تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : تهذيب فن المنطق في شرح ايساغوجي
المؤلف: الأستاذ محمد العايدي
تهذيب فن المنطق
شرح على متن إيساغوجي
للإمام المتقن العلامة أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري
المتوفى سنة 663هـ
رحمه الله تعالى
تأليف
محمد صبحي العايدي
المقدمة
الحمد لله وكفى والصَّلاة على المصطفى وبعد:
فإنَّ المتون التي كَتبها العلماء الأفاضل تُمثِّل الخَريطَة العامَّة لأيّ علم مِن العلوم، ولذا كان لابدّ لطالب العلم أنْ يتلقى هذه المتون في بداية طلبه للعلم عند أستاذ متَمرِسٍ، ليفُك ألفاظها، ويبيّن مُبهَمها، ويحلَّ عَويصَها، مع حفظِها حفظاً جيداً، لتصيرَ مفاتيح هذا العلم في ذِهنه، حتى لاتكاد تَجد مسألةً من مسائل هذا العلم إلا وله مِن معرفتِها نَصيب، ويَسهل عليه استحضار مسائله بأدنى نظرٍ قريب، فإنْ عَمِلَ بَعدَها بماعلِم أورَثهُ الله علْمَ ما لم يَعلَم، وكان فضل الله علينا كبيراً.
أما ما يقوله البعض من أنَّ هذه المتون عبارة عن ألغاز لاتكاد تفهم، قلنا: هذا الكلام لا يصحّ أنْ يُتَخذ مَدخلاً للطَّعن فيها، لأنَّ صعوبة العِبارة غير مقصودةٍ من المصنِّف، وليس الكلام فيها مُتكلّف، وإنمَّا تَعود صعوبة فهمها على المبتدئين لغزارةِ المعاني المُنطَوية في ألفاظها القليلة، وهذا لابدَّ منه عند كتابة المتون، حتي يَسهل على الطالب حفظها، واستحضارها ما أمكن بأَوجَز لفظٍ، وأحسن عِبارَة.
وقد كنتُ كتبتُ هذا الشرح الصغير اللَّطيف على متن إيساغوجي عندما طَلَبَ منِّي بعض الأساتذة الأفاضل الذين لا تسعني مخالفتهم، أن أُدَرّس مادة المنطق في دورة المتون الشرعية التي عقدت في كلية أصول الدين الجامعية ، فلم أَجد مَتْناً يَسهلُ حفظه وفهمه على طلبة العلم المبتدئين أفضل مِن هذا المتن الذي بين أيدينا.(1/1)
وأخيراً لا أَنسى أنْ أشكرَ كلَّ مَن ساعدَ وأسهَم في أخراج هذا الكتاب وأخصُّ بالذِّكر أخي وصديقي الشيخ حمزة البكّري حفظه الله تعالى ورعاه.
--------------------------------------------------------------------
والله نسأل أن يكون في عوننا جميعاً للعمل على إنهاض الحركة الفكرية، وتطويرها والسير بها إلى الأفضل، في زمان انغمس بالمادة فنَسِي الرّوح، وانجرف بالعاطفة فأضاع الأخلاق... ... !
في عمَّان الأردن محمد العايدي
1 ذو الحجة 1426هـ
تمهيد
الحمدُ لله على تمام المِنَّة، والصلاة والسلام على نبيِّ الأمة، سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه الذين لم يضلوا طريقهم إلى الجنّة، وبعد:
فإنَّ المنطِقَ من علوم الآلة التي نشأت في مدارسَ فلاسفةِ اليونان وحُكمائهم نتيجةً لمجموعةٍ من الظروف، منها الأزمةُ العقليَّةُ والفكريَّةُ الكبرى التي حصلت في النصف الثاني من القَرن الخامس قبلَ الميلاد، وذلك لظهور الحركة السُّفُسطائيَّة التي أخذت بتغرير الناس باستخدامهم بعض المهارات الخطابيَّة التي تعتمد على التلاعُبِ ببعض الألفاظ، واختراع الحُجج الزائفة التي ظاهرها فيه الصحة، وفي حقيقتها البُطلان، وقد زاد هذا من اللّجاج والتطرُّف على حساب التفكير والبرهان.
حتى قام جماعةٌ من المُفكِّرين ــ مثل: سُقْراط وأفلاطون ــ وتصدَّوا لهذه الحركة السُّفُسطائية، بتبيانِ زَيْفها، وكشفِ عَوَارها، مع التعريف الحقيقي للأشياء، وبيان ماهيَّاتها بضوابط مُحكَمة، ثم ازدادت الحركةُ الفكريَّةُ بعد ذلك على يد المعلِّم الأول أرسطو، ثم تُرجِمَت هذه العلوم إلى العربيَّة في العصر العباسي على ما هي عليه، وبما اختلط بها من فلسفات كُفريَّة كانت عند اليونانيين، مما أدَّى إلى أن يقف بعضُ العلماء من هذا العِلم موقِفَ المُحرِّم، كالإمامَين ابنِ الصلاح والنوويِّ رحمهما الله تعالى وغيرهما.(1/2)
--------------------------------------------------------------------
ولقد كان حُجَّةُ الإسلام الإمامُ الغزاليُّ رحمه الله تعالى ــ بحقٍّ ــ أوَّلَ مَن قام بتهذيب هذا العِلم، وتمييز غثِّه من سمينه، وترتيب أبوابه، فأصبح عِلماً موافِقاً للشَّرْع واللغة والعقل السليم، ثم سار العُلماء بعد ذلك على مباحثه شرحاً وتوسيعاً وتحقيقاً وتدقيقاً (1).
ولا بدَّ في هذه المقدِّمة الموجَزة أن نبيِّن مبادئ هذا العلم، ليكتملَ تصوُّره في ذِهن الطالب:
فقالوا في تعريف علم المنطق: إنه آلةٌ قانونيَّةٌ تَعصِمُ مُراعاتُها الفِكرَ من الوقوع في الخطأ (2).
ومن هذا يُعلَم أن المنطقَ من علوم الآلة، أما كونُه عِلماً فلكونه مضبوطاً بقواعدَ كليَّةٍ، بغضِّ النظر عن هذه القواعد: هل هي نقلية أم عقلية؟ وأما كونُه من علوم الآلة فلأنه من العلوم التي لا تُقصَدُ لذاتها، وإنما هي وسائلُ لِمَقصِدٍ أعلى، وعليه فَحكْمه يكون بالنَّظَر إلى ما يُوصِلُ إليه، فإن كان يُوصِلُ إلى مُحرَّمٍ فهو حرامٌ، أو واجبٍ فهو واجبٌ، وهكذا.
فعلمُ اللغة العربيَّة مثلاً من حيثُ كونُه عِلماً، هو وسيلةٌ، أي: يُعَدُّ من علوم الآلة كالمنطق تماماً، ولكنه من العلوم الواجب تعلُّمُها، خصوصاً على دارسي علوم الشريعة، لا لكونه عِلمَ آلةٍ، بل لتوقُّفِ فَهمِ خطاب الشارع عليها.
وكذلك علمُ المنطق يُعامَلُ بالطريقة نفسها، فبعض علوم الشرع يتوقَّفُ فهمُها على استِحضار بعض المسائل المنطقيَّة وفَهمها، ولذلك قالوا: إن النَّحوَ منطقٌ لُغويٌّ، وإن المنطقَ نحوٌ عقليٌّ، ولذلك شَرَطَه بعضُ العلماء في كتبهم كالإمام الغزالي رحمه الله (3) .
وأما موضوعُ علم المنطق: فهو المعلوماتُ التصوريَّةُ والتصديقيَّةُ من حيثُ صحَّةُ إيصالها إلى تصوُّرات وتصديقات أخرى لم تكن معلومة.
__________
(1) ومن كتبه رحمه الله في علم المنطق كتاب «محك النظر»، وكتاب «معيار العلم».(1/3)
(2) «المستصفى» للغزالي 1 : 10.
(3) انظر «المستصفى» للغزالي 1 : 10.
--------------------------------------------------------------------
وأما ثمرتُه ــ وهي الفائدة ــ: فمن أعظم فوائده عِصمةُ الفِكرِ عن الخطأ الذي يُؤدِّي إلى الجُنوح الفِكريِّ الذي نعاني منه اليوم، وقد قال الأخضري صاحب «متن السُلَّم المُنَورَق»:
وبَعدُ فالمَنْطِقُ للجَنانِ ... نِسْبَتُهُ كالنَّحْوِ لِلِّسانِ
فيَعْصِمُ الأفكارَ عن غَيِّ الخَطَا ... وعن دَقِيقِ الفَهْمِ يَكشِفُ الغِطَا
وأما فضلُه: فهو بحسب ما يتعلَّق به، ومعلومٌ أنَّ علم المنطق يدخل في أكثر العلوم، ومن ذلك علمُ العقائد في إثبات العقائد الدينيَّة بالأدلة اليقينيَّة، وردِّ شُبَه الخُصوم، وعلم أصول الفقه، وعلم الفقه، وقد أكثَرَ الإمامُ الغزاليُّ في كتابيه «معيار العلم» و«محك النَّظَر» من إيراد الأمثلة الفقهية بغرض توضيح القواعد المنطقيَّة.
ولا بدَّ من إظهار تطبيقاتٍ عَمَليَّة لعلم المنطق من خلال عرض القواعد المنطقيَّة ولا يبقى المنطق في مَعزِلٍ عن تطبيقاته، وهذا يحتاج إلى بحثٍ واستقراءٍ لاستخراج التطبيقات المنطقيَّة من خلال علوم الشريعة، وليكن بحثاً مستقلاً يسمى بالتطبيقات المنطقية (1).
وأما واضعُه: فهو الفيلسوف اليوناني أرسطو، فهو أول من أرسى قواعده (2).
__________
(1) مع أنه يكفي لفهم علم المنطق الاقتصارُ على بعض الأمثلة التي يذكرها المناطقةُ لتوضيح المقام، كتكرار مثال: الحيوان الناطق في تعريف الإنسان، أو مثال: الزوجية والفردية في ضرب الأمثلة على أنواع القضايا، وغير ذلك، إلا أنه لا بدَّ من تفعيل الأمثلة وتكثيرها ليسهُلَ الفهمُ على الطالب، وليلمسَ ثمرةَ هذا العلم بأمثلة قريبةٍ منه.(1/4)
(2) وكون أرسطو هو واضعُ هذا العلم فلا يضيرُ أبداً، لأنه علمُ آلةٍـ وعلومُ الآلة لا يُنظَر فيها إلى المصدر كشرطٍ للأخذ، بخلاف العلوم المقصودة لذاتها، كالعقائد والفقه التي لا بدَّ أن تُؤخَذَ من مصادر مشروعة.
--------------------------------------------------------------------
وأما اسمُه: فهو علم المنطق، وسُمِّي هذا المتن الذي بين أيدينا بـ«إيساغوجي»، وهو لفظ يوناني يُراد به الكُليَّات الخمس التي سيأتي ذكرُها، وعليها مدارُ فهم علم المنطق.
وأما استمدُاده: فمن العقل، ولا يَغُرَّنَّكَ تهويلُ بعض الناس من الخوض في العلوم العقليَّة، وأنها مزالقُ الشيطان، ومن تمنطَقَ فقد تزندَقَ، وغيرها من العبارات التي لا قيمة لها، أو هي عباراتٌ قيلت في وقتٍ معيَّنٍ وظرفٍ معيَّنٍ، ثم تبدَّلت الأوقاتُ والظروفُ، وبقيت العباراتُ موجودةً، ولكنَّها في الحقيقة فقدت مَصاديقَها، فصار بعضُ الناس يُسقِطُها على غير ما قيلت فيه، فولَّدت الخِلاف والنِّزاع.
وأكثرُ هؤلاء لا يثقون بعقولهم، إما لأنهم لا يعرفون أحكامَ العقل وضوابطَه وشروطَه، فيخلطون تارةً بين العقل والهوى، ويظنُّون تارةً أخرى أن استخدامَ العقل هو من باب مضاهات أحكام الله، وهو نوع من التشريع، وبالتالي خروجٌ عن شرع الله تعالى، وإما لأن مناهجَهم فيها نوعُ فسادٍ فلا توافِقُ العقل، فيرمون العقلَ بالضلال وينسَونَ أنفسَهم.
ولكنّنا نقولُ لهؤلاء وأولئك: إن العقلَ إذا أُقحِمَ في غير مجالِه لم يَعُدْ عقلاً، وإنما صار سَفْسَطَةً وجَهلاً، وإذا لم يُدخَل في مجالِه وهُمِّشَ صار حُمقاً وتغفُّلاً، وكلاهما لا يرضاه عاقل.
وأما عن حُكم الشرع فيه: فهو مباحٌ بالنظر إلى كونه عِلماَ مضبوطاً له قواعدُه وأصولُه، من غير نَظَرٍ إلى مُتَعَلَّقِه. وأما بالنَّظَر إلى ما يتعلَّق به فحُكمه بحسبه.(1/5)
وما ورد عن بعض العلماء من تحريمه فإنما أرادوا علمَ المنطق اليوناني بما اختلَطَ به من أمثلةٍ وفلسفاتٍ كُفريَّةٍ، يُخشى على طلبة العلم من الضلال بسببها، وأما المنطق الذي يوافق الشرع والعقل واللغة فلا محذور فيه. والله أعلم.
* ترجمة مصنِّف المتن:
--------------------------------------------------------------------
قال الزركلي في «الأعلام» (1):«أثير الدين الأبهري: هو المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري السمرقندي، منطقي، له اشتغال بالحكمة والطبيعيات والفلك، من كتبه «هداية الحكمة» مطبوع مع بعض شروحه، و«متن إيساغوجي» مطبوع أيضاً وهو هذا الذي بين أيدينا، و«مختصر في علم الهيئة»، و«رسالة الإسطرلاب»، و«تنزيل الأفكار في تعديل الأسرار» في المنطق، و«جامع الدقائق في كشف الحقائق» في المنطق أيضاً، و«درايات الافلاك»، و«الزيج الشامل» و«الزيج الاختياري» يعرف بالزيج الأثيري».
الدلالات
قال العلامة أثير الدين الأبهري رحمه الله: (اللفظُ الدالُّ على تمام ما وُضِعَ له بالمُطابَقَةِ، وعلى جُزْئِه بالتضمُّنِ إن كان له جُزْء، وعلى ما يُلازمُه في الذِّهْن بالالتِزامِ، كالإنسان: فإنه يدلُّ على الحيوانِ (2) الناطقِ بالمُطابَقَةِ، وعلى أحدِهما بالتضمُّنِ، وعلى قابِلِ العلمِ وصَنْعةِ الكتابةِ بالالتِزام).
أقول: دلالةُ اللفظ ليس هو محلُّ نَظَرِ المنطقي، وإنما محلُّ نَظَرِه هو المُعرِّفُ، وهو «المعلوم التصوُّري»، والحُجَّةُ وهو «المعلوم التصديقي»، وهما من قبيل المعاني لا الألفاظ، إلا أن البحثَ هنا عن الألفاظ من حيثُ الإفادةُ والاستفادةُ، وهما إنما يكونان في الألفاظ بالدلالة، فلذلك بدأ بذِكرِ أنواع الدلالات (3).
* ما هو تعريف الدلالة؟
__________
(1) 7 : 279 بتصرف يسير.(1/6)
(2) لفظ الحيوان يجوز إطلاقه على الإنسان بالمعنى اللغوي وهو الحياة ، وقد استُخدم هذا اللفظ بهذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى: ? وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ? [العنكبوت: 64]، أما لو أُطلِقَ بالمعنى الاصطلاحي الذي يُرادُ به الدابَّة من غير المُركَّب التوصيفيّ ــ وهو كونه ناطقاً ــ لصار سُبَّةً بالنسبة للإنسان.
(3) انظر «حاشية الملا عبد الله على التهذيب» ص46.
--------------------------------------------------------------------
لو طرق شخصٌ البابَ لانتقلَ ذِهنُك إلى وجود طارقٍ، فتُسمَّى طَرْقةُ الباب دالاً، والشخصُ مدلولاً، وهذه العمليَّةُ دلالةً، فعِلمُك بالطَّرْقة يُسبِّبُ لك علماً جديداً، وهو شخصُ طارقٍ، وعلى هذا فالدلالة هي: كونُ الشيء بحيث يلزمُ من العلم به العلمُ بشيء آخر.
وتُقسَمُ الدلالةُ باعتبار الدالِّ إلى: دالٍّ لفظيٍّ مثل لفظ زيد، أو غير لفظيٍّ مثل إشارات المرور، وكلاهما إما وَضْعيٌّ كدلالة زيد على ذاته، أو طَبْعيٌّ كدلالة «آه، آه» على الألم. أو عقلية كدلالة الخطِّ على وجود كاتبٍ له (1).
والمقصود بالبحث هنا هو الدلالة اللفظيَّة الوضعيَّة، إذ عليها مدارُ الإفادة والاستفادة.
* الدلالة اللفظية الوضعية:
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مطابَقة وتضمُّن والتِزام.
فدلالة المُطابقة: هي دلالةُ اللفظ على تمام ما وُضِعَ له. كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، والدفتر على جميع أوراقه، ودلالة لفظ البيت عليه بجميع أجزائه (سقف، جدار، باب، نافذة، سور، حديقة، غرفة، مطبخ،...).
ودلالة التضمُّن: هي دلالةُ اللفظ على جُزء معناه. كدلالة السيَّارة على إطاراتها، والصلاة على الركوع.(1/7)
ودلالة الالتزام: هي دلالةُ اللفظ على لازم معناه، والمقصود باللزوم عند الجمهور هو اللزومُ الذِّهنيُّ لا الخارجي. كدلالة الإنسان على قابِلِ العِلم، وكدلالة قول الله عن الملائكة: ?لا يَسْبِقُونَهُ بالقَوْلِ وَهُمْ بأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? [الأنبياء: 27] على عِصمَتِهم التِزاماً، وكدلالة لفظ حاتم على الكَرَم، وهو ما يُسمَّى في علم النفس بـ«تداعي المعاني» (2).
المُفرَد والمُركَّب
__________
(1) انظر «حاشية الملا عبدالله على التهذيب» ص46.
(2) انظر: «دروس في علم المنطق» الصدر ص39، و«تنوير الأذهان» آل جميل ص12، والمعتبر في دلالة الالتزام عند علماء الأصول مطلق اللزوم، عقلياً كان أو غيره.
--------------------------------------------------------------------
قال: (ثم اللفظُ إما مُفرَدٌ: وهو الذي لا يُراد بالجُزء منه دلالةٌ على جُزء معناه، كالإنسان، وإما مُؤلَّفٌ: وهو الذي لا يكون كذلك، كرامي الحجارة).
أقول: لمَّا فرَغَ من الدلالات الثلاث شرَعَ في تقسيم اللفظ، فنقول: اللفظ الموضوع ينقسم إلى قسمين:
الأول: اللفظ المُفرَد: وهو الذي لا يُراد بالجُزء منه الدلالةُ على جُزء معناه. وهو إنما يتحقَّق بأربعة أمور:
1ــ ما لا جُزء للفظه، نحو: همزة الاستفهام.
2ــ ما لا جُزء لمعناه، نحو : لفظ الجلالة (الله).
3ــ ما لا دلالة لجُزء لفظِه على جُزء معناه، نحو: زيد، وعبد الله إن أريد به العَلَميَّة، فهو مُفرَد عند المناطقة، ومُركَّب عند النَّحْويين.
4ــ ما يدلُّ جُزءُ لفظِه على جُزء معناه، لكنْ هذه الدلالةُ غيرُ مقصودة، كـ«الحيوان الناطق» عَلَماً للشخص الإنساني، كما لو سمَّى شخصٌ ابنَه «حيوان ناطق»، فالدلالةُ واقعةٌ، لكنَّها غيرُ مُرادةٍ للمُتكلِّم، لأن مُرادَه هو الشخصُ من دون النظر إلى حيوانيَّته أو ناطقيَّته (1).(1/8)
الثاني: اللفظ المُؤلَّف (المُركَّب): وهو ما دلَّ جُزؤُه على جُزء معناه، كقولنا «الجَهل مُضِرّ»، وهو إنما يتحقَّق بأربعة أمور:
1ــ أن يكون للفظه جُزء.
2ــ أن يكون لمعناه جُزء.
3ــ أن يدلَّ جُزءُ لفظِه على جُزء معناه.
4ــ أن تكون هذه الدلالةُ مُرادةً.
فبانتِفاءِ قَيْدٍ من القيود الأربعة يتحقَّق قِسمُ المُفرَد، فالمُركَّب قسمٌ واحدٌ، والمُفرَد أربعةُ أقسام كما أشرنا سابقاً.
__________
(1) انظر «حاشية الملا عبد الله» ص49، و«علم المنطق» د. محمد رمضان عبد الله ص19.
--------------------------------------------------------------------
والمُركَّبُ ينقسمُ إلى تامٍّ، وهو الخَبَر(1) الذي يُعطي معنى مفيداً، مثل: العالَم ليس قديماً، والأشعريُّ لسانُ المُتكلِّمين، وخرج بذلك الإنشاءُ كالاستفهام والنِّداء والتمنِّي والتعجُّب والترجِّي وغيرها، فلا يُراد هنا في المُركَّب التامِّ، لأنه ليس لمعانيها حقائقُ ثابتةٌ في أنفسها ــ بغضِّ النَّظَر عن اللفظ ــ فهي تنشأُ وتُوجَدُ باللفظ، ولذلك لا تحتمل الصِّدقَ والكذب.
وإلى ناقص، وهو: المُركَّب الذي لا يُعطي معنىً مُفيداً يَحسُنُ السُّكوت عليه، مثل: جاء الذي ...، إذا أكرمت ... (2)
الكُلِّيُّ والجُزْئيُّ
قال: (والمُفرَد إما كُلِّيٌّ: وهو ما لا يمنعُ نفسُ تصوُّرِ مفهومِه عن وقوع الشركة فيه، كالإنسان، وإما جُزئيٌّ: وهو ما يمنعُ نفسُ تصوُّرِ مفهومِه عن ذلك، كزيد).
أقول: الحاصلُ أن اللفظَ المُفرَدَ ينقسمُ باعتبار مفهومه إلى: كُلِّيٍّ وجُزئيٍّ، وعليهما مدارُ البحث في المسائل المنطقيَّة بحسب ما يُستفاد ويُفهم من اللفظ، لا بحسب كونه فَرْداً موجوداً في الواقع.
وعليه فالجُزئيُّ: ما اختصَّ بفردٍ واحدٍ، مثل: محمَّد، هذا الكتاب، كليَّة أصول الدين، ...، ومن الملاحظ أن هذه المُفرَدات هي مفاهيمُ لا يجوز في العقل أن تصدُقَ على أكثر من واحد.
__________(1/9)
(1) وهو ما يصحُّ أن يُوصَفَ بالصِّدق والكذب لذاتِه.
(2) انظر: «حاشية الملا عبدالله على التهذيب» ص50، و«ضياء النجوم» لمحمد إبراهيم بلياوي ص34، و«شرح الشيخ القويسني على السُّلَّم» ص13.
--------------------------------------------------------------------
وأما الكُلِّيُّ فإنَّ نفسَ تصوُّرِ مفهومه (1) لا يمنعُ أن يصدُقَ على كثيرين، مثل: معدن، إنسان، أبيض، مثقَّف، كافر، مؤمن، ...، فمثلاً: المعدن يشمل الذهب والفضة والحديد وغير ذلك، والإنسان يصدق على محمَّد وأحمد وعبد الله، وهكذا.
ويُمكنُ تحويلُ الكُلِّيِّ إلى جُزئيٍّ بإضافة ما يدلُّ على الجُزئيَّة، مثال ذلك: «الكتاب» كُلِّي، ولكن إذا قلتَ: «هذا الكتابُ» صار مفهوماً جُزئياً، وكذلك لو قلتَ: «إنسان» فهو كُلي، ولكن لو قلتَ: «هذا الإنسان» لصار جُزئياً، وهكذا ... (2)
* ولكن ما هو المفهوم؟ وكيف يُمكننا أن نُكوِّنَ مفاهيمَ كلِّيَّةً؟
المفهوم: هو صورةٌ ذهنيَّةٌ مُنتَزَعةٌ من حقائق الأشياء، فمثلاً: الحيوانيَّة مفهومٌ مُنتَزَعٌ من ملاحظة عدَّة أمور تشتركُ في حقيقة واحدة، وتسمى بالمصاديق، كالأرنب الذي يقفز، والبُلبُل الذي يُغرِّد، والسمك الذي يسبح، والإنسان الذي يمشي، فكلُّها حقائقُ جُزئيَّةٌ تشتركُ في حقيقة واحدة تصدق على الكُلِّ، وهي كونُها أجساماً حيَّةً متحرِّكةً بالإرادة، فأُطلِقَ على هذه الحقيقة الواحدة المشتَرَكة مفهومُ الحيوانيَّة (3). وسيأتي تفصيلُ ذلك في باب الكُلِّيَّات.
الذاتي والعرضي:
قال: (والكُلِّيُّ إما ذاتيٌّ: وهو الذي يدخلُ تحت حقيقةِ جُزئيَّاته، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفَرَس، وإما عَرَضيٌّ: وهو الذي بخِلافِه، كالضاحك بالنِّسبة إلى الإنسان).
أقول: لا بدَّ من التمييز بين مفهوم الذاتي ومفهوم العَرَضي، لأن التعريف يعتمد على هذا التميُّز:
__________(1/10)
(1) يقصد بـ«نفس تصوُّر مفهومه» أي: بقطع النظر عن وجوده في الواقع أو الخارج، لأن من المفاهيم ما ليس له وجود في الواقع، ويُطلَق عليه أنه كُلِّيٌّ كالعنقاء باعتباره طيراً.
(2) «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان عبد الله ص25.
(3) انظر «تنوير الأذهان» لعبد الجليل آل جميل ص17، و«المنطق» لمحمد رضا المظفر ص63.
--------------------------------------------------------------------
فالذاتيُّ: ما لا يُتعقَّلُ الأمرُ إلا به، ولا يكون خارجاً عن حقيقةِ جُزئيَّاتِه، كالإنسان لا يُفهم إلا بمفهوم الحيوانيَّة، وكذلك الفَرَس، فإن تمامَ حقيقةِ محمَّد وأحمد وعبد الله داخلٌ فيه مفهومُ الحيوان، لكونه مُركَّباً من الحيوان والناطق، وكذا بالنِّسبة للفَرَس.
ونضربُ مثالاً آخرَ للتوضيح، فنقول: لا يُفهَمُ الحديدُ إلا بكونه معدناً، وكذلك الذهب والفضَّة كلُّها لا تُفهَمُ بغير تصوُّر كونها معادن، فالمعدنيَّة كُلِّيٌّ ذاتيٌّ، فهو كُلِّيّ لأنه لا يمنعُ نفسُ تصوُّرِ مفهومِه من صِدقِه على كثيرين، وهو ذاتيٌّ لأن المعدنيَّة داخلةٌ تحت حقيقة جُزئيَّاته، وهي الحديد والذهب والفضَّة، فلا تُفهَمُ هذه الأشياء من غير كونها معادن.
والكُلِّيُّ العَرَضيُّ بخِلافِه، فيُمكِنُ أن تُتصوَّرَ أو تُتعقَّلَ حقيقةُ الشيء من دونه، ويكون خارجاً عن حقيقة جُزئيَّاته، كالضاحك بالنسبة للإنسان، فإنه عَرَضي لأنه لم يدخل في حقيقة زيد وعمرو وبكر، لأن حقيقة هذه الجُزئيَّاتِ تتكون من الحيوان والناطق فلا تفهم هذه الأشياء إلا بها، وأما الضاحك فلا يُشتَرطُ تصوُّرُه لإدراك حقيقة الإنسان، فأنا أفهمُ الإنسانَ من غير أن أنظر إلى كونه ضاحكاً (1).
ولا بدَّ هنا من التنويه عن ثبوت نِسَبٍ بين كل كُلِّيَّين، وهي أربعة:
الأولى: نسبةُ التساوي أو التطابُق بالكُلِّيَّة في الذاتيَّات، كالإنسان يساوي الحيوان الناطق.(1/11)
ثانياً: نسبةُ التبايُن: وهي عدمُ التشارُك في ذاتيٍّ، كالإنسان والحَجَر، فإن مفهوم الإنسان لا ينطبقُ على شيءٍ من أفراد الحَجَر، فلا شيء من الإنسان بحَجَر، ولا شيء من الحجر بإنسان، وقِسْ على ذلك الإنسان والبيت.
__________
(1) انظر «تنوير الأذهان» لعبد الجليل آل جميل ص19.
--------------------------------------------------------------------
ثالثاً: نسبةُ العُموم والخُصوص مُطلَقاً: وهي أن يُشارِكَ أحدُهما الآخرَ في ذاتيَّاتٍ من دون العكس، كالإنسان والحيوان، فإن الحيوان يشمل جميعَ أفراد الإنسان، أما الإنسانُ فلا يشملُ شيئاً من أفراد الحيوان إلا نفسَه، فكلُّ إنسان حيوانٌ، وليس كلُّ حيوان إنساناً، لأن الأسد والثعلب والذئب ليسوا بإنسان. وقِسْ على هذا النبيّ والرسول.
رابعاً: نسبةُ العُموم والخُصوص من وجه: وهو أن يُشارِكَ أحدُهما الآخرَ في بعض الذاتيَّات، ويتخالَفَا في البعض الآخر، فتكونُ عندنا حالةُ اجتماعٍ بين الطَّرَفَين، وحالةُ افتِراقٍ من الطَّرَفِ الأول للثاني، وافتراقٍ آخر من الثاني للأول، كالطَّير والأسود:
أولاً:حالةُ الاجتماع، اجتماع الطير والأسود في الغُراب.
ثانياً: حالة الافتراق من الطرف الأول للثاني تتمثَّلُ في افتراق الطير عن الأسود في الحمام، فإنه طير ولكنه ليس بأسود.
ثالثاً حالة الافتراق من الطرف الثاني للأول تتمثَّلُ في القماش الأسود، فإنه أسود ولكنه ليس بطير (1).
الكُلِّيَّات الخمس(1/12)
الكليَّاتُ الخمسُ: هي الجِنسُ والنَّوعُ والفَصْلُ والخاصَّةُ والعَرَضُ العامُّ، وتُسمَّى المحمولات الخمس أيضاً، وهي ألفاظٌ كُلِّيَّة يتضمَّنُ معناها العامُّ حقائقَ جُزئيَّةً خارجيَّةً أو ذِهنيَّةً بحسب نفسِ هذا الكُلِّيِّ، فقد يكون الكُلِّيُّ خارجيَّاً، كالإنسان والمعدن، وقد يكون ذِهنيَّاً، كالزوجيَّة بالنِّسبة للأربعة، والتلازُم بالنسبة إلى الليل والنهار، أما الكليَّات الفَرَضيَّة التي لا أفراد لها في الذِّهن أو في الواقع فلا فائدة من البحث عنها.
وتنقسم الكُلِّيَّات إلى قسمين:
كُلِّيَّات ذاتيَّة: وهي الجِنسُ والنَّوعُ والفَصْلُ.
وكُلِّيَّات عَرَضيَّة: وهي الخاصَّةُ والعَرَضُ العامُّ.
__________
(1) انظر: «حاشية الملا عبد الله على التهذيب» ص59، و«شرح الشمسية» للكاتبي ص38، و«دروس في علم المنطق» للصدر ص63.
--------------------------------------------------------------------
* القسم الأول: الكليات الذاتية:
أولاً: الجنس:
قال: (والذاتيُّ إمَّا مقولٌ في جوابِ: «ما هو؟» بحسب الشِّرْكةِ المَحْضة، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفَرَس، وهو الجِنسُ، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ مقولٌ على كثيرين مُختَلِفينَ بالحقائق في جواب ما هو؟ قولاً ذاتياً).
أقول: الجنس: هو مقولٌ على كثيرين مُختَلِفين بالحقائق في جواب ما هو؟. فهو كليٌّ ذاتيٌّ أفرادُه مُختلفةُ الحقائقِ من حيثُ مِصداقُ الجِنسُ عليها، مثال ذلك: «الكلمة» جنسٌ لمجموعة أفراد، وهي: «الاسمُ والفِعلُ والحرفُ»، وهذه الأفرادُ مختلفةُ الحقائق، فالاسمُ غيرُ الفِعل، والفِعلُ غيرُ الحرف، بالنِّسبة لإطلاق الكلمة على كلِّ فَرْدٍ من الأفراد، وقِسْ على ذلك مثال اللون والحيوان.(1/13)
وضابطُ الجنس: أنَّ الشِّرْكةَ فيه مَحْضةٌ، وليست بالخُصوصيَّة، ومعنى ذلك أنه إذا سُئل عن كلِّ واحد من أفراد الجنس بـ«ما هو؟» لا يقعُ أحدُهما جواباً عن الآخر، فلو سُئل عن الاسم: «ما هو؟» لم يقع جواباً عن الفِعل والحرف، وكذلك أفراد الحيوان، وهما الإنسان والفَرَس، لا يقعُ أحدُهما جواباً عن الآخر إذا سُئل عنهما بـ«ما هو؟» لأنَّ حقيقة الإنسان هو الحيوان الناطق، وحقيقة الفَرَس هو الحيوان الصاهل، وهكذا.
ثانياً: النوع:
قال: (وإما مقولٌ في جواب: «ما هو؟» بحسب الشِّرْكةِ والخُصوصيَّةِ معاً، كالإنسان بالنسبة إلى عمرٍو وزيدٍ، وهو النوعُ، ويُرسَم بأنه كُلِّيٌّ مقولٌ على كثيرين مختَلِفين بالعدد دون الحقيقةِ في جواب: «ما هو؟»).
--------------------------------------------------------------------
أقول: النوع: هو مقولٌ على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة. فهو كُلِّيٌّ ذاتيٌّ أفرادُه أو جُزئيَّاتُه ذاتُ حقيقةٍ واحدةٍ من حيث مِصداقُ النَّوع عليهم، مثال ذلك: الحرفُ، فهو نوعٌ، وأفرادُه: «من»، و«إلى»، و«عن»، و«على»، و...، وهذه الحروفُ وإن اختلفت بالعدِّ، إلا إنها مُتَّفقةٌ في الحقيقية، بمعنى أن الحرف يصدُقُ على كلِّ واحدٍ منها. وقِسْ على ذلك الفِعل والاسم والإنسان.
وضابطُ النَّوع: أن الشِّرْكة فيه بالخُصوصيَّة، ومعنى ذلك أن أفراد النَّوع لو سُئل عن أحدها بـ«ما هو؟» لكان الجوابُ عن أحدها هو عينُ الجواب عن الآخر، وإن اختلفوا بما ليس من ذاتيَّاتهم، كالإنسان فهو نوعٌ يشمَلُ: «زيد، ومحمد، وأحمد، وعبد الله»، وهذه الأفرادُ حقائقُها مُتَّفقةٌ، فكلُّ فَرْدٍ من أفرادها يصدُقُ عليه وصفُ الإنسانيَّة، وإن اختلفوا في الطُّول والقِصَرِ والجمال مثلاً.
ثالثاً: الفَصْل:(1/14)
قال: (وإما غيرُ مقولٍ في جوابِ: «ما هو؟»، بل: «أيُّ شيء هو في ذاته؟» وهو الذي يُميِّزُ الشيء عمَّا يُشارِكُه في الجِنسِ، كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، وهو الفَصْلُ، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ يُقالُ على الشيء في جواب: أيُّ شيءٍ هو في ذاته).
--------------------------------------------------------------------
أقول: الفَصْل: هو مقولٌ على الشيء في جواب: «أيُّ شيءٍ هو؟». ويُقصَدُ منه التمييزُ، فهو صفةٌ ذاتيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تُميِّزُ النَّوعَ عن بقيَّة الأنواع التي تندرجُ معه تحت جِنسٍ واحد، فمثلاً: الإنسانُ ناطقٌ أو مفكِّرٌ، وهي صفةٌ ذاتيَّةٌ، وليست عَرَضيَّةً، فلا يُتصوَّرُ مفهومُ الإنسان إلا بها، ولا ينبغي أن نسألَ عن سببِ وجودها، فلا يجوز مثلاً أن نسألَ: لِمَ كان الإنسانُ ناطِقاً أو مُفكِّراً، لأن من طبيعته أن يكون كذلك، وهي تُميِّزُ الإنسانَ عمَّا يُشارِكُه في الجنس، أي: الحيوان كالفَرَس وغيره، لأنه إذا سُئل عن الإنسان بـ«أيُّ شيءٍ هو في ذاته؟» كان الجوابُ أنه ناطِقٌ، لأن السؤال بـ«أيُّ شيءٍ هو في ذاته؟» إنما يُطلَبُ به ما يُميِّزُ الشيءَ عن غيره، وكلُّ ما يُميِّزُ الشيءَ عن غيره يصلُحُ أن يكون جواباً.
ولا يُسألُ عن الفَصْل إلا بعد أن نعلَمَ أن للشيء جِنساً، بناءً على أنَّ ما لا جِنسَ له لا فَصْل له (1).
* ما هو الفصل القريب والفصل البعيد؟
مرَّ أن الفَصْلَ يُميِّزُ الماهيَّة، وهذا القَيدُ الذي يحصُلُ به التميُّز إما أن يكون قريباً من ماهيَّة الشيء بحيثُ لا يُقال ولا ينطبقُ على غيره، كالناطق بالنسبة للإنسان، فهو فَصْلٌ خاصٌّ بالإنسان لا ينطبقُ على غيره ولا يُقال في غيره، فهو بهذا المعنى يسمى قريباً.
__________
(1) انظر «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان عبد الله ص27، و «شرح الشيخ القويسني على السُّلَّم» ص15.
--------------------------------------------------------------------(1/15)
أما إذا كان هذا الفَصْلُ يُقال ويصدُقُ على أكثرَ من ماهيَّة فهو فَصْلٌ بعيدٌ، كالحسَّاس الذي هو فَصْلٌ قريبٌ للحيوان في قولنا: الحيوان حسَّاس، ولكن إذا استُعمل هذا الفَصْل بالنسبة للإنسان الذي هو نوعُ الحيوان وهو أنزَلُ منه مرتبةً، بقولنا: الإنسانُ حيوانٌ حسَّاسٌ، نكون قد استعملنا فَصْلَ ما هو أعلى فَصْلاً لِمَا هو أدنى منه بمرتبة واحدة، وما هو أعلى ينطبقُ على ما هو أسفل منه ولا عكس، أي: لا ينطبقُ ما هو أسفل على ما هو أعلى منه لأنه أخصُّ منه، فالناطقُ يصدُقُ على الإنسان ولا يصدُقُ على الحيوان، لأن الإنسان أخصُّ منه، أما الحسَّاس فيصدُقُ على الإنسان كما يصدُقُ على الحيوان، وإن كان يُعتبرُ فَصْلاً قريباً بالنسبة للحيوان، بعيداً بالنسبة للإنسان، فسُمِّي فَصْلاً بعيداً بالنسبة للإنسان، وقِسْ على ذلك الجسم النامي.
* القسم الثاني: الكليَّات العَرَضيَّة:
قال: (وأما العَرَضيُّ: فإما أن يمتنعُ انفِكاكُه عن الماهيَّة، وهو العَرَضُ اللازم، أو لا يمتنعُ انفِكاكُه وهو العَرَضُ المُفارِقُ).
أقول: العَرَضيُّ على خلاف الذاتيِّ، فإذا كان الذاتيُّ ما لا تُتَعقَّلُ الذاتُ من دونه، ولا يُسألُ عنه: لِمَ كان كذلك؟، فالعَرَضيُّ: هو الكُلِّيُّ الذي تُتَعقَّلُ الذاتُ من دونه، ويُمكِنُ أن يُسألَ عنه بـ«لِمَ كان كذلك؟».
وينقسمُ العَرَضيُّ إلى قسمين: لازم ومُفارِق.
فاللازم: ما يمتنعُ انفِكاكُه عن الحقيقة أو الماهيَّة، وهو ينقسمُ بالنَّظَر إلى وجوده إلى قسمين:
الأول: اللازمُ البَيِّنُ: وهو الذي يلزمُ من تصوُّر الملزوم تصوُّره، كما يلزمُ من تصوُّر البَصَر تصوُّرُ العَمَى، ومن تصوُّرِ الأربعة والزوجيَّة تصوُّر النسبة بينهما.
--------------------------------------------------------------------(1/16)
الثاني: اللازمُ غير البَيِّن: وهو الذي لا يلزمُ من تصوُّر الملزوم تصوُّره، بل يحتاج إلى بُرهانٍ للتدليل عليه، لأنه نَظَريٌّ وليس بَدَهيَّاً، كالحكم بأن المثلَّث زواياهُ تساوي قائمتين، فلا يكفي تصوّر زوايا المثلث، والقائمتين والنسبة للحكم بالتساوي، بل إن الجزم بهذه الملازمة يحتاج إلى البرهان.
والمُفارق: هو ما لا يمتنعُ انفِكاكُه عن الحقيقة أو الماهيَّة، كالقيام أو النَّوم بالنسبة للإنسان، فإنه يجوز أن نَسلُبَ القيامَ والنَّومَ عن الإنسان ومع ذلك يبقى يُسمَّى إنساناً، ولكن لو سَلَبْنا الزوجيَّة عن الأربعة لَمَا بقيت الأربعةُ أربعةً (1).
وكلُّ واحد من العَرَضيِّ اللازمِ أو المُفارِقِ إما خاصَّةٌ أو عَرَضٌ عامٌّ:
رابعاً: الخاصة:
قال: (وكلُّ واحدٍ منهما إما أن يختصَّ بحقيقةٍ واحدةٍ وهو الخاصَّةُ، كالضاحك بالقوَّةِ أو الفِعلِ للإنسان، وتُرسَمُ بأنها كُلِّيَّةٌ تُقالُ على ما تحت حقيقةٍ واحدةٍ فقط قولاً عَرَضيّاً).
أقول: الخاصة: هي كُلِّيَّةٌ تُقالُ على ما تحت حقيقة واحدة فقط، كالضاحك بالقوَّة (2) بالنسبة للإنسان، فإن الضحك مختصٌّ بزيد ومحمَّد وزينب، وهم نوعٌ واحدٌ، ولا يَعرِضُ لباقي جِنسِ الحيوان، أو مختصٌّ ببعض أفراد الإنسان، مثل: الشاعر والمجتهد والخطيب والمُختَرع، فليس كلُّ البشر كذلك.
خامساً: العرض العام
قال: (وإما أن يَعُمَّ حقائقَ فوقَ واحدةٍ، وهو العَرَضُ العامُّ، كالتنفُّس بالقوَّةِ أو الفِعلِ للإنسان وغيره، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ يُقالُ على ما تحت حقائقَ مُختَلِفةٍ قولاً عَرَضيّاً).
__________
(1) انظر «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان عبد الله ص17.
(2) أي: القادر على الضحك.
--------------------------------------------------------------------(1/17)
أقول: العَرَضُ العامُّ: هو كُلِّيٌّ يُقالُ على ما تحت حقائق مختلفة، فهو خارجٌ عن حقيقة أفراده، ولم يختصَّ بحقيقة واحدة، مثل قولنا: الإنسان ماشٍ والنَّسر طائرٌ، فالمشيُ ليس حقيقةً للإنسان، لأن حقيقة الإنسان أنه «حيوان ناطق»، والمشي يَعرِضُ للإنسان ولغيره من الحيوانات، أما النُّطْق فلا يَعرِضُ إلا للإنسان. وقِسْ على ذلك السَّواد للجلد، والقيام والقعود للإنسان.
تنبيه: يُمكنُ أن يكون الشيءُ الواحدُ عَرَضاً عامّاً لشيءٍ، وخاصَّةً لشيءٍ آخر، كالمشي خاصَّةٌ للحيوان، لأننا لا يُمكِنُ أن نصفَ النباتَ مثلاً بأنه ماشٍ، ويكون عَرَضاً عامّاً للإنسان، لأنه يشمَلُ الإنسانَ وغيرَه من سائر الحيوانات، مثل: الأسد والفَرَس وغيرهما (1).
القول الشارح (التعريفات)
القول الشارح: هو ما يُسمَّى بالتعريف للشيء: وهو قولٌ دالٌّ على ماهيَّة الشيء، والغَرَضُ من التعريف هو تبْيان المُعرَّف وتميُّزه عن غيره.
ويقسم المنطقيُّون العِلمَ إلى: تصوُّر: وهو إدراكٌ مُفرَدٌ (2).
وتصديق: وهو إدراكُ نسبةٍ، أي: التصوُّر مع اعتبار الحُكم فيه مُوصِلاً إلى المطلوب التصديقي (3).
* ما هي أهمية التعريف؟
تكمُنُ أهمية هذه المباحث في كونها تضعُ أُطُراً للمفاهيم تُضبَطُ فيها حدودُ كلِّ مفهوم بما يضمَنُ عدمَ الخَلْط بينها، لأنه إذا اختَلَطَت المفاهيمُ ضاعت الحقائق، وهذا يؤدِّي إلى إيقاع المُنازَعات وهَيْمنة الفَوضى الفِكريَّة واضطِراب حَبْل التفاهُم بين الناس، كما هو ظاهر الآن في كلمة «بدعة»، و«حرية»، و«إرهاب »، و«إنسانية»، و«مساواة»، وغيرها، ولا يمكنُ ضَبطُ هذه القضيَّة إلا بوَضْع قواعِدَ لبيان المفاهيم وتوضيح الحقائق.
ونضربُ مثالاً توضيحياً لتبيان ما يحصل من فوضى بسبب عدم ضَبْط المصطلحات والمفاهيم، فمثلاً ما هو تعريف الجِهة؟
__________
(1) انظر حاشية «الملا عبد الله على التهذيب» ص66-79.
(2) وهو القول الشارح.
(3) وهو الحجة.(1/18)
--------------------------------------------------------------------
الجهة: هي حصولُ نِسبةٍ بين جِسمَين. ولنقف قليلاً على ألفاظ هذا التعريف، ونُطبِّق ما عرفناه من الكُلِّيَّات الخمس في تبْيانه:
أولاً: النِّسبةُ: هي أمرٌ كُلِّيٌّ ذاتيٌّ، أما أنها أمرٌ كُلِّيٌّ فلأنه لا يمنعُ نفسُ تصوُّرها من صِدقِها على كثيرين، ثم هي أمرٌ ذاتيٌّ وليس عَرَضيّاً لأنه لا تُفهَمُ الجِهةُ إلا بكونها نسبةً. وتُعتبر جِنساً في التعريف، لأنها تقال على كثيرين مختلفين في الحقائق، كالفِعل بالنسبة للضارب، والعِلم بالنسبة للعالِم، وكالأبوَّة والبنوَّة، وغيرها، فتشملُ النِّسَبُ ما كان بين الأجسام وغير الأجسام ، فلا بدَّ إذاً من وَضْع قَيْدٍ أو فَصْلٍ يُميِّزُ هذه النِّسَبَ عن بعضها البعض، فوُجِدَ أن أقربَ فَصْلٍ مُميِّزٍ للجِهة هو كونُها بين جسمين، فخرجت النِّسَبُ التي تُقالُ على غير الأجسام، لأنها تكون ساعتئذٍ نِسَباً غيرَ جِهَويَّةٍ، كأن يُنسَبُ العِلمُ إلى العالِم ولا يُقال: إن أحدهما في جهة من الآخر، وكما يُنسَبُ العالَمُ إلى الله على أنه مخلوقٌ له، ولا يقال: إن الله في جهة منه، لأن الإله قطعاً عقلاً ونقلاً ليس جسماً.(1/19)
ومن هنا نشبَ النِّزاعُ مع الذين ينسبون إلى الله الجهة، فإنهم أخطأوا في تعريفهم للجهة فقالوا: هي النسبةُ بين شيئين، والشيء يشمَلُ كلَّ موجود، سواء أكان جسماً أم غيرَ جسم، وهذا الفَصْل وهو الشيئيَّة في التعريف لا نقول إنه خطأ، ولكن نقول إنه فَصْلٌ بعيدٌ وليس دقيقاً، فلا بدَّ من بيان أن الشيء المراد هنا هو الجسم، وكلما بَعُدَ الفَصْلُ المُميِّزُ للجِنس صار التعريفُ أضعَفَ وأغمَضَ، ولذلك نقول: إن الفَصْلَ الأقربَ في التعريف هو كونُ النِّسبة بين جسمين، والدليل على صِدقِ هذا الفَصْل أننا نقول لهم: إن العِلم مع أنه شيءٌ في العالِم، ومع ذلك لا يُقال إنه في جهةٍ منه، إلى غير ذلك من النِّسَبِ الموجودة التي لا تُوصَفُ بالجهة.
--------------------------------------------------------------------
فدل ذلك على أن لفظ الجهة مختصٌّ بما كان بين جسمين، والله ليس جسماً، فلا يُوصَفُ إذاً بكونه في جهةٍ أبداً، ولو فُهِمَ هذا المفهومُ وغيرُه بهذه الطريقة لا يكون هناك مجال للوقوع في مثل هذه الأخطاء، ولذلك قالوا: إن المنطقَ آلةٌ قانونيَّةٌ تَعصِمُ مُراعاتُها الذِّهْنَ عن الوقوع في الخطأ.
ومن جهة أخرى تعالَوا نُطبِّق مفهومَ التلازُم على معنى الجهة، فسنُلاحِظُ أن الجهةَ والحيِّزَ متلازِمان، فأينما كانت جهةٌ كان هناك لزوماً حيِّز، والحيِّز هو أيضاً من لوازم الأجسام، ولكن للأسف بعضُ الناس يتجاهلُ هذا التلازُمَ بين الجهة والحيِّز بقوله: هذا الكلامُ في حقِّ الأجسام، ولكن لا يصحُّ هذا التلازم في حقِّ الله. والجواب: أن هذا اللزومَ بَيِّنٌ، ولا يُتصوَّرُ انفِكاكُ الجهة عن الحيِّز، كما لا يُتصوَّرُ الانفِكاكُ بين الزوجيَّة والأربعة.
* أقسام التعريف:
أولاً: الحدُّ التامُّ:(1/20)
قال: (القولُ الشارح الحدّ قول دال على ماهية الشيء وهو الذي يتركب من جنس الشيء وفصله القريبين كالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان وهو الحد التام).
أقول: الحدُّ التامُّ: هو الذي يتركَّبُ من جِنسِ الشيء وفَصْلِه القريبَين. مثل تعريف الإنسان أنه حيوان ناطق.
فإنك إذا قلت: ما الإنسان؟ يُقال: الحيوان الناطق. أما كونُه حدّاً فلأن الحدَّ في اللغة هو المنع، وهذا لكونه مُشتَمِلاً على الذاتيَّات مانعٌ من دخول الغير فيه، وأما كونُه تامّاً فلكون الذاتيَّات مذكورةً بتمامها فيه.
ثانياً: الحدُّ الناقص:
قال: (والحدُّ الناقص: وهو الذي يتركَّبُ من جِنسٍ بعيدٍ وفَصْلِه القريب، كالجسم الناطق بالنسبة للإنسان).
أقول: الحدُّ الناقص: هو الذي يتركَّبُ من جِنسٍ بعيدٍ وفَصْلٍ قريب . مثل تعريف الإنسان بأنه جسمٌ ناطقٌ، فهو حدٌّ ناقصٌ، أما كونُه حدّاً فلِمَا قُلنا سابقاً، وأما كونُه ناقصاً فلعَدَم ذِكْرِ بعض الذاتيَّات القريبة فيه.
--------------------------------------------------------------------
ثالثاً: الرَّسْمُ التامُّ:
قال: (والرَّسْمُ التامُّ: وهو الذي يتركَّبُ من جِنسِ الشيء القريب وخاصَّتِه اللازمة، كالحيوان الضاحك في تعريف الإنسان).
أقول: الرَّسْمُ التامُّ: هو الذي يتركَّبُ من جِنسِ الشيء القريب وخاصَّتِه. مثل تعريف الإنسان أنه حيوان ضاحك، أما كونُه رَسْماً فلأنَّ معنى الرَّسْم في اللغة هو الأثَرُ، وهذا تعريفٌ بالأثَرِ وليس بالذاتيِّ، وأما كونُه تامّاً فلتحقُّقِ المُشابَهة بينه وبين الحدِّ التامِّ من جهة أنه وُضِعَ فيه الجِنسُ القريبُ ومُيِّزَ بقَيْدٍ يختصُّ بالشيء وهو الخاصَّة (1).
رابعاً: الرسم الناقص:(1/21)
قال: (والرَّسْمُ الناقص: وهو الذي يتركَّبُ من عَرَضيَّاتٍ تختصُّ جُملتُها بحقيقةٍ واحدة، كقولنا في تعريف الإنسان إنه ماشٍ على قَدَمَيه عريضُ الأظفار بادي البَشَرة مستقيمُ القامة ضحَّاك الطَّبْع).
أقول: الرَّسْمُ الناقص: هو الذي يتركَّبُ من عَرَضيَّاتٍ تختصُّ جُملتُها بحقيقة واحدة.
وقد يكون بالخاصَّة وحدها، كتعريف الإنسانِ بأنه ضاحكٌ، أو المسجدِ بأنه ما له مِئذَنةٌ.
أو بالخاصَّة والجِنسِ البعيد، كتعريف الإنسان بأنه جسمٌ ضاحكٌ، أو المسجِدِ بأنه بناءٌ له مِئذَنةٌ.
وهناك طرق مُيسَّرةٌ في التعريف قد تندرجُ تحت هذا القسم، وهي غير دقيقة، يدعو لها علماء التربية لتفهيم الناشئة، وتسمى بالطريقة الاستقرائيَّة، وهو أن يُذكَرَ أحدُ المصاديق، ثم تُستَنتَجُ قاعدة، وهي لا تصلُحُ لجَعْلها تعريفاتٍ علميَّة، فمثلاً يقول الأستاذُ لطُلَّابه: إن الفِعلَ المُضارعَ مثل: أضرب، يضرب، نضرب، تضرب. فيستنتجُ الطالب قاعدةً عامَّةً، فيُعرِّفُ الفِعلَ المضارعَ بأنه ما بدأ بأحد حروف (نأتي) الزئدة، وهكذا (2).
__________
(1) انظر «شرح السُّلَّم»، للدَّمَنهوري ص28، و«شرح إيساغوجي» لحسام الدين الكاتي ص19.
(2) انظر «المنطق» للمظفَّر ص102.
--------------------------------------------------------------------
وهناك طريقة ثانية وهي التعريف بالتشبيه، وهو أن يُشبَّهَ الشيءُ المقصودُ تعريفُه بشيء آخر لجهةِ شَبَهٍ بينهما، مثل تشبيه العلم بالنُّور، وهذه الطريقة أيضاً للمُبتدئين لتقريب ما لا ليس بمحسوس بما هو محسوس، لأن الحِسَّ على العامَّة والمُبتدئين أقرب (1).
* ومن التعريفات ما لا يجوز، مثل:
1ــ التعريف بالأعمِّ: كتعريف الإنسان بأنه حيوان، لأن الحيوان أعمُّ، والسببُ أنه لا يكون مانعاً من دخول غير المُعرَّف، فيدخل مثلاً في هذا التعريف السَّبُعُ والذِّئبُ وغيرُهما.(1/22)
2ــ التعريف بالأخصِّ: كتعريف الإنسان بأنه طبيبٌ أو مُهندسٌ، لأن الأخصَّ لا يكون جامعاً لجميع أفراد المُعرَّف، فهناك إنسان ليس بطبيب ولا مهندس.
3ــ التعريف بالمُبايِن: كتعريف الإنسان بالحجر.
4ــ التعريف بالمُساوي: أي: أن يُساوي المُعرِّفُ المُعرَّفَ، كتعريف الإنسان بأنه بشر، أو الحركة بأنها الانتقال.
5ــ التعريف بالأخفى معرفةً: كتعريف الأسد بالغَضَنْفَر (2).
والخلاصةُ أن التعريف كلَّما كان أقربَ وأدقَّ في تميُّزِ التصوُّراتِ بعضِها عن بعض كان أفضَلَ، فالحدُّ التامُّ أفضَلُ من الناقص، والرَّسْمُ التامُّ أفضَلُ من الناقص، وهكذا، ولم يعتبروا التعريف بالعَرَضِ العامِّ، لأن الغَرَضَ من التعريف هو معرفةُ حقيقة المُعرَّف أو امتيازُه عن جميع ما عداه، والعَرَضُ العامُّ لا يفيد شيئاً منهما، إلا إذا حصل بذِكْرِ مجموعةِ أعراضٍ عامَّة للمُعرَّف يحصُلُ بمجموعها تميُّزٌ واختصاصٌ للمُعرَّف بحيث يخصُّه ويُميِّزه عن غيره.
القضايا
قال: (القضية: قولٌ يصحُّ أن يُقال لقائله إنه صادقٌ فيه أو كاذبٌ فيه).
أقول: القضيَّة: لغةً: مشتقَّةٌ من القضاء، وهو الحُكم لاشتِمالها عليه.
__________
(1) انظر المصدر السابق ص103.
(2) انظر «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان ص35 ــ 38.
--------------------------------------------------------------------
واصطلاحاً: قولٌ يصحُّ أن يُقال لقائله إنه صادق أو كاذب فيه، أو: هي كلُّ قول مقطوع به، كقولك: هو كذا أو ليس كذا، ومن هنا يُقال: قضيَّة صادقة أو كاذبة، ويُسمِّيها بعضُهم خبراً فليس كلُّ قول معتبرٌ في القضية، بل القولُ الذي يحتمل الصِّدق أو الكذب، وخرج بهذا الفَصْل الأقوالُ الناقصة، والإنشاءاتُ من الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمنِّي، والترجِّي، والعَرْض، وغيرها.
وتتركب القضيَّةُ من ثلاثة أمور:(1/23)
1ــ المحكومُ عليه: ويُسمَّى الموضوع، لأنه وُضِعَ ليُحكَمَ عليه، مثل زيد والحديد والمؤمن.
2ــ المحكومُ به: ويُسمَّى المحمول، لأنه أمرٌ جُعِلَ حِمْلاً لموضوعه، مثل عالِم، من قولك: زيد عالِم ، ومثل معدن، من قولك: الحديد معدن.
3ــ الدالُّ على النِّسبة الحُكميَّة: وهي الرابطة: وهي أمرٌ معنويٌّ لا يظهر في الجملة عادةً، كقولنا: زيد عالِم، والرابطة «هو» الذي لم يظهر في الجملة، فالتقدير: زيد هو عالِم.
والنسبةُ الحُكمية هي النِّسبة الخَبَرية، وإنما سُمِّيت حُكمية لأنها نشأت من الحُكم، وذلك لأن المُخبِر قبلَ إخباره بأن الإنسانَ حيوانٌ مثلاً يتصوَّرُ المحكومَ عليه والمحكومَ به والنِّسبةَ بينهما، ثم يحكمُ بأن الإنسانَ حيوانٌ مثلاً، فهذا الاتحادُ بينهما الناشئ من الحُكم هو النِّسبة الحكميَّة (1).
* أنواع القضايا:
قال: (وهي حَمْليَّة، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وإما شَرْطيَّة متصلة، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإما شَرْطيَّة مُنفصِلة، كقولنا: العددُ إما زوجاً أو فرداً).
أقول: تنقسمُ القضيَّة إلى قسمين: حَمْلية وشَرْطية.
__________
(1) انظر: «شرح الخبيصي على التهذيب» المسمى بـ«التذهيب» ص233، و«حاشية الملا عبد الله على التهذيب» ص90، و«علم المنطق» د. محمد رمضان ص42.
--------------------------------------------------------------------
فالأولى: القضية الحَمْلية: وهي ما كان المحكومُ عليه وبه فيها مُفرَدَين. أي: قضيَّةٌ حُكِمَ فيها بثبوتِ شيءٍ لشيء ــ مثل قولنا: المؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ ــ أو نفيِ شيءٍ لشيء ــ كقولنا: الجهل لا يأتي بخير ــ .
والثانية: القضيَّة الشَّرْطيَّة: وهي التي يُحكَمُ فيها على التعليق، أي: وجودُ إحدى القضيَّتَين فيها مُعلَّق على وجود الأخرى أو على نفيها، ويُسمَّى الجُزءُ الأولُ منها مُقدَّماً، والثاني تالياً، وهي قسمان:(1/24)
الأول: القضيَّة الشَّرْطيَّة المُتصلة: وهي التي يُحكَم فيها بصِدقِ قضيَّة أو لا صِدقِها على تقدير صِدقِ أخرى، وهي التي تُوجِبُ التلازمَ بين جُزْءَيها، كقوله تعالى: ?لَوْ كَانَ فيهِما آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا? [الأنبياء: 22]، وهي ُموجِبةٌ، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وسالِبةٌ، كقولنا: ليس إن كانت الشمسُ طالِعةً فالليلُ موجودٌ.
والثاني: القضيَّة الشَّرْطيَّة المُنفصِلة: وهي التي يُحكَم فيها بامتِناع اجتِماع قضيتين فأكثر في الصِّدق.
فإن حُكِمَ بينهما بالامتِناع إيجاباً فالقضية مُنفصِلةُ موجِبةٌ، كقولنا: العالَم إما قديمٌ أو حادثٌ، الماءُ إما مُطلَقٌ أو مُقيَّدٌ، الاسمُ إما مُعرَبٌ أو مبنيٌّ، وهكذا.
وإن حُكِمَ فيها بالامتِناع سَلْباً فالقضية مُنفصِلة سالِبةٌ، كقولنا: ليس الإنسانُ أن يكون كاتباً أو شاعراً.
قال: (والجُزءُ الأولُ من الحَمْلية يُسمَّى موضوعاً، والثاني محمولاً).
أقول: الجزء الأول ــ وهو المحكومُ عليه ــ من القضية الحَمْلية من قولنا: زيد كاتب، يُسمَّى موضوعاً ــ وهو زيد ــ ، والجزء الثاني ــ وهو المحكوم به ــ يُسمَّى محمولاً ــ وهو كاتب ــ ، ولم يذكر المصنِّف الجزء الثالث مع أنه مهم، وهو النِّسبة الحُكمية، وقد مرَّ ذكرُها.
قال: (والجزءُ الأولُ من الشَّرْطيَّة يُسمَّى مُقَدَّماً، والثاني تالِياً).
أقول: تتركَّب القضيَّةُ الشَّرْطيَّة من:
--------------------------------------------------------------------
1ــ مُقدَّم، وسُمِّيَ مُقدَّماً لتقدُّمه في الذِّكْرِ، وهو القضية الأولى، وتُسمَّى بالملزوم أيضاً.
2ــ وتالٍ، وسُمِّيَ تالياً لكونه تابعاً للمُقدَّم، من التُّلُوِّ بمعنى التَّبَع، وهو القضية الثانية، وتُسمَّى باللازم أيضاً.
3ــ والدالُّ على التلازم بين المُقدَّم والتالي، وهو أداة الشَّرْط، كـ«إذا».(1/25)
* أقسام القضية الحَمْلية باعتبار الإثبات والنفي:
قال: (والقضيَّة إما مُوجِبةٌ، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وإما سالِبةٌ، كقولنا: زيدٌ ليس بكاتب).
أقول: تنقسمُ القضية الحَمْلية باعتبار الإثبات والنفي إلى:
1ــ مُوجِبة: وذلك إن كانت النِّسبةُ التي بين الموضوع والمحمول حُكماً مُثبَتاً، بأن يُقال: الموضوعُ محمولٌ، فالقضية موجِبة، كقولنا: اللهُ رحيمٌ، زيدٌ كاتبٌ، الكُحولُ نَجِسةٌ.
2ــ وسالِبةٌ: وذلك إن كانت النِّسبة حُكماً منفيّاً، بأن يُقال: الموضوع ليس بمحمول، فالقضية سالِبةٌ. كقولنا: الكاذبُ ليس بمؤمن، المؤمن لا يكذب، الإله لا يتغيَّر.
* أقسام القضية الحَمْلية باعتبار الموضوع:
قال: (وكلُّ واحد منهما إما مخصوصةٌ كما ذكرنا، وإما كُلِّيَّةٌ مُسوَّرةٌ (1)، كقولنا: كلُّ إنسان كاتبٌ، ولا شيء من الإنسان بكاتب، وإما جُزئيَّةٌ مُسوَّرةٌ، كقولنا: بعضُ الإنسان كاتبٌ، وبعضُ الإنسان ليس بكاتب، وإما أن لا تكون كذلك وتسمى مُهمَلةً، كقولنا: الإنسانُ كاتبٌ، والإنسانُ ليس بكاتب).
أقول: تُقسَم القضيَّة الحَمْلية باعتبار الموضوع ــ أي: المحكوم عليه ــ إلى:
__________
(1) السُّورُ مأخوذ من سُور البلد، وهو اللفظُ الدالُّ على كمية أفراد الموضوع حاصِراً لها ومُحيطاً بها، فكما أنه يحصرُ البلدَ، كذلك ما يدل على كمية الأفراد يحصرُ أفرادَ الموضوع.
--------------------------------------------------------------------
1ــ القضية الشَّخصية: وهي ما كان موضوعُها جزئيّاً أو شَخصاً، وتسمى أيضاً بالقضيَّة المخصوصة لخصوص موضوعها ، كقولنا:موسى عليه السلام كليمُ الله، فموسى هنا هو الموضوع، وهو جزئي، لأنه شخص مخصوص، وقِسْ على ذلك قولنا: الجُنيدُ سيِّدُ الطائفتين.
2ــ والقضيَّة الكُلِّيَّة: وهي ما كان موضوعُها كُلِّيّاً، وتُقسَم إلى:(1/26)
1. الطبيعية: وهي ما كان الحُكمُ فيها على نفس حقيقة هذا الكُلِّيِّ بغضِّ النَّظَر عن أفراده ومصاديقه، كقولنا: الإنسانُ نوعٌ، والحيوانُ جنسٌ.
2. المحصورة: وهي ما كان الحُكمُ فيها على أفراد هذا الكُلِّيِّ مع تبيان كميَّة الأفراد، وتسمى بالقضيَّة المُسوَّرة، وتقسم إلى قسمين:
1) القضية الكُلِّيَّة المحصورة المُسوَّرة: أما كونُها محصورةً فلِحَصْر أفراد موضوعها، وأما كونُها مُسوَّرة فلاشتمالها على السُّور الذي هو اللفظُ الدالُّ على كميَّة أفراد الموضوع حاصِراً لها ومُحيطاً بها، كقولنا: كلُّ نبيٍّ معصومٌ، كلُّ مَن عليها فانٍ، كلُّ ماءٍ سائلٌ، كلُّ مُسكرٍ خَمرٌ.
2) القضية الجُزئية المحصورة المُسوَّرة: مثل: بعضُ الحيوان إنسانٌ، وبعضُ السائل ماءٌ، ربَّ أخٍ لك لم تلده أمُّك، أكثرُهم لا يعقلون، قليلٌ من عبادي الشَّكور.
3) القضية المُهمَلة: وهي ما كان موضوعُها أفرادُ الكُلِّيِّ من غير تبيان كون الحُكم على جميع الأفراد أو بعضها. وسُمِّيت مُهمَلةً لإهمال تبيان كميَّة أفراد الموضوع، مثل: الإنسانُ في خُسْرٍ، الزَّهْرُ أبيضُ اللَّون (1).
* أقسام القضية الحَمْلية باعتبار وجود الموضوع:
وتُقسَم القضية الحَمْلية باعتبار وجود الموضوع إلى:
__________
(1) انظر: «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان ص44، و«حاشية الملا عبد الله على التهذيب» ص92، و« المنطق» للمظفَّر ص134.
--------------------------------------------------------------------
1ــ القضيَّة الخارجيَّة: وهي القضية التي يكون موضوعُها في الخارج ــ أي: في الواقع ــ فِعلاً، كقولنا: كلُّ حافلات الحجيج وصلت، فالموضوع ــ وهو كلُّ الحافلات ــ قد وصلت فِعلاً.(1/27)
2ــ القضية الحقيقية: وهي ما كان موضوعُها موجوداً في الخارج ــ أي: في الواقع ــ فِعلاً أو تقديراً (1)، مثل: كلُّ ماء بلغ القُلَّتين لا يُنجِّسُه شيءٌ، وهذا يصدُقُ على الماء الموجود الآن أو الذي سيوجَدُ في المستقبل ويجري عليه الحُكمُ نفسُه، وقِسْ على ذلك:
كلُّ ابنِ أُنثى وإن طالَتْ سلامتُه ... يَوماً على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
3ــ القضية الذِّهنية: وهي ما كان موضوعُها موجوداً في الذِّهن فقط، ولا وجود له في الخارج ــ أي: في الواقع ــ لا فِعلاً ولا تقديراً في المستقبل، كقولنا: شريكُ الباري مُمتنعٌ، أي: فِعلاً الآن وتقديراً في المستقبل من حيث الإمكان العقلي، وإن كان يجوزُ فَرْضُه فَرْضاً عقليّاً مَحْضاً (2).
* أقسام القضية الشَّرْطية المُتَّصلة:
قال: (والمُتَّصلةُ: إما لُزوميَّةٌ، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإما اتِّفاقيَّةٌ، كقولنا: إن كان الإنسانُ ناطِقاً فالحمارُ ناهِقٌ).
أقول: تُقسَمُ القضية الشَّرْطية إلى متَّصلة ومُنفَصِلة كما سلف، وتُقسَمُ القضية الشَّرْطية المُتَّصلة ــ وقد سلف تعريفُها ــ إلى قسمين:
1ــ القضية الشَّرْطية اللُّزومية: وهي القضية التي حُكِمَ فيها بصِدقِ التالي على تقدير وقوع صِدقِ المُقدَّم لعلاقةٍ بينهما تُوجِبُ ذلك، وهي التي يكون بين طَرَفَيْها (المُقدَّم والتالي) اتصالٌ حقيقيٌّ، بأن يكون أحدُهما علَّةً للآخر أو معلولاً أو أن يكون بينهما تضايُفٌ.
أما العِلِّيَّة فكقولك: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، فإنَّ طلوعَ الشمس علَّةٌ لوجود النهار.
__________
(1) أي: سيوجد في المستقبل.
(2) انظر «شرح الشمسية» للكاتبي ص88، و«التذهيب» للخبيصي ص248.
--------------------------------------------------------------------(1/28)
وأما المعلوليَّة فكقولك: كلَّما كان النهارُ موجوداً فالشمسُ طالِعةٌ، فإنَّ وجودَ النهار معلولٌ لطلوع الشمس، وكقولك: إذا غلا الماءُ فإنه يتمدَّدُ، فتمدُّد الماء معلولٌ للغليان.
وأما التضايُفُ: فبأنْ يكون المُقدَّمُ والتالي بحيثُ يكون تعقُّلُ أحدِهما بالقياس إلى الآخر، كقولنا إن كانَ محمَّدٌ أباً لزيد فزيدٌ ابنه.
والخلاصةُ أن العقلَ في مِثلِ هذه القضية يمنعُ انفِكاكَ المُقدَّم عن التالي.
2ــ القضية الشَّرْطية الاتفاقية: وهي القضية التي حُكِمَ فيها بصِدقِ التالي على تقدير وقوع صِدقِ المُقدَّم لمَحْضِ اتفاقٍ لا لعلاقة مذكورة، فليس بين طَرَفَيْها اتصالٌ حقيقيٌّ، ولكن اتصالٌ اتفاقيٌّ، كقولنا: كلَّما أذَّنَ المُؤذِّنُ التحقَ محمَّدٌ بصلاة الجماعة، فمن المُلاحَظ أنه لا علاقة بين أذان المُؤذِّن وبين التحاق محمَّد بصلاة الجماعة حتى يُجوِّز العقل استلزامَ التالي للمُقدَّم، بل توافَقَ الطَّرَفان على سبيل الصِّدق بينهما هاهنا (1).
* أقسام القضية الشَّرْطية المُنفصِلة:
قال: (والمُنفَصِلةُ: إما حقيقيةٌ، كقولنا: العددُ إما زوجٌ أو فَرْدٌ، وإما مانِعةُ الجَمْعِ فقط، كقولنا: هذا الشيءُ إما شجرةٌ وإما حَجَرٌ، وإما مانِعةُ الخُلُوِّ فقط، كقولنا: زيدٌ إما أن يكون في البَحْر أو لا يغرَقُ).
أقول: تُقسَمُ القضية الشَّرْطية المُنفَصِلةُ ــ وقد سلف تعريفُها ــ إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) انظر «التذهيب» للخبيصي ص286، و«علم المنطق» للدكتور محمد رمضان ص62-64.
--------------------------------------------------------------------(1/29)
1ــ المُنفَصِلة الحقيقة: وهي ما حُكِمَ فيها بالتنافي بين جُزْءَيها في الصِّدق والكذب معاً. أي: لا ينعدِمُ طَرَفاها معاً ولا يُوجَدان معاً، فإما أن يكون فيها المُقدَّم موجوداً أو التالي موجوداً، وسُمِّيَت حقيقيةً لأن التنافي بين جُزْءَيها أشدُّ من التنافي بين جُزْءَين في القِسمَين الآخَرَين، لأن التنافي يوجَدُ بين جُزْءَيها في الصِّدق والكذب معاً، ليس هذا إلا حقيقةَ الانفِصال، كقولنا: العددُ إما زَوجٌ أو فَرْدٌ، فهنا إما المُقدَّم موجودٌ أو التالي موجودٌ، ولا يصح أن نقول: العددُ لا زَوجٌ ولا فَردٌ، كما لا يصحُّ أن نقول: العددُ زَوجٌ وفَرْدٌ.
2ــ المُنفَصِلةُ مانِعةُ الجَمْع: وهي ما حُكِمَ فيها بالتنافي بين جُزْءَيها في الصِّدق فقط، أي: لا يمكن أن يوجَدَ فيها المُقدَّم والتالي معاً، ويمكنُ أن يُعدَما معاً، وسُمِّيَت كذلك لاشتِمالِها على مَنعِ الجَمْع بين جُزْءَيها في الصِّدق، كقولنا: الإنسانُ إما عربيٌّ أو إفريقيٌّ، فإنه حُكمٌ بالتنافي بين العربي والإفريقي في الصِّدق فقط، لا في الكذب، لجواز أن يكون الإنسان ليس بعربي ولا إفريقي، بل يكون أوروبيّاً مثلاً .
3ــ المُنفَصِلةُ مانِعةُ الخُلُوِّ: وهي ما حُكِمَ فيها بالتنافي بين جُزْءَيها في الكذب فقط، أي: يُمكِنُ اجتماعُ طَرَفَيْها (المُقدَّم والتالي)، ولا يُمكِنُ ارتفاعُهما، كقولنا: ليس الإنسان إما يكون عاقلاً لا دين له أو ديناً لا عقل له، إذ يجوز أن يكون الشخص الواحد عاقلا وديّناً معاً، وقس على ذلك المثال الذي ذكره صاحب المتن.
قال: (وقد تكون المُنفَصِلاتُ ذاتُ أجزاء، كقولنا: العددُ إما زائدٌ أوناقصٌ أو مُساوٍ).
--------------------------------------------------------------------(1/30)
أقول: المُنفَصِلاتُ المذكورة يتركَّبُ كلُّ واحدٍ منها من جُزْءَين غالباً، وقد تتركَّبُ من أكثر من جُزْءَين، أما المُنفَصِلةُ الحقيقة فكقولنا: العددُ إما زائدٌ أو ناقصٌ أو مُساوٍ، فإنه حُكِمَ فيها بأن الجميع لا يجتمع على عدد واحد، ولا يخلو العددُ عن واحد منها، وهذا الكلامُ فيه نَظَرٌ محلُّه المُطوَّلات (1).
التناقض
بدأ المصنِّف بذِكْرِ طرق الاستدلال المباشِر: وهو الاستدلال القائم على أساس المُلازَمة بين قضيتين، فإذا كانت لدينا مثلاً قضيتان هما «الإلهُ جسمٌ» و«ليس الإلهُ جسماً»، فنقوم بالبَرْهنة والاستدلال على كذب القضية الأولى القائلة «الإله جسم» لنستنتج القضية الأخرى التي هي نقيضٌ للقضية الأولى، وهي «ليس الإلهُ جسماً».
فالاستدلال المباشر إذاً يحدُثُ حين نستنتجُ من قضية واحدة فقط قضيةً أخرى، أما حين نستنتجُها من قضيتين أو أكثر فنسمِّيه بالاستدلال غير المباشر، وسيأتي بحثُه.
قال: (التناقُضُ: هو اختلافُ القضيتين بالإيجاب والسَّلْب بحيثُ يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقةً والأُخرى كاذبةً، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وزيدٌ ليس بكاتب).
أقول: التناقُضُ لغةً: وَضْعُ الشيء ورَفْعُه، أي: إثباتُه ونفيُه.
واصطلاحاً: هو اختلافُ القضيتين بالإيجاب والسَّلْب (2) بحيثُ يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقةً والأخرى كاذبةً.
__________
(1) انظر «التذهيب» للخبيصي ص301.
(2) الإيجاب والسَّلْب: يُسمَّيان في اصطلاح المناطقة بـ«الكيف»، والسُّور من الكُّلِّيَّة والجُزئيَّة يُسمَّى بـ«الكمّ»، وخرج بهذا القَيْد الاختلافُ الواقع بالاتصال والانفصال، والاختلاف بالكُلِّيَّة والجزئية، والاختلاف بالحَصْر والإهمال، وغير ذلك .
--------------------------------------------------------------------(1/31)
وهذا التناقُضُ لا يكون بين المُفرَدات، لأن الإيجابَ والسَّلْبَ من أحكام النِّسبة، والمُفرَد لا نِسبةَ فيه، فلا تناقُضَ مثلاً بين: «زيد» و«لا زيد»، إلا على تقدير حُكمٍ معها، بأن تُقدِّرَ في «زيد»: موجود، فلا تكون مُفرَدةً بهذا المعنى، لأنه مع الحُكم يكون جملةً.
وخرج بقوله: «بحيثُ يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقةً والأخرى كاذبةً» الاختلافُ الذي لا يلزمُ عن صِدقِ إحداهما كذب الأخرى، ومنه:
1ــ إذا اختلفتا في الموضوع، مثل: «زيد ساكن»، و«محمد متحرِّك»، فليستا متناقضتين.
2ــ إذا اختلفتا في المحمول، مثل: «زيد قائم»، و«زيد جالس»، فليستا متناقضتين أيضاً.
3ــ إذا اختلفتا في الكمِّ، كما في الكُلِّيَّة والجُزئيَّة، مثل: «كلُّ إنسان حيوانٌ»، و«بعضُ الإنسان حيوانٌ»، فليستا متناقضتين أيضاً.
وخرج بقوله: «لذاته» الاختلافُ بالسَّلْب والإيجاب، بحيث يقتضي صدقُ إحداهما كذبَ الأخرى، لكن لا لذات ذلك الاختلاف، نحو: «زيد إنسان»، و«زيد ليس بناطق»، صحيحٌ أن الاختلاف هنا يؤدِّي إلى صِدقِ إحداهما وكذب الأخرى، لكن لا لذات ذلك الاختلاف، بل بواسطة قولنا: إن «زيد ليس بناطق» في قوة قولنا: «زيد ليس بإنسان»، أو العكس، فيكون ذلك بواسطة لا لذاته (1).
* شروط حصول التناقض:
قال: (ولا يتحقَّقُ ذلك في المخصوصتين إلا بعد اتفاقهما في الموضوع، والمحمول، والزمان، والمكان، والإضافة، والقوَّة، والفِعل، والجُزء، والكُلّ، والشَّرْط).
أقول: لحصول التناقُض لا بدَّ من الاتحاد في ثمانية أمور:
1ــ الموضوع: فلو اختَلَفا فيه لم يحصل التناقض، نحو: العِلم نافع، الجهل ليس بنافع.
2ــ المحمول: فلو اختَلَفا فيه لم يحصل التناقض، نحو: العِلم نافع، العِلم ليس بضار.
3ــ الزمان: فلو اختَلَفا فيه لم يحصل التناقض، نحو: زيد موجود اليوم، زيد ليس بموجود أمس.
__________
(1) انظر «حاشية الملا عبد الله» ص116.(1/32)
--------------------------------------------------------------------
4ــ المكان: فلو اختَلَفا فيه لم يحصل التناقض، نحو: محمَّد موجود في المدرسة، محمَّد ليس بموجود في السوق.
5ــ الإضافة: فلو قلتَ: زيدٌ أبٌ لعمر، زيدٌ ليس بأبٍ لمحمَّد، صحَّ القولُ ولم يقع تناقُضٌ، أو: الذئبُ قويٌّ (بالإضافة إلى القطِّ)، الذئبُ ليس بقويٍّ (بالإضافة إلى الأسد).
6ــ القوَّة والفِعل: فلا تناقُضَ بين: زيدٌ كاتبٌ بالقوَّة (1)، وزيد ليس بكاتب بالفعل(2).
7ــ الجُزء والكُلّ: فلو قلت: الزّنجيُّ أسود ــ تقصد بعضَه ــ ، والزّنجيُّ ليس بأسود ــ تقصد كلَّه ــ ، لم يتحقَّق التناقض.
8ــ الشَّرْط: فلو قلتَ: الإنسانُ مُعذَّبٌ بشَرْط المعصية، الإنسانُ ليس بمُعذَّب بشَرْط الطاعة، صحَّ قولُك ولم يقع تناقُضٌ(3).
نقائض القضايا
قال: (ونقيض الموجبة الكلية إنما هي السالبة الجزئية كقولنا كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحيوان، ونقيض السالبة الكلية إنما هي الموجبة الجزئية كقولنا لا شيء من الإنسان بحيوان وبعض الإنسان حيوان).
أقول: وتفصيل ذلك أن القضيتين:
1ــ إذا كانت إحداهما موجِبةً كُلِّيَّة ينبغي أن يكون نقيضُها سالِبةً جُزئيةً، كقولنا:
كل .................................. بعض
إنسان ............................. الإنسان
حيوان ........................ ليس بحيوان
2ــ إذا كانت إحداهما سالِبةً كُلِّيَّة ينبغي أن يكونَ نقيضُها موجِبةً جُزئيةً، كقولنا:
لا شيء ............................. بعض
من الإنسان....................... الإنسان
بحيوان ............................ حيوان
__________
(1) أي: بحسب الإمكان.
(2) أي: الآن.
(3) انظر «شرح الشمسية» للكاتبي ص119وما بعدها، و«علم المنطق» د.محمد رمضان ص69.
--------------------------------------------------------------------(1/33)
قال: (والمحصورتان لا يتحقَّقُ التناقُضُ بينهما إلا بعد اختلافهما في الكُّلِّيَّة والجُزئيَّة، لأن الكُلِّيَّتَين قد تَكذِبان، كقولنا: كلُّ إنسان كاتبٌ، ولا شيءَ من الإنسان بكاتب، والجُزئيَّتَين قد تَصدُقان، كقولنا: بعضُ الإنسان كاتبٌ، وبعضُ الإنسان ليس بكاتب).
أقول: القضيَّتان إذا كانتا محصورتَين يجبُ اختلافُهما في الكمِّ (الكُلِّيَّة والجُزئيَّة)، والكَيفِ (الإيجاب والسَّلْب)، بعد اتفاقهما في الوحدة المذكورة (الموضوع والمحمول والزمان والمكان ...)، وذلك لأن الكُلِّيَّتَين قد تَكذِبان، نحو:
كل ................................ لا شيء
إنسان ......................... من الإنسان
كاتب .............................. بكاتب
ولأن الجُزئيَّتَين قد تَصدُقان، كقولنا:
بعض ................................. بعض
الإنسان ............................. الإنسان
كاتب ........................... ليس بكاتب
وعليه، فنقيضُ الكُلِّيةِ الجُزئية، وبالعكس.
أما القضية المُهمَلةُ ــ أي: غير المُسوَّرة ــ فيحصلُ نقيضُها بكُلِّية تُخالِفُها، وليس بتبديل الكَيْف فحَسْب، وذلك لأن القضية المُهمَلة في قوَّة الجُزئية، فيكون نقيضُها هو كُلِّية تُخالِفُها في الكَيْف، كقولنا:
(مُهمَلة تعتبر في قوَّة الجُزئية) ........... لا شيء
الإنسانُ ............................. من الإنسان
حيوانٌ ................................... بحيوان
أما القضية الشَّخصية: فيحصلُ نقيضُها بتبديل الكَيْف فيها، كقولنا:
زيدٌ ........................ زيد
قائمٌ ... ................. ليس بقائم (1)
العكس المستوي
قال: (هو أن يصيرَ الموضوعُ محمولاً والمحمولُ موضوعاً مع بقاء السَّلْبِ والإيجابِ والتصديقِ والتكذيبِ بحاله).
__________
(1) انظر «شرح إيساغوجي» للكاتي ص29، و«حاشية الملا عبد الله» ص116.(1/34)
--------------------------------------------------------------------
أقول: العكسُ: لغةً: التبديلُ والقَلْبُ، والعكسُ من طرق الاستدلال المباشر، ويعرَّف بأنه تبديلُ طرفي القضيَّة مع بقاء الصِّدق (1) والكَيْف، بأن يصيرَ الموضوعُ محمولاً والمحمولُ موضوعاً مع بقاء الكَيْف (الإيجاب والسَّلب)، فإن كان الأصلُ موجِباً كان العكسُ موجِباً، وبالعكس، ومع بقاء الصِّدق أيضاً، فإن كان الأصلُ صادقاً بأيِّ وجهٍ كان العكسُ صادقاً أيضاً.
* أمثلة تطبيقية:
ــ المثال الأول:
(الكمّ) ... كلُّ ................... بعضُ
(الموضوع) ... ماء .................. السائل
(المحمول) ... سائلٌ ................... ماءٌ
لاحِظ في المثال كيفيَّة العكس:
أولاً: حصل اختلافٌ في الكمِّ، أي: في كُلِّيَّة القضية وجُزئيتها.
ثانياً: القضية الأولى تبدَّلَ فيها الموضوعُ إلى محمول في الثانية، والمحمولُ في الأولى إلى موضوع في الثانية .
ثالثاً: بقيت القضيَّتان صادقتين.
رابعاً: بقيت القضيَّتان موجبتين (مثبتتين)، أي: بقي الكَيْف كما هو.
ــ المثال الثاني:
( أداة الشرط) إذا ............................. إذا
(المُقدَّم) أشرقت الشمس ....... كان النهار موجوداً
(التالي) ... فالنهار موجود ............... فالشمس مشرقة
__________
(1) وإنما اعتُبِرَ بقاءُ الصِّدق لأن العكسَ لازِمُ للقضية، فلو فُرِضَ صِدقُها بدون صِدقِ العكسِ لَلَزِمَ صِدقُ الأصل من دون صِدقِ اللازم، وصدقُ الأصل من دون صدق اللازم مستحيل .
ولا يصحُّ أن يُعتَبَرَ بقاءُ الكذب، لأنه لا يلزمُ من كذب الأصل (الملزوم) كذبُ اللازم، فإنّ قولنا: كلُّ حيوان إنسانٌ، كاذبٌ مع صِدقِ عكسِه وهو قولنا: بعضُ الإنسان حيوانٌ، فعلى هذا فقول المصنِّف: «والتكذيب» لا يصحُّ هنا. انظر «شرح إيساغوجي» للكاتي ص30.
--------------------------------------------------------------------(1/35)
لاحِظ ما لاحَظْناه في المثال السابق، إذ لا فرقَ سوى أن المثال الأول القضيَّةُ فيه حَمْلية، والمثال الثاني القضيَّةُ فيه شَرْطيَّةٌ متَّصلةٌ، ولا يصحُّ العكس في المُنفَصِلة.
* نتائج العكس المستوي:
قال: (والكُلِّيَّةُ لا تَنعَكِسُ كُلِّيةً، إذ تصدُقُ «كلُّ إنسان حيوان» ولا يصدُقُ «كلُّ حيوان إنسانٌ»، بل تنعكسُ جُزئيَّة، لأنا إذا قُلنا: «كلُّ إنسان حيوانٌ» يصدُقُ قولُنا: «بعضُ الحيوان إنسانٌ»، فإنّا نجدُ الموضوعَ شيئاً موصوفاً بالإنسان والحيوان، فيكون بعضُ الحيوان إنساناً).
أقول: القضية الموجبة الكُلِّية تنعكسُ موجبة جزئية، ولا تنعكس كُلِّية لئلَّا تنتقض بمادةٍ يكون المحمول فيها أعمَّ من الموضوع، وعند الانعكاس يلزمُ صدقَ الأخصِّ على كلِّ أفراد الأعمِّ وهو مُحال، وقد ضرب المصنِّفُ لذلك مثالاً فقال:
كلُّ ........................... بعضُ
إنسان ..................... الحيوان
حيوانٌ ....................... إنسانٌ
ولا يصدُقُ لو قُلنا: كلُّ حيوان إنسان، وإلا يلزمُ أن يصدُقَ الإنسانُ الذي هو الأخصُّ على كلٍّ فردٍ من الحيوان الذي هو الأعمُّ، وهو لا يصحُّ، وأما انعكاسُها جُزئيَّةً فلأنا إذا قُلنا: كلُّ إنسان حيوانٌ، نجد الموضوعَ شيئاً موصوفاً بالإنسان والحيوان، وهو ذاتُ الإنسان، فيكون بعضُ الحيوان إنساناً، وقِسْ على ذلك: كلُّ طالب مُجتهدٌ، تنعكسُ: بعضُ المُجتهدين طلبة.
قال: (والموجِبةُ الجُزئية تنعكسُ جُزئية بهذه الحُجَّة أيضاً).
أقول: مثاله:
بعضُ .......................... بعضُ
التُّجَّار .................... المُستغلِّين
مُستغلُّون ....................... تُجَّار
قال: (والسالِبةُ الكُلِّيَّةُ تنعكسُ كُلِّيَّةً، وذلك بيِّنٌ بنفسه، فإنه إذا صدقَ «لا شيء من الإنسان بحَجَر» يصدُقُ «لا شيء من الحَجَر بإنسان»).
أقول: السالبة الكُلِّية تنعكس سالبةً كُلِّية، مثال ذلك :(1/36)
--------------------------------------------------------------------
لا شيء ........................ لا شيء
من الإنسان ................. من الشجر
بشجر .......................... بإنسان
لأنه إذا صدقَ «لا شيء من الحَجَر بإنسان» يلزم أن يصدُقَ «لا شيء من الإنسان بحَجَر»، وإلا صدقَ نقيضُه وهو «بعضُ الإنسانِ حَجَرٌ»، وتنعكسُ إلى قولنا: «بعضُ الحَجَرِ إنسانٌ»، وقد كان الأصل: «لا شيء من الحَجَر بإنسان»، وهذا خِلافُ الأصل، وهو لا يصحُّ.
قال: (والسالِبةُ الجُزئيَّة لا عكسَ لها لُزوماً، لأنه يصدُقُ «بعضُ الحيوان ليس بإنسان» ولا يصدُقُ عكسُه).
أقول: هناك من القضايا التي لا عكسَ لها، وهي:
1ــ السالِبة الجُزئية التي ذكرها المُصنِّف هنا، وتسمى أيضاً القضية التي اجتَمَعَت فيها الخِسَّتان (السَّلْب والجُزئية)، لأنه لا يصحُّ سَلْبُ الأعمِّ عن بعض الأخصِّ، لأن كلَّ أخصّ يستلزمُ الأعمَّ، فإنه يصدُقُ قولُنا: بعضُ الحيوان ليس بإنسان كالفَرَس وغيره، ولا يصدُقُ عكسُه، وهو «بعضُ الإنسان ليس بحيوان» لصدق نقيضه وهو «كلُّ إنسانٍ حيوانٌ» بالضرورة، وإلا يوجد الكلُّ من دون الجُزء، وهو مُحال.
2ــ المُهمَلة السَّلْبية: والمُهمَلة ــ كما سلف ــ بقوَّة الجُزئية فتأخذ حُكمَها، فيصيرُ حُكمُها حُكم اجتماع الخِسَّتين، وهما السَّلْب والجُزئية، وهي لا تنعكسُ كما سلف، كقولنا: «الحيوان ليس بإنسان» فإنه صادقٌ، ولا يصدُقُ عكسُه وهو «الإنسان ليس بحيوان»، لعدم جواز نفي الأعمِّ عن بعض أفراد الأخصِّ كما سلف بيانُه (1).
القياس:
قال: (القياسُ: هو قولٌ مؤلَّفٌ من أقوال متى سُلِّمَت لَزِمَ عنها لذاتِها قولٌ آخرُ) .
__________
(1) انظر «علم المنطق» للدكتور محمد رمضان ص72 ــ 75.
--------------------------------------------------------------------(1/37)
أقول: القياسُ من طرق الاستدلال غير المباشر، ويلحقُ به الاستقراء والتمثيل، والعُمدة في استحصال المطالب التصديقيَّة عند المناطقة القُدامى هو القياس دون الاستقراء والتمثيل، فهو المَقصِدُ الأعلى من الاصطلاحات المنطقيَّة، وعُرِّف بأنه: قولٌ مؤلَّفٌ من أقوال متى سُلِّمَت لَزِمَ عنها لذاتِها قولٌ آخرُ، كقولنا: «العالَمُ متغيِّر، وكلُّ متغيِّرٍ حادثٌ» هاتان مقدِّمتان مركَّبتان من قولين إذا سُلِّمَتا لَزِمَ عنهما لذاتِهما «العالَمُ حادثٌ».
والمراد من «القول» أعمُّ من كونه معقولاً أو ملفوظاً، والمراد من «الأقوال» ما فوق الواحد، فالقولُ الواحد لا يُسمَّى قياساً، وإن لَزِمَ عنه لذاته قولٌ آخرُ.
وقولُه: «متى سُلِّمَت» يُشيرُ إلى أن تلك الأقوال لا يلزمُ أن تكون مُسلَّمةً في نفسها، بل يلزمُ أن تكون بحيث لو سُلِّمَت لَزِمَ عنها لذاتِها قولٌ آخرُ، ليدخُلَ في التعريفِ القياسُ الذي مُقدِّماتُه صادقةٌ، والذي مُقدِّماته كاذبةٌ، كقولنا: «كلُّ إنسانٍ جمادٌ، وكلُّ جمادٍ حمارٌ» فإن هذين القولين وإن كَذَبا في نفسِهما، إلا أنهما بحيثُ لو سُلِّما لَزِمَ عنهما «كلُّ إنسانٍ حمارٌ».
وقوله: «لَزِمَ» احترازٌ عن الاستقراء والتمثيل، فإنهما وإن سُلِّما ولكن لا يلزمُ عنهما شيءٌ آخرُ لإمكان التخلُّف في مدلولَيْهما(1).
ويُمكِنُ أن نُيسِّرَ مفهومَ القياس ونُسهِّلَه على المبتدئ بأن نقول: هو الاستدلال من حال الكُلِّيِّ إلى حال الجُزئيِّ، ومثاله:
كلُّ نبيٍّ معصومٌ ....................... قضية كلية عامة
__________
(1) يَعتبرُ ديكارت أنّ القياس إنّما هو عَرْضٌ فقط للحقائقَ المُندَرِجَةَ في المُقدِّمة الكبرى، وهو غير صحيح، لأنّ القياس ليس عرض للحقائق فقط، بل هو ربط بينها أيضاً للوصول إلى حقائق جديدة غير موجودة في كل مقدمة على حدا، وفي المقابل يعتبر لابينتز القياس أعظم ما ابتكره العقل البشري.(1/38)
--------------------------------------------------------------------
ومحمَّدٌ ^ نبيٌّ ..................... قضية جزئية خاصة
إذاً محمَّدٌ ^ معصومٌ.......................... الحُكم
وقِسْ على ذلك: كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ، والخَمرُ مُسكِرٌ، إذاً الخمرُ حرامٌ.
ولا بدَّ قبل الشُّروع في مباحثِ القياس وأقسامِه أن نوضِّحَ الاصطلاحات العامَّة في القياس ليَسهُلَ على الطالب فَهمُ هذه المادة، وهي:
ــ صورةُ القياس: هي تركيبُ القياس وشَكْلُه.
ــ مادةُ القياس: هي المقدِّمة، وهي نوعان: كبرى وصغرى، مثل:
زيد إنسان .................. مقدِّمة صغرى
وكلُّ إنسانٍ يموتُ ........... مقدِّمة كبرى
إذاً زيدٌ يموت .................... النتيجة
ــ النتيجة: وهي نفس المطلوب، ولكن بعد تحصيله واستنتاجه من القياس.
ــ الحدود: وهي الأجزاءُ الذاتيَّةُ للمقدِّمة، وهي: الموضوع، والمحمول، أو: المُقدَّم والتالي.
* أقسام القياس:
يقسم القياسُ إلى قسمين: اقتراني واستثنائي.
الأول: القياس الاقتراني:
قال: (وهو إما اقترانيٌّ، مَثَلاً: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ، ينتُجُ كلُّ جسمٍ مُحدَثٌ).
أقول: القياسُ الاقتراني: هو ما كانت عينُ النتيجة أو نقيضُها مذكورةًً فيه بالفِعلِ، وسُمِّي اقترانيّاً لكونِ الحدود فيه مقترنة غير مُستثناة، مثاله:
كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ ............ المقدمة الصغرى
وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ .......... المقدمة الكبرى
إذاً كلُّ جسمٍ مُحدَثٌ .................. النتيجة
لاحِظ أن النتيجة ليست هي عينَ المقدِّمة الأولى أو الثانية أو نقيضَهما، وإنما هي مُركَّبةٌ من مجموع المُقدِّمتين.
تنبيه: كلُّ قياسٍ اقترانيٍّ تكون إحدى مُقدِّمتي القياس تحقيقاً للمَناط ، والأخرى تخريجاً له.
وتخريج المَناط: هو أن يبحَثَ المُجتهدُ عن علَّة الحُكم، حتى يستخرجَها بإحدى طرقها المعروفة، كاستنباط علَّة السُّكْر في تحريم الخمر.(1/39)
--------------------------------------------------------------------
وتحقيقُ المَناط: هو تلمُّسُ العلَّة فيما عدا الأصل من الجُزئيَّات الكثيرة الأخرى، كتلمُّس السُّكْرِ في النَّبيذ والبيرة والمُسكِرات الأخرى، وكتشخُّص صفة الاجتهاد في الأفراد بعد معرفة كونها مَناطاً لصحَّة القضاء(1).
الثاني: القياس الاستثنائي:
قال: (وإما استثنائيٌّ، كقولنا: إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، لكنّ الشمس طالعةٌ، فالنهارُ موجودٌ، لكنّ النهار ليس بموجودٍ فالشمسُ ليست بطالِعة).
أقول: القياس الاستثنائي: هو القياسُ الذي تتضمَّنُ إحدى مُقدِّمَتَيه عينَ النتيجة أو نقيضَها. والسببُ في تسميته بالقياس الاستثنائيِّ هو وجودُ أداة الاستثناء (لكن) في صورة القياس، مثاله:
إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ...... المقدمة الأولى
لكن الشمس طالعة .......................... المقدمة الثانية
فالنهار موجود ...................................... النتيجة
لاحِظْ أن النتيجةَ مذكورةٌ بعينها في المُقدِّمة الأولى.
قال: (والمُكرَّرُ بين مُقدِّمَتَي القِياسِ فصاعداً يُسمَّى حدّاً أوسَطَ ، وموضوعُ المطلوب يُسمَّى حدّاً أكبَرُ، والمُقدِّمةُ التي فيها الأصغَرُ تُسمَّى الصُّغرى، والتي فيها الأكبَرُ تُسمَّى الكُبرى).
أقول: وتشتمل المُقدِّمتان على حدود ثلاثة:
الحدُّ الأوسطُ: هو الحدُّ المُشتَرَكُ أو المُكرَّرُ في المقدِّمتَين فصاعداً، وسُمِّي أوسَطَ لتوسُّطه بين طَرَفَي المطلوب سواء أكان محمولاً أم موضوعاً، أم مُقدَّماً أم تالياً.
الحدُّ الأصغرُ: هو الذي يكون موضوعاً في النتيجة، وتُسمَّى المقدِّمة المُشتملةُ عليه «الصُّغرى».
الحدُّ الأكبرُ: هو الذي يكون محمولاً في النتيجة، وتُسمَّى المقدِّمة المشتملة عليه «الكبرى»، مثاله:
الله موجود ..................... المقدمة الصغرى/الحد الأصغر(الله).
__________(1/40)
(1) انظر «ضوابط المصلحة» للبوطي ص108.
--------------------------------------------------------------------
وكلُّ موجود يصحُّ أن يُرى .... المقدمة الكبرى/الحد الأكبر(يصح أن يرى)
الحد الأوسط (موجود)
الله يصحُّ أن يُرى .............. النتيجة.
* أشكال القياس:
قال: (وهيئةُ التأليف من الصُّغرى والكبرى يسمى شَكْلاً، والأشكالُ أربعةٌ: لأن الحدَّ الأوسَطَ إن كان محمولاً في الصُّغرى وموضوعاً في الكبرى فهو الشَّكْلُ الأول، وإن كان بالعكس فهو الشَّكْلُ الرابع، وإن كان موضوعاً فيهما فهو الثالث، وإن كان محمولاً فيهما فهو الثاني، فهذه الأشكالُ الأربعةُ مذكورةٌ في المنطق).
أقول: الشَّكلُ في القياس: هو هيئةٌ حاصلةٌ من اقتران الصُّغرى بالكبرى من غير نَظَرٍ إلى السُّور، وإلا صارت ضَرْباً،والشَّكْلُ في القياس الاقتِراني باعتبار كيفيَّة وَضْعِ الحدِّ الأوسَطِ في المُقدِّمات، وعليه فأشكالُ القياس أربعة:
الشَّكْل الأول: أن يكون الحدُّ الأوسَطُ محمولاً في الصُّغرى موضوعاً في الكبرى، مثاله:
كلُّ إنسانٍ حيوانٌ ......... مقدمة صغرى، وفيها الحد الأوسط محمول
وكلُّ حيوانٍ جسمٌ ........ مقدمة كبرى، وفيها الحد الأوسط موضوع
كلُّ إنسانٍ جسمٌ .......... النتيجة
الشَّكْل الثاني: أن يكون الحدُّ الأوسَطُ محمولاً في الصُّغرى والكبرى، مثاله:
كلُّ إنسانٍ حيوانٌ .............. الحد الأوسط «حيوان» وهو المحمول
ولا شيءَ من النبات بحيوان ....... الحد الأوسط «حيوان» وهو المحمول
لاشيء من الإنسان بنبات ....... النتيجة
الشَّكْل الثالث: أن يكون الحدُّ الأوسَطُ موضوعاً في الصُّغرى والكبرى، مثاله:
كلُّ نبيٍّ بَشَرٌ ..................... الحد الأوسط «نبي» وهو الموضوع
وكلُّ نبيٍّ معصومٌ ................ الحد الأوسط «نبي» وهو الموضوع
بعضُ البَشَر معصومٌ .............. النتيجة(1/41)
الشكل الرابع: أن يكون الحدُّ الأوسَطُ فيه موضوعاً في الصُّغرى محمولاً في الكبرى، مثاله:
كلُّ كريمٍ محبوبٌ .............. الحد الأوسط «كريم» وهو الموضوع
--------------------------------------------------------------------
وكلُّ مؤمنٍ كريمٌ................ الحد الأوسط «كريم» وهو المحمول
بعضُ المحبوب مؤمنٌ ......... النتيجة
* شروط إنتاج الأشكال:
قال: (والشَّكْلُ الرابعُ منها بعيدٌ عن الطَّبْعِ جداً، ومَن له عقلٌ سليمٌ وطَبْعٌ مُستقيمٌ لا يحتاجُ إلى ردِّ الثاني إلى الأول، وإنما يَنتُجُ الثاني عند اختِلافِ مُقدِّمَتَيه بالإيجابِ والسَّلْب).
أقول: سنذكرُ هنا شروطَ إنتاج الأشكال الثاني والثالث والرابع، ونؤخِّرُ الأولَ لزيادة بَسْطٍ فيه، لأنه هو الذي جُعِلَ مِعيارَ العلوم، فنقول:
الشكل الثاني له شرطان:
1ــ اختِلافُ المُقدِّمتين في الكَيْف ــ أي: في السَّلْب والإيجاب ــ ، فإذا كانت إحداهما موجبةً كانت الأخرى سالبةً، مثاله:
كلُّ إنسانٍ حيوانٌ .................. قضية موجبة
ولا شيء من الحَجَر بإنسان ........ قضية سالبة
لا شيء من الإنسان بحجر .............. النتيجة
2ــ كُلِّيَّة المُقدِّمة الكبرى، سواء أكانت موجبة أم سالبة، مثاله:
كلُّ مُجتَرٍّ ذو ظِلْف .............. مقدمة صغرى، وكُلِّيَّتُها ليس شرطاً
ولا شيء من الطائر بذي ظلف ..... مقدمة كبرى تحقَّق الشرط فيها وهو كُلِّيَّتُها
لاشيء من المُجتَرِّ بطائر ......... النتيجة
والشكل الثالث له شرطان:
1ــ أن تكون المُقدِّمة الصُّغرى موجبةً .
2ــ كُلِّيَّة إحدى المُقدِّمتين أي: أن تكون المُقدِّمة الصُّغرى أو الكبرى كُلِّيَّة، مثاله:
كلُّ حمام طائرٌ .......... مقدمة صغرى وهي موجبة وكُلِّية فتحقَّق فيها الشرطان
وبعضُ الحمام أبيضُ.... مقدمة كبرى، وقد تحقَّقت الكُلِّية في الأولى فيكفي
بعضُ الأبيضِ حمامٌ .... النتيجة
والشكل الرابع له شرطان:(1/42)
1ــ أن تكون المُقدِّمة الصُّغرى كُلِّية إذا كانت المُقدِّمة الكبرى موجبةً.
2ــ أن تكون المُقدِّمة الكبرى كُلِّية إذا كانت المُقدِّمة الصُّغرى سالبةً.
* الشكل الأول وضروبه المنتجة:
--------------------------------------------------------------------
قال: (والشَّكْلُ الأول هو الذي جُعِلَ مِعياراً للعلوم، فنُورِدُه هاهنا ليُجعَلَ دُستوراً وميزاناً يَنتُجُ منه المطالب كلّها، وضُروبه المُنتِجةُ أربعةٌ: الضَّرْبُ الأول: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ، فكلُّ جسمٍ مُحدَثٌ. والثاني: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، ولا شيء من المُؤلَّفِ بقديم، فلا شيء من الجسم بقديم. الثالث: بعضُ الجسم مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ حادثٌ، فبعضُ الجسم حادثٌ. والرابع: بعضُ الجسمِ مُؤلَّفٌ، ولا شيء من المُؤلَّف بقديم، فبعضُ الجسم ليس بقديم).
أقول: قبل الشُّروع في تبيان الشَّكل الأول وضُروبه المُنتِجة لا بدَّ من تبيان القواعد العامَّة التي يجب توافُرُها في القياس الاقتِراني، وهي:
1ــ تكرار الحدِّ الأوسط.
2ــ إيجاب إحدى المُقدِّمتين، أي: أن تكون الصغرى أو الكبرى موجبةً.
3ــ كُلِّية إحدى المُقدِّمتين، فلا إنتاج من مقدِّمتين جُزءيتين.
4ــ النتيجة تتبع أخسَّ المُقدِّمتين، فإذا كانت إحدى المقدِّمتين سالبةً كانت النتيجة سالبةً.
5ــ لا إنتاج من سالبة صغرى وجُزئية كبرى.
ولمَّا كان الشَّكلُ الأول من الأشكال الأربعة أصلاً، والباقيةَ مرتدةً وراجعةً إليه، جعله العلماءُ مِعياراً للعلوم، وله شرطان:
1ــ أن تكون المُقدِّمة الصُّغرى موجبةً، سواء أكانت كُلِّية أم جُزئية.
2ــ أن تكون القضية الكبرى كُلِّية، سواء أكانت موجبة أم سالبة.(1/43)
قلنا: إن الشَّكل الأول ما كان الحدُّ الأوسطُ فيه محمولاً في الصُّغرى موضوعاً في الكبرى، وله أربعةُ ضُروب مُنتِجة، أي: غير عقيمة، لأن القِسمةَ العقلية تقتضي أن تكون ستة عشر، فسقط منها اثنا عشر كما هو مبيَّن في المُطوَّلات، وبقي أربعةٌ مُنتِجةٌ، وهي:
الضَّرْب الأول: أن يكون من موجبتين كُلِّيتين، والنتيجة موجبة كُلِّية، مثاله:
كلُّ جسم مُؤلَّفٌ....................... موجبة كلية
وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ ................... موجبة كلية
--------------------------------------------------------------------
كلُّ جسمٍ مُحدَثٌ ............. النتيجة موجبة كلية
وقِسْ على ذلك: كلُّ تمرٍ حُلوٌ، وكلُّ حُلوٍ لذيذٌ، كلُّ تمرٍ لذيذٌ.
الضَّرْب الثاني: أن تكون الصُّغرى موجبةً كُلِّية، والكبرى سالبةً، والنتيجةُ سالبة كلية، مثاله:
كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ ................. موجبة كلية صغرى
ولا شيء من المُؤلَّف بقديم ............... سالبة كلية
لا شيء من الجسم بقديم .......... النتيجة سالبة كلية
وقِسْ على ذلك: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، ولا شيء من الحيوان بحَجَر، لا شيء من الإنسان بحَجَر.
الضَّرْب الثالث: أن يكون من موجبتين: الصُّغرى موجبة جُزئية، والكبرى موجبة كُلِّية، والنتيجة موجبة جزئية، مثاله:
بعضُ الجِسمِ مُؤلَّفٌ ........... موجبة جزئية صغرى
وكلُّ مُؤلَّفٍ حادثٌ ................. موجبة كلية كبرى
فبعضُ الجسمِ حادثٌ .......... النتيجة موجبة جزئية
وقِسْ على ذلك: بعضُ السائلين فُقراءُ، وكلُّ فقيرٍ يستحقُّ الصَّدَقة، بعضُ السائلين يستحقُّ الصَّدَقة.
الضَّرْب الرابع: أن يكون من موجبة جزئية صغرى، وسالبة كُلِّية كبرى، والنتيجة سالبة جزئية، مثاله:
بعضُ الجسمِ مُؤلَّفٌ ............ موجبة جزئية صغرى
ولا شيء من المُؤلَّف بقديم ......... سالبة كلية كبرى
بعضُ الجسم ليس بقديم ......... النتيجة سالبة جزئية(1/44)
وقِسْ على ذلك: بعضُ الصَّلوات مستحبَّةٌ، ولا شيء من الصلوات المُستحبَّة بواجبة، بعضُ الصلوات ليست بواجبة.
* ما يتركَّب منه القياس الاقتِراني:
--------------------------------------------------------------------
قال: (والقياسُ الاقتِرانيُّ: إما من الحَمْليتين كما مرَّ، أو من المُتصلتين، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإن كان النهارُ موجوداً فالأرضُ مضيئةٌ، ينتُجُ: إن كانت الشمسُ طالعةً فالأرضُ مضيئةً، وإما من المُنفَصِلَتَين، كقولنا: كلُّ عدد إما فَردٌ أو زَوجٌ، وكلُّ زَوج فهو زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَردِ، ينتُجُ: كلّ عدد إما فَردٌ أو زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَردِ، وإما من الحملية والمُتصلة، كقولنا: كلَّما كان هذا إنساناً فهو حيوان، وكلُّ حيوانٍ فهو جسمٌ، ينتُجُ: كلَّما كان هذا إنساناً فهو جسمٌ، وإما من حَمْلية ومُنفَصِلة، كقولنا: كلّ عددٍ إما زَوجٌ أو فَرْدٌ، وكلُّ زَوجٍ فهو مُنقَسِمٌ بمُتساوِيَين، ينتُجُ: كلّ عدد فهو إما فَردٌ أو مُنقَسِمٌ بمُتساوِيَين، أو من مُتصلة ومُنفصلة، كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوانٌ، وكلُّ حيوان فهو إما أبيضُ أو أسودُ، ينتُجُ: إن كان هذا إنساناً فهو إما أبيضُ أو أسودُ).
أقول: توضيح ذلك أن القياس الاقتراني:
1ــ إما أن يتركَّبَ من حَمْليَّتين، ومثاله:
كلُّ جسم مُؤلَّفٌ .................. قضية حَملية
وكلُّ مؤلَّف مُحدَثٌ ............... قضية حَملية
كلُّ جسم مُحدَثٌ......................... نتيجة
2ــ وإما أن يتركب من شرطيتين متصلتين لزوميتين ، ومثاله:
إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ........... شرطية متصلة
وإن كان النهار موجوداً فالأرض مضيئة .......... شرطية متصلة
إن كانت الشمسُ طالعةً فالأرضُ مضيئة ................ النتيجة
3ــ وإما أن يتركب من شرطيتين منفصلتين، ومثاله:(1/45)
كلُّ عددٍ إما زَوجٌ أو فَرْدٌ ........................ شرطية منفصلة
وكلُّ زَوجٍ إما زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَرْدِ .........شرطية منفصلة
فالعدد إما فَردٌ أو زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَرد ............. النتيجة
--------------------------------------------------------------------
4ــ وإما أن يتركب من مقدمة حملية ومقدمة متصلة، سواء أكانت الحملية صغرى والمتصلة كبرى أو بالعكس، ومثاله:
كلَّما كان هذا الشيءُ إنساناً فهو حيوان ......... شرطية متصلة
وكلُّ حيوان جسمٌ ................................... حملية
كلَّما كان هذا الشيءُ إنساناً فهو جسم ................. النتيجة
5ــ وإما أن يتركب من مقدمة حملية ومقدمة منفصلة، سواء أكانت الحملية صغرى والمنفصلة كبرى أو بالعكس، ومثاله:
كلُّ عدد إما فَرْدٌ أو زَوجٌ................ شرطية منفصلة
وكلُّ زَوجٍ مُنقَسِمٌ إلى مُتساوِيَين..................حملية
كلُّ عدد إما فَرْدٌ أو مُنقَسِمٌ إلى متساويين ......... النتيجة
6ــ وإما أن يتركب من مقدمة متصلة وأخرى منفصلة، سواء أكانت المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى أو بالعكس، ومثاله:
كلَّما كان هذا الشيء إنساناً فهو حيوان .............. شرطية متصلة
وكلُّ حيوان فهو إما أبيض أو أسود ............... شرطية منفصلة
كلَّما كان هذا الشيءُ إنساناً فهو إما أبيض أو أسود.......... النتيجة
* ما يتركب منه القياس الاستثنائي:(1/46)
قال: (وأما القياسُ الاستثنائيُّ فالشَّرْطية الموضوعة فيه: إن كانت متصلةً موجبةً لزوميةً فاستثناءُ عَينِ المُقدَّم ينتجُ عَينُ التالي، كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوانٌ، لكنه إنسانٌ، فهو حيوانٌ، واستثناءُ نقيضِ التالي ينتجُ نقيضَ المُقدَّم، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، لكن النهار ليس بموجود، فالشمس ليست بطالعة. وإن كانت منفصلةً حقيقةً فاستثناءُ عَينِ أحد الجُزءين ينتجُ نقيضَ الآخر، واستثناءُ نقيضِ أحدِهما ينتجُ عَينَ الآخر).
أقول: القياسُ الاستثنائيُّ: هو ــ كما مرَّ بك ــ أنه القياسُ الذي تتضمَّنُ إحدى مُقدِّمَتَيه عَينَ النتيجة أو نقيضَها.
--------------------------------------------------------------------
وهو دائماً مُركَّبٌ من مُقدِّمَتَين إحداهما شَرْطية والأخرى وَضْعُ أحدِ جُزءيها ــ أي: إثباته ــ أو رفعُه ليلزم وضعُ الجُزء في الأخرى أو رفعُه سواء كانت متصلةً أو منفصلةً.
القياسُ الاستثنائي المتصل: ويحتوي على مُقدِّمتين: الأولى: قضية شَرْطية، والثانية قضية حَمْلية، وتكون الشَّرْطية فيه متصلةً لُزوميةً (1).
* كيف تؤخذ النتيجة من القياس الاستثنائي الاتصالي؟
تؤخذ بطريقتين:
الطريقة الأولى: استثناءُ عَينِ المُقدَّم لينتُجَ عَينُ التالي، وذلك لأنه إذا تحقَّقَ الملزومُ يتحقَّقُ اللازمُ قطعاً، ومثاله:
إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ .... شرطية متصلة، والمقدَّم «الشمس طالعة»
لكن الشمس طالعةٌ .......................... حملية (استثناء عين المقدَّم)
فالنهارُ موجودٌ ..................................... النتيجة، وهي عين التالي
الطريقة الثانية: استثناءُ نقيضِ التالي لينتُجَ نقيضُ المُقدَّم، لأنه إذا انتفى اللازمُ انتفى الملزومُ قطعاً، ومثاله:
إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ .... شرطية متصلة، والمقدَّم «الشمس طالعة»(1/47)
لكن النهار ليس بموجود ..................... حملية (استثناء نقيض التالي)
فالشمسُ ليست بطالعة ......................... النتيجة وهي نقيض المُقدَّم
القياس الاستثنائي المُنفَصِل: ويحتوي على مُقدِّمتين: الأولى قضيةٌ شَرْطية، والثانية قضيةٌ حَمْلية، وتكونُ القضية الشَّرطية فيه مُنفصلةً عِنادية(2).
* كيف تؤخذ النتيجة من القياس الاستثنائي الانفصالي؟
تؤخذ بثلاث طرق:
__________
(1) وهي القضية التي يكون الاتصالُ بين طَرَفَيها (المُقدَّم والتالي) حقيقياً، أي: لا بدَّ من وجود التالي عند وجود المُقدَّم.
(2) وهي القضية التي يكون بين طَرَفَيها (المُقدَّم والتالي) انفصالاً حقيقياً، بحيث لا يمكن أن يجتمعا ذاتاً.
--------------------------------------------------------------------
الطريقة الأولى: إذا كانت القضية المُنفصلة حقيقيةً، فإنَّ استثناءَ عَينِ أحدِ الطَّرَفين يُنتِجُ نقيضَ الآخر، واستثناءُ نقيضِ أحدِهما يُنتِجُ عَينَ الآخر، ومثاله:
العددُ إما زَوجٌ أو فَردٌ .................... شرطية منفصلة عنادية
لكن هذا العدد زَوجٌ .................................... حملية
إذاً ليس بفَرْد ........... النتيجة (نقيض الآخر لامتناع الجمع بينهما)
واستثناء التالي يُنتِجُ المُقدَّم، مثل: لكن ليس هذا العددُ فَرْداً، ينتج: فهو ليس بزَوْج .
واستثناء نقيضِ المُقدَّم يُنتِجُ التالي، مثل: لكن هذا العدد ليس بزَوْج، ينتج: فهو فَرْد.
واستثناء نقيضِ التالي يُنتِجُ المُقدَّم، مثل: لكن هذا العدد ليس بفَرْد، ينتج: فهو زَوْج.
الطريقة الثانية: إذا كانت القضية الشَّرْطية المُنفصلة «مانعةَ جَمعٍ»، فالضُّروب المُنتجة فيها نوعان:
1ــ استثناءُ المُقدَّم يُنتِجُ نقيضَ التالي، مثاله:
هذا القماش إما أسود وإما أبيض ..... شرطية منفصلة حقيقية
لكنه أسود.................................... استثناء المُقدَّم(1/48)
فهو ليس بأبيض........................ النتيجة (نقيض التالي)
2ــ استثناءُ التالي يُنتِجُ نقيضَ المُقدَّم، مثاله:
هذا القماش إما أسود وإما أبيض ........ شرطية منفصلة حقيقية
لكنه أبيض ......................................... استثناء التالي
فهو ليس بأسود .......................... النتيجة (نقيض المقدم)
الطريقة الثالثة: إذا كانت القضية الشَّرْطية «مانعةَ خُلُوٍّ»، فالاستثناءُ المُنتِجُ فيها نوعان:
1ــ استثناءُ نقيضِ المُقدَّم يُنتِجُ عَينَ التالي، مثاله:
زيد إما في البحر وإما أن لا يغرق .... شرطية منفصلة «مانعة خُلُوّ»
لكنه ليس في البحر ........................ استثناء نقيض المُقدَّم
فهو لا يغرق ................................ النتيجة ( عين التالي)
--------------------------------------------------------------------
2ــ استثناءُ نقيضِ التالي يُنتِجُ عَينَ المُقدَّم، مثاله:
زيد إما في البحر وإما أن لا يغرق .... شرطية منفصلة (مانعة خلو)
لكنه يغرق ................................... استثناء نقيض التالي
فهو في البحر .............................. النتيجة (عين المقدم)
* لواحق القياس:
بقي لنا أن نذكر النوعين الآخَرَين من طرق الاستدلال غير المُباشِر، ويُسمَّيان لواحِقَ القياس، وهما الاستقراء والتمثيل.
* الاستقراء:
الاستقراء: هو الحُكم على كُلِّيٍّ لوجوده في أكثر جُزئياته.
والاستقراءُ هو الأساس لجميع أحكامنا الكُلِّية وقواعدِنا العامة، لأنَّ تحصيلَ القاعدةِ العامة والحكمِ الكُلِّي لا يكونُ إلا بعد فَحْص الجزئيات واستقرائها.
وهو على قسمين: تامٌّ وناقصٌ:
فالاستقراءُ التامُّ: هو الذي يستوعِبُ جميعَ جُزئيات الكُلِّيِّ، ويفيدُ اليقين، مثاله: كلُّ شَكلٍ إما كُرَويٌّ وإما مُضلَّع، وكلُّ كُرَويٍّ مُتناهٍ، وكلُّ مُضلَّعٍ مُتناهٍ، فينتُجُ: كلُّ شَكلٍ مُتناهٍ.(1/49)
والاستقراء الناقص: هو الذي لا يستوعِبُ جميعَ جُزئيات الكُلِّيِّ، ويُفيدُ الظنَّ، لجواز أن تكون بعضُ الجُزئيات التي لم تُستوعَب تُخالِفُ في حُكمها الجُزئيات المُتَتَبَّعة، مثاله: النباتُ كثيفٌ، والحيوانُ كثيفٌ، والمَعدنُ كثيفٌ، فينتُجُ: كلُّ جسم كثيفٌ.
وهو غيرُ صحيح على الإطلاق، لأنه توجدُ أجسامٌ لطيفةٌ وليست كثيفةً، كالملائكة والجن.
تنبيه: قد يُشكِلُ البعضُ بأن معظم الاستقراءات لا تَستوعِبُ ، فتكون أغلَبُ أحكامنا ظنِّيَّةً، لأنها من باب الاستقراء الناقص عندئذٍ.
--------------------------------------------------------------------
والجواب: أن الاستقراء الذي يفيد الظنَّ هو الاستقراء المُبنيُّ على المُشاهَدَة فحسب، وليست عِلَّتُه عقليَّةً، أما الاستقراءُ الذي يُبنى على التعليل بأن تكون علَّتُه عقليَّةً، فهذا لا يتخلَّفُ في الشاهد والغائب، كحُكمنا أن لكُلِّ فِعلٍ فاعِلٌ، أو لكُلِّ أثَرٍ مُؤثِّرٌ، فهذه القضية الكُلِّيَّة نجزم بها، مع أننا لم نُلاحِظ كلَّ فِعلٍ في الكون، وذلك لأنَّ العلاقة بين الفِعل والفاعل هي علاقةٌ عِلِّيَّةٌ، ومعلومٌ عند العقلاء أن العِلَّةَ لا يتخلَّفُ عنها معلولُها أبداً، والمناطقةُ يُسمُّونه أيضاً بقياس المُقسّم ويُرجعونه إليه (1).
ويُقاسُ على ذلك ما يُبنى على المُماثَلَة الكاملة بين الجُزئيات، كما إذا استقرأنا خواصَّ بعض الحديد، فإن هذه الخواصَّ نقطَعُ بصِدقِها على غيره من المعدن نفسه ، وإنْ كنّا لم نستوعِب التجربة على كُلِّ الحديد، والقاعدة العامَّة تقول: المتماثِلات لها نفسُ الأحكام.
* التمثيل:
التمثيلُ: هو تبيانُ مُشاركة جُزئيٍّ لجُزئيٍّ آخَرَ في عِلَّةِ الحُكم ليثبُتَ فيه. ويُسميه الفقهاءُ القياسَ، ويُسمِّيه المتكلِّمون قياسَ الغائب على الشاهد.(1/50)
مثاله: المُطلَّقة ثلاثاً في مرض الموت تَرِثُ، لأن الزَّوجَ قصدَ الفرار من ميراثها، فيُعارَضُ بنقيضِ قَصْدِه، كما أن القاتلَ لا يَرِثُ، لأنه استعجَلَ ميراثَه، فعُورِضَ بنقيض قَصْدِه.
وكذا: النبيذُ كالخَمْر في الإسكار، والخمرُ حرامٌ، فالنبيذُ حرامٌ.
وله أربعة أركان:
1ــ الأصل: وهو الجُزئيُّ الأول المعلومُ ثبوتُ الحُكمِ له، كالخمر في المثال المذكور.
2ــ الفَرْع: وهو الجُزئيُّ الثاني المطلوبُ إثباتُ الحُكم له، كالنبيذ في المثال المذكور.
3ــ العِلَّةُ أو الجامع: وهو الشَّبَه بين الأصل والفَرْع، كالحُرمة في المثال المذكور.
__________
(1) انظر «حاشية المُلَّا عبد الله» ص173، و«شرح الشمسية» للكاتبي ص238، و«التذهيب» للخبيصي ص412.
--------------------------------------------------------------------
4ــ الحُكم المعلومُ ثبوتُه في الأصل، المطلوبُ إثباتُه للفَرْع، كالحُرمة في المثال المذكور.
وعليه، فإنه إذا تحقَّق العِلمُ بالمُقدِّمات ينتقلُ الذِّهنُ إلى النتيجة، وهو كونُ الحُكم ثابتاً في الفَرْع، إلا أن الذي يجعل التمثيل يُفيدُ الظنَّ هو جواز أن تكون العِلَّةُ في الحُكم غيرَ تامَّةٍ، لأن التشابه بين شيئين في أمر لا يعني التشابه من جميع الوجوه، وعليه فإن التمثيل لا يُفيدُ اليقين إلا إذا كانت المُقدِّمات قطعيَّةً، فإنه يُورِثُ القَطْعَ كالقياس المنطقي، أو كانت العِلَّةُ منصوصاً عليها من الشارع، فمثلاً نصَّ الشارعُ على أن الماء إذا بلغَ القُلَّتَين لا ينجُسُ، وعليه فالماء الذي بلغ هذا الحدَّ لا ينجُسُ، ولذلك لم يُقسِّموا التمثيل إلى ما يُفيدُ الظنَّ وإلى ما يُفيدُ العِلمَ، لأنه لا تظهر العِلَّةُ إلا إذا ثبت عدمُ خصوصيَّة الأصل أو عدمُ خصوصيَّة الفَرْع، وهذا نوالُهُ صَعْبٌ لا يكادُ يُمكِن (1).
* كيف تثبت العِلَّة؟
تثبت العِلَّةُ بطريقتين:(1/51)
الأولى: الدَّوَران: وهو اقترانُ الشيء بغيره وجوداً وعَدَماً، كما يُقال: الحُرْمة دائرةٌ مع الإسكار وجوداً وعَدَماً.
الثانية: التردُّد (السَّبْر والتقسيم): وهو إيرادُ أوصاف الأصل، وإبطالُ بعضها ليتعيَّنَ الباقي للعِلِّيَّة، كما يُقال: علَّةُ تحريم الخمر إما اللون أو السَّيَلان أو الرائحة أو الطَّعْم أو الإسكار، ولو نظرتَ لوجدتَ أن الوَصْفَ المناسِبَ الذي يصلُحُ علَّةً لتحريم الخمر هو الإسكار، وأن كلَّ الأوصاف الأخرى لا تصلُحُ علَّةً له (2).
الصناعات الخمس (مواد الأقيسة)
__________
(1) انظر «شرح الشمسية» وحواشيها 2 : 239، و«التذهيب» ص414.
(2) انظر «شرح الشمسية» وحواشيها 2 : 239.
--------------------------------------------------------------------
قال: (البُرهان: وهو قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّمات يقينيَّة لإنتاج اليقين، أما اليقينيَّات فأقسام: أحدُها: أوليَّات: كقولنا: الواحدُ نصفُ الاثنين، والكُلُّ أعظمُ من الجُزء. ومُشاهَدات: كقولنا: الشمسُ مُشرِقةٌ، والنارُ مُحرِقةٌ. ومُجرَّبات: كقولنا: السقمونيا مُسهل للصفراء. وحَدْسيَّات: كقولنا: نورُ القمر مستفادٌ من نور الشمس. ومُتواتِرات: كقولنا: مُحمَّدٌ عليه الصلاة والسلام ادعى النُّبوَّة وأظهَرَ المُعجِزات على يَدِه. وقضايا قياساتُها معها: كقولنا: الأربعةُ زَوجٌ بسبب وَسَطٍ حاضِرٌ في الذِّهْن هو الانقِسام بمُتساوِيَين).
أقول: أول هذه الصناعات هو البُرهان، وهو قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّمات يقينيَّة لإنتاج اليقين.
فقوله: «مُقدِّمات يقينيَّة» اليقين: هو اعتقادُ الشيء بأنه لا يُمكِنُ إلا أن يكون كذا اعتقاداً مُطابِقاً للواقع عن دليل.
واليقينيَّات أقسام:
أولاً: الأوَّليَّات: وهي ما يحكُمُ العقلُ فيه بمجرَّد تصوُّر الطَّرَفَين، كقولنا: الواحدُ نصفُ الاثنين، والكُلُّ أعظمُ من الجُزء .(1/52)
ثانياً: المُشاهَدات: وهي ما يحكمُ العقل فيه بالحِسِّ سواء كان من الحواسِّ الظاهرة أو الباطنة، كقولنا: النارُ مُحرِقةٌ، والشمسُ مُشرِقةٌ، وقولنا: إنَّ لنا غضباً وخوفاً.
ثالثاً: المُجرَّبات: وهي ما يحتاج العقلُ في جَزْم الحُكم فيه إلى تكرار المُشاهَدة مرَّةً بعد أخرى، كقولنا: «الرِّي?انين» مُسكِّنٌ لآلامِ الرأس، وهذا الحُكم إنما يحصُلُ بواسطة المُشاهَدات الكثيرة.
رابعاً الحَدْسيَّات: وهي ما يحتاج العقلُ في جَزْم الحُكم فيه إلى واسطة تكرار المُشاهَدة، كقولنا: نورُ القمر مستفادٌ من نور الشمس، لاختلاف تشكُّلاته النُّوريَّة بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قُرباً وبُعداً.
--------------------------------------------------------------------
خامساً: المُتواتِرات: وهي ما يحكمُ العقلُ فيه بجَزْم الحُكم بواسطة السماع من جَمْعٍ كثير يُحيلُ العقلُ توافُقَهم على الكذب، كالحُكم بأن النبيَّ عليه الصلاة والسلام ادعى النُّبوَّة وأظهَرَ المُعجِزة عل يَدِه.
سادساً : قضايا قياساتُها معها: وهي ما يحكمُ العقلُ فيه بواسطة أمرٍ حاضرٍ لا يغيبُ عن الذِّهْن عند تصوُّر الطَّرَفَين، كقولنا: الأربعةُ زَوجٌ بسبب وسطٍ حاضِرٍ في الذِّهنِ، وهو الانقِسامُ بمُتساوِيَين، والوَسَط: ما يقترنُ بقولنا، لأنه حين يُقال لأنه كذا وكذا (1).
والقياس البُرهاني ينقسمُ إلى قسمين:
الأول: البرهان الإنِّي: وهو ما كان الحدُّ الأوسَطُ فيه عِلَّةً في ثبوت الأكبر للأصغر في الذِّهْن من دون الخارج، وقد يُعرَّف بأنه ما يُستَدلُّ فيه بالمعلول على العِلَّة، وسُمِّي بذلك لأنه يُفيدُ إنِّيَّة الحُكم، أي: ثبوته وتحقُّقه من دون لِمِّيَّته في الخارج.
مثاله: مُحمَّدٌ يدخلُ الجنَّة، وكلُّ مَن يدخلُ الجنَّة مُؤمِنٌ، ينتج: مُحمَّدٌ مُؤمِنٌ.(1/53)
الثاني: البُرهان اللمِّي: وهو ما كان الحدُّ الأوسَطُ فيه عِلَّةً في ثبوت الأكبر للأصغر ذِهْناً وخارجاً، وقد يُعرَّف بأنه ما يُستَدلُّ فيه بالعِلَّة على المعلول، وسُمِّي بذلك لأنه يُفيدُ اللمِّيَّة، أي: العِلِّيَّة، إذ يُجاب به عن السؤال بـ«لِمَ؟»، فإذا قيل: زيدٌ محمومٌ، فقلت: لِمَ؟ فيُجابُ: لأنه مُتعفِّنُ الأَخْلاط، وكلُّ مُتعفِّن الأخْلاط محموم، فزيدٌ محمومٌ، فإن الأوسَطَ ــ وهو مُتعفِّن الأخلاط ــ كما أنه عِلَّة لثبوت نسبة المحموم إلى زيد في الذِّهْن، كذلك هو عِلَّة لثبوت تلك النِّسبة في الخارج أيضاً (2).
__________
(1) انظر «علم المنطق» د. محمد رمضان ص95، و«حاشية المُلَّا عبد الله» ص177.
(2) انظر «التذهيب» للخبيصي ص421.
--------------------------------------------------------------------
قال: (والجَدَلُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مشهورة. والخَطابةُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مقبولةٍ من شخصٍ مُعتقدٍ فيه أو مظنونةٍ. والشِّعرُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مُتخيَّلةٍ تَنبَسِطُ منها النَّفْسُ، نحو: الخمرُ ياقوتةٌ سيَّالةٌ، أو تَنقَبِضُ، نحو: العَسَلُ مُرَّةٌ مهوعةٌ. والمُغالَطَةُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ كاذبةٍ شبيهةٍ بالحقِّ، أو مُقدِّماتٍ وَهْميَّةٍ كاذبةٍ، والعُمدة هو البُرهان لا غير، وليكن هذا آخِرَ الرِّسالة).
أقول: الصناعة الثانية هي الجَدَل، وهو قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مشهورةٍ، وتختلفُ باختلاف الأزمنة والأمكنة، فقد يكون الشيءُ مشهوراً عند قوم دون آخرين، ومن مُقدِّمات مُسلَّمة عند الناس وعند الخَصمَين، والغَرَضُ منه إلزامُ الخصم وإقناعُ القاصِر عن إدراك البُرهان.
فمثال ما تألَّفَ من مُقدِّمات مشهورة قولك: العدلُ حَسَنٌ، وكلُّ حَسَنٍ جميلٌ، العدلُ جميلٌ.(1/54)
ومثال ما تألَّفَ من مُقدِّمات لو سلَّمَها الخصمُ أُلْزِمَ بالنتيجة قولك: إحسانُك لزيدٍ دون عمرو ظُلمٌ، وكلُّ ظُلمٍ قبيحٌ، ينتُجُ: إحسانُك لزيدٍ دون عمرو قبيحٌ.
والصناعة الثالثة هي الخطابة، وهي قياسٌ مٌؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مقبولةٍ من شخصٍ مُعتقدٍ فيه أو مظنونةٍ، والغَرَضُ منها ترغيبُ الناس فيما ينفعُهم من أمور حياتهم، كما يفعله بعضُ الخُطَباء والوُعَّاظ.
مثاله: زيدٌ يطوفُ ليلاً بالسِّلاح، وكلُّ مَن يطوفُ ليلاً بالسِّلاح فهو شُرْطيٌّ، فزيدٌ شُرطيٌّ.
والصناعة الرابعة هي الشِّعر، وهو قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ تَنبَسِطُ منها النَّفْسُ أو تنقبضُ.
مثاله: الخمرُ ياقوتةٌ سيَّالةٌ، وكلُّ ما كان كذلك فهو مرغوبٌ فيه، فالخمرُ مرغوبٌ فيه. فمثلُ هذا القياس يوجدُ عند النفس انبساطاً ورغبةً في تناول الخمر.
--------------------------------------------------------------------
والصناعة الخامسة هي المُغالطة، وهي قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ كاذبةٍ شبيهةٍ بالحقِّ أو بالمشهورة، أو من مُقدِّمات وَهْميَّة كاذبة، والغَلَطُ إما من جهة الصُّورة أو من جهة المعنى.
فمثال ما يكون من جهة الصُّورة كقولنا لصورة الفَرَس المنقوشة على الجدار: إنها فَرَسٌ، وكلُّ فَرَسٍ صاهِلٌ، ينتُجُ أن تلك الصُّورة صاهِلةٌ.
ومثال ما يكون من جهة المعنى كقولنا: الله موجودٌ، وكلُّ موجود مُتحيِّزٌ، فالله مُتحيِّز. فهنا قضايا ومُقدِّمات القياس وَهْمية، لأنَّ التحيُّزَ من لوازم الموجودات الجسمانية، وليس من لوازم مُطلَق الموجودات، والله تعالى ليس جسماً قطعاً، فلا يُوصَفُ بالتحيُّز.
واعلم أن ما عليه الاعتمادُ والتعويلُ من هذه القياسات إنما هو البُرهان، لكونه من المُقدِّمات اليقينيَّة، فهو الذي يُعوَّلُ عليه في العقائد وإزالة الشُّبَه.
وهذا آخر ما كتبناه على «متن إيساغوجي» فلله الحمد والمِنَّة(1/55)
وصلَّى اللهُ على سَيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسلَّم
كتبه
محمد صبحي العايدي
بتاريخ 1 ذو الحجة 1426هـ
الموافق 1 / 1 / 2006م
الشجرة المنطقية التوضيحية
اللفظ
مفرد ... ... ... ... ... ... ... ... ... مركب
كلي ... ... ... ... جزئي ... ... ... ... ... ... تام ... ... ... ناقص
ذاتي ... ... ... ... ... عرضي ... ... ... ... ... خبر ... ... إنشاء
جنس ... نوع ... فصل ... خاصة ... عرض عام
أنواع القضايا
القضية *
حملية ... ... ... ... ... ... ... شرطية
محصورة ... ... مهملة ... ... طبعية ... ... شخصية ... ... متصلة ... ... ... منفصلة
كلية ... ... جزئية ... ... ... ... ... ... لزومية ... اتفاقية ... حقيقية ... مانعة جمع مانعة خلو
* تقسم القضية باعتبار الإثبات والنفي ــ أي: الكيف ــ إلى موجبة وسالبة، وباعتبار وجود الموضوع إلى القضية الخارجية والحقيقية والذهنية.
أنواع الدلالات أقسام الحجة
--------------------------------------------------------------------
الدلالة ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحجة
عقلية ... ... طبعية ... ... وضعية ... ... ... ... ... قياس ... ... تمثيل ... ... استقراء ... ...
غير لفظية ... ... لفظية ... ... ... اقتراني ... استثنائي ... ... تام ناقص
مطابقية ... تضمنية ... التزامية
الصناعات الخمس
البرهان ... ... ... ... الجدل ... ... ... الخطابة ... ... الشعر ... ... المغالطة
أوليات مشاهدات مجربات حدسيات متواترات ...
متن إيساغوجي
الدلالات
قال العلامة أثير الدين الأبهري رحمه الله: (اللفظُ الدالُّ على تمام ما وُضِعَ له بالمُطابَقَةِ، وعلى جُزْئِه بالتضمُّنِ إن كان له جُزْء، وعلى ما يُلازمُه في الذِّهْن بالالتِزامِ، كالإنسان: فإنه يدلُّ على الحيوانِ الناطقِ بالمُطابَقَةِ، وعلى أحدِهما بالتضمُّنِ، وعلى قابِلِ العلمِ وصَنْعةِ الكتابةِ بالالتِزام).(1/56)
المُفرَد والمُركَّب
ثم اللفظُ إما مُفرَدٌ: وهو الذي لا يُراد بالجُزء منه دلالةٌ على جُزء معناه، كالإنسان، وإما مُؤلَّفٌ: وهو الذي لا يكون كذلك، كرامي الحجارة.
الكُلِّيُّ والجُزْئيُّ
والمُفرَد إما كُلِّيٌّ: وهو ما لا يمنعُ نفسُ تصوُّرِ مفهومِه عن وقوع الشركة فيه، كالإنسان، وإما جُزئيٌّ: وهو ما يمنعُ نفسُ تصوُّرِ مفهومِه عن ذلك، كزيد.
الذاتي والعرضي:
والكُلِّيُّ إما ذاتيٌّ: وهو الذي يدخلُ تحت حقيقةِ جُزئيَّاته، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفَرَس، وإما عَرَضيٌّ: وهو الذي بخِلافِه، كالضاحك بالنِّسبة إلى الإنسان.
والذاتيُّ إمَّا مقولٌ في جوابِ: «ما هو؟» بحسب الشِّرْكةِ المَحْضة، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفَرَس، وهو الجِنسُ، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ مقولٌ على كثيرين مُختَلِفينَ بالحقائق في جواب ما هو؟ قولاً ذاتياً.
--------------------------------------------------------------------
وإما مقولٌ في جواب: «ما هو؟» بحسب الشِّرْكةِ والخُصوصيَّةِ معاً، كالإنسان بالنسبة إلى عمرٍو وزيدٍ، وهو النوعُ، ويُرسَم بأنه كُلِّيٌّ مقولٌ على كثيرين مختَلِفين بالعدد دون الحقيقةِ في جواب: «ما هو؟».
وإما غيرُ مقولٍ في جوابِ: «ما هو؟»، بل: «أيُّ شيء هو في ذاته؟» وهو الذي يُميِّزُ الشيءُ عمَّا يُشارِكُه في الجِنسِ، كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، وهو الفَصْلُ، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ يُقالُ على الشيء في جواب: أيُّ شيءٍ هو في ذاته.
وأما العَرَضيُّ: فإما أن يمتنعُ انفِكاكُه عن الماهيَّة، وهو العَرَضُ اللازم، أو لا يمتنعُ انفِكاكُه وهو العَرَضُ المُفارِقُ.
وكلُّ واحدٍ منهما إما أن يختصَّ بحقيقةٍ واحدةٍ وهو الخاصَّةُ، كالضاحك بالقوَّةِ أو الفِعلِ للإنسان، وتُرسَمُ بأنها كُلِّيَّةٌ تُقالُ على ما تحت حقيقةٍ واحدةٍ فقط قولاً عَرَضيّاً.(1/57)
وإما أن يَعُمَّ حقائقَ فوقَ واحدةٍ، وهو العَرَضُ العامُّ، كالتنفُّس بالقوَّةِ أو الفِعلِ للإنسان وغيره، ويُرسَمُ بأنه كُلِّيٌّ يُقالُ على ما تحت حقائقَ مُختَلِفةٍ قولاً عَرَضيّاً.
القولُ الشارح
القولُ الشارح الحدّ قول دال على ماهية الشيء وهو الذي يتركب من جنس الشيء وفصله القريبين كالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان وهو الحد التام، والحدُّ الناقص: وهو الذي يتركَّبُ من جِنسٍ بعيدٍ وفَصْلِه القريب، كالجسم الناطق بالنسبة للإنسان.
والرَّسْمُ التامُّ: وهو الذي يتركَّبُ من جِنسِ الشيء القريب وخاصَّتِه اللازمة، كالحيوان الضاحك في تعريف الإنسان.
والرَّسْمُ الناقص: وهو الذي يتركَّبُ من عَرَضيَّاتٍ تختصُّ جُملتُها بحقيقةٍ واحدة، كقولنا في تعريف الإنسان إنه ماشٍ على قَدَمَيه عريضُ الأظفار بادي البَشَرة مستقيمُ القامة ضحَّاك الطَّبْع.
القضايا
--------------------------------------------------------------------
القضية: قولٌ يصحُّ أن يُقال لقائله إنه صادقٌ فيه أو كاذبٌ فيه، وهي حَمْليَّة، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وإما شَرْطيَّة متصلة، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإما شَرْطيَّة مُنفصِلة، كقولنا: العددُ إما زوجاً أو فرداً.
والجزءُ الأولُ من الشَّرْطيَّة يُسمَّى مُقَدَّماً، والثاني تالِياً.
والقضيَّة إما مُوجِبةٌ، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وإما سالِبةٌ، كقولنا: زيدٌ ليس بكاتب.
وكلُّ واحد منهما إما مخصوصةٌ كما ذكرنا، وإما كُلِّيَّةٌ مُسوَّرةٌ كقولنا: كلُّ إنسان كاتبٌ، ولا شيء من الإنسان بكاتب، وإما جُزئيَّةٌ مُسوَّرةٌ، كقولنا: بعضُ الإنسان كاتبٌ، وبعضُ الإنسان ليس بكاتب، وإما أن لا تكون كذلك وتسمى مُهمَلةً، كقولنا: الإنسانُ كاتبٌ، والإنسانُ ليس بكاتب.(1/58)
والمُتَّصلةُ: إما لُزوميَّةٌ، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإما اتِّفاقيَّةٌ، كقولنا: إن كان الإنسانُ ناطِقاً فالحمارُ ناهِقٌ.
والمُنفَصِلةُ: إما حقيقيةٌ، كقولنا: العددُ إما زوجٌ أو فَرْدٌ، وإما مانِعةُ الجَمْعِ فقط، كقولنا: هذا الشيءُ إما شجرةٌ وإما حَجَرٌ، وإما مانِعةُ الخُلُوِّ فقط، كقولنا: زيدٌ إما أن يكون في البَحْر أو لا يغرَقُ.
التناقُضُ
التناقُضُ: هو اختلافُ القضيتين بالإيجاب والسَّلْب بحيثُ يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقةً والأُخرى كاذبةً، كقولنا: زيدٌ كاتبٌ، وزيدٌ ليس بكاتب.
ولا يتحقَّقُ ذلك في المخصوصتين إلا بعد اتفاقهما في الموضوع، والمحمول، والزمان، والمكان، والإضافة، والقوَّة، والفِعل، والجُزء، والكُلّ، والشَّرْط.
نقائض القضايا
ونقيض الموجبة الكلية إنما هي السالبة الجزئية كقولنا كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحيوان، ونقيض السالبة الكلية إنما هي الموجبة الجزئية كقولنا لا شيء من الإنسان بحيوان وبعض الإنسان حيوان.
--------------------------------------------------------------------
والمحصورتان لا يتحقَّقُ التناقُضُ بينهما إلا بعد اختلافهما في الكُّلِّيَّة والجُزئيَّة، لأن الكُلِّيَّتَين قد تَكذِبان، كقولنا: كلُّ إنسان كاتبٌ، ولا شيءَ من الإنسان بكاتب، والجُزئيَّتَين قد تَصدُقان، كقولنا: بعضُ الإنسان كاتبٌ، وبعضُ الإنسان ليس بكاتب.
العكس المستوي
هو أن يصيرَ الموضوعُ محمولاً والمحمولُ موضوعاً مع بقاء السَّلْبِ والإيجابِ والتصديقِ والتكذيبِ بحاله.
نتائج العكس المستوي
والكُلِّيَّةُ لا تَنعَكِسُ كُلِّيةً، إذ تصدُقُ «كلُّ إنسان حيوان» ولا يصدُقُ «كلُّ حيوان إنسانٌ»، بل تنعكسُ جُزئيَّة، لأنا إذا قُلنا: «كلُّ إنسان حيوانٌ» يصدُقُ قولُنا: «بعضُ الحيوان إنسانٌ»، فإنّا نجدُ الموضوعَ شيئاً موصوفاً بالإنسان والحيوان، فيكون بعضُ الحيوان إنساناً.(1/59)
والموجِبةُ الجُزئية تنعكسُ جُزئية بهذه الحُجَّة أيضاً، والسالِبةُ الكُلِّيَّةُ تنعكسُ كُلِّيَّةً، وذلك بيِّنٌ بنفسه، فإنه إذا صدقَ «لا شيء من الإنسان بحَجَر» يصدُقُ «لا شيء من الحَجَر بإنسان».
والسالِبةُ الجُزئيَّة لا عكسَ لها لُزوماً، لأنه يصدُقُ «بعضُ الحيوان ليس بإنسان» ولا يصدُقُ عكسُه.
القياس
القياسُ: هو قولٌ مؤلَّفٌ من أقوال متى سُلِّمَت لَزِمَ عنها لذاتِها قولٌ آخرُ .
وهو إما اقترانيٌّ، مَثَلاً: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ، ينتُجُ كلُّ جسمٍ مُحدَثٌ.
وإما استثنائيٌّ، كقولنا: إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، لكن الشمس طالعةٌ، فالنهارُ موجودٌ، لكن النهار ليس بموجودٍ فالشمسُ ليست بطالِعة.
والمُكرَّرُ بين مُقدِّمَتَي القِياسِ فصاعداً يُسمَّى حدّاً أوسَطَ ، وموضوعُ المطلوب يُسمَّى حدّاً أكبَرُ، والمُقدِّمةُ التي فيها الأصغَرُ تُسمَّى الصُّغرى، والتي فيها الأكبَرُ تُسمَّى الكُبرى.
أشكال القياس
--------------------------------------------------------------------
وهيئةُ التأليف من الصُّغرى والكبرى يسمى شَكْلاً، والأشكالُ أربعةٌ: لأن الحدَّ الأوسَطَ إن كان محمولاً في الصُّغرى وموضوعاً في الكبرى فهو الشَّكْلُ الأول، وإن كان بالعكس فهو الشَّكْلُ الرابع، وإن كان موضوعاً فيهما فهو الثالث، وإن كان محمولاً فيهما فهو الثاني، فهذه الأشكالُ الأربعةُ مذكورةٌ في المنطق.
شروط إنتاج الأشكال
والشَّكْلُ الرابعُ منها بعيدٌ عن الطَّبْعِ جداً، ومَن له عقلٌ سليمٌ وطَبْعٌ مُستقيمٌ لا يحتاجُ إلى ردِّ الثاني إلى الأول، وإنما يَنتُجُ الثاني عند اختِلافِ مُقدِّمَتَيه بالإيجابِ والسَّلْب.
الشكل الأول وضروبه المنتجة(1/60)
والشَّكْلُ الأول هو الذي جُعِلَ مِعياراً للعلوم، فنُورِدُه هاهنا ليُجعَلَ دُستوراً وميزاناً يَنتُجُ منه المطالب كلّها، وضُروبه المُنتِجةُ أربعةٌ: الضَّرْبُ الأول: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ مُحدَثٌ، فكلُّ جسمٍ مُحدَثٌ. والثاني: كلُّ جسمٍ مُؤلَّفٌ، ولا شيء من المُؤلَّفِ بقديم، فلا شيء من الجسم بقديم. الثالث: بعضُ الجسم مُؤلَّفٌ، وكلُّ مُؤلَّفٍ حادثٌ، فبعضُ الجسم حادثٌ. والرابع: بعضُ الجسمِ مُؤلَّفٌ، ولا شيء من المُؤلَّف بقديم، فبعضُ الجسم ليس بقديم.
ما يتركَّب منه القياس الاقتِراني
--------------------------------------------------------------------
والقياسُ الاقتِرانيُّ: إما من الحَمْليتين كما مرَّ، أو من المُتصلتين، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، وإن كان النهارُ موجوداً فالأرضُ مضيئةٌ، ينتُجُ: إن كانت الشمسُ طالعةً فالأرضُ مضيئةً، وإما من المُنفَصِلَتَين، كقولنا: كلُّ عدد إما فَردٌ أو زَوجٌ، وكلُّ زَوج فهو زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَردِ، ينتُجُ: كلّ عدد إما فَردٌ أو زَوجُ الزَّوجِ أو زَوجُ الفَردِ، وإما من الحملية والمُتصلة، كقولنا: كلَّما كان هذا إنساناً فهو حيوان، وكلُّ حيوانٍ فهو جسمٌ، ينتُجُ: كلَّما كان هذا إنساناً فهو جسمٌ، وإما من حَمْلية ومُنفَصِلة، كقولنا: كلّ عددٍ إما زَوجٌ أو فَرْدٌ، وكلُّ زَوجٍ فهو مُنقَسِمٌ بمُتساوِيَين، ينتُجُ: كلّ عدد فهو إما فَردٌ أو مُنقَسِمٌ بمُتساوِيَين، أو من مُتصلة ومُنفصلة، كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوانٌ، وكلُّ حيوان فهو إما أبيضُ أو أسودُ، ينتُجُ: إن كان هذا إنساناً فهو إما أبيضُ أو أسودُ.
ما يتركب منه القياس الاستثنائي(1/61)
وأما القياسُ الاستثنائيُّ فالشَّرْطية الموضوعة فيه: إن كانت متصلةً موجبةً لزوميةً فاستثناءُ عَينِ المُقدَّم ينتجُ عَينُ التالي، كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوانٌ، لكنه إنسانٌ، فهو حيوانٌ، واستثناءُ نقيضِ التالي ينتجُ نقيضَ المُقدَّم، كقولنا: إن كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ، لكن النهار ليس بموجود، فالشمس ليست بطالعة. وإن كانت منفصلةً حقيقةً فاستثناءُ عَينِ أحد الجُزءين ينتجُ نقيضَ الآخر، واستثناءُ نقيضِ أحدِهما ينتجُ عَينَ الآخر.
الصناعات الخمس (مواد الأقيسة)
--------------------------------------------------------------------
البُرهان: وهو قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّمات يقينيَّة لإنتاج اليقين، أما اليقينيَّات فأقسام: أحدُها: أوليَّات: كقولنا: الواحدُ نصفُ الاثنين، والكُلُّ أعظمُ من الجُزء. ومُشاهَدات: كقولنا: الشمسُ مُشرِقةٌ، والنارُ مُحرِقةٌ. ومُجرَّبات: كقولنا: السقمونيا مُسهل للصفراء. وحَدْسيَّات: كقولنا: نورُ القمر مستفادٌ من نور الشمس. ومُتواتِرات: كقولنا: مُحمَّدٌ عليه الصلاة والسلام ادعى النُّبوَّة وأظهَرَ المُعجِزات على يَدِه. وقضايا قياساتُها معها: كقولنا: الأربعةُ زَوجٌ بسبب وَسَطٍ حاضِرٌ في الذِّهْن هو الانقِسام بمُتساوِيَين.
والجَدَلُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مشهورة. والخَطابةُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مقبولةٍ من شخصٍ مُعتقدٍ فيه أو مظنونةٍ. والشِّعرُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ مُتخيَّلةٍ تَنبَسِطُ منها النَّفْسُ، نحو: الخمرُ ياقوتةٌ سيَّالةٌ، أو تَنقَبِضُ، نحو: العَسَلُ مُرَّةٌ مهوعةٌ. والمُغالَطَةُ: قياسٌ مُؤلَّفٌ من مُقدِّماتٍ كاذبةٍ شبيهةٍ بالحقِّ، أو مُقدِّماتٍ وَهْميَّةٍ كاذبةٍ، والعُمدة هو البُرهان لا غير، وليكن هذا آخِرَ الرِّسالة.
المصادر والمراجع
1. الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت.(1/62)
2. التذهيب شرح التهذيب، عبيد الله الخبيصي، البابي الحلبي، مصر، 1936.
3. تنوير الأذهان لفهم علم الميزان، عبدالجليل آل جميل، مطبعة العاني، بغداد.
4. حاشية الملا عبد الله على التهذيب، تعليق مصطفى الدشي، ط2، 1988، مؤسسة آل البيت، بيروت.
5. دروس في علم المنطق، حسين الصدر، 1997، دار الكتب العلمية، بيروت.
6. شرح إيساغوجي، حسام الدين الكاتي، ط2، 2002، بغداد، العراق.
7. شرح السُّلَّم المنورَق، الدَّمَنهوري
8. شرح السُّلَّم المنورَق، حسن درويش القويسني، البابي الحلبي، 1959، مصر.
9. شرح الشمسية، الكاتبي
10. شرح الشمسية وحواشيها، شركة شمس المشرق.
--------------------------------------------------------------------
11. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، محمد سعيد رمضان البوطي، ط6، 2000، مؤسسة الرسالة، بيروت.
12. ضياء النجوم في توضيح سلم العلوم، محمد إبراهيم بلياوي، المكتبة الرشيدية.
13. علم المنطق، محمد رمضان عبد الله، وزارة الأوقاف، جامعة صدام، بغداد.
14. المستصفى، أبو حامد الغزالي، دار الفكر، بيروت.
15. المنطق، محمد رضا المظفر، دار المعارف للمطبوعات، 1995، بغداد.
قائمة المحتويات
مقدمة...............................................................................3
تمهيد ................................................................................5
ترجمة مصنِّف المتن ...............................................................10
الدلالات ..........................................................................11
ما هو تعريف الدلالة؟ .............................................................12
الدلالة اللفظية الوضعية ...........................................................12
المُفرَد والمُركَّب ................................................................. 13(1/63)
الكُلِّيُّ والجُزْئيُّ ..................................................................15
ما هو المفهوم؟ ...................................................................17
الذاتي والعرضي ....................................................................17
النِّسَب بين الكُلِّيَّات ...............................................................19
الكُلِّيَّات الخمس .................................................................20
الكليات الذاتية ....................................................................21
الجنس ...........................................................................21
--------------------------------------------------------------------
النوع ..............................................................................22
الفَصْل ............................................................................23
ما هو الفصل القريب والفصل البعيد؟ .............................................24
الكليَّات العَرَضيَّة .................................................................25
أقسام العرضي .....................................................................25
الخاصة ............................................................................26
العرض العام ......................................................................27
القول الشارح (التعريفات) ........................................................28
أهمية التعريف .....................................................................28
أقسام التعريف .....................................................................31(1/64)
الحدُّ التامُّ .........................................................................31
الحدُّ الناقص ......................................................................31
الرَّسْمُ التامُّ ........................................................................32
الرسم الناقص .....................................................................32
التعريفات التي لا تجوز ...........................................................34
القضايا ............................................................................35
ما تتركب منه القضية ...............................................................35
أنواع القضايا ......................................................................36
--------------------------------------------------------------------
الموضوع والمحمول ................................................................37
المقدم والتالي .......................................................................38
أقسام القضية الحَمْلية باعتبار الإثبات والنفي ......................................38
أقسام القضية الحَمْلية باعتبار الموضوع ..........................................39
أقسام القضية الحَمْلية باعتبار وجود الموضوع ....................................41
أقسام القضية الشَّرْطية المُتَّصلة ...................................................42
أقسام القضية الشَّرْطية المُنفصِلة ..................................................43
التناقض ...........................................................................45
شروط حصول التناقض ...........................................................48(1/65)
نقائض القضايا ....................................................................49
العكس المستوي .................................................................52
نتائج العكس المستوي ............................................................54
القضايا التي لا عكس لها ...........................................................56
القياس ............................................................................57
الاصطلاحات العامَّة في القياس ...................................................59
أقسام القياس .....................................................................60
القياس الاقتراني ..................................................................60
القياس الاستثنائي ...............................................................61
--------------------------------------------------------------------
مسميات الحدود في القياس ......................................................62
أشكال القياس ..................................................................63
شروط إنتاج الأشكال ...........................................................65
الشكل الأول وضروبه المنتجة ..................................................66
ما يتركَّب منه القياس الاقتِراني ..................................................70
ما يتركب منه القياس الاستثنائي ..................................................72
كيف تؤخذ النتيجة من القياس الاستثنائي الاتصالي؟ .............................73
كيف تؤخذ النتيجة من القياس الاستثنائي الانفصالي؟ .............................74
لواحق القياس ....................................................................76(1/66)
الاستقراء ..........................................................................76
أقسام الاستقراء ...................................................................77
التمثيل ............................................................................78
أركان التمثيل .....................................................................79
كيف تثبت العِلَّة؟ .................................................................80
الصناعات الخمس (مواد الأقيسة) ...............................................81
البرهان ............................................................................81
أقسام اليقينيَّات ...................................................................81
أقسام القياس البُرهاني .............................................................83
الجدل .............................................................................84
--------------------------------------------------------------------
الخطابة ...........................................................................84
الشِّعر .............................................................................85
المُغالطة ..........................................................................85
شجرة المنطق التوضيحية ...........................................................87
متن إيساغوجي....................................................................91
المصادر والمراجع .................................................................101
قائمة المحتويات..................................................................102
--------------------------------------------------------------------(1/67)