة إنسانية، ستظل إذا ما بقيت، تكلف الإنسانية واليهود صنوف المآسي والمتاعب والكوارث..
... ويبقى على المواطن العربي، كإنسان، وعلى الأمة العربية كجماعة أن تدرك هذه الحقيقة إدراكا عميقا وحازما بأن لا مجال للتعايش أو التعامل مع المجتمع اليهودي. وسيرى من يقرأ الأناجيل أن السيد المسيح
قد أدرك هذه الحقيقة العلمية فأعلن عبارته الشهيرة "إن الخلاص هو من اليهود".. (الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا).
... ثم جاء بعده الرسول محمد بن عبد الله، فدخل في تجارب مريرة مع اليهود في المدينة المنورة ولم ير حلا لما وقع بينه وبينهم إلا إجلاءهم عن الجزيرة العربية..
... ذلك أن اليهود بلاء.. ولا حلَّ إلا الجلاء.. وشهد بذالك شاهدان عظيمان: كان الشاهد الأول هو رسول المحبة والسلام السيد المسيح. وكان الشاهد الثاني خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله.
الفصل التاسع
قضاة إسرائيل المجرمون..
من ابن زانية.. إلى قاطع طريق..
إلى قاتل الأخوة السبعين
قضاة إسرائيل المجرمون
من ابن زانية.. إلى قاطع طريق
إلى قاتل الأخوة السبعين
... سفر يكذب سفرا.. هذا هو شأن التوراة في أسفارها فقد قرأنا في سفر يشوع أخبارا ضخمة "عن حروب إسرائيل وانتصاراتها في فلسطين، واحتلالها المدن والسفوح والقرى، والسهل والجبل والساحل"، وكانت التفاصيل مدعاة للذهول والعجب، وكأنها أشبه ما تكون بالحروب النازية في عهد هتلر حينما اجتاح أوروبا بحرب خاطفة في غضون بضعة أشهر في الأربعينات من هذا القرن.(1/140)
... وكذلك كانت حروب إسرائيل، فيما سردته التوراة خاطفة صاعقة، جميع الشعوب "ضربوا بحد السيف ولم يبق منهم شارد ولا منفلت"، والملوك الواحد والثلاثون قضي عليهم جميعا ودمرت مدنهم وتم احتلالها من أريحا، إلى عاي، إلى مقيدة، إلى لبنة، إلى لخيش إلى جازر، إلى عجلون، إلى حبرون، إلى.. آخر القائمة.
... هذا هو تلخيص لسفر يشوع في كلمات قليلات.. ويأتي بعده سفر آخر اسمه سفر القضاة لا ليكذب بصورة قاطعة جميع ما ورد في سفر يشوع، فحسب، ولكن ليثبت أن أهل البلاد لا يزالون على قيد الحياة، وأن مدنهم باقية على حالها، وأن أهلها يسكنون فيها، ويمتلكون أرضهم.. بل إنهم يقاومون ويحاربون، وينتصرون على بني إسرائيل، ويهزمونهم المرة بعد المرة.. بكل شجاعة وبسالة.. وكل ذلك وارد في سفر القضاة..
... وقد سمي سفر القضاة، لأنه بعد وفاة يشوع، تولى أمور بني إسرائيل شيوخهم وسموا قضاة لأنهم كانوا يفصلون المنازعات بينهم، ويلجأون إليهم لتخليصهم من أيدي أهل البلاد: من الفلسطينيين.. وقد أوردت التوراة ذكرهم عشرات المرات.
... وكان عدد هؤلاء القضاة أربعة عشر، من أشهرهم شمشون الجبار، وصموئيل المدفون في "النبي صموئيل" إحدى القرى العربية في شمال بيت المقدس..
... وسفر القضاة، في مجمله، يسجل مخازي بني إسرائيل، وانحرافهم عن جادة الحق، وعكوفهم على عبادة الأوثان واستنجادهم في كل مرة بالقضاة ليخلصوهم من الفلسطينيين.
... وعبارة "يخلصونهم من الفلسطينيين" وردت عدة مرات في سفر القضاة على لسان بني إسرائيل حين يفزعون إلى قضاتهم يطلبون منهم أن يحاربوا عنهم ويدفعوا عنهم هجمات الفلسطينيين.
... ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام سفر القضاة لنرى الهزائم التي حلت ببني إسرائيل في عهد القضاة، والمعارك البطولية التي خاضها الفلسطينيون دفاعا عن أرضهم.(1/141)
... وأول ما يطالعنا الإصحاح الأول من سفر القضاة،أن بني إسرائيل قد صعدوا،بأمر الرب، ليحاربوا الكنعانيين فضربوا منهم عشرة آلاف رجل، وأمسكوا بمليكهم "ادوني" وأخذوه إلى أورشليم ومات هناك. ثم حارب بنو إسرائيل "أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار.. وحاربوا الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل، وساروا على الكنعانيين الساكنين في حبرون.. ومن هناك على سكان دبير.. ثم ضربوا الكنعانيين سكان صفاة... وأخذوا غزة وتخومها وأشقلون وتخومها وعقرون وتخومها".
... والذي يقرأ سفر يشوع والمواقع الحربية التي خاضها بنو إسرائيل تحت قيادته يرى أن هذه البلاد قد تم احتلالها وتدميرها في عهد يشوع وأنها قد أصبحت حجرا على حجر. وكذلك فإن سفر القضاة يكذب سفر يشوع في جانب آخر له أهميته بالنسبة لأهل البلاد، "سكان الأرض" حسب تعبير التوراة.
... فها نحن نقرأ في سفر القضاة أن "بني القيني" وهم أصهار موسى، عرب مدين، صعدوا من مدينة النخل "وسكنوا مع بنى إسرائيل". وأن بني إسرائيل لم يطردوا "سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد" وأنهم لم يقدروا عليهم.. وأن بني إسرائيل لم تكن لديهم هذه الأسلحة المتقدمة المتطورة: مركبات الحديد.
... وما هو أبلغ من ذلك، بالنسبة إلى بيت المقدس، يقول الإصحاح الأول أن بني إسرائيل "لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم وسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم". ولنذكر دائما أن عبارة "هذا اليوم" كلما وردت في التوراة فإنها تعني ألف عام بعد الحدث.. لأن التوراة كتبت بعد ألف عام من هذه الأحداث.. كما سنرى في فصل لاحق.(1/142)
... ثم تأتي بعد ذلك عبارة عامة تفيد أن أهل البلاد قد بقوا فيها وعاشوا في مدنهم وقراهم وأرضهم.. فتقول العبارة "ولم يطرد بنو إسرائيل أهل بيت شان (بيسان) وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان بلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها، ولا سكان جازر ولا سكان قطرون، ولا سكان نهلول، ولا سكان عكو ولا سكان صيدون وأحلب واكزيب وحلبة وافيق ورحوب ولا سكان بيت شمس ولا سكان بيت عثاة. وسكن الكنعانيون في وسط هذه البلاد.. وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا" وعلى ذلك فإن أقصى ما استطاع بنو إسرائيل أن يحققوه في البلاد أنهم فرضوا الجزية على أهلها، وهؤلاء لم يغادروها وامتدت إقامتهم على هذا الحال قرونا وقرونا..
... وهذه المواقع كلها هي أسماء مدن وقرى في فلسطين وما حولها من بلاد الشام.. وبصددها كلها تعترف التوراة أن الكنعانيين "الفلسطينيين" كانوا يسكنون فيها.. ويتساءل المرء بعد ذلك وهل بقيت بقعة من أرض كنعان، لم تكن مسكونة من قبل الفلسطينيين.
... وبعد هذا التعميم، يأتي سفر القضاة ليعطي صورة الجانب الآخر.. الجانب الإسرائيلي. وهنا يقول الإصحاح الثالث في سفر القضاة "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين" وهؤلاء الأقوام هم الذين قال سفر يشوع أن بني إسرائيل قد أبادوهم إلى آخر نسمة وبحد السيف. وها نحن نراهم يبعثون أحياء في سفر القضاة، ويسكن بنو إسرائيل في وسطهم.
... وتأتي التوراة بعد ذلك لتسرد سيرة القضاة واحدا بعد واحد، ثم تفصل حرب الخلاص التي قام بها هذا القاضي أو ذاك ليخلص بني إسرائيل من سيطرة أهل البلاد.(1/143)
... وتبدأ التوراة بسيرة القاضي الأول ابن قناز فتعترف أن ملك آرام النهرين قد استولى على بني إسرائيل، وأخضعهم وأذلهم ثماني سنين.. وأن بني إسرائيل قد صرخوا إلى الرب فأقام لهم من يحارب لهم ويخلصهم – وهو ابن قناز – "واستراحت الأرض أربعين سنة، ومات ابن قناز".
... وتأتي سيرة القاضي الثاني ابن جيرا وتعترف التوراة بأن ملك مؤآب ومعه بنو عمون والعمالقة، "ضربوا بني إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل" وأخضعوهم لثماني عشرة سنة.. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام لهم ابن جيرا مخلصا لهم فحارب لهم وضرب الموآبيين "ولم ينجُ أحد، وذُل الموآبيون تحت يد إسرائيل واستراحت الأرض ثمانين سنة".. ونسبت إليه التوراة أسطورة تافهة تزعم أنه ضرب من الموآبيين عشرة آلاف رجل ولم ينجُ أحد.
... وجاء بعده القاضي الثالث، كما تقول التوراة، بن عناة، "فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر وهو أيضا خلص إسرائيل" ولم تذكر التوراة تفاصيل الحرب.
... وتفاجئنا التوراة بعد ذلك بقاضية امرأة هي النبية دبورة، وهنا يسرد الإصحاح الرابع أن "بابين ملك كنعان ورئيس جيشه سيسرا" استطاعا أن يخضعا بني إسرائيل، "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، لأن ملك كنعان ضايق بني إسرائيل بشدة مدة عشرين سنة، وكان له تسع مائة مركبة من حديد".. وفي قصة طويلة فقد انتهى الأمر بأن "يد بني إسرائيل أخذت تتزايد وتقوى على ملك كنعان حتى قوضوا ملك كنعان" وقد أورد الإصحاح الخامس ترنيمة دبورة وهي تتغنى بالخلاص الذي حققته لبني إسرائيل.. الخلاص من سيطرة الكنعانيين!! وانتهى الإصحاح بالقول "واستراحت الأرض أربعين سنة" قالت التوراة هذه العبارة وكأنها تتنفس الصعداء.
... ويسجل لنا الإصحاح السادس أن "مديان قد اشتدت يده على بني إسرائيل فأخضعوهم على مدى سبع سنين. وأن بني إسرائيل قد بنوا لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون" حتى ينجوا بجلودهم..(1/144)
... ويتجلى من كلام التوراة أن بني إسرائيل قد منوا بواحدة من أكبر الهزائم التي لحقت بهم في حروبهم مع أهل البلاد.. ففي عبارة حزينة تصرخ بالألم والشكوى يقول الإصحاح المذكور "وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم ويتلفون غلة الأرض.. إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لجمالهم عدد. ودخلوا الأرض لكي يخربوها.. فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين" وأين هذه الوقائع مما كتبه سفر يشوع عن الأمم التي أبيدت، والمدن التي أحرقت، والمواشي التي نهبت، على يد بني إسرائيل، ها نحن نرى بني إسرائيل في سفر القضاة وقد ذلوا وهلكوا هم ومواشيهم وزروعهم.
... وكالعادة تقول التوراة، وصرخ بنو إسرائيل فأقام لهم جدعون قاضيا وقائدا فكان هو القاضي الخامس "وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق كالجراد من الكثرة.. وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة".
... وفي قصة طويلة، مليئة بالخزعبلات والخرافات تقول التوراة أن جدعون انتصر على المديانيين وأهلك منهم "مائة وعشرين ألف رجل مخترطي السيف وقتلوا ملوكهم"، ثم تذكر التوراة بعد ذلك بفخر واعتزاز أنه "زنى كل إسرائيل هناك (!!) وذل مديان أمام بني إسرائيل ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم واستراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون". ولم تجد التوراة ما تفاخر به في ختام هذه الحرب إلا أن تقول أن بني إسرائيل كلهم قد زنوا هناك!!(1/145)
... وبعد جدعون تولى ابنه أبيمالك منصب القضاء، فكان هذا القاضي كما وردت سيرته في التوراة، من كبار المجرمين، فقد بدأ حياته القضائية بأن "استأجر رجالا بطالين طائشين فسعوا وراءه. ثم جاء إلى بيت أبيه وقتل إخوته سبعين رجلا على حجر واحد"، ولم يبق من إخوته إلا الأصغر فقد كان مختبئا.. واجتمع بنو إسرائيل كما يقول الإصحاح التاسع من سفر القضاة فذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكا.. وترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين.. وحدثت فتنة في البلاد بين أنصار أبيمالك وخصومه، وانتهى الأمر بقتل هذا القاضي، قاتل الأخوة السبعين.. وذلك كله هو كلام التوراة..
... وبعد هذا القاضي المجرم قام لإسرائيل قاض آخر هو ابن دودو وقضى لإسرائيل ثلاثا وعشرين سنة، ولم تذكر التوراة له خبرا.. وجاء بعده الجلعاوي وقضى لإسرائيل اثنين وعشرين سنة، ولم تذكر له التوراة خبرا إلا أنه "كان له ثلاثون ولدا يركبون على ثلاثين جحشا ولهم ثلاثون مدينة".
... وفي هذه الحقبة الزمنية تطلع التوراة على القارئ بسيرة قاض آخر اسمه يفتاح، فقد اختاره بنو إسرائيل، كعادتهم، ليخلصهم من أعدائهم الفلسطينيين ذلك أن بني عمون، كما تقول التوراة قد تغلبوا على بني إسرائيل "فحطموا ورضضوا بني إسرائيل ثماني عشرة سنة" كما يقول الإصحاح العاشر، وتضيف التوراة "أن بني عمون عبروا الأردن ليحاربوا بني إسرائيل".
... ثم تقول التوراة أن يفتاح نذر للرب إذا نصره على بني عمون "أن يذبح أول من يخرج من بيته للقائه حين يعود بالسلامة" قربانا للرب.
... وعاد يفتاح إلى بيته "وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص" فرحا بانتصاره، وكانت وحيدته فمزق ثيابه وذكر لها نذره للرب وقالت له أوف بنذرك ولكنها استأذنت والدها فذهبت لشهرين هي وصاحباتها إلى الجبال لتبكي عذرتها ثم عادت.(1/146)
... وهكذا وفْى يفتاح بنذره وأحرق ابنته قربانا للرب. ولم يكن غريبا على هذا القاضي أن يقوم بهذا العمل الوحشي، لأنه "ابن امرأة زانية" كما تقول التوراة في صدر الإصحاح الحادي عشر من سفر القضاة..
... وبعد يفتاح قضى لإسرائيل ثلاثة لم يكن لهم شأن ولم تذكر التوراة لهم خبرا إلا الثالث وهو عبدون الفرعتوني فقد كان له "أربعون ابنا وثلاثون حفيدا يركبون على سبعين جحشا، وقضى لإسرائيل ثماني سنين" وهذا هو ما يورده الإصحاح الثاني عشر.
... وفي عهد هؤلاء القضاة المغمورين، استولى الفلسطينيون على بني إسرائيل وجعلوهم تحت سلطانهم، وتقول التوراة في بداية الإصحاح الثالث عشر أن "بني إسرائيل عادوا يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".. ووراء هذا الكلام الموجز الذي تذكره التوراة باستحياء يبدو واضحا أن انتصارات إسرائيل التي هللت لها التوراة في سفر يشوع لم تكن إلا مجرد أكاذيب وأباطيل.
... ثم تتعالى التوراة، بعد أن فرغت من مسيرة القضاة السابقين، فتبرز للقارئ قصة أشقى الأشقياء في حياة بني إسرائيل، وهي قصة شمشون الجبار التي جعلت منها الدعاية الصهيونية قصصا بطولية، وأفلاما سينمائية، وأناشيد عالمية كأنما الإنسانية في تاريخها الطويل لم تلد بطلا عملاقا إلا شمشون الجبار.. ولو أننا قرأنا التوراة بصبر وإمعان لوضح لنا أن شمشون الجبار لم يكن إلا قاطع طريق وانتهى..
... وشمشون الجبار كما تقول التوراة، هو ابن امرأة عاقر، جاءها ملاك الرب وبشرها بمولده وطلب إليها أن "لا تعلو موسى رأسه لأن الصبي يكون نذرا للرب من البطن وهو يخلص بني إسرائيل من الفلسطينيين.. وولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون وكبر الصبي وباركه الرب".(1/147)
... وتقول التوراة بعد ذلك أن "شمشون رأى امرأة من بنات الفلسطينيين وطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها له امرأة.. وقال له أبوه وأمه أليس في بنات أخوتك وفي كل شعبي امرأة حتى أنك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين (غير المختونين)".
... ولكن شمشون، كما تقول التوراة، قال لأبيه خذ لي الفتاة الفلسطينية "لأنها حسنت في عيني"، وتضيف التوراة قولها: "ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين (!!) وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل".
... ومعنى هذا الكلام بكل بساطة أن "الرب" يدبر مكيدة للفلسطينيين، ولا بد له أن يبحث عن "علة" ويجب أن تكون هذه البنت الفلسطينية هي العلة.. للتحرش بالفلسطينيين والاعتداء عليهم.
... وتسرد التوراة بعد ذلك الأسطورة المضحكة.. كيف أن شمشون شق الأسد بيديه كما يشق الجدي.. وكيف امتلأ (جوف الأسد) بالعسل إلى آخر الأسطورة التي لا تستحق التلخيص لتفاهتها، ثم تنتقل التوراة إلى الخلاف الذي جرى بينه وبين حميه وكيف "صارت امرأة شمشون لصاحبه الذي كان يصاحبه".
... وكان من نتيجة هذا الخلاف بينه وبين زوجته الفلسطينية أن قال شمشون لوالدها.. "إني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شرا". وكان هذا التبرير التوراتي للعدوان على الفلسطينيين.
... وكان الشر الذي عمله شمشون هو ما يفعله قطاع الطرق العريقون في الإجرام.. إذ تقول التوراة في وصف جريمته البشعة "ذهب شمشون وأمسك ثلاث مائة ابن آوى وأخذ مشاعل وجعل ذنبا إلى ذنب ووضع مشعلا بين كل ذنبين في الوسط ثم أضرم المشاعل نارا وأطلقها بين زروع الفلسطينيين فأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون.. فقال الفلسطينيون من فعل هذا.. فقالوا شمشون صهر الفلسطيني لأنه أخذ امرأته وأعطاها لصاحبه..".(1/148)
... وخاف بنو إسرائيل أن يثأر الفلسطينيون فقبضوا على شمشون وأوثقوه وأسلموه إلى الفلسطينيين واستطاع شمشون، فيما تروي التوراة في الإصحاح الخامس عشر أن "يحل وثاقه ووجد لحي حمار طريا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل من الفلسطينيين".
... وتمضي التوراة في سرد أخبار هذا السفاح فيقول الإصحاح السادس عشر، أن شمشون "ذهب إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها.. واضطجع شمشون إلى نصف الليل".. ثم خرج.. "وكان بعد ذلك أن أحب امرأة اسمها دليلة". وتأتي بعد ذلك حكاية دليلة وكيف أنها احتالت عليه وعرفت أن سر قوته هو في ضفائر شعره.. وكيف أن "أقطاب الفلسطينيين عرفوا سر قوته وقبضوا عليه وقلعوا عينيه وأودعوه في السجن".. وكيف انتهى الأمر بالنهاية، بأن شعر رأسه بدأ ينبت وعادت إليه قوته.. وقام شمشون يلعب لأهل غزة، وكان على سطح البيت "ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون" وانتهى الأمر بأن "قبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين في البيت وانحنى بقوة على العمودين فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب وهو يقول.. لتمت نفسي مع الفلسطينيين. ومات شمشون وحمله إخوته ودفنوه بعد أن كان قاضيا لإسرائيل عشرين سنة"..
... وهكذا فإن قصة شمشون الجبار، لم يكن فيها كما سردتها التوراة، أي معنى من معنى الفخار. إنها سيرة قاطع طريق من الأشرار، أحرق زروع الفلسطينيين وكرومهم بسبب خلاف بينه وبين حميه على امرأته الفلسطينية. وسفر القضاة هذا لم يقتصر على ذكر الآثام والجرائم التي اقترفها القضاة، ولكن عكف على سرد أخبار منافية للأخلاق، تتصل بأفراد عاديين لا شأن لهم في الحياة العامة مما يثبت أن المجتمع اليهودي كله كان غارقا في الموبقات.. والتوراة تذكر لنا إحدى هذه الموبقات..(1/149)
... تقول التوراة في الإصحاح التاسع عشر من سفر القضاة أن رجلا إسرائيليا "اتخذ له امرأة سرية من بيت لحم.. فزنت عليه سريته وذهبت من عنده إلى بيت أبيها في بيت لحم وكانت هناك أربعة أشهر.. وذهب رجلها وراءها ليطيب قلبها ويردها ومعه غلامه وحماران فأدخلته بيت أبيها، وفرح أبوها بلقائه". ومكث الزوج عنده أربعة أيام.. وفي نهاية الضيافة خرج الزوج مع زوجته ليعود بها إلى بيته..
... وهنا تقول التوراة بالعبارة والكلمة "قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم، ومعه حماران مشدودان وسريته معه.. وفيما هم عند يبوس والنهار قد طلع قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا".. ولكن قصة الزانية لم تقف عند هذه النهاية، ذلك أن التوراة قد أعدت لها نهاية محزنة تجعلها زانية بالقهر والغلبة، فالتوراة تقول فيما بعد أن رجالا أشرارا من بني إسرائيل قد تابعوا هذه المرأة التعيسة وزوجها ولاحظوا أنهما دخلا بيت رجل عجوز، فما كان منهم إلا "أن أحاطوا بالبيت قارعين الباب.. فخرج إليهم صاحب البيت" وطلبوا إليه أن يخرج الرجل إليهم (للفعل القبيح) فقال لهم الرجل صاحب البيت "يا أخوتي لا تفعلوا شرا.. لا تفعلوا هذه الفاحشة بعد ما دخل هذا الرجل بيتي.. هو ذا ابنتي العذراء وزوجته دعوني أخرجهما فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم، وأما هذا الرجل فلا تفعلوا به هذا الأمر القبيح.. فلم يرد الرجال أن يسمعوا له.. فأمسك الرجل زوجته وأخرجها إليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح وعند طلوع الفجر أطلقوها" ولكن رب ضارة نافعة، فإن حادثة الزنا هذه قد قادت القصة إلى حقيقة تاريخية هامة، ففي سياق الكلام عن أورشليم اعترفت التوراة بحقيقتين تاريخيتين أساسيتين هما:(1/150)
... أولا: أن يبوس، التي هي أورشليم، هي مدينة اليبوسيين، وهؤلاء هم العرب القدامى الذين استوطنوا بيت المقدس وكانوا أول من بناها وأسسها.
... ثانيا: أن بيت المقدس، إلى العهد الذي كتبت فيه التوراة، وهو قبيل السيد المسيح بزمن قصير كانت بلدا غريباً على بني إسرائيل، ولم تكن مدينة إسرائيلية، ولم يكن فيها إسرائيلي واحد.
... ذلك ما قالته التوراة في سفر القضاة في الإصحاح التاسع عشر وذلك ما يكذب سفر القضاة في ما قاله في الإصحاح الأول من أن بني إسرائيل قد حاربوا بيت المقدس، وما قاله سفر يشوع من أنهم قتلوا ملكها وتغلبوا على أهلها.. ويبقى بعد ذلك أن نقول ما تقوله التوراة من أن يبوس ليست مدينة إسرائيلية ولم يكن فيها أحد من بني إسرائيل إلى عهد المسيح عليه السلام.
... أجل يبقى علينا نحن العرب المسلمين أن نقول ذلك بملء أفواهنا ونؤمن به..
... أجل يبقى علينا نحن أن نقول ذلك، ونؤمن به، ونعمل له.. لا أن نسلم بيت المقدس إلى اليهود غرباء اليوم، الذين كانوا كذلك غرباء قبل عهد السيد المسيح، كما تعترف التوراة نفسها.
... وبعد فإن سفر القضاة كما رأينا، هو سيرة قضاة أشرار لبني إسرائيل، من قاطع طريق إلى ابن زانية، إلى قاتل الأخوة السبعين.
... أولئك هم بنو إسرائيل وأولئك هم قضاتهم، وإذا كان بيجن في خطابه إلى الشعب المصري، يتبجح بسيرة.. أسلافه الأقدمين.. فهذه هي سيرتهم، من توراتهم.. ومن فمك أدينك يا إسرائيل.
الفصل العاشر
ملك الدولة الإسرائيلية..لاجئ في أرض الفلسطينيين..
والإسرائيليون يهربون من مدنهم ويسكنها الفلسطينيون..
ملك الدولة الإسرائيلية..لاجئ في أرض الفلسطينيين
والإسرائيليون يهربون من مدنهم ويسكنها الفلسطينيون
... في خطاب بيجن الذي وجهه إلى الشعب المصري، أكذوبة كبرى رددها رئيس وزراء العدو، وأكدها مرة بعد مرة، وبصيغ مختلفة، حتى ترسخ في الأسماع والأذهان وتصبح إحدى وقائع الحياة وحقائق العلم.(1/151)
... قال بيجن في صدر خطابه "لقد استمر نزاع مأساوي لا ضرورة له بالمرة بين بلدكم وبلدنا". وقال بعد ذلك "فمنذ الوقت الذي أمرت فيه حكومة الملك فاروق بغزو أراضينا، أرض إسرائيل، نشبت أربع حروب كبرى بيننا وبينكم".
... ثم يمضي رئيس وزراء العدو بعد ذلك يقول بلهجة التأكيد "ينبغي أن تعلموا أننا عدنا إلى أرض أجدادنا وأقمنا استقلالنا في أراضينا".
... وإنه من دواعي الأسف العميق أن كلمات بيجن هذه، بل والخطاب كله لم يلق العناية الكافية من أجهزة الإعلام العربية، فلا رد ولا تفنيد ولا تعليق، مع أن جميع مقولاته كذب مفضوح، وليس لها دليل من الحقيقة.
... فإن قوله "بلدنا"، ويعني بذلك فلسطين ليس له سند التاريخ.. بل إن التاريخ ينفيه بصورة مطلقة، ونقطة الضعف الوحيدة في هذا المجال أن هذا التاريخ غير معروف بصورة عامة، وأن أصحاب القضية أنفسهم لا يذيعونه أمام الناس، بإصرار وإيمان، حتى يصبح حقيقة عالمية من الحقائق الشائعة التي يعرفها رجل الشارع في العالم بأسره.
... وكذلك فإن قوله "أراضينا وأرض أجدادنا" لا يعدو أن يكون باطلا شائعا بين الناس لأسباب متعددة، وكل قيمته أنه خطأ شائع بين الجماهير التي تردد المثل المعروف "الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور"!!
... ولكن الرد على هذه المقولات الكاذبة التي رددها رئيس وزراء العدو، والأجهزة الصهيونية منذ أن قامت هذه الحركة الباغية العدوانية... إن الرد ليس عسيرا فإن المراجع التي تؤيد الرد أكثر من أن تذكر وقد سردتها مجموعات كبيرة من الكتب في العديد من اللغات.
... ومن هذه المراجع فإننا نؤثر التوراة، والعهد القديم بالذات، فإنه هو الأساس الذي تعتمده الدعاوى الصهيونية في توكيد "الحق التاريخي" لليهود في فلسطين.
... ولا نكران أن التوراة قد تحدثت عن خروج العبرانيين من مصر، وعبورهم سيناء، وعن محاولتهم غزو فلسطين والاستيلاء عليها..
... ولكن التوراة نفسها تحكم على الغزوة اليهودية بالفشل والهزيمة..(1/152)
... أجل لقد كانت غزوة العبرانيين لفلسطين،أرض كنعان، فاشلة على وجه التأكيد، كما أنهم منوا بهزائم منكرة، وانتهى "الخروج" الذي تحدثت عنه التوراة طويلا دون أن يحقق هدفه الأول والأخير، وهو الاستيلاء على فلسطين واحتلالها واقتلاع أهلها منها.
... وقد رأى القارئ العربي، في الفصول السابقة هذه الحقائق بارزة ناصعة فيما كتبته التوراة نفسها، وفيما اقتبسناه من عباراتها واستشهدنا به من الأحداث التي سردتها..
... وكذلك فإن أسطورة الوعد الإلهي لإبراهيم وذريته بأن تكون فلسطين ميراثا لهم ولأنسالهم من بعدهم، لم تكن مستقرة في وجدانهم، ذلك أنهم سرعان ما أن دخلوا برية سيناء، حتى عادوا إلى وثنيتهم فعبدوا العجل مكان "الرب" الذي أشارت إليه التوراة غير مرة بأنه يحارب عنهم ومعهم، ويصنع المعجزات لتدمير أعدائهم، ويسير أمامهم في عمود من نار في الليل، وفي سحاب من الغمام في النهار.. وإذا كان "الرب" لم يعد شيئا في عبادتهم فإن وعد "الرب" يكون قد سقط من حياتهم بالكلية.
... وقد تجسدت هذه المعاني على أبرز ما يكون في الوقائع الآتية:
... أولا: أن العبرانيين لم يكونوا يريدون الخروج من مصر وأنهم كانوا يؤثرون أن يتحملوا أعباء سخرة الفراعنة على المتاعب التي واجهتهم في "برية" سيناء وما لقوا فيها من متاعب وشظف.(1/153)
... ثانيا: أن حكاية أرض الميعاد، لم تكن عقيدة ثابتة لدى جمهور العبرانيين الذين خرجوا من مصر وقطعوا أرض سيناء، ولم تكن تستهويهم في قليل أو كثير، فالموضوع كله هو من ابتداع أحبار اليهود، دسوه في التوراة.. فإن موسى من جانبه كان قد حدد للفرعون أن سبب الخروج "أن يعبد العبرانيون الرب في البرية". كما أنه قد حرص لدى خروجه من مصر أن "يضللهم" فقد قادهم في بداية الأمر في طريق لا يقود إلى فلسطين، حتى لا يظن العبرانيون أنهم ذاهبون لمحاربة الفلسطينيين كما ورد ذلك في نص التوراة نفسها.. وكذلك فإن العبرانيين من جانبهم قد طلبوا غير مرة وهم في سيناء أن يعود بهم إلى مصر حيث كانوا يلتهمون "قدور اللحم" حسب تعبير التوراة.
... ثالثا: ثم إن العبرانيين قد هموا غير مرة أن يقتلوا قائدهم موسى وأن ينصِّبوا رئيسا آخر مكانه حتى يعود بهم إلى مصر وينصرفوا عن فلسطين، وخاصة بعد أن عاد الجواسيس الذين أوفدهم موسى إلى فلسطين وأعلنوا في تقريرهم أن فلسطين فيها أقوام كثيرة، ومدنا محصنة، وأن أهلها أشداء ذوو بأس وسيقاتلون من أجل وطنهم ومدنهم وقراهم.
... رابعا: وقد وضع ذلك فعلا وحقيقة بعد أن دخل العبرانيون إلى فلسطين. فقد تصدى لهم أهل البلاد وقاوموهم مقاومة ضارية باسلة، سردنا أخبارها، كما أوردتها توراة اليهود أنفسهم..
... خامسا: وكان من أبرز الأحداث التي تناولتها التوراة بالتفصيل أن العبرانيين لم يستطيعوا احتلال البلاد.. فقد حاربهم "الفلسطينيون" في مواقع كثيرة، وأنزلوا فيهم خسائر جسيمة وأجلوهم عن نواح متعددة من البلاد، وكل ذلك ذكرته التوراة بالتفصيل كما شرحناه في الفصول السابقة.(1/154)
... سادسا: وكان من أبرز تلك الأحداث التي أكدتها التوراة أكثر من مرة، أن العبرانيين لم يستطيعوا إجلاء أهل البلاد عن مدنهم وقراهم.. فقد بقي أهلها فيها "وسكنوا في وسط إسرائيل" كما ذكرت التوراة غير مرة، وكم وكم تكررت عبارة التوراة التي تقول أن أهل البلاد بقوا ساكنين فيها إلى هذا اليوم...
... وإذا كانت الأسفار الأولى من التوراة التي استعرضناها حتى الآن قد فصلت الحروب التي شنها أهل البلاد على الغزاة العبرانيين، فإن الأسفار التالية قد كرست كل صفحاتها على سرد أخبار الحروب الشاملة، حسب التعبير العسكري المعاصر، التي قام بها أهل البلاد لمقاومة الغزو الإسرائيلي.. ويكفي في هذا المجال أن نعود إلى سفرين كبيرين في التوراة هما صموئيل الأول، وصموئيل الثاني، وفيهما الوقائع المثيرة المذهلة..
... وأول ما يطالعنا في الإصحاح الرابع من سفر صموئيل الأول اعتراف حاسم بهزيمة الإسرائيليين حين يقول "وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة وأما الفلسطينيون فنزلوا في افيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف في الحقل نحو أربعة آلاف رجل.. وقال شيوخ إسرائيل لماذا كسرنا اليوم الرب أمام الفلسطينيين؟" وهذا هو تساؤل الإسرائيليين كما أوردته التوراة.
... وتقول التوراة بعد ذلك، أن شيوخ إسرائيل قد أجمعوا رأيهم أن يأخذوا تابوت عهد الرب "ويدخل في وسطهم" لعلهم ينتصرون على الفلسطينيين.. وتابوت الرب كان دائما مثل كتيبة "مدرعاتهم" في جميع حروبهم.(1/155)
... وكان الأمر كذلك، فقد حملوا تابوت الرب، ونترك للتوراة أن تتحدث عن مصير الحرب.. تقول التوراة أنه "عند دخول تابوت عهد الرب.. أن جميع إسرائيل هتفوا هتافا عظيما حتى ارتجت الأرض فسمع الفلسطينيون صوت الهتاف وعلموا أن تابوت الرب جاء إلى المحلة (الميدان). فخاف الفلسطينيون لأنهم قالوا قد جاء الله، وقالوا ويل لنا لأنه لم يكن لنا مثل هذا منذ أمس ولا ما قبله.. من ينقذنا من يد هؤلاء الآلهة القادرين.. هؤلاء هم الآلهة الذين ضربوا مصر الضربات. تشددوا وكونوا رجالا أيها الفلسطينيون لئلا تستعبدوا للعبرانيين كما استعبدوا هم لكم. فكونوا رجالا حاربوا" وهذا أيضا هو كلام التوراة.. فيه تلخيص لموقف الفلسطينيين وإصرارهم على الحرب..
... ثم تمضي التوراة في كلامها لتقول "فحارب الفلسطينيون وانكسر إسرائيل وهربوا كل واحد إلى خيمته، وكانت الضربة عظيمة جدا وسقط من إسرائيل ثلاثون ألف رجل وأخذ الفلسطينيون تابوت الله".
... وهكذا انتهت المعركة بهذه الهزيمة الكبرى وسقط "تابوت الرب" غنيمة في يد الفلسطينيين، ويقول الإصحاح الخامس بعد ذلك في عبارته الأولى، "فأخذ الفلسطينيون تابوت الله من حجر المعونة إلى أشدود وأدخلوه إلى بيت داجون..".
... ولم يستطع الإسرائيليون أن ينقذوا تابوت الرب من يد الفلسطينيين، ولكن المعجزات قد تدخلت فأنقذت تابوت الرب وأعادته إلى أهله، ومن هذه المعجزات التي ذكرتها التوراة أن ضربات شديدة نزلت بالفلسطينيين وأفشت فيهم "البواسير" حتى أعادوا تابوت الرب إلى العبرانيين.(1/156)
... أما الهزيمة التي نزلت بإسرائيل، فلم يستطع الإسرائيليون التصدي لها إلا بالمعجزات الخرافية كذلك. فقد قام فيهم نبي جديد وهو آخر قضاتهم واسمه صموئيل فصنع المعجزة حيث تقول التوراة "وأخذ صموئيل حملا رضيعا وأصعده محرقة بتمامه للرب. وصرخ إسرائيل إلى الرب من أجل إسرائيل فاستجاب له الرب.. وتقدم الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل فأرعد الرب بصوت عظيم على الفلسطينيين وأزعجهم فانكسروا أمام إسرائيل.. فذل الفلسطينيون ولم يعودوا بعد للدخول في تخم إسرائيل وكانت يد الرب على الفلسطينيين كل أيام صموئيل.. والمدن التي أخذها الفلسطينيون رجعت إلى إسرائيل واستخلص إسرائيل تخومه من يد الفلسطينيين وكان صلح بين إسرائيل والأموريين".
... وواضح من كلام التوراة أن انكسار الفلسطينيين هو خرافة. واسترداد الإسرائيليين للمدن، هو أسطورة.. وتكون الحصيلة النهائية لهذه المعارك الحربية بين إسرائيل والفلسطينيين أن الفلسطينيين لم ينكسروا وأنهم بقوا في وطنهم وأن الهزيمة بقيت في أعناق الإسرائيليين ولم يستطيعوا استرجاع مدينة واحدة من قبضة الفلسطينيين.
... والمعادلة بسيطة للغاية، فإن ما كان أسطورة وخرافة في البداية، لا يمكن أن يكون حقيقة في النهاية.. وإن الأموريين الذين تقول التوراة أنه وقع صلح بينهم وبين إسرائيل، إذا صحت الرواية، فإنهم من القبائل العربية التي كانت تقطن فلسطين قبل غزوة بني إسرائيل.. وهذا دليل توراتي آخر على عروبة فلسطين منذ قديم الزمان..
... وفي سياق الحروب بين الفلسطينيين والإسرائيليين فقد كشفت التوراة عن الفجوة الكبرى بين أهل البلاد الفلسطينيين والغزاة الإسرائيليين، وعن تقدم الأولين في مجال الصناعة الحربية، حسب تعبير اليوم، وتخلف الآخرين حتى في الصناعة البدائية.(1/157)
... وتقول التوراة (الإصحاح الثالث عشر من سفر صموئيل الأول) في وصف هذه الفجوة أنه "لم يوجد صانع في كل أرض إسرائيل.. لأن الفلسطينيين قالوا لئلا يعمل العبرانيون سيفا أو رمحا، بل كان ينزل كل إسرائيل إلى الفلسطينيين لكي يحدد كل واحد سكته و منجله وفأسه ومعوله عندما كلت حدود السكك والمناجل والمثلثات الأسنان والفؤوس ولترويس المناسيس".
... إلى آخر هذا التفصيل الجزئي الذي يثبت تخلف الإسرائيليين و"احتكار" الفلسطينين لصناعة الأسلحة .. كاحتكار روسيا وأمريكا للأسلحة المتطورة في هذا الأيام .. ومعنى ذلك أن الإسرائيليين كانوا عالة على الفلسطينيين حين تنشلم فؤوسهم فلا يسنها إلا الفلسطينيون .
... بل إن التوراة تذهب إلى أبعد من ذلك لتكشف أن الإسرائيليين لم يكن عندهم سيف ولا رمح فتقول بعبارة واضحة.. "وكان في يوم الحرب أنه لم يوجد سيف ولا رمح بيد جميع الشعب الذي مع شاول (ملك الإسرائيليين) ومع يوناثان (ابنه). على أنه وجد مع شاول ويوناثان ابنه".
... ولذلك فإن من حقنا أن نكذب زعم الإسرائيليين أنهم احتلوا بلاد الفلسطينيين، وهذه الفجوة الحضارية بينهما فيما تصفه التوراة.. فهؤلاء الغزاة لا يستطيعون حتى "تحديد" فؤوسهم ومناسيسهم من أجل الزراعة، فكيف يستطيعون احتلال البلاد؟
... ولكن عبارة "كان ينزل كل إسرائيل إلى الفلسطينيين لكي يحدد كل واحد سكته الخ" فيها دلالات أكثر أهمية، فهي تثبت بنص التوراة أن الفلسطينيين كانوا يملأون وطنهم، بل كانوا يحيون فيه حياة متطورة متقدمة وكان الغزاة يقصدونهم في أبسط حاجياتهم البدائية.
... أما ما ورد في التوراة عن انتصاراتهم فلا يعدو أن يكون الأمر إحدى خرافاتهم الكثيرة، لأن التوراة نفسها تشير في كثير من المواضع إلى الخوارق التي كان يصنعها أنبياؤهم وقضاتهم، مثل إحراق حمل رضيع قربانا إلى السماء، وهذا هو واحد فقط من "الخوارق" التي ذكرتها التوراة.(1/158)
... وحتى هذه الانتصارات المزعومة، فقد اقتصرت على عودة الفلسطينيين إلى مواقعهم أو خطوطهم حسب التعبير العسكري المعاصر، فنحن نقرأ في الإصحاح الرابع عشر من سفر صموئيل الأول قوله عن نهاية أحد المعارك "فصعد شاول (ملك الإسرائيليين) من وراء الفلسطينيين وذهب الفلسطينيون إلى مكانهم".
... "ومكانهم" هذه لا تعني إلا وطنهم.. فأين كلام التوراة هذا من خطاب بيجن رئيس وزراء العدو، الذي وجهه إلى الشعب المصري حين قال "إننا عدنا إلى أرض أجدادنا وأقمنا استقلالنا في أراضينا"؟
... وحتى في المعركة الشهيرة التي يفاخر بها بنو إسرائيل، والتي جرت بين جالوت (جوليات) والنبي الملك داود، فلم تستطع التوراة أن تكتم حقيقة الوجود الفلسطيني كشعب في وطنه.. ففي صدر الإصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول، وهو السفر الذي يصف المعركة تقول التوراة "وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب.. وكان الفلسطينيون وقوفا على جبل من هنا، وإسرائيل وقوفا على جبل من هناك والوادي بينهم".
... وهذه المعركة كما تذكر التوراة لم تكن مواجهة حربية بين الجيشين ولكنها كانت مبارزة بين داود حامل المقلاع وبين جليات لابس الدرع..سقط في نهايتها (جليات) بطل الفلسطينيين.. واعتبرت نصرا للإسرائيليين وفق تقاليد تلك الأيام..
... وحتى بعد هذه الهزيمة الرمزية، التي مني بها الفلسطينيون،فقد ظلوا يقاتلون الإسرائيليين عند كل سانحة، وترى التوراة في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر صموئيل الأول، تصف معركة أخرى يشنها الفلسطينيون، فتقول التوراة أن الإسرائيليين "أخبروا داود (النبي الملك) قائلين هو ذا الفلسطينيون يحاربون قعيلة (أحد المواقع في فلسطين) وينهبون البيادر.. فسأل داود الرب قائلا: "أأهب وأضرب هؤلاء الفلسطينيين وأخلص قعيلة؟" فرضي الرب وقال له أنه سيحارب معه.(1/159)
... ولكن رجال داود ترددوا وخافوا من محاربة الفلسطينيين وتعترف التوراة بذلك حيث تقول: "فقال رجال داود له ها نحن هنا في يهوذا خائفون فكم بالحري إذا ذهبنا إلى قعلية ضد صفوف الفلسطينيين. ولكن الرب قال لداود: قم انزل إلى قعيلة فإني أدفع الفلسطينيين ليدك". أي أن الرب هو الذي سيحارب عن بني إسرائيل كعادته وسينصرهم كعادتهم.
... وتقول التوراة بعد ذلك "فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلَّص داود سكان قعيلة".
... ولكن التوراة تتراجع لتكذب نفسها حين تقول في نهاية الإصحاح الثالث والعشرين.. "فجاء رسول إلى شاول (ملك بني إسرائيل) يقول أسرع واذهب لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض". وهكذا فإن "أجداد" بيجن إذا صح نسبه إليهم – قد انهزموا غير مرة أمام أجداد الفلسطينيين، وأن الأمر لم يستقر لبني إسرائيل في فلسطين حتى في عهد داود الذي يعتبره اليهود مؤسس الدولة اليهودية في فلسطين ويسمون بيت المقدس بأنها مدينة داود.. ويكفينا دليلا ما ترويه التوراة نفسها، ومن توراتك أدينك يا إسرائيل..
... ولكن الطريفة الكبرى التي ترويها التوراة في سياق سردها للحروب التي وقعت بين الفلسطينيين والإسرائيليين ما حدث من الوحشة والفرقة بين شاول الملك الأول لليهود، وداود الملك الثاني.
... وليس أسهل من الرجوع إلى الإصحاحات الأخيرة في سفر صموئيل الأول لنرى حقائق مذهلة تدعو لا إلى بالغ الدهشة فحسب ولكن لتثبت الوجود القومي للشعب الفلسطيني في وطنه، وأن الغزو اليهودي لا يعدو أن يكون حدثا عابرا تصدى له الشعب الفلسطيني بالمقاومة الضارية ولم يترك له فرصة الاستقرار والسكينة.(1/160)
... يبدأ الإصحاح السابع والعشرون بعبارة بعيدة الدلالة تقول "وقال داود في قلبه إني سأهلك يوما بيد شاول فلا شيء خير من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول مني فلا يفتش علي بعد في جميع تخوم إسرائيل فأنجو من يده.." أي أنه عزم أن يلجأ إلى أرض الفلسطينيين لينجو من منافسه اللدود شاول.
... وهذا ما حدث فعلا فإن التوراة تقول "فقام داود وعبر هو والست مائة رجل الذين معه إلى اخيش بن معوك ملك جت (إحدى مقاطعات فلسطين)، وأقام داود عنده هو ورجاله.. فأخبر شاول أن داود قد هرب إلى جت فلم يعد أيضاً يفتش عليه وهكذا أمن داود من بطش شاول واتخذ من أرض الفلسطينيين ملجأ "ومعه امرأتاه" كما تقول التوراة، وأما اخيش فهو ملك عراق المنشية في فلسطين.
... وتقول التوراة أن داود طلب من ملك اخيش "مكانا" في إحدى قرى الحقل ليسكن هناك "حتى لا يسكن عبدك في مدينة المملكة" فأعطاه اخيش في ذلك اليوم إحدى المدن.. "وكان عدد الأيام التي سكن فيها داود في بلاد الفلسطينيين سنة وأربعة أشهر".. وقد كان هذا هو اللجوء الأول فقد لجأ داود إلى أرض الفلسطينيين مرة أخرى.
... وداود هذا هو مؤسس دولة إسرائيل كما تزعم التقاليد اليهودية، قد أقام في أرض الفلسطينيين هذه المدة الطويلة لاجئا عند أجدادنا، عند الشعب الفلسطيني، لا أجداد بيجن كما يردد في خطابه إلى الشعب المصري.
... ثم تبرز التوراة النزعة العدوانية المتأصلة في داود وشعبه، فهو بدلا من أن يقنع بحياة اللاجئين ويلتزم بتقاليد اللجوء السياسي راح يشن الغارات على أهل البلاد المجاورين لسكناه.. فنراها تقول "وصعد داود ورجاله وغزوا الجشوريين والجرزيين والعمالقة لأن هؤلاء من قديم سكان الأرض من عند شور إلى أرض مصر".
... وهذا الاعتراف التوراتي في غاية الخطورة لأنه يثبت ثلاثة أشياء:
... الأول: أن داود قد أراد أن يسكن في قرية بعيدا عن عاصمة الملك ليتخذ منها منطلقا للعدوان..(1/161)
... وثانيا: أن هذه الأرض الشاسعة من حدود (شور إلى أرض مصر) هي وطن أهل البلاد من قديم الزمان، تسكنها قبائلها التي سردت أسماءها – وأولئك هم أهل البلاد الأصليون، وهم أجداد الشعب الفلسطيني.
... وثالثا: أن الغزو كان عادة داود وشعبه فتقول التوراة "هكذا فعل داود وهكذا عادته كل أيام إقامته في بلاد الفلسطينيين" وهذه هي عبارة التوراة من غير زيادة ولا نقصان.
... وينتهي الإصحاح الثامن والعشرون من سفر صموئيل الذي نحن بصدده، بسرد التفاصيل الوافية عن المعركة الكبرى التي نشبت بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تعرف في تاريخ اليهود بمعركة جلبوع وانتهت إلى أسوأ الهزائم التي مني بها العبرانيون في غزوهم لفلسطين.
... ويبدأ الإصحاح التاسع والعشرون من سفر صموئيل بقوله: "وجمع الفلسطينيون جميع جيوشهم إلى افيق.. وكان الإسرائيليون نازلين على العين التي في يزرعيل.. وعبر أقطاب الفلسطينيين مئات وألوفا". والمواقع المذكورة معروفة إلى يومنا هذا.
... وبعد هذا الحديث في صيغة الجمع عن الفلسطينيين وجيوشهم مئات وألوفا، سردت التوراة كيف أن الفلسطينيين طردوا داود من صفوفهم لأنهم لم يكونوا يأمنون جانبه في حربهم مع الإسرائيليين، "حتى لا يكون لنا عدوا في الحرب" حسب تعبير التوراة. وكان داود لاجئا عند الفلسطينيين يومئذ، كما أسلفنا..
... وتمضي التوراة في صدر الإصحاح الحادي والثلاثين تقول في صريح العبارة "وحارب الفلسطينيون إسرائيل فهرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين وسقطوا قتلى في جبل جلبوع" (1) .
... وكان من نتيجة هذه المعركة الباسلة أن شاول نفسه قد "انجرح جدا من الرماة.. وأخذ شاول السيف وسقط عليه ومات". وفعل مثله حامل سلاحه ومات معه.
__________
(1) * جبل جلبوع هو الذي يعرف اليوم جبل فقوعة في قضاء جنين.(1/162)
... وتختم التوراة نتيجة هذه المعركة بالقول "إن شاول مات وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم". أي أن الإسرائيليين قد فنوا على بكرة أبيهم..
... ولكن ما هو أهم من ذلك أن التوراة، تسجل في عبارات راجفة حزينة الهزيمة التي مني بها الإسرائيليون حين تقول "ولما رأى رجال إسرائيل الذين في عبر الوادي والذين في عبر الأردن أن رجال إسرائيل قد هربوا وأن شاول وبنيه قد ماتوا تركوا المدن وهربوا فأتى الفلسطينيون وسكنوا بها". أي أن الفلسطينيين سكنوا في مدنهم هم بعد أن أجلوا الإسرائيليين عنها..
... فهل من اعتراف أدل من هذا الاعتراف على أكاذيب الدعاوى الصهيونية وعلى المقولات الباطلة التي سردها رئيس وزراء العدو في خطابه إلى الشعب المصري.. دون أن يجد الشعب المصري ردا عليها، يفندها ويكذبها ومن صميم التوراة نفسها، ناهيك عن المراجع التاريخية الأخرى.
... ولكن الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر صموئيل الأول قد سجل في نهايته الفرحة الكبرى التي عمت الفلسطينيين الذين حققوا ذلك الانتصار الرائع في معركة جلبوع.. حين قال في عبارته الختامية "إن الفلسطينيين حين جاءوا في الغد إلى ميدان المعركة وجدوا شاول وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وأرسلوا إلى أرض الفلسطينيين في كل جهة لأجل التبشير ووضعوا سلاح شاول وسمروا جسده على سور بيت شان (بيسان)". ولم يجد الإسرائيليون ما يفعلوه إلا أن يتسللوا تحت جنح الظلام "وأخذوا جسد شاول وأجساد بنيه عن سور بيت شان.. وأحرقوها وأخذوا عظامهم ودفنوها وصاموا سبعة أيام".
... ذلكم هو تاريخ الوجود الإسرائيلي والوجود الفلسطيني في فلسطين كما سردته التوراة في إطار حروب طاحنة شنها الشعب الفلسطيني على بني إسرائيل فألحق بهم الهزائم المنكرة وأجلاهم عن المدن التي احتلوها وعاد إليها أصحابها ليسكنوا بها، هم وأحفادهم من بعدهم.(1/163)
... وتلك هي سيرة أجداد الإسرائيليين وبيجن معهم إذا صح نسبه إليهم، أوضحتها التوراة بكل جلاء، فلم تكن أكثر من غزوة عابرة لم يكتب لها الاستقرار والدوام.
... ولم يبق على الحكم العربي المعاصر لمعظمه أو بعضه إلا أن يتعرف على هذه الحقائق التوراتية.. ويؤمن بالحق العربي في فلسطين إيمان اليهود بباطلهم.
الفصل الحادي عشر
النبي الزاني والنازي..
من هو؟
النبي الزاني والنازي..
من هو؟
... "ينبغي أن تعلموا أننا عدنا إلى أرض أجدادنا.. وأقمنا استقلالنا في أراضينا".
... هكذا خاطب بيجن رئيس وزراء العدو الشعب المصري، وبلهجة الأمر. ينبغي أن تعلموا – مكررا دعواه الباطلة في "الحق التاريخي" لليهود في فلسطين.
... وبالمقابل فإن التوراة تعود لتكرر تكذيبها للدعوى اليهودية، مثبتة بالوقائع والأحداث أن هذه الدعوى باطلة من أساسها، ولا صحة لها، وأن الحق التاريخي في فلسطين ليس لليهود، ولكنه لأصحاب البلاد الشرعيين الذين كانوا يستوطنون وطنهم قبل الغزوة اليهودية بأجيال ثم تصدوا لمقاومة العدوان اليهودي في حرب متصلة امتدت عشرات السنين.
... وكل هذه الأحداث والوقائع، كما سنراها، سردتها التوراة، التي هي الأساس الوحيد للدعوى اليهودية، وكأنما التوراة نفسها واقفة بالمرصاد للمزاعم الصهيونية، تردها واحدة واحدة، ولتقف القضية الصهيونية بعد ذلك من غير دليل ولا حجة.. هكذا معلقة في الهواء.
... ومن أبرز أسفار التوراة في تكذيب الدعوى الصهيونية وتفنيد المقولات الباطلة التي رددها بيجن في خطابه إلى الشعب المصري.. هو سفر صموئيل الثاني، فقد تضمن هذا السفر وقائع حاسمة تهدم القضية الصهيونية من الرأس إلى الأساس..(1/164)
... ويأتي في صدر ما يطالعنا في الإصحاحين الأول والثاني من سفر صموئيل أنه بعد أن سقط شاول وجيشه في معركة جلبوع الشهيرة، فإن الرب قد أذن لداود أن يصعد إلى حبرون – الخليل – حيث سكن فيها هو وزوجتاه، وحيث "أتى رجال يهوذا ومسحوا هناك داود ملكا على بيت يهوذا"، وبهذا أصبح داود الملك الثاني على اليهود بعد شاول..
... ولكن ابن شاول قد نازعه الملك، كما تقول التوراة، وأصبح ملكا على كل إسرائيل "لمدة سنتين.. وأما بيت يهوذا فإنهم اتبعوا داود وكانت المدة التي ملك فيها داود في حبرون سبع سنين وستة أشهر".. هكذا تحكي التوراة..
... وكائنا من كان ملك اليهود في تلك الحقبة أهو داود أو ابن شاول فإن الواقعة الأساسية التي تبرز في رواية التوراة أن بيت المقدس لم تكن في حوزة اليهود.. فإن داود نصب ملكا في حبرون – الخليل – وأقام فيها ما يزيد على سبع سنوات.
... ونخلص من هذه الواقعة، أن الوجود اليهودي في فلسطين لم يكن يتجاوز مدينة الخليل في أحسن الفروض، وأن باقي البلاد وخاصة بيت المقدس كانت بأيدي أصحابها من اليبوسيين، وهم الذين أسسوها وبنوها.
... وظاهر كذلك من التوراة نفسها، أن الوجود اليهودي في فلسطين لم يكن مستقرا، وأن الملك لم يكن مثبتا لداود فإن الإصحاح الثالث من السفر الذي نحن بصدده يقول في عبارة تسمع فيها رنة الحزن أن "الحرب كانت طويلة بين بيت شاول وبيت داود" ، واختارت التوراة أن تكتم مدتها.
... وفي خضم هذه الحرب بين بيت داود وبيت شاول تسرد التوراة حكاية منحطة لا أخلاقية وما أكثر أمثالها في التوراة، وتقرر هذه الحكاية مصير الملك في تاريخ الدولة اليهودية.(1/165)
... تقول التوراة في هذا الصدد أنه كانت لشاول سرية اسمها رصفة.. وقد دخل عليها ابنير رئيس جيش شاول.. فاغتاظ ابن شاول وقال لرئيس الجيش.. "لماذا دخلت إلى سرية أبي" وما كان من أمر رئيس جيش شاول إلا أن أغلظ الكلام مع ابن شاول وأنذره "بنقل الملك من بيت شاول وإقامة كرسي داود على إسرائيل ويهوذا".. هكذا من أجل خاطر السرية التي دخل عليها رئيس جيش شاول سنرى أن الملك سينقل إلى داود.
... وما أن تسرد التوراة حكاية هذه "السرية" حتى تدخل في سرد حكاية نسائية أخرى لا تقل عن الأولى فحشا وانحطاطا.
... وهنا تقول التوراة أن ابنير رئيس جيش شاول قد عرض ولاءه على داود غضبا على ابن شاول ولكن داود اشترط عليه أن "لا يراه ما لم يأت أولا بميكال بنت شاول حين تأتي لترى وجهي".
... وكان ميكال زوجة ذات بعل اسمه "بن لايش" فتم لداود ما أراد، كما تقول التوراة، وأخذت المرأة "من عند رجلها.. وكان رجلها يسير معها ويبكي وراءها"، وقال له ابنير رئيس الجيش ارجع فرجع.. وهكذا تم للملك داود ما أراد وانتزع المرأة من زوجها الحزين.
... وما أن تنتهي هذه الحكاية التوراتية المخزية، حتى تقول التوراة أن ابنير كلم شيوخ إسرائيل أن الرب وعد داود "بأن عبدي – داود – يخلص شعبي إسرائيل من يد الفلسطينيين ومن أيدي جميع أعدائهم" ومن هذا الكلام الواضح كما ورد في الإصحاح الثالث من هذا السفر أن الفلسطينيين ما زالوا في وطنهم يقاومون الغزوة اليهودية وأن بني إسرائيل يتطلعون إلى داود أن "يخلصهم من الفلسطينيين ومن جميع أعدائهم".
... ولكن الإصحاح الخامس ينقلنا إلى كلام أكثر وضوحا حين يقول في صدد ملكية داود، "إن جميع أسباط إسرائيل جاءوا إلى داود في حبرون – الخليل – فقطع داود معهم عهدا أمام الرب وسموا داود ملكا على إسرائيل.. وكان داود ابن ثلاثين سنة، وملك أربعين سنة في حبرون وملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا".(1/166)
... وتبرز بعد ذلك عبارة تصيح بأعلى صوتها تقول بلسان التوراة "وذهب الملك ورجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض فكلموا داود قائلين لا تدخل إلى هنا". وهذا الكلام هو أول مراحل المقاومة وقديما قال العرب: فإن الحرب أولها الكلام.
... والمعنى الواضح من هذا الكلام الواضح.. أن اليبوسيين هم أهل أورشليم، وكانوا فيها قبل داود وأنهم "سكان الأرض" وهؤلاء هم أجداد الفلسطينيين، وليسوا أجداد بيجن ولا أجداد الإسرائيليين، الغزاة المعتدين.
... وتقول التوراة أن داود "أخذ حصن صهيون وبنى فيه قلعة"- وصهيون هو الجبل الجنوبي لبيت المقدس – ومعنى ذلك ان داود لم يتمكن من إحتلال بيت المقدس إلا بعد ذلك بزمن، وأنه اقتصر إقامته بادئ الأمر على جبل صهيون، وبقي بيت المقدس بيد أصحابه، وسمي الحصن مدينة داود..
... ثم تمضي التوراة في الكشف عن مزيد من الوقائع التي تثبت الوجود القومي الفلسطيني فتقول في منتصف الإصحاح الخامس أنه "سمع الفلسطينيون أنهم – الإسرائيليين – قد سموا داود ملكا فصعد جميع الفلسطينيين ليفتشوا على داود"، أي أن الفلسطينيين تجمعوا لمحاربة داود وإجلائه عن بيت المقدس وراحوا يفتشون عليه تفتيشا. وتقول التوراة "ولما سمع داود نزل إلى الحصن. وجاء الفلسطينيون وانتشروا في وادي الرفائيين" وكان ذلك استعدادا للحرب.
... وهنا تعود التوراة إلى حرب المعجزات فتقول "إن داود سأل من الرب قائلا أأصعد إلى الفلسطينيين أتدفعهم إلى يدي" وكأنه بهذا السؤال يريد أن يعرف إذا كان الرب سيحارب عن اليهود.. حسب العادة. فقال الرب لداود – حسب رواية التوراة – "إني دفعا أدفع الفلسطينيين ليدك.. فقام داود وضرب الفلسطينيين وقال اقتحم الرب أعدائي أمامي كاقتحام المياه.." إلى آخر حرب المعجزة.(1/167)
... ورغما عن ذلك فإن التوراة تتراجع فتقول "ثم عاد الفلسطينيون فصعدوا أيضا وانتشروا في وادي الرفائيين"، ليستأنفوا الحرب من جديد، ويظهر أنهم بعثوا إلى الحياة من جديد ليقاتلوا بعد أن أفناهم الإسرائيليون، كما أسلفت التوراة!!
... ولم يستطع داود أن ينتصر على الفلسطينيين هذه المرة كذلك إلا بواحدة من معجزات التوراة الكثيرة، فتقول التوراة في ختام الإصحاح الخامس أن الرب قال لداود "لا تصعد إلى الفلسطينيين بل در من وراءهم.. ويخرج الرب أمامك لضرب محلة الفلسطينيين، ففعل داود كذلك كما أمر الرب وضرب الفلسطينيين من جبع إلى مدخل جازر". ثم تمضي التوراة بعد ذلك تسرد أخبار داود فإذا بها تكشف عن حادثة بشعة ترد على تبجحات بيجن رئيس وزراء العدو، حين يفاخر في خطابه إلى الشعب المصري "بالتقاليد الإنسانية العظيمة التي تركها أنبياؤنا" حسب تعبير الزعيم الإرهابي اليهودي.
... ولن نحاول هنا أن نعيد للذاكرة أعمال الإرهاب البشعة التي قادها ونفذها هذا السفاح الأثيم.. ولكننا نرى أن نرد على تبجحاته من سلوك واحد من أنبيائه الذين فصلت التوراة إحدى كبائره التي ارتكبها مع زوجة أحد جنوده الذين كانوا يخوضون القتال في ساحة الوغى..
... والحادثة الشنيعة التي نشير إليها يمكن اعتبارها من أبشع الجرائم الخلقية المدونة في التاريخ الإنساني وسنترك لتوراة اليهود نفسها أن تسرد الحكاية من أولها إلى آخرها.
... يقول الإصحاح الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني عند سرده للحرب التي قامت بين داود وعدد من ملوك البلاد أن داود لم يخرج بنفسه إلى الحرب ولكنه أقام في أورشليم.(1/168)
... وفي هذا السياق تبدأ التوراة لتقول "وكان في وقت المساء أن داود قام من سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم.. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد (ربما من خدمه) هذه بتشع بنت اليعام امرأة اوريا الحثي، فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه واضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها" واوريا الحثي كما سنرى من سياق القصة كان من الجنود المحاربين في المعركة وكان رئيس الجيش اسمه يؤآب.
... وواضح من هذه القصة، أن النبي الملك داود اغتصب هذه المرأة واضطجع معها حراما. وأصرت التوراة في سردها كأنما الذين كتبوها كانوا على مقربة من فراش الزنا، بل ومن جسد المرأة الشقية حتى استطاعوا أن يؤكدوا أنها كانت "مطهرة من طمثها" وهذه حالة جسدية سرية يؤكدها أحبار اليهود كأنهم كانوا شركاء داود في فعلته البشعة.. أو أن داود قد أفضى إليهم بذلك.. أو أن المرأة الشقية قد أكدت لهم هذه الواقعة، وإلا فكيف عرفت التوراة أن المرأة كانت طاهرة من طمثها؟!
... وتقول التوراة بعد ذلك "وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إني حبلى". و إلى هنا فإن الحادثة جريمة زنا عادية تزداد بشاعتها حين يكون مقترفها نبيا أو ملكا.. ولكن الأمر يتطور إلى جريمة أخرى. إلى جريمة إلباس الجنين إلى زوجها، وبطريقة قبيحة!!
... والتوراة لا تتورع عن ذكر التفاصيل.. ذلك أن داود بعد أن علم أن المرأة حامل اتجه فكره إلى التستر على جريمة الزنا.. والتستر على حمل المرأة والجنين الذي في أحشائها.
... وهنا تقول التوراة "فأرسل داود إلى يؤآب – رئيس الجيش – يقول أرسل إلى اوريا الحثي فأرسل يوآب اوريا إلى داود فأتى اوريا إليه فسأل داود عن سلامة يؤآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب"، تماما كما يفعل الملك الحريص على شعبه وقائده وعلى مصير الحرب..(1/169)
... ومضت التوراة تقول "وقال داود لاوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك" وداود يريد بذلك أن يذهب اوريا إلى زوجته وينام معها، حتى يكون الجنين له، ولا يدري أحد بفعلة داود.
... ولكن اوريا الحثي لم يذهب إلى بيت زوجته بل نام على "باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته" كما تقول التوراة.
... ولما علم داود بذلك دعا إليه اوريا الحثي وقال له "أما جئت من السفر فلماذا لم تنزل إلى بيتك"، وكان داود حريصا جدا أن يذهب اوريا الحثي إلى بيته وينام مع زوجته سترا للفضيحة..
... غير أن اوريا الحثي، شأنه في ذلك شأن الجندي الشجاع الحريص على واجبات الجندية، أجاب داود جوابا تمثلت فيه الشهامة والمروءة، فقال لداود، وكأنه ينطق بالإعدام الأدبي على مليكه داود.. "إن يهوذا – يعني الشعب – ساكنون في الخيام وسيدي يوآب – رئيس الجيش – وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي.. وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر".
... سمع داود هذا الجواب فلم ترق له هذه المروءة.. وانطلق فكره في مثل وميض البرق إلى تنفيذ خطة أخرى، فقال لاوريا وهو يضمر أمرا "أقم هنا اليوم أيضا وغدا أطلقك فأقام اوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده" كما تحكي التوراة.
... وراح داود ينفذ الخطة التي في رأسه وتروي التوراة أن "داود دعا أوريا فأكل أمامه وشرب وأسكره وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده.. و إلى بيته لم ينزل".
... والتوراة حين تقول أن داود "أسكر" أوريا الحثي إنما أراد أن يشوقه إلى زوجته ورأسه مملوءة بالخمر.. ولكن أوريا رفض بإباء.. "و إلى بيته لم ينزل" كما تؤكد التوراة.
... وأدرك داود أن الخطة لم تفلح.. فتفتحت قريحته على خطة أخرى ليتخلص من اوريا نهائيا.. وتكشف التوراة عن تفاصيل هذه الخطة الجهنمية..(1/170)
... تقول التوراة "وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يؤآب – رئيس الجيش – وأرسله بيد اوريا" وسافر اوريا إلى ميدان المعركة وهو يحمل بيده كتاب موته.
... وتقول التوراة "يقول داود في المكتوب. اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت" هكذا بالعبارة والكلمة، وبالحرف الواحد كما تقول التوراة.. يضرب ويموت..
... ثم تكمل التوراة الحكاية فتقول أن يؤآب جعل اوريا في الموضع المطلوب.. وأثناء الحرب "سقط بعض الشعب من عبيد داود ومات اوريا الحثي أيضا.. وأرسل يؤآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب.."ومات اوريا شهيد الغدر وضحية الشرف والشهامة..
... ثم تعود التوراة إلى امرأة اوريا فتقول عنها "إنها لما سمعت أنه قد مات اوريا رجلها ندبت بعلها ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا" وسنرى أن هذه الزوجة قد ولدت لداود ابنا هو سليمان، نبي آخر من أنبياء إسرائيل وملك من ملوكهم، وابن زانية، على ذمة التوراة، ونسأل الله العفو والعافية.
... ولسنا في حاجة إلى تعليق على هذه القصة المخزية في تاريخ اليهود، وفي التوراة نفسها.. فقد بدأت هذه القصة بالزنا، وانتهت بالقتل، ومع هذا فإن زعماء الصهيونية لا يتورعون أن يتحدثوا عن القيم الإنسانية الرفيعة التي تركها لهم "أنبياء إسرائيل" كما يقول بيجن رئيس وزراء العدو في خطابه إلى الشعب المصري.
... ولا يفوتنا في هذا المجال أن نشير إلى ملاحظة عامة وهي أن بطل الشهامة والمروءة في هذه المأساة، وهو اوريا الحثي لم يكن يهوديا ولا إسرائيليا، ولكنه كما يدل عليه اسمه، كان جنديا في الجيش اليهودي، وهو من أصل حثي.. والحثيون هم من أقوام الشرق الأوسط الذين كان لهم تاريخهم وكيانهم السياسي في القرون القديمة.
... أما داود فهو كما تذكر التوراة يهودي، ملك ونبي، والمقارنة تبدو بارزة بين اليهودي الملك والنبي،والحثي الجندي العادي.(1/171)
... وحاشا لله أن تكون هذه صورة داود القرآن، فإن اسمه مقرون عند المسلمين بالتبجيل والتكريم ولا يذكر إلا بقولة "سيدنا داود".. وحي النبي داود في بيت المقدس من الأحياء المباركة، والمسلمون يزورون مسجده بكل خشوع ووقار، وكان أول ما فعلته إسرائيل بعد احتلالها لبيت المقدس أنها شوهت مسجد النبي داود لأنه من الآثار الإسلامية.
... ثم تنتقل التوراة بعد ذلك من الزنا والقتل إلى جريمة جماعية تتمثل فيها الفظائع النازية التي ابتلي بها اليهود بعد أربعين قرنا من الزمان، على يدي هتلر.. ولولا أن التوراة قد سجلت هذه الجريمة بتفاصيلها لما كان بالاستطاعة تصديقها، بل لظن القارئ العربي أنها تزوير على اليهود بقصد التشنيع والتنديد، كراهية وحقدا..
... ومما يحمل على التردد في تصديقها لأول وهلة، أن إسرائيل اتهمت غير مرة على منبر الأمم المتحدة بأنها "نازية" بسبب الإرهاب اليهودي الذي اقترفه مناحيم بيجن وأمثاله من السفاحين اليهود.. وكانت إسرائيل تبدو غاضبة من هذه التهمة، وتحاول الانسحاب من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة كلما أثيرت هذه التهمة في وجهها مدعية بأن اليهود هم ضحايا النازية.. وأن إلصاق النازية بإسرائيل يمثل أكبر إهانة في حياة الشعب اليهودي..
... ولكن شاء الله أن يفضح نازية اليهود وبتوراتهم.. وهذا ما تقوله..
... تقول التوراة في الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني وهي تسرد أخبار الحرب بين اليهود وبني عمون، وهؤلاء من أهل البلاد القدامى المستوطنين في فلسطين "وحارب يؤآب – رئيس الجيش اليهودي – بني عمون وأخذ مدينة المملكة..".
... وتقول التوراة أن داود ذهب ليتسلم المدينة "فجمع داود الشعب وذهب إلى المدينة وأخذها.. وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم وكان على رأس داود.. وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جدا".(1/172)
... و إلى هنا فإن القصة عادية ولا غبار عليها وتقع أمثالها عادة بين الغالب والمغلوب، ولكن التوراة تمضي وتقول "وأخرج داود الشعب الذي فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد، ورماهم في أتون الاجر، وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون، ثم رجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم".
... غير أن العبرة الكبرى في هذه الجريمة الجماعية أنها تكون الأساس السلوكي للنازية التي ظهرت في ألمانيا في عهد هتلر بعد ذلك بقرون.
... ولقد ندد العالم أجمع بالفظائع البشعة التي ارتكبتها النازية بحق اليهود ولا تزال قصص التعذيب اليهودي تملأ الأفلام السينمائية والكتب، كما لا يزال الشعب الألماني يئن تحت وطأة هذه الفظائع التي اقترفها قادته وهو بريء منها، وأورثت في نفسه عقدة هتلر والنازية، واستغلتها الصهيونية من جانبها فاستنزفت من ألمانيا أموالا طائلة.
... وتفنن اليهود كذلك في تضخيم تلك الفظائع واستثمروها إلى أبعد الحدود، كما استثمروا أموالهم في جميع أرجاء العالم، وكانت من الأسباب الرئيسية التي عجلت في قيام إسرائيل كدولة.
... وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دفع الشعب الألماني الثمن غاليا بسبب تلك الجرائم، لا ثمنا معنويا فحسب، ولكنه دفع مليارات الدولارات إلى اليهود باسم التعويضات وغير ذلك.. وكلما نفدت أموال التعويضات قامت الصهيونية العالمية بشن حملة على ألمانيا لابتزاز أموال أخرى وهكذا دواليك.
... ومن أبرز الأحداث التي ترددها الدعاية الصهيونية قصة الأفران النازية التي كانت تجمع فيها أجساد اليهود وإجراء تجارب كيميائية على أجسادهم المحترقة.. وذلك عمل بربري من غير شك..
... ولكن أحدا من العرب أو غير العرب لم يكلف نفسه كثيرا لقراءة التوراة ويرى فيها الجذور الأولى للفظائع النازية سواء بسواء مع اختلاف الوسائل.. فقد كانت وسائل داود بدائية للغاية استعمل فيها المناشير، ونوارج الحديد والفؤوس الحديد.(1/173)
... غير أن داود إذا لم يكن يملك الوسائل العصرية الحديثة، فإنه قد سبق النازيين في موضوع الأفران، فالتوراة تقول عن بني عمون "أنه رماهم في أتون الاجر" وأنه صنع هكذا في جميع مدن بني عمون.. ولا يزال الأتون يستخدم حتى الآن كأشد الأفران حرارة وصهرا، وذلك في صناعة الفخار والطوب.
... ويبدو أن التوراة كانت معتزة بهذه الإبادة الجماعية فراحت تكررها، تأكيدا لها، في الإصحاح العشرين من سفر أخبار الأيام الأولى حين قالت عن الحرب مع بني عمون أن "داود أخرج الشعب الذين في المدينة ونشرهم بمناشير ونوارج حديد وفؤوس" الخ العبارة..
... ولكن الجديد في هذه العبارة أن داود "نشرهم" بمناشير.. فلم تكن هذه الكلمة واردة في النص الذي اقتبسناه سابقا..
... تلك هي شر الشنائع في حياة داود كما جاءت في توراة اليهود.. موبقات في الزنا والقتل، وبعدها إبادة جماعية لشعوب الأرض..
... ولكن في التوراة ما هو أكثر من ذلك في سيرة اليهود، شعبا وملوكا وأنبياء..
... والتوراة حافلة بأمثال هذه البشاعات والشناعات مما يندى لها الجبين وتشيب لهولها الولدان.. ولا بد للقارئ العربي أن يتأملها ويتدبرها ليعرف حقيقة الشعب اليهودي الذي ابتليت به الأمة العربية فاغتصب وطنها الغالي، بمقدساته ومرابعه.
... والعرب أمة سمحاء لا تعرف التعصب، ولا تؤمن بالعرق والدم واللون.. ولكن اليهود قوم لهم أخلاقهم ودينهم وماضيهم..
... وما دامت الأمة العربية قد ابتليت بهم، فعلينا أن نعرفهم على حقيقتهم حتى نحدد طريقنا للتعامل معهم.
... وربما كان من الخير أن قال بيجن في خطابه ما قال وفتح بذلك أمامنا أبواب المعرفة على مصراعيها.. لنتعرف على هذه "المصيبة البشرية" التي اسمها إسرائيل.
وسنمضي مع التوراة في مزيد من القراءة والمعرفة.. فإن معرفة الشر هي بداية الخلاص من الشر.. واليهود هم الشر كل الشر..(1/174)
... وما أعظم ما قاله القرآن الكريم في حق اليهود "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" (1)
صدق الله العظيم.
الفصل الثاني عشر
الشقيقتان تحملان سفاحا
من أبيهما النبي
الشقيقتان تحملان سفاحا..
من أبيهما النبي
... رأينا في الفصل السابق أن اليهود هم المعلمون الأوائل للنازيين الألمان الذين ارتكبوا أشنع الفظائع مع اليهود.. وربما كان ما جرى لليهود مع هتلر هو عقاب من الله على ما فعله اليهود في أقوام فلسطين، غداة اعتدائهم على وطنهم بعد عبورهم سيناء.. من ألوان الإرهاب والإبادة، مما فصلته التوراة باستخدام المناشير للنشر الجماعي، بالإضافة إلى نوارج الحديد والفؤوس والمعاول، وأخيرا حشر الناس في أتون الاجر، وهذه لا تقل وحشية عن الأفران التي استخدمها النازيون الألمان في أعمالهم الوحشية أثناء الحرب العالمية الثانية.
... و إلى جانب هذه الفظائع اليهودية التي سردتها التوراة بتفاصيلها، فقد رأينا الانحلال الخلقي في المجتمع اليهودي متمثلا في سيرة الملك النبي داود ورئيس جيشه.
... وطبقا لما ذكرت التوراة، فإن داود قد انتزع ابنة شاول ملك اليهود الأول من حضن زوجها وقد تبعها زوجها يبكي وراءها، وصدر إليه "الأمر" بأن يرجع، فرجع باكيا حزينا.
... ثم أقدم داود، كما روت التوراة، على فعلة أشنع وأبشع، فقد اغتصب زوجة أحد الجنود ودفعه إلى الصفوف الأولى ليقتل، فسقط قتيلا، وضمت زوجته إليه وهي حامل منه سفاحا.
... وما أن تفرغ التوراة من سرد هذه المنكرات والقبائح حتى تنتقل إلى موبقة كبرى تذكرها التوراة بتفاصيلها وهي أشبه ما تكون بأحد أفلام الجنس الخليعة التي تعرض في بعض دور السينما المتخصصة في أفلام الفحشاء..
__________
(1) سورة المائدة (78-79).(1/175)
... وما أظن أفلام الفحشاء قد بلغت من السوء مثل هذه الفاحشة الكبرى التي سنتبينها من صميم التوراة، فهي بين شيخ طاعن في السن وابنتيه، يقع معهما في فاحشة الزنا في ليلتين متتاليتين، وقد قرأتها الأجيال اليهودية والمسيحية منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وقمة الفحشاء في هذه الموبقة الكبرى أنها مع نبي، خرج هاربا لينجو من قومه الذين كانوا يرتكبون الإثم مع الذكور فألبسته التوراة الإثم الأكبر في مواقعة ابنتيه وحملهما منه سفاحا.
... وهذا الذي يسمى بالكتاب المقدس، يسرد تلك الفاحشة كما يسرد أي حدث عادي.. مع أن القارئ لتفاصيلها، يكاد ينخلع قلبه وهو يتابع القصة من بدايتها إلى نهايتها، ويكاد يهم بأن يطرح هذا الكتاب على الأرض حتى لا يصل إلى نهاية الحادثة ويعرف خاتمتها المشينة.
... تقول التوراة في الإصحاح 19 من سفر التكوين، أن لوطا، وهو من الأنبياء، قد هرب من وجه قومه الذين تفشى فيهم ارتكاب الفعل القبيح مع الذكور، فصعد من صوغر وسكن الجبل وابنتاه معه "لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه..".
... وتشاء التوراة أن تجعل من المغارة بيت دعارة تصل إلى الدرك الأسفل في البهيمية، فتمضي في سرد الفاحشة في حوار داعر عاهر بين البنتين أوردته التوراة على النحو التالي: "قالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا".
... وراقت الفكرة للأخت الصغرى، وتقول التوراة عن الأختين أنهما "سقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ودخلت الكبرى واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها".(1/176)
... وتكررت الفاحشة في الليلة التالية، وتقول التوراة "وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي.. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي واضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. وقامت الصغيرة واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها".
... وتختم التوراة هذه الفاحشة المأساوية بقولها "فحبلت ابنتا لوط من أبيهما فولدت البكر ولدا، ودعت اسمه مؤآب وهو أبو المؤآبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم".
... ولسنا نريد أن نناقش عبارة أن لوطا "لم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها" وأن هذه الفاحشة قد جرت مع أبيهما وهو "قد شاخ" وذلك للحفاظ على النسل، وأن البنتين أنجبتا أجداد المؤآبيين والعمونيين، فذلك كله خارج عما يتصدى له هذا الكتاب.
... حسبنا أن نشير هنا أن الدلالة الكبرى في هذه الفاحشة الكبرى التي يسردها كتاب اليهود المقدس.. أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون مقدسا، وأن الدين اليهودي كما ورد في هذا الكتاب لا يمكن أن يحسب في عداد الديانات السماوية.. وأن ما جاء فيه من أن الله قد أعطى فلسطين وطنا لليهود لا يمكن اعتماده ولا الركون إليه.
... وقد تصدى القرآن الكريم لهذه الأباطيل التي سردتها التوراة في قوله "ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين" (سورة الأنبياء 74 – 75).
... وبعد فاحشة النبي الشيخ مع ابنتيه تأتي فاحشة الأخ مع أخته، ومسرح هذه الموبقة هو في بيت المقدس، بين أبناء داود وبناته وهو المفروض فيه أن يكون بيت النبوة الطهور.(1/177)
... ولقد ترددت كثيرا في كتابة هذا الفصل عن هذه الموبقة الفاحشة.. ولكن خطاب بيجنؤ إلى الشعب المصري وما تضمنه من تبجح حول "القيم الإنسانية الرفيعة، والتقاليد الكريمة التي تركها أنبياء اليهود لشعبهم" حسب تعبير العدو الأثيم بيجن، لا يترك مجالا للتردد، بل إنه يصبح واجبا إزاء الإنسانية جمعاء أن نكشف عن مكامن الشر والخلاعة في أخلاق اليهود حتى تكتمل معرفة أمتنا العربية بهؤلاء الأشرار، الذين تخلوا عن القيم الإنسانية أصلا وفرعا..
... والقصة كلها، في هذا الفيلم الخليع، واردة في الإصحاح الثالث عشر من سفر صموئيل الثاني.. وها أنا أمضي بسردها في إطار مقتبسات من التوراة.. ويكاد القلم أن يندى خجلا من هذه الفاحشة التي سنكشف عنها الستار، بإيجاز ما استطعنا إليه سبيلا..
... يقول الإصحاح الثالث عشر في بدايته.. "وجرى بعد ذلك أنه كان لابشالوم بن داود أخت جميلة اسمها تامار أحبها أمنون بن داود" وهكذا بدأ الحب بين أمنون ابن داود وأخته الجميلة تامار، أخته لأبيه، وشقيقة أبشالوم ابن داود.. وسيكون هؤلاء هم أبطال هذه الدراما الخلقية التي لهولها تشيب الأجنة قبل الولدان.
... وبلغ من حب أمنون لأخته تامار، أن أصابه السقم دون أن يستطيع الوصول إليها، حيث تقول التوراة، كأن الذين كتبوها كانوا شهودا على هذا العشق الأثيم، "وأحضر أمنون للسقم من أجل تامار أخته لأنها كانت عذراء وعسر في عيني أمنون أن يفعل لها شيئا.."!!
... وكعادة الشباب، يبدو أن هذا الحب قد بلغؤ إلى مسامع صديق خبير في فنون الحب، اسمه يوناداب بن أخي داود فقال لابن عمه الولهان أمنون "لماذا يا ابن الملك أنت ضعيف هكذا من صباحؤ إلى صباح أما تخبرني؟".(1/178)
... فقال له أمنون ليوضح له السبب في ضعفه وهزاله "إني أحب تامار أخت أبشالوم أخي" والصديق هذا كان "رجلا حكيما جدا" كما تقول التوراة، فقال لامنون ناصحا ومرشدا "اضطجع على سريرك وتمارض، وإذا جاء أبوك ليراك فقل له دع أختي فتأتي وتطعمني خبزا وتعمل أمامي الطعام لأرى فآكل من يدها" وبذلك يخلو الجو بين الأخ وأخته ويغنم الفرصة لاغتصابها.
... وهذا الصديق الناصح أراد، بهذه الحيلة أن يستخدم الملك داود لييسر أمر الفحشاء بين ابنه امنون وابنته تامار.. وكلاهما من صلب داود وإن اختلفت الأرحام..
... وراقت النصيحة في عيني امنون كما أعطاها له صديقه وابن عمه وراح ينفذها، وتقول التوراة "فاضطجع امنون وتمارض فجاء الملك ليراه..
فقال امنون للملك دع تامار أختي فتأتي وتصنع أمامي كعكتين فآكل من يدها".
... وقبل الوالد، الملك داود، وحقق لابنه رغبته فتقول التوراة "فأرسل داود إلى تامار إلى البيت قائلا اذهبي إلى بيت أمنون أخيك واعملي له طعاما. فذهبت تامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع.. وأخذت العجين وعجنت وعملت كعكا أمامه وخبزت الكعك وأخذت المقلاة وسكبت أمامه فأبى أن يأكل.. وقال أمنون أخرجوا كل إنسان عني فخرج كل إنسان عنه".
... وهكذا فإن أمنون كان يرى كل شيء أمامه، وأخته تعد له الكعك وهو يرقبها بعين الشهوة الآثمة.. ولم يبق أمامه إلا أن يخلي البيت من كل من كان فيه حتى يبقى الأخ والأخت وحدهما.. وكان له ما أراد..(1/179)
... وحينئذ، وبعد أن خلا الجو للفاحشة الآثمة، تروي التوراة أن أمنون قال لتامار "ائتي بالطعام إلى المخدع فآكل من يدك. فأخذت تامار الكعك الذي عملته وأتت به أمنون إلى المخدع وقدمت له ليأكل.." وهكذا أصبح أمنون مع أخته وحدهما في المخدع ولم يبق إلا أن يفتك بها.. و إلى هنا فالأمر لا يعدو أن يكون كلاما وطعاما بين الأخ وأخته، ولكن التوراة تقول بعد ذلك أن أمنون أمسك أخته وقال لها "اضطجعي معي يا أختي".. وأبشع ما في هذه العبارة قوله "يا أختي"، ولكن تامار استجارت بهذه "الأخوة" فقالت له "لا يا أخي لا تذلني" وكان أوجع ما في هذه العبارة قولها له "يا أخي" لا تعمل هذه الفاحشة، وأردفت تامار تشرح المصير الوخيم لأخيها، كما تسرد التوراة فقالت له "أما أنا أين أذهب بعاري وأما أنت فستكون كواحد من السفهاء في إسرائيل".
... وفي محاولة أخيرة لإقناعه بالعدول عن الفاحشة قالت تامار كلاما يبعث على أعظم العجب والغرابة، والأعجب الأغرب أن يرد هذا الكلام في كتاب، يزعم أنه كتاب سماوي.
... وتذكر التوراة هذه العبارة، ولولا أنها موجودة أمام بصري الآن لكذبت وجودها في التوراة من هولها وفظاعتها.
... تقول هذه العبارة بلسان تامار لأخيها "والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني منك"، والفاحشة إذن بين الأخ وأخته تحتاج إلى إذن من الملك، والملك لا يمنع الأخت من أخيها، هذا ما تقوله التوراة وليس لهذا الكلام من معنى آخر.
... ولكن أمنون قد استبدت به شهوته فلم يعبأ بمناشدة أخته، ولم يشأ أن يأخذ الرخصة من والده ليفتك بأخته.. وتقول التوراة "فلم يشأ أن يسمع لصوتها بل تمكن منها وقهرها واضطجع معها" وهكذا قضى وطره منها حراما وسفاحا..
... ثم تسرد التوراة أن أمنون "أبغضها بغضة شديدة جدا حتى أن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها.. وقال لها أمنون قومي انطلقي".(1/180)
... ولكن أخته الشقية، على ما يبدو، كانت راغبة في البقاء في فراش الإثم وفي مخدع الفحشاء، فالتوراة تقول على لسانها "فقالت له لا سبب.. هذا الشر بطردك إياي هو أعظم من الآخر الذي عملته بي فلم يشأ أن يسمع لها".
... أما أمنون "فدعا غلامه الذي كان يخدمه وقال اطرد هذه عني خارجا واقفل الباب من ورائها وكان عليها ثوب ملون لأن بنات الملك العذارى كن يلبسن جبات مثل هذه، فأخرجها خادمه إلى الخارج وأقفل الباب وراءها" وبذلك كانت نهاية المأساة.. اغتصابا وطردا..
... وتقول التوراة في النهاية أن تامار جعلت رمادا على رأسها ومزقت ثوبها الملون الذي عليها "ووضعت يدها على رأسها وكانت تذهب صارخة" ويكاد القارئ أن يسمع عويلها بين سطور التوراة..
... ولم يذهب أمنون من غير عقاب، ذلك أن التوراة تقول أن أبشالوم شقيق تامار قد طلب إلى غلمانه أن يقتلوا أخاه أمنون لأنه "أذل أخته" ففعلوا.. وكان ذلك هو الفصل الأخير في هذه الرواية المشينة المخزية.
... والطريفة ذات الدلالة التاريخية أن أبشالوم قد هرب لاجئا إلى ملك جشور، كما تقول التوراة، ومكث عنده ثلاث سنين.. والجشوريون كما هو معروف تاريخيا ينتسبون إلى العرب العمالقة وكانوا يقيمون في الأراضي الواقعة بين جنوبي فلسطين ومصر وبلاد العرب، وبذلك تعترف التوراة أن العبرانيين لم يستولوا على البلاد كما يزعمون.. ولم يكن أبشالوم أول عبراني يلجأ إلى القبائل العربية فقد فعل ذلك قبله أبوه داود حينما كان هاربا من غريمه شاول، كما أسلفنا في الفصل السابق.
... وقد شغلت التوراة بعد ذلك في سرد أخبار المنافسة بين أبشالوم وأبيه داود على الملك، فقد ذهب أبشالوم إلى حبرون – الخليل – معلنا العصيان على والده "وصارت قلوب رجال إسرائيل وراء ابشالوم" "وكانت الفتنة شديدة" على حد تعبير التوراة.(1/181)
... واشتدت هذه الفتنة بحيث أصبح داود يخاف على حياته، "فقال داود لعبيده الذين معه في أورشليم قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه ابشالوم" وفي قصص طويل، ورد في الإصحاح الثامن عشر من سفر صموئيل الثاني، تقول التوراة أن معركة عنيفة دارت بين جيش داود وجيش ابنه ابشالوم، "وانكسر شعب إسرائيل (أتباع ابشالوم) أمام عبيد داود وكانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم وقتل عشرون ألفا وكان القتال هناك منتشرا على وجه كل الأرض" وكان من ضحايا المعركة أبشالوم فقد قتله عبيد داود رغما عن توسلات أبيه داود وبكاه أبوه بكاء مرا.
... وقد بلغ الحزن بداود مبلغا دفعه أن يهرب من وجه الشعب.. وتروي التوراة في هذا الصدد أن "جميع الشعب كان في خصام في جميع أسباط إسرائيل قائلين إن الملك قد أنقذنا من يد أعدائنا وهو نجانا من يد الفلسطينيين والآن قد هرب من الأرض.. الخ" وهذه واقعة أخرى تثبت الوجود القومي الفلسطيني كما تؤكد فشل الغزوة اليهودية في فلسطين، فقد اعتبروا أن داود قد نجا اليهود من الفلسطينيين.. واعتبروا ذلك من مفاخره الكبرى.
... ولكن التوراة تعود فيما بعد، في الإصحاح الحادي والعشرين، لتناقض نفسها بنفسها فتشير إلى وجود "الجبعونيين" وتقول عنهم أنهم "ليسوا من بني إسرائيل بل من بقايا الأموريين".. وتعود التوراة في الإصحاح نفسه لتقول "وكانت أيضا حرب بين الفلسطينيين وإسرائيل فانحدر داود وعبيده معه وحاربوا الفلسطينيين فأعيا داود".
... والكلام عن "الجبعونيين" "وبقايا الأموريين" فيه الدلائل القاطعة على استمرار الوجود العربي في فلسطين حتى في عهد داود الملك الثاني لمملكة إسرائيل، والجبعونيين هم أهل جبع وهي إحدى مدن فلسطين بهذا الاسم إلى اليوم – أما الأموريون فهم المعروفون تاريخيا بأنهم من القبائل العربية.(1/182)
... وتظل التوراة تذكر الفلسطينيين في مواضع متعددة إلى أن ينتهي سفر صموئيل الثاني، وكل هذه الإشارات المتعاقبة، بعضها وراء بعض، تؤكد حقيقة تاريخية لا يرقى إليها الشك، أن الأمر لم يثبت لليهود في فلسطين وأن مقاومة أهل البلاد الشرعيين انتقلت من جيل إلى جيل.
... وتقول التوراة فيما بعد "وأنزل الرب ضربات على إسرائيل" بسبب انحرافهم عن جادة الحق، وخطر لداود أن يبني مذبحا للرب، ويقدم قرابين حتى ترتفع الضربة عن إسرائيل، ولم يجد داود الملك النبي أرضا له يبني عليها المذبح.
... وقد بلغ من ضعف الوجود اليهودي في فلسطين عامة وفي القدس خاصة أن داود لما أراد أن يبني المعبد (المذبح) لم يكن يملك أرضا يبني عليها المعبد، والتوراة تعترف بذلك من غير مواربة.. وتقول التوراة في نهاية سفر صموئيل أن داود ذهب إلى أرونة اليبوسي ليشتري بيدره ويبني عليه مذبحا للرب، وأراد أرونة أن يقدمه للملك داود مجانا.
... وهنا تروي التوراة أن داود قال لأرونة "لا بل أشتري منك بثمن ولا أصعد للرب محرقات مجانية فاشترى داود البيدر والبقر بخمسين شاقلا من الفضة، وبنى داود هناك مذبحا للرب وأصعد محرقات وذبائح سلامة واستجاب الرب من أجل الأرض فكفت الضربة عن إسرائيل".
... وهذا المذبح، هو الذي بني في موقعه الهيكل المعروف في عهد سليمان، كما تذكر التوراة في أسفار لاحقة.
... وهو الهيكل الذي يفاخر به اليهود عبر العصور والأجيال، لم يجد اليهود أرضا له حتى بنوه على بيدر العربي الفلسطيني اليبوسي، أرونة.
... ولولا بيدر أرونة لما كان لليهود هيكل ولا معبد، ولا قام الآشوريون والبابليون والرومان بهدمه حتى سوَّوا به الأرض، ليصبح بيدر العربي الفلسطيني فيما بعد المسجد الأقصى المبارك، رد الله غربته وأعاده مع فلسطين كلها إلى حظيرة العروبة والإسلام.
الفصل الثالث عشر
هؤلاء هم اليهود
وهذه مملكتهم
هؤلاء هم اليهود
وهذه مملكتهم(1/183)
"اليهود ليس لهم فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء حضاري، ومملكتهم لم تكن سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا وهذا أعظم من تاريخهم".
هذا ما قاله واحد من أشهر مؤرخي العصر الحديث "هـ . ج. ويلز"، المؤرخ البريطاني المعروف.
أما بيجن، وهو أشهر الإرهابيين الصهيونيين في إسرائيل، فقد قال ما يلي في خطابه إلى الشعب المصري:
"كانت مصر وإسرائيل حليفتين صديقتين، وحليفتين حقيقيتين، ضد عدو مشترك قادم من الشمال".
وفي هذه الجملة، حشر بيجن أباطيل الصهيونية بالجملة، لا بالمفرق، كما يقول الباعة، وقد ورد ذلك في خطابه إلى الشعب المصري، تعليقا على المبادرة إياها، ولا أذكر اسمها، فإن المواطن العربي بات يعرفها دون أن يذكر اسمها..
وتشمل هذه الجملة على مجموعة كبرى من الأكاذيب، عارية عن الصحة بصورة مطلقة، بل إن الصحة تنفر منها ولا تقرها، والتاريخ نفسه ينقضها وينبذها.. ولا نستطيع العثور على مرجع تاريخي واحد يؤيدها ولو بصورة عابرة أو هامشية.. فهي باطل صراح وكذب غير مباح..
وحين يزعم بيجن أن مصر وإسرائيل كانتا حليفتين وصديقتين، يجب أن لا يغيب عن البال أن الأحلاف والصداقة بين الشعوب تعتبر من الأمور التي تدونها الكتب والمراجع العلمية، فهي ليست سرا من الأسرار ولكنها من الوقائع العامة الذائعة التي يتداولها الناس، ولا يستطيع رئيس وزراء العدو أن يدلنا على مصدر واحد يتحدث عن الصداقة والمحالفة بين مصر وإسرائيل في أية حقبة من حقب التاريخ، القديم أو الوسيط أو المعاصر.(1/184)
والمصادر التاريخية، والتوراة في المقدمة، إنما تتحدث عن حالة من العداء والجفاء بين العبرانيين والمصريين، ويكفي أن نستذكر أن العبرانيين قد وفدوا على مصر لاجئين، هاربين من القحط في فلسطين، وما كان من فرعون مصر إلا أن أكرمهم وأقطعهم "دسم الأرض" كما تقول التوراة، فبنوا وزرعوا وأقاموا في مصر (430) عاما وهم في عزلة تامة عن الشعب الذي أكرم وفادتهم.. ولما هموا بالخروج من مصر سلبوا من النساء المصريات حليهن من الذهب والفضة وفروا بها في ظلمة الليل، ليصهروها في صحراء سيناء ويجعلوا منها عجلا ذهبيا له خوار يعبدونه من دون الله..
وتمر السنون بعد ذلك فإذا باليهود يصبحون جواسيس وعملاء لدولة فارس يعاونونها على احتلال مصر في عهد قمبيز.. وهذا هو الحلف الوحيد لليهود في تاريخهم المليء بالمخازي والمساوئ... إنه حلف على مصر، لا مع مصر.. حلف مع فارس لاحتلال الأرض المصرية التي آوتهم وأمنتهم من خوف وأطعمتهم من جوع.
... تلك هي الحقائق العامة التي يعرفها الناس العاديون.. ولكن التاريخ مليء بالوقائع التفصيلية التي تثبت أن فلسطين كانت ولاية مصرية قبل الغزوة الإسرائيلية وبعدها، وأن سليمان الحكيم بالذات الذي كان الملك الثاني "للدولة الإسرائيلية" كان عاملا من عمال الفرعون يستنجده بقواته العسكرية كلما اضطرب حبل الأمن من حوله.. ولنسر في ركاب التاريخ بصبر وأناة.. في قراءة واعية للتاريخ، فإن ذلك سيقودنا في النهاية إلى أن المقارنة بين مصر وإسرائيل هي مقارنة بين الفيل والنملة.. وأن ذكر مصر وإسرائيل مرادفين لبعضهما البعض فيه أكبر إهانة للتاريخ ولمصر. ولعل ذلك أشبه أن يكون بالمقارنة بين منغوليا والاتحاد السوفييتي، أو بورتوريكو والولايات المتحدة، في محاولة للجمع بين الأقزام والعمالقة ولو في معرض واحد من معارض الشمع المعروفة.(1/185)
... ولكن ما العمل، فإن مصر قد هانت على نفسها في ظل المبادرة إياها، فكان أن تجرأ بيجن على إهانتها والنيل منها، وزاد من هذه الإهانة أن أحدا من كتاب مصر المعروفين، وما أكثرهم، لم يخرج على الناس شاهرا قلمه ولسانه ليرد هذا الدعي إلى جحره، ويصد هذا الفاجر عن فجره!!
... وأنَّى يكون الحلف والصداقة بين المصريين والإسرائيليين، وفلسطين بأسرها ومعها بلاد الشام كانت تحت السيادة المصرية عبر عدة قرون، وحين تقلب أيدينا صفحات التاريخ القديم نرى أول ما نرى أن (بيبي الأول) من ملوك الأسرة السادسة (2625-2475 ق.م.) قد جهز حملة عسكرية بقيادة (أوني) مؤلفة من عشرة آلاف جندي، وبسط سلطانه على جنوبي فلسطين في النقب وحول البحر الميت، وهذه كلها تقع الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي غصبا وعدوانا.
... ويبدو أن قائد هذه الحملة كان شاعرا مبدعا، فقد سجل انتصاراته في قصيدة عصماء، مدونة في الكتابات المصرية القديمة تحدث فيها أنه أزال قلاع العدو، ودمر مدنهم وقراهم وعاد بالعديد من الأسرى، وأن جلالته (الفرعون) قد أثنى على قائده.
... ويحدثنا التاريخ بعد ذلك أن، القائد الشاعر قد انطلق عبر البحر الأبيض المتوسط إلى حيفا على رأس حملة تأديبية، حيث نشبت ثورة عند جبل الكرمل، فنزلت القوات المصرية على شواطئ فلسطين ووطدت السيادة المصرية وأعادت الأمن إلى نصابه، واعتبرت هذه الحملة أول عملية إنزال في تاريخ الحروب، اشترك فيها الأسطول والجيش معا بتنسيق وانسجام بارعين!!(1/186)
... ولم تكن فلسطين ساحة حرب لمصر فحسب، ولكنها كانت ميدان اتصال وعلاقات اقتصادية وتجارية، والتاريخ يروي لنا كيف ربطت التجارة برباط وثيق بين مصر وفلسطين، وتطورت تلك العلاقات إلى صلات سياسية، من ذلك أن رسل "سيزوستريس الأول" (1970-1935 ق.م.) قد استطاعوا أن يجوبوا البلاد الفلسطينية حتى مدينة جازر التاريخية الشهيرة.. وانتشرت تبعا لذلك اللغة المصرية في فلسطين وأصبحت هيبة الفرعون تسود البلاد الفلسطينية تماما كما كانت بالنسبة إلى الديار المصرية.
... بل إن أقدم رواية عن غزو المصريين لبلاد الشام ترجع إلى عهد "سيزوستريس الثالث" (1887-1849 ق.م.) وتذكر الآثار أن هذا الفرعون قام بحملة على البلاد الفلسطينية ومعه قائده (خو) وامتدت السيادة المصرية يومذاك حتى نابلس المدينة المعروفة في فلسطين الواقعة الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي بغيا وعدوانا..
... وفي الآثار المصرية نقرأ لهذا القائد تقريرا عسكريا يذكر فيه أن جلالة الملك قد أهداه عصا ذهبية ومدية مطعمة، بالذهب والفضة، "كل هذه الهدايا قدمها إلى جلالة مليكي بيده"، كما يقول القائد معتزا ومفاخرا بهذا التقدير العظيم على انتصاراته..
... وقد وردت في النقوش المصرية أسماء المدن التي كانت تحت السيادة المصرية في ذلك العهد، ومنها يظهر أن البلاد الشامية الواقعة جنوبي النهر الكبير ودمشق قد استمرت تحت الحكم المصري إلى أواخر عهد الأسرة الثانية عشرة (2000-1788 ق.م.).(1/187)
... وتنقلنا صفحات التاريخ بعد ذلك إلى عهد "أحمس" (1580-1557 ق.م.) مؤسس الأسرة الثامنة عشرة لتسرد لنا أخبار غزوة هذا الفرعون إلى أرجاء فلسطين وديار الشام كلها.. حتى نهر الفرات.. ويروي التاريخ تفاصيل دخول القوات المصرية إلى سهل مرج بني عامر والوهاد التي تفصل بين بحيرة طبرية وبحيرة الحولة ومنها إلى المضايق الواقعة قرب جبل الشيخ وجبال لبنان الشرقية ومنها إلى وادي الليطاني وبعلبك ووادي نهر العاصي.. وكثير من هذه المناطق واقعة الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان.
... وجاء عهد "تحتمس الثالث" (1501-1447 ق.م.) فانطلق هذا الفرعون على رأس جيوشه في ربيع عام 1479 ق.م. من مدينة "تارو" قرب القنطرة مخترقا سيناء إلى غزة، ومنها إلى يافا فاحتلها واقتحم بعد ذلك مدينة مجدو الفلسطينية المعروفة في التاريخ بأنها تساوي ألف مدينة.
... وفي هذه المعركة انتصر المصريون على ملك قادش وغنموا فيها مغانم كثيرة أحصتها الآثار المصرية فبلغت تسعمائة وأربع وعشرين عَجَلة حربية (دبابة ذلك الزمن) ومن ضمنها عجلتا ملك قادش ومجدو (وهما مصنوعتان من الذهب والفضة) بالإضافة إلى النفائس الثمينة التي لا حصر لها ولا عدّ..
... ويعتبر تحتمس الثالث الذي يلقبه مؤرخو الغرب بنابليون الشرق، أول رجل في التاريخ أسس إمبراطورية حقيقية. فقد شملت سورية وأعالي الفرات.. وكان من المصادفات التاريخية في القرن التاسع عشر بعد الميلاد، أن يقوم نابليون الغرب باحتلال المواقع نفسها التي احتلها نابليون الشرق في فلسطين.. كما كان مقدرا كذلك للمارشال "اللنبي" قائد حملة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى أن يخوض معركته الأخيرة مع العثمانيين في مرج بني عامر في فلسطين وهو نفس الميدان الذي انتصر فيه تحتمس الثالث في معركته الفاصلة مع الحثيين. والحثيوّن هؤلاء، هم "القادمون من الشمال" الذين يشير إليهم رئيس وزراء العدو في خطابه.(1/188)
... إنهم قادمون من الشمال حقا فهذا صحيح.. ولكنه ليس صحيحا إطلاقا أن اليهود كانوا حلفاء المصرين في هذه المعركة أو في أية معركة أخرى منذ بدء الخليقة إلى أن خرج الإسرائيليون سبايا من فلسطين على يد الكلدانيين والآشوريين.
... ولكن الحقيقة التاريخية أن ملوك الكنعانيين (الفلسطينيين) كانوا يستنجدون بملوك مصر، كلما أغار على بلادهم المغيرون، وقد عثر الباحثون في "تل العمارنة" بمصر عام 1778 على نحو ثلاثمائة لوحة خزفية، عرفت بالمراسلات الدبلوماسية وهي التي وجهها حكام فلسطين يستنجدون فيها بملوك مصر كي يعاونوهم لصد غارات الحثيين.. ومعروف أن العمارنة هم قبيلة عربية من القحطانية استوطنت مصر في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي.
... ولهذا فإن الحلف الصحيح، الثابت في التاريخ بين مصر وفلسطين، كان في عهد الكنعانيين أصحاب فلسطين الأصليين لا مع العبرانيين الغزاة المعتدين.. هذا هو التاريخ الصحيح.. وليس في كلام بيجن ذرَّة صادقة من التاريخ.
... لكن أروع فترة مرت في تاريخ العلاقات بين مصر وفلسطين وديار الشام، كانت في عهد رعمسيس الثاني (1301-1224 ق.م.) فقد جهز رعمسيس جيوشه الجرارة فزحف إلى ديار الشام فاجتاز فلسطين ووصل إلى نهر العاصي في سوريا فمدينة قادش واستمرت الحرب سجالا ستة عشر عاما ووقع الصلح بينهما عام 1269 ق.م.
... وبعد أن وضعت الحرب أوزارها جاء ملك الحثيين إلى مصر ومعه ابنته ليزفها زوجة لرعمسيس وشهدت مصر مهرجانات واستقبالات ضخمة فاقت ما جاء بعدها من أفراح في بغداد في عهد هارون الرشيد.(1/189)
... ولم تكن الحرب هي الجانب المهم في هذه الحملة، ولكن الصلح الذي انتهت إليه كان هو الحدث التاريخي البارز.. فقد كشفت المدوَّنات الأثرية المصرية عن حدث تاريخي هام في العلاقات الدولية ذلك أنه انعقد بين مصر والحثيين معاهدة صلح وسلام دائم وجاء فيها بالنص أن قادش وجبيل (اللبنانية) هما الحد الفاصل بين الدولتين ما كان منهما شمالا فهو للحثيين وما كان منهما جنوبا فهو لمصر، وكانت هذه الوثيقة أول معاهدة مدونة في التاريخ، تنظم العلاقات وتضع الحدود بين دولتين عظيمتين.
... وواضح من هذه المعاهدة الدولية التي عثر عليها بنصوصها الكاملة، أنها اعتبرت فلسطين بأسرها وديار الشام كلها أرضا مصرية، وجزءاً لا يتجزأ من الدولة المصرية.. وهذه المعاهدة الدولية القديمة هي إحدى الدلائل الساطعة التي تثبت بُطلان الدعاوى الصهيونية من أساسها.
... ولا يحسبنَّ القارئ أن الصلة بين مصر وفلسطين كانت قائمة على الحروب والغزوات التي نقرأ عن الكثير من أمثالها في تاريخ العصور القديمة، فالواقع أنه خلال أربعة قرون ويزيد كان تاريخ فلسطين ينبئ بأنها ولاية مصرية، أو بالتعبير الحاضر (محافظة مصرية) فقد كان لفرعون مصر تحتمس مندوب – نائب – للمنطقة كلها، كما يقول المؤرخ الشهير جون ولسون، وكان لمصر مفتشون في المدن الهامة للإشراف على الحكام المحليين، وكانت غزة هي المركز الرئيسي للإدارة.. وكان مبعوثو الملك إلى جميع البلاد بمثابة رسل وسفراء يحملون رقعا من الطين محررة باللغة الدبلوماسية في تلك الأيام ويصلون بها حتى أواسط الأناضول، ويسيرون بها من تل العمارنة إلى جبيل في شمال لبنان.. ومن أراد المزيد من هذه الوقائع فليرجع إلى كتاب بلادنا فلسطين لمؤلفه الكبير الأستاذ مصطفى الدباغ.(1/190)
... ومن المدَّونات الأثرية المصرية عبارة بالغة الدلالة كتبها حاكم القدس المصري جاء فيها قوله "لا أبي ولا أمي بل يد الملك أجلستني في بيت آبائي" وفي ذلك دليل واضح على أن بيت المقدس وهي حاضرة فلسطين التاريخية كانت تحت السيادة المصرية مثلها في ذلك مثل حاضرة مصر نفسها.
... وكانت السفن تروح وتغدو بين مصر وشواطئ الشام تحمل خيرات هذا القطر إلى ذاك، وذاك إلى هذا.. وفي مراكز الحكومة في فلسطين وبلاد الشام كانت تشاد هياكل مصرية، تنصب فيها تماثيل آلهة مصر وفراعنتها.. تماما كما يجري في المدائن المصرية.
... ومن الوقائع الطريفة أن حاكم يافا واسمه تحوتي، كان أول حاكم لسوريا وكان لقبه "حاكم البلاد الشمالية".. والبلاد الشمالية هو التعبير السابق لتعبير القطر الشمالي الذي عرفت به سورية أثناء الوحدة السورية المصرية، بعد أربعين قرنا من الزمان، وهكذا يكرر التاريخ نفسه، ويعيد الوحدة ذاتها..
... ويقول المؤرخ الفلسطيني الكبير الأستاذ مصطفى الدباغ في كتابه الرائع (بلادنا فلسطين) "وكانت اللغة المصرية القديمة منتشرة في جميع المدن الفلسطينية المشهورة وخاصة في بيسان كما كانت اللغة الكنعانية منتشرة في كثير من مدن مصر الشمالية".. وفي هذه المدينة العربية، "بيسان" الواقعة اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي، كشفت الحفريات عن بقايا قلعة مصرية وجدت عليها لوحات تعود بتاريخها إلى عهد سيتي الأول ورعمسيس الثاني كما عثر فيها أيضا على تمثال لرعمسيس الثالث.. وكذلك فقد عثر في "مجدو" المدينة التاريخية الشهيرة على قاعدة لتمثال رعمسيس السادس، ووجد نقش عليه اسم شيشق الفرعون المصري.. وفي سبسطية في أواسط فلسطين وجدوا إناءً فاخراً من المرمر عليه اسم "اوسركون الثاني" (870-847 ق.م.) من ملوك الأسرة الثانية والعشرين.(1/191)
... ومن المهم أن نلاحظ أن هذا التاريخ يأتي بعد الغزوة العبرية لفلسطين التي بدأت في نحو 1100 ق.م. .. ولا مجال في هذا الفصل لسرد أخبار الغزوة العبرية لفلسطين ومقاومة أهل البلاد الأصليين للغزاة المعتدين فقد سردنا ذلك كله بالتفصيل في الفصول السابقة، ويكفينا الآن أن نشير إلى أن الإمبراطورية المصرية، كما يحدث عادة في تاريخ الإمبراطوريات قد أصابها الوهن والضعف ووجد العبرانيون فرصتهم فاجتاحوا البلاد، وكما يقول المؤرخ المصري الكبير سليم حتي "لم يكن في مقدور العبرانيين أن ينالوا أي نجاح في تثبيت أقدامهم في هذه البلاد لو كانت الإمبراطورية المصرية قادرة على استعمال كل نفوذها هناك" (1) .
... ويضيف المؤرخ الفلسطيني الأستاذ مصطفى الدباغ إلى ذلك قوله "وأهم الأسباب التي ساعدت على قيام المملكة اليهودية فترة الفراغ التي كانت تمر بمصر وآشور (العراق) وضعف الدولة المصرية التي استشرى فيها الفساد وساد عليها الانحلال... وانقطعت جيوش مصر عن أن تكون قوة ضاربة في ميادين الفتح والغزو" (2) .
... ويكاد التاريخ أن يكرر صفحاته، وتكاد الأسباب التي أدت إلى قيام إسرائيل في عام 1948 أن تكون هي الأسباب نفسها التي أدت إلى قيام مملكة اليهود قبل ذلك بثلاثين قرنا.
... ومع هذا فإن "المملكة اليهودية" لم تعمر أكثر من سبعين عاما، هي عمر داود وسليمان معا، اللذين حكما جزءاً من فلسطين لا كلها (1004-923 ق.م.).
... وما أن توفى الملك الثاني سليمان حتى دب الشقاق بين قبائل العبرانيين وانقسمت المملكة إلى اثنتين، المملكة الإسرائيلية في الشمال والمملكة اليهودية في الجنوب.
__________
(1) مصر القديمة، 9/505
(2) بلادنا فلسطين، ج2، ص 558.(1/192)
... والواقع التاريخي أنه لم تكن في البلاد ممالك ولا ملوك، فلم يعد الأمر أن يكون مجرد عشائر عليها شيوخها، فقد قامت بين المملكتين حروب وفتن دامت خمسين عاما حتى أن جيش المملكة الشمالية تمكن في إحدى حروبها ضد المملكة الجنوبية من دخول القدس فهدم قسما من أسوارها ونهب ما في الهيكل والقصور الملكية من كنوز وذهب وفضة. وقد فصلت التوراة كل أخبارهما، حتى انتهى أمرهما بالفناء الطبيعي ولم يتركا لهما أثرا في البلاد يدل على وجودهما لا حصنا ولا قلعة، وقد فشلت كل الحفريات في فلسطين أن تجد لهما أثرا.
... ومن الناحية الدينية، وهي التي يعتمدها رئيس وزراء العدو باستمرار، فإن ملوك هاتين الدولتين ومعهم قبائلهم، قد تخلوا عن الوحدانية، وانصرفوا إلى عبادة الأوثان، ويذكر التاريخ أن يربعام أول ملوك الدولة الإسرائيلية أقام عجلين من الذهب على نحو ما كان يفعل المصريون.
... وكانت كل دولة أقرب إلى العصابة منها إلى أي شيء آخر، فقد تولى الملك في الدولة الإسرائيلية 19 ملكا، عشرة منهم قتلوا صرعى على أيدي شعبهم كما كان الأسر نصيب الآخرين.. وكانت كل منهما تستعين بالدول المجاورة للانتصار على الأخرى.
... ويرجح أحد المؤرخين أن أحد ملوك الدولة الإسرائيلية هو عربي يعود أصله إلى الأنباط واسمه (عمري) وتذكر التوراة أن العرب والفلسطينيين قد تمكنوا من اقتحام القدس وغنموا ما في القصور الملكية من نفائس وكنوز وسبوا أولاد الملك ونساءه.
... ورغما من وجود ما يسمى بالمملكتين والملوك، فقد بقيت فلسطين تابعة لمصر وتحت نفوذها، ففي أول عهد مملكة إسرائيل طلب ملكها "يربعام" من ملك مصر أن يحميه من عدوه "رحبعام" ملك المملكة الجنوبية فما كان من شيشق فرعون مصر إلا أن أنجده وتوجه إلى فلسطين فدخل القدس وغنم ما في هيكلها وخزائنها من كنوز وأموال، وسار فرعون مصر بعد ذلك شمالا حتى وصل إلى بحيرة طبرية وشرقي نهر الأردن.(1/193)
... ولم تكد تنتهي غارة فرعون مصر على المملكة الإسرائيلية حتى تعرضت لسيطرة الآشوريين في العراق وهكذا وقع اليهود بين فكي الكماشة، مصر من جانب، والعراق من جانب آخر مما حمل المؤرخ البريطاني الشهير على القول.. "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار.. ومن الأول إلى الآخر لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وأشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم".. وذلك هو قول "هـ. ج. ويلز" تصدرنا به هذا الفصل، وعلى غرار هذا القول الرصين، فقد أضاف "غوستاف لوبون"، العلامة الأوروبي الكبير قوله "لم تكن فلسطين غير بيئة مختلفة لليهود".
... وكانت خاتمة المطاف في هذه الأحداث، بل كانت خاتمة المطاف في حياة اليهود في فلسطين في ظل المملكتين، أن اجتاح الملك العراقي "بختنصر" فلسطين بأكملها واستولى على القدس في عام 589 ق.م. فأحرق الهيكل وبيت الملك ودمر المدينة حتى أصبحت أكواما من الأنقاض، وسبى من أهلها زهاء خمسين ألفا حملوا إلى بابل، وزال الوجود اليهودي من فلسطين فلم يبق منه عين ولا أثر..
... ويبدو واضحا من هذا السرد التاريخي الموجز أن العبرانيين لم يكن لهم وجود عسكري إطلاقا في البلاد، فلم يشتركوا في أية حرب مع مصر حتى يقال أنها كانت حليفة حقيقية لمصر كما يتبجح رئيس وزراء العدو في خطابه، فإن الأحلاف لا تكون إلا في حالة الحرب ومع شعب يمكن أن يوصف بأنه محارب حتى يستطيع أن يؤدي لحليفه مساهمة في ميدان القتال، وإلا كان الحلف كلاما في الهواء أو ضربا من الخيال.
... والتاريخ القديم للشرق الأوسط لم يتحدث إلا عن حروب المصريين والحثيين والبابليين والآشوريين والفرس في تلك الحقبة من الزمان، ولم يشر بكلمة واحدة إلى مشاركة اليهود في هذه الحروب كحلفاء.. بل ورد ذكرهم كعملاء.. وجواسيس لا أكثر ولا أقل.(1/194)
... وعلى هذا فإن إلحاق اليهود بالمصريين كحلفاء، كما أراد رئيس وزراء العدو في خطابه إلى الشعب المصري، إنما هو إهانة لمصر وتاريخها وحضارتها، وهو عدوان صارخ على الحق والصدق، فلم تكن فلسطين كما رأينا، إلا ولاية مصرية قبل الغزوة العبرانية وبعدها.. ولم يكن تاريخها إلا قطعة من تاريخ مصر، جزء من الكل. وكما يقول الفقهاء فإن "التابع تابع" ولا يعقل أن تكون إسرائيل حليفا أو في منزلة الصديق، وفي هذا العصر الذي تصنف فيه الدول إلى عظمى وعملاقة وصغرى نامية أو متخلفة، لا يمكن أن تقوم مقارنة دولة صغيرة في أفريقيا بالولايات المتحدة أو بالاتحاد السوفييتي، وإلا قلبنا الحقائق رأسا على عقب.
... وفي هذا الصدد فإننا نقرأ عن الفيلسوف المؤرخ "غوستاف لوبون" قوله: "لا يستحق اليهود، بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة"، ومصداقا لهذا القول فقد كشفت النقوش والآثار في كل من مصر والعراق وسوريا والأردن أن معظم ما ورد في العهد القديم، وهو الكتاب المقدس عند اليهود، مأخوذ من القصص الشعبي الذي كان سائدا في عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفينيقيين والكنعانيين. وأن اليهود لم تكن لهم حضارة خاصة بهم، وقد برعوا في شيء واحد هو اقتباس الحضارات السابقة ونسبتها إليهم، حتى غدا شعارهم أن الحقيقة ليست بنت البحث ولكنها بنت التكرار الكاذب.. تكرار الكذب مرة بعد مرة.. وذلك كله اعتمادا على أن الآخرين مفطورون على الكسل العقلي، ويتراخون عن بذل الجهد لتكذيب الكذب واكتشاف الحق والصدق.
... والتاريخ لا يفتر عن التوكيد، مرجعا بعد مرجع، أنه لما دخل اليهود إلى فلسطين كانوا بدواً رُحَّلا يسكنون الخيام فاغتصبوا مدنها وقراها، وكما يقول سفر التثنية في الإصحاح السادس "فإنهم أخذوا بيوتا لم يبنوها، ومدنا لم يؤسسوها، وآبارا محفورة لم يحفروها، وأشجاراً مثمرة مغروسة لم يغرسوها" هكذا بالنص كما جاء في التوراة.(1/195)
... وكذلك فإن اليهود قد أخذوا عن أهل البلاد الأصليين، الكنعانيين، أساليب الزراعة وانتقلوا بذلك من الهمجية والبداوة إلى مرحلة الاستقرار والزراعة.. حتى أنهم خلعوا ملابسهم التي كانت مصنوعة من جلود الحيوانات وتعلموا من الكنعانيين الطراز الكنعاني من الملابس.
... وقد كشف عالم المصريات المؤرخ الأمريكي "برستد" عن همجية اليهود وحياتهم البدائية بما يغني عن كل جليل وبرهان فقد قال ".. وكانت مدن الكنعانيين ذات حضارة قديمة نشأت منذ ألف وخمسمائة سنة (قبل غزوة العبرانيين) ولهم منازل متقنة حوت كل أسباب الراحة والرفاهية وكانت لهم حكومة وصناعة وتجارة ومعرفة بالكتابة، وكانت لهم ديانة، وكل ذلك اقتبسه العبران السذج من الكنعانيين، وقد أحدث اختلاط الطرفين تغيرات جوهرية في حياة العبرانيين فغادر بعضهم سكنى الخيام وشرعوا يبنون بيوتا كبيوت الكنعانيين، وخلعوا عنهم الجلود التي كانوا يلبسونها وهم في البادية.. ولبسوا عوضا عنها الثياب الكنعانية المصنوعة من منسوجات صوفية زاهية، وقد اقتبسوا الحضارة الكنعانية كما يقتبس المهاجرون إلى أمريكا في هذه الأيام عادات الأمريكان وأخلاقهم وملابسهم (1) .
... ويضيف "برستد" إلى ذلك قوله "وقد اكتفي اليهود بآداب اللغة ولم يحفلوا بسواها، فلم يكونوا يعرفون التصوير بالألوان ولا نحت التماثيل ولا فن البناء، فكانوا إذا احتاجوا إلى شيء من هذه يأخذونه عن جيرانهم في مصر وفينيقية ودمشق وآشور".
... فأين موقع هؤلاء الرعاة الرحل الهمج من حضارة المصريين والآشوريين والفينيقيين، التي تعتبر المنهل الأول الذي انبثقت منه الحضارة الإنسانية وكانت أساس الحضارة الإنسانية الرفيعة المعاصرة.
__________
(1) العصور القديمة ، ص ص(177،178) .(1/196)
... والمؤرخ الأمريكي "فيليب فانس ميرز" نفى عن اليهود أي أثر حضاري، فقد قال "لم يقم العبرانيون بخدمة تذكر للعالم ولا ابتكروا أسلوبا جديدا في هندسة البناء، ويكفينا دليل على ذلك هيكل سليمان الذي يفاخر به اليهود عند كل مناسبة أو غير مناسبة، فقد بناه المهندسون والعمال الفينيقيون كما تعترف بذلك التوراة نفسها..".
... بل إن إسرائيل كلها لم يكن فيها حداد واحد كما تذكر التوراة، وكان اليهودي كلما أراد أن يحدد سكته للفلاحة، يذهب إلى العمال الفلسطينيين ليصنعوا له أدواته الزراعية.
... وقد كشفت آثار رأس الشمرة في شمال اللاذقية بسوريا أن الإنتاج الأدبي في ديار الشام هو المورد الذي نهل منه كتاب التوراة ما دونوه في أسفارهم من قصص وحكم وقصائد.. وقد أوضحت المقارنة بين ما ورد في التوراة وما جاء في المدونات الأثرية في رأس الشمرة، تطابقا يكاد يكون نسخة طبق الأصل..
... بل إن هذه المدونات الأثرية قد أثبتت أن اليهود قد أخذوا الكثير من أعيادهم وطقوسهم الدينية عن الكنعانيين حتى أنهم عبدوا آلهتهم، مما دعى أحد المحققين إلى القول بأن "الدين العبري هو طراز خاص من الدين الكنعاني" (1) .
... ويقول المؤرخ المصري الكبير سليم حتي "إن العبرانيين أخذوا من الكنعانيين الشعائر الدينية.. وأن رقص داود أمام التابوت – كما جاء في التوراة – ليس إلا صدى للرقص الكنعاني الخاص بالخصب" (2) .
... وأضاف المؤرخ اللبناني الأمريكي فيليب حتي إلى ذلك قوله "إن الموسيقيين والمغنّين الأوائل في الهيكل كانوا كنعانيين في أشخاصهم وتدريبهم وعندما بدأ داود بالموسيقا العبرانية المقدسة لم يكن هناك من نموذج يمكن اتَّباعه سوى النموذج الكنعاني" (3) .
__________
(1) كتاب اوغارت ,دار الطليعة ،بيروت.
(2) مصر القديمة، 9/533.
(3) تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/223.(1/197)
... وفي رأي الكثيرين من علما ء المصريات، أن مزامير داود نفسها، ترجع في أصولها إلى ابتهالات قدماء المصريين كما كشفت عنها المقابر والمحافر.
... وقد جاءت كلمة الفصل في هذا الصدد على لسان الفيلسوف المؤرخ الأوروبي "غوستاف لوبون" حين قال عن المجتمع اليهودي "لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأية مساهمة مهما صغرت في تشييد المعارف البشرية واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ.. وإذا ما صارت لليهود مدن في نهاية الأمر.. فقد كانوا في غاية العجز عن أن يقيموا بأنفسهم مدنهم ومعابدهم وقصورهم فاضطروا إبان سلطانهم في عهد سليمان إلى الاستعانة بالخارج، فجلبوا بنائين وعمالا لم يكن بين بني إسرائيل من يساويهم" (1) .
... هذا وغير هذا مما ورد في العديد من المراجع التاريخية يثبت بصورة علمية قاطعة أن الذي يتبجح به رئيس وزراء العدو بأن إسرائيل كانت حليفة لمصر هو كذب مفضوح، هكذا ببساطة.. ولا أقل ولا أكثر..
... بل إن وضع إسرائيل في الوطن العربي كله في التاريخ القديم لم يكن أكثر من "حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار.. وإن مملكتهم لم تكن سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم"، كما قال "هـ. ج. ويلز" في تاريخه وصدق هذا المؤرخ العظيم في كل ما قاله من قول كريم.
الفصل الرابع عشر
كانت يدا بريطانية ثم أمريكية
ولم تكن إسرائيلية أبدا
كانت يدا بريطانية ثم أمريكية
ولم تكن إسرائيلية أبدا
__________
(1) عادل زعيتر(تعريب) ،اليهود في تاريخ الحضارات الأولى.(1/198)
... ويمضي رئيس وزراء العدو بيجن في خطابه إلى الشعب المصري، فيحشر في جملة واحدة، أكاذيبه وأباطيله بالجملة، فيقول "نحن الإسرائيليين، نمد يدنا إليكم، ويدنا كما تعلمون ليست ضعيفة، وإذا ما هوجمنا فإننا ندافع دائما عن أنفسنا، كما فعل أجدادنا المكابيون وانتصروا".
... وتقف على رأس هذه المجموعة من الأكاذيب الصهيونية، أكذوبة كبرى تتسم بالتهديد والوعيد، ذلك أن بيجن يمد يده بالسلام، ولكن يصيح في وجه الشعب المصري بأن يد إسرائيل ليست ضعيفة وأنها قادرة على الدفاع وعلى النصر.
... ولا بد لنا أن نتناول هذه الأكاذيب واحدة واحدة نفنِّدها، ونضع الأمور في النصاب الصحيح.
... وأول هذه الأكاذيب التي يطلقها بيجن أن لإسرائيل يدا وفي ذلك افتئات على التاريخ، وهو التاريخ المعاصر الذي لا يزال شهوده على قيد الحياة، وخاصة ذلك الجيل الذي شهد مولد الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ثم بعد ذلك، مولد إسرائيل كدولة على أرض فلسطين..
... والذين عاصروا تلك الحقبة رأوا بأبصارهم، وعلموا بعقولهم وسمعوا بآذانهم أن إسرائيل لم تكن لها يد إطلاقا، بل لم يكن لها وجود إطلاقا، وأن الوجود اليهودي منذ بدايته كان من غير يد، وأن اليد البريطانية هي التي كانت يده التي تتحرك..(1/199)
... ولنأخذ الهجرة اليهودية مثلا.. بدأ المهاجرون اليهود يفدون على فلسطين في أوائل العشرينات عن طريق مينائي حيفا ويافا، وكانت اليد البريطانية ممثلة في السلطة البريطانية في فلسطين هي التي تتولى تسهيل هذه الهجرة اليهودية وتنشيطها والأخذ بها.. وكانت الجماهير الفلسطينية العربية تتجمع عند هذين المينائين لتصد المهاجرين اليهود وتعيدهم إلى سفنهم ليرجعوا من حيث أتوا.. وكانت السلطات البريطانية المسلحة تتصدى للجماهير العربية الفلسطينية، تمنع تجمعاتها وتفرقها، وتتولى حماية المهاجرين اليهود منذ نزولهم من البواخر إلى أن يصلوا إلى مستعمراتهم ومنازلهم، ولم يكن اليهود يجرؤون يومذاك أن ينظروا في وجوه العرب، ناهيك عن أن يمدوا أيديهم إليهم.
... ومثل ثان، المستعمرات اليهودية كانت الجماهير العربية الفلسطينية تحدق بها وتطوقها وتهاجمها، وكانت القوات البريطانية المسلحة تسارع إلى نجدة اليهود، وتهاجم الجموع الفلسطينية، وتفك الطوق عن المستعمرات اليهودية وتخرج المهاجرين اليهود من مخابئهم، ولم تكن لليهود يد يدافعون بها عن أنفسهم فقد كانت اليد البريطانية هي التي تتولى الدفاع عنهم، ولسان حال اليهود كما قال أسلافهم لموسى عليه السلام، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل ومختبئون..(1/200)
... ولنأخذ موضوع الأراضي مثلا ثالثا.. كانت السلطات البريطانية تمنح اليهود مساحات شاسعة من الأراضي العامة، ليقيموا عليها المستعمرات، وكان على هذه الأراضي كثير من القرى العربية الفلسطينية بناها وسكنها أهل فلسطين منذ القدم، ولم يستطع اليهود الوصول إليها والاستقرار فيها إلا باليد البريطانية، فقد كانت القوات البريطانية المسلحة تسارع إلى تلك القرى العربية تهدم البيوت على رؤوس أصحابها وتجليهم عن أرضهم وتسلمها إلى اليهود ليبنوا عليها مستعمراتهم، ولم تكن لليهود يد إطلاقا، وكانت اليد البريطانية هي التي تعمل على إجلاء العرب عن أراضيهم وتسلمها إلى اليهود خالية من أهلها وبيوتها ومساجدها ومقابرها.
... ولنأخذ الثورات الفلسطينية مثلا رابعا، لقد خاض الشعب الفلسطيني ضد الاستيطان اليهودي خمس عشرة ثورة خلال ثلاثين عاما من الحكم البريطاني بمعدل ثورة كل عامين وكان الشعب الفلسطيني يتصدى للمستعمرات اليهودية بكل ما أوتي من قوة. وكانت السلطات العسكرية البريطانية، هي التي تتصدى للثورات الفلسطينية وتتولى حماية المستعمرات والمدن اليهودية من الهجمات الفلسطينية. ولم تكن لإسرائيل يد إطلاقا، وكانت اليد التي تتولى حماية الوجود اليهودي كله في فلسطين هي اليد البريطانية.
... ومضى الحكم البريطاني على هذا الحال ثلاثين عاما يتولى بقواته ودماء أبنائه الدفاع عن الجالية اليهودية، يحمي الهجرة اليهودية، ويمكِّن اليهود من الاستيلاء على الأرض العربية ويقمع الثورات الفلسطينية بالحديد والنار..(1/201)
... وليس هذا فحسب، بل إن بريطانيا تولت فيما بعد تسليح اليهود وتدريبهم حتى أصبحت لهم قوة مسلحة، تجلَّت في العصابات الإرهابية التي أفشت الإرهاب في فلسطين، وكان بيجن أحد رؤساء هذه العصابات، وهو يعلم أكثر من غيره أن اليد البريطانية هي التي كانت تدافع عن الوجود اليهودي في فلسطين وأنه إذا كان هناك من نصر فإنه نصر لليد البريطانية لا لليد الإسرائيلية لا من قريب ولا من بعيد.
... وبعد اليد البريطانية، جاءت اليد الأمريكية.. فقد انسحبت بريطانيا من فلسطين،لأسباب لا مجال لسردها هنا، وحلت محلها الولايات المتحدة في حماية اليهود في فلسطين، وقامت إسرائيل كدولة، وكان الفضل الأكبر في ذلك يرجع إلى أمريكا صاحبة قرار التقسيم، وأمر الولايات المتحدة فيه مشهور أيمُّا مشهور ولا يحتاج إلى تفصيل !! فإن الدور الأمريكي في تلك الحقبة سردته مؤلفات في مجلدات.
... وما أن أصبحت إسرائيل دولة حتى تولت اليد الأمريكية مساندة إسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا، والعالم كله يعرف الشعار الذي ردده رؤساء أمريكا من ترومان إلى كارتر، وهو أن إسرائيل وجدت لتبقى، ثم الشعار الذي جاء بعده أن إسرائيل وجدت لتنمو وتزدهر والذي جاء بعده أن إسرائيل وجدت لتحارب وتنتصر، وكانت اليد الأمريكية هي التي أدت هذه المهمة الكبرى ثلاثين عاما أخرى بعد ثلاثين عامٍ من اليد البريطانية.
... لم تكن لإسرائيل يد في مجموع هذه السنين، في الستين عاما منذ صدور وعد بلفور إلى يومنا هذا، ففي الثلاثين الأولى كانت اليد البريطانية هي التي تتولى أمر إسرائيل من البذرة إلى الشجرة إلى الثمرة، وفي الثلاثين الثانية كانت اليد الأمريكية هي التي تقدم لإسرائيل كل أسباب الوجود والقوة، من الرغيف إلى الزبدة إلى المدفع.(1/202)
... وعلاقة أمريكا بإسرائيل لا يكفيها مجلد ضخم لشرح تفاصيلها ويكفي في هذا الصدد أن يعلم المواطن العربي أن نصيب إسرائيل يمثل 48 في الماية من مجموع الاعتمادات الأمريكية العالمية كما يمثل 47 في الماية من مجموع المنح الأمريكية العسكرية العالمية.
... وقد قدر الدارسون للأرقام والإحصاءات أن مجموع ما تلقته إسرائيل من المعونات الأمريكية منذ نشوئها حتى الآن يتجاوز ثلاثين مليار دولار، هذا خلاف الهبات والتبرعات التي تقدمها الجالية الإسرائيلية في أمريكا، والمعفاة من الضرائب.
... أما في المجال العسكري، فلم يعد سرا أن أمريكا قد راحت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة في تسليح إسرائيل بكافة انواع الأسلحة المتطورة حتى أصبحت في زماننا هذا أقوى من الدول العربية مجتمعة.
... وفي الحروب التي نشبت بين العرب وإسرائيل، كانت أميركا هي الطرف الحقيقي في الحرب في وجه العرب، ففي حرب 1967 كانت أمريكا هي التي أعطت النور الأخضر لإسرائيل للهجوم الخاطف على مصر ومطاراتها، مما أدى إلى احتلال سيناء والجولان وقطاع غزة والضفة الغربية وبيت المقدس.
وفي حرب أكتوبر 1973 استنفرت أمريكا كل قواتها النووية وغيرها لتمنع القوات المصرية والسورية من اجتياح إسرائيل وتدميرها وكان الجسر الجوي بين أمريكا ومطار العريش ينقل المعدات الأمريكية رأسا إلى الميدان الساخن، هذا فضلا عن احتشاد الأساطيل الأمريكية على شواطئ المنطقة حتى تحول دون نصر عسكري عربي، وتغير اتجاه المعركة إلى نصر لإسرائيل.
... وعلى ذلك فإنه من الصواب أن نقول: أن الحروب التي نشبت بين العرب وإسرائيل، كانت حروبا مع أمريكا، وكانت اليد الأمريكية هي التي تحارب، ولم تكن اليد الإسرائيلية..(1/203)
... ولو أن أمريكا لم تكن طرفا في مسيرة الثلاثين عاما الأخيرة لما احتملت إسرائيل أن تبقى في الوجود ثلاثين ساعة، ولا كانت في الوجود حكومة يهودية يرأسها سفاح إرهابي من أمثال مناحيم بيجن يقول للشعب المصري "إن يد إسرائيل ليست ضعيفة وإنها قادرة على الهجوم وعلى النصر كما كان الحال في أيام المكابيين".
... وهنا لا بد لنا أن نتساءل بعد أن تحدثنا عن اليد الإسرائيلية، من هم هؤلاء المكابيون الذين يفاخر بهم بيجن رئيس وزراء العدو.. وليس لنا من يجيب على هذا السؤال إلا التاريخ.. فهو الصادق الأمين وعنده الخبر اليقين.
... المكابيون والثورة المكابية هي إحدى الأساطير اليهودية التي نسج اليهود حولها الخرافات البطولية، فدسوها في الكتب والأفلام والقصص، كما فعلوا بشأن شمشون الجبار الذي جعلوا منه بطلا خارق الشجاعة، ولم يكن أكثر من مجرم قاطع طريق كما أسلفنا في فصل سابق استنادا إلى نصوص التوراة.
... واليهود بارعون في شيء واحد: هو أنهم يكذبون بإصرار وعناد، ويجعلون الأمم الأخرى تصدق أكاذيبهم اعتمادا على الكسل العقلي عند الإنسان العادي، الذي لا يكلف نفسه مشقة البحث عن الحقيقة، وتمييز الصدق عن الكذب فيما يقرأ وفيما يسمع..
... والمكابيون والثورة المكابية، ليست إلا مثلا واحدا على هذه الحقيقة الثابتة.. فقد أصبح الإنسان العادي، كلما ذكر المكابيون والثورة المكابية، تتجسد أمامه البطولة والشجاعة..(1/204)
... والواقع التاريخي أنه لم يكن هناك مكابيون أبطال ولا ثورة مكابية ولنحتكم إلى التاريخ.. يقول التاريخ أن المكابيين قد ظهروا على مسرح التاريخ في العهد الذي كانت فيه فلسطين تحت الحكم اليوناني حوالي القرن الثالث قبل الميلاد.. ففي عهد البطالسة أثناء حكم بطليموس الرابع، بعد انتصاره في موقعة رفح عام 217 ق.م.، حدث انقسام في التجمع اليهودي وانقسموا إلى فريقين: الأول يريد أن ينتفع بالمدينة اليونانية ويقتبسها، وفريق آخر كان يعارض في هذا الاتجاه الحضاري ويريد الإصرار على التقاليد القديمة والانعزال عن المجتمع. ولم يكن هذا الإنقسام غريبا في بابه فإن التاريخ اليهودي كله كان تاريخ صراع بين الاندماج والعزلة، ولم تكن الصهيونية إلا حركة عدائية للاندماج واتجاها عنيفا نحو العزلة فأخذ الفريق الانعزالي المتعصب يتصدى للفريق المتحضر مما اضطر ملك البطالسة السالف الذكر أن ينصِّب على فلسطين ولاة من أولي الحزم والشدة..
... وكان من نتيجة ذلك أن ثار الفريق المتعصب بقيادة العائلة المكابية عام 167 ق.م. وكان قائد الثورة هو "متيتا بن يوحنا"، وبعد وفاته تولى أمر القيادة ابنه يهوذا مكابيوس، وسميت الحركة باسمه.
... وكانت هذه الثورة في حقيقتها ثورة داخلية بين اليهود أنفسهم، أخذت شكل العنف والاقتتال والصراع على السلطة.. أكثر مما كانت ثورة على الحكم اليوناني كما يصور دعاة الصهيونية.. وكانت (بطولات) هذه الثورة تعتمد على الفتك والبطش والغدر والتفنن في الإجرام والإرهاب..
... ولو أن القارئ العربي عاد إلى قراءة تاريخ تلك الحقبة وخاصة تاريخ "المكابيين والثورة المكابية" وتدبَّر أسبابها وأهدافها، لرآها حقبة حافلة بالإجرام ولا تستحق أن توصف بحرف واحد من حروف الثورة والبطولة.(1/205)
... وأبرز الجرائم التي وقعت في تلك الحقبة في داخل العائلة المكابية نفسها أن سمعان الابن الثاني لمتيتا بن يوحنا السالف الذكر قد قتله غدرا صهره زوج ابنته، وقتل معه ولديه، ربما لأنه قَبِل أن يكون حاكما وكاهنا أعلى، بتعيين من قبل السلطات اليونانية.
... ويذكر التاريخ عن "اسكندر جنيوس" أحد رجال العائلة المكابية، أنه كان من أشد الناس أنانية ووحشية، ومن أقبح ملوك اليهود في التاريخ.. وقد تميَّز حكمه بالمؤامرات والمنازعات والصراعات الدموية بين الطائفتين اليهوديتين المعروفتين الصدوقيين والفريسيين (1) .
... وجاءت زوجته "الكسندرا" وتولت الحكم من بعده فقلبت سياسة زوجها رأسا على عقب وساندت الفريسيين على خصومهم واشتد الصراع بين الطائفتين المذكورتين، كما تقول دائرة المعارف البريطانية (2) .
... وبعد هذه الزوجة الشريرة، جاء ابنها هيركانوس الثاني ونصبته الكاهن الأعلى وأصبح حاكما اسميا، وانقضت أيامه في حروب أهلية مع شقيقه ارستوبولس الثاني وانتهى الأمر بسقوطه عن العرش، ذلك أن شقيقه هذا قد استولى على معظم مواقع "الدولة" اليهودية واقتحم بيت المقدس.
... ومن أبشع صفحات تاريخ العائلة المكابية أن أحد رؤسائهم وهو هركانوس قد أكره الأدوميين سكان جنوب فلسطين على التهُّود، وقد فعل مثل ذلك كاهنهم اسكندر جنيوس السالف الذكر فأكره سكان الجليل على اعتناق اليهودية.. وقد اعتبر المؤرخ العالمي "توينبي" هذا الحدث بأنه أقدم حوادث التعصب الديني في التاريخ.
... ويضيف التاريخ إلى ذلك أن أرسطو بولس الأول بن هركانوس المشار إليه أعلاه، قد ارتكب أشنع الجرائم فقد ترك أمه تموت جوعا في السجن وبلغ به الحسد أن قتل أحب اخوته اليه وسجن الآخرين (3) حتى يصفو له الجو ولا ينازعه في الملك أحد .
__________
(1) الأستاذ مصطفى الدباغ ، بلادنا فلسطين.
(2) دائرة المعارف البريطانية ، المجلد 14 ، ص 549 .
(3) الأستاذ مصطفى الدباغ ،بلادنا فلسطين.(1/206)
وفي مرجع تاريخي , نقل عنه الأستاذ مصطفى الدباغ فكشف النقاب عن جرائم المكابي اسكندر الآنف الذكر وقسوته الوحشية , ذكر أنه فتح مدينة كان العصاة تحصنوا فيها وقبض منهم على 800 رجل وأتى بهم إلى أورشليم وصلبهم جميعاً في يوم واحد واستحضر نساءهم وأطفالهم فأبسلهم (قتلهم ) أمام عيونهم , وصنع في ذلك اليوم مأدبة لنسائه وسراريه في مكان مشرف على القتلى , فكان هذا المشهد الأليم لهن من أسباب المسرة وكان ذلك سنة 86ق م (1) .
ونحمد الله أن منح هؤلاء الدارسين الأناة والصبر في نبش التاريخ لنجد بين أيدينا مثلا حيا عن الإرهاب اليهودي ممثلا في سيرة واحد من ابرز المكابيين , لنقدم هذا المثل شاهداً في وجه ارهابي آخر معاصر هو رئيس وزراء العدو مناحيم بيغن .
ويضيف الأستاذ الدباغ إلى ذلك قوله " وتبع استيلاء اسكندر على غزة عام 96ق م مذابح مخيفة أدت إلى تحول الشاطيء المزدهر بين غزة وعسقلان إلى صحراء بلقع "
وتوالت الأحداث بعد ذلك وانتهت الدولة المكابية التي يفاخر بها بيجن رئيس وزراء العدو صريعة المؤامرات اليهودية فيما بين اليهود أنفسهم .
وصفوة التاريخ الذي رست عليه هذه الحقبة من حياة اليهود أنه لم تكن هناك بطولات ولا ثورات , وأن الامر لم يكن يعدو نشوب صراعات ومنازعات بين هذه العائلة المكابية ليكون هذا أو ذاك كبيرها وكاهنها الأعلى يتصدرها بالاغتيال والاقتتال أو بأمر من السلطة اليونانية , وهذه هي كل الحكاية في كلام مختصر ومفيد .
__________
(1) يوسف إلياس الريس، تاريخ سورية،المجلد الثالث .(1/207)
وهذه البربرية التي تشير إليها المراجع العربية قد أكدها مؤرخ بريطاني شهير هو " هـ. جـ. ويلز " حين وصف حكم اليهود في القدس والسامرة بأنه كان " قصة حروب وصراع واغتصاب وقتل بين الأخوة الحاكمين والناس ليتولى بعضهم على عروش بعض واستمرت ثلاثة قرون .. وأنها بصراحة قصة حياة بربرية .. وأن الحقيقة البسيطة هي أن اليهود ذهبوا إلى بابل بربريين وعادوا منها متحضرين .. وكانت قصتهم فواجع لا تنتهي ألا بفواجع وقصة ملوك بربريين يحكمون شعبا بربريا" (1) .
ولم يكن هذا المؤرخ الكبير مغالياً في هذا الحكم الصارم , فإن سيرة ملوك اليهود تؤيد وتبرر هذا الحكم العادل , وإلى المواطن العربي بعض الأمثلة مستمدة من تاريخ اليهود أنفسهم، ومن توراتهم.. في عهد "المملكة اليهودية" نشبت الحرب بين رحبعام ويربعام ملك المملكة الإسرائيلية واستمرت طويلا، وتصفها التوراة بقولها "وكانت حروب بين رحبعام ويربعام كل الأيام" (2) وكانت مدة حكم يربعام سبع عشرة سنة.. وتذكر التوراة أن "شيشق ملك مصر هاجم أورشليم بألف ومائتي مركبة وستين ألف فارس وأخذ المدن الحصينة وأتى إلى أورشليم.. وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك. وأخذ أتراس الذهب التي عملها سليمان" (3) 2) وهكذا انهارت "المملكة اليهودية" وعادت الأرض الفلسطينية كما كانت إلى السيادة المصرية..
... وفي معبد الكرنك اكتشفت آثار عدة ملوك أسرى بين آثار شيشق ملك مصر، وكان اسم واحد من أولئك الملوك (بلودا ملك) وربما كان ذلك تحريفا لملك يهوذا رحبعام بن سليمان السالف الذكر.
__________
(1) H.G.Wells ، ص( 101-263-265).
(2) الأستاذ مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين.
(3) سفر الأخبار،ج2 ،12/15.(1/208)
... وذكرت كتابات أخرى فيها جدول المدن المحصنة التي افتتحها شيشق في المملكة اليهودية (1) مما يثبت مرة أخرى أن ما يسمى بالمملكة اليهودية لم يكن لها وجود حقيقي وأن فرعون قد غزا المملكة بأسرها بما فيها مدنها الحصينة.
... وبعد رحبعام خلفه ولده "أبيا" (915-913 ق.م.) فسار سيرة أبيه في عبادة الأوثان، واستشرت الأخلاق الفاسدة والمنكرات في عهده كما استشرت الحروب بينه وبين يربعام ملك المملكة الإسرائيلية، وهكذا كتب للحروب بين اليهود أنفسهم أن تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
... وجاء "آسا" (913-873 ق.م.) ليخلف والده أبيا، وفي عهده انتشرت الحرب مع المملكة الإسرائيلية، واستعان هذا الملك على خصمه بملك آرام (دمشق) وقدم له هدايا من الذهب والفضة الموجودة في خزائن الهيكل والقصر الملكي وانهزم ملك إسرائيل وتخلى عن جميع مكاسبه السابقة، وبذلك امتدت الحرب من الأجداد إلى الأحفاد.. وذلك دليل آخر على أن الحكم اليهودي في فلسطين قد مزقته حروب اليهود فيما بين بعضهم بعضا!!
... وخلفه ولده من بعده "يهوشافاط" (873-849 ق.م.) ووقعت معاهدة بينه وبين ملك إسرائيل.. ولكن هذه المعاهدة لم تمنع نشوب الحرب.. فقد استؤنفت على أشد مما كانت قبل المعاهدة.
... وخلفه ولده "يوهرام" (849-842 ق.م.) كما تقول التوراة فكان أكبر مجرمي ملوك اليهود على الإطلاق، وكانت فاتحة أعماله "أن قتل أخوته الستة مع عدد من رؤساء اليهود".. وفي عهده هاجمه الفلسطينيون والعرب هجوما عنيفا فدخلوا القدس واستولوا على أموال الملك في قصره وسبوا بنيه ونساءه وتقول التوراة إلا أنه "ذهب غير مأسوف عليه" وليس هذا كلامنا،
ولكنه كلام توراة اليهود (أخبار الأيام الثاني – 21).
... ثم تضيف التوراة إلى سيرة هذا اليهودي المجرم عبارة بشعة تقول عنه "إنه جعل سكان أورشليم يزنون وطوح يهوذا" (الدولة اليهودية).
__________
(1) قاموس الكتاب المقدس، 1/477.(1/209)
... وخلفه ولده "أخزيا" (842 ق.م.) ولم يطل عهده وكان مجرما ابن مجرم، فقد ذهب لزيارة خاله ملك إسرائيل وثار عليه "ياهو" وهو متمرد آخر.. فقتل الملكين الشمالي والجنوبي معا.
... واعتلت سدة الحكم "عثليا" زوجة يورام ملك يهوذا فكانت سيرتها قمة في الإجرام فقد قتلت جميع أولاد ابنها ياهو للتخلص من منافسيها على العرش، ولم يبق إلا الطفل "يوآش" فقد أخفته عن الأنظار مدة ست سنين، ولكنه ظهر فيما بعد وبويع ملكا خليفة لأبيه المقتول، وتصدت الجماهير اليهودية للملكة القاتلة فقبضت عليها وأعدمتها.
... وتوج هذا الطفل باحتفال كبير، وكانت أولى إنجازاته أنه تنكر لمن أحسن إليه فأمر بقتل أحد أولاده، ودام ملكه 27 سنة، تعرض خلالها لهجوم سوري من قبل ملك آرام مما حمله أن يدفع فدية كبرى من خزائن الهيكل وكانت خاتمته أن قتله اليهود شر قتلة، فقد قتلوه على سريره كما تقول التوراة (1) .
... وخلفه "أمصيا" ابنه (800-783 ق.م.) ووقعت حرب بينه وبين الأدوميين وتقول التوراة أنه أتى بالأسرى إلى البتراء وأمر بطرحهم من رؤوس شواهقها فتكسروا أجمعين. ثم تروي التوراة أن هذا المجرم الأثيم قد لقي مصرعه على يد اليهود فقد قتلوه وحملوه على الخيل ودفنوه مع آبائه في مدينة أورشليم (2) .
... وجاء حفيد لأمصيا هذا اسمه "أحاز بن يوثام" (735-715 ق.م.) فاستغرق في عبادة الأوثان وتقول التوراة أنه سار في طريق ملوك إسرائيل في الشر وأحرق بنيه بالنار حسب رجاسات الأمم (3) .
... ولا نطيل أكثر من ذلك فهذه سيرة ملوك اليهود، اقتتال واغتيال وحروب.. وانتهى الأمر فيما بعد بتدمير مملكة إسرائيل بأيدي الآشوريين بقيادة سرجون الثاني وحمل سكان السامرة إلى الأسر سبايا رجالا ونساءً وأطفالا..
__________
(1) أخبار الأيام الثاني، الإصحاح 24.
(2) أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح 25.
(3) أخبار الأيام الثاني ، الإصحاح 28.(1/210)
... وكان قصدنا من هذا السرد التاريخي أن نثبت بما لا يرقى إليه الشك أن ما قاله المؤرخون عن بربرية اليهود ملوكا وشعبا هو حقيقة تاريخية وردت معظم تفاصيلها في توراتهم.. تشهد عليهم أفواههم وتدين جرائمهم..
... ولم يكن المؤرخون المعاصرون وحدهم هم الذين نددوا باليهود، فإن أنبياءهم هم قد قاموا بهذه المهمة خير قيام ونسبوا إلى اليهود أبشع التهم.. ويكفي أنهم أدانوهم بأنهم "لم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي بل بلسان شعب وشعب" كما جاء في سفر نحميا أحد أنبيائهم، مما دعاه أن يقول "فخاصمتهم ولعنتهم وضربت منهم أناسا ونتفت شعورهم" هكذا بهذه العبارة وهذه الكلمات!!
... أما نبيهم الآخر "أرميا" فكان أشد قساوة وعنفا فقد قال عن إسرائيل.. "تحت كل شجرة خضراء أنت أضطجعت زانية" (1) .
... وفي نفس السفر يوجه إليهم عبارة أشد وأقسى حين يقول.. "كخزي السارق هكذا أخزي بيت إسرائيل هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأبناؤهم" وهذه إدانة جماعية تتناولهم جميعا من الملوك إلى الكهنة إلى الأبناء..
... وفي الإصحاح الذي يليه يقول أرميا عن إسرائيل "أما أنتِ فقد زنيت بأصحاب كثيرين.. ارفعي عينيك إلى الهضاب وانظري أين لم تضاجعي.. في الطرقات جلست لهم ونجست الأرض بزناك، وجهة امرأة زانية كانت لك.. أبيت أن تخجلي.. وقال لي الرب هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل.. ورأت أختها الخائنة يهوذا وزنت هي أيضا.. هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل" (2) .
... ويمضي أرميا في هذا الكلام الغاضب كالرعد يقول في الإصحاح الخامس من هذا السفر عن الإسرائيليين "في بيت الزانية تزاحموا.. جهلوا كل واحد على امرأة صاحبه.. لأنه خيانة خانني بيت إسرائيل وبيت يهوذا يقول الرب".
__________
(1) سفر أرميا، الإصحاح الثاني.
(2) سفر أرميا، الإصحاح الثالث.(1/211)
... وهنا يثور السؤال الكبير – وهل يمكن لهذا الشعب أن يكون شعب الله المختار بعد أن وصفه هذا المصلح اليهودي الكبير بهذه الصفات، وأن يعده الله بأن يقدم إليه الوطن الفلسطيني هبة من عنده وبيده.. حاشا الله..
... والهيكل الذي جعلت منه الصهيونية صخرة قضيتها ودعواها يتساءل أرميا في الإصحاح السابع قائلا "هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي مغارة لصوص في أعينكم؟".
... ويذهب أرميا إلى أبعد من ذلك فيهدم القضية الصهيونية من أساسها ويعتبر النبوءات اليهودية باطلا في باطل وكذبا في كذب حيث يقول في الإصحاح الخامس "صار في الأرض وهش وقشعريرة.. الأنبياء يتنبأون بالكذب".
... ولكن الوقاحة الكبرى جاءت في ختام خطاب بيجن إلى الشعب المصري حين أورد عبارة قال فيها: "لقد بينت السورة الخامسة من القرآن الكريم حقنا في هذه الأرض وجعلته مقدسا.. هل لي أن أتلو عليكم هذه السورة الخالدة: وإذ قال موسى لقومه، يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" (السورة الخامسة المائدة الآية رقم 21).
... هذه هي عبارة بيجن التي استشهد فيها بالقرآن الكريم محاولا أن يثبت فيها الحق المقدس لليهود في فلسطين.. والاستشهاد بهذه الآية على هذه الصورة لا يثبت الحق المقدس لليهود في فلسطين بقدر ما يثبت أن "اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه" كما قال عنهم القرآن الكريم.. وهذا ما فعله بيجن بصدد هذه الآية..(1/212)
... وإن أي مخلوق على الأرض يستطيع أن يستشهد بالقرآن الكريم من غير حرج.. إلا اليهود فليس لهؤلاء أن يحتجوا بالقرآن الكريم لأنه يدينهم ويندد بهم.. فالقرآن الكريم يندد بهم ويكشف مساءاتهم، وخاصة مع نبيهم موسى عليه السلام.. ومن يقرأ القرآن الكريم يرى أنه ورد فيه ذكر اليهود وذكر بني إسرائيل أكثر من (40) مرة.. وفي معظم هذه الآيات فإن الله سبحانه وتعالى ينهال عليهم بأشد عبارات الغضب والزجر والوعيد والتهديد.. ولا يتسع هذا الفصل لسرد هذه الآيات واحدة واحدة.
... ولكن الذين دسوا هذا الاستشهاد القرآني في خطاب بيجن قد خدعوه وأرادوا أن يخدعوا الرأي العام العالمي وخاصة أولئك الذين لا يعرفون القرآن.
... ومن أجل ذلك فقد أصبح واجبا علينا أن نعيد هذه الآية ولكن إلى السياق الذي وردت فيه، وبعض الآيات التي سبقتها، ذلك أن بيجن قد انتزع هذه الآية من سياقها ليدخل في روعنا أن القرآن الكريم يؤيد دعوى الحق اليهودي المقدس في فلسطين.. ولنبدأ من بداية الإطار الذي وردت فيه الآية التي استشهد بها بيجن..
? نقرأ في القرآن الكريم في سورة المائدة ما يلي:-
"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرنَّ عنكم سيئاتكم ولأدخلنَّكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل، فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكِّروا به، ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين".(1/213)
... ثم يمضي القرآن الكريم منددا ومذكرا بسوء سلوك اليهود فيقول "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" إلى أن يقول القرآن الكريم بعد أن يئس موسى من قومه "قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين".
... وواضح من هذه الآيات أن الله أخذ على بني إسرائيل ميثاقا ذكر القرآن شروطه واحدا واحدا، وأنهم نقضوا الميثاق وتجلت خيانتهم وأدانهم أنهم من القوم الفاسقين.. ولذلك لم يعد لهم حق في وعد الله.
... هذا مع التوكيد أن عبارة "الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" تعني كتب الله لكم دخولها.. ولا تعني كتبها الله لكم خالصة تسلب من أيدي أصحابها لتكون ملكا للفاسقين الذين نقضوا عهد الله وخانوا أمانته.. وكتب عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة.
... وكان اليهود في سلوكهم وأخلاقهم هم السبب في هذه الذلة والمسكنة، وفي جميع الكوارث التي حلت بهم عبر التاريخ.. وهذا هو المعنى الكبير الذي أشار إليه المؤرخ اليهودي يوسيفوس في عبارته الخالدة: "لا أمة في الأرض في كل أجيال التاريخ منذ بدء الخليقة حتى الآن، تحملت ما تحمل إسرائيل من الكوارث والويلات على أن تلك الكوارث والويلات لم تكن إلا من صنع إسرائيل".
... وصدق المؤرخ اليهودي الكبير.
الفصل الخامس عشر
عروبة القدس..الحفائر والمقابر والتوراة.. كلها تدين بيجن
عروبة القدس...
الحفائر والمقابر والتوراة كلها تدين بيجن
... على رأس الأكاذيب المتفشية في خطاب بيجن رئيس وزراء العدو الذي تحدث فيه إلى الشعب المصري، تقع العين على أكذوبة كبرى تكمن في كلمة صغرى..(1/214)
... هذه الكلمة الصغرى هي قوله (... بلدنا)، وذلك في سياق حديثه مرحبا بزيارة الرئيس السادات إلى بيت المقدس ليلقي خطابه الموعود في الكنيست الإسرائيلي عن مبادرته المعروفة.
... "وبلدنا" التي يرددها السفاح الإرهابي بيجن، يعني بها بيت المقدس، وقد أراد بيجن أن يستغل زيارة الرئيس المصري، وقد اشرأبت إليها أعناق الأقمار الصناعية وأجهزة الإعلام العالمية، فرأى فيها فرصة سانحة ليقول للعالم أجمع أن بيت المقدس هي بلد إسرائيل وعاصمتها الخالدة، شأنها في ذلك شأن أية عاصمة لأي دولة في العالم..
... وقد سبق لقادة اليهود الدينيين والسياسيين والعسكريين أن وقفوا أمام حائط المبكى، في السابع من حزيران 1967، غداة الاحتلال الإسرائيلي لبيت المقدس، ليعلنوا عهدهم الشهير: "الآن عدنا إلى أورشليم ولن نخرج منها بعد اليوم"..
... وحديث الصهيونية عن "أورشليم" قديم قدم الصهيونية، وقد أطلقوا حولها شعارات متعددة: "إسرائيل من غير أورشليم جثة من غير رأس" و"إسرائيل من غير أورشليم جسد من غير روح" و"أورشليم يهودية كما أن باريس فرنسية ولندن بريطانية" وما إلى ذلك من الشعارات والعبارات.
... وفي أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لبيت المقدس، مباشرة بعد حرب الأيام الستة، أصدرت إسرائيل قانونا أعلنت فيه أن أورشليم هي عاصمة إسرائيل ورسمت لها حدودا تمتد من بيت لحم جنوبا إلى رام الله شمالا، بحيث أصبحت "أورشليم الكبرى" تقارب مساحة ثلث المنطقة الغربية.(1/215)
... وفي تلك الأيام الحزينة السوداء، تولت وزارة الأشغال الإسرائيلية إزالة "حي المغاربة" المجاور لحائط المبكى، بما فيه من مدارس ومساجد ومنشآت إسلامية. فلم تبق جدارا قائما، ولا حجرا على حجر، وأصبح المكان ساحة مكشوفة، مفتوحة يؤمها المعتدون اليهود من كافة أرجاء البلاد، وبذلك زال من عالم الوجود أقدس حي في الديار القدسية تعاقب على بنائه وإقامة مؤسساته ملوك المسلمين وأمراؤهم منذ عهد عمر بن الخطاب إلى أخريات الحكم العثماني.
... وتابعت إسرائيل الإجراءات المتعددة لتهويد المدينة المقدسة وإزالة الطابع الإسلامي من معالمها والعمل على تشريد أهلها منها، وتهجير اليهود إليها.. وتابعت إلى جانب ذلك بعثات التنقيب اليهودية بحثا عن أنقاض هيكل سليمان، فيما يزعمون – حول الحرم الشريف.
... وكما يفعل المستضعفون والمنهزمون، فقد تقدمت الدول العربية والإسلامية إلى مجلس الأمن مطالبة بإنقاذ المدينة المقدسة من العدوان الإسرائيلي، فأصدر هذا المجلس الهزيل ما يزيد على خمسة قرارات تدين إسرائيل وتطالبها بالكف عن العبث بالمدينة المقهورة.
... ولم تستجب إسرائيل لقرارات مجلس الأمن، بل راحت تستمر في إجراءاتها العدوانية يوما بعد يوم، غير مبالية بالمنظمة الدولية، ولا بمؤتمرات الدول الإسلامية المتتابعة وقراراتها الحافلة بالعبارات الورمانة، والكلمات المنفوخة!!
... وتوالت الأحداث، إلى أن صدرت اتفاقيات كامب ديفد، فإذا بنا نقرأ فيها، رسالة موقعة من رئيس وزراء العدو بيجن، موجهة إلى الرئيس الأمريكي كارتر.. يقول فيها الرئيس اليهودي "إن أورشليم هي عاصمة إسرائيل وأنها جزء لا يتجزأ من إسرائيل، وأنها لن تعود مجزأة كما كانت".. وقد تم إبلاغ هذه الرسالة اليهودية إلى الرئيس أنور السادات بصورة رسمية عن طريق الرئيس كارتر..!!(1/216)
... وانطلق بيجن من مصيف كامب ديفد، إلى الجاليات اليهودية في أمريكا وكندا وأوروبا، يخطب فيها، في جو مليء بالحماسة والحبور، معلنا أن أورشليم هي عاصمة إسرائيل الخالدة.. وأنها كانت كذلك منذ ثلاثة آلاف سنة، وأنها ستظل كذلك إلى الأبد.
... وراحت الصهيونية بأجهزتها الإعلامية الضخمة تطلق حملة كبرى تردد فيها الدعوى الصهيونية حول "أورشليم اليهودية" وبلغت تلك الحملة من الضخامة والدويّ، بحيث أصبح الإنسان العادي في العالم يؤمن بصحة هذه الدعوى وأن مطلب العرب بحقهم حتى في "القدس الشرقية"، حتى بهذه، لا مجال لتحقيقه بل والإصغاء إليه.. فإن القدس – القديمة والجديدة – داخل الأسوار وخارجها – هي يهودية وإنها عاصمة إسرائيل التاريخية، ولا يمكن الوقوف في وجه التاريخ.. ذلك ما استطاعت إسرائيل أن تعبئِّه في كل أرجاء العالم..
... وجاءت ذروة الطغيان الإسرائيلي بصدد القدس، في الاجتماع الثاني لكامب ديفد، فقد وقف رئيس وزراء العدو بيجن في تلك الليلة أمام الأقمار الصناعية، وهو يخطب في هلوسة دينية بالغة حد العنف والصلف، وهو يردد واحدا من مزامير داود كأنه حاخام ينشد في كنيس يهودي، ويعلن بأعلى صوته أن القدس هي عاصمة إسرائيل الخالدة وأنها ستظل كذلك إلى الأبد.
... وأحسب أن العالم كله قد شهد مسرحية تلك الليلة فقد خلا الجو لرئيس وزراء العدو وكأن البيت الأبيض هو بيته، فراح يرسل تلك المداعبات التي سمعها العالم تلك الليلة ويصفق له الجمهور اليهودي المسيحي الذي اسمه الكونجرس الأمريكي!!
... وكان أقرب السامعين إلى بيجن هو الرئيس محمد أنور السادات وقد رأيته يطبق أجفانه ويفتحها، ومد التاريخ الإنساني أذنيه ليسمع ما إذا كان الرئيس السادات سينهض من مقعده ليرد على بيجن بأن القدس عربية وستكون كذلك إلى الأبد..
... ولكن لحكمة أرادها الله، سيكشفها المستقبل إن شاء الله، فإن الرئيس السادات لم ينهض من مقعده ولم ينبس ببنت شفة.(1/217)
... ولم تتوان أجهزة الإعلام الصهيونية العالمية عن استغلال تلك الأمسية الرهيبة. وبلغ من دويّ هذه الحملة الإعلامية، وتراخي الإعلام العربي والإسلامي، أن الكلام عن عروبة "القدس القديمة"، حتى هذه.. صار أشبه بأنين خافت منبعث من جثة هامدة، أو من واد سحيق عميق، أقرب إلى الغمغمة منه إلى الكلام المبين..
... وطغى هذا الطوفان الصهيوني الإعلامي، حتى على أجهزة الإعلام العربية في القاهرة عندما بدأت تتحدث عن القدس العربية الإسلامية في تخبط وجهالة، متسائلة عن حدودها وتاريخها..
... ومن هنا فقد أصبح الواجب القومي يلح علينا أن يكون هذا الفصل الأخير من كتابنا مكرسا وقاصرا على عروبة القدس لنكذب مقولات الصهيونية وكلام رئيس وزراء العدو، ولنعيد إلى العرب والمسلمين إيمانهم وتعلقهم بالمدينة المقدسة، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وموطن الإسراء والمعراج.
... بل إن كل شبر وحجر في بيت المقدس، وما فيها من معابد ومقابر ومدارس ورباطات وزوايا وتكايا، كلها تصيح في سمع الزمان، مؤكدة عروبة بيت المقدس.. ما وسعت أحجارها وأسوارها ومآذنها، أن تصيح، وأن تتكلم..
... وقبل أن ندخل محراب التاريخ نستعرض أحداث بيت المقدس في عمرها الطويل الذي يربو على ستة آلاف عام لا بد أن نعترف بادئ ذي بدء، أمانة للحق والتاريخ.. أن الدعوى الصهيونية لا تخلو من حبة صغيرة من حبات التاريخ.. وأن هذه الحبة قد أصبحت قبة، على طريق الدعاية الصهيونية وأسلوبها في التهويل والتضخيم.
... والظاهرة البارزة في تاريخ اليهود، كما نقرأ في التوراة، أن أبرع براعات اليهود ومهاراتهم أنهم يجعلون من الحبة قبة، حين يكون ذلك في صالحهم، كما أنهم على العكس قادرون أن يجعلوا من القبة حبة، حينما يكون ذلك في غير صالحهم.. أي حينما تكون القبة لغيرهم..(1/218)
... والحبَّة التاريخية الصغيرة بشأن بيت المقدس بالنسبة إلى اليهود،وجعلوها قُبَّة، تتلخص في واقعة تاريخية لا مجال لإنكارها، ولا نخشى أن نعترف بها وهي أن "أورشليم" كما يتنغم بها اليهود قد اتخذها داود ملكهم الأول عاصمة له، بعد الغزوة اليهودية المعروفة التي شرحنا أمورها في الفصول السابقة. وأنها استمرت عاصمة لليهود في عهد ولده سليمان الملك الثاني.
... تلك هي الحبة الصغيرة.. "أورشليم" عاصمة اليهود في عهد داود وسليمان لمدة سبعين عاما.. انقسمت بعدها الدولة اليهودية إلى "مملكتين" يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، والسامرة في الشمال وعاصمتها شكيم.. (نابلس)..
... وإنه لصحيح، كما قال بيجن، أن القدس كانت عاصمة لليهود قبل ثلاثة آلاف سنة.. فالواقعة صحيحة والتاريخ صحيح، ولكن التاريخ الصحيح كذلك أن أورشليم لم تستمر عاصمة لليهود بعد ذلك!!
... ولكن بيجن لم يقل للعالم ما هو تاريخ هذه المدينة قبل ثلاثة آلاف سنة سابقة، أي قبل ستة آلاف سنة من اليوم الذي وجه فيه خطابه إلى الشعب المصري، بل إنه لم يقل شيئا عن سيرة المدينة الخالدة حتى في عهد داود وسليمان من بعده.
... ويروي لنا التاريخ اليهودي نفسه كيف أصبحت أورشليم عاصمة لليهود بعد أن تم لهم الاستيلاء على عدد من المدن الفلسطينية ومنها حبرون، مدينة الخليل، ورام الله وما جاورها..
... يقول التاريخ أن داود كان مقيما في حبرون الخليل، ثم عزم على مهاجمة أورشليم، ولكن كانت المدينة محصنة بالأسوار والقلاع التي بناها حولها أصحابها اليبوسيون وهم فخذ من أفخاذ القبائل الكنعانية العربية التي نزحت من الجزيرة العربية منذ زمن طويل.(1/219)
... ولذلك فقد استعصت المدينة على داود وقاوم أهلها مقاومة باسلة وخاضوا معركتهم مع داود في الشوارع وحول الأسوار. فحاصرها داود طويلا حتى علم بنفق كان اليبوسيون قد حفروه ليصلوا منه إلى عين ماء في وادي قدرون في أسفل أورشليم، فتسلل داود من هذا النفق مع رجاله واستطاعت القوات اليهودية أن تصل إلى داخل المدينة.. ويضيف التاريخ إلى ذلك أن داود قد انتقل من حبرون – الخليل – إلى "ساليم" _ أورشليم – لينصب ملكا على اليهود.. والتاريخ يؤكد لنا أن ساليم هذا هو أحد آلهة الكنعانيين، وألحقت بها لفظة أور ومعناها مدينة في اللغة الآشورية القديمة.
... وتقول التوراة بشأن عاصمة داود.. "كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك – ملك أربعين سنة. في حبرون ملك سبع سنين وستة أشهر. وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا" (الدولة اليهودية الموحدة)..
... وتضيف التوراة (1) أنه ما أن وصل داود إلى "أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض حتى كلموه قائلين لا تدخل إلى هنا". وكان ذلك بداية المقاومة.. والحرب أولها الكلام، وهذا هو كلام التوراة وليس كلامنا، اقتبسناه من التوراة باللفظ لا بالمعنى.
... وانتقل الأمر من الكلام إلى الحرب، وتقول التوراة في نفس الإصحاح "وسمع الفلسطينيون أنهم (اليهود) قد رسموا داود ملكا على إسرائيل فصعد الفلسطينيون ليفتشوا على داود (ليقاتلوه).. ولما سمع داود نزل إلى الحصن وجاء الفلسطينيون وانتشروا في وادي الرفائيين" وجرت المعركة ضارية بينهم.
... وتقول التوراة "أن داود ضرب الفلسطينيين" وحسب عادة اليهود فقد حارب الرب عنهم "واقتحم الرب أعدائي أمامي كاقتحام المياه"، كما تروي التوراة على لسان داود وهو يصف المعركة عل حين أنه كان مختبئا في الحصن!!
__________
(1) سفر صموئيل الثاني ، الإصحاح الخامس.(1/220)
... ولكن الفلسطينيين ثابروا على القتال بعناد وبسالة وتقول التوراة عنهم "ثم عاد الفلسطينيون فصعدوا أيضا وانتشروا في وادي الرفائيين" وتولى الرب تنظيم خطة الحرب، فقال لداود كما تروي التوراة.. "لا تصعد إليهم بل در من ورائهم واهجم عليهم مقابل الأشجار.. وهناك سيخرج الرب أمامك لضرب محلة الفلسطينيين..". فقام داود كما أمر الرب وضرب الفلسطينيين من جبع إلى مدخل جازر، أي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
... وهكذا انتصر داود على الفلسطينيين وضربهم في أورشليم وفي كل الأرض، كل ذلك على يد الرب، فهو الذي حارب عن اليهود وأدار لهم المعركة تخطيطا وتنفيذا كما تقول التوراة بالكلام الواضح البين.
... وحينما هدأت الحالة – ولو إلى حين – مع الفلسطينيين، أقام داود في حصن داود وسماه "مدينة داود" وبنى داود مستديرا من القلعة متداخلا.. "وأخذ داود سراري ونساء من أورشليم بعد مجيئه من حبرون فولد أيضا لداود بنون وبنات.." كل ذلك كما ترويه التوراة في نفس الإصحاح.
... ولكن التوراة فيما بعد تكشف عن سر له أهميته ودلالته، إذ يبدو أن الفلسطينيين لم يتوقفوا عن القتال واستعادوا أورشليم. فنحن نقرأ في صدر الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الثاني، ما تقوله التوراة فيما يلي "وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذلَّلهم وأخذ داود زمام القصبة من يد الفلسطينيين، وضرب المؤابيين وصاروا عبيدا لداود يقدمون له هدايا". والقصبة تفيد "مركز المدينة". ومعنى ذلك أن الفلسطينيين كانوا قد استردوا القدس بأكملها، أما المؤآبيين الوارد ذكرهم، فيبدو أنهم دخلوا المعركة طرفا .
ثانيا ضد داود.. وأن أورشليم عاصمة داود قد انتزعوها من يد الفلسطينيين.. وهذه أول نكسة في تاريخ "العاصمة الخالدة".. ولكن رئيس وزراء العدو يتجاوز عن هذه الوقائع التاريخية ويكتفي بعبارة "الثلاثة آلاف سنة" ويقفز عن أية حقبة لا تناسب دعواه !!(1/221)
... ولا يمكن أن نمر بالمؤآبيين هؤلاء، الذين ذكرتهم التوراة مرورا سريعا فلا بد من وقفة قصيرة.. فهؤلاء كانت لهم في ذلك العهد مملكة (في شرق الأردن حاليا) وكانت الكرك عاصمتها.. وكان لهم ملك اسمه عجلون وأبطالهم الشجعان خاضوا معارك باسلة ضد اليهود، فأخضعهم الملك في عصر قضاتهم، وضرب عليهم الجزية وجاء بعده بطل آخر من ملوكهم وأنزل باليهود ضربات قاصمة كما دل على ذلك الحجر التاريخي الشهير الذي عثر عليه في بقعة تبعد ستين كيلوا مترا من عمان عام 1868م. والحجر موجود الآن في متحف اللوفر في باريس وخطه مكتوب باللغة المؤآبية.. وليت بيجن يزور باريس ويطلع على هذا الحجر ليرى ما فعله المؤآبيين في أسلافه اليهود إذا صحت نسبته إليهم..
... وكائنا ما كان الأمر فهؤلاء هم المؤآبيون الذين تزعم التوراة أن داود ضربهم.. وفي التوراة حكاية أخرى عن إذلال عبيد (جيش) داود على يد ملك حانون إذ يقول الإصحاح العاشر من نفس السفر بعد نزاع بين داود وملوك المنطقة التي حوله "فأخذ حانون عبيد داود وحلق أنصاف لحاهم وقص ثيابهم من الوسط إلى استاههم (!!) ثم أطلقهم.. ولما أخبروا داود أرسل للقائهم لأن الرجال كانوا خجلين جدا وقال الملك داود أقيموا في أريحا حتى تنبت لحاكم ثم ارجعوا".. ومثل هذا الحدث في زمانه يعتبر قمة الذل والمهانة والاحتقار لداود وعاصمته أورشليم – العاصمة الخالدة لبيجن.. فإن قص اللحى وقطع الملابس حتى الأدبار من التقاليد التي تفوق القتل في ذلك الزمان.. مهانة واحتقارا..
... وفي هذا السفر تسرد التوراة تفاصيل أبشع جريمة زنا مدونة في التاريخ البشري، وهي ارتكاب داود الفاحشة مع زوجة أحد جنوده المقاتلين في الميدان دفاعا عن الملك والوطن، وهي قصة أوريا الحثي وقد ذكرناها بالتفصيل في فصل سابق ولا حاجة بنا إلى تكرارها سوى أن نقول أن أورشليم، العاصمة اليهودية الخالدة لم تشهد في تاريخها الطويل أبشع ولا أشنع من تلك الحادثة النكراء..(1/222)
... وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر صموئيل الثاني تقع عيوننا على حدث مشين آخر، تهتز له العاصمة الخالدة مرة أخرى وهو اعتداء أمنون بن داود على عفة أخته لأبيه تامار الجميلة، وكذلك فقد سردناها في فصل سابق، ونحن نمر بهذه الإشارة العابرة ليرى القارئ أن العاصمة الخالدة قد خلدت عاراً وشناراً!!
... وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الثاني تشهد العاصمة الخالدة فتنة كبرى بين داود وابنه أبشالوم. خلاصتها كما سردتها التوراة أن أبشالوم أراد أن ينتزع الملك والعاصمة الخالدة من يد والده ويحل محله.. وتقول التوراة في هذا الإصحاح أن "ابشالوم أرسل جواسيس في جميع أسباط إسرائيل" يحرضهم على العصيان "وكانت الفتنة شديدة وكان الشعب لا يزال يتزايد مع ابشالوم" كما تقول التوراة.
... وتضيف التوراة أنه "أتى مخبر إلى داود قائلا: إن قلوب رجال إسرائيل صارت وراء ابشالوم. فقال داود لجميع عبيده – جنوده – الذين معه في أورشليم قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه ابشالوم.. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف". وكان أبشالوم في ذلك الوقت مقيما في حبرون – الخليل.
... وتعترف التوراة بعد ذلك بهرب الملك داود من العاصمة الخالدة فتقول: "فخرج الملك وجميع بيته وراءه وترك الملك عشر نساء سراري لحفظ البيت وخرج الملك وكل الشعب في أثره، ومعهم جميع الجلادين والسعاة. وكانت جميع الأرض تبكي بصوت عظيم"، وقد مثل هذا الموكب الملكي الحزين أسوأ يوم في تاريخ العاصمة الخالدة وهي تشهد الملك على رأس شعبه هاربا من عاصمة ملكه ومن بيته، ومن وجه ولده أبشالوم.
... وتمضي التوراة في تفصيل ذلك اليوم المشين لتقول: "وعبر الملك في وادي قدرون" – وهو الوادي الواقع أسفل بيت المقدس، ولا يزال في مكانه حتى اليوم وبهذا الاسم واتجه هذا الجمع نحو طريق البرية – كما تقول التوراة.(1/223)
... ومن وادي قدرون "صعد داود في مصعد جبل الزيتون"، كما تقول التوراة، ولا يزال هذا الجبل يحمل هذا الاسم إلى يومنا هذا.. وتكاد التوراة أن تبكي وهي تقول: "كان داود يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشي حافيا وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه وكانوا يصعدون ويبكون".
... وفي الطريق، "إذا برجل خارج من هناك وهو من عشيرة بيت شاول – الملك السابق – يرشق بالحجارة داود وجميع عبيد الملك وجميع الشعب ويسبه ويقول له اخرج اخرج يا رجل الدماء.. لقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء". وبذلك سجلت التوراة منتهى الإذلال لداود وأدانته بأنه رجل دماء، وأن المملكة أصبحت بيد ابنه ابشالوم، وأن أورشليم هي عاصمته.
... وتسجل التوراة بعد ذلك أن "أبشالوم وجميع الشعب رجال إسرائيل أتوا إلى أورشليم. وهتفوا ليحيى الملك ليحيى الملك.. ونصبوا الخيمة لأبشالوم على السطح – سطح بيت الملك – ودخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل"، وقارئ التوراة يفهم من كلمة دخل على سراري أبيه أي أنه ضاجعهم لأن هذا التعبير يتكرر بهذا المعنى في عدة مواضع من التوراة، وهذا أبشع عدوان من الولد على والده، .. يعتدي على عفاف زوجاته.. وفي بيت والده، وفي العاصمة الخالدة، ولكن يبدو أن هذا التقليد في ذلك الزمان يعبر عن هزيمة الخصم!!
... ولا تذكر التوراة شيئا تفصيليا عن فعلة أبشالوم في الخيمة مع سراري والده، لأن التوراة لم تدخل إلى الخيمة، بل بقيت تنظر من بعيد.. ولكنها اكتفت بالتشهير، بأن هذا المنكر قد جرى على السطح مبالغة في إلحاق الإهانة بالملك داود.
... ولا نقف عند التفاصيل التي جاءت بعد ذلك، فقد جرت المواجهة في النهاية بين جيش أبشالوم وجيش والده داود في "وعر أفرايم" كما تذكر التوراة.(1/224)
... ويقول الإصحاح الثامن عشر من سفر صموئيل الثاني تلخيصا للمعركة "فانكسر هناك شعب إسرائيل – يعني جيش أبشالوم – أمام عبيد داود – وكانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم وقُتِل عشرون ألفا، وكان القتال منتشرا على وجه كل الأرض.. وأخذ يؤآب رئيس جيش داود ثلاثة سهام بيده ونشبها في قلب أبشالوم، وقام حاملو السلاح وضربوا أبشالوم وقتلوه وأخذوا أبشالوم وطرحوه في الوعر.. وعلم داود بموت ابنه وكان يبكي ويقول يا ابني أبشالوم ليتني مت عوضا عنك".. وهذه كلها هي التفاصيل التي سروتها التوراة!!
... وتقول التوراة أن الشعب تسلل في ذلك اليوم للدخول إلى المدينة – أورشليم – كما يتسلل القوم الخجلون عندما يهربون من القتال.
... وتنقلنا التوراة بعد ذلك إلى فتنة أخرى على داود شبيهة بالفتنة التي قام بها أبشالوم. وتقول التوراة في الإصحاح العشرين من سفر صموئيل الثاني أنه "اتفق هناك رجل لئيم اسمه شبع بن بكري رجل بنيامين من أسباط إسرائيل – فضرب بالبوق" وأعلن الثورة على داود، "وقال ليس لنا قسم في داود ولا لنا نصيب في ابن يسى، كل رجل إلى خيمته يا إسرائيل فصعد كل رجال إسرائيل من وراء داود – شقوا عصا الطاعة – إلى وراء شبع بن بكري. وأما رجال يهوذا فلازموا ملكهم داود وجاء داود إلى بيته في أورشليم.. وقال داود لأبيشاي رئيس جيشه: الآن يسيء إلينا شبع بن بكري أكثر من أبشالوم فخذ أنت عبيد سيدك واتبعه لئلا يجد لنفسه مدنا حصينة ينفلت من أعيننا".
... وتنتهي هذه الفتنة كما تقول التوراة بأن قتل شبع بن بكري وقطعوا رأسه وانتهت الفتنة بعد أن عاشت أورشليم أياما قلقة بالغة الفوضى والاضطراب.(1/225)
... وما أن انتهت هذه الفتنة حتى واجهت أورشليم والملك داود حربا طاحنة مع الفلسطينيين. ويقول الإصحاح الحادي والعشرون "وكانت أيضا حرب بين الفلسطينيين وإسرائيل وانحدر داود وعبيده معه وحاربوا الفلسطينيين فاعيا داود".. وهجم أحد الفلسطينيين على داود ليقتله "ووزن رمحه ثلاث مائة شاقل نحاس فأنجده أبيشاي من جيش داود فضرب الفلسطيني وقتله".
... ووقعت حرب أخرى بين داود والفلسطينيين وتقول التوراة بشأنها "ثم بعد ذلك كانت أيضا حرب في جوب وحرب أخرى في جت" وهذان الموقعان يقعان في قضاء غزة وبئر السبع، وهما غير بعيدين عن أورشليم.. ومعنى ذلك أن هذه المعارك كانت عند مداخل أورشليم، حسب التعبير العسكري الحديث.
... وفي سفر الملوك الأول كما تروي التوراة في الإصحاح الأول منه تشهد أورشليم ملكها داود وقد تقدمت به السنون، "يدثرونه بالثياب فلم يدفأ وراح عبيده يفتشون له على فتاة عذراء لتكون له حاضنة، وتضطجع في حضنه ليدفأ، وفتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل.. ووجدوا ابيشج الشونمية فجاءوا بها إلى الملك وكانت الفتاة جميلة جدا فكانت حاضنة للملك ولكن الملك لم يعرفها"، أي لم يدخل بها.
... وقبل وفاة داود، استولى ابنه أدونيا على الملك وأصبحت أورشليم عاصمة اثنين: الملك الشيخ والملك الفتى.. وقد انضم إلى الملك الفتى رئيس الجيش والكاهن وتقول التوراة في هذا الصدد في الإصحاح الأول من سفر الملوك الأول "أن أدونيا (وهو ابن إحدى الزوجات المئات لداود) ترفع قائلا :" أنا أملُك". أي أنه يريد أن يكون ملكا.. وقد أعد لنفسه جميع التقاليد الملوكية في العاصمة أورشليم.. وشهدت شوارعها الملك أدونيا على "عربات ذات عجلات وفرسانا وخمسين رجلا يجرون أمامه.. وذبح أدونيا غنما وبقرا ودعا جميع أخوته بني الملك وجميع رجال يهوذا عبيد الملك"، ليشتركوا في هذا الاحتفال الملكي الكبير.. إلى آخر كلام التوراة..(1/226)
... وتقول التوراة بعد أن وضعت موائد الطعام والشراب أن الجموع هتفت "ليحيَ الملك أدونيا".
... ولكن الملك أدونيا لم يدم طويلا على العرش وقام من ينافسه وهو سليمان بن داود.. وفي قصة طويلة تستغرق الإصحاح بكامله تسعى والدة سليمان "بثشبع" وهي زوجة أوريا الحثي – صاحب القصة الشهيرة – وتظفر في النهاية بإقناع داود بأن ينصب سليمان ملكا. وتتحدث التوراة أن داود كان يؤثرها على غيرها من النساء والسراري فاستجاب لطلبها "وأركبوا سليمان على البغلة وضربوا البوق ومسحوا سليمان ملكا وهتفوا: ليحيى الملك سليمان".
... ولكن العاصمة أورشليم باتت مشغولة بقصة حب عنيفة مثيرة بين أدونيا ابن داود وحاضنة أبيه الشابة الجميلة أبيشج الشونمية التي جاءت لتحتضن داود وتمنحه الدفء.. وأصبحت القصة الغرامية سمر الناس في العاصمة، ليلهم ونهارهم، وأراد أدونيا أن يظفر بحاضنة أبيه داود بعد أن فشل بالظفر بالملك.
... فذهب أدونيا إلى بثشبع والدة سليمان وقال لها: "أنت تعلمين أن الملك كان لي وقد جعل جميع إسرائيل وجوههم نحوي لأكون ملكا فصار الملُك لأخي سليمان.. والآن قولي لسليمان أن يعطيني أبيشج الشونمية امرأة..".
... وما كان من سليمان حين سمع هذا الكلام من أمه إلا أن قال.. "اليوم يقتل أدونيا" فأرسل له سليمان من "يبطش به فمات" ولم يكن ذلك عقابا له على غرامه بزوجة أبيه، ولكن لأنه نافسه في الملك، فبعد أن بطش سليمان بأخيه أدونيا بطش كذلك بأعوانه وأنصاره الذين ساندوه في اعتلائه العرش.
... ويبدو أن العاصمة أورشليم كانت بيت دعارة كبير، فنحن نقرأ في الإصحاح الثالث من سفر الملوك الأول أنه ".. أتت امرأتان زانيتان إلى الملك سليمان ووقفتا بين يديه تحتكمان إليه".(1/227)
... وخلاصتها كما ترويها التوراة نقلا عن الزانيتين أنهما كانتا ساكنتين في بيت واحد، فمات ابن واحدة، لأنها اضطجعت عليه وقامت وسط الليل وأخذت ابن المرأة الأخرى وأضجعته في حضنها إلى آخر الحكاية وهي معروفة لدى كافة الناس.. والحكم فيها معروف كذلك..
... ولكن الغريب في هذه الحكاية أن تكون الواقعة مع زانيتين اثنتين لا مع واحدة، تسكنان في بيت واحد.. مما يدل أن الدعارة قد بلغت ذلك المدى من الانتشار في العاصمة أورشليم..
... وتلخيصا لما تقدم، واستنادا إلى رواية التوراة نفسها، يمكننا أن نوجز حال أورشليم في عهد داود بالأمور الآتية:
... أولا: إن أورشليم لم تكن عاصمة مستقرة لداود، فقد نازعه ابنه أبشالوم وجعل منها عاصمة له بعد أن هرب منها والده داود هو وجيشه، وقد طارده أحد اليهود يرشقه بالحجارة ويسبه قائلا "اخرج أنت رجل دماء" وبذلك أصبحت أورشليم عاصمة لاثنين: الوالد والولد..
... ثانيا: إن أورشليم كانت العاصمة التي شهدت أسوأ رذيلة في التاريخ، حينما خطف داود امرأة أحد جنوده.. واتخذها زوجة له، يوم كان زوجها المسكين يقاتل تحت إمرة مليكه.
... ثالثا: إن أورشليم قد شهدت ملكا آخر غير داود، طلع من عامة الناس ونافس داود على الملك مما اضطره إلى قتله والتخلص منه.
... رابعا: إن أورشليم قد شهدت أبشع قصة غرامية في التاريخ، وكان هذا الغرام بين أدونيا بن داود وحاضنة أبيه داود فأبى سليمان أن يزوجه منها وانتهى الأمر بأن أمر سليمان بقتل أخيه أدونيا.
... خامسا: والعاصمة الخالدة، أورشليم التي يتمسح بيجن بأمجادها قد جعلت منها التوراة بيت دعارة، تعيش الزانيات فيها تحت سقف واحد، وفي قصة أخرى يقوم امنون بن داود بالاعتداء على عفاف أخته من والدته تامار الجميلة فيبغضها ويطردها بصورة مذلة مهينة.(1/228)
... وفي هذه العاصمة التي خلد تاريخها الإسرائيلي أبشع المنكرات والموبقات الخلقية أراد سليمان أن يبني هيكلا للرب. لأن والده داود في حياته لم يستطع أن يبني بيتا للرب "بسبب الحروب التي أحاطت به" كما تقول التوراة، فأمده حيرام ملك صور بالخشب من أرز لبنان، لأن سليمان كما تقول التوراة اعتذر بأنه "ليس بيننا أحد يعرف قطع الخشب مثل الصيدونيين".. وبدأ العمل في بناء الهيكل في أورشليم العاصمة، على يد الفينيقيين اللبنانيين وهم من القبائل العربية التي استوطنت لبنان منذ زمن طويل..
... وحسب عادة اليهود في كل شؤونهم فقد ملأوا الدنيا دعاية حول هيكل سليمان واعتبروه من مفاخرهم القومية، وأنهم سيعملون على إعادة بناء الهيكل.. ولكن التوراة نفسها تشهد بأن الهيكل، قام ببنائه الفينيقيون، تخطيطا وتنفيذا، ونقلوا أخشابه من شواهق جبال لبنان، بحرا إلى يافا، ومنها إلى أورشليم.. وأن حيرام ابن النحاس الصوري الشهير قد استدعاه سليمان "عمل كل عمل في النحاس" كما يشرح الإصحاح السابع من سفر الملوك الأول.. ومع الهيكل فقد بنى الفينيقيون لسليمان بيتا وبيوتا لرؤساء جيشه.. حتى باتت أورشليم وكأنها عاصمة فينيقية عربية لم يكن لليهود فيها أثر يذكر.
... ويروي لنا الإصحاح السادس أن بناء الهيكل قد بدأ في السنة الرابعة لملك سليمان وأن طوله كان ستين ذراعا وعرضه عشرين ذراعا وسمكه ثلاثين ذراعا، وهذه هي المقاييس الكاملة للهيكل – الأسطورة اليهودية، والأثر الوحيد الذي أقاموه في كل تاريخهم الطويل منذ أن خرجوا من مصر هاربين، إلى أن استقروا في بابل سبايا ولاجئين.
... وقد سخر المؤرخ البريطاني الكبير (هـ . ج . ويلز) من الدعاية الأسطورية التي نسجها اليهود حول هيكل أورشليم فقال في عبارة لاذعة حاذقة..
... "إن هيكل سليمان إذا أمعنا النظر في مقاييسه يمكن إدخاله في كنيسة صغيرة لبلد صغير وكان طول الهيكل من الداخل 100 قدم وعرضه 35 قدما".(1/229)
... ولم يكن الهيكل كنعاني البناء والهندسة فحسب، ولكن العبادة كانت كنعانية. وقد ذكر المؤرخ اللبناني فيليب حتي "أن الموسيقيين والمغنيين الأوائل في الهيكل كانوا كنعانيين في أشخاصهم وتدريبهم وعندما بدأ داود بالموسيقا العبرانية المقدسة لم يكن هناك من نموذج يمكن اتباعه سوى النموذج الكنعاني" (1) .
... واليهود يعتبرون عهد سليمان بأنه العهد الذهبي في تاريخهم ومع هذا فلم يكن عندهم حجّار يحسن قطع الحجارة ولا مهندس. وقد استعانوا بالعرب في لبنان.. وليس هذا فحسب ولكن اليهود استعانوا بالفينيقيين العرب في الملاحة البحرية. وتقول التوراة في الإصحاح التاسع من سفر الملوك الأول، "وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة – العقبة – على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم وأرسل حيرام في السفن (التي عملها) عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان". وفي ختام الإصحاح الثامن من سفر أخبار الأيام الثاني بالنص:
... "وذهب سليمان إلى أيلة (العقبة) على شاطئ البحر في أرض أدوم.. فأرسل له حيرام بيد عبيده سفنا وعبيدا يعرفون البحر.." وهذه حبة أخرى جعل منها اليهود قبة، حين ملأوا أسماع الدنيا بأنه كان لهم أسطول بحري في عهد سليمان يمخر البحر الأحمر.. على حين أن التوراة تعترف بصريح الكلام أن سفنهم كانت سفن الفينيقيين وأن البحارة هم من الفينيقيين..
... والعقبة (إيلات) التي يحتلها اليهود ويعتبرونها ميناءهم التاريخي القديم وأنها ثغر أورشليم على البحر الأحمر، قد طرد منها اليهود وجلوا عنها لمدة قرون كما تعترف التوراة في الإصحاح السادس عشر من سفر الملوك الثاني حيث تقول بالحرف الواحد..
... "وأُرجِع رصين ملك آرام أيلة للآراميين وطرد اليهود من ايلة وجاء الآراميون إلى أيلة وأقاموا هناك إلى هذا اليوم".
__________
(1) تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/223.(1/230)
... هذا وقد كانت أورشليم، شأنها في ذلك شأن بقية البلاد، غاصة بغير اليهود من أهل البلاد الأصليين ومن أبنائهم الذين بقوا في البلاد بعد الغزوة اليهودية.. والإصحاح التاسع من سفر الملوك الأول في حديثه عن الذين سخرهم سليمان في بناء الهيكل يقول: "جميع الشعب الباقين من الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين الذين ليسوا من بني إسرائيل.. وأبناؤهم الذين بقوا بعدهم في الأرض الذين لم يقدر بنو إسرائيل أن يحرموهم - يقتلوهم – جعل عليهم سليمان تسخير عبيد إلى هذا اليوم".
... ولكن الواقع التاريخي أن أورشليم لم تكن عاصمة لدولة ولكنها كانت حاضرة لمنطقة، أو محافظة ومديرية في تعبير العصر. فقد كانت إسرائيل في عهد سليمان إما ولاية فينيقية أو مقاطعة تابعة لمصر وهذا ما يؤكده عالم المصريات المؤرخ برستد.. وقد ذكرت التوراة أن سليمان صاهر فرعون مصر وأن هذا أعطى سليمان بعض المدن والقرى في أواسط فلسطين مهراً لابنته – وهكذا فقد أعطى من يملك لمن لا يملك..
... وكائنا ما كان الأمر فإن العاصمة الخالدة لم تكن يهودية بسكانها، فإن أهلها الذين كانوا فيها من اليبوسيين وغيرهم من أحفاد القبائل العربية لم يخرجوا منها ولم يستطع اليهود إجلاءهم، وفي الفصول السابقة اقتبسنا من التوراة عدة عبارات تقول "أن اليبوسيين سكان الأرض فقد سكنوا في وسط إسرائيل وقد بقوا فيها إلى هذا اليوم". ولا حاجة لتكرار الاقتباس فالقارئ يجده في موضعه.. حيثما اقتبسناه..(1/231)
... بل إن التوراة تتحدث أن اليهود قد ذابوا في أورشليم مع أهل البلاد الأصليين ويقول الإصحاح التاسع من سفر عزرا في سياق حديثه عن أورشليم.. "لم ينفصل شعب إسرائيل والكهنة واللاويون من شعوب الأراضي حسب رجاساتهم من الكنعانيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والمؤآبيين والمصريين والأموريين.. لأنهم اتخذوا من بناتهم لأنفسهم ولبنيهم واختلط الزرع المقدس بشعوب الأراضي". ولا نجد كلاما أوضح من هذه الكلمات التي تنبئ بأن اليهود قد ذابوا في شعوب البلاد، وقد ذكروا شعبا شعبا.. وأن الزرع المقدس – الشعب اليهودي – قد "اختلط بشعوب الأراضي".. وبذلك أصبحت أورشليم خليطا من الشعوب، ولا يمكن أن توصف بأنها يهودية..
... تلك هي قصة العاصمة الخالدة عبر سبعين عاما في عهد قيام الدولة اليهودية الواحدة.. تبرز فيها الوقائع الآتية:-
... أولا: إن أهل أورشليم وهم اليبوسيين العرب قد تصدوا للغزوة اليهودية وقاوموها مقاومة باسلة، واستمرت هذه المقاومة حتى بعد أن دخلها داود ومسح فيها ملكا ولم يستطع داود أن يتغلب على أهل البلاد، إلا بعد "أن حارب الرب عن اليهود" حسب العادة!!
... ثانيا: وفي خضم هذه الحروب استرد أهل البلاد مدينتهم ثم استعادها منهم داود كذلك بعد أن تدخل الرب في المعركة..!!
... ثالثا: إن العاصمة الخالدة قد خرجت من سيادة داود ولم تعد عاصمة زمنا، فقد انتقلت السيادة فيها إلى ولده أبشالوم الذي ثار على الملوك ونصب فيها ملكا في احتفال عظيم.. وخرج الملك داود من أورشليم هاربا ومعه كل الشعب ولم يستطع داود أن يعود إلى أورشليم إلا بعد معركة كبرى مع ابنه الذي كان مصيره فيها أن لقي مصرعه.
... رابعا: وما أن مات هذا الابن الطموح حتى نهض ابن آخر "أدونيا"، فاستولى على العاصمة وحكم في حياة أبيه داود وانتهى الأمر بأن قتل الملك الطامع فيما بعد وأرسل إليه سليمان من بطش به فمات.(1/232)
... خامسا: وفي عهد سليمان كانت أورشليم، والدولة كلها تابعة لمصر، يحكمها الفرعون ولم يكن سليمان إلا عاملا من عمال مصر يحكم أورشليم تحت السيادة المصرية.
... سادسا: إن أورشليم لم تكن يهودية بل كانت خليطا من الأقوام من أهلها، الذين بقوا ساكنين فيها بعد الغزوة اليهودية وأن اليهود قد "اختلطوا بهؤلاء الأقوام وذابوا فيهم".
... تلك هي سيرة العاصمة اليهودية الخالدة في عهد سليمان وداود لمدة سبعين عاما، جاء بعدها عهد الانشطار في الدولة اليهودية فانقسمت إلى دولتين: يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وإسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم – قرب نابلس – وسنحصر حديثنا الآن عن أورشليم باعتبارها عاصمة يهوذا، لنرى إلى أي مدى تستقيم تبجحات رئيس وزراء العدو بيجن أمام حقائق التاريخ.. فماذا يقول التاريخ.. بل ماذا تقول التوراة..
... إذا رجعنا إلى التوراة نجد أن تاريخ هاتين المملكتين وارد في أربعة أسفار: الملوك الأول – الملوك الثاني – أخبار الأيام الأولى – أخبار الأيام الثاني.
... وسنجد في هذه الأسفار الأربعة قصة ملوك إسرائيل وقصة أورشليم العاصمة الخالدة في عهد ملوكها أولئك.. وسنتابع المسيرة حسب تسلسل الأحداث الزمني.
... ونحن نرى بادئ ذي بدء أن ملوك إسرائيل قد بلغ عددهم عشرين ملكا ذكرت أسماؤهم في الأسفار الأربعة، وأسماء أمهاتهم وتفاصيل حياتهم الخاصة، وعبادتهم للأوثان وما إلى ذلك، ومضت الأسفار الأربعة تردد من حين الحديث عن أورشليم وما حل بها.(1/233)
... ونقرأ أول ما نقرأ في سيرة ملكها رحبعام – بعد سليمان – أن فرعون مصر شيشق قد هاجم مملكة يهوذا واستولى على مدنها الحصينة ثم اقتحم أورشليم واستولى على جميع ما وجد في خزائن الهيكل والقصر الملكي وكان بين غنائم الهيكل 500 ترس من ذهب، ويعترف الإصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الأول "أنه في السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان". هذا ما تقوله التوراة نفسها ولا بد أن الوقائع كانت أكثر مما تقول. ولكن هذا الاعتراف يثبت سقوط السيادة اليهودية على أورشليم وعودة السيادة المصرية إليها كما شرحنا ذلك في الفصل السابق.
... والسيادة المصرية هذه لم تتجل في سيرة مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم فحسب، ولكنها تبرز في مسيرة مملكة إسرائيل أيضا فإن الإصحاح السادس عشر من سفر الملوك الأول يروي لنا أن سليمان طلب قتل يربعام فقام يربعام "وهرب إلى مصر إلى شيشق ملك مصر وكان في مصر إلى وفاة سليمان". ويربعام هذا أصبح فيما بعد ملكا على إسرائيل وقد هرب من وجه أبيه سليمان لأنه نهض للاستيلاء على الحكم وهرب من وجه أبيه لأنه لم يجد له ملجأ إلا في مصر التي كانت لإسرائيل بمثابة الدولة الأم.
وفي سيرة الملك اليهودي الثالث آسا (913-873 ق.م) تبرز لنا صورة أخرى من التبعية هذه المرة لا لمصر ولكن لدمشق.. ذلك أنه في خضم الحرب التي قامت بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب استعان هذا اليهودي بملك آرام الدمشقي في محاربة أعدائه في الشمال وقدم له الهدايا من الذهب والفضة الموجودة في خزائن الهيكل في أورشليم والقصر الملكي-وبهذا أصبحت أورشليم تحت حماية السوريين بعد المصريين. ولو شئنا أن نستخدم التعابير الحديثة ليصح القول بأن أورشليم بعد أن فقدت رصيدها من الذهب والفضة على يد المصريين قد أصبحت تحت النفوذ الاقتصادي الشامي.(1/234)
وفي عهد الملك اليهودي الخامس يهورام (849-842ق0م) تعرضت الملكة اليهودية لهجوم كاسح قام به الفلسطينيون والعرب فدخلوا أورشليم العاصمة واستولوا على أموال الملك اليهودي التي عثروا عليها في قصره وسبوا بنيه ونساءه وتروي التوراة أنباء ذلك الهجوم الكبير بكل صراحة فتقول "وأهاج الرب روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين فصعدوا إلى يهوذا ففتحوها وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا ولم يبق له إلا أصغر بنيه (أخبار الأيام الثاني الإصحاح21)
وفي أيام الملك اليهودي الثامن يوآش بن أخزيا (827-800ق.م) تعرضت أورشليم لاحتلال آرامي هلك فيه كل قادة اليهود واستبيحت أموالهم وأرسلت غنيمة إلى دمشق.. ويقول الإصحاح الرابع والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني عن هذه المعركة كلاما واضحا جاء فيه " وفي مدار السنة صعد على الملك اليهودي آرام وأتوا إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب وجميع غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق" ويظهر أنهم عفوا عن أخذ الملك اليهودي معهم أسيرا فتقول التوراة تفسيرا لذلك أن "جيش آرام تركوا الملك اليهودي لأنه كان مصابا بأمراض كثيرة" ... ولذلك فإنه لا يستحق الأسر..(1/235)
وجاء عهد الملك اليهودي التاسع أمصيا بن يوآش (800-783 ق.م) وتعرضت أورشليم لأشد هجوم في تاريخها الطويل فلم يكن هذه المرة على يد المصريين أو السوريين ولكنه جاء على يد الإسرائيليين ويسوق الإصحاح الخامس والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني، حديثا يتعثر بالخجل والحياء حيث يقول " صعد يوآش ملك إسرائيل فتراءيا مواجهة هو وأمصيا ملك يهوذا فانهزم يهوذا أمام إسرائيل وأمسكه يوآش ملك إسرائيل – أي أسره - في بيت شمس وجاء به إلى أورشليم وهدم سور أورشليم من باب أفرايم إلى باب الزاوية أربع مائة ذراع وأخذ كل الذهب والفضة وكل الآنية الموجودة في بيت الله" وكان مشهدا مثيرا أن ملك أورشليم قد دخل عاصمته أسيرا وتهدمت الأسوار أمام عينية واستبيحت أورشليم بكل ما فيها من آنية وذهب وفضة.(1/236)
ثم شهدت أورشليم في أيام الملك اليهودي الثاني عشر "آحاز بن يوثام" (735-715 ق.م.) حربا مزدوجة مع ملكين: ملك آرام رصين، وملك إسرائيل "فقح" فحاصراه في أورشليم مما اضطره لأن يطلب النجدة من ملك الآشوريين في العراق "تغلاث فلاصر" واضطر الملك اليهودي أن يدفع ثمن هذه النجدة كل ما كان في خزائن الهيكل والبيت الملكي من ذخائر وأموال وانتهى الحصار عن أورشليم بعد أن نضبت خزائنها فقد كان الهيكل عند اليهود أشبه بخزائن الدولة وعقب ذلك استطاع ملك آشور أن يفتح دمشق ويزحف على السامرة عاصمة إسرائيل فذهب الملك اليهودي صاحب أورشليم العاصمة الخالدة إلى دمشق مع غيره من ملوك المنطقة لتقديم فروض الولاء والطاعة لتغلاث فلاصر وهكذا خضعت أورشليم إلى العراقيين بعد أن خضعت للمصريين والسوريين ويضيف الإصحاح الثامن والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني إلى ذلك قوله "أن الأدوميين أتوا أيضا وضربوا يهوذا وسبوا سبيا واقتحم الفلسطينيون مدن السواحل وجنوبي يهوذا وأخذوا بيت شمس وأيلون وجديروت وسوكو وقراها وتمنة وقراها وحمرو وقراها وسكنوا هناك" ومعنى ذلك أن أرض يهوذا كلها قد خرجت من تحت السيادة اليهودية وأصبحت تحت يد الأدوميين وسكنوا فيها وبهذا ضاعت الدولة بأسرها من العاصمة أورشليم حتى كل مدنها وقراها.
... وفي عهد حزقيا بن آحاز الملك اليهودي الثالث عشر (715-687 ق.م.) وقعت المملكتان اليهوديتان يهوذا وإسرائيل تحت السيطرة الآشورية فقد تمكن الآشوريون عام 732 ق.م. بقيادة سرجون الثاني من تدمير مملكة إسرائيل وحمل سكانها إلى الأسر واضطر الملك حزقيا، وعاصمته أورشليم إلى الخضوع للفاتح الجديد.(1/237)
... وفي عهد سنحاريب بن سرجون (705-681 ق.م.) استولى الآشوريون على بلاد الشام فارتعد حزقيا من الفاتح الجديد وبعث إله يقول: "قد أخطأت ارجع عني، ومهما جعلت علي حملته، فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاث مائة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة من الذهب، فدفع حزقيا جميع الفئات الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وفي ذلك الزمان قشرحزقيا الذهب عن أبواب هيكل الرب والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا ملك يهوذا ودفعه إلى ملك آشور". وهذا هو كلام الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الثاني من التوراة.. توراة اليهود.. توراة بيجن.
... ويشير قاموس الكتاب المقدس، أن الجزية التي أرسلها الملك اليهودي إلى ملك آشور، إضافة إلى ذلك، تضمنت بناته ومعهن نساء القصر.. ويبدو أن هذه عند اليهود أرخص من الذهب والفضة بل والنحاس.. وامتد خضوع مملكة يهوذا للآشوريين من الوالد إلى الولد، فقد كان الملك اليهودي الرابع عشر منسي بن حزقيا (687-642 ق.م.) تابعا للآشوريين، فقد قبضوا عليه (وأسروه وقيدوه بسلاسل وذهبوا به إلى بابل) كما يروي الإصحاح الثالث والثلاثون من سفر أخبار الأيام الثاني. وشهدت أورشليم العاصمة ملكها مكبلا بالأصفاد يقوده الآشوريون إلى خارج البلاد لتبقى العاصمة بلا ملك، والملك بلا مملكة.
وفي أيام الملك اليهودي السابع عشر يهو آحاز بن يوشيا (609ق.م) وقعت مملكة يهوذا تحت سلطة مصر فما أن استقر الملك اليهودي على العرش مدة ثلاثة أشهر حتى عزله نخاو (فرعون مصر)، وقبض عليه في أورشليم وأرسله إلى مصر أسيرا ومات فيها (1) وقد نسى بيجن في خطابه إلى الشعب المصري أن يذكر هذه الواقعة.
__________
(1) قاموس الكتاب المقدس 2/1083.(1/238)
وجاء الدور على الملك اليهودي الثامن عشر (يهويا قيم بن يوشيا) (609-598ق.م) وهو أخو الملك السالف الذكر، وكان قد نصبه على الملك مكان أخيه فرعون مصر "نخار" وكان اسمه الأصلي " الياقيم" ولكن فرعون مصر غيره وأسماه " يهويا قيم" وهو الاسم الذي اعتمدته التوراة، وكان ذلك ذروة الإذلال لمملكة يهوذا أن تربع على الحكم في العاصمة أورشليم ملك يهودي بأمر فرعون مصر، ويحمل الاسم الذي اختاره له ملك مصر!!
وفي عهد هذا الملك اليهودي اقتحم "نبوخذ نصر" وجيشه أورشليم وقيدوا الملك بسلاسل من نحاس وعين الكلدانيون مكانه ابنه يهوياكين، ولم يطل ملكه فقد حاصر نبوخذ نصر أورشليم مرة ثانية وأخذ الملك مع عائلته ورؤساء اليهود وخزائن بيت الرب إلى بابل.
وهكذا سقطت أورشليم على يد "نبوخذ نصر" وبلغ عدد الأسرى الذين سبوا إلى بابل ما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف من سراة اليهود.. وكان عدد الذين شملهم السبي ما بين ثلاثين وأربعين ألفا.
وكان الملك اليهودي العشرون "صدقيا يوشيا" (597- 586 ق0م) هو خاتمة مملكة يهوذا بل وخاتمة اورشليم كعاصمة لليهود، وكان اسمه الحقيقي "متينيا" ولكن "بنوخذ نصر" منحه الاسم الجديد ونصبه ملكا على يهوذا عوضاً عن ابن أخيه الملك اليهودي السالف الذكر وتمرد الملك اليهودي على سيده الكلداني العراقي فجهز عليه نبوخذ نصر حملة عسكرية واقتحم أورشليم وهرب الملك اليهودي من عاصمته إلى شرق الأردن، ولكن أدركه الكلدانيون في سهل أريحا وقبضوا عليه وأخذوه أسيرا وربطوه بسلاسل من نحاس وسيق إلى بابل ومات فيها.
وتقول آخر صفحة في تاريخ مملكة يهوذا أن نبوخذ نصر أحرق الهيكل وأخذ الآلاف من السكان أسرى إلى بابل، وضربت أورشليم وجعلت أكواما من الأنقاض وأصبحت خرابا يبابا.
وهكذا تتلخص سيرة أورشليم بعد انشطار الدولة اليهودية إلى(1/239)
اثنين : يهوذا,وإسرائيل، وفي النهاية نرى العاصمة اليهودية الخالدة وقد سقطت فريسة الاحتلال أو الإذلال مرة على يد المصريين وثانية على يد السوريين، وثالثة على يد العراقيين، وكان ملوكها يجرون إلى العواصم العربية مكبلين بالسلاسل يموتون في الأسر.
ويتجلى في النهاية أن أورشليم قد زالت من الوجود على يد نبوخذ نصر، وأصبحت أكواما من الأنقاض، وهوى الهيكل تحت الأنقاض.. وبزوال العاصمة زال الوجود اليهودي في فلسطين بأكملها وفي العاصمة اليهودية بالذات.
وفي تلك الحقبة التاريخية نهضت دولة ذات شأن في فارس وتمكن ملكها كورش من الاستيلاء على بابل في عام 539 ق.م تم له بعد ذلك فتح بلاد الشام، وكان يهود السبي قد ساعدوه على ذلك فالتمسوا منه أن يأذن لهم بالعودة إلى أورشليم فوافقهم، وقد استطاعت زوجته "أستير اليهودية" أن تحمل ملك الفرس على تلبية هذا الطلب، فعاد قسم من اليهود لا يزيد على خمسين ألفا وبقي القسم الآخر من الأغنياء في العراق.
وكان اليهود العائدون بقيادة شقيق أستير "زربابل" وأخذوا يعملون على إعادة بناء المدينة وإقامة حصونها وتشييد أسوارها، ووضع زربابل الأسس لبناء هيكل جديد، وحمل الهيكل اسمه.. وتم بناؤه في سنة 516ق.م.
وتشير التوراة إلى تلك الفترة في الإصحاح الأول لسفر عزرا، ويكاد القارئ أن يرى شبها بين ما فعله ملك فارس في القرن السادس قبل الميلاد وما فعله ملك بريطانيا بعد ذلك بخمسة وعشرين قرنا حين صدر وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين وتشجيع الهجرة اليهودية.(1/240)
وتبرز هذه المقارنة العجيبة حين نقرأ في صدر الإصحاح الأول من سفر عزرا أنه "في السنة الأول لكورش ملك فارس أطلق نداء في كل مملكته وبالكتابة أيضا بأن الرب أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا.. من منكم يصعد إلى أورشليم فيبني بيت الرب.. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب فلينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وأمتعة وبهائم مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم .
وهكذا هاجر من هاجر من اليهود، كما أمر كورش، والذين بقوا "أعانوا بآنية فضة وبذهب وأمتعة وبهائم وتحف فضلا عن كل ما تبرعوا به" كما تقول التوراة.
وهذا هو الذي حدث من أوائل العشرينات في فلسطين في أوائل عهد الانتداب البريطاني فقد بدأت الهجرة اليهودية تحت حماية بريطانيا وافتتحت التبرعات اليهودية في كل أنحاء العالم لبناء الوطن القومي اليهودي..
وكما كان هدف بريطانيا هو حماية المصالح البريطانية فقد كان هدف فارس في ذلك الوقت أن يزرعوا اليهود في فلسطين في هذا الموقع الاستراتيجي الهام، ليكونوا عونا لملك فارس في تحقيق أهدافه بالسيطرة على بلاد الشام وغزو الأراضي المصرية.
ولذلك فإن ما فعله فارس يمثل وعد بلفور الأول عن طريق إنشاء الوطن القومي اليهودي وتشجيع الهجرة اليهودية. وصيغة وعد بلفور الحديثة ليست بعيدة عن الصيغة التي اعتمدها ملك فارس كما وردت في التوراة.(1/241)
وكما قاوم الشعب الفلسطيني وعد بلفور والهجرة اليهودية في عهد الانتداب البريطاني فإنهم قاوموا كذلك عودة يهود السبي إلى أورشليم في عهد ملك فارس فقد أنزلوا الرعب في قلوب اليهود ويعترف الإصحاح من سفر الثالث من سفر عزرا قائلا عن اليهود "بأنه كان عليهم رعب من شعوب الأراضي" وأن اليهود "أعطوا فضة للنحاتين والنجارين ومأكلا ومشربا وزيتا للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب أرز من لبنان إلى بحر يافا حسب أذن كورش ملك فارس لهم" وتقول التوراة بعد ذلك "وكان شعب الأرض يرخون أيدي شعب يهوذا ويذعرونهم عن البناء" وفي ملك أحشويرش أحد ملوك الفرس عند ابتداء ملكه كتب شعوب الأرض شكوى على سكان يهوذا وأورشليم، تماما كما قدم الشعب الفلسطيني شكاوى إلى بريطانيا. في أوائل عهد الانتداب البريطاني.
والطريف أن التوراة قد سجلت نص تلك الشكوى التي كتبتها شعوب الأرض يومئذ باللغة الآرامية ويقول نصها ما يلي "عبيدك القوم الذين في عبر النهر إلى آخره ..ليعلم الملك أن اليهود الذين صعدوا من عندك إلينا قد أتوا إلى أورشليم ويبنون المدينة العاصية الرديئة وقد أكملوا أسوارها ورمموا أسسها ليكون الآن معلوما لدى الملك أنه إذا بنيت هذه المدينة وأكملت أسوارها لا يؤدون جزية ولا خراجا ولا خفارة فأخيرا تضر الملوك والبلاد وقد عملوا عصيانا في وسطها منذ الأيام القديمة لذلك أخربت هذه المدينة".
وانتهت الرسالة بإنذار، كما كان الشعب الفلسطيني ينذر بريطانيا ,ويحذرها فقالوا في نهاية شكواهم ونحن نعلم الملك أنه إذا بنيت هذه المدينة وأكملت أسوارها لن يكون لك عند ذلك نصيب في عبر النهر , وهذا انذار بالعصيان والثورة .(1/242)
وكان الجواب الطريف على هذه الرسالة الطريفة قول الملك في جوابه الموجه إلى ولاته في فلسطين "سلام إلى آخره.. الرسالة التي أرسلتموها إلينا قد قرئت بوضوح أمامي وقد وجد أن هذه المدينة منذ الأيام القديمة تقوم –يعني تثور-على الملوك وقد جرى فيها تمرد وعصيان.. فالآن أخرجوا أمرا بتوقيف أولئك الرجال فلا تبنى هذه المدينة حتى يصدر منى أمر فاحذروا من أن تقصروا من عمل ذلك".
وتقول التوراة بعد ذلك أن ولاة الملك "لما قرئت الرسالة ذهبوا بسرعة إلى أورشليم إلى اليهود وأوقفوهم بذراع وقوة، حينئذ توقف عمل بيت الله الذي في أورشليم وكان متوقفا إلى السنة الثانية من ملك داريوس" (ملك فارسي آخر).
ثم تمضي التوراة بعد ذلك في وقائعها وينتهي الأمر بأن كورش زوج استير اليهودية كان قد أمر ببناء الهيكل وقد صدر من داريوس الأمر " بأن كل إنسان يغير هذا الكلام تسحب خشبة من بيته ويعلق مصلوبا عليها ويجعل بيته مزبلة من أجل هذا.. أنا داريوس قد أمرت فليفعل هذا" تماما مثل تهديدات بريطانيا للشعب الفلسطيني أثناء الانتداب!!
وفي سفر عزرا كذلك تهديد رهيب لمن يخالف حين يقول وكل من لا يعمل يشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال أو بالحبس.
وما أغرب الشبه بين الماضي السحيق والماضي القريب، فقد فعلت بريطانيا كما فعلت فارس فقد كانت بريطانيا تستجيب بعض الشيء لمطالب العرب ثم لا تلبث تحت ضغط الصهيونية أن تتراجع فتعود إلى تأييد اليهود.. وكذلك فعلت فارس تحت ضغط أستير الجميلة الفاتنة التي استطاعت أن تستصدر أمراً جديداً بالعودة إلى بناء الهيكل.. والأغرب من ذلك كله أن تكون نصوص التوراة كأنها نسخة طبق الأصل عن السياسة البريطانية وأن تكون العقوبات التي فرضها داريوس بالنفي والغرامة هي التي فرضتها بريطانيا على الفلسطينيين عبر ثلاثين عاما من الانتداب البريطاني.(1/243)
وكاتب هذا الفصل هو واحد من آلاف الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال والنفي في عهد الحكم البريطاني البغيض!!
ورغما عن كل هذه التهديدات تقول التوراة أن سكان جنوب الشام وأواسطه الذين كان يقطنه الفينيقيون والآراميون والسامريون والعرب والفلسطينيون وسكان شرق الأردن من مؤآبيين وعمونيين وغيرهم قاموا بمقاومة رجوع اليهود إلى البلاد تماما كما فعل أحفادهم من الشعب الفلسطيني بعد ذلك بقرون.
ولكن المهم في ذلك أن أورشليم ومعها فلسطين لم تكن تحت السيادة اليهودية ولكنها كانت خاضعة للحكم الفارسي ما يربو على مائتي عام (538-332 ق.م) وقد زاد ذلك على الوجود اليهودي في فلسطين في عهد الدولة الموحدة-عهد سليمان وداود- وكذلك في عهد المملكتين المنقسمتين معا.. وهذه واقعة جديرة بالانتباه.
ومن الفرس انتقلت أورشليم إلى الحكم اليوناني فقد استولى الاسكندر الأكبر على أورشليم عام 332ق.م وتجلت خيانة اليهود وانكارهم لجميل الفرس، فقد استقبلوا الفاتح اليوناني الكبير خارج المدينة عند جبل سكوبس وهو المعروف بهذا الاسم إلى اليوم.
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس في وصف ذلك "لما سمع اليهود بمجيء الإسكندر خافوا ولما علم الكاهن الأكبر جمع اليهود وخرجوا يستقبلون الإسكندر لما قرب من المدينة وعظيم الكهنة قدامهم والكاهن الأكبر: لقى الإسكندر بالإكرام والإجلال ومضى معه حتى أدخله إلى القدس ولما دخل الفاتح الهيكل قال الكاهن الأكبر طلبت من جميع الكهنة أن يسموا كل مولود ذكر يولد لهم في هذه السنة إسكندر وأن يدعوا لك كلما دخلوا الهيكل" وهذا جانب من أخلاق اليهود التي جبلوا عليها في كل عصور التاريخ وأمام جميع الحكام.
وبعد وفاة الإسكندر انتقلت أورشليم إلى حكم البطالسة في مصر وبعدها انتقلت إلى حكم السلوقيين في سوريا. وهكذا تتداولها الأيدي كما يتداول الفلاحون الأرض المشاع.(1/244)
وفي 323 ق.م زحف بطليموس الأول على فلسطين وحاصر القدس ودخلها وسبى عددا من أهلها وأرسلهم إلى مصر.. وهكذا كان سبى اليهود مرة إلى بابل وأخرى إلى مصر.. وأورشليم العاصمة الخالدة تتقاذفها أقدام الفاتحتين والغزاة.
وحصيلة هذه الحقيقة أن أورشليم وقعت تحت الحكم اليوناني قرابة مائتين وسبعين عاما (332-63 ق.م) ولكن السيادة اليونانية على أورشليم قد انتقلت فيما بعد إلى الرومان ففي عام (63ق.م) هاجم القائد الروماني بومبي المدينة وهدم أسوارها وحصونها.. ومنذ ذلك الوقت نصب الرومان على أورشليم واليا من قبلهم.
لكن أورشليم عادت إلى الفرس مرة ثانية عام 40 ق.م. ف غير أن الرومان تمكنوا بعد عامين من طرد الفرس واستعادة البلاد وعينوا هيرودوس واليا عليها، وكان هذا الحاكم من الأدوميين وهو من أصل عربي.
وهيرودوس هذا ولد في عسقلان من أعمال فلسطين-وكانت أمه عربية من أسرة كبيرة معروفة من الأنباط وقد بلغ من دهائه وسعة حيلته أنه جدد بناء الهيكل اليهودي وكان أعظم شأنا من هيكل سليمان ومنع دخوله على غير اليهود، وهو الهيكل الذي كان يدخله السيد المسيح للتبشير والوعظ.
وبعد ذلك قام اليهود بأعمال الشغب والفتنة في أورشليم فقام الإمبراطور الروماني فسبسيان وابنه طيطوس بإخماد ثورة الشعب فحاصر أورشليم من جهاتها الثلاث ودخل الرومان إلى أورشليم في عام 70م وأعمل الفاتحون النهب والسرقة والقتل في المدينة وأحرقوا المعبد الذي أقامه هيرودوس حتى لم يبق منه حجر على حجر، وسبى الألوف من اليهود هذه المرة إلى روما وأرسل آخرون منهم إلى مصر ليعملوا في مناجمها، وأعلن الإمبراطور فسبسيان أن إقليم يهوذا هو ملكه الخاص. وطلب إلى موظفيه تقسيمه إلى قطع صغيرة وبيعه-وهكذا تم-وهو إقليم يهوذا الذي يردده بيجن باستمرار في هذه الأيام لمناسبة التسوية السلمية المطروحة في الوقت الحاضر..(1978)(1/245)
ولمناسبة الانتصار على اليهود بنى القائد الروماني قوس نصر في روما لا يزال قائما إلى الآن ونصب عليه الشمعدان ذي الرؤوس السبعة المشهورة عند اليهود وقد انتزعه من الهيكل.
و تخليدا لهذا النصر كذلك فقد انتشرت عبارة هب. هب.. هورا التي تردد عند النصر في ملاعب كرة القدم في هذه الأيام وهي اختصار لعبارة (هيروسيليما أست برديتا)
(Herosilyma Est perdita) وترجمتها (الآن سقطت أورشليم).
وتلخيصا لهذه السيرة الطويلة لتاريخ أورشليم، يقول مؤلف قاموس الكتاب المقدس أن المدينة حوصرت 17 مرة ما بين أيام يشوع اليهودي إلى طيطوس الروماني وأنه هدمت مرتين وقلبت أسوارها مرتين..
غير أن الإمبراطور الروماني هدريان أضاف إلى ذلك أنه دمرها عن بكرة أبيها ولكنه ترك في أورشليم من المنشآت التي خلدت اسمه، بأكثر مما خلف اليهود.. فقد أنشأ القصر الملكي ومكانه اليوم ما يعرف بالقلعة. وأنشأ فيها حدائق عامة وكذلك فإنه أحاط حصن أورشليم بسور عظيم وبنى عليه ثلاثة أبراج.. كان اسم أحدها فصايل على اسم أحد أولاده.. وهو اسم عربي مبين.
وأنشأ هيرودس قبل ذلك مسرحا عظيما ومدرجا وميدانا لسباق الخيل وعددا من التماثيل والحمامات. وفي آخر سنة من سني حكم هيرودوس-هذا الحاكم العربي-ولد السيد المسيح عليه السلام.(1/246)
وما أن أفل القرن الأول قبل الميلاد حتى ولد أعظم يهودي في التاريخ، هو عيسى بن مريم السيد المسيح عليه السلام.. ولد في بيت لحم من أعمال فلسطين، وهي على بعد بضعة أميال جنوبي بيت المقدس، فلم يكن لليهود يومئذ دولة في فلسطين، ولم تكن أورشليم عاصمة لليهود ذلك أن الرومان كانوا قد احتلوا فلسطين قبل مولد السيد المسيح بستين عاما، وأصبحت ولاية رومانية تابعة للإمبراطورية الرومانية، وكان على عرش روما يومئذ أوغسطوس قيصر 27ق.م-14ب.م، ولكن رئيس وزراء العدو يتجاهل هذه الحقبة كلها ولا يشير إليها من قريب أو من بعيد، وكل ما يهتم به أن يردد على الناس الأكذوبة الكبرى أن "أورشليم هي عاصمة إسرائيل منذ ثلاثة آلاف عام وأنها ستبقى كذلك إلى الأبد". وقد شطب الحقبة الرومانية من التاريخ!!
ولسنا بصدد الكلام عن نشأة السيد المسيح ودعوته فذلك كله له مراجعه، والكثير منه يؤلف جزءا من الثقافة الشعبية لدى المسيحيين والمسلمين على السواء.. سوى أن نقول أن السيد المسيح قد اتخذ من أورشليم عاصمة لدعوته الجديدة التي أصبحت فيما بعد عقيدة دينية كبرى للغالبية العظمى من البشر.
ومن يقرأ الأناجيل التي هي المرجع الأكبر لحياة السيد المسيح ودعوته، يجد نفسه في أورشليم وقد أصبحت منبرا لهذا النبي العظيم يدعو الناس جميعا وخاصة يهود فلسطين أن يعودوا إلى عبادة الله ويجتنبوا الرذائل والموبقات والمعاصي التي غرق فيها المجتمع اليهودي كله.(1/247)
وقد شن بولس الرسول وهو من أكبر حواري السيد المسيح حملة كبرى على اليهود وتناولهم بأقسى العبارات فقال عنهم "لقد ضلوا كلهم فرذلوا وليس أحد منهم يحمل الصلاح.. حناجرهم قبور مفتحة وقد غشوا بألسنتهم، وسم الضلال تحت شفاههم، وأفواههم مملوءة لعنة ومرارة وأرجلهم سارعة إلى سفك الدماء، وفي مسالكهم خصم ومشقة ولم يعرفوا سبيل السلام في كلام الإنجيل !! ما يدل على أن بني إسرائيل ليسوا قوم سلام وليست مخافة الله أمام أعينهم وليلاحظ القارئ العربي ورود كلمة السلام منذ ذلك العهد البعيد!! فضلا عن أن الصفات التي سردها الإنجيل لا تزال هي هي أخلاق إسرائيل المعاصرة!!
وكان السيد المسيح أقسى من ذلك في حواره مع اليهود في شوارع أورشليم وفي ساحاتها بل وفي الهيكل نفسه فقد صاح في وجوههم قائلا :" انتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء. .. أيها الحيات أولاد الأفاعي" (1) . ونشب بينه وبين كهنة اليهود حوار ساخن، فقد دخل السيد المسيح إلى الهيكل مرة ليرى فيه الكهنة يتعاملون بالربا ويبيعون الحمام حتى أصبح سوقا للطيور وبورصة للربا.. فثار السيد المسيح لهذا المشهد الرهيب فطرد الباعة وألقى بضائعهم على الأرض و بعثر موائدهم في أرجاء الهيكل.
ويكفينا هذا القدر من ثورة المسيح على بني قومه وتنديده بهم فإن بقية السيرة مفصلة في الأناجيل، فقد سردت الأحداث والوقائع التي جرت بينه وبينهم في أورشليم التي غدت عاصمة للثائر العظيم يعلن منها الثورة على اليهود من غير هوادة ولا مواربة.
والمهم في هذه الحقبة التي شهدت أورشليم تحت حكم الرومان، وفلسطين كلها ولاية رومانية، أن اليهود قد بدأوا بالشغب في البلاد وإشاعة القلاقل والاضطرابات مما حمل القوات الرومانية على استئصال شأفة
__________
(1) إنجيل متى،الإصحاح، 30:23-32.(1/248)
الفتنة ، وشنوا حلمة تأديبية على اليهود وساعدهم في ذلك اليونان والسوريون من أهل البلاد، وتقدم طيطوس أحد قادة الرومان البارزين ومعه الفرق العربية والسورية (الآرامية) وعسكر في تل الفول على بعد بضعة كيلو مترات شمال القدس، واقتحم الرومان أورشليم من الشمال من باب الساهرة المعروف بهذا الاسم إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شهر أغسطس عام 70م، وأصبح بيت المقدس أكواما من الأنقاض وأحرق الهيكل الذي بناه هيرودوس وسوي بالأرض، وهرب اليهود من أورشليم لاجئين إلى الأقطار المجاورة..
... وجاء عهد القيصر الروماني الشهير هدريان فأتم تطهير أورشليم من اليهود وحرم عليهم العودة إليها والسكن فيها، بل والدنو منها.. وأباح للمسيحيين أن يقيموا فيها بشرط أن لا يكونوا من أصل يهودي وأعطى المدينة اسما جديدا (إيلياكابيتولينا) اشتقاقا من اسم أسرة القيصر المدعوة إيليا.. وبقي اسمها هذا إلى أن فتحها العرب المسلمون، ومن هنا نرى في المراجع الإسلامية اسم إيلياء عند ذكر (بيت المقدس).
... ويقول الأستاذ الدباغ في كتابه بلادنا فلسطين ص 660 "ولم تعد لليهود قائمة، فإنهم تشتتوا في أقطار العالم المعروف في أوروبا وآسيا وأفريقيا"، "وانتهت صلة اليهود بفلسطين ولم يعد لها وجود طوال السنوات الألف والثلاثمائة التي تلت" (1) .
... واقتبس الأستاذ الدباغ نقلا عن "كلرمون كانو" وهو مؤرخ مرموق أنه "لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهوذا لأن حروب الرومان لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية بل أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح ففقدت فلسطين جميع التقاليد اليهودية" (2) .
__________
(1) بلادنا فلسطين، الجزء الأول، القسم الأول.
(2) نفس المصدر، ص 664.(1/249)
... وهكذا يبدو واضحا أنه في حكم الرومان لفلسطين وبلاد الشام لم تكن أورشليم عاصمة لإسرائيل، فقد كانت إحدى الحواضر العربية الواقعة تحت سيادة الرومان وواضح كذلك أنه لم يكن في أورشليم يهود إطلاقا حتى تكون عاصمة لهم.. إذ كيف يمكننا أن نتصور عاصمة يهودية من غير يهود..
... ومن المهم أن لا ننسى أن الرومان قد حكموا بيت المقدس وبلاد الشام مدة طويلة بلغت 458 عاما وتلك هي عملية حسابية بسيطة يعرفها الطلاب في روضة الأطفال إذا كان يجهلها رئيس وزراء العدو بيجن، ذلك أن حكم الرومان لفلسطين قد بدأ عام 63 ق.م. وامتد إلى عام 395 م وبذلك نصلإلى الرقم الذي أسلفناه 458 عاما..
... وعلى هذا، فإن أورشليم يصح أن تعتبر عاصمة رومانية للرومان لا لليهود إذا كانت السيادة السياسية هي التي تقرر وضع العاصمة لأي بلد في العالم.
... ولا يفوتنا في هذا المجال أن نذكر بأن حكم الرومان في فلسطين "ديار الشام" لم يكن ينفي الوجود العربي في هذه الديار، فقد كان سكان بلاد الشام قبل عصر الإمبراطورية الرومانية يقرب من 5-6 ملايين نسمة. بينهم ما يقرب من مليون في فلسطين، وفي القرن الأول للميلاد كان سكان يافا والجليل والقدس وغور أريحا وبلاد نابلس وعمان خليطا من المصريين والعرب والفينيقيين (1) .
وعلى خلاف اليهود الذين لم يتركوا أثرا يذكر في فلسطين فقد بنى الرومان في فلسطين عديدا من القرى والمدن لا تزال أسماؤها تدل عليها حتى الآن.
ومن هذه المدن والقرى الفلسطينية "ايليا كابيتولينا" (القدس) و "نيابوليس" (نابلس)، وفصايلس" (خربة فصايل) و"يامينا" (يبنا) و "طيباريه" (طبريا) و"اليثروبوليس" (بيت جبرين) و"ديو سبوليس" (اللد)، و"صفوريس" (صفورية) و "قصيرية" (قيسارية) و"عمواس" (القبيبة) –وغيرها كثيرة.
وفي قرى صفد نرى أن قرى دفنا وعكبرة والجش وميرون وتليل هي أسماء رومانية بالأصل تحرفت إلى ما هي عليه الآن.
__________
(1) جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام، 2/369.(1/250)
وكذلك الحال بالنسبة إلى قرى عكا، فإن قرى عمقا والبروة وكفر سميع ويانوح ومجدل كروم هي أٍسماء رومانية تعربت كما هي الآن.
... وفي قرى الناصرة كفر مند , ومعلول , والرينة , ونين , تعربت كذلك إلى أسمائها المعاصرة.
ومن قرى طبرية "عيلبون" والطابغة وياقوت وكفر نمرين وعولم ويما وسمخ تعربت عن الرومانية وأصبحت أسماؤها عربية..
ومن قرى حيفا "اعيلين وطبعون وشفا عمرو" تعربت كلها عن الرومانية وأصبحنا ننطقها بأسمائها المعاصرة.
وكذلك الحال في قرى جنين "سيلة الظهر" وعطارة وجلبون وعربونة وبيت قاد وقرى أخرى كثيرة من أعمال نابلس وطولكرم والقدس والرملة ويافا (1) .
هذا ويمكننا القول أن بني إسرائيل لم يبنوا مدينة تذكر، ولا تركوا لهم أَثراً له قيمة تاريخية على حين أن الرومان قد بنوا في فلسطين كثيراً من المعابد والهياكل والحصون والقلاع والقصور والمسارح والحمامات والأسوار والمعاهد العمومية.. ويكفي أن نشير إلى آثار جرش في شرق الأردن، فضلا عن الآثار الكثيرة في فلسطين ذاتها.
وإلى جانب ذلك فقد أنشأ الرومان شبكة من الطرق والمواصلات في الوطن العربي وفلسطين، وقد أقام الرومان جسرين على نهر الأردن الأول جنوبي بحيرة طبريا والثاني أقيم على البقعة التي عليها جسر المجامع اليوم، ومعلوم أن بين فلسطين وشرقي الأردن جسرين رئيسيين، في هذه الأيام تماما كعهد الرومان!!.
ويحق لنا أن نسأل بيجن، والجامعة العبرية معه، ماذا أنشأ اليهود في القدس أو في فلسطين كلها؟!
أما بالنسبة للحركة العلمية في فلسطين فإن للرومان سجلا حافلا في هذا المجال لم يستطع بنو إسرائيل أن يماثلوه ولو في حبة خردل، ففي عسقلان أنشأ الرومان مدارس عدة ذات شهرة تاريخية فائقة.. وأنشأوا كذلك مدرسة الحقوق في قيسارية، ومدرسة لاهوتية كذلك كان يدرس فيها الفلك والمنطق والفلسفة والهندسة وغيرها من العلوم.
__________
(1) بلادنا فلسطين،ص668.(1/251)
فأين المعاهد العلمية التي أنشأها بنو إسرائيل في أي مدينة من مدن فلسطين ناهيك عن القدس نفسها!!
بل إنها مفارقة عجيبة أن المؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس وهو أَحد كهنة القدس قد نشأ في كنف هذه النهضة العلمية التي أنشأها الرومان.. ومع أن هذا المؤرخ الكبير يهودي العقيدة فقد مُنح المواطنة الرومانية وأصبح مواطناً رومانيا، واعتبر ذلك أكبر شرف له في حياته.
ومرت الأحداث فانقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395م إلى قسمين: الدولة الرومانية الشرقية والدولة الرومانية الغربية، وكانت بلاد الشام ومنها فلسطين تابعة للدولة الرومانية الشرقية البيزنطية وقد امتدت هذه السيادة من 2395-636 م أي حوالي 241 عاما بالحساب، ولم تكن أورشليم خلالها عاصمة يهودية ولم يكن لليهود وجود فيها ولا في فلسطين كلها.
وعرفت فلسطين في ذلك الوقت نهضة زراعية شاملة ففي القرن السادس للميلاد كانت تحمل أكياس الأدم وخمور غزة من فلسطين إلى فرنسا (1) ، وهي إقليم الخمور التاريخي ولم يكن لليهود في فلسطين أي أثر زراعي على هذا النحو.
وفي هذا العهد البيزنطي كان الوجود اليهودي معدوما بصورة مطلقة، ويقابل ذلك الوجود العربي البارز. ومن الحوادث التاريخية الطريفة في هذا العهد أن الإمبراطور ليون الأول (457م-474م) قد أقر أمرؤ القيس شيخ دومة الجندل وأطرافها على حكم بعض النواحي التي كان قد استولى عليها فيها فلسطين، ومن جملتها جزيرة تيران وهي التابعة للدولة السعودية في الوقت الحاضر وهي عند مضايق تيران (2) .
وفي هذا العهد كذلك أثناء حكم الإمبراطور البيزنطي يوستنانوس ثار السامريون في فلسطين عام 529 فأخمد ثورتهم الأمير الحارث الثاني العربي الغساني.
__________
(1) بلادنا فلسطين ،ص294.
(2) نفس المصدر،ص696.(1/252)
وأقبل عام 610م وتولى الإمبراطورية البيزنطية هرقل المعروف في التاريخ العربي.وفي أيامه استطاع الفرس الاستيلاء على فلسطين، والقدس من جملتها، وهدمت كثير من الأديرة والكنائس ونقل الصليب الكبير عند المسيحيين إلى بلاد فارس.. على أن حكم الفرس لم يدم طويلا فقد استطاع هرقل أن يسترد سوريا في معركة فاصلة وقعت في نينوى عام 627م. وفي14أيلول من عام 628م احتفل هرقل ببيت المقدس برفع الصليب بعد أن استرده من الفرس وما زال المسيحيون في ديار الشام يحتفلون بعيد الصليب في 14 أيلول من كل عام إلى يومنا هذا.
ومن الوقائع التاريخية الطريفة أن عامل هرقل على غزة والبحر الميت، بعد استرداد بيت المقدس من الفرس كان عربيا اسمه امرؤ القيس ويعرف باسم دوق غزة والبحر الميت.
ولكن ما أن استرد هرقل بيت المقدس من يد الفرس حتى سلمهاإلى أصحابها القدماء العرب. وذلك في العهد الإسلامي زمن سيدنا عمر بن الخطاب، وسيرة ذلك مفصلة في الكتاب الرائع (عمر الفاروق) الذي ألفه الدكتور محمد حسين هيكل، ويجد القارئ فيه تفاصيل الفتح العربي في صورة زاهية صادقة..
أما سيرة بيت المقدس بعد الفتح الإسلامي فإنها معروفة تماما وتكاد أن تكون جزءا من الثقافة الشعبية العامة، فقد تعاقب على الحكم الإسلامي في القدس ما تعاقب على الأوطان الإسلامية من الأسر الحاكمة المعروفة.. الأمويون والعباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى آخر السلسلة، وكان الحكم العثماني هو الحلقة الأخيرة في السلسلة.. وقد امتد هذا الحكم العثماني قرابة خسمايه عام، وكان بيت المقدس في ذلك الوقت تابعا إلى الأستانة كمتصرفية (محافظة) ممتازة تقديراً لقيمتها الدينية والتاريخية، ولا نحسب أن بيجن يملك من الوقاحة في الكذب بأن يدعي بأن بيت المقدس كانت في العهد العثماني عاصمة لإسرائيل أو في العهود الإسلامية السابقة!!(1/253)
ومن الثابت أن ولاة بيت المقدس في العهد العثماني كانوا يعينون من قبل خليفة المسلمين العثماني في الأستانة.. وكان أهل بيت المقدس في كثرتهم الغالبة من المسلمين والمسيحيين العرب، وكان اليهود قلة لم يكثر عددها إلا بعد العهود البريطاني بسبب الهجرة اليهودية.
وحتى في العهد البريطاني كان رؤساء بلديات القدس من العرب المسلمين وهم على التوالي حسين بك الحسيني، راغب بك النشاشيبي،والدكتور حسين فخري الخالدي.. وكان بعض أعضاء المجلس البلدي في القدس من اليهود عملوا تحت رياسة العرب المسلمين..
وفي العهد الأردني، بعد ضم الضفة الغربية إلى الأردن كان أمين بلدية القدس هو الأستاذ روحي الخطيب. وبقي في منصبه هذا إلى أن سقطت المدينة المقدسة بأيدي القوات الإسرائيلية في حرب الأيام الستة.. وكان ذلك بداية الادعاء اليهودي بأن القدس هي عاصمة إسرائيل الخالدة..
تلك هي قصة القدس في سيرتها عبر سبعة آلاف عام.. مدينة عربية حتى بأسمائها: أورسالم، ويبوس، وإيلياء في عهد الرومان وبيت المقدس في فترة الفتح الإسلامي، عبر ثلاثة عشر قرنا من الزمان.
فإذا كان الحق هو التاريخ والتاريخ وحده، فإن القدس هي بلدنا وليست لسوانا.. وإذا كان الحق هو القوة والسلاح والحرب، فما على المسلمين والعرب إلا أن يحاربوا ويقتحموا مدينتهم المقدسة وذلك هو فصل الخطاب .. اللهم إني بلغت فاشهد..
وهنا يقفز أمامنا السؤال الكبير وما هي حصيلة هذا السرد التاريخي لأحداث القدس عبر هذه العصور والأجيال..
كل ذلك يمكن تلخيصه في عبارة صادقة أمينة .. يمكن إيجازها في ما يلي :-
أولا: إن أورشليم لم تكن عاصمة لليهود إلا في فترة زمنية قصيرة محدودة، وكان ملوك اليهود أثناءها تابعين إما لمصر أو سوريا أو العراق.. وقد سيق هؤلاء الملوك أسرىإلى العواصم العربية مكبلين بسلاسل من النحاس كما ذكرت التوراة نفسها!!(1/254)
ثانيا: إن فلسطين ومنها أورشليم قد وقعت تحت سيادة الرومان والبيزنطيين والفرس والمصريين لعدة قرون أضعافا مضاعفة للحقبة اليهودية. وإذا كان الزمن هو أحد المقاييس السياسية فإن أورشليم أولى أن يطالب بها الفرس والرومان والمصريون لتكون إحدى حواضرهم فقد حكموها مدة أطول من الحكم اليهودي.
ثالثا: خلال حكم القياصرة والأكاسرة كان الوجود اليهودي معدوما بالكلية في فلسطين وفي أورشليم بالذات على حين أن الوجود العربي كان وما يزال قائما ومستمرا، وبقي أهل الأرض في أرضهم.
وفي نهاية هذا الفصل تبقى أمامنا مشكلة بسيطة يتعين جلاؤها حتى لا تظل ذريعة لليهود يتمسكون بها في دعواهم بأن بيت المقدس "أورشليم" هي عاصمة إسرائيل الخالدة.
هذه المشكلة تتصل بالاسم وهو "أورشليم" فإن شيوعها قد اصبح يوحى بأن اللفظة يهودية ولكن الحقيقة التاريخية الثابتة هي غير ذلك بالكلية.
إن المدينة المقدسة هي المدينة الوحيدة في العالم التي تحمل أسماء متعددة وقد اقتبستها من عهودها التاريخية المتعددة.
ولكن أقدم أسمائها هو يبوس نسبة إلى اليبوسيين العرب الذين كانوا أول من استوطنها وأول من بناها.. وفي التوراة كما أسلفنا في صدر هذا الفصل وردت (أورشليم التي هو يبوس) كمرادف لها بهذه العبارة.
ويأتي بعد ذلك من الأسماء القديمة يروسالَم أو أورشالَم وسالم بفتح اللام وفي رسائل تل العمارنة في مصر ورد أسمها يوروساليم وفي النقوش الأثرية وردت لفظة أوروساليمو..
وأصل لفظة أورشاليَم :" أور" معناها مدينة وهذا الاسم معروف لمدينة أور الكلدانية في العراق. أما شاليم فهو اسم إله السلام عند الكنعانيين، وهو كذلك اسم المدينة أيام الكاهن الأعلى ملكي صادق "ملك شاليم الكنعاني" الذي بارك إبراهيم بعد وصوله إلى فلسطين من العراق كما روت التوراة نفسها. (سفر التكوين-الإصحاح 14).(1/255)
أما اسمها في العصور الوسيطة فهو (إيليا) كما شرحنا ذلك أعلاه وهو الاسم الذي وجده العرب أمامهم فجاء في كتبهم تحت فصل "فتح إيلياء".
وهناك ملاحظة هامة ينبغي أن لا تفوتنا وهي أن المدينة التي بناها داود وهي التي يعنيها بيجن في خطابه كعاصمة لإسرائيل قد زالت من الوجود، فقد هدمت أورشليم عدة مرات، وأصبح عاليها سافلها وانهدم معها الوجود اليهودي بأسره، ويقول الرحالة اليهودي بنيامين الطليطلي الإسباني في كتابه المعروف عن رحلتهإلى الشرق أنه لم يجد في القدس أثناء زيارته لها في القرن الثاني عشر الميلادي إلا يهوديا واحدا فقط، وأن فلسطين كلها لم يكن فيها غير 200 يهودي.
ومن الآثار التاريخية ذات القيمة العلمية الكبيرة في هذا الصدد كنيسة الروم الأرثوذكس في مأدبا فقد وجدت فيها خريطة مرسومة بالفسيفساء من القرن الرابع الميلادي في غاية الجمال والدقة، رسمت فيها خريطة القدس بوصف أنها مركز العالم.
وثمة ملاحظة تاريخية أخرى وهي أن الكشوف الأثرية في القدس حددت آثاراً يبوسية وعمورية وكنعانية (وكلها عربية) ولكنها لم تجد آثارا يهودية على الإطلاق، حتى أن البحث عن بقايا الهيكل قد كشف عن آثار أموية فقط. وتلك مفارقة عجيبة.
ولكن أطرف ما في الآثار الباقية في فلسطين أن كثيرا من المعابد الإسلامية قد أنشئت تبركا بالأحداث اليهودية التي لليهود أنفسهم مآثر لها.
من ذلك أن الحرم الإبراهيمي الشريف قد أقيم تبركا بأضرحة سيدنا إبراهيم الخليل وزوجته وأولاده وسائر أهله، وقد أقيمت قبة راحيل في بيت لحم تذكاراً لزوجة يعقوب "إسرائيل".
كذلك مقام النبي موسى بين القدس وأريحا بناه المسلمون تبركا بموسى كبير أنبياء اليهود..
... ومثل ذلك النبي صموئيل على بضعة كيلو مترات من القدس أقيم فيه مسجد إسلامي تذكارا لأحد الأنبياء اليهود وقضاتهم.(1/256)
... كل ذلك وغيره كثير بناه ملوك المسلمين وأمراؤهم في فلسطين تبركا بأنبياء اليهود، لأن الإسلام لا يفرق بين أحد من النبيين وهو يؤمن برسالاتهم.
... وخير ما نختم به هذا الفصل شهادة تاريخية قيِّمة أصدرها أكبر قضاة فلسطين من الإنجليز عن حال بيت المقدس تحت الحكم الإسلامي..
... وقد وردت هذه الشهادة في كتاب رسمي صادر عن الحكومة البريطانية في فلسطين بعنوان "تقرير عن السير وليم فيتزجيرالد عن الإدارة المحلية للقدس تاريخ 28 أغسطس 1945" وصاحب هذا التقرير هو قاضي القضاة في فلسطين وكان قد عهد إليه أن يدرس موضوع بيت المقدس ويقدم المقترحات اللازمة بشأن إدارة المدينة المقدسة.
... وقد ورد في الصفحة الرابعة من هذا التقرير ما ترجمته..
... "العرب والقدس:-
... في عام 637م وبعد حصار استمر أربعة شهور سقطت المدينة بيد عمر الخليفة الثاني في الإسلام ولم يكن الإنجاز الإسلامي في عهد الخلفاء المسلمين الأربعة محل إنصاف إلا في الأزمنة الأخيرة ولم يحدث أبدا في تاريخ الهزائم الحربية إلى يوم الفتح الإسلامي للقدس أن تجلت أحاسيس وعواطف سمحاء من قبل أي فاتح كتلك التي تجسدت على يد الخليفة عمر يوم فتح بيت المقدس. وكمبادرة على الاحترام العميق جاء عمر الخليفة بنفسه من مكة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس.. ودخلها ماشيا على قدميه من باب يافا وقد كان واحدا من الشروط التي جرى بموجبها تسليم المدينة وتم احترامها وتطبيقها، هو المحافظة على الكنائس والممتلكات المسيحية والطائفة المسيحية.. وقد تمت كفالة حرية العبادة وعاش المسلمون والمسيحيون فيما بينهم بمودة وإخاء، كما فعل فاتح عظيم آخر بعده بنحو ستة قرون (يعني صلاح الدين) وإذا لم يفعل العرب شيئا عبر العصور إلا تلك المعاملة الحسنة التي لقيها المسيحيون المقهورون فإن ذلك وحده يكفي أن يجعل للعرب مقاما مرموقا جديرا بالفخر والاعتزاز في تاريخ القدس"..إلى آخره..(1/257)