حكم مرتكب الكبيرة
عند أهل السنة وبعض الفرق المخالفة
د. إبراهيم عامر الرحيلي
قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
مقدمة
الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو، له الحمد في الأولى والآخرة، بعَث رسولَه بالدِّين القويم، وأحسن له في الدَّارَين العاقبة، وشرف أمّته على سائر الأمم فهي إلى كلّ خيرٍ سابقة، أحمده على نعمه وآلائه السّابغة.
وأصلِّي وأسلّم على رسوله ذي المناقب العالية والدّرجة الرّفيعة الباسقة، وعلى آله وصحبه ومَنِ اهتدى بهديه إلى قيام السّاعة.. أمّا بعد:
فإنّ مسألة مرتكب الكبيرة مِنَ المسائل العظيمة التي نشأ النّزاع فيها بين المسلمين منذ وقتٍ مبكِّرٍ مِنْ تاريخ هذه الأمّة، بل عدّ العلماء بدعةَ التّكفير بالذّنوب أوّل البدع ظهوراً في الأمّة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذّنوب والخطايا؛ فإنّه أوّل بدعةٍ ظهرت في الإسلام، فكفر أهلها المسلمين واستحلّوا دماءهم) (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف (13/31).(1/1)
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (لما بعث عليّ أبا موسى ومَنْ معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتدّ أمر الخوارج، وبالغوا في النّكير على عليّ وصرّحوا بكفره) (1) . وقد ذكر المحقّقون في الفِرق: إجماع الخوارج على إكفار عليّ، وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكَمَين، ومَنْ رضي بالتّحكيم، وصوّب الحكَمَين، أو أحدهما (2) . كما نقل الأشعري عنهم إجماعهم على أنّ كلّ كبيرةٍ كفرٌ إلاّ النّجَدَات (3) .
__________
(1) البداية والنّهاية للحافظ عماد الدين ابن كثير، تحقيق عبد الله التركي، ط الأولى، دار الهجرة للطباعة (10/577).
(2) انظر: مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلين للإمام أبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط الثانية 1389هـ، مكتبة النضهة المصرية (1/167)، والفَرق بين الفِرق لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، (ص 73)، والتّبصير في الدِّين لأبي مظفر الإسفراينِي تحقيق كمال يوسف الحوت ط الأولى، عالم الكتب (ص 45.).
(3) انظر: مقالات الإسلاميّين 1/168، والفَرق بين الفِرق للبغدادي ص 73.(1/2)
ثم ظهرت المرجئة في مقابل الخوارج وردّوا بدعة الخوارج ببدعةٍ أخرى؛ فزعموا أنّ المعاصي لا أثر لها في نقص الإيمان بل أنكروا أن تكون الأعمال من الإيمان (1) . وكان أوّل ظهور المرجئة في الكوفة في آخر عصر الصّحابة (2) . وأوّل مَنْ عرف أنّه تكلّم في الإرجاء على التّحديد ذر بن عبد الله بن زرارة المرهبِي، وكان قد شهد مع ابن الأشعث قتال الحجاج سنة 80 هـ (3) . روى الخلال بسندٍ صحيحٍ عن إسحاق بن إبراهيم قال: (سألتُ أبا عبد الله ـ يعنِي أحمد بن حنبل ـ قلتُ: أوّل مَنْ تكلَم في الإيمان مَنْ هو؟ قال: يقولون: أوّل مَنْ تكلَم فيه ذر) (4) . وقد أنكر سلف الأمّة من الصّحابة والتّابعين بدعة المرجئة، كما أنكروا بدعة الخوارج. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (حدثت بدعة القدرية والمرجئة فردّها بقايا الصّحابة؛ كابن عبّاسٍ، وابن عمر، وجابر، وواثلة بن الأسقع وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ، مع ما كانوا يردّونه هم وغيرهم مِنْ بدعة الخوارج والرّوافض) (5) . وقال ـ رحمه الله ـ: (والسّلف اشتدّ نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل مِنَ الإيمان، وقالوا: إنّ الإيمان يتماثل النّاس فيه) (6) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/38.
(2) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/311، 13/38، 10/357.
(3) انظر: ترجمته في: ميزان الاعتدال للذّهبِي 2/32.
(4) السّنة للخلال لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، تحقيق عطية الزهراني، ط الأولى، 1410 هـ، دار الراية للنشر والتوزيع (1/563)، وقال المحقّق: (إسناده صحيح).
(5) مجموع الفتاوى 10/357.
(6) مجموع الفتاوى 7/555.(1/3)
ثم أحدث المعتزلة بعد ذلك القول بـ: (الْمَنْزِلة بين الْمَنْزِلَتَين)، ودعوى أنّ مرتكب الكبيرة في مَنْزِلةٍ بين الكفر والإيمان؛ ليس هو بِمُؤمِنٍ ولا كافر. وأوّل ما عرفت هذه المقالة عن واصل بن عطاء الذي كان تلميذاً للحسن البصري؛ فاعتزل مجلس الحسن البصري لذلك، فَسُمِّي ومَنْ كان معه (مُعْتَزِلة). يقول الشّهرستانِي في بيان سبب القول بـ: (الْمَنْزِلة بين الْمَنْزِلَتَين): (والسّبب فيه أنّه دخل واحدٌ على الحسن البصري؛ فقال: يا إمام الدِّين؛ لقد ظهرت في زماننا جماعةٌ يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفرٌ يخرج به عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعةٌ يرجون، أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضرّ مع الإيمان معصيةٌ كما لا ينفع مع الكفر طاعةٌ، وهم مرجئة الأمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مُؤمِنٌ مُطلقٌ، ولا كافرٌ مطلقٌ، بل هو في مَنْزِلة بين الْمَنْزِلَتَين؛ لا مؤمِن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى اسطوانةٍ من اسطوانات المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعةٍ من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصلٌ، فَسُمِّي هو وأصحابه مُعْتَزِلَة) (1) .
ويقول البغدادي: (ثم حدث أيّام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزال في القدر وفي الْمَنْزِلَة بين الْمَنْزِلَتَين، وانضمّ إليه عمرو بن عبيد بن باب في بدعته، فطردهما الحسن عن مجلسه، فاعتزلا إلى ساريةٍ من سواري مسجد البصرة، فقيل لهما ولأتباعهما: (مُعْتَزِلَة) لاعتزالهم قول الأمّة في دعواهما أنّ الفاسق مِنْ أمّة الإسلام لا مؤمِن ولا كافر) (2) .
__________
(1) الْمِلل والنّحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تعليق أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، ط الثانية 1413هـ (ص 42).
(2) الفرق بين الفرق ص 20.(1/4)
والمقصود أنّ هذه المسألة وهي حكم مرتكب الكبيرة من أهمّ المسائل وأخطرها؛ لأن الخلاف فيها بين فرق الأمّة قديمٌ ومتشعّبٌ، والكلام فيها متفرّعٌ عن مسألة الإيمان التي هي لبّ هذا الدِّين وأصله، ولا زالت الأمّة تعانِي من آثار الانحراف في فهم هذه المسألة بسبب تسرّب هذه المفاهيم الخاطئة إلى بعض أفراد هذه الأمّة عن طريق دعاة الضّلال حتّى راج فكر الإرجاء وخرجت مبادئ الخوارج في قوالبَ جديدةٍ وتحت ستورٍ مزيَّفةٍ في تاريخ الأمّة المعاصر.
لذا، رأيتُ مِنْ واجب النّصح للأمّة دراسة هذه المسألة في بحثٍ لطيفٍ مختصرٍ يتضمّن بيان معتقد أهل السّنة، ومعتقد الطّوائف المخالفة في هذه المسألة الدّقيقة، ببيان الأصل الذي عليه مدار كلّ مقالة وتجلية وجه مخالفة أهل السّنة للمقالات الباطلة في هذا الباب.
لمحة موجزة عن حقيقة الإيمان عند أهل السنة والفرق المخالفة
اختلف الناس في حقيقة الإيمان الشرعي على أقوال:
يعتقد أهل السنة أن الإيمان اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. يقول الإمام أحمد: (الإيمان قول، وعمل، يزيد وينقص) (1) .
ويقول أبو بكر الآجري في ترجمته لباب الإيمان من كتاب الشريعة: (باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمناً إلاّ بأن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث) (2) .
__________
(1) السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق محمد سعيد القحطاني، ط الأولى، دار ابن القيم (1/307).
(2) كتاب الشريعة للإمام أبي بكر محمد الحسين الآجري، تحقيق عبد الله بن عمر الدميجي، ط الأولى 1418هـ دار الوطن (2/611).(1/5)
ويقول الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في وصف معتقد أهل السنة: (ويقولون: إن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) (1) . ويقول الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني: (ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة،يزيد بالطاعة،وينقص بالمعصية) (2) . وهذا القول، هو قول عامة السلف من الصحابة، والتابعين، ومن سار على طريقهم من العلماء المحقِّقين لمذهب السلف. كما نقل إجماعهم على هذا غير واحد من العلماء: يقول الإمام الشافعي: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من الثلاثة عن الآخر) (3) . ويقول الإمام البخاري: (لقيت أكثر من ألف رجلٍ من أهل العلم أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرات، قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرن... فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل...) (4) ثم ساق جملة معتقد أهل السنة. ويقول الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً، وعراقاً، وشاماً، ويمناً، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (5) .
__________
(1) كتاب اعتقاد أهل السنة للحافظ أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، تحقيق جمال عزون، دار الريان بالإمارات ( ص: 39).
(2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ط الأولى، 1415هـ، تحقيق ناصر بن عبد الرحمن الجديع، دار العاصمة الرياض (ص: 264).
(3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق أحمد بن سعد حمدان الغامدي، دار طيبة الرياض (5/886، 887.)
(4) المصدر نفسه (1/173، 174).
(5) المصدر نفسه (1/176).(1/6)
ويقول الآجري: (إن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح) (1) . ويقول البغوي: (اتفق الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان... وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (2) .
فالإيمان عند أهل السنة يتألف من ثلاثة أجزاء رئيسة وهي: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وعن هذه الأجزاء الثلاثة تتفرع شعب الإيمان. قال ابن القيم: (إن العبودية منقسمة على: القلب، واللسان، والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه) (3) . ويقول ابن حجر: (وهذه الشعب تتفرع عن أعمال القلوب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن) (4) . ثم ذكر أن أعمال القلوب تشتمل على أربع وعشرين خصلة، وأعمال اللسان تشتمل على سبع خصال، وأعمال البدن تشتمل على ثمان وثلاثين خصلة ـ ثم قال بعد ذكرها مفصلة ـ: (فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة، باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض) (5) .
__________
(1) كتاب الشريعة(2/ 611.).
(2) شرح السنة للإمام أبي محمد بن علي بن خلف البربهاري، تحقيق محمد سعيد القحطاني ط الأولى 1408 هـ دار ابن القيم (1/78).
(3) مدارج السالكين للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت (1/109).
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ط المعرفة بيروت (1/52).
(5) المصدر نفسه 1/53.(1/7)
وبناء على هذا قرر المحققون من أهل السنة أن الإيمان يتبعّض فيذهب بعضه بذهاب بعض الشعب، ويبقى بعضه ببقاء بعضها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (وأصلهم (أي: أهل السنة) أن الإيمان يتبعّض فيذهب بعضه ويبقى بعضه. كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (1) ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض. هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم) (2) .
وهذا مع مراعاة أن شعب الإيمان ليست على درجة واحدة، بل هي متفاوتة فمنها ما يذهب أصل الإيمان بذهابها، ومنها ما لا يذهب أصله بذهابها وإن كان ينفى كماله في حق المقصرين فيها. يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح مع الفتح 13/473 (ح: 7510)، ومسلم 1/182، (ح: 193).
(2) مجموع الفتاوى 18/270.
(3) كتاب الصلاة وحكم تاركها للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم ط الأولى 1409هـ دار ابن كثير دمشق (ص: 34).(1/8)
ولهذا كان من أصول أهل السنة في باب الإيمان، أن الإيمان يزيد وينقص، كما نص على ذلك الأئمة في الآثار المتقدمة. ويقول شيخ الإسلام مقرراً هذا عنهم: (والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (1) . كما أن من مذهب أهل السنة في باب الإيمان جواز الاستثناء فيه. وأن الرجل منهم إذا ما سئل أمؤمن أنت؟ قال: مؤمن إن شاء الله. وهذا احتراز منهم من التزكية،ودعوى استكمال الإيمان لا الشك في أصل الإيمان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: (وأما مذهب السلف أصحاب الحديث، كابن مسعود وأصحابه، والثوري، وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل، وغيره من أئمة أهل السنة، فكانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم.
لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان هو اسم لما يوافى به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى) (2) .
فهذا مجمل معتقد أهل السنة في الإيمان وما يتفرع عنه من مسائل.
عمدة قول المرجئة في الإيمان: هو إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعّض، ولا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين. فهذا هو أصل مذهبهم الذي أجمعت عليه سائر طوائفهم (3) . ولهذا سموا مرجئة؛ لأنهم أخّروا العمل عن الإيمان، فالإرجاء بمعنى: التأخير (4) . ثم إن المرجئة افترقوا بعد ذلك في حقيقة الإيمان على ثلاثة أقوال:
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/505.
(2) مجموع الفتاوى 7/439.
(3) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/471، 13/38.
(4) انظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ص: 202.(1/9)
فقالت الجهمية: الإيمان هو المعرفة بالقلب، وأن ما سوى المعرفة من خضوع القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح فليس من الإيمان. وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل (1) . وبنحو قول الجهمية قال أبو عبد الله الصّالحي حيث قال: (إنّ الإيمان مجرّد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم فإذا ذهبت دلّ ذلك على عدم تصديق القلب) (2) . وهذا القول هو المشهور من مذهب الأشعري وأصحابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدّهم أهل المقالات من المرجئة.
والقول الآخر عنه كقول السّلف وأهل الحديث: إنّ الإيمان قولٌ وعملٌ، وهو اختيار طائفةٍ من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان) (3) .
وقالت الكرامية: الإيمان هو قول اللسان فقط،دون تصديق القلب، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه، كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار (4) .
__________
(1) انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري1/214، وشرح حديث جبريل (الإيمان الأوسط) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق علي بن بخيت الزهراني (ص430)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية7/508، 13/56.
(2) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/509، وشرح حديث جبريل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 431-433.
(3) مجموع الفتاوى 7/509، وانظر: شرح حديث جبريل ص 431-433.
(4) انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري، 1/223، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 13/56، 7/509.(1/10)
وقال مرجئة الفقهاء: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، وأنكروا تفاضل الإيمان، ودخول الأعمال فيه، والاستثناء فيه، وبه قا ل حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة وطوائف من فقهاء الكوفة (1) .
يعتقد كل من الخوارج والمعتزلة أن الإيمان المطلق يتناول فعل جميع الطاعات وترك جميع المحرمات،وأنه متى ما ذهب بعض ذلك بطل الإيمان، فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلاً، وأنه في الآخرة خالد مخلد في النار.
ثم اختلفا في مسمّى الفاسق في الدّنيا: فقالت الخوارج: هو كافر، وقالت المعتزلة: هو في منْزلة بين المنْزلتين (2) .
منشأ خطأ الفرق المخالفة لأهل السنة في باب الإيمان، يرجع إلى شبهة واحدة وهي: اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض.
ثم اختلفوا في حكمه عند النقص فقال المرجئة: إذا ثبت بعضه ثبت كله، وقال الوعيدية إذا زال بعضه زال جميعه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: (وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ولم يبق منه شيء. ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهوالإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار.
وقالت المرجئة: ـ على اختلاف فرقهم ـ لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 13/56، 7/507.
(2) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 7/222، 18/271.(1/11)
ونصوص الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على ذهاب بعضه، وبقاء بعضه كقوله: (يخرج من النار مَن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (1) (2) . وقال شيخ الإسلام ــ رحمه الله ــ في موطن آخر: (وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : (يخرج من النار مَن كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان) (3) . فهذا أصل الشبهة التي بسببها ضلت الفرق المخالفة لأهل السنة في هذا الباب وهدى الله فيها أهل السنة للصّواب.
فارق أهل السنة أهل البدع في باب الإيمان في مسائل كثيرة:
فمن هذه المسائل ما فارقوا فيه عامة المخالفين، ومنها ما فارقوا فيه قول المرجئة، ومنها ما فارقوا فيه قول الوعيديّة. ففارقوا عموم المخالفين في باب الإيمان في ثلاث مسائل:
المسالة الأولى: أن أهل السنة يرون أن الإيمان يتجزأ ويتبعّض، فيذهب بعضه ويبقى بعضه خلافاً لعامة المخالفين، فإنهم لا يرون ذلك على ما تقدم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص: 16.
(2) مجموع الفتاوى 7/223.
(3) مجموع الفتاوى 7/510، و(18/270، 12/471)،ومنهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية، لشيخ الاسلام ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، ط الأولى، 1406هـ (5/204-205)، وشرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الاسلام ابن تيمية، تحقيق سعيد بن نصر بن محمد، ط الأولى، 1422هـ، مكتبة الرشد الرياض (ص: 235).(1/12)
المسالة الثّانية: أن الإيمان عند أهل السنة يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، ولا يرى ذلك عامة أهل البدع بناء على أصلهم السابق في أن الإيمان لا يتجزأ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة، وغيرهم مِمَنْ يقول: إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص، قالوا: لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله؛ لأن الشّيء المركب من أجزاء متى ذهب منه جزء ذهب كله... ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق، وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا: إنه يزيد وينقص) (1) .
المسألة الثّالثة: أنه قد يجتمع في الرجل عند أهل السنة كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وهذا ما دلّت عليه النصوص كقوله تعالى: ژ ٹ ? ? ? ? ? ? ژ (يوسف: 106).
__________
(1) منهاج السنة 5/204، 205.(1/13)
وقد خالف في هذا عامة أهل البدع وأنكروه، بل ذهب الخوارج أنه لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة ومعصية (1) . يقول الإمام ابن القيم: (وههنا أصل آخر، وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع، كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل) (2) . ومعنى قولهم: (يجتمع فيه كفر وإيمان..الخ)، أي: تجتمع فيه شعب الكفر، وشعب الإيمان؛ فإن المعاصي من شعب الكفر، والطاعات من شعب الإيمان، وكل شعبة من شعب الكفر تسمى كفراً، وكل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً (3) . فهذامجمل ما فارق فيه أهل السنة أهل البدع عموماً في باب الإيمان.
وأما ما فارقوا فيه المرجئة على وجه الخصوص ففي ثلاث مسائل:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/353.
(2) كتاب الصلاة وحكم تاركها ص: 39، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/48، وشرح العقيدة الطحاوية للإمام علي بن علي بن أبي العز الحنفي، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط ط الثانية 1413هـ مؤسسة الرسالة بيروت (ص: 507.)
(3) انظر: شرح حديث جبريل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص: 398، وكتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص: 40.(1/14)
المسالة الأولى: يرى أهل السنة دخول الأعمال في مسمّى الإيمان بينما لا يرى ذلك المرجئة. قال سفيان الثوري: (خالفنا المرجئة في ثلاثٍ، نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله) (1) . ومسألة إخراج العمل من مسمّى الإيمان هو عمدة قول المرجئة الذي أجمعت عليه طوائفهم كما تقدم تقرير ذلك، ولذا قال البربهاري ــ رحمه الله ــ (من قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقد خرج من الإرجاء أوّله وآخره) (2) .
المسألة الثّانية: أهل السنة لا يقطعون لأحدٍ من المسلمين بالإيمان الكامل، ولا ينفون عنه أصل الإيمان،والمرجئة يجعلون كل من حقَّق أصل الإيمان مؤمناً كاملاً، بل يجعلون الفاسق مؤمناً كامل الإيمان، وهذه المسألة هي التي أشار إليها الإمام سفيان الثوري في قوله المتقدم: (ونحن نقول مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون نحن مؤمنون عند الله). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان مواقف الطوائف من صاحب المعصية: (فقالت المرجئة جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان) (3) .
__________
(1) شرح السنة للإمام أبي محمد الحسن بن مسعود البغوي، تحقيق علي محمد معوض، وعادل أحمد، دار الكتب العلمية (1/80).
(2) شرح السنة ص: 57.
(3) مجموع الفتاوى 7/354.(1/15)
المسألة الثّالثة: أهل السنة يجوِّزون الاستثناء في الإيمان المطلق الكامل ويمنعون منه في أصل الإيمان. فهم لا يشهدون لأنفسهم بالإيمان الكامل،ولا يشكون في أصل إيمانهم. كما تقدم تقرير ذلك عنهم . وأما المرجئة فهم يحرّمون الاستثناء في الإيمان بناء على أصلهم، أن الإيمان شيء واحد وهو تصديق القلب ويسمّون من يستثني شاكّاً (1) . فهذه أهم الفوارق بين أهل السنة والمرجئة.
وأما ما فارق فيه أهل السنة الوعيدية ففي ثلاث مسائل أيضاً:
المسألة الأولى: أن أهل السنة يعتقدون بقاء أصل الإيمان مع وجود الذنوب. والخوارج والمعتزلة يعتقدون ذهاب الإيمان بالكلية مع وجود بعض الذنوب، ولهذا فأهل السنة لا يخرجون أصحاب المعاصي من الإسلام. والخوارج والمعتزلة يخرجونهم. يقول شيخ الإسلام في شرح حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (2) . (فالخوارج والمعتزلة يحتجّون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يبق معه من الإيمان، بل ولا من الإسلام شيء أصلاً، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها، ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع) (3) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/429، وشرح الطحاوية لابن أبي العز ص: 494- 496.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح مع الفتح5/119،(ح:2475)وصحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق فؤاد عبد الباقي، المكتبة الاسلامية، استانبول (1 /76)، (ح:57).
(3) شرح حديث لا يزني الزاني وهو مؤمن لشيخ الاسلام ابن تيمية، تحقيق دغش بن شبيب العجمي، ط الأولى دار ابن حزم (ص: 24).(1/16)
المسألة الثّانية: أهل السنة يفرِّقون بين الإسلام والإيمان عند اجتماعهما، كما دلّ على هذا حديث جبريل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد فرَّق النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل بين مسمّى الإسلام، ومسمّى الإيمان ومسمّى الإحسان...) (1) . وأما الخوارج والمعتزلة فلا يفرِّقون بين الإسلام والإيمان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن فساق الملّة: (أما الخوارج والمعتزلة فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام، فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد) (2) .
المسألة الثّالثة: مخالفة أهل السنة للخوارج والمعتزلة في مسمّى الفاسق وحكمه، فأهل السنة يقولون هو مسلم، وحكمه في الآخرة تحت المشيئة إن شاء الله عذّبه، وإن شاء غفر له، والخوارج يقولون هو كافر وحكمه في الآخرة أنه خالد مخلد في النار، والمعتزلة يقولون هو في منْزلة بين المنْزلتين، لا مؤمن ولا كافر، وحكمه في الآخرة خالد مخلد في النار (3) . وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في حكم مرتكب الكبيرة إن شاء الله.
فهذه أبرز أوجه الاختلاف بين أهل السنة والفرق المخالفة في باب الإيمان، والتي يتبين من خلالها ــ مع ما تقدم عرضه ــ معتقد أهل السنة والفرق المخالفة في حقيقة الإيمان، وما يتعلق به من مسائل.
أوّلاً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الدّنيا
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/6، و(7/366، 372، 375).
(2) مجموع الفتاوى 7/242.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 7/241-242، 12/470-474، 479-484، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص: 442.(1/17)
يعتقد الخوارج أنّ مرتكب الكبيرة كافر، وقد أجمعت على ذلك سائر فرقهم إلاّ النجدات (1) منهم.
__________
(1) فرقة من فرق الخوارج، ينتسبون إلى نجدة بن عامر الحَنَفي (نسبة لبني حنيفة)، أوجبوا الهجرة إليهم وزعموا أنّ مَن ثقل عن الهجرة إليهم فهو منافق، وتولوا أصحاب الحدود من موافقيهم، وقالوا: لا ندري لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعموا أنّ مخالفيهم يدخلون النار، ثم إنّ النجدات اختلفوا على نجدة ونقموا عليه أشياء فقتلوه وافترقوا بعده إلى ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكيّة، وكلّ طائفة تتبرأ من الأخرى. انظر: مقالات الإسلاميّين 1/174-176، والفرق بين الفرق، ص: 87-90.(1/18)
قال الأشعري في حكاية مذهبهم: (وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفر إلاّ النجدات؛ فإنها لا تقول ذلك) (1) . و قال الملطي: (والشُّرَاة (2) كلّهم يكفّرون أصحاب المعاصي، ومَن خالفهم في مذهبهم، مع اختلاف أقاويلهم ومذهبهم) (3) . ويقول الإسفرايينِي في وصف مذهبهم: (أنّهم يزعمون أنّ كلّ مَن أذنب ذنباً من أمة محمّد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، ويكون في النار خالداً مخلَّداً إلاّ النجدات منهم) (4) . ويعتقد النجدات: أنّ الفاسق كافر، على معنى كفر النعمة، لا الكفر الأكبر (5) . وقيل: إنهم لا يكفرون أهل الكبائر منهم ويكفّرون مَن أذنب من غيرهم (6) . ويجري الخوارج أحكام الكفار على أهل المعاصي في الدّنيا، فيستبيحون دماء وأموال أهل القبلة من أهل الكبائر، لاعتقادهم كفرهم. يقول الأشعري: (وأما السيف؛ فإنّ الخوارج جميعاً تقول به وتراه، إلاّ أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور، ومنعهم أن يكونوا أئمة، بأي شيء قدروا عليه، بالسيف، أو بغير السيف) (7) .
__________
(1) مقالات الإسلاميّين 1/168.
(2) من ألقاب الخوارج؛ سمّوا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله. انظر: مقالات الإسلاميّين 1/206-207.
(3) التنبيه والرّدّ على أهل الأهواء والبدع،لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي، تحقيق يمان بن سعد الدين المياديني، رمادي للنشر (ص: 63).
(4) التبصير في الدين، لأبي مظفر الإسفراييني، تحقيق كمال يوسف الحوت ط الأولى، عالم الكتب،(ص: 45).
(5) انظر: التبصير في الدين للإسفرايينِي، ص: 45.
(6) انظر: البرهان في معرفة عقائد أهل الإيمان، لأبي الفضل عباس بن منصور التريني السكسكي،تحقيق بسام علي سلامة العموش ط الأولى 1408 هـ عالم الكتب (ص: 19).
(7) مقالات الإسلاميّين 1/204.(1/19)
ويقول ابن الجوزي: (وما زالت الخوارج تخرج على الأمراء، ولهم مذاهب مختلفة، وكان أصحاب نافع بن الأزرق يقولون: نحن مشركون ما دمنا في دار الشرك، فإذا خرجنا فنحن مسلمون، قالوا: ومخالفونا في المذاهب مشركون، ومرتكبو الكبائر مشركون، والقاعدون عن موافقتنا في القتال كفرة. وأباح هؤلاء قتل النساء والصبيان من المسلمين، وحكموا عليهم بالشرك) (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (أوّل البدع ظهوراً في الإسلام وأظهرها ذماً للسّنة والآثار، بدعة الحرورية المارقة... ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم: أحدهما: خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيّئة سيّئة، أو ما ليس بحسنة حسنة... الفرق الثّّاني: في الخوارج، وأهل البدع: إنّهم يكفّرون بالذنوب والسيّئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنّ دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان) (2) .
وقد أخبر النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن استباحة الخوارج لدماء المسلمين قبل وقوعه، فكان من علامات نبوته، ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال في ذي الخويصرة: (إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان) (3) .
__________
(1) تلبيس إبليس، للإمام الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، دار المدني للطباعة والنشر ص: 130، 131.
(2) مجموع الفتاوى 19/71-73.
(3) صحيح مسلم 2/741، 742، (ح: 1064).(1/20)
قال أبو العباس القرطبي في شرح الحديث: (هذا إخبار منه عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان دليلاً من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ؛ وذلك أنهم لَمّا حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذّمّة، وقالوا: نفي لهم بذمّتهم، وعدلوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين) (1) .
ويقول شيخ الإسلام في وصفهم: (وهم أوّل مَن كفّر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان) (2) .
ثانياً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الآخرة
لما حكم الخوارج على أهل الكبائر في الدّنيا بالكفر وخروجهم من الدين بالكلية، زعموا أنّ حكمهم في الآخرة هو دخول النار، وأنهم سيخلدون فيها أبداً، وأن الله لا يغفر لهم شيئاً من ذنوبهم إن لم يتوبوا منها في الحياة الدّنيا. قال الأشعري في سياق حكاية مذهبهم: (وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلاّ النجدات) (3) .
وقال السكسكي في معرض نقل مذهبهم: (وقالوا إن الإصرار على أي ذنب كان كفر...، وإنّ مرتكبي الكبائر مخلّدون في النار، معذّبون بعذاب أهل النار) (4) .
__________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، للإمام أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، تحقيق محيي الدين ديب مستو، يوسف علي بدوي ط الأولى 1417هـ دار ابن كثير بيروت. 3/114، وانظر: فتح الباري لابن حجر 12/301.
(2) مجموع الفتاوى 7/481، 482.
(3) مقالات الإسلاميّين 1/168.
(4) البرهان، ص: 19.(1/21)
وذكر الإسفرايينِي أنّ مِمَّا اتّفق عليه الخوارج؛ أنّهم يزعمون أنّ كلّ مَن أذنب ذنباً من أمة محمّد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، ويكون في النار خالداً مخلّداً؛ إلاّ النجدات منهم؛ فإنهم قالوا: إنّ الفاسق كافر على معنى أنّه كافر نعمة ربه) (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والخوارج والمعتزلة يقولون: إنّ صاحب الكبيرة يخلّد في النار، ثم إنّهم قد يتوهمون في بعض الأخبار أنّه من أهل الكبائر كما توهم الخوارج في عثمان، وعليّ، وأتباعهما أنّهم مخلّدون في النار) (2) . ويعتقد الخوارج أنّ العذاب الذي يكون لأهل الكبائر في النار، هو عذاب الكفار خلافاً للمعتزلة.
__________
(1) التبصير في الدين، ص: 45.
(2) مجموع الفتاوى 4/475، 476.(1/22)
يقول الأشعري: (وأما الوعيد فقول المعتزلة فيه، وقول الخوارج قول واحد؛ لأنّهم يقولون: إنّ أهل الكبائر الذين يموتون على كبائرهم هم في النار خالدين فيها مخلّدين غير أن الخوارج يقولون: إنّ مرتكبي الكبائر مِمَّن ينتحل الإسلام يعذّبون عذاب الكافرين، والمعتزلة يقولون: إنّ عذابهم ليس كعذاب الكافرين) (1) . وقد حكى هذا القول عن الطائفتين السكسكي في البرهان (2) . وأنكر الخوارج الشفاعة لأهل الكبائر. بناء على قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار، وقد حكى ذلك عنهم جمع من العلماء. يقول القاضي عياض: (مذهب أهل السّنة جواز الشفاعة عقلاً ووجوبها بصريح قوله تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (طه: 109). ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتأوّلت الأحاديث الواردة فيها، واعتصموا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار) (3) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لكن كثيراً من أهل البدع، والخوارج، والمعتزلة، أنكروا شفاعته (أي: النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ) لأهل الكبائر، فقالوا: لا يشفع لأهل الكبائر، بناء على أنّ أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم، ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها) (4) . ويقول ابن كثير-بعد أن ذكر شفاعة النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته-: (وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وخفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك، جهلاً منهم بصحّة الأحاديث، وعناداً مِمَّن علم ذلك واستمر على بدعته) (5) .
__________
(1) مقالات الإسلاميّين 1/204.
(2) البرهان، ص: 20.
(3) إكمال المعلم بفوائد مسلم للإمام أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، تحقيق يحيى اسماعيل ط الأولى 1419هـ، دار الوفاء (1/565).
(4) مجموع الفتاوى 1/318.
(5) النهاية في الفتن والملاحم، للحافظ ابن كثير الدمشقي، تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، دار الصابوني 2/209.(1/23)
ثالثاً: الأصل الذي بنوا عليه مذهبم، وموقفهم من نصوص الوعد والوعيد
أصل شبهة الخوارج في تكفير أهل الذنوب والمعاصي ترجع إلى شبهتين عامتين:
إحداهما: متعلقة بالأسماء والأحكام (أي: مسمّى الفاسق وحكمه).
والثانية: متعلقة بالجزاء والثّواب. أما الشبهة الأولى: ــ وهي المتعلقة بالأسماء والأحكام ــ فمرجعها إلى أصل معتقدهم في الإيمان، وهو أنّهم ظنّوا أنّ الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعّض؛ فإذا ذهب بَعْضُه ذهب كلُّه. يقول شيخ الإسلام: (وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم، أنّهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً؛ إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : (يخرج من النار مَن كان في قلبه مثقال حبّة من الإيمان) (1) (2) .
فنتج عن هذا أنهم اعتقدوا في مرتكب الكبيرة أنّه فاقد للإيمان قالوا: والناس ليس إلاّ مؤمن وكافر (3) . فإن لم يكن مؤمناً فهو كافر،ثم أجروا أحكام الكفار على أهل المعاصي فاستباحوا بذلك الدماء والأموال.
فهذا هو أصل شبهتهم فيما اعتقدوه من أحكام الدّنيا من تكفير أهل المعاصي، واستباحة دمائهم وأموالهم.
__________
(1) أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح13/473(ح7510)ومسلم1/182(ح193).
(2) مجموع الفتاوى 7/510.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 12/471.(1/24)
وأما الشبهة الثّّانية ــ وهي المتعلقة بالجزاء والثّواب ــ فمرجعها لما ظنّوه من أنّ الشخص الواحد لا يجتمع فيه الثّواب والعقاب. فهوإما مثاب، وإما معاقب. وقد نقل شيخ الإسلام هذا عنهم. فقال في سياق تقرير معتقدهم في مرتكب الكبيرة: (وأصل هؤلاء أنّهم ظنّوا أنّ الشخص الواحد لا يكون مستحقاً للثّواب والعقاب، والوعد والوعيد، والحمد والذّمّ، بل إما لهذا وإما لهذا، فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها) (1) . ثمّ إنّهم لما قرّروا هذا الأصل ورأوا أنّ النّصوص جاءت باستحقاق أهل الذنوب للعقوبة، حكموا فيهم بأنّهم خالدون مخلّدون في النار. فهذا هو أصل شبهتهم فيما اعتقدوه من أحكام الآخرة في حقّ أهل المعاصي وزعمهم أنّهم مخلّدون في نار جهنم كالكفار. ثم إنّه قوّى هذه الشبهة في نفوسهم، ما اعتقدوه من وجوب إنفاذ الوعيد على الله تعالى: (فإنّهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامّة، فقالوا يجب أن يدخل فيها كلُّ مَنْ شملته،وهو خبر،وخبر الله صدق،فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده والكذب على الله محال) (2) . والخوارج في هذا وافقوا المعتزلة في وجوب إنفاذ الوعيد في العصاة دون الوعد؛ ولهذا يسمّون: (وعيدية)، ويقابلهم المرجئة القائلون بإنفاذ الوعد في حقّ العصاة دون الوعيد. فالوعيدية قالوا: نصوص الوعد لا تتناول إلاّ مؤمناً، والعصاة ليسوا مؤمنين، والمرجئة قالوا:نصوص الوعيد لا تتناول إلاّ كافراً، والعصاة ليسوا كافرين (3) .
__________
(1) شرح الأصفهانية، ص: 226.
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 16/418، وانظر: مجموع الفتاوى 12/480، 14/347، 348، 18/191، 8/270.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 12/481.(1/25)
والحقّ في هذا ما عليه أهل السّنة؛ وهو ما دلّت عليه نصوص الكتاب والسّنة،وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (والتحقيق أن يقال: الكتاب والسّنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أنّ ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكلّ من النصوص يفسّر الآخر ويبيّنه، فكما أنّ نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن دلّ على أن مَن ارتدّ فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛لأن القرآن قد دلّ على أن الله يغفر الذّنوب جميعاً لِمَن تاب، وهذا متّفق عليه بين المسلمين.
فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السّيئات، إلاّ التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلاّ الرّدّة) (1) .
والمقصود هنا بيان شبهة الخوارج في تكفير عصاة المسلمين، والقطع بخلودهم في النار، وأما الرّدّ على شبههم فليس مقصوداً هنا، وفي كلام شيخ الإسلام هذا إشارة إلى انحرافهم في هذا الباب ومخالفتهم للكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة.
أوّلاً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الدّنيا
يعتقد المعتزلة أنّ مرتكب الكبيرة في منْزلة بين المنْزلتين، فلا يسمّى مؤمناً ولا يسمّى كافراً.
يقول القاضي عبد الجبار-وهو من كبار أئمة المعتزلة-: (صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمّى فاسقاً، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه، هو سبب تسمية المسألة بالمنْزلة بين المنْزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منْزلة تتجاذبها هاتان المنْزلتان، فليست منْزلته منْزلة الكافر، ولا منْزلة المؤمن، بل له منْزلة بينهما) (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/482، 483.
(2) شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار بن أحمد، تحقيق عبد الكريم عثمان، ط الأولى 1384هـ مكتبة وهبة، ص: 697.(1/26)
ويقول أبو المظفر الإسفرايني في سياق ذكر معتقدهم: (ومما اتّفقوا عليه من فضائحم: أنّ حال الفاسق الملي منْزلة بين المنْزلتين، لا هو مؤمن، ولا هو كافر) (1) .
ويقول الملطي: (وقالوا: إنّ فاعل الكبائر بعد إيمانه المقيم على إيمانه، فاسق، لا كافر، ولا مؤمن، ولا مسلم، ولا منافق، كما سمّاه الله فقط، وسمّوه المنْزلة بين المنْزلتين، أي: منْزلة بين الكفر والإيمان) (2) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان أقوال الناس في حكم مرتكب الكبيرة: (والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلّيّة، واسم الإسلام أيضاً، يقولون: ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون: نُنَزله منْزلة بين منْزلتين) (3) . فتلخص من هذا أنّ معتقد المعتزلة في مرتكب الكبيرة أنّهم يسلبون عنه مسمّى الإيمان والإسلام، فلا يسمّونه مؤمناً ولا مسلماً، كما أنهم يسلبون عنه مسمّى الكفر، فلا يسمّونه كافراً، ويقولون: هو في منْزلة بين الكفر والإيمان،ويسمّونه فاسقاً. فهذا هومجمل معتقدهم في مسمّى مرتكب الكبيرة. وأما حكم معاملته في الدّنيا فالذي يدلّ عليه كلام القاضي عبد الجبار السابق أنّهم يُجْرُون عليه أحكام المسلمين؛ فإنه قال: (وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث). فظاهر من كلامه أنّهم لا يجرون عليهم أحكام الكفار،ولا أحكام أهل الإيمان الكامل. ومفهوم ذلك أّنهم يحكمون لهم بحكم فساق المسلمين،وهؤلاء تجري عليهم أحكام أهل الإسلام. ويؤيّد هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ في نقل مذهبهم حيث قال: (فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدّنيا، لم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج) (4) .
__________
(1) التبصير في الدين، ص: 65.
(2) التنبيه والرّدّ على أهل الأهواء والبدع، ص: 51.
(3) مجموع الفتاوى 7/257.
(4) مجموع الفتاوى 13/38.(1/27)
وقال: (فالمعتزلة سوّوا بين أهل الذنوب وبين المنافقين في أحكام الدّنيا والآخرة) (1) . ومعلوم أنّ المنافقين المظهرين للإسلام تجري عليهم أحكام المسلمين في الدّنيا وهم في الآخرة مخلّدون في النار (2) . وكلام شيخ الإسلام هذا من أدقّ ما وصف به مذهب المعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة، فإنهم لما حكموا فيه في الدّنيا بحكم الإسلام وألحقوه في الآخرة بالكفار المخلّدين في النار، كان هذا موافقاً تماماً لأحكام المنافقين في الدّنيا والآخرة.
ثانياً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الآخرة
يعتقد المعتزلة أنّ مرتكب الكبيرة إن مات قبل التوبة منها أنّه يكون يوم القيامة خالداً مخلّداً في النار مع الكفار. كما نقل هذا المحقِّقون عنهم. يقول أبو المظفر الإسفرايينِي في معرض حديثه عن معتقدهم: (ومما اتّفقوا عليه من فضائحهم قولهم: إن حال الفاسق الملي منْزلة بين المنْزلتين، لا هو مؤمن، ولا هو كافر، وأنّه إن خرج من الدّنيا قبل أن يتوب يكون خالداً مخلّداً في النار مع جملة الكفار، ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه) (3) . ويقول الشهرستاني في وصف معتقد المعتزلة: (واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدّنيا على طاعة وتوبة استحقّ الثواب والعوض والتفضيل، ومعنى آخر وراء الثواب، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحقّ الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار، وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً) (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/424.
(2) انظر:مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية7/216، 13/20، 21، 11/405، ومنهاج السنة 5/326، 237.
(3) التبصير في الدين، ص: 65.
(4) الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، دار الكتب العلمية / ط الثانية 1413هـ، ص 39.(1/28)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري، وهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء الغزال، وأتباعهما، فقالوا: أهل الكبائر يخلّدون في النار، كما قالت الخوارج، ولا نسمّيهم لا مؤمنين ولا كفاراً، بل فساق ننَزّلهم منْزلة بين المنْزلتين) (1) .
ويقول الشيخ حافظ حكمي: (وقالت المعتزلة: العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نسمّيهم فاسقين، فجعلوا الفسق منْزلة بين المنْزلتين، ولكنهم لم يحكموا له بمنْزلة في الآخرة بين المنْزلتين، بل قضوا بتخليده في النار أبداً) (2) . والمعتزلة بناء على هذا ينكرون الشفاعةلأهل الكبائر من هذه الأمة. يقول شيخ الإسلام في سياق نقل مذهبهم: (وأنكروا شفاعة النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها، وقالوا: ما الناس إلاّ رجلان: سعيد لا يعذّب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفاراً) (3) . والمعتزلة من حيث الجملة يوافقون الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة، ويخالفونهم في حكم الدّنيا. كما أن بين الطائفتين توافقاً من بعض الوجوه، واختلافاً من وجوه أخرى في تفاصيل معتقدهما في مرتكب الكبيرة.
ويمكن إبراز أوجه الاتّفاق والاختلاف بينهما فيما يأتي: فمن أوجه الاتّفاق:
1ـ اتّفاقهما على أنّ مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان.
2ـ اتّفاقهما على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار لا يخرج منها.
3ـ اتّفاقهما على إنكار شفاعة النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر. ومن أوجه اختلافهما:
__________
(1) شرح حديث جبريل، ص: 326، 327.
(2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، تعليق عمر محمود أبو عمر، ط الثانية 1414 هـ دار ابن القيم 3/1020.
(3) شرح حديث جبريل، ص: 327، 328.(1/29)
? اختلافهما في حكم مرتكب الكبيرة في الدّنيا؛ فالخوارج يكفّرونه، والمعتزلة يجعلونه في منْزلة بين المنْزلتين.
? اختلافهما في مسمّاه؛ فالخوارج يسمّونه: (كافراً)، والمعتزلة يسمّونه: (فاسقاً).
? اختلافهما في أحكام معاملته في الدّنيا؛ فالخوارج يجرون عليه أحكام الكفار، والمعتزلة يجرون عليه أحكام المسلمين.
? اختلافهما في نوع عذابه في الآخرة؛ فالخوارج يقولون: يعذّب عذاب الكافرين، والمعتزلة يقولون: يعذّب دون ذلك.
ثالثاً: الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم في مرتكب الكبيرة وموقفهم من نصوص الوعد والوعيد
أصل شبهة المعتزلة التي بنوا عليها مذهبهم في حكم مرتكب الكبيرة هي نفسها شبهة الخوارج في هذه المسألة. وذلك أنّهم جميعاً ظنّوا أنّ الإيمان شيء واحد إذا زال بعضه زال جميعه، وأنّ الرجل الواحد لا يكون مستحقّاً للثّّواب والعقاب؛ فإما أن يكون مثاباً أو معاقباً، وأنّ كلّ مَن توعده الله بالعقاب فلا بدّ من إنفاذ الوعيد فيه. وقد تقدم تقرير ذلك مفصّلاً عند الحديث عن شبهة الخوارج بما يغني عن إعادتها هنا (1) .
__________
(1) انظر شبهة الخوارج في هذا البحث.(1/30)
غير أّنه تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعتزلة يعظمون (الوعد والوعيد)، وهو أحد أصولهم الخمسة التي عليها مدار معتقدهم، وقولهم بتخليد أهل الكبائر في النار يرجع إلى هذا الأصل. ومعتقدهم في الوعد والوعيد، أنّ الله تعالى إذا وعد بعض عباده بالثّواب، وبعض عباده بالعقاب فلا يجوز على الله أن يخلف وعده، فلا يثيب المطيع، ولا يخلف وعيده فلا يعاقب العاصي، وزعموا أنّه إن أخلف وعده أو وعيده فهذا خُلْفٌ وكَذِبٌ ينَزَّه الله عنه. يقول القاضي عبد الجبار: (وأما علوم الوعد والوعيد، فهو: أن الله تعالى وعد المطيعين بالثّواب، وتوعد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخُلْفُ والكذب) (1) . ومن هنا يظهر رسوخ عقيدة تخليد أهل الكبائر في النار عند المعتزلة، وأنّ تقريرهم لها ليس لمجرد شبهتهم في الإيمان، وأنّه إذا ذهب بعضه ذهب كلّه، ولا إلى النّظر المجرد في استحقاق أهل الوعيد للعقوبة فحسب، بل إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أنّ عقوبة العصاة أمر متحتم لازم لا يجوز على الله تركه وإلاّ أفضى إلى نسبة النقص لربّ العالمين.
أوّلاً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الدّنيا
__________
(1) شرح الأصول الخمسة، ص: 135، 136.(1/31)
يعتقد المرجئة أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وهذا بناء على أصلهم في إخراج الأعمال من الإيمان، وأنّها ليست داخلة في مسمّى الإيمان، على ما تقدم تقريره، وقد نقل العلماء هذا المذهب عن المرجئة في حكم عصاة المسلمين ومسمّاهم عندهم يقول ابن حزم: (اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملّتنا، فقالت المرجئة: هو مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يعمل خيراً قط، ولا كفّ عن شرّ قط) (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق ذكر مذاهب الناس في العاصي: (فقالت المرجئة؛ جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان) (2) . وقال في موطن آخر: (فقالت الجهمية والمرجئة قد علمنا أنّه ليس يخلّد في النار، وأنّه ليس كافراً مرتدّاً، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمناً تام الإيمان) (3) . وبناء على هذا القول يقطع المرجئة لعامة المسلمين بالإيمان، وأنّ الدار دار إيمان، ويبنون على ذلك سائر الأحكام.
يقول الأشعري: (وأجمعت المرجئة بأسرها أنّ الدّار دار إيمان، وحكم أهلها الإيمان إلا من ظهر منه خلاف الإيمان) (4) .
ثانياً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الآخرة
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، تحقيق ابراهيم نصر، وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل بيروت 1405هـ 3/273.
(2) مجموع الفتاوى 7/354.
(3) المصدر نفسه 13/50.
(4) مقالات الإسلاميين 1/225.(1/32)
نقل أصحاب الفرق والمقالات مذهب المرجئة في مرتكب الكبيرة وأنّهم يعتقدون أنّهم في الجنّة، ولا يدخل أحد منهم النّار، وإن فعل ما فعل من الذّنوب والآثام. نقل الملطي عن بعضهم أنّه يقول: (مَن قال: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرّم ما حرّم الله، وأحلّ ما أحلّ الله، دخل الجنّة إذا مات، وإن زنى وإن سرق وقتل وشرب الخمر وقذف المحصنات، وترك الصلاة والزكاة والصيام، إذا كان مقرّاً بها يسوف التوبة لم يضرّه وقوعه على الكبائر وتركه للفرائض، وركوبه الفواحش) (1) . ونقل في موطن آخر عن صنف منهم أنّهم زعمواأنّ مَن شهد شهادة الحقّ، دخل الجنة وإن عمل أيَّ عملٍ،كمالا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضرّ مع التوحيد سيّئة، وزعموا أنّه لا يدخل النّار أبداً،وإن ركب العظائم، وترك الفرائض، وعمل الكبائر) (2) . وقال السكسكي في وصف معتقدهم: (وأجمعوا على أنّه لا يدخل النّار إلا الكفّار فحسب) (3) . ونَقْل السكسكي إجماع المرجئة على هذا القول محل نظر. وإنّّما هو قول بعضهم كما ذكر الملطي وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ القول بأن أهل الكبائر يدخلون الجنّة ولا يدخلون النار) (4) ؛ هو قول غالية المرجئة، وقد تقدّم أنّ المرجئة ثلاث طوائف: الجهمية وهم غلاتهم، والكرامية ومرجئة الفقهاء. فالجهمية هذا القول المذكور هو قولهم. وأمّا الكرامية: فالظّاهر من كلام شيخ الإسلام في نقل مذهبهم. أنّهم يقولون بدخول أهل الكبائر الجنّة كذلك.
__________
(1) التنبيه والرّدّ على أهل الأهواء والبدع، ص: 57.
(2) المصدر نفسه، ص: 155.
(3) البرهان ص: 33.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 7/181.(1/33)
قال: (وقالت الكرامية هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنّة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً من أهل النار، وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان، وبعض النّاس يحكى عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنّة، وهذا غلط عليهم، بل يقولون: إنّه مؤمن كامل الإيمان وأنّه من أهل النّار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذباً في النّار بل يكون مخلداً فيها) (1) . فأفاد قولهم: (مَن تكلّم بالإيمان وأقرّ بقلبه فهو من أهل الجنة)، دخول أهل الكبائر في ذلك، وأنّهم يقطعون بدخولهم الجنّة ابتداءً؛ فإنّ أهل الكبائر لم يخالفوا بترك القول والاعتقاد الذي هو أصل الإيمان، وإنما خالفوا بارتكاب بعض المحرمات التي لا تتنافى مع إقرار القلب، وأما المنافقون فهم عندهم من أهل النار لتركهم إقرار القلب وإن سمّوهم في الدّنيا مؤمنين . ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مواطن من كتبه أنّ الكرامية خالفوا أهل السّنة في حكم المنافقين في الاسم دون الحكم. قال ـ رحمه الله ــ: (وقول ابن كرام فيه مخالفة في الاسم دون الحكم، فإنّه وإن سمّى المنافقين مؤمنين يقول أنّهم مخلّدون في النّار، فيخالف الجماعة في الاسم دون الحكم، وأتباع جهم يخالفون في الاسم والحكم جميعاً) (2) . فمقصود شيخ الإسلام بقوله: (خالفوا في الاسم دون الحكم)، أي: في أمر المنافقين كما هو بيّن من سياق الكلام؛ وذلك أنّ الكرامية لما قالوا إنَّ الإيمان هو القول فقط وأُلزموا بأنّ المنافقين على مذهبهم من أهل الإيمان وأنّهم يكونون في الجنة فبيّن أنّهم وإن سمّوهم مؤمنين إلاّ أنّهم يقولون هم في النّار؛ لأنّهم لم يقرّوا بقلوبهم فكان خلافهم في الاسم دون الحكم.
__________
(1) مجموع الفتاوى 13/56.
(2) مجموع الفتاوى 13/56.(1/34)
وأما حكم أهل الكبائرعندهم فظاهرمن كلام شيخ الإسلام السابق أنّهم يرون أنّهم في الجنّة،كما أنّ هذا هو المتلائم مع مذهبهم عندما جعلوا شرط دخول الجنّة هو تلفّظ اللسان وإقرار القلب ولم يذكروا العمل.
وأما مرجئة الفقهاء فهم موافقون سائر أهل السّنة في أنّ أهل الكبائر معرضون للعقوبة، وأنّ الله يعذّب بعضهم بالنّار. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق حديثه عن مخالفة مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان: (وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيراً من النّزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذاالقول، مثل: حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما،مع سائر أهل السّنة متفقين على أنّ الله يعذّب من يعذّبه من أهل الكبائر بالنّار ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصّحيحة بذلك، وعلى أنه لا بدّ في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أنّ الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحقّ للذّمّ والعقاب) (1) . كما نقل شارح الطّحاوية (اتّفاق أبي حنيفة مع سائر الأئمة على أنّ مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه) (2) . وقال: (وأجمعوا على أنّه لو صدق بقلبه وأقرّ بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه، أنّه عاصٍ لله ورسوله مستحقٌّ الوعيد) (3) . فهذا مجمل أقوال المرجئة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة. والله أعلم.
ثالثاً: الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم في مرتكب الكبيرة وموقفهم من نصوص الوعد والوعيد
__________
(1) مجموع الفتاوى 13/38، 39.
(2) شرح الطّحاوية لابن أبي العزّ، ص: 462.
(3) المصدر نفسه، ص: 463.(1/35)
يشترك المرجئة مع سائر الفرق المخالفة في الإيمان، من الخوارج والمعتزلة، في أصل شبهتهم التي بنوا عليها مذهبهم في حكم مرتكب الكبيرة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنّهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وإبقاء بعضه كما قال النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : (يخرج من النّار مَن كان في قلبه مثقال حبّة من الإيمان) (1) .
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلّها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره فحكموا بأنّ صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلاّ شيئاً واحداً لا يتبعّض إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنّّا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءاً منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج) (2) . وقال في موطن آخر: (وأما الذين أنكروا تبعضه وتفاضله (أي: الإيمان) كأنّهم قالوا: متى ذهب بعضه ذهب سائره، ثم انقسموا قسمين: فقالت الخوارج والمعتزلة: فعل الواجبات وترك المحرّمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كلّه، فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلاً بحال... والحزب الثاني وافقوا أهل السنة على أنّه لا يخلّد في النار من أهل التوحيد أحد. ثم ظنّوا أنّ هذا لا يكون إلاّ مع وجود كمال الإيمان، لاعتقادهم أنّ الإيمان لا يتبعّض فقالوا: (كلّ فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل) (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه في ص: 38.
(2) مجموع الفتاوى 7/510.
(3) مجموع الفتاوى 17/270، وانظر: الكتاب نفسه 13/48.(1/36)
فوافق المرجئة الوعيدية في أصل شبهتهم وهو دعوى أنّ الإيمان شيء واحد لا يتجزأ. ثم خالفوهم في النتيجة فالوعيدية اعتقدوا زواله بالكليّة بزوال بعضه فكفّروا أصحاب الذنوب، والمرجئة اعتقدوا بقاءه كلّه ببقاء أصله فحكموا في أصحاب الذّنوب بأنّهم مؤمنون كاملو الإيمان. ثم إنّ المرجئة مع مشاركتهم بقية الفرق في أصل هذه الشبهة العامة أخطأوا في بعض الأصول الأخرى التي ترتبت عليها عقيدتهم في حكم مرتكب الكبيرة. يقول شيخ الإسلام: (وهؤلاء غلطوا في أصلين:
أحدهما: ظنّهم أنّ الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال، وحركة وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً.
الثّّاني: ظنّهم أنّ كلّ مَن حكم الشّارع بأنّه كافر مخلّد في النّار، فإنّّما ذاك لأنّه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحسّ والعقل الشّرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النّظار؛ فإن الإنسان قد يعرف أنّ الحقّ مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إيّاه أو لطلب علوّه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه ويردّ ما يقول بكلّ طريق) (1) .
فبناء على هذين الأصلين نشأ معتقدهم في حكم مرتكب الكبيرة. فعن الأصل الأوّل نشأ قولهم في مسمّاه حيث سمّوه مؤمناً كامل الإيمان. وذلك لظنّهم أنّ الإيمان هو مجرد التصديق، وأنّ أعمال الجوارح من الطّاعات، والمعاصي لا أثر لها على الإيمان مطلقاً لكونها خارجة عنه.
وعن الأصل الثّّاني نشأ قولهم في حكمه في الآخرة، وأنّه في الجنّة كما هو قول جمهورهم؛ وذلك لظنّهم أنّه لا يعذّب إلاّ مَن خلا قلبُهُ مِن التّصديق، وعرفوا من حال عصاة المسلمين أنّهم ليسوا كذلك، بل هم مصدّقون بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هم إذن من أهل الجنّة. وأما موفقهم من الوعد والوعيد، فإنّهم يقولون بإنفاذ الوعد والوعيد.
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/190، 191.(1/37)
لكن يقولون: نصوص الوعد قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر، فدلّ على أنّهم في الجنّة. ونصوص الوعيد لا تتناول إلاّ كافراً فدلّ على أنّه لا يعذّب إلاّ كافراً، فكان قولهم في الوعد والوعيد يتمشى مع عقيدتهم في مرتكب الكبيرة (1) .
ولهذا قال شيخ الإسلام بعد ذكر معتقد الخوارج والمرجئة في الوعد والوعيد: (فعاد كلّ فريق إلى أصله الفاسد) (2) .
أوّلاً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الدّنيا
يعتقد أهل السّنة أنّ مرتكب الكبيرة مُسْلِمٌ فاسقٌ لم يخرج بمعصيته من دين الإسلام، وليس هو مؤمناً كامل الإيمان، بل مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 12/481.
(2) مجموع الفتاوى 12/481.(1/38)
يقول الإمام الطّحاوي في وصف عقيدة أهل السّنة: (ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلّه، ولا نقول: لا يضرّ مع الإيمان ذنب لِمَن عمله) (1) . ويقول ابن أبي زيد القيرواني: (وأنّه لا يكفر أحد بذنبٍ من أهل القبلة) (2) . ويقول ابن بطة: (وقد أجمعت العلماء لا خلاف بينهم أنّه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنبٍ، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء) (3) . ويقول الإمام الصابوني: (ويعتقد أهل السّنة أنّ المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة، صغائر وكبائر؛ فإنّه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدّنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص فأمره إلى الله عزّ وجلّ) (4) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف معتقد أهل السّنة: (وهم مع ذلك لا يكفّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الإخوة الإيمانية باقية مع المعاصي... ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلّيّة، ولا يخلّدونه في النّار، كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان) (5) . ويقول ابن أبي العزّ: (إن أهل السّنة متّفقون كلّهم على أنّ مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل من الملّة بالكلّيّة، كما قالت الخوارج) (6) .
فتبيّن من هذه النقول وغيرها مما يصعب حصره من كلام أئمة أهل السنة، اتّفاق أهل السنة على أنّ مرتكب الكبيرة مُسْلِم فاسق لا يكفر بمعصيته، ولا يبلغ مرتبة الإيمان المطلق بما معه من الإيمان.
__________
(1) العقيدة الطّحاوية مع شرحها لابن أبي العزّ، ص: 432.
(2) مقدمة ابن أبي زيد القيرواني، ص: 60.
(3) الشرح والإبانة، ص: 265.
(4) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص: 276.
(5) مجموع الفتاوى 3/151.
(6) شرح العقيدة الطحاوية، ص: 442.(1/39)
وبناء على هذا فحكمه عند أهل السنة حكم سائر المسلمين في عصمة الدّمّ والمال وكلّ المعاملات والأحوال. قال فضيل بن عياض: (سمعت سفيان الثّوري يقول (مَن صّلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والنّاس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنّسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسيبهم إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم،ولا ندري ما هم عند الله عزّ وجلّ) (1) . ويقول الإمام البربهاري: (واعلم بأنّ الدّنيا دار إيمان وإسلام، وأمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - فيها مؤمنون مسلمون في أحكامهم ومواريثهم وذبائحهم والصلاة عليهم، ولا نشهد لأحد بحقيقة الإيمان حتى يأتي بجميع شرائع الإسلام، فإن قصر في شيء من ذلك كان ناقص الإيمان حتى يتوب) (2) .
ثم إنّ أهل السنة بعد اتّفاقهم على حكم مرتكب الكبيرة وأحكام معاملته في الدّنيا اختلفوا اختلافاً لفظياً في مسمّاه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ذكر اختلاف الفرق في مسمّى صاحب الكبيرة: (وأهل السنة والجماعة على أنّه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذّب، كما أنّه ناقص البر والتقوى باتّفاق المسلمين، وهل يطلق عليه اسم المؤمن؟ هذا فيه قولان) (3) . وقال الإمام ابن رجب: (وقد اختلف أهل السنة: هل يسمى مؤمناً ناقص الإيمان، أو يقال: ليس بمؤمن لكنه مسلم على قولين، وهما روايتان عن أحمد) (4) .
فتلخّص من هذا أنّ أهل السّنة اختلفوا في مسمّى مرتكب الكبيرة على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: يسمّى مسلماً.
القول الثّاني: يسمّى مؤمناً ناقص الإيمان.
القول الثّالث: يسمّى مؤمناً.
ولكلّ قول من هذه الأقوال وجهته عند أصحابه.
__________
(1) أخرجه الإمام عبد الله بن أحمد في السّنة 1/377.
(2) شرح السنة للبربهاري، ص: 30.
(3) مجموع الفتاوى 7/354.
(4) جامع العلوم والحكم 1/63.(1/40)
? فمن ذهب إلى القول الأوّل يقول: نفى النبِي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عن صاحب الكبيرة، فننفيه كما نفاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه (1) ، وأيضاً فقد أجمع المسلمون من المخالفين والموافقين على أنّهم لا يسمّون صاحب الكبيرة متّقياً ولا ورِعاً، فكذلك لا نسمّيه مؤمناً (2) .
? ومن ذهب إلى القول الثّاني نظر إلى حال صاحب الكبيرة، وأنّه قد اجتمع فيه إيمان ومعصية، فقال: لا نعطيه اسم الإيمان المطلق، ولا ننفي عنه أصله، فنقول: مؤمن ناقص الإيمان (3) .
? واحتج أصحاب القول الثّالث بتسمية أصحاب الكبائر مؤمنين في النصوص،كقوله تعالى ژ? ? ? ? ? ں ں ژ (الحجرات: 9). وما جاء في معنى هذه الآية، فقال: لا ننفي عن صاحب الكبيرة الإيمان وقد سمّاهم الشارع مؤمنين (4) .
وفي الحقيقة، إنّ هذه الأقوال ليس بينها كبير اختلاف، وهي من قبيل الاختلاف اللفظي؛ وذلك أنّ أصحاب هذه الأقوال كلّهم متّفقون على أنّ صاحب الكبيرة مسلم، مقطوع له بأصل الإيمان، موصوف بنقص الإيمان، فكلّ صاحب قول من الأقوال المذكورة سمّى صاحب الكبيرة باعتبار معنى قائم فيه، على سبيل التغليب لأحد هذه المعاني، ورأى أنّه أولى في دلالته على المسمّى من غيره.
والنّصوص التي احتج بها كلّ فريق هي حقّ في دلالتها على ما احتج به. لكن نشأ الاختلاف في أنّ كلّ فريق عمّم الاسم الذي ذهب إليه في كلّ الأحوال، والصحيح أنّ النصوص التي أطلقت على صاحب الكبيرة أنّه مؤمن فباعتبار أصل الإيمان الذي يثبت له به حكم الإسلام في الدّنيا، والنصوص التي نفت عنه الإيمان باعتبار كماله الذي لو ثبت له لاستحقّ دخول الجنّة ابتداء، وهو مذنب متوعد بالعقوبة تحت مشيئة الله.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/353.
(2) انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي، ص: 335.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 3/151، 152.
(4) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7/355.(1/41)
ومن هنا يظهر فصل النّزَاع في هذه المسألة.
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الاختلاف في المسألة على ما تقدم نقله، قال: (والصحيح التفصيل، فإذا سئل عن أحكام الدّنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن،وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النّوع من المؤمنين الموعودين بالجنّة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النّار، ويدخل به الجنّة بعد أن يعذّب في النّار إن لم يغفر الله له ذنوبه) (1) .
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام موافق لما تقدم نقله عن سفيان الثوري: (والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذّبائح والنّسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم، ولا ندري ما هم عند الله) (2) . فبيّن أنّهم باعتبار أحكام الدّنيا يُسمّون مؤمنين، وباعتبار حكم الآخرة لا يثبت لهم هذا الاسم، وإنّما هم تحت المشيئة ولو كانوا مؤمنين لقُطِعَ بأنّهم في الجنّة. وقد جاء عن سفيان أيضاً: (خالفنا المرجئة في ثلاث...، وذكر منها: ونحن نقول مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله) (3) .
ثانياً: حكم مرتكب الكبيرة عندهم في الآخرة
يعتقد أهل السّنة أن حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة أنّه تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذّبه بعدله، وإن شاء غفر له برحمته وفضله.
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/354، 355.
(2) تقدم تخريجه، في ص: 67.
(3) ذكره البغوي في شرح السنة 1/80.(1/42)
يقول الإمام الطّحاوي: (وأهل الكبائر من أمة محمّد - صلى الله عليه وسلم - في النّار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحّدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئة الله وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عزّ وجلّ في كتابه: ژ ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ژ (النساء: 48،116). وإن شاء عذّبهم في النّار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته) (1) . ويقول الإمام إسماعيل الصابوني: (ويعتقد أهل السنة أنّ المؤمن إذا أذنب ذنوباً كثيرة صغائر، وكبائر، فإنّه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدّنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص فإنّ أمره إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنّار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه ــ إلى يوم القيامة-من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذّبه مدّة بعذاب الناّر، وإذا عذّبه لم يخلّده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار) (2) . ويقول الإمام البغوي: (اتّفق أهل السنة على أنّ المؤمن لا يخرج من الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها فمات قبل التّوبة لا يخلّد في النّار،كما جاء به الحديث،بل هو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته) (3) . ويقول الإمام النووي في شرح حديث: (مَن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار) (4) :
__________
(1) الطّحاوية مع شرحها لابن أبي العزّ، ص: 524.
(2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص: 276.
(3) شرح السّنة 1/117.
(4) أخرجه البخاري:الصّحيح مع الفتح1/200،(ح 107)،ومسلم1/10،(ح 3)..(1/43)
(معنى الحديث أنّ هذا جزاؤه وقد يُجَازَى به وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يقطع عليه بدخول النّار، وهكذا سبيل ما جاء في الوعيد بالنّار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فكلّها يُقال فيها هذا جزاؤه، وقد يُجَازَى وقد يُعفَى عنه، ثم إن جوزي وأُدخل النّار فلا يخلّد فيها، بل لا بدّ من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلّد في النّار أحد مات على التوحيد،وهذه قاعدة متّفق عليها عند أهل السّنة) (1) . فتضمنت هذه النّقول عقيدة أهل السّنة في مرتكب الكبيرة في الآخرة، وهي تتلخّص في الأمور التالية:
1. أنّ حكم صاحب الكبيرة يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له.
2. أنّ صاحب الكبيرة مستحقّ للعقوبة ودخول النّار بذنوبه.
3. أنّ صاحب الكبيرة إن أدخله الله النّار فإنّه لا يخلّده فيها.
4. أنّ عذاب صاحب الكبيرة في النّار ليس كعذاب الكفار.
5. أنّ صاحب الكبيرة مآله إلى الجنة بعد استيفاء عقوبته.
__________
(1) شرح صحيح مسلم 1/69.(1/44)
وهذه الأحكام هي باعتبار حكم صاحب الكبيرة مطلقاً. وأما أفراد أهل الكبائر فقد دلّت النّصوص على أنّ بعضهم يدخل الجنة بلا عذاب قطعاً، فُيشهد له بذلك. كما دلّ على هذا حديث صاحب البطاقة، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنّ الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كلّ سجل مدّ البصر ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا. يا ربّ، فيقول: ألك عذر، أو حسنة؟ فيبهت الرّجل فيقول: لا. يا رب. فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله)، فيقول: أحضروه. فيقول: يا رب. ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنّك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفّة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل شيء بسم الله الرَّحمن الرّحيم) (1) .
فهذا الرّجل كفَّر الله عنه ذنوبه بما معه من التّوحيد وأدخله الله الجنّة، ولا يفهم من هذا ما قد يتوهّمه المرجئة من أنّ المعاصي لا تضرّ مع الإيمان القلبِي،بل في الحديث دلالة على أنّ العبد يُجازى بها؛ ولهذا وضعت في الميزان، وإنّما خفت في الميزان في مقابل التّوحيد الذي لا يثقله شيء.
__________
(1) المسند11/570،571.وأخرجه الحاكم1/46، 47، وصحّحه، ووافقه الذّهبي. وصحّحه الألباني في الصّحيحة برقم: (135)، وقال محقّقو المسند: (إسناده قويّ).(1/45)
كما دلّت النّصوص ــ أيضاً ــ إلى أنّ من أهل الكبائر مَن يدخل النّار فيعذّب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها، فَيُشْهد لهذا الصنف بذلك كما دلّ على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (يخرج من النّار مَن قال: لا إله إلاّ الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النّار مَن قال: لا إله إلاّ الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النّار مَن قال: لا إله إلاّ الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير) (1) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما دخول كثير من أهل الكبائر النّار فهذا مما تواترت به السّنن عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كما تواترت بخروجهم من النار) (2) .
فتبيّن بهذا أنّ من أهل الكبائر مَن لا يدخل النّار، ومنهم مَن يدخلها،وهذا لا يتنافى مع مذهب السّلف في أنّ أهل الكبائر تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنهم، وإن شاء عذّبهم، فإنّ مَن لم يدخلها هو مِمَّن شاء أن يغفر له،ومَن دخلها هو مِمَن شاء الله أن يعذّبه.فقولهم:(تحت المشيئة)، وصف مجمل في حكم أهل الكبائر، ومَن جاء الخبر بعفو الله عنهم أو بتعذيبهم تفصيل للحكم المجمل. ولا بدّ من الإيمان بكل ذلك.
ثالثاً: الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم في حكم مرتكب الكبيرة وموقفهم من نصوص الوعد والوعيد
الأصل الذي عليه مدار قول أهل السّنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة في الدّنيا والآخرة، هو إثبات التّبعيض في مسمّى الإيمان وحكمه.
__________
(1) أخرجه البخاري،الصحيح مع الفتح1/103،(ح44)،ومسلم1/188،(ح193).
(2) مجموع الفتاوى 11/184.(1/46)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما أئمة أهل السّنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون مع الرّجل بعض الإيمان لا كلّه، ويثبت له حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه كما يثبت له العقاب بحسب ما عليه) (1) . أما إثبات التبعيض في الاسم فحقيقته أنّ الإيمان يتبعّض فيذهب بعضه ويبقى بعضه، خلافاً لمَن زعم من أهل البدع أنّ الإيمان شيء واحد لا يتجزّأ ولا يتبعّض كما تقدم نقله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأصلهم أنّ الإيمان يتبعّض فيذهب بعضه ويبقى بعضه، كما في قوله-عليه الصّلاة والسّلام-: (يخرج من النّار مَن كان في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمانٍ)، ولهذا مذهبهم أنّ الإيمان يتفاضل ويتبعّض، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم) (2) .
وبناء على هذا الأصل نشأ معتقد أهل السّنة في مسمّى مرتكب الكبيرة فيسمّونه مؤمناً ناقص الإيمان، أو مسلماً، فلا يسلبون عنه أصل الإيمان ولا يثبتون له مسمّى الإيمان المطلق.
وأما إثبات التبعيض في الحكم فحقيقته أنّه قد يجتمع في الرجل الواحد خصال الخير والشّرّ، فيتبعّض في حقّه الحكم، فيثاب على ما فيه من خصال الخير والطاعة ويعاقب على ما فيه من خصال الشّرّ والمعصية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا اجتمع في الرّجل الواحد خير وشرّ، وفجور ومعصية، سنة وبدعة، استحقّ من الموالاة بقدر ما فيه من الخير واستحقّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشّرّ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللّصّ الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفي حاجته.
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية، ص: 235.
(2) مجموع الفتاوى 18/270.(1/47)
هذا هو الأصل الذي اتّفق عليه أهل السّنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَن وافقهم عليه، فلم يجعلوا النّاس لا مستحقّاً للثواب فقط، ولا مستحقّاً للعقاب فقط (1) ، وأهل السّنة يقولون: إنّ الله يعذّب بالنّار من أهل الكبائر مَن يعذّبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة مَن يأذن له في الشفاعة، بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السّنة عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ) (2) . ومن هذا الأصل تفرع معتقد أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الآخرة وأنّه تحت مشيئة الله إن شاء عذّبه، لأنّه مستحقّ للعقاب وإن شاء عفا عنه برحمته. مع اعتقادهم أنّ من أهل الكبائر من يدخل النّار فيستوفى عقوبته ثم يدخل الجنّة بما معه من أصل الإيمان فيجتمع في حقّه الثّواب والعقاب،كما تقدم بيانه (3) .
__________
(1) هكذا في الأصل، والذي يظهر أنّه حصل تصحيف في الكلام وأنّ الصّواب والله أعلم: (فلم يجعلوا النّاس إلاّ مستحقاً للثّواب فقط، وإلاّ مستحقّاً للعقاب فقط)؛ لأنّ هذا هو الذي يتناسب مع مذهب الوعيدية الذين يمنعون من اجتماع الثواب والعقاب في الرّجل الواحد.
(2) مجموع الفتاوى 28/209-210.
(3) انظر: ص: 74-75.(1/48)
وأما موقفهم من الوعد والوعيد فإنهم يؤمنون بالوعد والوعيد، وما جاء في ذلك من النّصوص، ولا ينْزلون أحكام الوعد والوعيد العامة على المعينين حتى تُستوفى الشروط الموجبة لذلك في حقّ المعين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف معتقد أهل السنة: (فإنّا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق،ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له) (1) . ويقول-أيضاً-: (والذي عليه أهل السّنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أنّ ما توعد الله به العبد من العقاب قد بيّن سبحانه أنّه مشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب تابَ الله عليه، وبألاّ يكون له حسنات تمحو ذنوبه،فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات،وبألاّ يشاء الله أن يغفر له: ژ ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ژ (النساء: 48،116). فهكذا الوعد له تفسير وبيان فَمَن قال بلسانه: لا إله إلاّ الله، وكذّب الرسول فهو كافر باتّفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئاً مما أنْزل الله، فلا بدّ من الإيمان بكلّ ما جاء به الرسول) (2) .
وعلى ضوء هذا التقعيد حرّر أهل السّنة مذهبهم في مسألة إخلاف الوعد والوعيد وهي من المسائل المشهورة في هذا الباب،فإنّ النّاس تنازعوا في ذلك هل يجوز على الله أن يخلف وعده أو وعيده أم لا يجوز عليه شيء من ذلك. والذي عليه أهل السّنة بالاتّفاق أنّ الله تعالى لا يخلف وعده فكلّ ما وعد به من الثواب متحقّق لا محالة، لدلالة النّصوص على ذلك. قال تعالى: ژ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ژ (يونس: 62 – 64).
فوعد الله المؤمنين بنفي المخافة والحزن، وبالبشرى في الدّارين وقال بعد ذلك ژ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ?ژ فدلّ على أنّ وعده صدق لا مبدل له، وقد نفى الله عن نفسه الخلف في وعده فقال: ژ ? ?? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ژ (الروم: 6).
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/500، 501.
(2) مجموع الفتاوى 8/270، 271.(1/49)
وقال: ژ گ گ ? ? ? ? ژ (إبراهيم: 47). فدلّت هذه الآيات على أنّ الله لا يخلف وعده، وهذا صريح في المسألة (1) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف مذهب أهل السّنة: (واتّفقوا على أنّ الله تعالى إذا وعد عباده بشيء، كان وقوعه واجباً بحكم وعده، فإنّه الصادق في خبره، الذي لا يخلف وعده) (2) . وقال: (ويقولون أنّه لا بدّ أن يثيب المطيعين كما وعد،فإنه صادق في وعده، ولا يخلف الميعاد) (3) .
وأما الوعيد فذهب بعض العلماء إلى أنّه يجوز على الله أن يخلفه، وهذا مدح؛ لأنّ إخلاف الوعيد عفو وصفح (4) . قال الإمام ابن القيم في سياق ذكر الاختلاف في نصوص الوعيد: (وقالت فرقة سادسة هذا وعيد، وإخلاف الوعيد لا يذم، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيدولا يجوز عليه خُلْف الوعد،والفرق بينهما: أنّ الوعيد حقّه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط، وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه، والوعد حقّ عليه أوجبه على نفسه والله لا يخلف الميعاد. قالوا: ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول:
نُبئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني . ... والعفو عند رسول الله مأمول) (5) ...
وقد حكى أنّ عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا. فقال: أليس الله قد قال: ژ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ژ (النساء: 93 )، فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجم (6) أُتيت يا أبا عثمان؟ إنّ العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذمّاً، وإنّما تعد إخلاف الوعد خلفاً وذمّاً، وأنشد:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 14/497-498.
(2) منهاج السّنة 1/448.
(3) المصدر نفسه 1/467.
(4) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/482.
(5) مدارج السالكين 1/396.
(6) هكذا وردت في تفسير البغوي، وفي مدارج السّالكين (العُجمة).(1/50)
وإني إنْ أوعدتُه أو وعدتُه . ... لمخلفٌ إيعادي ومنجزُ موعدي) (1) .
وذهب بعض العلماء المحقّقين إلى أنّ الله تعالى لا يخلف وعيده كما أنّه لا يخلف وعده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى قوله تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (ق: 28،29): (فأخبر سبحانه أنّه قدم إليهم بالوعيد، وقال: ژ ? ? ? ? ژ ، وهذا يقتضي أنّه صادق في وعيده أيضاً، وأنّ وعيده لا يبدل...، وهذه الآية تضعّف جواب مَن يقول: إنّ إخلاف الوعيد جائز فإنّ قوله: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ بعد قوله: ژ ? ? ? ? ژ، دليل على أنّ وعيده لا يبدّل، كما لا يبدّل وعده) (2) .
__________
(1) ذكره البغوي في تفسيره 1/465، وابن القيم في مدارج السالكين 1/396.
(2) مجموع الفتاوى 14/498.(1/51)
وقال ابن الوزير في سياق ذكر الخلاف في إخلاف الوعيد: (والمختار لنا أن نقول: إنّ الله تعالى منَزَّه عن ذلك، ولا يجوز لعلمه السابق عند الوعيد، بالعواقب الحميدة من غيرها، وقدرته سبحانه على ما هو خير منه، لما فيه من نسبة الخلف المذموم، فهو غني عنه بخير منه، ولأن الله تعالى يختار من كلّ شيء حَسَنٍ أَحْسَنَهُ، فهو كما قال: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ، وإنما يقع في كلام الله تعالى التأويل لا الخلف، كالضرب بالضغث في قصة أيوب، وكما صحّ فيمَن مات له ولدان أنّه لا تمسّه النّار إلاّ تحلة القسم) (1) . ويقول الألوسي: (وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه، وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام. والحقّ أنّه لا يُخْلَف أيضاً، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين، فليس من إخلاف الوعيد في شيء، لما أنّ الوعيد في حقّهم كان معلّقاً بشرط لم يذكر ترهيباً وتخويفاً) (2) . وفي الحقيقة إن الاختلاف بين العلماء هنا اختلاف لفظي لا يؤثّر في حكم أهل الوعيد المقرّر عند أهل السّنة؛ فإنّ أصحاب القولين كلّهم متّفقون على أنّ أهل الوعيد تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذّبهم وإن شاء غفر لهم، وإنّما حصل التنازع فيمَن لم يلحقه الوعيد المطلق من المعيّنين، هل يقال اختلف فيه الوعيد أم لا؟ والحقّ إن شاء الله مع أصحاب القول الثّّاني، وأنّ الله لا يخلف وعيده، وأنّ ما توعد به العصاة نافذ فيهم لكن بشروطه التي علقها الله تعالى عليه، وترجيح هذا القول من عدة وجوه:
الأوّل: أنّه لم يرد في النّصوص بحال أنّ الله يخلف وعيده، بل جاء فيها ما يشهد لنفوذ وعيده، وأنّه لا مبدّل لقوله، فنسبة الخلف في الوعيد لله إن لم تدلّ النّصوص على ردّه، فلا أقلّ من أن يقال: إنّ إثباته مفتقر للدّليل والأصل ألا يخبر عن الله بشيء إلاّ بدليل صحيح.
__________
(1) العواصم والقواصم 9/46، 47.
(2) روح المعاني 21/145.(1/52)
الثّاني: أنّ المشهور في كلام العرب هو المدح بالعفو عند الوعيد لا الخلف، ولذا قال كعب بن زهير: (والعفو عند رسول الله مأمول)، ولم يقل: والخلف عند رسول الله مأمول (1) ، وكذلك الله تعالى أثنى على نفسه بالعفو ولم يثنِ بالخلف.
الثّالث: أنّ العرب لا يسمّون العفو عند الوعيد خلفاً، وإنّما يطلقون الخلف على عدم الوفاء بالوعد، وقد تقدم في قول أبي عمرو بن العلا: (إنّ العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذمّاً، وإنّما تعدّ إخلاف الوعد خلفاً وذمّاً) (2) . فبيّن أنّهم لا يسمّون عدم إنفاذ الوعيد خلفاً ولا يذمّون به.
الرّابع: أنّ نفوذ وعيد الله في العصاة جاء مقيّداً بقيود، وله شروط، ومن هذه الشروط ألاّ يتوب، وألاّ تكون له حسنات تمحو ذنوبه المتوعد عليها، وألاّ يشاء الله أن يغفر له، كما ذكر هذا شيخ الإسلام في كلامه المنقول سابقاً (3) .
وعلى هذا فمَن عفا الله عنه، ولم ينفذ فيه الوعيد لم يستوف شروط الوعيد المطلق، وليس في هذا خلف، وإنّّما يتصور إخلاف الوعيد إذا لم ينفذ الله الوعيد فيمَن استوفى شروطه، وهذا لا يكون أبداً؛ لأنّ من شرط نفاذ الوعيد أن يشاء الله أن يعذّبه، وأفعال الله كلّها متعلقة بمشيئته، فكيف يتصوّر أن يعفو عمَن شاء أن يعذّبه؟!.
وبهذا يتبيّن أنّ وعيد الله نافذ، وأنّ الله تعالى لا يخلف وعيده كما أنّه لا يخلف وعده، ونفوذ الوعيد لا يتعارض مع نفوذ الوعد؛ لأنّ لكلّ منهما شروطاً لا بدّ من استيفائها.
رابعاً: وسطية أهل السّنة بين الفرق المخالفة في حكم مرتكب الكبيرة والوعد والوعيد
__________
(1) انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير 9/46.
(2) تقدم عزوه، في ص: 81.
(3) انظر: ص: 78-79.(1/53)
أهل السّنة والجماعة وسط بين الوعيدية والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة، وفي مسألة الوعد والوعيد كما أنّهم وسط بين سائر الفرق في أصول معتقدهم. يقول شيخ الإسلام: (فإنّ الفرقة الناجية؛ أهل السّنة والجماعة... هم وسط في فرق الأمة كما أنّ الأمّة هي وسط في الأمم، فهم وسط في (باب صفات الله سبحانه وتعالى) بين أهل التعطيل والجهمية، وأهل التمثيل، وهم وسط في (باب أفعال الله) بين القدرية والجبرية، وفي (باب وعيد الله) بين المرجئة والوعيدية من القدرية، وغيرهم، وفي (باب أسماء الإيمان والدّين) بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية) (1) . ووسطيتهم في حكم مرتكب الكبيرة ظاهرة من خلال العرض السابق لعقيدتهم وعقائد الفرق المخالفة في حكم مرتكب الكبيرة، ويمكن إبراز ذلك من عدة وجوه:
__________
(1) مجموع الفتاوى (الواسطية) 3/141، وانظر: منهاج السنة 5/172.(1/54)
الوجه الأوّل: وسطيتهم في مسمّى مرتكب الكبيرة وحكمه، فالخوارج والمعتزلة ينفون عنه أصل الإيمان ويسمّيه الخوارج كافراً، ويجعله المعتزلة في منْزلة بين المنْزلتين، والمرجئة يثبتون له الإيمان كاملاً، ويسمّونه مؤمناً كامل الإيمان. وأهل السّنة وسط بينهما فلا ينفون عنه أصل الإيمان، ولا يثبتون له الإيمان كاملاً، بل يقولون هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويسمّونه مؤمناً ناقص الإيمان، أو مسلماً. يقول الإمام الطّحاوي ــ رحمه الله ــ مشيراً إلى وسطية أهل السّنة بين الخوارج والمرجئة في هذه المسألة: (ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه،ولا نقول: لا يضرّ مع الإيمان ذنب لِمَن عمله) (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ في وصف معتقد أهل السّنة: (وهم في باب الأسماء والأحكام،والوعد والوعيد،وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلّدين في النّار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلّيّة، ويكذبّون بشفاعة النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدّين والإيمان، ويكذّبون بالوعيد والعقاب بالكلّيّة، فيؤمن أهل السّنة والجماعة بأنّ فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنّة) (2) .
ويقول ــ أيضاً ــ (وهم مع ذلك لا يكفّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر،كما يفعله الخوارج. بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي.
ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلّيّة ولا يخلّدونه في النّار كما تقوله المعتزلة...، ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم) (3) .
__________
(1) العقيدة الطّحاوية مع شرحها لابن أبي العزّ، ص: 432.
(2) مجموع الفتاوى 3/374، 375.
(3) مجموع الفتاوى 3/151-152.(1/55)
ويقول ابن أبي العزّ الحنفي ــ رحمه الله ــ (إنّ أهل السّنة متّفقون كلّهم على أنّ مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملّة بالكلّيّة، كما قالت الخوارج...، ومتّفقون على أنّه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النّار مع الكافرين كما قالت المعتزلة...، وأهل السّنة ــ أيضاً ــ متّفقون على أنّه يستحقّ الوعيد المرتَّب على ذلك الذنب كما وردت به النّصوص، لا كما يقوله المرجئة أنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة) (1) .
الوجه الثاني: وسطيتهم بين الخوارج والمرجئة في مسمّى ديار المسلمين وحكم أهلها، فالخوارج يعدون ديار مخالفيهم من المسلمين دار كفر وحرب، وأنّ أهلها كفّار مشركون حتى يهاجروا إليهم ويناصروهم، كما نقل ذلك عنهم ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية على ما تقدم . والمرجئة يعدون الدار دار إيمان وحكم أهلها كلّهم أنّهم مؤمنون، إلاّ مَن ظهر منه خلاف الإيمان على ما تقدم نقل الأشعري إجماعهم على ذلك .
وأهل السّنة يقولون: الدار؛ دار إسلام، أو دار إيمان باعتبار أصل الإيمان لا كماله، ولا يقطعون لكلّ مسلم بالإيمان الكامل حتى يستوفي جميع شعبه الواجبة. يقول البربهاري: (واعلم بأنّ الدّنيا دار إيمان وإسلام، وأمة محمّد - صلى الله عليه وسلم - فيها مؤمنون مسلمون، في أحكامهم ومواريثهم، وذبائحهم والصلاة عليهم، ولا نشهد لأحد بحقيقة الإيمان حتى يأتي بجميع شرائع الإسلام) (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطّحاوية، ص: 442-444.
(2) شرح السّنة للبربهاري، ص: 30.(1/56)
الوجه الثّالث: وسطيتهم بين الخوارج والمعتزلة والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة، فالخوارج والمعتزلة يقطعون بدخول أهل الكبائر النّار. ويقولون هم خالدون مخلّدون فيها. والمرجئة يقطعون بدخولهم الجنّة ابتداءً ويزعمون أنّهم لا تَمسّهم النّار أبداً. وأما أهل السّنة فيعتقدون أنّ أهل الكبائر تحت مشيئة الله إن شاء عذّبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم بفضله، ويعتقدون أنّ مَن دخل النّار منهم فإنّه لا يخلّد فيها، بل لا بدّ من خروجه منها ودخوله الجنّة. فلم يقطعوا بدخولهم النّار كما تقول الخوارج والمعتزلة،ولم يقطعوا لهم بالجنّة كما تقول المرجئة، بل جعلوهم تحت مشيئة الله. كما أنّهم لم يقولوا بخلودهم في النّار إن دخلوها كما تقول الخوارج والمعتزلة. ولم يقولوا باستحقاق دخولهم الجنّة ابتداءً كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنّهم لا يستحقون دخول الجنّة بذنوبهم ولا يخلّدون في النّار بما معهم من التّوحيد.(1/57)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(إنّ فساق أهل الملّة ليسوامخلّدين في النّاركماقالت الخوارج والمعتزلة،وليسواكاملين في الدّين والإيمان والطاعة، بل لهم حسنات وسيّئات يستحقّون بهذا العقاب، وبهذا الثّواب) (1) . ويقول-أيضاً-: (فهذان القولان: قول الخوارج الذين يكفّرون بمطلق الذّنوب، ويخلّدون في النّار، وقول مَن يخلّدهم في النّار ويجزم بأنّ الله لا يغفر لهم إلاّ بالتوبة، ويقول ليس معهم من الإيمان شيء، لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدّين أهل الفقه والحديث بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع. وكذلك قول مَن وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة وقال: لا أعلم أنّ أحداً منهم يدخل النّار، هو أيضاً من الأقوال المبتدعة، بل السلف والأئمة متّفقون على ما تواترت به النّصوص من أنّه لا بدّ أن يدخل النّار قوم من أهل القبلة ثم يخرجون منها، وأما مَن جزم بأنّه لا يدخل النّار أحد من أهل القبلة فهذا لا نعرفه قولاً لأحد) (2) .
ففي هذا بيان توسط أهل السّنة بين الخوارج والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة. وأما قول شيخ الإسلام: (وأما مَن جزم بأنّه لا يدخل النّارأحد من أهل القبلة،فهذا لا نعرفه قولاً لأحد)،فقد تقدم أنّه من أقوال المرجئة، وقد نقله عنهم الملطي،والسكسكي،وهما من المصنّفين في المقالات والفرق. وأما وسطية أهل السّنة في (باب الوعد والوعيد)، فهم وسط بين الوعيدية والمرجئة، فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة غلوا في نصوص الوعيد، فقالوا بوجوب إنفاذ الوعيد في حقّ العصاة، وعطّلوا نصوص الوعد فقالوا: لا تتناول إلاّ مؤمناً.
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/679.
(2) مجموع الفتاوى 7/502.(1/58)
والمرجئة غلو في نصوص الوعد، فقالوا بوجوب إنفاذ الوعد في حقّ العصاة، وعطّلوا نصوص الوعيد وقالوا: لا تتناول إلاّ كافراً. وأهل السّنة يؤمنون بالوعد والوعيد، ويقولون: إنّ نصوص الوعد والوعيد يفسّر بعضها بعضاً، ويقولون: إنّ وعيد الله للعصاة مشروط بشروط، ووعد الله لأهل الطّاعة مشروط بشروط، فلا تُنَزّل نصوص الوعد والوعيد المطلقة حتى تستوفى شروطها في حقّ المعينين، فلا يوجبون العقاب في حقّ كلّ العصاة، ولا يشهدون للواحد منهم بعينه بالنّار كما تقول الخوارج، ولا يقطعون للعصاة بدخول الجنّة ابتداءً وأنّهم لا يعذّبون في النّار كما تقول المرجئة، فهم وسط بين الطائفتين . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والوعيدية من الخوارج والمعتزلة، يوجبون العذاب في حقّ أهل الكبائر، لشمول نصوص الوعيد لهم، مثل قوله: ژ ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک ژ (النساء: 10). وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفّرون مَن خالفها، ويخالفون أهل السّنة والجماعة في وجوب نفوذ الوعيد فيهم وفي تخليدهم... فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد فإنّها تتناول كثيراً من أهل الكبائر، فعاد كلّ فريق إلى أصله، فقال الأوّلون: نصوص الوعد لا تتناول إلاّ مؤمناً، وهؤلاء ليسوا مؤمنين. وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلاّ كافراً، وكلّ مِن القولين خطأ.. والتّحقيق أن يقال: الكتاب والسّنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد،كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنّهي،وكلّ من النّصوص يفسّر الآخر ويبيّنه،فكما أنّ نصوص الوعدعلى الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأنّ القرآن قد دلّ على أنّ مَن ارتدّ فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأنّ القرآن قد دلّ على أنّ الله يغفر الذّنوب جميعاً لمَن تاب، وهذا متّفق عليه بين المسلمين) (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/480-483.(1/59)
بعد أَنْ منَّ الله تعالى بإتمام هذا البحث، أحمد الله تعالى على إعانته وتسديده، وأوجز أهمّ النّتائج المتحصّلة من خلال البحث والتِي منها:
1. الإيمان عند أهل السّنة يتألّف من ثلاثة أجزاء: اعتقاد القلب، وقول اللّسان، وعمل الجوارح، وعن هذه الأجزاء تتفرّع شعب الإيمان.
2. الإيمان عند أهل السّنة يتبعّض؛ فيذهب بعضه ويبقى بعضه، وهو يزيد وينقص، يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية.
3. منشأ خطأ الفِرَقِ المخالفة لأهل السّنة في باب الإيمان، اعتقادهم أنّ الإيمان شيءٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يتبعّض، ثم اختلفوا في حكمه عند النّقص؛ فقال المرجئة:إذا ثبت بعضه ثبت كلّه،وقال الوعيدية: إذا زال بعضه زال كلّه.
4. يعتقد الخوارج أنّ مرتكب الكبيرة كافرٌ، وقد أجمعت على ذلك سائر فرقهم إلاّ النّجدات؛ فإنّها تقول: هو كافرٌ كفر نعمةٍ.
5. أجمع الخوارج على أنّ مرتكب الكبيرة يكون في النّار خالداً مُخلَّداً فيها إلاّ النّجدات منهم؛ فإنّهم لا يقولون بذلك.
6. أصل شبهة الخوارج في تكفير أهل الذّنوب ترجع إلى شبهتَين:
إحداهما: (وهي متعلّقة بالأسماء والأحكام )، وهي اعتقادهم أنّ الإيمان شيءٌ واحدٌ لا يتجزّأ ولا يتبعّض إذا ذهب بعضه ذهب كلّه.
الثانية: (وهي متعلّقة بالجزاء والثّواب)، وهي ظنّهم أنّ الشّخص الواحد لا يجتمع فيه الثّواب والعقاب، فهو إمّا مثابٌ وإمّا معاقبٌ.
7. يعتقد المعتزلة أنّ مرتكب الكبيرة في مَنْزلة بين الْمَنْزلتَين؛ فلا يُسَمَّى مؤمناً ولا يُسَمَّى كافراً.
8. يعتقد المعتزلة أنّ مرتكب الكبيرة إن مات قبل التّوبة منها يكون يوم القيامة خالداً مُخَلَّداً في النّار مع الكفّار.
9. أصل شبهة المعتزلة التي بنوا عليها مذاهبهم هي نفس شبهة الخوارج، وهو أنّهم ظنّوا أنّ الإيمان شيءٌ واحدٌ لا يتجزّأ، وأنّ الرّجل الواحد لا يكون مثاباً معاقباً؛ فإمّا أن يكون مثاباً، وإمّا أن يكون معاقباً.(1/60)
10. يتّفق الخوارج والمعتزلةفي حكم مرتكب الكبيرة في ثلاثةأوجهٍ هي:
أ- أنّ مرتكب الكبيرة خارجٌ من الإيمان.
ب- أنّ مرتكب الكبيرة مُخلَّدٌ في نار جهنّم.
جـ إنكار شفاعة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر.
11. يختلف الخوارج والمعتزلةفي حكم مرتكب الكبيرة في أربعةأوجه هي:
أ- اختلافهما في حكم مرتكب الكبيرة في الدّنيا؛ فالخوارج يكفرّونه، والمعتزلة يجعلونه في مَنْزلةٍ بين الْمَنْزلتَين.
ب- اختلافهما في مُسَمّاه؛ فالخوارج يُسَمُّونه (كافراً)، والْمعتزلة يُسَمّونه (فاسقاً).
جـ اختلافهما في أحكام معاملته في الدّنيا؛ فالخوارج يجرون عليه أحكام الكفار، والمعتزلة يجرون عليه أحكام المسلمين.
د- اختلافهما في نوع عذابه في الآخرة؛ فالخوارج يقولون: يُعَذَّب عذاب الكافرين، والمعتزلة يقولون: يُعَذَّب دون ذلك.
12. يعتقد المرجئة أنّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ كامل الإيمان.
13. يعتقد غلاة المرجئة أنّ أهل الكبائر يدخلون الجنّة، ولا يدخل النّار منهم أحدٌ.
14. يعتقد مرجئة الفقهاء أنّ مرتكب الكبائر في حكم الآخرة تحت المشيئة إن شاء الله عذّبه وإن شاء عفا عنه.
15. يشترك المرجئة مع الوعيدية في أصل شبهتهم التي بنوا عليها معتقدهم في مرتكب الكبائر، وهو ظنّهم أنّ الإيمان شيءٌ واحدٌ لا يتجزّأ؛ فقال الوعيديّة: إذا ذهب بعضه ذهب كلّه، وقال المرجئة: إذا ثبت بعضه ثبت كلّه.
16. يعتقد أهل السّنة أنّ مرتكب الكبيرة مسلمٌ فاسقٌ، لم يخرج من أصل الإيمان بمعصيته، وليس هو مؤمناً كامل الإيمان؛ بل مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.
17. يعتقد أهل السّنة أنّ حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة أنّه تحت المشيئة؛ إن شاء الله تعالى عذّبه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته وفضله.
18. يعتقد أهل السّنة أنّ صاحب الكبيرة إن دخل النّار؛ فإنّ الله لا يُخلّده فيها، بل مآله إلى الخروج منها ودخول الجنّة بعد استيفاء عقوبته.(1/61)
19. الأصل الذي بنَى عليه أهل السّنة معتقدهم في حكم مرتكب الكبيرة في الدّنيا والآخرة هو إثبات التّبعيض في مُسَمَّى الإيمان وحكمه.
أمّا التّبعيض في الاسم؛ فيعتقدون أنّ الإيمان يتبعّض؛ فيذهب بعضه ويبقى بعضه.
وأمّا التّبعيض في الحكم؛ فيعتقدون أنّه يجتمع في الرّجل الواحد خصال الخير والشّر؛ فيكون مستحقّاً للثواب من وجهٍ ومستحقّاً للعقاب من وجهٍ.
20. يؤمن أهل السّنة بالوعد والوعيد، ولا يَنْزلون أحكام الوعد والوعيد العامّة على المعيَّنين حتّى تستوفَى الشّروط الموجبة لذلك في حقّ المعيَّن.
21. اتّفق أهل السّنة على أنّ الله لا يخلف وعده؛ فكلّ ما وعد به من الثواب فهو متحقّق لا محالة، وأمّا الوعيد؛ فذهب بعض العلماء إلى أنّه يجوز على الله أن يخلفه، وهو مدحٌ في حقّه؛ لأنّ إخلاف الوعيد عفوٌ وصفحٌ، وذهب بعض العلماء المحقِّقين إلى أنّ الله لا يخلف وعيده؛ كما أنّه لا يخلف وعده.
وقالوا: عدم تعذيب الله لِمَن يغفر له من العصاة المتوعَّدين بالعقوبة ليس من إخلاف الوعيد في شيءٍ؛ وذلك لأنّ الوعيد في حقّهم كان معلَّقاً بشروطٍ لم تستوفَ في حقّهم. وهذا هو الحقّ إن شاء الله تعالى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الوزير وغيرهما.
22. وسطية أهل السّنة بين الفِرَق في حكم مرتكب الكبيرة وذلك من عدّة وجوهٍ:
الوجه الأوّل: وسطيّتهم في مُسَمَّى مرتكب الكبيرة وحكمه؛ فالخوارج والمعتزلة ينفون عنه أصل الإيمان، ويُسَمِّيه الخوارج كافراً، ويجعله المعتزلة في مَنْزلةٍ بين الْمَنْزِلَتَين، والمرجئة يثبتون له الإيمان كاملاً، ويُسَمُّونه مؤمناً كامل الإيمان.
وأهل السّنة وسط بينهما؛ فلا ينفون عنه أصل الإيمان، ولا يثبتون له الإيمان كاملاً، ويقولون هو مؤمِنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته ويُسَمّونه مؤمناً ناقص الإيمان أو مسلماً.(1/62)
الوجه الثانِي: وسطيتهم بين الخوارج والمرجئة في مُسَمَّى ديار الْمسلمين وحكم أهلها؛ فالخوارج يعدّون ديار مخالفيهم من المسلمين دار كفرٍ وحربٍ، وحكم أهلها كفّار مشركون.
والمرجئة يعدّون الدّار دار إيمان وحكم أهلها أنّهم مؤمنون كلّهم إلاّ مَنْ ظهر منه خلاف الإيمان.
وأهل السّنة يقولون: الدّار دار إسلامٍ أو دار إيمان باعتبار أصل الإيمان لا كماله، ولا يقطعون لكلّ مسلمٍ بالإيمان الكامل حتّى يستوفي شعبه الواجبة.
الوجه الثالث: وسطيّتهم بين الخوارج والمعتزلة والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة؛ فالخوارج والمعتزلة يقطعون بدخول أهل الكبائر النّار ويقولون هم خالدون مخلّدون فيها.
والمرجئة يقطعون بدخولهم الجنة ويزعمون أنّهم لا تَمسّهم النّار أبداً.
وأمّا أهل السّنة: فيعتقدون أنّ أهل الكبائر تحت مشيئة الله؛ إن شاء الله عذّبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم بفضله، ويعتقدون أنّ مَنْ دخل النّار منهم؛ فإنّه لا يخلد فيها بل لا بدّ من دخوله الجنّة بما معه من التّوحيد.
23. وسطية أهل السّنة بين الفِرَق في الوعد والوعيد.
فالوعيديّة من الخوارج والمعتزلة غلوا في نصوص الوعيد فقالوا بوجوب إنفاذ الوعيد في حقّ العصاة وعطّلوا نصوص الوعد؛ فقالوا: لا تتناول إلاّ مؤمناً.
والمرجئة غلوا في نصوص الوعد؛ فقالوا بوجوب إنفاذ الوعد في حقّ العصاة، وعطّلوا نصوص الوعيد وقالوا: لا تتناول إلاّ كافراً.
وأهل السّنة يؤمنون بالوعد والوعيد، ويقولون: إنّ نصوص الوعد والوعيد يفسِّر بعضها بعضاً، ويقولون: إنّ وعيد الله للعصاة مشروط بشروطٍ، ووعد الله لأهل الطّاعة مشروطٌ بشروطٍ، فلا تُنَزل نصوص الوعد والوعيد المطلقة حتّى تستوفى شروطها في حقّ المعَيَّنين. والله تعالى أعلم.
-(1/63)