تطور الفكر السياسي الشيعي
تأليف أحمد الكاتب
الفهرس:
الشورى نظرية أهل البيت
من الشورى الى الحكم الوراثي
بوادر الفكر الإمامي
أركان نظرية الإمامة
نظرية الإمامة في مواجهة التحديات
التطور الإثناعشري
فرضية المهدي محمد بن الحسن العسكري
عصر الحيرة
أدلة وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري
المبحث الأول: الإستدلال الفلسفي
المبحث الثاني: الدليل الروائي
المبحث الثالث: الدليل التاريخي
المطلب الأول: ولادة المهدي
المطلب الثاني: شهادة النواب الأربعة
الدليل الاعجازي
دليل الإجماع
الغيبة
مناقشة النظرية المهدوية الإثني عشرية
الإمام بن الحسن العسكري- حقيقة تاريخية أم نظرية فلسفية ؟
غموض هوية المهدي عند أهل البيت
ظاهرة المهدوية في الفكر الإسلامي
العوامل الفلسفية لنشوء الفرضية المهدوية
نقد الدليل الروائي النقلي
نقد الدليل التاريخي
تقييم سند الروايات التاريخية
التحقيق في شهادة النواب الأربعة
التحقيق في رسائل المهدي
ما هي حقيقة حكايات المعاجز؟
تهافت دعوى الإجماع
كيف نشأت نظرية وجود المهدي؟
تناقض الغيبة مع فلسفة الإمامة
الوضع السياسي العام عشية ( الغيبة ) وغداتها
ماذا في علائم الظهور؟
دور الغلاة في صنع الفرضية المهدوية
دور الإعلام في صنع الفرضية
تطور الفكر السياسي الشيعي في عصر الغيبة
الآثار السلبية للنظرية المهدوية
نظرية التقية والانتظار
الموقف السلبي من الاجتهاد وولاية الفقيه
الموقف السلبي من عملية الإصلاح الإجتماعي
الموقف من إقامة الحدود
الموقف من الجهاد
الموقف من الزكاة
الموقف من الخمس والأنفال
الموقف من صلاة الجمعة
إرهاصات النهضة الشيعية
فتح باب الإجتهاد وحل عقدة التشريع في عصر الغيبة(1/1)
فرضية النيابة الواقعية عن الإمام المهدي في القضاء والحدود
الموقف الإيجابي من قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفقيه يتولى إخراج الزكاة
تطور حكم الخمس من الإباحة إلى الوجوب
العودة إلى إيجاب صلاة الجمعة
تطور النظريات السياسية الشيعية في عصر الغيبة
نظرية النيابة الملكية
نظرية المرجعية الدينية
الحركة الإخبارية
نظرية ولاية الفقيه
الحركة الديموقراطية الإسلامية المشروطة
الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه المطلقة
الديكتاتورية الدينية- نقد نظرية الولاية العامة وولاية الفقيه
الخاتمة(1/2)
العوامل الفلسفية
لنشوء الفرضية (المهدوية)
إذا قمنا بقراءة الرواية التاريخية لما حدث للشيعة الإمامة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري سنة 260 هجرية ، والقينا نظرة على · الدليل العقلي الذي قدمه ذلك الفريق الذي قال ب : · وجود ولد مخفي للإمام ، هو الإمام من بعده وهو المهدي المنتظر ، فأننا سنكتشف أزمة نظرية مرّ بها ذلك الفريق من الإمامة ممن يشترط توارث الإمامة بصورة عمودية ، وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو ابن عم ، واضطراره إما إلى التنازل عن هذا الشرط ، أو التسليم بانقطاع الإمامة بعد وفاة العسكري دون خلف ، كما هو الظاهر من حياته ، أو افتراض وجود ولد له في السر ، بالرغم من عدم التصريح به ، أو الإعلان عنه ، وتفسير هذا الغموض والكتمان بالتقية والخوف من السلطة ، بالرغم من عدم وجود مؤشرات تستدعي ذلك .
تقول الرواية التاريخية التي يعترف بها وينقلها المؤرخون والمتكلمون (الاثناعشريون): إن الإمام العسكري توفي دون إن يخلف ولدا ظاهرا ، وأوصى بأمواله إلى أمه المسماة ب :·حديث ، وهذا ما سمح لأخيه جعفر بن علي بأن يدعي الإمامة من بعده ويدعو الشيعة الإمامة إلى أتباعه كخليفة له ، كما اتبعوا الإمام موسى بن جعفر بعد وفاة أخيه الأكبر (عبد الله ألا فطح) الذي اصبح إماما لفترة من الوقت بعد الإمام الصادق ، ولم ينجب ولدا تستمر الإمامة في عقبه .
ويقول النوبختي والاشعري القمي والمفيد : إن كثيرا من الشيعة الامامية لبوا نداء جعفر وكادوا يجمعون على القول بإمامته . 1(1/1)
وذلك لأن عامة الشيعة لم يكونوا يعرفون أحدا غير جعفر من أبناء الامام الهادي ، ولم يكونوا شاهدوا أي ولد للامام العسكري ، وهذا ما تؤكده رواية (أبى الأديان البصري) : رسول الإمام العسكري الى اهل المدائن ، الذي كان آخر شخص يودع الإمام ، والذي يقول : ان العسكري لم يخبره باسم خليفته ، وانما أعطاه بعض العلامات للتعرف عليه ، ويقول: انه عاد الى سامراء يوم وفاة الإمام العسكري فرأى جعفر وحوله عامة الشيعة وعلى رأسهم عثمان بن سعيد العمري ، وهم يعزونه ويهنئونه ، وانه ذهب وعزاه وهنأه كواحد منهم، كما يقول: ان وفدا من شيعة قم قدموا في ذلك اليوم الى سامراء وسألوا عن الإمام الحسن وعرفوا موته ، فقالوا : من نعزي؟ فأشار الناس الى جعفر ، فسلموا عليه وعزوه وهنئوه.
وهو ما تؤكده أيضا رواية (سنان الموصلي) التي تتحدث عن قدوم وفد بقيادة أبى العباس محمد بن جعفر الحميري القمي ، الى سامراء ، بعد وفاة الإمام العسكري ، وسؤالهم عنه وعن وارثه ، وقول الناس لهم: ان وارثه جعفر بن علي ، وعدم وجود مانع يحول دون القول بإمامته سوى عدم معرفته بعلم الغيب.
وبناء على ذلك فقد أرسل جعفر الى أهل قم - التي كانت مركزا للشيعة يومذاك - يدعوهم الى نفسه ، ويُعلمهم : انه القيّم بعد أخيه . وقد اجتمع أهل قم عند شيخهم (احمد بن اسحاق) وتداولوا في الموضوع ، وقرروا إرسال وفد اليه لمناقشته و · سؤاله بعض المسائل التي كانوا يسألون آباءه عنها من قبل والتأكد من دعواه . كما يقول الخصيبي في :(الهداية الكبرى) (4) والصدوق في :(إكمال الدين ) (5) والطبرسي في :(الاحتجاج) (6) والصدر في :(الغيبة الصغرى). (7)(1/2)
مما يعني ان اهل قم لم يكونوا يعرفون بوجود ولد للامام العسكري ، ولم يكونوا يعرفون هوية الإمام الجديد من قبل ، ولم يكن يوجد لديهم أي مانع لقبول إمامة جعفر بن علي ، أي انهم لم يكونوا يلتزمون بقانون الوراثة العمودية في الإمامة ، ويجيزون إمامة الاخوين .
وكانت العقبة الرئيسية التي حالت دون إيمان بعض الشيعة بإمامة جعفر هو المبدأ القديم المشكوك فيه الرافض لاجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين ، وقد طرحه وفد قم على جعفر بن علي أثناء الحوار ، فأجابهم ب : ( ان الله قد بدا له في ذلك) ، كما يقول الخصيبي في (الهداية الكبرى)
وتقول بعض الروايات التي ينقلها الصدوق والطوسي : ان وفد قم طالب جعفر بالكشف عن كمية الأموال التي كان يحملها معه واسماء اصحابها ، غيبيا ، كما كان يفعل اخوه العسكري ، وان جعفر رفض ذلك الطلب و الادعاء واتهم الوفد بالكذب على أخيه ، أنكر نسبة علم الغيب اليه.
كما تحاول بعض الروايات ان تتهم جعفر بالفسق وشرب الخمر والجهل واهمال الصلاة (10) وذلك في محاولة لإبطال دعواه في الامامة ، ولكن عامة الشيعة لم يأخذوا بتلك الاتهامات ، ولم يطرحوا مسألة علم الغيب ، وقد عزوه وهنئوه بالإمامة ، وكانت المشكلة الرئيسية لدى البعض منهم هي مسألة :(الجمع بين الاخوين في الامامة ). وقد ارتكز الطوسي عليها في عملية الاستدلال على نفي إمامة جعفر و افتراض جود ابن الحسن ، وادعى عدم الخلاف حولها بين الامامية .(1/3)
وكانت هذه المشكلة قد تفجرت في صفوف الشيعة الامامية - لأول مرة - بعد وفاة الإمام عبدالله الأفطح بن جعفر الصادق ، الذي اجمع فقهاء الشيعة ومشايخهم على القول بامامته ، ولكنه توفي دون عقب ، مما أوقع الامامية في أزمة وفرقهم الى ثلاث فرق ، فمنهم من تمسك بمبدأ:( عدم جواز الجمع بين الاخوين في الامامة) واضطر الى افتراض وجود ولد موهوم لعبدالله قال ان اسمه (محمد) وهو مخفي ، وانه سيظهر في المستقبل ، ومنهم من تجاوز هذا المبدأ وأجاز لنفسه الانتقال الى الأخ إذا لم يكن للامام السابق ولد ، وقال نتيجة لذلك بإمامة موسى بن جعفر بعد أخيه عبدالله ألا فطح ، ومنهم من تراجع عن القول بإمامة ألا فطح ، واستنتج من عدم وجود عقب له : انه لم يكن إماما وشطب اسمه من قائمة الأئمة .
وقد تكررت هذه المشكلة مرة أخرى عند وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ، مما أدى الى اختلاف الشيعة الامامية حول مسألة الخلف الى عدة فرق : فمنهم من جمع بين الأخوين وقال بإمامة جعفر بن علي بعد أخيه الحسن ، ومنهم من تراجع عن القول بإمامة العسكري وقال: ( ان القول بإمامة الحسن كان غلطا وخطأ ، وجب علينا الرجوع عنه الى إمامة جعفر ، وان الحسن قد توفي ولا عقب له فقد صح عندنا انه ادعى باطلا ، لأن الإمام بإجماعنا جميعا لا يموت الا عن خلف ظاهر معروف يوصي اليه ويقيمه مقامه بالامامة ، والإمامة لا ترجع في أخوين بعد الحسن والحسين .. فالامام لا محالة جعفر بوصية أبيه إليه) كما يقول النوبختي في :(فرق الشيعة) (12) والاشعري القمي في :(المقالات والفرق)(1/4)
ومنهم من أصرّ على إمامة الحسن والتمسك الشديد بذلك المبدأ أو الشعار الرافض للجمع بين الأخوين في الإمامة . وانقسم هؤلاء إلى عدة أقسام : فمنهم من قال بمهدوية العسكري وغيبته ، ومنهم من قال برجوعه إلى الحياة بعد الموت ، ومنهم من قال بالفترة ، ومنهم من احتار وتوقف ، وقال: ( لم يصح عندنا إن للحسن خلفا ، وخفي علينا أمره ، ونحن نتوقف ونتمسك بالأول حتى يتبين لنا الآخر ، كما أمرنا ،· انه إذا هلك الإمام ولم يعرف الذي بعده فتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر فنحن نأخذ بهذا ونلزمه ، ولا ننكر إمامة أبى محمد ولا موته ، ولا نقول انه رجع بعد الموت ، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ، فانه لا خلاف بين الشيعة :( انه لا تثبت إمامة أمام إلا بوصية أبيه إليه وصية ظاهرة ) .
ومنهم من وجد نفسه مضطرا لافتراض وجود ولد مخفي للإمام العسكري ، وقال انه الإمام من بعده ، وانه المهدي المنتظر ، وفسر عدم إشارة أبيه إليه في حياته وعدم وصيته إليه ، وعدم ظهوره من بعده ، وغيبته .. فسر كل ذلك بالتقية والخوف من الأعداء .
وكان الدافع الرئيسي لهذا القول هو التمسك الشديد بقانون الوراثة العمودية ، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين . وبالرغم من انه كان قولا ضعيفا ولم يجمع الشيعة الإمامة عليه في ذلك الوقت ، خلافا لما ادعى الطوسي بعد ذلك بمائتي عام ، فان المتكلمين
الذين التزموا به ، جعلوا منه حجر الزاوية في عملية الاستدلال على وجود (ابن ) للإمام الحسن العسكري . وقد نسجوا منه ومن بقية القضايا الفلسفية التي توجب العصمة في الإمام أو توجب النص في أهل البيت دليلا ً أسموه ب : ·الدليل العقلي ، أو الفلسفي .(1/5)
وقد استعرضنا في الفصل الأول أقوال المتكلمين والمؤرخين الذين استدلوا بالعقل على وجود وولادة :(محمد بن الحسن العسكري) وكان دليلهم يعتمد على نظرية العصمة والنص والوراثة العمودية في الإمامة . ولكن دليلهم في الحقيقة كان يعتمد فقط على المبدأ الأخير :(الوراثة العمودية ( ، وذلك لأن كثيرا من الشيعة الإمامة (الفطحية) الذين كانوا يتفقون معهم في الأيمان بالعصمة والنص ويؤمنون بإمامة الحسن العسكري أيضا ، لم يجدوا أنفسهم مضطرين للأيمان بوجود ولد له في السر ، خلافا للظاهر ، وآمنوا بدلا من ذلك بإمامة أخيه جعفر بن علي الهادي ، لأنهم لم يكونوا يؤمنون بقوة بضرورة الوراثة العمودية وعدم جواز إمامة الأخوين .
إذن .. فان · الدليل العقلي كان أشبه بالافتراض الفلسفي العاري عن الإثبات التاريخي . وكان ذلك يتجلى في استناد بعض المتكلمين على الحديث الرضوي القائل :( إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى ولده من بعده ) لإثبات وجود الولد للإمام العسكري ، كما ينقل الشيخ الطوسي في :(الغيبة) .
بالرغم من إمكانية الاستدلال بنفس الحديث لنقض إمامة العسكري ، كما فعل قسم من الشيعة الذين تراجعوا عن القول بإمامة العسكري ، واتخذوا من عدم إنجابه ولدا تستمر الإمامة فيه دليلا على عدم صحة إمامته ، كما تراجع الشيعة الموسوية ، في منتصف القرن الثاني ، عن القول بإمامة عبد الله ألا فطح ، لأنه لم ينجب ، وشطبوا اسمه من قائمة الأئمة .
واعتبر ذلك الفريق من الشيعة التراجع عن إمامة العسكري والقول بإمامة جعفر بعد أبيه الهادي مباشرة ، أهون من افتراض ولد موهوم للعسكري .(1/6)
والغريب إن السيد المرتضى علم الهدى يتهم الذين قالوا بوجود ولد للإمام عبد الله ألافطح ، باللجوء إلى اختراع شخصية وهمية اضطرارا من اجل الخروج من الحيرة والطريق المسدود (17) ، ولكنه يمارس نفس الشيء في عملية افتراض وجود ابن للحسن العسكري ، وذلك اضطرارا من اجل الخروج من الحيرة التي عصفت بالشيعة الإمامة في منتصف القرن الثالث الهجري.
ولا بد بعد ذلك من الإشارة إلى إن تسمية عملية الاستدلال النظري على وجود ابن للحسن العسكري ، بالدليل (العقلي) هو من باب التسامح والاستعارة ، وإلا فانه ابعد ما يكون عن الاستدلال العقلي ، إذ يعتمد على مجموعة مقولات نقلية ، وبعضها اخبار آحاد بحاجة إلى إثبات الدلالة والسند كمقولة (الوراثة العمودية وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين) .. ومن هنا فقد اعترف الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين) وقال:( إن القول بغيبة صاحب الزمان مبني على القول بإمامة آبائه ... وان هذا باب شرعي وليس بعقلي محض ) .
وهذا يعني إن المناقشة في أية مقدمة من مقدمات الدليل (العقلي) الطويلة كضرورة العصمة في الإمام ، وضرورة النص عليه من الله ، وثبوت الإمامة في أهل البيت وانحصارها في البيت الحسيني ، وكيفية انتقالها من أمام إلى أمام ، ودعاوى بقية الأئمة الذين ادعوا الإمامة والمهدوية كمحمد بن الحنفية وابنه أبى هاشم وزيد بن علي ومحمد بن عبد الله ذي النفس الزكية واسماعيل بن جعفر وأبنائه ، وعبدالله ألا فطح ومحمد بن علي الهادي .. وما إلى ذلك من التفاصيل الجزئية في نظرية الإمامة الإلهية ، من البداية إلى النهاية ، حتى وفاة الإمام الحسن العسكري .. إن المناقشة في اية مقدمة من تلك المقدمات تسد الطريق على الوصول إلى فرضية ( وجود ابن الحسن العسكري)..(1/7)
ومن هنا كان إثبات وجود (الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري) بصورة عقلية لسائر الناس أو سائر المسلمين ، أو سائر الفرق الشيعية ، أو حتى لسائر الفرق الإمامة التي لم توافق على مبدأ :( الوراثة العمودية) صعبا أو مستحيلا .. ولذلك كان علماء الكلام (الاثناعشريون) يمتنعون عن خوض النقاش مع سائر الناس حول إثبات شخصية (ابن الحسن) إلا بعد التسليم بالمقدمات النقلية الطويلة السابقة ، والإيمان بكل واحدة واحدة منها .
وقد قال عبدالرحمن بن قبة الرازي في الرد على علي بن احمد بن بشار :( لا نتكلم في فرع لم يثبت اصله ، وهذا الرجل (ابن الحسن) الذي تجحدون وجوده ، فانما يثبت له الحق بعد أبيه .. فلا معنى لترك النظر في حق أبيه والاشتغال بالنظر معكم في وجوده ، فإذا ثبت الحق لأبيه ، فهذا ثابت ضرورة عند ذلك بإقراركم ، وان بطل إن يكون الحق لأبيه فقد آل الأمر إلى ما تقولون ، وقد ابطلنا ) .
وقال السيد المرتضى :( إن الغيبة فرع لأصول إن صحت فالكلام في الغيبة اسهل شيء وأوضحه ، إذ هي متوقفة عليها ، وان كانت غير صحيحة فالكلام في الغيبة صعب غير ممكن ) .
ومع إن التسليم بإمامة الحسن العسكري لا يؤدي بالضرورة إلى التسليم بوجود ولد له ، فان القول بذلك مبني على ضرورة استمرار الإمامة الإلهية إلى يوم القيامة وبوجوب توارثها بصورة عمودية . وهو ليس إلا افتراض وهمي ، وظن بغير علم .
ولذا يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه :(المهدي : الثورة الكبرى) :·ان الاستدلال الفلسفي يمكن إن يثبت قضايا كلية عامة، ولكنه لا يستطيع إن يضع اصبعه على إنسان في الخارج ، ويثبت وجوده .(1/8)
الفصل الثاني
من الشورى
الى .. الحكم الوراثي
النظرية الكيسانية
يسجل المؤرخون الشيعة الامامية الأوائل(النوبختي والاشعري القمي والكشي) اول تطور ظهر في صفوف الشيعة في عهد الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب على يدي المدعو عبدالله بن سبأ الذي يقولون انه كان يهوديا وأسلم ، والذي يقول النوبختي عنه انه اول من شهر القول بفرض امامة علي ، وكان يقول في يهوديته بيوشع بن نون وصيا لموسى فقال كذلك في اسلامه في علي بعد رسول الله، وأظهر البراءة من اعدائه وكاشف مخالفيه واظهر الطعن على ابي بكر وعمر وعثمان والصحابة.?
وسواء كان عبدالله بن سبأ شخصية حقيقية أم اسطورية فان المؤرخين الشيعة يسجلون بوادر ظهور اول تطور في الفكر السياسي الشيعي اعتمادا على موضوع (الوصية) الروحية والشخصية ، الثابتة من الرسول الاكرم الى الامام علي ، واضفاء المعنى السياسي عليها ، وذلك قياسا على موضوع (الوصية) من النبي موسىالى يوشع بن نون وتوارث الكهانة في ابناء يوشع
ومع ان هذا القول كان ضعيفا ومحصورا في جماعة قليلة من الشيعة في عهد الامام علي ، وان الامام نفسه قد رفضه بشدة وزجر القائلين به ، الا ان ذلك التيار وجد في تولية معاوية لابنه يزيد من بعده ارضا خصبة للنمو والانتشار ، ولكن المشكلة الرئيسية التي واجهته هو عدم تبني الامام الحسن والحسين له واعتزال الامام علي بن الحسين عن السياسة ، مما دفع القائلين به الى الالتفاف حول محمد بن الحنفية باعتباره وصي اميرالمؤمنين ايضا ، خاصة بعد تصديه لقيادة الشيعة في اعقاب مقتل الامام الحسين ، وقد اندس السبئية في الحركة الكيسانية التي انطلقت للثأر من مقتل الامام الحسين بقيادة المختار بن عبيدة الثقفي .(1/1)
وقد ادعى المختار الذي كان يقود الشيعة في الكوفة: ان محمد بن الحنفية قد أمره بالثأر وقتل قتلة الحسين ، وانه الامام بعد أبيه ولم يكن المختار يكفر من تقدم عليا من الخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنه كان يكف¹ر اهل صفين وأهل الجمل .
ويذكر الاشعري القمي : ان صاحب شرطة المختار (كيسان) الذي حمله على الطلب بدم الحسين ودل¹ على قتلته ، وصاحب سره ومؤامراته والغالب على امره ، كان أشد¹ منه افراطا في القول والفعل والقتل ، وانه كان يقول : ان المختار وصي محمد بن الحنفية وعامله ، ويكفر من تقدم عليا كما يكفر اهل صفين واهل الجمل
وبالرغم من سقوط دولة المختار بعد فترة قصيرة ، الا ان الحركة الكيسانية التي التفت حول قائدها الروحي محمد بن الحنفية ، اخذت تقول ·ان الامامة في ابن الحنفية وذريته ولما حضرت الوفاة محمد بن الحنفية ولى ابنه عبدالله ابا هاشم من بعده وامره بطلب الخلافة ان وجد الى ذلك سبيلا ، وأعلم الشيعة بتوليته اياهم ، فأقام عبدالله بن محمد بن علي وهو امير الشيعة.
وقد اصبح ابو هاشم قائد الشيعة بصورة عامة في غياب اي منافس له في نهاية القرن الاول الهجري ، وقد تشرذمت الحركة الكيسانية من بعده الى عدة فرق يدعي كل منها انه اوصى اليه ، فقد ادعى العباسيون ان ابا هاشم اوصى الى محمد بن علي بن عبدالله ابن عباس ، وقال له : اليك الامر والطلب للخلافة بعدي فولاه واشهد له من الشيعة رجالا ..ثم مات ، فأقام محمد بن علي ودعوة الشيعة له حتى مات فلما حضرته الوفاة ول¹ى ابنه ابراهيم الامر، فاقام وهو امير الشيعة ، وصاحب الدعوة بعد ابيه..
وادعى الجناحيون انه اوصى الى عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب الذي ظهر في الكوفة سنة ? وأقام دولة امتدت الى فارس ، في اواخر ايام الدولة الاموية وادعى الحسنيون انه اوصى الى زعيمهم ?محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ، ذي النفس الزكية(1/2)
وعلى اي حال فقد تطور القول بالوصية من وصية النبي الأكرم العادية والشخصية الى الامام علي ، الى القول بالوصية السياسية منه الى ابنه محمد بن الحنفية ، ومن بعده الى ابنه ابي هاشم عبدالله ، وهو ما ادى الى اختلاف الفصائل الشيعية المتعددة فيما بينها وادعاء كل منها الوصية اليه وحصر الشرعية فيه.
نظرية الامام الباقر السياسية
وبينما كانت الحركات الشيعية المختلفة تتأهب للانقضاض على النظام الاموي ، والثأر لمقتل الحسين ، وتتصارع فيما بينها ، دخل المعترك السياسي والفكري الامام محمد بن علي الباقر بعد وفاة ابيه السجاد في سنة للهجرة ، وقد خاض معركة مريرة لانتزاع قيادة الشيعة من ابن عمه ابي هاشم وأتباعه ، وتثبيتها للفرع الفاطمي والبيت الحسيني ، واعتبر ادعاء الامامة دون حق افتراء على الله ، حتى وان كان المدعي من ولد علي بن ابي طالب.
وقد اعتمد الامام الباقر في الدعوة الى نفسه ، باعتباره اولى من الجميع ، للثأر من مقتل جده الامام الحسين ، وبالتالي قيادة الشيعة لتحقيق هذا الهدف ، فكان يقول ·ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا¨ وكان يقول ان آية · النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم ، واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله¨ قد نزلت في الامرة ، وان هذه الآية جرت في ولد الحسين من بعده ، فنحن اولى بالأمر ، وبرسول الله من المؤمنين والمهاجر ين ، وليس لولد جعفر فيها نصيب ولا لولد العباس ولا لأي بطن من بطون بني عبدالمطلب ، ولا حتى لولد الحسن بن علي « ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا¨(1/3)
وفي هذا المجال يقول ايضا · رحم الله عمي الحسن ..لقد غمد الحسن اربعين الف سيف حين اصيب اميرالمؤمنين ، وأسلمها الى معاوية ، ومحمد بن علي سبعين الف سيف قاتلة لو خطر عليهم خطر ما خرجوا منها حتى يموتوا جميعا ، وخرج الحسين صلوات الله عليه فعرض نفسه على الله في سبعين رجلا ..من أحق بدمه منا ؟..نحن والله أصحاب الأمر وفينا القائم ومنا السفاح والمنصور ،
وقد قال الله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا .نحن اولياء الحسين بن علي وعلى دينه
ولكن عبدالله بن الحسن بن الحسن كان ينكر حصر الامامة في البيت الحسيني ، ويقول مستنكرا: وكيف صارت الامامة في ولد الحسين دون الحسن وهما سيدا شباب اهل الجنة ؟ وهما في الفضل سواء ، الا ان للحسن على الحسين فضلا بالكبر ، وكان الواجب ان تكون الامامة اذن في الافضل ??
وفي محاولة من الامام الباقر لتجاوز هذا الخلاف وحسمه وتعزيز شرعية مطالبته بقيادة الشيعة ، كان يعتمد اضافة الى موضوع (ولاية الدم) على موضوع · امتلاكه لسلاح رسول الله¨ ووراثته من اجداده ، حيث كان يقول: · ان السلاح فينا كمثل التابوت في بني اسرائيل كان حيثما دار فثم الملك ، وحيث مادار السلاح فثم العلم¨ . ??
وكان يتساءل في معرض تفنيد الكيسانية: · ألا يقولون عند من كان سلاح رسول الله ؟..وما كان في سيفه من علامة كانت في جانبيه ان كانوا يعلمون؟¨
ويقول محمد بن الحسن الصفار œ وهو من اركان الامامية في القرن الثالث الهجري œ ان علي بن الحسين اختص ابنه محمد الباقر ، عند وفاته ، بسفط كان فيه سلاح رسول الله ، وان اخوته نازعوه عليه ، فقال لهم · والله ما لكم فيه شيء ، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه الي
ويقول الصفار ان الامام الباقر كان يشير الى احقية الامام علي بالخلافة استنادا الى وراثته لسلاح رسول الله ، وانه قد احتج بذلك على اهل الشورى(1/4)
و كان الامام الباقر يعتمد ايضا في طرح امامته على وراثة الكتب من ابيه . ويقول الكليني انه قد احتج على اخيه زيد بن علي الذي كان يعد للثورة والخروج ويحاول التصدي لقيادة الشيعة بموضوع العلم وسأله فيما اذا كان يعرف الحلال والحرام ، ونهاه عن التصدي للقيادة من دون الاطلاع الكافي على مسائل الحلال والحرام .
وقد دخل عليه ذات مرة اخوه زيد ، ومعه كتب من اهل الكوفة يدعونه فيها الى انفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج ، فقال له ابو جعفر : ـ هذه الكتب ابتداء منهم او جواب ما كتبت بهم اليه ودعوتهم اليه؟
..فقال: ـ بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله ولما يجدون في كتاب الله عزوجل من وجوب مودتنا وفرض طاعتنا ، ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء ، فقال له ابو جعفر : ان الطاعة مفروضة من الله عزوجل ، وسنة امضاها في الاولين وكذلك
يجريها في الآخرين ، والطاعة لواحد منا والمودة للجميع ، وامر الله يجري لاوليائه بحكم موصول وقضاء مفصول وحكم مقضي وقدر واجل مسمى لوقت معلوم ، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون ..انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا فلا تعجل ، فان الله لا يعجل لعجلة العباد ، ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك.. فغضب زيد عند ذلك..ثم قال :
ـ ليس الامام منا من جلس في بيته وارخى ستره وثبط عن الجهاد ، ولكن الامام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده ودفع عن رعيته وذب عن حريمه .. قال ابو جعفر :(1/5)
هل تعرف يا اخي من نفسك شيئا مما نسبتها اليه فتجيء عليه بشاهد من كتاب الله او حجة من رسول الله او تضرب به مثلا ؟..فان الله عروجل احل حلالا وحرم حراما ، وفرض فرائض وضرب امثالا وسن سننا ، ولم يجعل الإمام القائم بأمره شبهة فيما فرض له من الطاعة ان يسبقه بامر قبل محله أو يجاهد فيه قبل حلوله ، وقد قال الله عز وجل في الصيد ... فجعل لكل شيء اجلا ولكل اجل كتابا ، فان كنت على بينة من ربك و يقين من امرك وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلا فلا ترومن أمرا انت منه في شك وشبهة ، ولا تتعاطَ زوال ملك لم تنقض اكله ولم ينقطع مداه ، ولم يبلغ الكتاب اجله ، فلو قد بلغ مداه وانقطع اكله وبلغ الكتاب اجله لانقطع الفصل وتتابع النظام و لأعقب الله التابع والمتبوع الذل والصغار ، اعوذ بالله من امام ضل عن وقته فكان التابع فيه اعلم من المتبوع ، أتريد يااخي ان تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات الله وعصوا رسوله؟ ..اعيذك بالله يا اخي ان تكون غدا المصلوب بالكناسة . ?ثم ارفضت عيناه بالدموع وسالت دموعه ، ثم قال: الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وافشا سرنا ونسبنا الى غير جدنا ، وقال فينا مالم نقله في انفسنا.. ?
ان هذا الحوار يرويه الكليني في (الكافي) في القرن الرابع الهجري ، ومن المحتمل ان يكون موضوعا في وقت متأخر من قبل الامامية ضد الزيدية، ولكنه يعبر عن احتجاج الامام الباقر على اخيه زيد بالعلم، قبل نشوء نظرية النص او الوصية في الامامة
اما زيد بن علي فقد كان يقول · ليس الامام منا من جلس في بيته و ارخى ستره وثبط عن الجهاد ، ولكن الامام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده ودفع عن رعيته وذب عن حريمه.(1/6)
اذن فان نظرية الامام الباقر السياسية كانت تقوم بصورة رئيسية على اعمدة العلم وامتلاك سلاح رسول الله وحق وراثة المظلوم اكثر مما كانت تقوم على النص الصريح او الوصية الواضحة ، حيث لم تكن نظرية (الإمامة) قد تبلورت لدى الشيعة في بداية القرن الثاني الهجري الى مرحلة الارتكاز على موضوع النص او الوصية « وكان عامة الشيعة ذلك الحين يجهلون ·حق¨ الامام الباقر في الامامة ولا يكادون يميزون بينه وبين سائر اقطاب البيوت الحسنية والحسينية والعلوية والهاشمية ، الذين كانوا يتصدون لقيادة الشيعة ويتنافسون عليها. وقد نجح الامام محمد الباقر في تكوين قطاع خاص من الشيعة يؤمن بالولاء له ، ولكنه سرعان ما تشرذم بعد وفاته ، حيث ذهب فريق منهم الى اتباع اخيه الامام زيد بن علي ، الذي اعلن الثورة ضد الخليفة الاموي هشام بن عبدالملك اعتمادا على نظرية (اولي الارحام )قال :· انـ ارحام رسول الله اولى بالملك والامرة ¨ و دعا الى نصرة اهل البيت ، بصورة عامة ، وقال: ·انا ندعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين واعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء بين اهله سواء ورد المظالم
واقفال المجمر ونصرنا اهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا.
وذهب فريق آخر ، بقيادة المغيرة بن سعيد ، الى القول بامامة محمد بن عبدالله بن الحسن ذي النفس الزكية الذي كان يعد نفسه للخروج ضد الحكم الاموي ، بينما ذهب فريق ثالث الى اتباع الامام جعفر بن محمد الصادق
نظرية الامام الصادق السياسية(1/7)
وقد استطاع الامام الصادق ان يثبت امامته وجدارته في قيادة الشيعة بما كان يتمتع به من خلق رفيع وعلم غزير ومحتد كريم . ولم يكن بحاجة ماسة للوصية او الاشارة اليه لكي يتبوأ ذلك المقام العظيم الذي احتله في المجتمع والتاريخ . ولا توجد في التراث الشيعي احاديث كثيرة عن موضوع النص عليه او الوصية له من ابيه في الامامة ، ما عدا رواية تتحدث عن وصية عادية جدا ، يرويها الامام الصادق بنفسه حيث يقول:· ان ابي استودعني على ما هناك فلما حضرته الوفاة قال : ادع لي شهودا . فدعوت له اربعة من قريش فيهم نافع مولى عبدالله بن عمر فقال : اكتب :هذا ما اوصى به يعقوب بنيه يابني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون . واوصى محمد بن على الى جعفر بن محمد ، وامره ان يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة وان يعممه بعمامته ، وان يربع قبره ويرفعه اربع اصابع وان يحل عنه اطماره عند دفنه . ثم قال للشهود : انصرفوا رحمكم الله. فقلت له : ياابتِ ما كان في هذا بأن يُشهد عليه .فقال : يابني كرهت ان تغلب ، وان يقال لم يوصِ اليه فاردت ان تكون لك الحجة¨. ?
وتشير بعض الروايات التي ينقلها الصفار والكليني والمفيد عن الامام الصادق انه كان يخوض معركة الامامة مع منافسيه عمه زيد وابن عمه ذي النفس الزكية اعتمادا على موضوع الوصية من ابيه هذه ، اضافة الى موضوع امتلاكه لسلاح رسول الله وخاتمه ودرعه ولواءه ، ولكن المشكلة كانت تكمن في ان محمد بن عبدالله كان يدعي ايضا امتلاكه لسلاح رسول الله « وهذا ما دفع الامام الصادق الى تكذيبه بشدة ، والقول ·والله لقد كذب فوالله ما عنده ومارآه بواحدة من عينيه قط. ولا رآه عند ابيه . الا ان يكون رآه عند علي بن الحسين .?(1/8)
ويؤكد الامام الصادق في رواية اخرى ينقلها الكليني في (الكافي(:ان عندي الجفر الابيض ..وعندي الجفر الاحمر ، الذي فيه السلاح . وذلك انما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل ، وان بني الحسن ليعرفون هذا كما يعرفون الليل انه ليل والنهار انه نهار ..ولكنهم يحملهم الحسد وطلب الدنيا على الجحود والانكار . ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم . ?
ويقول في رواية اخرى:· كذبوا والله . قد كان لرسول الله سيفان وفي احدهما علامة في ميمنته فليخبروا بعلامتهما واسمائهما ان كانوا صادقين .ولكن لا ازري ابن عمي . اسم احدهما : الرسوم . والآخر مخذم¨
ولكن المشكلة التي كانت تواجه الامام الصادق هي عدم استطاعته اظهار السلاح للملأ العام مخافة السلطان ، ولذلك فقد طرح دليلا بديلا عن موضوع السلاح هو (الوصية) حيث قال لأحد اصحابه :عبدالاعلى الذي سأله عن هذه الاشكالية ·لا يكون في ستر الا وله حجة ظاهرة¨ . واشار الى الوصية السابقة كدليل متمم على الامام
ويظهر من بعض الروايات التي يذكرها الصفار والمفيد : ان موضوع السلاح كان في تلك الفترة أهم موضوع حاسم في معركة الامامة بين محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن وبين الامام الصادق ، حيث يقول الامام الصادق ·مثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني اسرائيل . كانت بنو اسرائيل في اي بيت وجد التابوت على ابوابهم اوتوا النبوة . ومن صار اليه السلاح منا اوتي الامامة . ولقد
لبس ابي درع رسول الله فخطت عليه الارض خطيطا .ولبستها انا وكانت .وقائمنا من اذا لبسها ملأها ان شاء الله¨(1/9)
وتشير رواية اخرى اضافة الى السلاح الى دور العلم في تحديد شخصية الامام . يقول الامام الصادق فيها موجها كلامه الى الشيعة : ولو انكم اذا سألوكم (بنو الحسن) واجبتموهم واحتجوكم بالامر كان احب الي ان تقولوا لهم :انا لسنا كما يبلغكم . ولكنا قوم نطلب هذا العلم عند من هو اهله ومن صاحبه .. وهذا الجفر عند من هو ومن هو صاحبه . فان يكن عندكم فانا نبايعكم وان يكن عند غيركم فانا نطلبه حتى نعلم
ويفهم من هذه الرواية ان بني الحسن كانوا يدعون العلم وحيازة الجفر . كما كانوا يدعون حيازة سلاح رسول الله وكانوا ايضا يدعون حيازة ?مصحف فاطمة وذلك كدليل على شرعيتهم واحقيتهم بالامامة . ومع غموض محتوى ?مصحف فاطمة فان الامام الصادق ينفي وجوده لدى بني الحسن ، و يقول ان في الجفر الذي يذكرونه لما يسوؤهم لانهم لا يقولون الحق . .والحق فيه فليخرجوا قضايا علي وفرائضه ان كانوا صادقين . وسلوهم عن الخالات والعمات وليخرجوا مصحف فاطمة فان فيه وصية فاطمة . ومعه سلاح رسول الله . ان الله عزوجل يقول ?فأتوا بكتاب من قبل هذا او اثارة من علم ان كنتم صادقين
ويتحدث الامام الصادق عن الميزة التي تؤهله للامامة فيقول : · اما والله عندنا مالا نحتاج الى الناس وان الناس ليحتاجون الينا . ان عندنا الصحيفة : سبعون ذراعا بخط علي واملاء رسول الله ..فيها من كل حلال وحرام
ويشرح الامام الصادق العلم الذي كان لديه فيقول انه : · انه وراثة من رسول الله ومن علي بن ابي طالب . علم يستغني عن الناس ولايستغني الناس عنه(1/10)
ولم تكن قضية الوصية او السلاح او العلم لتشكل دليلا حاسما في صراع الامام الصادق مع عمه وابن عمه على قيادة الشيعة ، لأنهم كانوا يدعون العلم والسلاح كذلك ، ولم يكن يعتقد هو بأن ذلك يشكل حجة شرعية كافية ، وانما مؤشرا مساعدا على دعواه في الامامة ، حيث لم يكن الامام الصادق يطرح نفسه كإمام مفترض الطاعة من الله ، وانما كزعيم من زعماء اهل البيت ، ولذلك فقد
استنكر قول بعض الشيعة في الكوفة ·انه امام مفترض الطاعة من الله . وهذا ما تقوله نفس الرواية السابقة ، الواردة على لسان سعيد السمان وسليمان بن خالد : ان الامام الصادق كان جالسا في ثقيفة له اذ استأذن عليه اناس من اهل الكوفة فاذن لهم فدخلوا عليه فقالوا يا ابا عبدالله ان اناسا يأتوننا يزعمون ان فيكم اهل البيت امام مفترض الطاعة ؟..فقال لا . ما اعرف ذلك في اهل بيتي . قالوا يا ابا عبدالله انهم اصحاب تشمير واصحاب خلوة واصحاب ورع . وهم يزعمون : انك انت هو ؟.. فقال : هم أعلم وما قالوا . ما امرتهم بهذا(1/11)
ونتيجة لعدم تمتع الامام الصادق بميزة (إلهية) خاصة ، وعدم معرفة الشيعة في ذلك الزمان بأي نص الهي حوله بالامامة ، فقد نمت الحركة الزيدية بقيادة عمه زيد بن علي الذي فجر ثورة في الكوفة ،والتف الشيعة من بعده حول ابنه يحيى بن زيد الذي قام بثورة اخرى ضد النظام الاموي عام .. وبعد فشل هاتين الثورتين بثلاثة اعوام تفجرت ثورة شيعية اخرى واسعة عام ? للهجرة ، بقيادة احد الطالبيين هو عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر الطيار .وهي الثورة التي عصفت بجماهير الشيعة في مختلف مدن العراق وامتدت الى الماهين وهمذان وقومس واصبهان والري وفارس ـ وقد كان شعار الثورة : (إلى الرضا من آل محمد) وهي دعوة عموم الشيعة في ذلك الحين ، وقد اتخذ عبدالله ابن معاوية من اصبهان مركزا لدعوته وحركته ومناطق نفوذه ، وبعث الى الهاشميين علويين وعباسيين يدعوهم اليه ليساهموا معه في ادارة البلاد التي سيطر عليها فقدم عليه منهم عدد كبير
و بعد فشل هذه الثورة ذهب الشيعة الى القول بامامة محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ذي النفس الزكية الذي كان يعد نفسه كمهدي منتظر ، و قد بايعه عامة الشيعة بما فيهم العباسيون والسفاح والمنصور
نظرية الامامة العباسية(1/12)
و لكن العباسيين الذين انتصروا سنة وجدوا انفسهم في حرج شديد ، فقاموا بالانسحاب من الفكر الشيعي القديم وتعديل نظريتهم السياسية ، وذلك باعادة صياغة مصدر الشرعية لنظامهم الوليد استنادا على اولوية جدهم العباس بن عبدالمطلب في وراثة الرسول من ابن عمه علي بن ابي طالب و قد خطب ابو العباس السفاح الذي اصبح اول خليفة عباسي بويع له في الكوفة في ?ربيع الاول سنة ،ـ خطبة وصف فيها بني العباس بأنهم حماة الإسلام واهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له ، ثم أشار إلى قرابة العباسيين من الرسول وان الله خصهم برحم رسول الله وقرابته ثم تلا عدة آيات قرآنية كريمة هي انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا و قل لا اسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى و وانذر عشيرتك الاقربين و ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى و اعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى .. ثم انتقد رأي السبئية الذين كانوا يميلون الى رأي الكيسانية فقال : وزعمت السبئية الضلال ان غيرنا احق بالرياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم
وقد اشار داود بن علي عم الخليفة ابي العباس في خطبة البيعة لابن اخيه ، الى منبع الشرعية الجديد للدولة العباسية وهي الوراثة من العباس ، وقال : ·ان المسلمين قد اصبحوا ذمة الله ورسوله والعباس(1/13)
ويذكر المسعودي في ( مروج الذهب) ·ان الراوندية وهم شيعة ولد العباس من اهل خراسان وغيرهم كانوا يقولون : ان رسول الله قبض ، وان احق الناس بالامامة بعده العباس ابن عبدالمطلب ، لانه عمه ووارثه وعصمته لقول الله عزرجل واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله وان الناس اغتصبوه حقه ، وظلموه امره ، الى ان رده الله اليهم ،وذلك بالرغم من انه لم يدع الخلافة ، وتبرأوا من ابي بكر وعمر واجازوا بيعة علي بن ابي طالب باجازة العباس لها ، وذلك لقوله : ياابن اخي هلم الى ابايعك فلا يختلف عليك اثنان ، ولقول داود بن علي على منبر الكوفة يوم بويع لابي العباس :ـ يا أهل الكوفة لم يقم فيكم امام بعد رسول الله إلا علي بن أبى طالب ، وهذا القائم فيكم ، يعني اباالعباس السفاح .
وقد اكد هذا التعديل النظري ، الخليفة العباسي المهدي محمد بن ابي جعفر المنصور ، عندما اثبت الامامة بعد رسول الله للعباس بن عبدالمطلب ، ودعا الراوندية اليها واخذ بيعتهم عليها ، وقال: · كان العباس عمه ووراثه واولى الناس به ، وان ابا بكر وعمر وعثمان وعلي وكل من دخل في الخلافة وادعى الامامة بعد رسول الله غاصبون متوثبون بغير حق ¨
وعقد المهدي الامامة والخلافة على اصحابه و اوليائه والامة للعباس بن عبدالمطلب بعد رسول الله، ثم عقدها بعد العباس لعبدالله بن العباس ، ثم عقدها بعده لعلي بن عبدالله المعروف بالسجاد ، ثم عقدها بعده لمحمد بن علي بن عبدالله ، ثم عقدها لابراهيم بن محمد المسمى بالامام ، ثم عقدها لاخيه عبدالله بن محمد السفاح ثم عقدها لاخيه عبدالله المنصور والد المهدي .(1/14)
وقال الراوندية تبعا لذلك : · ان رسول الله قبض ، وان احق الناس بالامامة بعده العباس بن عبدالمطلب ، لأنه عمه ووارثه وعصبته لقول الله عزوجل ?واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض . وان الناس اغتصبوه حقه وظلموه امره الى ان رده الله اليهم . وقالوا: لا امامة في النساء ولا يكون لفاطمة ارث في الامامة ولا يرث بنو العم وبنو البنت مع العم شيئا فيكون لعلي ولولد فاطمة ارث مع العباس في الامامة ، فصار العباس وبنوه اولى بها من جميع الناس¨
وهكذا طور الراوندية نظرية سياسية تقوم على الوراثة والحق النَسَبي وألغوا الشورى ، حيث قالوا: ·ان الاختيار من الامة للامام باطل خطأ ، وانها لا تجوز الا بعقد وعهد من الماضي الى من يرتضيه ويستخلف بعده¨. وقد صنف الجاحظ كتابا بهذا المعنى واسماه كتاب امامة ولد العباس يحتج فيه لهذا المذهب
المعارضة الحسنية
وبالطبع فقد رفض محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية الذي كان زعيم الشيعة الأكبر في ذلك الحين النظرية العباسية الجديدة ، كما رفض البيعة للسفاح والمنصور ، وكتب رسالة مطولة الى الاخير جاء فيها : ·فان الحق حقنا ، وانما ادعيتم هذا الامر بنا ، خرجتم له بشيعتنا ، وحضيتم بفضلنا ، وان ابانا عليا كان الوصي وكان الامام فكيف ورثتم ولايته وولده احياء؟..¨
وكتب المنصور ردا مطولا على رسالته ، جاء فيها · واما قولك انكم بنو رسول الله ?فان الله تعالى يقول في كتابه وما كان محمد ابا أحد من رجالكم . ولكنكم بنو ابنته وانها لقرابة قريبة ، ولكنها لا تجوز الميراث ، ولا ترث الولاية
ثم ظهر ذو النفس الزكية في المدينة في اول رجب سنة ? و اعلن انه احق ابناء المهاجرين في تولي الخلافة ، واشار الى ان جميع الامصار الاسلامية قد بايعته ، وقد حضي ببيعة اشراف بني هاشم(1/15)
ويروي الاصفهاني في (مقاتل الطالبيين) ان الصادق سمح لابنيه موسى وعبدالله بالانضمام الى ثورة محمد بن عبدالله في المدينة وان محمدا اراد اعفاءهما من المشاركة فيها ولكن جعفرا أصر¹ على ذلك كتعبير عن تأييده لحركة ذي النفس الزكية
النظرية الشيعية العامة
لقد كانت قضية الثورة ضد الامويين تجمع بين مختلف فصائل الحركة الشيعية في اوائل القرن الثاني الهجري ، ولم يكن عامة الشيعة يميزون كثيرا بين أئمة اهل البيت ، ولذا فقد كانوا ينخرطون في اية حركة يقوم بها اي واحد منهم ، وهذا سالم بن ابي حفص ، الذي كان اول الدعاة الى امامة الصادق بعد وفاة ابيه ، ينضم الى حركة زيد مع مجموعة من اصحابه هم : كثير النوى ابو اسماعيل او كثير ابن اسماعيل بن نافع النواء ، والحكم بن عيينة ، وسلمة بن كهيل ، وابي المقدام ثابت الحداد ، وقد كان سليمان بن جرير يقول: ان من شهر سيفه من اولاد الحسن والحسين وكان عالما زاهدا شجاعا فهو الامام . ـو ان عليا هو افضل الناس بعد الرسول وأولاهم بالامامة ، ولكنه سلم الى الخلفاء الراشدين الثلاثة الاوائل الامر لهم راضيا ، وترك حقه راغبا ، فنحن راضون بما رضي ، مسلمون بما سلم و قد اثبت امامة ابي بكر وعمر ، باختيار الامة حقا اجتهاديا ، وكان يقول : ان الامامة شورى فيما بين الخلق ... و ان الامة اخطأت في البيعة لهما مع وجود علي خطأً لا يبلغ درجة الفسق وذلك الخطأ خطأ اجتهادي ، غير انه طعن في عثمان للاحداث التي احدثها ، واكفره بذلك ، واكفر عائشة والزبير وطلحة لاقدامهم على قتال علي(1/16)
و كان ابو الجارود زياد بن ابي زياد الهمذاني الكوفي يوالي الامام الباقر في البداية ثم انتقل الى حزب اخيه زيد بن علي ، مع مجموعة كبيرة من اصحابه ، وبالرغم من انه كان متطرفا ضد الصحابة الذين يتهمهم بعدم التعرف على الامام علي لانتخابه ، فانه كان ينفي وجود نص صريح على الامام علي بالامامة ، ويقول : انه كان بالوصف دون التسمية « وبناء على ذلك كان الجارودية يبنون نظريتهم في الامامة على اساس التصدي والخروج (الثورة) وليس على اساس النص ، ويؤمنون باشتراك ولد الحسن والحسين في الامامة ، و يرفضون تخصيص الحق بالامامة في ابناء الحسين فقط ، وينكرون وجود اية نصوص حول ذلك .
وقالوا نتيجة لذلك : ان امامة علي بن ابي طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس واظهر امره ، ثم كان الحسين بعده اماما عند روجه ، ثم زيد بن علي ..ثم من دعا الى طاعة الله من آل محمد فهو امام ، وقد رفض الجارودية وعامة الزيدية حصر الامامة في اولاد الحسين ، واعتبروا من يقول ذلك خارجا عن الدين ، وقالوا انها (شورى ) في اولادهما جميعا ، وان الامامة صارت بعد الحسين باختيار اهل البيت واجماعهم
على رجل منهم ورضاهم به ، وخروجه بالسيف وقد تطرفوا جدا ضد ائمة الخط الحسيني واتهموا كل من ادعى منهم الامامة وهو قاعد في بيته مرخى عليه ستره بالكفر والشرك ، وكل من اتبعه في ذلك وكل من قال بامامته و رغم ان الجارودية كانوا اشد فرقة تطرفا في القول بالنص ،ـ في بداية القرن الثاني الهجري ـ، الا انهم لم يكونوا يقولون بقيام الامامة بالنص الى يوم القيامة ، بل كانوا يحصرون النص في الامام علي والحسن والحسين ، ويقولون : ان الامامة بعد ذلك هي شورى في ذرية الامام علي الى يوم القيامة ، فمن خرج منهم مستحقا للامامة فهو الامام .(1/17)
و يؤيد هذا قول قسم من الشيعة في ذلك الوقت بانقطاع الامامة بعد الحسين وان الأئمة انما كانوا ثلاثة مسم¹ين باسمائهم ستخلفهم رسول الله واوصى اليهم وجعلهم حججا على الناس وقواما بعده واحدا بعد واحد ، وعدم الايمان بامامة احد بعدهم(1/18)
الفصل الثالث
بوادر الفكر الامامي
بعد التطور الكيساني الذي حدث في صفوف الشيعة في اواخر القرن الاول الهجري ، والذي كان يقوم على نظرية الوصية من النبي الاكرم للامام علي ، وينقلها من بعده الى الحسن والحسين ثم الى محمد بن الحنفية ، وينقلها بعد ذلك الى ابنه ابي هاشم عبدالله ، ذلك التطور الذي ادى الى تشعب الحركة الشيعية الى عدة فرق في نهاية القرن الاول ، حيث اخذ كل فريق يدعي الوصية عن ابي هاشم ، مما ادى الى حدوث صراع داخلي كبير في صفوف (اهل البيت) الذين انقسموا الى عباسية وعلوية وطالبية وفاطمية وحسنية وحسينية وزيدية وجعفرية .. بعد هذا التطور ، ونتيجة لما آل اليه الشيعة من تشرذم ، حدث تطور جديد آخر في صفوف فريق من الشيعة ، في بدايات القرن الثاني الهجري ، تمثل في حصر الامامة في البيت الحسيني وتعيينه في واحد منهم هو الأكبر من ولد الامام السابق واثبات صفة العصمة والتعيين له من الله .
الفكر السياسي الاموي
وربما كان ادعاء العصمة للامام من اهل البيت رد فعل من بعض الشيعة على قيام الامويين بتعيين ابنائهم من بعدهم بدعوى الحرص على مصلحة الامة ، كما قال معاوية بن ابي سفيان عند تعيين ابنه يزيد خليفة من بعده، وادعاء العصمة لأنفسهم ، والقول الصلاحيات المطلقة للخلفاء ، ومطالبة المسلمين بالطاعة الشاملة التامة لهم حتى في معصية الله تعالى
? قال معوية عندما اراد ان يأخذ البيعة لابنه يزيد · اني ارهب ان ادع امة محمد كالضأن لا راعي لها. ?
ومن المعروف ان الامويين الذين قاموا بتحويل نظام الشورى الاسلامي الى نظام وراثي كانوا يبنون نظريتهم السياسية على عقيدة الجبر والمشيئة الالهية ، · ويقولون ان الله اختارهم للخلافة وآتاهم الملك وانهم يحكمون بقدرته ، ويتصرفون بارادته ، واحاطوا خلافتهم بهالة من القداسة وعظموا امر الخلافة وفخموا الخليفة وحرموه على النار «« واسبغوا عليهم غير قليل من الصفات والالقاب(1/1)
الدينية«« لأنهم كانوا في نظرهم يمثلون المشيئة الالهية ¨
وقد تجلت هذه العقيدة في قول معاوية بن ابي سفيان عندما دخل الكوفة بعد صلحه مع الامام الحسن : · انما قاتلتكم لأتأمر عليكم فقد اعطاني الله ذلك وانتم كارهون¨ وقوله لوفد عراقي جاءه الى الشام : · الارض لله ، وانا خليفة الله فما اخذت فلي وما تركته للناس فبالفضل مني .. انه لملك آتانا الله اياه¨
وقد قال زياد بن ابيه ، والي معاوية على العراق ، في خطبته البتراء لأهل البصرة · ايها الناس انا اصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ونذوده عنكم بفيء الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا
وقال الضحاك بن قيس الفهري حين خالف اهل العراق دعوة معاوية لعقد العهد لابنه يزيد سنة ست واربعين: · ما للحسن ولذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في ارضه ؟
وقال يزيد بن معاوية في تأبينه لابيه : · ان معاوية بن ابي سفيان كان عبدا من عبيد الله اكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له ..وقد قلدنا الله عزوجل ما كان اليه¨
وقال رباح بن زنباع الجذامي لأهل المدينة حين ابطأوا عن بيعة يزيد: · انا لا ندعوكم الى لخم وجذام وكلب ، ولكنا ندعوكم الى قريش ، ومن جعل الله له هذا الامر واختصه به وهو يزيد بن معاوية
وقال البلاذري في انساب الاشراف لما اراد عبدالملك بن مروان الشخوص الى الشام خطب الناس في الكوفة فعظم عليهم حق السلطان وقال لهم :· هو ظل الله في الارض ¨ وحثهم على الطاعة والجماعة(1/2)
وقد قال الحجاج بن يوسف لاهل العراق : · ان امير المؤمنين عبد الملك بن مروان استخلفه الله في بلاده وارتضاه اماما على عباده¨ وكان الحجاج اول من استخدم كلمة (المعصوم) في وصف عبد الملك بن مروان ، وذلك في رسالة له يقول فيها · لعبد الله عبدالملك امير المؤمنين وخليفة رب العالمين المؤيد بالولاية المعصوم من خطل القول وزلل الفعل بكفالة الله الواجبة لذوي امره¨
? ??
و قد قال مروان بن محمد في رسالة تهنئة الى الوليد بن يزيد سنة ? · بارك الله لأمير المؤمنين فيما صار اليه من ولاية عباده ووراثة بلاده ، وكان امير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى آزره باكرم مناطق الخلافة فقام بما اراه الله له اهلا ونهض مستقلا بما حمل منها ، مثبتة ولايته في سابق الزبر بالاجل المسمى وخصه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم فقلده طوقها ورمى اليه بأزمة الخلافة وعصم الامور(1/3)
ويذكر المؤرخون رسالة طويلة للوليد بن يزيد في البيعة لولديه بولاية العهد يبسط فيها نظرية الامويين في الخلافة . جاء فيها : · استخلف الله خلفاءه على منهاج نبوته حين قبض نبيه...فتتابع خلفاء الله على ما اورثهم الله من امر انبيائه واستخلفهم عليه منه لا تعرض لهم احد الا صرعه الله ، ولا يفارق جماعتهم احد الا اهلكه الله ولا يستخف بولايتهم ويتهم قضاء الله فيهم احد الا امكنهم الله منه وسلطهم عليه وجعله نكالا وموعظة لغيره ، وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي امر بلزومها والاخذ بها والاثرة لها ...فبالخلافة ابقى الله من ابقى في الارض من عباده واليها صيره... فمن اخذ بحظه منها كان لله وليا ولأمره مطيعا ولرشده مصيبا ، وبعاجل الخير وآجله مخصوصا ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها اضاع نصيبه وعصى ربه وخسر دنياه وآخرته ، وكان ممن غلبت عليه الشقوة ... والطاعة رأس هذا الامر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه وعصمته وقوامه بعد كلمة الاخلاص التي ميز الله بها بين العباد ، وبترك الطاعة والاضاعة لها والخروج منها والادبار عنها والتبدل بها اهلك الله من ضل و عتا وعنى وغلا وفارق مناهج البر والتقوى ... فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم وألم¹ بكم من الامور ... وابتغوا القربة الى الله بها فانكم قد رأيتم مواقع الله لاهلها في اعلائه اياهم وافلاجه حجتهم ودفعه باطل من حاد¹هم وناوأهم وساماهم واراد اطفاء نور الله الذي معهم¨ ...(1/4)
ثم تحدث عن نظام ولاية العهد ووراثة الخلافة ، فقال : · امر هذا العهد من تمام الاسلام وكمال ما استوجب الله على اهله من المنن العظام ، ومما جعل الله فيه لمن اجراه على يديه وقضى به على لسانه ووفقه لمن ولاه هذا الامر عنده افضل الذخر وعند المسلمين احسن الاثر ... فاحمدوا الله ربكم الرؤف بكم ...على الذي دلكم عليه من هذا العهد الذي جعله له سكنا ومعولا تطمئنون اليه وتستظلون في افنائه .. ثم ان امير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الامور اشد اهتماما وعناية منه بهذا العهد لعلمه بمنزلته من امر المسلمين ، ومااراهم الله فيه من الامور التي يغتبطون فيها ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده ، ويستقضي له ولهم فيه الهه ووليه الذي بيده الحكم ... فرأى امير المؤمنين ان يعهد لكم عهدا بعد عهد تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من قبلكم في...علم موضع الذي الامر الذي جعله الله لاهله عصمة ونجاة وصلاحا وحياة ...فولى امير المؤمنين ذلك الحكم بن امير المؤمنين وعثمان بن امير المؤمنين من بعده ، وهما ممن يرجو امير المؤمنين ان يكون الله خلقه لذلك وصاغه واكمل فيه احسن مناقبه من كان يوليه اياه في وفاء الرأي وصحة الدين وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الامور ... فبايعوا للحكم ابن امير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده على السمع والطاعة ...فهو الامر الذي استبطأتموه واستسرعتم اليه وحمدتم الله على امضائه اياه وقضائه لكم ... نسأل الله الذي لا اله الا هو ... ان يبارك لامير المؤمنين ولكم في الذي قضى به لي لسانه من ذلك وقدر منه ، وان يجعل عاقبته عافية وسرورا وغبطة فان ذلك بيده ولا يملكه الا هو
وكان مبنى الامويين في مطالبة المسلمين بطاعة خلفائهم طاعة مطلقة هو قول الله تعالى · واطيعوا الله واطيعوا الروسول واولي الامر منكم ¨ وتفسير الطاعة تفسيرا مطلقا في المعروف والمنكر «
رد الفعل الشيعي(1/5)
وهو ما احدث ردة فعل عند الشيعة الذين كانوا يشكلون المعارضة الرئيسية للأمويين ، فقالوا اولا بأولوية اهل البيت في الحكم والخلافة ، ثم قال بعضهم بتعيين الله لهم ، وقال بعض آخر بعصمتهم « وقد التقت هذه المفاهيم التي كانت تتبلور في مطلع القرن الثاني الهجري مع حالة التمزق الذي كان يعصف بالحركة الشيعية والصراع الداخلي على القيادة بين اجنحة اهل البيت المختلفة ، فادى
كل ذلك الى نشوء نظرية (الامامة الإلهية) لأهل البيت ، القائمة على العصمة والنص والتعيين عند فريق منه
وكان على رأس القائلين بهذه النظرية ?
المتكلم المعروف ابو جعفر الاحول محمد بن علي النعمان الملقب بمؤمن الطاق الذي الف عدة كتب في هذا الموضوع هي كتاب الامامة وكتاب المعرفة و كتاب الرد على المعتزلة في امامة المفضول
علي بن اسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار ابو الحسن الميثمي ، الذي قال عنه الطوسي في : الفهرست انه اول من تكلم على مذهب الامامية وصنف كتابا في الامامة وله الاستحقاق والكامل في نفس الموضوع
هشام بن سالم الجواليقي
قيس الماصر
حمران بن اعين
ابوبصير ليث بن البختري المرادي الاسدي
هشام بن الحكم الكندي توفي سنة الذي كتب عدة كتب هي الامامة و الرد على هشام بن سالم الجواليقي و الرد على شيطان الطاق و كتاب التدبير في الامامة و امامة المفضول و الوصية والرد على منكريها و ?كتاب اختلاف الناس في الامامة(و المجالس في الامامة
وقد قال عنه الشيخ الطوسي في الفهرست انه كان ممن فتق الكلام في الامامة ، وهذ¹ب المذهب بالنظر ، وكان حاذقا بصناعة الكلام . و قال عنه العلامة الحلي في الخلاصة : انه اول شخص فتق الحديث في الامامة والنص والوصية وهذب المذهب بالنظر.(1/6)
محمد بن الخليل المعروف بالسكاك ، صاحب هشام بن الحكم وكان متكلما ، وخالف هشام في اشياء الا في اصل الامامة ، له كتب منها كتاب المعرفةو كتاب الاستطاعة و كتاب الامامة( و كتاب : الرد على من أبى وجوب الامامة بالنص
وقد قال هؤلاء المتكلمون · ان الامامة مفروضة من الله ، وهي في اهل البيت ، وانها متوارثة في ذرية الحسين بصورة عمودية الى يوم القيامة ، وانها تثبت بالنص اوالوصية او المعاجز الغيبية ¨ وقد فوجيء زيد بن علي بهذه النظرية عندما ذهب الى الكوفة ليعد للثورة ضد الحاكم الاموي هشام بن الحكم سنة ? و ذلك عندما استدعى مؤمن الطاق لكي يلتحق بحركته الثورية ، ولكنه رفض ذلك لأن زيدا · ليس بامام معين من قبل الله¨
يقول مؤمن الطاق · ان زيد بن علي بعث الي وهو مستخف فأتيته فقال لي : يا ابا جعفر ما تقول ان طرقك طارق منا : أتخرج معه ؟ ، قال فقلت له : ـ ان كان اباك او اخاك خرجت معه « قال فقال لي : ـ فأنا اريد ان اخرج اجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي ، قال قلت : لا .. ما افعل جعلت فداك . قال فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال قلت له: انما هي نفس واحدة ، فان كان لله في الارض حجة فالمتخلف عنك ناجٍ والخارج معك هالك ، وان لا تكن لله حجة فالمتخلف عنك والخارج معك سواء . قال فقال لي: يا ابا جعفر كنت اجلس مع ابي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي ولم يشفق علي من حر النار اذ اخبرك بالدين ولم يخبرني به ؟ فقلت له : جعلت فداك ..من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك ، خاف عليك ان لا تقبله فتدخل النار ، واخبرني انا فان قبلت نجوت ، وان لم اقبل لم يبالِ أن ادخل النار ، كما كتم يعقوب الرؤيا عن بنيه(1/7)
ويروي الكشي في : رجاله رواية مشابهة ولكنه يقول ان المناظرة جرت في حضور الامام الصادق ، وان زيد بن علي قد ابتدر مؤمن الطاق بالسؤال : يا محمد بلغني انك تزعم ان في آل محمد اماما مفترض الطاعة؟ فأجابه بذلك الجواب ، وقال له: كره ان يخبرك ابوك فتكفر ، ولا يكون فيك الشفاعة .
ولعل اول واقوى الحوارات والمناظرات الفلسفية التي نشبت حول ضرورة عصمة الامام هي التي قام باجرائها هشام بن الحكم ، والتي ينقلها لنا الصدوق والمفيد ، وهي كما يلي:
يقول المفيد في الارشاد ان هشام بن الحكم اجرى مناظرة مع رجل شامي في حضرة الامام الصادق على حرف جبل في طرف الحرم ، وان الرجل الشامي
قال لهشام: ياغلام سلني في امامة هذا يعني ابا عبدالله œ فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له : اخبرني ..أربك انظر لخلقه ام هم انفسهم ؟ .. فقال الشامي: بل ربي انظر لخلقه ، قال : ففعل لهم في دينهم ماذا؟ ..قال : كلفهم و أقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم ، ازاح في ذلك عللهم ، فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم ؟ قال الشامي : هو رسول الله ، قال له هشام:
فبعد رسول الله من ؟ ..قال :
الكتاب والسنة ، قال له هشام :
فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه حتى يرفع عنا
الاختلاف ويمكنا من الاتفاق ؟..
قال الشامي :
نعم ، قال له هشام :
فلم اختلفنا نحن وانت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم ان الرأي
طريق الدين ، وانت تقر بان الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟.فسكت
الشامي كالمفكر فقال له ابو عبدالله :
مالك لا تتكلم ؟.. .قال
ان قلت انا ما اختلفنا كابرت ، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان
عنا الاختلاف ابطلت لأنهما يحتملان الوجوه ، ولكن لي عليه مثل ذلك ، فقال
له ابو عبدالله :
سله تجده مليئا ، فقال الشامي لهشام :
من انظر للخلق ربهم ام انفسهم ؟.. فقال هشام :
ربهم انظر لهم ، فقال الشامي :(1/8)
فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ويرفع اختلافهم ويبين لهم حقهم
من باطلهم ؟..قال:
نعم ، قال الشامي :
من هو؟ ..قال هشام :
اما في ابتداء الشريعة فرسول الله ، واما بعد النبي فغيره ،
قال الشامي :
ومن هو غير النبي القائم مقامه في حجته ؟..قال هشام :
في وقتناهذا ؟ ام قبله؟ ..قال :
بل في وقتنا هذا ، قال :
هذا الجالس ، يعني ابا عبدالله ، الذي تشد اليه الرحال ، ويخبرنا
باخبار السماء وراثة عن اب عن جد .
قال الشامي :
وكيف لي بعلم ذلك ؟.. قال هشام :
سله عما بدالك ،قال الشامي :
قطعت عذري ، فعلي السؤال ، فقال له ابو عبدالله :
انا اكفيك المسألة يا شامي : اخبرك عن مسيرك وعن سفرك ..خرجت
يوم كذا ..وكان طريقك كذا .. ومررت على كذا.. ومر¹ بك كذا .. فأقبل الشامي
كلما وصف له شيئا من امره يقول صدقت والله
وهناك رواية اخرى يذكرها الصدوق حول مناظرة طويلة جرت في وقت
متأخر بين هشام وضرار ، و عبدالله بن يزيد الاباضي، في مجلس الوزير العباسي
يحيى بن خالد البرمكي «
قال ضرار لهشام : كيف تعقد الامامة ؟
فقال هشام: كما عقد الله النبوة.
قال ضرار فاذن هو نبي ؟
قال لا ، لان النبوة يعقدها اهل السماء ، والامامة يعقدها اهل
الارض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الامامة بالنبي ، والعقدان جميعا باذن
الله . فقال ضرار: ما الدليل على ذلك ؟..(1/9)
فقال هشام : الاضطرار في هذا .. اذ لا يخلو الكلام في هذا من احد ثلاثة وجوه : اما ان يكون الله رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها . او ان الناس قد استحالوا بعد الرسول في مثل حد الرسول في العلم ،حتى لا يحتاج احد الى احد فيكونوا كلهم قد استغنوا واصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه . يبقى الوجه الثالث ..وهو انهم يحتاجون الى غيرهم ، لأنه لا بد من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف معصوم من الذنوب مبرأ من الخطايا يحتاج اليه ولا يحتاج الى احد .
قال : فما الدليل عليه؟..
قال هشام: ثمان دلالات ، اربع في نعت نسبه واربع في نعت نفسه ، فاما الاربع التي في نعت نسبه ، فانه يكون معروف الجنس معروف القبيلة معروف البيت ، وان يكون من صاحب الملة والدعوة اليه اشارة . فلم يُرَ جنس من هذا الخلق اشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب الملة والدعوة ...ولو جاز ان تكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولجاز ان يطلب في اجناس من هذا الخلق من العجم وغيرهم ، ولكان من حيث اراد الله عزوجل ان يكون صلاح يكون فساد ، ولا يجوز هذا في حكمة الله جل جلاله وعدله: ان يفرض على الناس فريضة لا توجد ، فلما لم يجز ذلك لم يجز ان يكون الا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، فلم يجز ان يكون من هذا الجنس الا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز ان يكون من هذا الجنس الا في هذه القبيلة لم يجز ان يكون من هذه القبيلة الا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر اهل هذا البيت وتشاجروا في الامامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز الا ان يكون من صاحب الملة والدعوة اشارة اليه بعينه واسمه ونسبه كيلا يطمع فيها غيره ..(1/10)
واما الاربع التي في نعت نفسه : فأن يكون اعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه واحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وان يكون معصوما من الذنوب كلها ، وان يكون اشجع الناس ، وان يكون اسخى الناس .
فقال عبدالله بن يزيد الاباضي: من اين قلت : انه اعلم الناس ؟
قال هشام: لأنه ان لم يكن عالما بجميع حدود الله واحكامه وشرائعه وسننه لم يؤمن عليه ان يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، ومن وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله عزوجل حدا على ما امر به فيكون من حيث اراد الله صلاحا يقع فسادا .
قال: فمن اين قلت : انه معصوم من الذنوب؟
قال:لأنه ان لم يكن معصوما من الذنوب دخل في الخطأ فلا يؤمن ان يكتم على نفسه ويكتم على حميمه وقريبه ولا يحتج الله بمثل هذا على خلقه .
قال:فمن اين قلت : انه اشجع الناس ؟
قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون اليه في الحروب ، وقال الله عزوجل: ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله فان لم يكن شجاعا فيبوء بغضب الله ، ولا يجوز ان يكون من يبوء بغضب من الله عزوجل حجة على خلقه .
قال: فمن اين قلت: انه اسخي الناس ؟
قال : لأنه خازن المسلمين فان لم يكن سخيا تاقت نفسه الى اموالهم فأخذها فكان خائنا ولا يجوز ان يحتج الله على خلقه بخائن
وينقل الشيخ الصدوق في أماليه كلمة لهشام بن الحكم عن فلسفة العصمة ، عن محمد بن ابي عمير قال : ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي اياه شيئا احسن من هذا الكلام في صفة عصمة الامام ، فاني سألته يوما عن الامام :
أهو معصوم ؟ ..قال :
نعم ، قلت له
فما صفة العصمة فيه ، وبأي شيء تعرف ؟ ..قال :(1/11)
ان جميع الذنوب لها اربعة اوجه لا خامس لها : الحرص ، والحسد ، والغضب ، والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز ان يكون حريصا على هذه الدنيا ، وهي تحت خاتمه لأنه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص ؟ ولا يجوز ان يكون حسودا ، لان الانسان انما يحسد من هو فوقه وليس فوقه احد فكيف يحسد من هو دونه ؟.. ولا يجوز ان يغضب لشيء من امور الدنيا الا ان يكون غضبه لله عزوجل ،
فان الله قد فرض عليه اقامة الحدود ، وان لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله عزوجل ولا يجوز ان يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الاخرة لان الله عزوجل حبب اليه الآخرة كما حبب اليه الدنيا فهل رأيت احدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح ؟ وطعاما طيبا لطعام مر؟ وثوبا لينا لثوب خشن ؟ ونعمة باقية لدنيا زائلة فانية ؟
الامامة الالهية
وتقول النظرية الامامية ان الامامة أمر الهي ، وان تعيين الامام الجديد يتم بتدخل من الله ، ولا دخل لإرادة الامام السابق بذلك« يقول عمرو بن الاشعث انه سمع الامام الصادق يقول · لعلكم ترون ان هذا الامر الى رجل منا يضعه حيث يشاء لا والله انه لعهد من رسول الله مسمى رجل فرجل حتى ينتهي الامر الى صاحبه
ويقول اسماعيل بن عمار انه سأل ابا الحسن الاول الكاظم عن الامامة هل هي فرض من الله على الامام ان يوصي ويعهد قبل ان يخرج من الدنيا؟ فقال نعم ، فقال فريضة من الله؟.. قال نعم ?
ويقول يحيى بن مالك انه سأل الامام الرضا عن قول الله عزوجل ·ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها¨؟ فقال الامام يؤدي الى الامام ثم قال يا يحيى، انه والله ليس منه ، انما هو أمر من الله(1/12)
هذه هي أهم الفقرات الكلامية الواصلة الينا من الجيل الامامي الأول الذي فتق الكلام في الامامة والعصمة والنص والوصية ، كمايقول علماء الرجال الشيعة الامامية الاثناعشرية ، كالكشي والنجاشي والصدوق والمفيد والطوسي و الحلي ، وقد طورها متكلمون آخرون كالفضل بن شاذان بن الخليل الازدي النيسابوري الذي توفي في اواسط القرن الثالث الهجري و الف عدة كتب هي مسائل في الامامة و كتاب الامامة الكبير و الخصال في الامامة وفضل اميرالمؤمنين وكتاب القائم والراوندي ، صاحب كتاب الامامة و ثبيت بن محمد ابو محمد العسكري ، صاحب ابي عيسى الوراق ، وهو كما يعرفه الحلي : متكلم حاذق و ان الكتاب الذي يعزى الى ابي عيسى الوراق له . والفضل بن عبدالرحمن ، و ابو سهل اسماعيل بن علي النوبختي توفي سنة للهجرة وابو جعفر عبدالرحمن بن قبة توفي في اواسط القرن الرابع ، صاحب كتاب الانصاف والانتصاف في الامامة والشريف المرتضى توفي سنة للهجرة ، صاحب كتاب الشافي في الامامة وغيرها من الكتب
فلسفة العصمة
وكانت فلسفة العصمة تقوم على مفهوم الاطلاق في الطاعة لأولي الأمر وعدم جواز او امكانية النسبية فيها ، وذلك مثل الرد على الامام و رفض طاعته في المعاصي والمنكرات لو امر بها ، والاخذ على يده عند ظهور فسقه وانحرافه . وهو المفهوم الذي كان الحكام الامويون يدأبون على ترويجه ومطالبة المسلمين بطاعتهم طاعة مطلقة في الخير والشر ، على اساسه . وهو ما اوقع فلاسفة
الشيعة والمتكلمين في شبهة التناقض بين ضرورة طاعة الله الذي يأمر بطاعة اولى الامر في الاية الكريمة · يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ¨ وضرورة طاعة الحكام بصورة مطلقة حتى في المعاصي والمحرمات .(1/13)
ومن هنا قال اولئك المتكلمون الامامية بضرورة ان يكون الامام )مطلق الامام ( معصوما من الله حتى لا يأمر بمعصية ولا يقع المسلمون في حرج التناقض بين طاعته في ذلك وعصيان الله ، او معصيته وعصيان الله الذي يأمر بطاعته
يقول الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي · مما يدل على ان الامام يجب ان يكون معصوما : ما قد ثبت من كونه مقتدى به ، ألا ترى انه انما سمي اماماً لذلك؟..لأن الامام هو المقتدى به ، ومن ذلك قيل امام الصلاة لأنه يقتدى به ... وايضا فقد اجمع لمسلمون على ان الامام مقتدى به في جميع الشريعة ، وان اختلفوا في كيفيته ، فاذا ثبت انه مقتدى به في جميع الشريعة وجب ان يكون معصوما .. لأنه لو كان غير معصوم لم نأمن في بعض افعاله مما يدعونا اليه من قتل النفوس واخذ الاموال وما جرى مجراهما ان يكون قبيحا ، ويجب علينا موافقته من حيث الاقتداء به ، ولا يجوز من الحكيم ان يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، واذا لم يجز ذلك عليه تعالى ، دل¹ على ان من اوجب علينا الاقتداء به مأمون منه فعل القبيح ، ولا يكون كذلك الا المعصوم¨ .
ويرفض الشيخ الطوسي مفهوم النسبية في الطاعة ، ويقول · فان قيل : فلم انكرتم ان يكون الاقتداء بالامام انما يجب فيما نعلمه حسنا ، فأما ما نعلمه قبيحا او نشك في حاله فلا يجب الاقتداء فيه؟.. قيل له:هذا يسقط معنى الاقتداء جملة ويزيله عن وجهه ... وللزم ايضا : ان يكون الامام نفسه مقتديا برعيته من هذا الوجه ، وفساد ما ادى الى ما ذكرناه ظاهر
و يقول الشيخ المفيد في النكت الاعتقادية · ان الدليل على ان الامام يجب ان يكون معصوما هو انه لو جاز عليه فعل الخطيئة ،فان وجب الانكار عليه سقط محله من القلوب فلا يتبع ، والغرض من نصبه اتباعه فينتقض الغرض ، وان لم يجب الانكار عليه سقط وجوب النهي عن المنكر وهو باطل . وانه حافظ للشرع فلو لم يكن معصوما لم تؤمن منه الزيادة والنقصان ¨(1/14)
· وقد ذهبت الامامية الى ان الائمة كالانبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر الى الموت عمدا وسهوا ، لأنهم حفظة الشرع والقوامون به ، حالهم في ذلك كحال النبي ، ولأن الحاجة الى الامام انما هي للانتصاف من المظلوم عن الظالم ورفع الفساد وحسم مادة الفتن ، وان الامام لطف يمنع القاهر من التعدي ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرمات ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق ويعزر من يستحق التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد وافتقر الى امام آخر وتسلسل
ضرورة وجود العالم الرباني المفسر للقرآن
وبالاضافة الى قضية الطاعة وضرورة ان يكون الوالي او صاحب الامر معصوما ، نظر بعض المتكلمين الى فلسفة العصمة من زاوية اخرى وهي ضرورة الحاجة الى مفسر للقرآن الكريم تحت دعوى عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن والاستفادة منه مباشرة . وقد روى الكليني في الكافي اقدم حديث عن هذه الفلسفة ، عن منصور بن حازم الذي يقول :
قلت للناس : تعلمون ان رسول الله كان هو الحجة من الله على خلقه؟..قالوا: بلى ، قلت: فحين مضى رسول الله من كان الحجة على خلقه؟.. فقالوا: القرآن ، فنظرت في القرآن فاذا هو يخاصم به المرجيء والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت ان القرآن لا يكون حجة الا بقي¹م ، فما قال فيه من شيء كان حقا ، فقلت لهم: من قي¹م القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم ، قلت : كله؟..قالوا: لا ، فلم اجد احدا يقال انه يعرف ذلك كله الا عليا ، فاشهد ان عليا كان قيم القرآن(1/15)
ثم جاء بقية الفلاسفة والمتكلمين فاضافوا على ذلك ووسعوا الحديث في هذا الاطار . وقال السيد المرتضى في الشافي ·لا بد من ان يكون الإمام عالما بجميع الاحكام حتى لا يشذ عليه شيء منها ، والا لزم ذلك ان يكون قد كلف القيام بما لا سبيل له اليه ، ويحل ذلك محل تكليف مالا يطاق «« اما الذي يدل على وجوب كون الامام عالما بجميع الاحكام ، فهو انه قد ثبت : ان الامام امام في سائر الدين ومتول للحكم في جميعه جليله ودقيقه ظاهره وغامضه ، وليس يجوز ان لا يكون عالما بجميع الدين والاحكام
وقال الشيخ الطوسي · قد ثبت انه ليس كل ما تمس الحاجة اليه من الشريعة عليه حجة قاطعة من تواتر او اجماع او ما جرى مجراهما ، بل الادلة في كثير من ذلك كالمتكافئة ..واذا ثبت ذلك وكنا مكلفين بعلم الشريعة والعمل بها وجب ان يكون لنا مفزع نصل من جهته الى ما اختلف اقوال الامة فيه ، وهو الامام الذي نقوله
و قال · انه قد ثبت ان الامام امام في سائر الدين ومتولي الحكم في جميعه : جليله ودقيقه وظاهره وغامضه ، وليس يجوز ان لا يكون عالما بجميع الاحكام ، وهذه صفته ، لأن المتقرر عند العقلاء قبح استكفاء الامر وتوليته من لا يعلمه ، وان كان لمن ولوه واستكفوه سبيل الى علمه بما ولي ومضطلعا به ، ولا معتبر بامكان تعلمه وكونه مخلى بينه وبين طريق العلم ، لأن ذلك وان كان حاصلا فلا تخرج ولايته من ان تكون قبيحة اذا كان فاقدا للعلم بما فوض اليه(1/16)
واشترط الشيخ الطوسي العلم المسبق عند الامام بكل شيء ورفض اللجوء الى طريق الاجتهاد في المستقبل وعند الحاجة ، فقال: · فان قيل : لمَ لا يجوز ان يكون الامام غير عالم بجميع ما اليه الحكم فيه ، غير انه متى احتاج الى الحكم رجع الى الاجتهاد ، او الى اخبار الآحاد ، او الى استفتاء العلماء ، كما يرجع العامي اليهم ، او فرضه التوقف فيما لا يعلمه الى ان يتبين بعد ذلك بأحد طرق العلم ؟..وكل ذلك يجوز ورود التعبد به. قيل له: هذا كلام من يظن انا انما قب¹حنا ولاية الامام وهو لا يعلم جميع الاحكام ، من حيث لم
يكن له طريق الى العلم ، وقد بي¹نا ان وجود الطريق في هذا الموضع كعدمه ، اذا كان العلم بما اسند الى المولى مفقودا ، وانه لا بد من قبح هذه الولاية مع فقد العلم ، ولا حاجة بنا الى الكلام الى ما عد¹وه من وجوه طرق العلم التي يجوز ان يرجع الامام اليها ، لأنه لو ثبت في جميعها انه طريق الى العلم وموصل الى المعرفة بالحكم لم يخل بما اعتمدناه ، فكيف واكثر ما اورده السائل لا يوصل عندنا الى العلم؟.. أما القياس واخبار الاحاد والاجتهاد فقد بينا فيما تقدم : انه لا يجوز التعبد به . واما رجوع العامي الى العالم فعندنا انه لا يجوز ان يقلد غيره ، بل يلزمه طلب العلم من الجهة التي تؤدي الى العلم ، ولو اجزنا ذلك لم يشبه امره امر الامام ، لأنه انما جاز ذلك من حيث لم يكن حاكما فيه ، بل لزمه تقليد العالم والعمل به . ونحن انما قبحنا تقديم من ليس بعالم من حيث كان حاكما في جميع الاشياء فلن نجوز ان يكون غير عالم ببعضها ، وكذلك لا نجوز ـ ايضا ـ ان نجعل للحكام ان ترجع الى العلماء ثم تحكم به ، كما يجو¹زه مخالفونا ، للعلة التي قدمناها سواء
الفاضل والمفضول(1/17)
والى جانب العصمة والعلم الرباني الذي رأى الفكر الامامي ضرورة توافرهما في الامام الذي يجب على المسلمين اتباعه ، فقد رأى ايضا ضرورة توفر شروط اخرى في الامام ، وهي وجوب ان يكون افضل المسلمين ، وعدم جواز امامة المفضول ، وان يكون اشجع الناس واسخاهم « يقول الشيخ الطوسي · ان الامام لا بد ان يكون افضل من كل واحد من رعيته ، بمعنى انه يجب ان يكون افضل منهم بمعنى انه اكثر ثوابا عند الله تعالى ، وانه يجب ان يكون افضل منهم في الظاهر في جميع ما هو امام فيه
ويقول · ان الامام يجب ان يكون اشجع من رعيته وما يتبع ذلك من صفاته ـ يدل على ذلك انه قد ثبت انه رئيس عليهم فيما يتعلق بجهاد الاعداء..وذلك متعلق بالشجاعة ، فيجب ان يكون اقواهم حالا في ذلك ، لأن من شأن الرئيس ان يكون افضل من رعيته فيما كان رئيسا فيه ، لما قدمناه من قبح تقديم المفضول على الفاضل فيما كان افضل منه . واما كونه ممن لا يد فوق يده ولا رئيس عليه ، فالمرجع فيه إلى عرف الشرع ، لأن اسم (الإمام) فيه لا يطلق إلا على رئيس لا رئاسة عليه .. واما كونه اعقلهم فالمرجع فيه إلى جودة الرأي وقوة العلم بالسياسة والتدبير
ويقول السيد المرتضى · الذي يدل على ان الامام يجب ان يكون افضل من رعيته في الثواب والعلوم وسائر ضروب الفضل المتعلقة بالدين ، الداخلة تحت ما كان رئيسا فيه ، ما نعلمه وكل العقلاء من قبح جعل المفضول في شيء بعينه اماما ورئيسا للفاضل فيه .. واذا ثبت ان الامام لنا في جميع الدين وعلومه واحكامه ، وجب ان يكون افضل منا في جميع ذلك
من العصمة .. الى النص(1/18)
وبعد تقرير ضرورة اتصاف الامام ، مطلق الامام ، بالعصمة و بالافضلية في العلم والشجاعة والسخاء ، وعدم جواز امامة غير المعصوم او الجاهل او المفضول ، وهو ما لا يوجد طريق للتعرف عليه سوى ارشاد الله تعالى اليه ، يقوم الفكر الامامي باسقاط الشورى طريقا لاختيار الامام ، و يحل محلها النص او الوصية او المعاجز الغيبية التي تميز الامام المختار من قبل الله تعالى عن غيره من البشر.
يقول الشيخ المفيد ·ان الاماميجب ان يكون عالما بجميع ما يحتاج اليه الامة في الاحكام وان يكون افضل من كافة رعيته في الدين عند الله. واذا ثبتت هذه الاصول وجب إبانة الامام من رعيته بالنص على عينه والعلم المعجز الخارق للعادات ، اذ لا طريق الى المعرفة بمن تجتمع له هذه الصفات الا بنص الصادق عن الله تعالى او المعجزة
و يقول السيد المرتضى · اذا ثبت وجوب كون الامام عالما بكل الاحكام استحال اختياره ووجب النص عليه ، لأن من يقوم باختياره من الامة لا يعلم جميع الاحكام فكيف يصح ان يختار من هذه صفته؟¨ ويقول · واذا ثبت ان الامام لنا في جميع الدين وعلومه واحكامه ، وجب ان يكون افضل منا في جميع ذلك ، وفي ثبوت كونه افضل واكثر ثوابا وجوب النص عليه ، لأن ذلك مما لا طريق الى معرفته بالاختيار(1/19)
ويقول · اعلم ان كلامنا في وجوب النص ، وانه لا بد منه ولا يقوم غيره في الامامة مقامه ، تقدم ، وذلك كافٍ في فساد الاختيار ، لأن كل شيء اوجب النص بعينه فهو مبطل للاختيار ، فلا معنى لتكلف كلام مستقل في افساد الاختيار . واعلم ان الذي نعتمده في افساد اختيار الامام هو بيان صفاته التي لا دليل للمختارين عليها ولا يمكن اصابتها بالنظر والاجتهاد ، ويختص علام الغيوب تعالى بها كالعصمة والفضل في الثواب والعلم على جميع الامة ، لأنه لا شبهة في ان هذه الصفات لا تستدرك بالاختيار ولا يوقف عليها الا بالنص ...وبينا ايضا انه لا يمكن ان يقال بصحة الاختيار مع اعتبار هذه الصفات ..وقلنا: ان ذلك تكليف قبيح من حيث كان مكلفا لما لا دلالة عليه ولا امارة تميز الواجب من غيره(1/20)
الفصل الرابع
اركان نظرية الامامة
ينتقل الفكر الامامي من القول بضرورة العصمة في الامام ، مطلق الامام ، الى ضرورة النص عليه من الله كطريق وحيد لمعرفته ، فيبطل قانون الشورى والانتخاب ، ثم يحصر الامامة في الائمة المعصومين من اهل البيت ، بدءا من الامام علي بن ابي طالب والحسن والحسين ثم الأئمة من ذرية الحسين · الذين نصبهم الله تعالى قادة لخلقه الى يوم القيامة¨ ويستدل الفكر الامامي على ·عصمة¨ اهل البيت بالآية الكريمة التي تقول انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا الاحزاب وذلك بتفسير معنى الارادة بالارادة التكوينية لا التشريعية المؤكدة ، حيث يستحيل ان تتخلف ارادة الله باذهاب الرجس عنهم ، وقد قال تعالى :انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون . واخراج نساء النبي من صفوف اهل البيت ، وحصرها في الامام علي وفاطمة وابنائهما ?
وقد نقل لنا المؤرخ الامامي سعد بن عبدالله القمي الاشعري صورة دقيقة عن هذا الفكر في كتابه :المقالات والفرق ، يقول(1/1)
ان علي بن ابي طالب امام ومفروض الطاعة من الله ورسوله بعد رسول الله ص بوجوب على الناس القبول منه ، والاخذ منه ، لا يجوز لهم غيره ، من اطاعه اطاع الله ومن عصاه عصى الله ، لما اقامه رسول الله علما لهم واوجب امامته وموالاته وجعله اولى بهم منهم بانفسهم ، والذي وضع عنده من العلم ما يحتاج اليه الناس من الدين والحلال والحرام وجميع منافع دينهم ودنياهم ومضارها وجميع العلوم كلها جليلها ودقيقها ، واستودعه ذلك كله ، واستحفظه اياه . وانه استحق الامامة ومقام النبي لعصمته وطهارة مولده وسبقه وعلمه وشجاعته وجهاده وسخائه وزهده وعدالته في رعيته . وان النبي ص نص عليه واشار اليه باسمه ونسبه وعينه قلد الامة امامته وأقامه ونصبه لهم علما وعقد له عليهم امرة المؤمنين وجعله وصيه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة ، واعلمهم ان منزلته منه منزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعده واذ جعله نظير نفسه في حياته وانه اولى بهم بعده كما كان هو ص اولى بهم منهم بانفسهم اذ جعله في المباهلة كنفسه بقول الله وانفسنا وانفسكم ولقول رسول الله : لبني وليعة :لتنتهن يابني ليعة او لابعثن اليكم رجلا كنفسي فمقام النبي لا يصلح من بعده الا لمن هو كنفسه ، والامامة من اجل الامور بعد الرسالة ، اذ هي فرض من اجل فرائض الله ، فاذا لا يقوم الفرائض ولا يقبل الا بامام عدل . وانه لا بد مع ذلك من ان تكون تلك الامامة دائمة جارية في عقبه الى يوم القيامة تكون في ولده من ولد فاطمة بنت رسول الله ثم في ولد ولده منها يقوم مقامه ابدا رجل منهم معصوم من الذنوب طاهر من العيوب تقي نقي مبرأ من الافات والعاهات في الدين والنسب والمولد يؤمن منه العمد والخطأ والزلل منصوص عليه من الامام الذي قبله مشار اليه بعينه واسمه..وان الامامة جارية في عقبه على هذا السبيل ما اتصل امر الله ونهيه ولزم العباد لتكليف.(1/2)
وقد حاول الاماميون الذين نشأوا في بدايات القرن الثاني الهجري ، ان يسحبوا نظريتهم الى الوراء ، ويقرأوا التاريخ الشيعي قراءة جديدة على ضوء نظريتهم القائمة على النص والغاء الفكر الشيعي السياسي السابق القائم على الشورى ، بالطبع فقد نسبوا فكرهم الى اهل البيت وادعوا استقاءه منهم ، ولذا فقد قال الشيخ المفيد : اتفقت الشيعة العلوية على ان الامامة كانت
عند وفاة النبي لأميرالمؤمنين علي بن ابي طالب ، وانها كانت للحسن بن علي من بعده وللحسين بن علي بعد اخيه ، وانها بعد الحسين في ولد فاطمة عليهم السلام لا يخرج منهم الى غيرهم ولا يستحقها سواهم ، ولا تصلح الا لهم فهم اهلها دون من عداهم حتى يرث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين ...وانها لا تصلح الا لولد الحسين ولا يستحقها غيرهم ، لا تخرج عنهم الى غيرهم ممن عداهم حتى تقوم الساعة
النص بدلا من الوصية
وخلافا للفكر الكيساني الذي اعتمد على وصية النبي للامام علي ، فقد اعتمد الفكر الامامي بصورة رئيسية على موضوع الغدير ورأى فيه دلالة قوية على ارادة المعنى السياسي ، والنص بالخلافة . يقول الشيخ المفيد في كتاب الافصاح في امامة علي بن ابي طالب ان الرسول اعطى للامام علي في غدير خم حقيقة الولاية وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة ، والامر لهم والنهي والتدبير والسياسة والرياسة ..فحكم له بالفضل على الجماعة والنصرة والوزارة والخلافة في حياته وبعد وفاته والامامة له .
واضافة الى ذلك فقد استشهدوا ايضا بنصوص اخرى حول فضل الامام الامام علي بن ابي طالب ، واخرى صريحة بالخلافة والامامة ولكن من طرق الشيعة . ولكنها كانت موضع تشكيك واتهام بالجعل والاختلاق ، او التأويل القسري المخالف للظاهر وارادة المعنى السياسي وقد اعترف السيد المرتضى في كتابه لشافي في الامامة بان اهم حديث نبوي حول النص بالامامة وهو ديث غدير خم ، هو نص خفي وليس بنص جلي ، اذا حذفنا منه الزيادات المضافة(1/3)
و بالرغم من نفي المتكلمين الامامية لامامة بعض من ادعوا الامامة كمحمد بن الحنفية وعبدالله الافطح بعدم وجود نصوص صريحة عليهم بذلك ، وقول الشيخ المفيد بعدم جواز اثبات الامامة لمن لا نص عليه ولا دليل على امامته ، وذلك لأن العصمة لا تعرف الا بالنص كما يقول الشيخ المفيد والطوسي ، بالرغم من ذلك .. فان مؤرخي الامامية لم يستطيعوا اثبات اي نص حول امامة الائمة الاخرين، وخاصة الامام علي بن الحسين ، الذي يشكل حلقة الوصل بين الامام الحسين ، وبين بقية الائمة الى يوم القيامة . ولذلك فقد ذهب منظروا فلسفة الامامة الالهية الى الاعتماد على وسائل اخرى غير النص في اثبات الامامة للأئمة الآخرين ، وهي الوصية والعقل والمعاجز وما الى ذلك.
العقل بدلا من النص
ومن هنا ، ونظرا لضعف النصوص التي يرويها الامامية حول النص بالخلافة على اهل البيت ، فقد اعتمد المتكلمون الاوائل ، بالدرجة الاولى ، على العقل في تشييد نظريتهم . يقول الشيخ المفيد: فان قال قائل من اهل الخلاف ان النصوص التي يروونها الامامية موضوعة ، والاخبار بها آحاد ، والا فليذكروا طرقها او يدلوا على صحتها بما يزيل الشك فيها والارتياب .. قيل له ليس يضير الامامية في مذهبها الذي وصفناه عدم التواتر من اخبار النصوص على ائمتهم ، ولا يمنع من الحجة لهم بها كونها اخبار آحاد ، لما اقترن اليها من الدلائل العقلية فيما سميناه وشرحناه من وجوب الامامة وصفات الائمة ، لأنها الادلة العقلية لو كانت باطلة على ما يتوهم الخصوم لبطل بذلك دلائل العقول الموجبة لورود النصوص على الائمة بما بيناه(1/4)
ويقول السيد المرتضى في : الشافي لنا في الاستدلال على امامة بقية الائمة طريقان الرجوع الى النقل الظاهر بين الشيعة الوارد مورد الحجة بنص النبي مجملا مفصلا ، وما ورد عن اميرالمؤمنين ونص كل واحد على من بعده . واما الطريقة الثانية فهو ان يعتمد في امامة كل واحد منهم على طريقة الاعتبار والبناء على الاصول المتقررة في العقول من غير رجوع الى النقل
وكذلك يقول ابو الفتح محمد بن علي الجراجكي في كتابه الاستنصار في النص على الائمة الاطهار اعلم ايدك الله ان الله جل اسمه قد يسر لعلماء الشيعة من وجوه الادلة العقلية والسمعية على صحة امامة اهل البيت ما يثبت الحجة على مخالفيهم ..فالعقليات دالة على الاصل من وجوب الحاجة الى الامام في كل عصر وكونه على صفات معلومة كالعصمة مثلا ليتميز بها عن جميع الامة ليست موجودة في غير من اشار اليه ، والسمعيات منها القرآن الدال في الجملة على امامتهم وفضلهم على الانام ??
المعجزة بدلا من العقل
واذا كانت نظرية الامامة تقدم بعض النصوص حول الامام علي بن ابي طالب فانها تعترف بعدم وجود النصوص على عدد من الأئمة الآخرين ، ولذا فانها تستعين بالوصايا العادية ، فتتخذ منها دليلا بديلا عن النص ، ولكنها تفتقر بعض الاحيان حتى الى الوصية العادية ، فتقول بنظرية المعاجز وقيامها مقام النصوص
وكان هشام بن الحكم قد بنى قوله بامامة الصادق على دعوى علم الامام بالغيب ،و قال للرجل الشامي الذي جادله حول الامامة بمنى ان المعجز هو طريق التعرف على الامام والتأكد من صدق دعواه ولم يطرح موضوع النص اساسا . ولو كان امر النص معتمدا عند المتكلمين الامامية الاوائل لطرح هشام دليل النص على امامة الامام الصادق ، او اشار اليه ، ولكنه لم يتحدث الا عن دليل المعجز وعلم الامام بالغيب .(1/5)
وقد مر في طيات النصوص السابقة التي اقتطفناها من بعض العلماء الاشارة الى دليل المعجز ، فقد قال الشيخ المفيد في الثقلان بعد بحث موضوع اشتراط العصمة في الامام · اذا ثبتت هذه الاصول وجب ابانة الامام من رعيته بالنص عليه والعلم المعجز الخارق للعادات ، اذ لا طريق الى المعرفة بما تجتمع له هذه الصفات الا بنص الصادق عن الله تعالى او المعجز وقال السيد المرتضى في :الشافي بعد بحث موضوع العصمة اذا ثبت ذلك وجبت ابانته بالنص او بالمعجز، وقال الشيخ الطوسي في : تلخيص الشافي ايجاب النص على الإمام او ما يقوم مقامه من المعجز الدال على امامته ... ولا بد مع صحة هذه الجملة من وجوب النص على الامام بعينه او اظهار المعجز القائم مقامه عليه وقال العلامة الحلي في نهج الحق ان طريق تعيين الامام امران : النص من الله تعالى او نبيه او امام ثبتت امامته بالنص ، او ظهور المعجزات على يده
وفي الحقيقة ان النظرية الامامية تحتاج الى موضوع المعاجز ، بصورة رئيسية ، في عملية اثبات امامة علي بن الحسين السجاد ، الذي يفتقر الى النص والوصية من ابيه ، حيث قتل الامام الحسين في كربلاء ولم ينص عليه ، وانما اوصى الى اخته زينب او ابنته فاطمة ، كما يقول الامام الباقر والصادق ، وادعى محمد بن الحنفية الوصية من ابيه الامام علي فقاد الشيعة على ضوء ذلك في ظل انسحاب الامام السجاد من الساحة السياسية وتحتاج النظرية الامامية الى اثبات امامة السجاد لكي تثبت الامامة في ذرية الحسين ، والا فان السلسلة تنقطع ، وتصبح حجة الكيسانية والحسنية الذين تصدوا لقيادة الشيعة عمليا، اقوى من حجة الامامية(1/6)
وهنا ينقل الاماميون حكاية عن تخاصمالامام السجاد مع عمه محمد بن الحنفية الذي انكر وجود اي نص او وصية عليه وطالبه باتباعه ، فطلب السجاد منه ان يحتكما الى الحجر الاسود ، الذي تكلم بصورة اعجازية وبلسان عربي فصيح فأثبت الامامة للسجاد وطالب ابن الحنفية بالخضوع له كما يذكر الاماميون ، وبالخصووص ابو بصير ، قصصا اعجازية كثيرة عن الامام محمد الباقر والامام جعفر الصادق والامام الكاظم وبقية الائمة ، لكي يغطوا على العجز في اثبات النصوص ، او تعضيد الوصايا العادية التي لا تشير الى مسألة الامامة والخلافة وتكاد تكون المعاجز هي الدليل الأول والاقوى الذي يقدمه الاماميون في اثبات امامة عدد كبير من الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله تعالى
انحصار الامامة في ذرية الحسين
وبعد اثبات الامامة للحسن والحسين يحاول الامامية الاجابة عن سبب حصر الامامة في ذرية الحسين فقط ، فكلاهما من العترة ومن اهل البيت ومن اولاد فاطمة وعلي ، وقد تصدى اولاد الحسن للامامة وادعوها لانفسهم ، وذهب بعضهم الى كون المهدي المنتظر فيهم ؟.. و كان بعضهم يفضل أولاد الحسن على اولاد الحسين ، خاصة وان الاحاديث التي يستدل بها الاماميون على حصر الامامة في اهل البيت ، كحديث الثقلين ، تشمل البيتين ، وقد بنى الجارودية نظريتهم في جواز الامامة في ابناء الحسن والحسين على ذلك الحديث ??
تعبر رواية ينقلها الخزاز القمي في كفاية الاثر عن جابر بن يزيد الجعفي عن رفض قسم من الشيعة الاوائل لحصر الامامة في ابناء الحسين ،وان جابر قال للامام الباقر : ـ ان قوما يقولون : ان الله تبارك وتعالى جعل الامامة في عقب الحسن والحسين ، فقال: ·كذبوا والله ، أولم يسمعوا الله تعالى يقول: وجعلها كلمة باقية في عقبه فهل جعلها الا في عقب الحسين(1/7)
وقد ادعى هشام بن سالم الجواليقي انه سأل الامام الصادق كيف صارت الامامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن ؟.. فقال: · ان الله تبارك وتعالى أحب ان يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين ، ألا ترى انهما شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الامامة
و نقل حمران بن اعين عن الامام الباقر ، رواية يقول فيها ان الحسن أغمد اربعين الف سيف حين اصيب اميرالمؤمنين ، وأسلمها الى معاوية ان الحسين خرج فعرض نفسه على الله في سبعين رجلا ..من أحق بدمه منا ؟
وتوجد رواية أخرى عن أبى عمرو الزبيري يقول فيها انه سأل الإمام الصادق عن سر خروج الإمامة من ولد الحسن إلى ولد الحسين ، كيف ذلك ؟..وما الحجة فيه؟.. فقال له لما حضر الحسين ما حضره من امر الله لم يجز ان يردها الى ولد اخيه ، ولا يوصي بها فيهم ، يقول الله اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله. فكان ولده اقرب رحما من ولد اخيه ، وكانوا اولى بالامامة ، واخرجت هذه الاية ولد الحسن منها فصارت الامامة الى الحسين ، وحكمت بها الاية لهم ، فهي فيهم الى يوم القيامة
ولكن يبدو ان هذه التبريرات لم تكن مقنعة ولا قوية ، ولذلك فقد ظل الشيعة يتساءلون عن سر حصر الامامة في ذرية الحسين مع قيام ابناء الحسين بقيادة الشيعة عمليا وتفجيرهم للثورات المختلفة هنا وهناك يقول الصدوق ان محمد بن ابي يعقوب البلخي سأل الامام الرضا : لأي علة صارت الامامة في ولد الحسين دون ولد الحسن ؟..فقال له: لأن الله عز وجل جعلها في ولد الحسين ولم يجعلها في ولد الحسن ، والله لا يُسأل عما يفعل
ومن الواضح ان هذا الجواب كان قبل تبلور النظرية الامامية في القرون التالية ، واستنادها الى احاديث مسبقة عن الرسول الاكرم تذكر اسماء الأئمة واحدا بعد واحد(1/8)
وبالرغم من ان الشيخ الصدوق يروي هذه الرواية ، الا انه كما يبدو لم يكن يثق بصدور هذه الرواية عن الامام الرضا ، ولذلك كانت له وجهة نظر اخرى
يقول في اكمال الدين اعلم ان النبي لما أمر بالتمسك بالعترة ، كان العقل والتعارف والسيرة مايدل على انه اراد علماءهم دون جهالهم والبررة الاتقياء دون غيرهم ، فالذي يجب علينا ويلزمنا : ان ننظر الى من يجتمع له العلم بالدين مع العقل والفضل والحلم والزهد في الدنيا والاستقلال بالامر فنقتدي به ونتمسك بالكتاب وبه . فان اجتمع ذلك في رجلين وكان احدهما ممن يذهب الى مذهب الزيدية والآخر الى مذهب الامامية فرق بينهما بدلالة واضحة : اما بنص من امام تقدمه ، واما بشيء يظهر في علمه ، واما ان يظهر من احدهما مذهب يدل على ان الاقتداء به لا يجوز كما ظهر من علم الزيدية القول بالاجتهاد والقياس في الفرائض السمعية والاحكام ، فيعلم بهذا انهم غير ائمة
الوراثة العمودية
و قال الامامية بامتداد الامامة في اولاد الحسين وذلك في الاكبر فالاكبر ، وعدم جواز انتقالها الى اخ او ابن اخ ، او عم او ابن عم ، واستندوا في ذلك على آية واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله وهي نفس الآية التي استندوا عليها في نفي امامة ابناء الحسن
وقد قال الشيخ المفيد ان الامامة بعد الحسين في ولده لصلبه خاصة دون ولد اخيه الحسن وغيره من اخوته وبني عمه وسائر الناس ، وانها لا تصلح الا لولد الحسين ، ولا يستحقها غيرهم ، ولا تخرج عنهم الى غيرهم ممن عداهم حتى تقوم الساعة
و روى الكليني والصدوق والمفيد والطوسي احاديث عن الامام الصادق تشير الى قانون الوراثة العمودية وامتداد الامامة الى يوم القيامة ، قال · لا تجتمع الامامة في اخوين بعد الحسن والحسين انما هي في الاعقاب واعقاب الاعقاب ، هكذا ابدا الى يوم القيامة
استمرار الامامة الى يوم القيامة(1/9)
وبعد سقوط نظرية الشورى عند فلاسفة نظرية الامامة الالهية كطريق لانتخاب الامام ، كان لا بد ان تمتد هذه النظرية من يوم وفاة الرسول الاعظم الى يوم القيامة ، ولا تتحدد في فترة معينة .
ومن هنا قال هشام بن الحكم في حواره مع ضرار : ولا بد من ان يكون في كل زمان قائم بهذه الصفة العصمة الى ان تقوم الساعة?
وروى ابو بصير عن ابي جعفر الباقر انه قال في تفسير قوله تعالى ·ياايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم انهم الائمة من ولد علي وفاطمة الى ان تقوم الساعة
وروى اسحاق بن غالب عن ابي عبدالله الصادق ، في خطبة له يذكر فيها حال الائمة وصفاتهم : لم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقهم من ولد الحسين من عقب كل امام يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم ..كلما مضى منهم اماما نصب لخلقه من عقبه اماما
وقال الشيخ الصدوق في مقدمة كتابه اكمال الدين كان مرادنا بايراد قول النبي انهما الكتاب والعترة لن يفترقا حتى يردا علي الحوض اثبات اتصال امر حجج الله الى يوم القيامة ، لقوله: لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهكذا قوله · ان مثلهم كمثل النجوم كلما غاب نجم طلع نجم الى يوم القيامة ¨ تصديق لقولنا ان الارض لا تخلو من حجة لله على خلقه¨
وروى ايضا عن الرضا انه قال : اول المتوسمين رسول الله ثم امير المؤمنين من بعده ثم الحسن ثم الحسين والائمة من ولد الحسين الى يوم القيامة(1/10)
و روى عنه ايضا ان الائمة من ولد علي وفاطمة الى ان تقوم الساعةو ان الامامة كانت لرسول الله خاصة فقلدها عليا بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان فهي في ولد علي خاصة الى يوم القيامة¨ . وبناء على ذلك فلم تكن هناك قائمة مسبقة بأسماء الأئمة القادمين ، وانما كانت هذه القضية متروكة للزمن وهناك احاديث عديدة تقول ان الأئمة لم يكونوا يعرفون بخلفهم من قبل ، وانهم كانوا يعلمون بذلك في اللحظات الاخيرة من حياتهم حيث يروي الصفار عن الامام الصادق انه قال ان الامام السابق لا يموت حتى يعلمه الله الى من يوصي و ان الامام التالي يعرف امامته في آخر دقيقة من حياة الاول
ونظرا لعدم وجود قائمة مسبقة بأسماء الأئمة معدة من قبل ، فقد كانت قضية معرفة هوية الامام الجديد تعتبر قضية هامة عند الامامية يقول الصفار ان الحرث بن المغيرة سأل الامام الصادق بمَ يعرف صاحب هذا الامر ؟..قال: بالسكينة والوقار والعلم والوصية¨ ويقول الكليني ان احمد بن محمد بن ابي نصر سأل الامام الرضا : اذا مات الامام بمَ يعرف الذي بعده ؟..فقال للإمام علامات منها: ان يكون اكبر ولد ابيه ، ويكون فيه الفضل والوصية ويقدم الركب فيقول: الى من اوصى فلان؟..فيقال : الى فلان ، والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني اسرائيل تكون الامامة مع السلاح حيثما كان وفي رواية اخرى فأما المسائل فليس فيها حجة
ومن هنا فقد كان الشيعة الامامية يسألون الائمة السابقين عن هوية الائمة اللاحقين ويلحون في السؤال ، وكثيرا ما كان الأئمة يرفضون اخبارهم بذلك
ماذا يفعل الشيعة عند الجهل بالامام ؟
وهناك احاديث تصرح بامكانية جهل الشيعة بالامام وترسم لهم الموقف في ذلك الظرف ، فقد روى الكليني ان رجلا سأل ابا عبدالله فقال له اذا اصبحت وأمسيت لا ارى اماما أئتم به ما اصنع ؟..قال: · فاحب من تحب وابغض من تبغض حتى يظهره الله عزوجل(1/11)
كما روى الصدوق ايضا عن الامام الصادق قوله كيف انتم اذا بقيتم دهرا من عمركم لا تعرفون امامكم؟..قيل: فاذا كان ذلك فكيف نصنع ؟.. قال: تمسكوا بالاول حتى يستبين لكم¨
و روى الكليني والصدوق والمفيد حديثا عن عيسى بن عبدالله العلوي العمري عن ابي عبدالله جعفر بن محمد قال قلت له: جعلت فداك : ان كان كون ولا اراني الله يومك فبمن أأتم ؟ قال: قال فأومأ الى موسى ، فقلت : فان مضى موسى فبمن أأتم ؟..قال : ـ بولده ، قلت فان مضى ولده وترك اخا كبيرا وابنا صغيرا فبمن أأتم ؟..قال: ـ بولده ، ثم هكذا ابدا ، قلت: فان انا لم اعرفه ولم اعرف موضعه فما اصنع ؟..قال: تقول: اللهم اني اتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي ، فان ذلك يجزئك
وهناك روايات أخرى عن زرارة بن اعين ويعقوب بن شعيب وعبدالأعلى ، انهم سألوا الإمام الصادق إذا حدث للإمام حدث كيف يصنع الناس ؟.. قال : يكونوا كما قال الله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين الى قوله يحذرون قلت : فما حالهم ؟.. قال : هم في عذر قلت : جعلت فداك فما حال المنتظرين حتى يرجع المتفقهون ؟..قال : رحمك الله ، اما علمت انه كان بين محمد وعيسى خمسون ومائتا سنة فمات قوم على دين عيسى انتظارا لدين محمد فآتاهم الله اجرهم مرتين ؟ قلت : نفرنا ،فمات بعضنا في الطريق ؟..قال : ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع اجره على الله قلت : فقدمنا المدينة فوجدنا صاحب هذا الامر مغلقا عليه بابه مرخى عليه ستره ؟.. قال : ان هذا الامر لا يكون الا بأمر بين ، هوالذي اذا دخلت المدينة قلت : الى من اوصى فلان ؟..قالوا : الى فلان
سرية نظرية الامامة(1/12)
رأينا في الفصل الماضي ان نظرية الامامة الالهية القائمة على العصمة والنص لم تكن شائعة ومعروفة في اوساط الشيعة واهل البيت انفسهم في القرن الاول الهجري ، ولم تكن لها رائحة في المدينة ، وانما بدأت تدب تحت الارض في الكوفة في بداية القرن الثاني ، وكان المتكلمون الذين ابتدعوها يلفونها بستار من التقية والكتمان .. ويعترف المتكلم ابو جعفر الاحول الملقب بمؤمن الطاق الذي يعتبر من اعمدة النظرية الاوائل انها كانت سرية ولم يكن يعلم بها حتى زيد بن علي ، وقد فوجيء بها واستغرب ان يكون الامام السجاد قد اخبر مؤمن الطاق ولم يخبره بها
وبالرغم من دعوى مؤمن الطاق في نسبة النظرية الى اهل البيت ، فان حديثه يكشف عن موضوع السرية البالغة التي كانت تحيط بنظرية :الامامة الالهية لدى نشوئها في الكوفة ، الى درجة عدم معرفة زيد بن علي بن الحسين بها وهو في المدينة وفي احضان ابيه ، وعلى الرغم مما كان يتمتع به من تقوى وعلم وزهد وروح جهادية ، الى درجة استغرابه لدى سماع حديث مؤمن الطاق .
وقد قرأنا في الفصل الماضي نفي الامام الصادق الصريح للقول بالامامة المفروضة من الله ، والذي ينقله الكليني في الكافي ومن هنا كان الاماميون يلفون اقوالهم التي ينسبونها الى الائمة بلفافات من السرية والتقية والكتمان ، ويدعون ان الائمة لم يكونوا يذيعون هذه الآراء على عامة الناس ، وانما قالوا بها سرا، واوصوا بابقائها طي الكتمان .. وكانوا يعتبرون هذه الاحاديث صعبة مستصعبة لا يحتملها الا المؤمنون الممتحنون ، وان جزاء من يذيعها بين الناس القتل بحر الحديد.
يقول الكليني في رواية مطولة ينسبها الى الامام الصادق انه قال للشيعة: لا يحل لكم ان تظهروهم على اصول دين الله¨(1/13)
ويروي محمد بن الحسن الصفار في كتابه : بصائر الدرجات مجموعة من الروايات التي كان يتداولها الامامية والغلاة عن ضرورة السرية والكتمان ومخاطر البوح والاعلان ، فيعقد عدة ابواب بشأن ذلك وينقل عن الامام الباقر ، قوله لاصحابه: لو كان لألسنتكم اوكية لحدثت كل امريء بما له
وينقل الصفار عن جابر بن يزيد الجعفي عن ابي عبدالله انه قال: ان امرنا سر في سر ، وسر مستسر ، وسر لا يفيد الا سر ، وسر على سر ، وسر مقنع بسر
وينقل عن الامام الصادق قوله: ان ابي نعم الاب ، كان يقول : لو اجد ثلاثة رهط استودعهم العلم ، وهم اهل لذلك لحدثت بما لا يحتاج فيه الى نظر في حلال ولا حرام ، وما يكون منه الى يوم القيامة ..ان حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به الا عبد امتحن الله قلبه للإيمان وقوله: لولا ان يقع عند غيركم كما قد وقع غيره لاعطيتكم كتابا لا تحتاجون الى احد حتى يقوم القائم .وقوله: · ما اجد من احدثه ..ولو اني احدث رجلا منكم بالحديث فما يخرج من المدينة حتى اوتى بعينيه فاقول : لم اقله
وينقل الصفار رواية عن ابي بصير يقول فيها انه دخل على الامام ابي عبدالله ليسأله عن العلم فقال مبتدءا جعلت فداك اني اسألك عن مسألة ، ليس ههنا احد يسمع كلامي؟ ، ويقول ان اباعبدالله رفع سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال : سل عما بدالك. مما يوحي بشدة سرية الحديث(1/14)
وكانت النظرية الامامية في البداية تقوم على موضوع علم الأئمة بالغيب ، كطريق لاثبات ارتباط الامام بالله وقد رأينا ذلك في في مناظرة هشام بن الحكم مع الرجل الشامي ، حيث ادعى هشام ان الامام الصادق اخبره بكل ما حصل في طريقه من الشام الى منى ولكن الامام الصادق كان دائما ينفي علمه بالغيب ويقول بصراحة ياعجبا لأقوام يزعمون انا نعلم الغيب ، وما يعلم الغيب الا الله ، لقد هممت بضرب خادمتي فلانة فذهبت عني فما عرفتها في اي بيوت الدار هي . وهذه الرواية ينقلها سدير وابو بصير وميسر ويحيى البزاز وداود الرقي الذين يقولون ان الامام الصادق خرج اليهم وهو مغضب ثم نفى علمه بالغيب ، ولكن سدير يضيف الى هذه الرواية انه ذهب الى الامام مع ابي بصير وميسر ، بعدما قام من مجلسه وصار في منزله ، فقالوا له بصورة سرية:جعلنا فداك سمعناك تقول كذا وكذا في امر خادمتك ، ونحن نعلم انك تعلم علما كثيرا ، فقال لهم ان لديه علم الكتاب كله، وان الذي جاء بعرش بلقيس الى سليمان كان عنده علم من الكتاب، وان نسبة علم هذا الى علم الامام كقدر قطرة من المطر في البحر الاخضر
ويمكننا ملاحظة السرية والكتمان او التقية في رواية اخرى ينقلها سيف التمار قال: كنا مع ابي عبدالله ، جماعة من الشيعة في الحجر ، فقال : علينا عين ؟.. فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نرَ أحدا فقلنا : ليس علينا عين ، فقال : ورب الكعبة ورب البيت ثلاث مرات لوكنت بين موسى والخضر لأخبرتهما اني اعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر اعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وان رسول الله اعطي علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فورثناه من رسول الله وراثة(1/15)
ورغم التهافت الواضح في هذه الرواية التي تنسب علم الغيب الى الامام الصادق وتقول في نفس الوقت انه سأل عن وجود الجواسيس فالتفتوا يمينا وشمالا وقالوا له ليس علينا عين بالرغم من ذلك فانها تحمل في طياتها معنى السرية المناقضة لما كان يعلنه الامام
وقد اطلق الاماميون على هذه الحالة اسم التقية وذلك لكي يفسروا ظاهرة التناقض بين اقوال الأئمة من اهل البيت وسيرتهم العلنية القائمة على الشورى والعلم الطبيعي ، وبين دعوى الامامة الالهية القائمة على النص والتعيين والعلم الالهي الغيبي ، والتي كان ينسبها الاماميون الى اهل البيت سرا ولما كان اهل البيت يتشددون في نفي تلك الاقوال المنسوبة اليهم كان الاماميون والباطنيون بصورة عامة يأولون كلامهم ، ويتمسكون بادعاءاتهم المخالفة لهم تحت دعوى شدة التقية
ومن المعروف ان الامام الصادق قد لعن احد الغلاة المتطرفين جدا الذين ادعوا الالوهية للامام الصادق ، وتبرأ منه ، وهو ابو الخطاب زعيم الفرقة الخطابية فلما نقل له الشيعة موقف الامام منه تأول كلامه وقال انه يريد رجلا آخر في البصرة يسمى قتادة البصري ويكنى بأبي الخطاب ، ولما وضح الامام الصادق مقصوده وقال : والله ما عنيت الا محمد بن مقلاص بن ابي زينب الاجدع البراد عبد بني اسد ، قال ابوالخطاب : ان اباعبدالله يريد بلعنه ايانا في الظاهر اضدادنا في الباطن ، وتأول قول الله تعالى :واما السفينة فكانت
لمساكين يعملون في البحر فأردت ان اعيبها وكان من ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا بأن السفينة ابا الخطاب وان المساكين اصحابه ، وان الملك الذي وراءهم عيسى بن موسى العباسي
ومن هنا كان الالتزام بمبدء التقية ضروريا جدا لتمرير نظرية الإمامة والصاقها بأهل البيت(1/16)
الفصل الخامس
تحديات تواجه النظرية الامامية
نقد فلسفة العصمة
لم تكد نظرية الامامة الالهية تولد حتى واجهت سلسلة من التحديات التي وضعتها على محك الاختبار ، واثبتت استحالتها ، فمن جهة كانت نظرية العصمة التي قامت عليها ، نظرية حادثة مرفوضة من قبل اهل البيت وعموم الشيعة
حيث كانت فلسفة العصمة تقوم على مبدأ الاطلاق في الطاعة لولي الامر وعدم جواز او امكانية النسبية فيها ، وذلك مثل الرد على الامام و رفض اطاعته في المعاصي والمنكرات لو أمر بها ، والاخذ على يده عند ظهور فسقه وانحرافه . وهو المبدأ الذي كان الحكام الامويون المنحرفون يدأبون على ترويجه ومطالبة المسلمين بطاعتهم على اساسه طاعة مطلقة في الخير والشر ، وهو ما اوقع فلاسفة الامامية في شبهة التناقض بين ضرورة طاعة الله الذي يأمر بطاعة اولى الامر في الاية الكريمة :ياايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ، وضرورة طاعة الحكام بصورة مطلقة حتى في المعاصي والمحرمات
لكن هذا الامر لم يثبت من اطلاق الاية الشريفة ، التي قد تفهم ايضا على اساس النسبية ، بل ان هذا ما يوحي به العرف والعقل والايات الاخرى في القرآن الكريم ، التي تؤكد على مبدأ :لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق(1/1)
ومع ان اية (اولي الأمر) كانت تنطبق على اولي الامر والولاة والقادة الذين كان يعينهم الرسول الاكرم في حياته ، فان المسلمين الاوائل لم يكونوا يفهمون منها : معنى الاطلاق ، والطاعة لأولي الامر حتى في المعاصي والمنكرات ، وقد رفضت جماعة من المسلمين كان الرسول الاكرم قد ارسلها في سرية وامر عليها رجلا ، طاعة ذلك الرجل عندما امر الجماعة في وسط الطريق بدخول نار اشعلها ، وطالبهم بالامتثال لأوامره ، وقالوا له: لقد فررنا من النار فكيف ندخل فيها ، وفهموا الطاعة في حدود العرف والعقل والشرع ، وليس خارج ذلك ، وعادوا فأخبروا الرسول بما فعل القائد ، فأقرهم على موقفهم العقلائي ،وحذرهم قائلا: لو دخلتم فيها للبثتم فيها .
وهذا ما يؤيد امكانية الفهم النسبي لآيات القرآن الكريم في حدود العقل والعرف والسيرة والشرع ، وعدم جواز فهمها فهما مطلقا دائما حتى في حالات التعارض مع احكام اخرى عقلية او شرعية .
واذا انتفى الاطلاق وثبتت النسبية في الطاعة لاولي الامر لا تبقى حاجة الى اشتراط العصمة في الامام ، ويمكن للمسلمين انتخاب قائد لهم على اساس العدالة الظاهرية والتقوى والكفاءة ليطبق لهم الدين ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر و اذا انحرف هذا القائد الامام فان لهم الحق في عصيانه ومخالفة اوامره واسقاطه عن منصب الامامة ، ولا طاعة له من الله في اعناقهم .
ولكن المتكلمين الامامية رفضوا النسبية رفضا مطلقا وأصروا على مفهوم الاطلاق من الاية ، ولذلك بنوا نظريتهم في العصمة على هذا الاساس ، ثم اقاموا سائر المقولات على قاعدة العصمة
موقف اهل البيت من العصمة(1/2)
وكانت المشكلة الكبرى التي واجهت الفلاسفة الامامية في عملية بناء نظرية الامامة الالهية وتركيبها على أئمة اهل البيت ، تكمن في موقف اهل البيت انفسهم من نظرية العصمة حيث كانوا يرفضونها اشد الرفض ، ويصرحون امام الجماهير بأنهم اناس عاديون قد يخطؤن وقد يصيبون وانهم ليسوا معصومين من الذنوب ، ويطالبون الناس بنقدهم وارشادهم واتخاذ موقف المعارضة منهم لو صدر منهم اي خطأ او امروا بمنكر لا سمح الله . وهذا هو الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب يقف في مسجد الكوفة ويخاطب الجموع قائلا ·
ـ ان من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه ان يصغر عنده لعظم ذلك كل ماسواه ، وان احق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف احسانه اليه فانه لم تعظم نعمة الله على احد الا زاد حق الله عليه عظما . وان من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس ان يظن بهم حب الفخر ويوضع امرهم على الكبر ، وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء واستماع الثناء ، ولست بحمد الله كذلك ، ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء . وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء ، لاخراجي نفسي الى الله واليكم من البقية في حقوق لم افرغ من ادائها وفرائض لا بد من امضائها . فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة ولا(1/3)
تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي لما لا يصلح لي ، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما اثقل عليه .. فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل ،فاني لست في نفسي بفوق ان اخطيء ولا آمن ذلك من فعلي ، الا ان يكفي الله من نفسي ماهو املك به مني . فانما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من انفسنا ، واخرجنا مما كنا فيه الى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى
وفي خطبة اخرى يتحدث فيها الامام اميرالمؤمنين عن الخارجي الخريت ابن ناجية ومحاولاته السابقة لدفع الامام لقتل واعتقال عدد من زعماء المعارضة ، وقول الامام له ولعموم الناس ان من واجبهم الوقوف امامه ومنعه اذا أراد هو ان يفعل ذلك ، والقول له : ·اتق الله
ولم يكن الامام علي ليقول لهم ذلك لو كان هناك اي حديث عن العصمة في اوساط الائمة والشيعة والمسلمين ، وذلك لان هالة العصمة تحتم ان يضع الامام نفسه فوق النقد وأن يحرم المعارضة او التجرؤ بتوجيه النصح والمشورة ، وهذا ما لم يكن يفعله الامام علي الذي ضرب اروع الامثلة في التواضع والمساواة .. ومطالبة اصحابه بأداء دورهم السياسي في مراقبة الامام وتقويمه .
ويقول في دعاء له : · اللهم اغفر لي ما انت اعلم به مني ، فان عدت فعد علي¹ بالمغفرة . اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي ، ولم تجد له وفاء عندي . اللهم اغفر لي ما تقربت به اليك بلساني ، ثم خالفه قلبي . اللهم اغفر لي رمزات الالحاظ وسقطات الالفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان(1/4)
ويستعرض الامام اميرالمؤمنين في مكان آخر صفات الحاكم وشروطه فلايذكر من بينها العصمة ، يقول: · ...انه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم وامامة المسلمين : البخيل ، فتكون في اموالهم نهمته ، ولا الجاهل ، فيضلهم بجهله ، ولا الجافي ، فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول ، فيتخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطل للسنة ، فيهلك الامة
ويقول في خطبة اخرى: · ايها الناس :ان أحق الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه
وينقل الصدوق في أماليه قصة عن فاطمة الزهراء تنافي نظرية العصمة التي كان يقول بها المتكلمون ، ويروي : ان الامام علي بن ابي طالب انفق ذات مرة اموال مزرعة باعها حتى لم يبق لديه درهم واحد ،فاحتجت فاطمة الزهراء على ذلك و امسكت بثوبه ، فنزل جبرئيل واخبر النبي فذهب اليها وقال : ليس لك ان تمسكي بثيابه ولاتضربي على يديه فقالت : اني استغفر الله ولا اعود ابدا .كما يذكر الشريف الرضي في :خصائص الائمة: ان الامام الحسن استعار قطيفة من بيت المال فغضب عليه الامام اميرالمؤمنين وقال له: يا ابا محمد النار.. يا ابامحمد النار .حتى خرج بها
وكذلك لم يشر الامام الحسين الى موضوع العصمة في رسالته التي ارسلها الى اهل الكوفة مع سفيره مسلم بن عقيل ، وانما طرح ضرورة اتصاف الحاكم بشروط التقوى والالتزام بالعمل بالكتاب والدين ، فقال:· فلعمري ..ما الامام الا العامل بالكتاب الحابس نفسه على الله القائم بالقسط والدائن بدين الله(1/5)
وينقل الامام الباقر حديثا عن رسول الله حول شروط الحاكم فلا يذكر منها العصمة ، يقول: قال رسول الله· لا تصلح امتي الا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم .وفي رواية اخرى: حتى يكون للرعية كالاب الرحيم .مما يشير الى ان الامامة تصلح لعامة الناس بهذه الشروط
وقد قال الامام الصادق :والله ما نحن الا عبيد ... ما نقدر على ضر ولا نفع ، ان رحمنا فبرحمته ، وان عذبنا فبذنوبنا ، والله مالنا على الله من حجة ولا معنا من الله براءة ، وانا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون ومسئولون .. اشهدكم اني امرء ولدني رسول الله وما معي براءة من الله ، ان اطعت رحمني وان عصيته عذبني عذابا شديدا
وهناك روايتان يذكرهما الصدوق في كتابه :عيون اخبار الرضا حول عصمة الانبياء ويقول : ان الامام الرضا تحدث بهما الى علي بن محمد بن الجهم عند المأمون ، ويأول فيهما الايات القرآنية الظاهرة في معصية الانبياء وينزههم عن المعصية ، ولم يذكر الراوي اي حديث من الامام الرضا في هذه المناسبة عن عصمة الائمة ، مما يكشف عن عدم تبني اهل البيت لنظرية العصمة وعدم ظهور احاديث كهذه في تلك الايام الا عند الامامية والغلاة من الشيعة وبصورة سرية ..ولو كان لحديث العصمة اية ارضية عند اهل البيت لتحدث الامام الرضا عنها ، وهو كما يقال كان يتحدث عن الامامة بصراحة وجرأة ولم يكن يخشى الخليفة العباسي المأمون الذي اصبح وليا لعهده ..فلماذا تحدث الامام الرضا فقط عن عصمة الانبياء ولم يتحدث عن عصمة الائمة ؟ (1/6)
و بالرغم من وضوح موقف اهل البيت من دعوى العصمة ، وتأكيدهم على الطبيعة البشرية العادية ، واستغفارهم لله فان حاولوا الالتفاف على ذلك وقاموا بتأويل الروايات الثابتة والنافية للعصمة ، بأنها : صادرة عن الائمة في مقام التعليم لعامة الناس ، او انها صادرة تقية ، وقاموا الى جانب ذلك برواية مجموعة من الروايات التي تدعي العصمة بصراحة وتشترطها في الامام او الائمة من اهل البيت ، وهي روايات ضعيفة وغامضة وغير ذات دلالة .
هناك حديث مرسل عن الامام زين العابدين ، يقول:· لا يكون الامام منا الا معصوما ، وليست العصمة ظاهرة من ظواهر الخلقة لتعرف بين عامة الناس، وانما هي الاعتصام بحبل الله ، وحبلالله هو القرآن ، والقرآن يهدي الى الامام
وبغض النظر عن مناقشة هذا الحديث ، غير المسند ، المنسوب الى الامام زين العابدين فانه يفسر العصمة بالاعتصام بحبل الله وهو القرآن ، ولم يتحدث عن طوق مفروض من الله حول الامام يمنعه من ارتكاب المعصية كما يقول المتكلمون.
وهناك حديث آخر عن الامام الصادق يفسر المعصوم بانه الممتنع بالله من جميع محارم الله , وقد قال الله تبارك وتعالى : ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم . وهو ما يفيد ايضا نفس معنى الرواية الانفة عن الامام السجاد
هذا وقد روى الصدوق في :اكمال الدين عن سليم بن قيس عن اميرالمؤمنين انه قال: · ان الله طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في ارضه وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا¨
وروى ايضا في :عيون اخبار الرضا عن عبدالله بن عباس قال: سمعت رسول الله يقول: · انا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون¨ .(1/7)
ونقل المجلسي في بحار الانوار عدة احاديث قال انها تنسب الى سليم بن قيس الهلالي ولا توجد في كتابه ، وذكر منها حديثا يقول · انما الطاعة لله عزوجل ولرسوله ولولاة الامر ، وانما امر بطاعة اولي الامر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصية
وهذه الاحاديث لا قيمة علمية لها لانها غير مسندة ولا ثابتة .
و هناك رواية مطولة ينفرد بذكرها الصدوق عن الامام الرضا يتحدث فيها بصراحة امام الخليفة العباسي المأمون عن عصمة اهل البيت ، وافضليتهم وخصائصهم
و لكن تلك الرواية ضعيفة السند ، وذلك لأن الصدوق يرويها عن علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب ، المهمل ، و جعفر بن محمد بن مسرور ،المهمل، كذلك ، و الريان بن الصلت ،الضعيف ، الذي كان من اعوان الفضل بن سهل ، وعدم اسناد حديثه الى احد ومن دون ان يدعي الحضور والسماع ، ولذا لم ينقلها احد قبل الصدوق الذي جاء في منتصف القرن الرابع الهجري «واضافة الى ذلك فهي تشتمل على القول بتحريف القرآن حيث تضيف الرواية ورهطك المخلصين الى اية وانذر عشيرتك الاقربين و تدعي انها محذوفة من القرآن الكريم ، وهذا قول كان يقول به الغلاة وينسبونه الى الائمة ، وكان الائمة دائما يتبرأون منه ويرفضونه . ان الرواية تعتمد على منهج التأويل والتأويل التعسفي في بعض الاحيان ، ومع انها تحاول ان تثبت العصمة والطهارة لاهل البيت وعدم الردة او الرجوع الى الضلال ابدا ، فانها لم تتوقف قليلا لكي تشرح من هم اهل البيت؟..بعد حصرهم باولاد النبي والامام علي بن ابي طالب ، من دون دليل قوي وواضح ، مع ان هؤلاء كانوا مختلفين فيما بينهم وكان اولاد كل امام يصطرعون فيما بينهم ويدعي كل واحد منهم انه الامام والأحق بعد ابيه ، ويتهم الاخرين بالكذب والنفاق والانحراف والضلال، وتكشف الرواية عن محاولات الفلاسفة لتأويل القرآن بما يتلاءم مع نظريتهم الجديدة والغامضة حول عصمة الائمة
موقف الامام الصادق من الامامية(1/8)
ومما يؤكد موقف الامام الصادق السلبي من المتكلمين الامامية ونظريتهم السرية الناشئة بعيدا عن اهل البيت ، هي احاديث الامام الكثيرة التي يزخر بها تراث الامامية ، والتي يؤولونها باسم التقية ، فقد جاء وفد من شيعة الكوفة وسألوه : يا ابا عبدالله ان اناسا يأتوننا يزعمون ان فيكم اهل البيت امام مفترض الطاعة ؟..فقال لهم : لا ، ما اعرف ذلك في اهل بيتي ، قالوا : يا ابا عبدالله انهم اصحاب تشمير واصحاب خلوة واصحاب ورع ، وهم يزعمون : انك انت هو ؟.. فقال: هم اعلم وما قالوا ، ما امرتهم بهذا(1/9)
الفصل السادس
التطور الاثنا عشري
اذا القينا نظرة فاحصة على تاريخ الشيعة في القرنين الثاني والثالث وتعاطفهم وتجاوبهم مع الثورات المختلفة التي كان يقودها الأئمة من اهل البيت كثورة الامام زيد وابنه يحيى وابنه عيسى وثورة محمد بن عبدالله ذي النفس الزكية واخيه ابراهيم ، وثورة الحسين شهيد فخ ، وثورة محمد بن القاسم وغيرهم ، لوجدنا ان عامة الشيعة وجماهيرهم كانت تلتف حول اهل البيت ولكن من دون تحديد الامامة في سلسلة معينة ، او الايمان بالنص من الله على واحد منهم ، فضلا عن تسلسلها في ابناء الحسن او الحسين او بشكل عمودي وراثي الى يوم القيامة ولوجدنا الشيعة بصورة عامة بعيدين عن نظرية الامامة الإلهيةا لتي كان يقول بها بعض المتكلمين سرا ويلصقونها بأهل البيت ، الذين كانوا يتبرؤن منها في الحقيقة وفي الظاهر
ولو القينا بنظرة على تراث الامامية خلال ذينك القرنين الثاني والثالث لوجدنا النظرية الامامية مفتوحة وممتدة الى يوم القيامة ، وانها لم تكن محصورة في عدد محدد من الأئمة او فترة زمنية خاصة ، ومع انها وصلت الى طريق مسدود عند وفاة الامام الحسن العسكري في سنة للهجرة دون ان يخلف ولدا تستمر الامامة فيه ، ودون ان يشير او يوصي الى اي احد من بعده ، فقد اعتقد الذين آمنوا بوجود ولد مكتوم له ، في البداية ان الامامة ستسمر في ذرية ذلك الولد المخفي الى يوم القيامة ، ولم يعتقدوا في البداية
انه الامام الاخير ، وان الأئمة اثنا عشر فقط
وقد استعرضنا في الفصل الاسبق كثيرا من الاحاديث التي كانت تنص على استمرار الامامة في الاعقاب واعقاب الاعقاب هكذا ابدا الى يوم القيامة . وتوجد في التراث الشيعي العشرات بل المئات من تلك الروايات التي تؤكد على استمرار الامامة الى يوم القيامة ، مما يؤكد ان النظرية الامامية لم تكن محددة في عدد معين خلال القرنين الثاني والثالث(1/1)
و ان من يلاحظ تلك الروايات المتواترة التي تتحدث عن امتداد الامامة الى يوم القيامة يجد انها عامة ومطلقة ومقصودة العموم الاطلاق ، اي انها آبية عن التخصيص والتقييد ، وهي تعبر عن النظرية الامامية الالهية الموازية لنظرية الشورى الممتدة الى يوم القيامة ، وذلك في مراحل نشوئها الاولى ، و قبل ان تصل الى الطريق المسدود
ونظراً لأن نظرية الامامة كانت في بدو نشوئها ممتدة الى يوم القيامة ولم تكن محددة في عدد معين من قبل ، فقد كانت لنظرية تقول بأن النص قد حدث على الامام علي فقط ، وان النص على الأئمة الآخرين يتم من قبل الأول للثاني وهكذا الى يوم القيامة
وكانت النظرية ايضا تعترف بعدم وجود النص الصريح من بعض الأئمة على بعض ، فكانت تتشبث بالوصية العادية وتعتبرها دليلا على الامامة ، ولما لم تكن توجد اية وصية على بعض الأئمة كالامام السجاد من آبائهم ، او كانت مشتركة بين عدد من اخوتهم ، فقد كانت النظرية تقول بأن دليل الامامة هو المعاجز وعلم الغيب ، او الكبر ، او العلم ، او حيازة سيف رسول الله
بل ان روايات كثيرة تشير الى عدم معرفة الأئمة انفسهم بامامتهم او امامة الامام اللاحق من بعدهم الا قرب وفاتهم « فضلا عن الشيعة الامامية انفسهم الذين كانوا يقعون في حيرة واختلاف بعد وفاة كل امام ، وكانوا يتوسلون لكل امام ان يعين اللاحق بعده ويسميه بوضوح لكي لا يموتوا وهم لا يعرفون الامام الجديد «وانهم كثيرا ما كانوا يقعون في الحيرة والجهل
وهناك احاديث اخرى ، كثيرة يذكرها الحر العاملي و الكليني والصفار ، تعالج مسألة التعرف على الامام الجديد من خلال مواصفات عديدة ككبر السن او طهارة المولد او حسن المنشأ او عدم اللهو واللعب ، او الوصية الظاهرة او الفضل او علم الغيب ، اوالهداءة والاطراق والسكينة
وهو ما يدل على امتددا نظرية الامامة الى يوم القيامة ، في طورها الاول ، وعدم اقتصارها على عدد محدود(1/2)
ميلاد النظرية الاثني عشرية
ونظرا لوصول نظرية الامامة الى طريق مسدود بعد وفاة الامام الحسن العسكري من دون ولد ظاهر ، والقول بوجود ولد له في السر وغيبته عن الانظار ، وعدم ظهوره لفترة طويلة جدا «« شهد القرن الرابع الهجري تطورا جديدا في النظرية الامامية هو حدوث الاثني عشرية ، وهي نظرية حدثت خاصة في صفوف الشيعة الموسوية ، وخاصة الجناح المتشدد الذي كان يؤمن بقانون الوراثة العمودية بشدة ولا يقبل اي تسامح فيها ، وقد قال ذلك الجناح بوجود قائمة مسبقة وتحديد اسماء الأئمة من قبل الرسول الاعظم باثني عشر اماما هم علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي وان آخرهم الامام الغائب محمد بن الحسن العسكري
وكان يستهدف من وراء ذلك اثبات وجود الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي كان وجوده محل شك ونقاش في صفوف الشيعة الامامية
وقد استعانت النظرية الاثناعشرية بأحاديث ·سنية¨ ذكرها البخاري ومسلم حول حدوث الهرج والمرج بعد الخليفة او الامير الثاني عشر« ولكي ينسجم عدد الأئمة السابقين مع هذه الروايات فقد لجأ الاثناعشريون الى حذف اسم الامام زيد والامام عبدالله الافطح والامام احمد بن موسى الذين قال بامامتهم كثير من الشيعة الامامية لفطحية في السابق ، كما رفضوا الاعتراف بامامة جعفر بن علي الهادي ، واضافوا اسم الامام محمد بن الحسن العسكري ونظموا قائمة جديدة بأسماء تسعة من اولاد الحسين واحدا بعد واحد ، وقالوا بأن هؤلاء الأئمة قد نص عليهم الرسول واعلن اسماءهم من قبل ، وجاءوا على ذلك بعشرات الاحاديث التي نسبوها الى رسول الله والأئمة السابقين(1/3)
وقد اورد الكليني ، في مطلع القرن الرابع الهجري ، في كتابه الكافي سبعة عشر رواية تتحدث عن (الاثني عشرية) ، بينما ذكر الشيخ محمد بن علي الصدوق ، بعد ذلك بنصف قرن ، خمسا وثلاثين رواية حول الموضوع في كتابه اكمال الدين ، واكملها محمد بن علي الخزاز في اواخر القرن الرابع في كتابه كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر الى مائتي رواية
وكان اصل هذه النظرية كما يقول المؤرخ الشيعي المسعودي في التنبيه والاشراف هو كتاب سليم بن قيس الهلالي الذي ظهر في القرن الرابع الهجري لمؤلف يقال انه من اصحاب الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وفيه احاديث تنسب الى رسول الله والأئمة من اهل البيت تشير الى تحديد اسماء الأئمة الاثني عشر
وقد اضطرت النظرية الاثناعشرية الى الغاء التاريخ الشيعي والامامي ، واهمال قضية الغموض في النص والوصية وحيرة الامامية في التعرف على الامام الجديد ، وتجاوز مسألة البداء التي حدثت مرتين في عهد الامام الصادق والامام الهادي ، والادعاء بأنها كانت موجودة منذ عهد رسول الله ، وذلك بالرغم من اعتراف الجميع بولادة النظرية لامامية في مطلع القرن الثاني الهجري على ايدي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق وهشام بن سالم الجواليقي
وقد نقل الصدوق اعتراض الشيعة الزيدية على الاثني عشري وقولهم : ان الرواية التي دلت على ان الائمة اثنا عشر قول احدثه الامامية قريبا وول¹دوا فيه احاديث كاذبة و استشهادهم على ذلك بتفرق الشيعة بعد وفاة كل امام الى عدة فرق وعدم معرفتهم للامام بعد الامام ، وعن معنى البداء في اسماعيل ومحمد بن علي الذي يتنافى مع وجود القائمة المسبقة باسماء الائمة ، ووفاة زرارة دون معرفته بالامام بعد الصادق ثم رد الصدوق على الزيدية فقال أن الامامية لم يقولوا ان جميع الشيعة كانوا يعرفون الائمة الاثني عشر ،(1/4)
ولم ينكر ان زرارة لم يكن يعرف الحديث « ولكنه انتبه بعد ذلك الى منزلة زرارة وعدم امكانية جهله بأي حديث من هذا القبيل وهو اعظم تلامذة الامام الصادق فتراجع وقال ان زرارة ربما كان يخفي ذلك تقية « ثم عاد فتراجع مرة اخرى بعد قليل ، قال ان الكاظم قد استوهبه من ربه لجهله بالامام لان الشاك فيه على غير دين الله
محاولة حل مشكلة الطفولة
لقد بنيت النظرية الاثنا عشرية على أشد النظريات الامامية تصلبا وتطرفا ، كتلك التي تشترط الوراثة العمودية حتى لو كان الامام طفلا صغيرا ، والقت جانبا النظرية الامامية المعتدلة الفطحية التي كانت تجيز امامة الاخوين اذا كان الامام الاول عقيما او كان ابنه صغيرا ، وذلك بسبب ان لاثني عشرية نشأت بعد عصر الأئمة من اهل البيت بعشرات السنين ، ولم تكن حاضرة مع الأئمة كما كان الشيعة السابقون لكي تتفاعل معهم وتدرك مدى قدرتهم على التفاعل في ايام الطفولة(1/5)
ووجد مشايخ النظرية الاثني عشرية انفسهم وجها لوجه امام القرآن الكريم الذي يوصي بالحجر على الاطفال حتى بلوغهم سن الرشد ، حيث يقول ·وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم اموالهم¨ فقاموا بالخروج من هذا المأزق استثناء الأئمة من عموم الآية « وقد قال الشيخ المفيد ·ـ ان قال قائل : كيف يصح لكم معشر الامامية القول بإمامة الاثني عشر ..وانتم تعلمون ان فيهم من خلفه ابوه وهو صبي صغير لم يبلغ الحلم ولا قارب بلوغه ،كأبي جعفر محمد بن علي بن موسى ، وقد توفي ابوه وله من العمر عند وفاته سبع سنين ، وكقائمكم الذي تدعونه وسنه عند وفاة أبيه عند المكثرين خمس سنين ، وقد علمنا بالعادات التي لم تنتقض في زمان من الازمنة :ان من كان له من السنين ماذكرناه لم يكن من بالغي الحلم ولا مقاربيه ، والله تعالى يقول: ک وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم اموالهم وإذا كان الله تعالى قد أوجب الحجر على هذين النفسين في اموالهما لايجابه ذلك في جملة الأيتام بطل ان يكونا امامين . لان الإمام هو الوالي على الخلق في جميع أمر الدين والدنيا . وليس يصح ان يكون الوالي على أموال الله تعالى كلها من الصدقات والاخماس ، والمأمون على الشريعة والأحكام وامام الفقهاء والقضاة والحكام ، والحاجر على كثير من ذوي الألباب في ضروب من الاعمال من لا ولاية له على درهم واحد من مال نفسه ولا يؤمن على النظر
لنفسه ،ومن هو محجور عليه لصغر سنه ونقصان عقله لتناقض ذلك واستحالته ، وهذا دليل على بطلان مذاهب الامامية خاصة .. فالجواب :... ان الله سبحانه وتعالى قد قطع العذر في كمال من اوجب له الامامة ودل على عصمة من نصبه للرياسة. وقد وضح بالبرهان القياسي والدليل السمعي :امامة هذين الامامين ، فاوجب ذلك خروجهما من جملة الايتام الذين توجه نحوهم الكلام¨ .(1/6)
واضاف · الامامية غير حرجة في اعتقادها خصوص آية الحجر بدليل يوجبه العقل ، ويحصل عليه الاجماع على التنزيل الذي اذكره ..وذلك انه لا خلاف بين الامة : ان هذه الآية يختص انتظامها لنواقص العقول عن حد الاكمال الذي يوجب الايناس فلم تكن منتظمة لمن حصل له من العقل ماهو حاصل لبالغي الحلم من اهل الرشاد ، فبطل ان تكون منتظمة للائمة
وحاول المفيد ان ينفي حجية العموم وحجية عموم آية الحجر حتى يسلم من الاتهام ..فابتكر بحثا اصوليا جديدا ..وقال: · ان الخصوص قد يقع في القول ولا يصح وقوعه في عموم العقل .. والعقل موجب لعموم الائمة بالكمال والعصمة . فاذا دل الدليل على امامة هذين النفسين وجب خصوص الآية فيمن عداهما بلا ارتياب .. مع ان العموم لا صيغة له عندنا فيجب استيعاب الجنس بنفس اللفظ ، وانما يجب ذلك بدليل يقترن اليه فمتى تعرى عن الدليل وجب الوقف فيه ..ولا دليل على عموم هذه الآية
ومع ان المفيد يدعي عدم الخلاف حول صفات الائمة الصغار ، مصادرة .. ويتجاوز الخلافات العنيفة حولهم داخل الشيعة الامامية ، فانه يحاول ان يثبت نقشا لعرش لم يثبت بعد ..حيث يحاول ان يثبت الطبيعة الاستثنائية للائمة الصغار بناء على موضوع العصمة والامامة التي لم تثبت بعد ، وليس ذلك إلا تخصيصا للقرآن بالظن .. ومن الواضح ان الشيخ المفيد يطلق على ظنه الحاصل من الفلسفة مصطلح العقل ، ويدعي وجود النص على امامة الجواد بناء على بعض اخبار الاحاد غير الثابتة ، كما يدعي وجود الاجماع الذي لم يكن له اثر بين الشيعة ولا عامة المسلمين حول امامة الجواد والهادي وغيره من الائمة ، ويقوم بعد ذلك بتخصيص عموم القرآن الكريم .. ثم لا يكتفي بذلك فينكر عموم آية الحجر الشامل للائمة وهم اطفال ..(1/7)
ومع ان الادلة الفلسفية الظنية او اخبار الاحاد المتضاربة والضعيفة لا تستطيع الغاء العموم الوارد في القرآن الكريم وتخصيصه ، ولا تقييد المطلق ، فان الواقع التاريخي ينفي وجود حالة خاصة للائمة وهم اطفال صغار ، ويذكر التاريخ الشيعي : ان الامام الجواد œ مثلا œ قد اوصى بابنه علي الهادي ، الى عبدالله بن المساور ، وجعله قائما على تركته من الضياع والاموال والنفقات والرقيق وغير ذلك ، الى ان يبلغ علي بن محمد ، وقد كتب الوصية وشهد بها احمد بن خالد ، وذلك في يوم الاحد لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين
و لكن المفيد يتحمس للجدال النظري بشدة بعد مضي اكثر من مائة سنة على نشوبه ..ودون ان يشاهد الائمة في صغرهم ليتثبت من حالتهم الشخصية ويعرف فيما اذا كانوا فعلا يمتلكون مؤهلات استثنائية غير طبيعية ؟.. ولا يقوم الشيخ المفيد بمراجعة التاريخ لكي يبني نظريته على اساس الواقع ..وانما يكتفي بالبحث النظري الفلسفي المجرد والمتأخر بعد مائة سنة لكي يقول مايقول ..وينتهج بذلك اسلوبا
غير علمي للتعرف على الحقيقة
تجاوز مشكلة البداء
واذا لم تكن عملية اختلاق الروايات عملا صعبا او مستحيلا ، فقد كان تجاوز مسألة البداء عملية صعبة جدا ، وقد حاول اقطاب الاثني عشرية الذين كانوا يدعون وجود قائمة مسبقة بأسماء الأئمة الاثني عشر ، معدة من قبل ، حاولوا ان يفسروا البداء بالبداء من الله ، والادعاء باختفاء امر امامة الكاظم والعسكري ، وظهورها بعد وفاة اسماعيل والسيد محمد(1/8)
الا ان الشيخ الصدوق رفض الاعتراف بحديث البداء من الاساس ، وقال مخاطبا الزيدية بِمَ قلتم : ان جعفر بن محمد قد نص على اسماعيل باالامامة ؟ وما ذلك الخبر؟ ومن رواه؟ ومن تلقاه بالقبول ؟ وانما هذه حكاية ولدها قوم قالوا بامامة اسماعيل ، ليس لها اصل ...فأما قوله · ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني¨ فانه يقول: ما ظهر لله امر كما ظهر له في اسماعيل ابني ، اذ اخترمه في حياتي ليعلم بذلك انه ليس بامام بعدي . والبداء الذي ينسب الى الامامية القول به ، هو: ظهور امره
و لكن الصفار والكليني والمفيد والطوسي رووا عن ابي هاشم داود بن القاسم الجعفري حديثا يثبت حدوث البداء في اسماعيل والسيد محمد ، وجاء فيه بصراحة ان الصادق اشار الى اسماعيل وان الهادي اشار الى محمد ثم صير مكانه ابا محمد العسكري
وروى الصفار والكليني والمفيد والطوسي حديثا عن الامام الهادي يقول فيه لابنه الحسن · يا بني احدث لله شكرا فقد احدث فيك امرا
وقد اغمض الصدوق عينيه عن هذه الاحاديث وأراح نفسه من عناء مناقشتها والرد عليها وأهملها بالمرة ، بالرغم من انها كانت مورد اجماع المحدثين السابقين واللاحقين
ورغم صراحة تلك الاحاديث في البداء في امر الامامة ، فان الشيخ المفيد حاول ان يأول معنى البداء من معنى تغير علم الله او ارادته الذي يظهر من كلمة احداث الى معنى الظهور ويقول المعنى في قول الامامية بدا لله في كذا اي ظهر له فيه . ومعنى ظهر فيه اي ظهر منه . والذي اعتمدناه في معنى البداء : انه الظهور . وهو خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه بعيدا في النظر (1/9)
وكذلك حاول الشيخ الطوسي ان يأول معنى البداء بقوله: ما تضمنه الخبر من قوله :بدالله فيه معناه بدا من الله فيه فان الناس كانوا يظنون في اسماعيل بن جعفر انه الامام بعد ابيه ،فلما مات علموا بطلان ذلك وتحققوا امامة موسى ،وهكذا كانوا يظنون امامة محمد بن علي بعد ابيه فلما مات في حياة ابيه علموا بطلان ماظنوه « وقال: لما مات محمد ظهر من امر الله فيه وانه لم ينصبه اماما كما ظهر في اسماعيل مثل ذلك ، لا انه كان نص¹ عليه ثم بدا له في النص على غيره ، فان ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب
وقد أكد الشيخ الطوسي مرة اخرى ان موضوع الامامة لا يقبل البداء ، لأنه يؤدي ان لا نثق بشيء من اخبار الله تعالى
وكان الشيخ علي بن بابويه الصدوق قد رفض التسليم بالبداء في تسمية الأئمة، واعتبر ذلك كالصلاة والصوم التي لا تقبل النسخ ، وقال · ما كان الله ليبدو له في امام تسمية ولا خروجا ، وما الفرق بعد قولي : ان الامامة احد الشرائع الخمسة بين من يقول بالبداء في الصلاة والصوم وسائر الشرائع الاربعة ، لأن مخرج الاربعة واحد وهي الامامة ، فان جاز ان ينسخ الله اصل الشرائع جاز ان ينسخ فرعها ، واعوذ بالله ان اقول بنسخ شريعة وتبديل ملة بعد ان جعل الله محمدا خاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع ، وواصل القيام على دينه وشريعته بقيام الساعة والانتقال منها الى محشر الساعة
وحاول ابن بابويه ان يفسر الاحاديث الواردة بالبداء بالتقية ، بعد استحالة الجمع بين البداء والقول بوجود القائمة المسبقة بأسماء الأئمة
وقال · الامامة لا تتغير وحاش َ لله ان يجعل خلفاءه في عباده من ينقض امرهم ويبدل سنتهم وتكون حكمته سبحانه بمحل يرشح رجلا لحفظ بيضة المسلمين فيكون بمنزلة ينحى عنها قبل انقضاء اجله وبلوغ مدته ، او يجعله بمحل من يحدث في عقله الفساد لبلوغه اقصى العمر وابعد السن ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا¨(1/10)
وفعلا لو كانت الامامة من الله لاستحال حدوث البداء فيها ، ولصعب تفسير البداء حتى بمعنى الظهور ، اذ ان ذلك يسبب بلبلة الشيعة وفقدان ثقتهم بكلمة الأئمة ، كما حدث في التاريخ . ولكن بدلا من ان ينظر المتكلمون الى احاديث اهل البيت ، والى الحقائق التاريخية التي كانت تؤكد حصول الاشارة من الأئمة على بعض ابنائهم ثم وفاتهم في حياتهم ، ثم اشارتهم الى آخرين ، فيستنتجوا منها عدم الامامة من الله كما كان يقول اهل البيت عليهم السلام فان المتكلمين الاثني عشرية حاولوا ان يفسروا البداء بصورة تعسفية بما ينسجم مع النظرية الامامية ولكنهم اضطروا ضمنياً الى الاعتراف بغموض النص على بعض الأئمة وعدم معرفة الشيعة وخواص الأئمة بالقائمة المسبقة بأسمائهم
يقول الشيخ باقر شريف القرشي في كتاب حياة الامام الحسن العسكري على اي حال فان هذه الروايات لا علاقة لها بالبداء ، وانما تدل على ان الله تعالى اظهر امامة الحسن العسكري التي كانت مخفية على الشيعة
واضافة الى قضية البداء التي كانت تتعارض مع وجود قائمة مسبقة بأسماء الأئمة الاثني عشر كانت هناك بعض الاحاديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي والكافي للكليني تذكر ان عدد الأئمة ثلاث عشر وقد قامت على اثرها فرقة تسمى الثلاث عشرية بقيادة حفيد عثمان بن سعيد العمري احمد بن هبة الله الكاتب . و لذا فان النظرية الاثناعشرية لم تستقر بسهولة بين الشيعة الامامية ، وقد قال الصدوق بصراحة : · أننا لسنا مستعبدين في ذلك الا بالاقرار باثني عشر اماما ، واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر بعده ¨ , ويروي الصدوق عدة روايات حول احتمال امتداد الامامة بعد المهدي وعدم الاقتصار عليه، فروي عن الامام اميرالمؤمنين رواية حول غموض الامر بعد القائم وان رسول الله قد عهد اليه ان لا يخبر احدا بذلك الا الحسن والحسين ، وانه قال : لا تسألوني عما يكون بعد هذا فقد عهد الي حبيبي ان لا اخبر به غير عترتي(1/11)
وعلى اي حال ، فقد اختلفت النظرية الاثناعشرية عن الامامية في ان هذه الاخيرة كانت تدور حول أئمة من اهل البيت ، موجودين في الحياة بشكل ظاهر ، وتعتقد انهم اولى بالحكم والخلافة من الحكام الامويين او العباسيين ، وتقول ان اولئك الأئمة معينون من قبل الله بينما اخذت النظرية الاثنا عشرية تدور حول امام غائب لا أثر له في الحياة ، هو الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي تدعي انه ولد في ظروف سرية واختفى وسوف يظهر في المستقبل
وقد ادى القول بوجود الامام الثاني عشر وغيبته وانتظاره ، الى فقدان النظرية الاثني عشرية للمعنى السياسي ، مما ادى الى انسحاب الشيعة الاثني عشرية من المسرح السياسي ، وانقراضهم في القرن الرابع ، ليفسحوا المجال امام الفرق الشيعية الاخرى كالزيدية الاسماعيلية ان يحتلوا الساحة.(1/12)
فرضية المهدي
( محمد بن الحسن العسكري )
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ .. إن تتبعون إلا الظن ، وان انتم إلا تخرصون ! ( يونس 36)
إن هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى .( النجم 23)
وما لهم به من علم .. إن يتبعون إلا الظن .. وان الظن لا يغني من الحق شيئا .. ( النجم 28)
المقدمة
عرف الشيعة الإمامة الاثناعشرية قيام عدة دول شيعية في التاريخ ، ولكن (الجمهورية الإسلامية) التي قامت في إيران ، في نهاية القرن الرابع عشر الهجري ، كانت أول دولة عقائدية لهم منذ اكثر من ألف عام . ولم تكن لتقوم إلا بعد حدوث عدة تطورات جذرية في الفكر السياسي الشيعي ، الذي سادته منذ وفاة الإمام العسكري في منتصف القرن الثالث ، بعض النظريات السلبية المخدرة و وأبعدته عن مسرح الحياة قرونا من الزمن . ولكنه ناضل من اجل الخروج من تلك الأغلال السلبية التي شلت حركته واستطاع أخيرا النهوض بنجاح كبير - والحمد لله - عبر أبواب نظرية (ولاية الفقيه) .(1/1)
ونتيجة الرواسب التاريخية المؤسفة لم تكن الصورة الدستورية لنظرية ولاية الفقيه واضحة تماما أو مبلورة بصورة كاملة ، حيث كانت تتعرض للشد والجذب بين نظريتين هما : (النيابة العامة للفقهاء) و (الشورى ) أو لديموقراطية . ونتيجة لذلك فقد تفجرت عدة صراعات داخل النظام الإسلامي الوليد ، كان أهمها الصراع بين رئيس الجمهورية الأول أبو الحسن بني صدر والإمام الخميني ، والصراع بين مجلس الشورى ورئيس الوزراء حسين موسوي ، والازمة الطويلة بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور حول قانون العمل .. تلك الازمة التي فجرت عام 1988 خلافا بين الإمام الخميني ورئيس الجمهورية يوماك السيد علي الخامنائي ، وآدت إلى طرح الإمام لنظرية الولاية المطلقة التي أعلن فيها قدرة الفقيه الحاكم على تجاوز الدستور والامة واعتبار الولاية شعبة من ولاية الإمام المعصوم والنبي والله ، وأنها تضاهي في صلاحياتها صلاحيات الرسول الأعظم ..
وهذا ما دفعني لإجراء مراجعة فقهية استدلالية لنظرية (ولاية الفقيه) التي كنت أؤمن بها من قبل ، ودراستها من جديد ، وقد قمت بهذه الدراسة في عام 1989 وحصلت لدي بعض التفاصيل الجزئية التي اختلفت فيها مع الإمام من حيث تحديد الصلاحيات والفصل بين السلطات واستناد نظرية ولاية الفقيه على الشورى و إرادة الأمة .
وقبل إن اكتب الدراسة بشكلها النهائي ارتأيت إن اعمل لها مقدمة تاريخية تغطي تاريخ المرجعية منذ بداية (الغيبة الكبرى) وذلك من خلال دراسة كتب الفقه القديمة وتاريخ العلماء ، لكي أرى مَ ن من العلماء كان يؤمن بنظرية (ولاية الفقيه) وكيف انعكست على موقفه السياسي وماذا قام به من أعمال؟(1/2)
وبحمد الله عثرت على مكتبة فقهية شاملة خاصة في مدينة مشهد (خرا سان) تضم اكثر من مائة موسوعة فقهية شيعية منذ بداية (الغيبة الكبرى) إلى الآن ، فانكببت على مراجعتها والتحقيق فيها ..فاكتشفت فجأة إن العلماء السابقين لم يكونوا يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه ، أو بالأحرى لا يعرفونها مطلقا.. وان بعضهم كتب في الرد عليها عندما طرحها الشيعة الزيدية كمخرج لأزمة (الغيبة ) ، كالشيخ عبد الرحمن بن قبة والشيخ الصدوق والعلامة الحلي .. وان أول من كتب فيها هو الشيخ النراقي في (عوائد الأيام) قبل نحو مائة وخمسين عاما ، وان العلماء السابقين كانوا يؤمنون بنظرية (الانتظار للإمام المهدي الغائب) ويحرمون العمل السياسي أو الثورة أو إقامة الحكومة وممارسة مهامها في عصر الغيبة. وذلك لفقد شرطَي العصمة والنص في الإمام .
لقد كنت فيما مضى اصطدم في الحوزة ببعض العلماء الذين يحرمون العمل السياسي أو الاقتراب منه.. وكنت اسمع بعض المشايخ وهو يردد الحديث المعروف :( كل راية تخرج قبل ظهور المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت ) ولكني كنت اعتبر هذا الحديث ضعيفا وغير مهم ، ولم اكن أدرك عمق الفكر السلبي الذي كان يخيم على الحوزة ويضرب بجذوره إلى أعماق التاريخ ، ويتمتع بفلسفة كلامية عريضة !
وهنا تساءلت في نفسي: إذا كانت نظرية ولاية الفقيه حادثة مؤخرا وغير معروفة من العلماء السابقين ، فماذا يا ترى ترك (النواب الأربعة الخاصون ) من فكر سياسي لعصر (الغيبة الكبرى)؟..
وقررت تبعا لذلك إن ادرس مرحلة (الغيبة الصغرى) وفكر ومواقف (النواب الأربعة) فوجدتهم يؤمنون كذلك بنظرية (الانتظار) ويبتعدون عن العمل السياسي ، وهذا ما زاد من حيرتي.. واكتشفت أثناء البحث شبهات تاريخية وعلامات استفهام تدور حول صدق ادعاء (النواب الأربعة) بالنيابة الخاصة عن الإمام المهدي الغائب ، ضمن دعاوى اكثر من عشرين (نائبا) كان يدعي ذلك ، وان الشك كان يحوم حولهم جميعا .(1/3)
وحاولت بكل جهدي إن افهم ماذا خلف (الإمام المهدي ) للشيعة من نظام سياسي في غيبته؟ وهل أشار إلى ذلك ؟ أم تركهم سدى؟ ولماذا لم ينص على (المرجعية) أو (النيابة العامة ) أو (ولاية الفقيه) أو (الشورى) ؟ ولماذا لم يتحدث عن ضرورة قيام دولة شيعية في ظل الغيبة؟ ولماذا لم يفهم العلماء السابقون القريبون منه ذلك ؟ ولماذا التزموا بنظرية (الانتظار)؟
وقد جرني بحث موضوع (الغيبة الصغرى) إلى بحث موضوع · وجود الإمام المهدي ( محمد بن الحسن العسكري) بعد إن وجدت لأول مرة في حياتي أجواء من الحيرة والغموض تلف القضية تلك الأيام وعدم وضوح الصورة لدى الشيعة الإمامة الموسوية الذين تفرقوا بعد وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ظاهر إلى اكثر من أربعة عشر فرقة ، وتشتتوا ذات اليمين وذات الشمال .. مما ولّد لدي صدمة أكبر ودفعني لاستقصاء البحث حول الموضوع ، مع الإصرار على ضرورة التوصل إلى نتيجة حاسمة وواضحة ، والخروج من الحيرة .
وقد تعجبت من نفسي جدا لجهلي بتاريخ الشيعة إلى الحد الذي لم أقرأ ولم اسمع عن تفاصيل الحيرة ووجود الشك التاريخي حول ولادة الإمام الثاني عشر ، مع أني كنت أتصدى للدعوة والتبشير بالمذهب الامامي الاثني عشري منذ طفولتي ، وقد نشأت في الحوزة وكتبت عدة كتب حول أئمة أهل البيت وقرأت اكثر.. وانتبهت حينها إلى غياب درس مادة التاريخ بالمرة من برامج الحوزة العلمية التي تقتصر على اللغة العربية والفقه والأصول والفلسفة والمنطق..
ولا يوجد لديها حصة واحدة حول التاريخ الإسلامي أو الشيعي!
وعلى أي حال .. فقد كان البحث في موضوع (وجود الإمام المهدي ) حساسا جدا ويحمل خطورة اجتماعية وسياسية وفكرية ، ويمكن إن يقلب كثيرا من الأمور رأسا على عقب ، ويشكل منعطفا استراتيجيا في حياتي وحياة المجتمع.(1/4)
ولم استطع إن اترك الأسئلة التي ارتسمت أمامي معلقة في الهواء.. إذ لا بد إن أجيب عليها بنعم أو ..لا ، ووجدت الأمانة العلمية والمسئولية الرسالية تفرض عليّ إن أواصل البحث حتى النهاية.
وحمدت الله تعالى مرة أخرى ..على آني كنت في إيران معقل الفكر الشيعي الامامي ، فذهبت إلى مكتبات طهران وقم ومشهد ، ولم ادع كتابا قديما أو حديثا حول الموضوع إلا ودرسته بدقة وعمق.. وبدلا من إن ينقشع الغموض ويزول الشك والحيرة، ازدادت الصورة سلبية وغموضا.. ووجدت بعض العلماء السابقين يصرح بعدم وجود أدلة تاريخية كافية وقاطعة أو معتبرة حول ولادة الإمام المهدي ، وانه يقول بذلك عن طريق الاجتهاد والافتراض الفلسفي والظن والتخمين!!!
وهمست إلى بعض الأساتذة في الحوزة بما توصلت إليه من نتائج مذهلة ، وسألته فيما إذا كان يمتلك أدلة علمية أخرى أقوي على ولادة الإمام المهدي ، فنفى الحاجة إلى ذلك ، وقال: إن الأيمان بوجود الإمام المهدي ليس بحاجة إلى استدلال علمي أو تاريخي ، وانما يتم عن طريق الغيب ، وانه يشكل جزءا من الأيمان بالغيب! .. فقلت له: نحن نؤمن بالقرآن الكريم كوحي منزل من الله على رسوله الكريم ، وكلما يتضمن القرآن من إشارات إلى موضوعات غائبة عن حسنا كاليوم الآخر والملائكة والجن والشياطين والأنبياء السابقين ، فنحن نؤمن بها ، ولا يمكن إن نؤمن بعد ذلك بشيء لم يصرّح به القرآن الكريم ولا الرسول الأعظم ولا أهل البيت ونعتبره جزءا من الغيب الذي يجب إن نؤمن به. وعموما نحن نؤمن بالإسلام وبكل ما جاء به الرسول الأعظم ، ولا بد إن نمتلك الأدلة والبراهين العلمية ، خاصة في موضوع العقيدة ، ولا يجوز إن نؤمن بشيء عن طريق الظن والافتراض ودعوى الغيب ، وبكلمة أخرى : لا يمكن إن نؤمن بشيء عن طريق غيبي .(1/5)
ونظرا لخطورة الموضوع فقد طلب مني ذلك الأستاذ الكبير إن أؤجل الكتابة في الموضوع لمدة سنة ، وان أواصل البحث ، وان أكتمه بشدة، ثم اقدم الدراسة بعد الانتهاء منها مكتوبة إلى العلماء لكي يناقشوها بدقة.. فوعدته بذلك ..
وعندما أنهيت البحث أرسلت رسالة إلى عدد كبير من العلماء في قم والنجف وطهران ومشهد والبحرين والكويت ولبنان ..اعرض عليهم ما توصلت إليه من نتائج ، واطلب منهم مناقشة البحث قبل نشره . ومع آني كنت متيقنا من النتائج التي توصلت إليها ، فقد احتملت إن يكون قد غاب عني بعض الأدلة والبراهين التي قد لم اطلع عليها والتي تثبت ولادة ووجود الإمام المهدي (محمد بن الحسن العسكري) أعلنت استعدادي للتراجع إذا ما أقنعني أحد بخطأ ما توصلت إليه ، واستعدادي لنشر ما يردني من ردود حتى إذا لم اقتنع بها.
وقد استجاب بعض العلماء الأفاضل في قم لدعوتي ، وطلبوا الكتاب لمناقشته ، بينما رد البعض الآخر بصورة عنيفة ومتشنجة وقرروا المقاطعة والإهمال ، واستنكر قسم ثالث إن أقوم بمراجعة المسلمات الثابتة ، واستغرب قسم رابع من مطالبتي بالأدلة على وجود الإمام المهدي واعتبر التشكيك في (وجود الإمام الثاني عشر) مقدمة للتشكيك في النبوة ووجود الله تعالى!
لقد اكتشفت وجود علاقة وثيقة بين موضوع الإمام المهدي ونظرية (الانتظار) السلبية التي كان يلتزم بها العلماء السابقون ، والتي كانت تحرم أي نشاط سياسي في عصر (الغيبة) والتي تفسر سر انهيار الشيعة وانعزالهم عبر التاريخ وخروجهم من مسيرة الحياة.(1/6)
و إن الفكر السياسي الشيعي في (عصر الغيبة) كان ولا يزال يرتكز على نظرية وجود الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) وولادته من قبل ، وقد التزم مرة - ولفترة طويلة - بنظرية الانتظار ، التي لم يتخلَّ عنها تماما ، ولا تزال تفعل فعلها في كثير من جوانب الحياة ، وعندما تخلى عن نظرية الانتظار وقع في مطب نظرية (النيابة العامة) و (ولاية الفقيه) التي تعطي للمرجع الديني أو الحاكم صلاحيات مطلقة تشابه صلاحيات الإمام المعصوم أو الرسول الأعظم (ص) وتقضي على إمكانيات مشاركة الأمة في السلطة وإقامة نظام سياسي معتدل .
لذا فاني اشعر بأن المسئولية الكبرى عن تخلف الشيعة وانحطاطهم في التاريخ تقع على عاتق الأفكار الخاطئة والنظريات الدخيلة التي تسربت عبر المتكلمين إلينا .. وان إصلاح أوضاعنا العامة في الحاضر والمستقبل يتوقف على مراجعة ثقافتنا وتصحيحها وتنقيتها ومطابقتها مع روح الإسلام وتراث أهل البيت (ع) .
وقد قمت في هذه الكتاب ببحث جميع الأدلة التي قدمها و يقدمها المتكلمون والمؤرخون حول (ميلاد ووجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري ) وكانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي : الدليل العقلي الفلسفي والدليل التاريخي والدليل الروائي النقلي ، ثم قمت بعد ذلك بدراسة هذه الأدلة وتقييمها والتأكد من صحتها .. ودرست بعد ذلك الآثار السلبية التي ألحقتها هذه النظرية بالشيعة الإمامة الاثني عشرية على مدى التاريخ ، وسجلت بعد ذلك عمليات الخروج الشيعية من تلك الأزمة المستعصية ، ومحاولات الثورة الفقهية والسياسية ضد الفكر السلبي القديم ، وتوقفت أخيرا عند المرحلة الأخيرة من تطور الفكر السياسي الشيعي وهي مرحلة (ولاية الفقيه) وتأملت في إيجابياتها وسلبياتها وقدمت في النهاية الصورة المستقبلية التي أرى أتمنى إن يتقدم إليها الفكر السياسي الشيعي ، وهي صورة (الشورى) أو الديموقراطية ، وولاية الأمة على نفسها .(1/7)
المدخل :
عصر الحيرة !
وفاة الإمام العسكري
أدت وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) في سامراء سنة 260 للهجرة ، دون إعلانه عن وجود خلف له ، والوصية إلى أمه المسمّاة ب :· حديث إلى تفجر أزمة عنيفة في صفوف الشيعة الإمامة الموسوية الذين كانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة الإلهية إلى يوم القيامة ، وحدوث نوع من الشك والحيرة والغموض والتساؤل عن مصير الإمامة بعد العسكري ، وتفرقهم في الإجابة على ذلك إلى أربعة عشرة فرقة . كما يقول النوبختي في (فرق الشيعة)، وسعد بن عبد الله الأشعري القمي في :(المقالات والفرق) وابن أبى زينب النعماني في :(الغيبة) والصدوق في :(إكمال الدين) والمفيد في (الإرشاد) والطوسي في :(الغيبة) ، وغيرهم وغيرهم .
ويقول المؤرخون الشيعة : إن جعفر بن علي الهادي أخا الحسن حاول إن يحوز كل تركة الإمام ، ولما اتصل خبر وفاة الحسن بأمه وهي في المدينة خرجت حتى قدمت (سر من رأى) وادعت الوصية . وثبت ذلك عند القاضي .
ويذكر المؤرخون الشيعة أيضا: إن جارية للإمام العسكري تسمى :( صقيل) ادعت أنها حامل منه ، فتوقفت قسمة الميراث . وحمل الخليفة المعتمد الجارية صقيل إلى داره ، وأوعز إلى نسائه وخدمه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبى الشوارب بتعهد أمرها والتأكد من حملها واستبرائها .. ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية ملازمين لها حتى تبين لهم بطلان الحمل فقسم ميراث الحسن بين أمه وأخيه جعفر.
ادعاء جعفر بن علي بالإمامة(1/1)
ولما كانت الإمامة تثبت عادة بالوصية من الإمام السابق للاحق ، فقد استغل أخو الإمام العسكري : جعفر بن علي الهادي ، الذي كان ينافس أخاه على الإمامة في حياته ، استغل الفراغ الظاهري بعدم وجود ولد لأخيه وعدم وصيته أو إشارته إلى أحد ، فادعى الإمامة لنفسه وقال للشيعة:· مضى أخي ولم يخلف أحدا لا ذكرا ولا أنثى ، وأنا وصيه وكتب إلى بعض الموالين في قم - التي كانت مركزا للشيعة يوماك - يدعوه فيها إلى نفسه ، ويعلمه انه القيّم بعد أخيه ، ويدعي إن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه غيره وغير ذلك من العلوم كلها .
وينقل الصدوق في :(إكمال الدين) ص 475 : حديثا عن أبى الأديان البصري - الذي يصفه بأنه خادم الإمام العسكري ورسوله إلى الشيعة في مختلف الأمصار - : إن عامة الشيعة عزوا جعفراً وهنئوه ، وكان من ضمنهم (النائب الأول) : عثمان بن سعيد العمري.
ويذكر النوبختي والاشعري القمي والمفيد : إن بعض شيعة الإمام العسكري ، اعترفوا بالظاهر ، وسلموا بعدم وجود ولد للعسكري ، وآمنوا بإمامة أخيه جعفر ، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الفطحية الذين جمعوا بين إمامة عبد الله وموسى ابني جعفر الصادق ، والذين لم يكونوا يشترطون الوراثة العمودية دائما في الإمامة .
وكان رئيس هؤلاء والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة يقال له:( علي بن الطاحي الخزاز) وعلماء بني فضال ، وأخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني .(1/2)
وكاد أهل قم إن يستجيبوا لجعفر ، لأنهم لم يكونوا يعرفون غيره ، وقد اجتمعوا إلى شيخهم احمد بن إسحاق وكتبوا إلى جعفر كتابا جوابا عن هذه المسائل ، طلبوا منه فيها إن يجيبهم على عدة مسائل قالوا · إن أسلافنا سألوا عنها آباءك أجابوا عنها بأجوبة وهي عندنا نقتدي بها ونعمل عليها ، فأجبنا عنها بمثل ما أجاب عنها آباؤك المتقدمون ، حتى نحمل إليك الحقوق التي كنا نحملها إليهم أرسلوا وفدا إلى جعفر لمحاورته، فأوصل الكتاب وسأله في البداية عن كيفية انتقال الإمامة إليه مع وجود خبر يقول بعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين ، فاعتذر جعفر بالبداء من الله ، لعدم وجود ولد لأخيه الحسن.
ويقول الخصيبي في (الهداية الكبرى):· إن الوفد أقام عليه مدة يسأله عن جواب المسائل فلم يجب عنها ، ولا عن الكتاب بشيء منه أبدا .
ولكن الصدوق والطوسي والصدر لا يتحدثون عن هذه المشكلة البسيطة التي لا تصعب على من يدعي الإمامة مثل جعفر ، وانما يقولون :· إن الوفد سأل جعفرا عن الغيب وطالبه بإخباره عن كمية الأموال التي يحملها من قم وعن أصحابها ، وقال : إن الحسن كان يخبرهم بذلك ، فرفض جعفر التحدث بالغيب واستنكر نسبته إلى أخيه
ويقول الخصيبي: إن جماعة من أهل قم هم أبو الحسن بن ثوابة وأبو عبد الله الجمال وابوعلي الصائغ والقزويني كانوا يأخذون الأموال من الشيعة باسم جعفر ويأكلونها ولا يوصلونها إليه ويتهمونه بالكذب ، مما يشير إلى إن قسما من شيعة قم قد آمنوا بإمامة جعفر بالفعل واخذوا يرسلون إليه الأموال.
القائلون بانقطاع الإمامة(1/3)
كما يقول النوبختي والاشعري القمي والكليني والمفيد والطوسي والصدوق والحر العاملي : إن قسما من الشيعة الإمامة ذهبوا إلى القول بالتوقف وانقطاع الإمامة والقول بالفترة كالفترة بين الرسل ، وانهم اعتلوا في ذلك ببعض الأخبار عن الإمامين الباقر والصادق : حول إمكانية ارتفاع الأئمة وانقطاع الإمامة ، خاصة إذا غضب الله على خلقه ، وقالوا: إن هذا عندنا ذلك الوقت.
المتراجعون
ويقول المؤرخان الشيعيان الأولان المعاصران لتلك الفترة النوبختي والاشعري القمي :
- إن وفاة الإمام الحسن العسكري عن دون ولد ظاهر تستمر الإمامة فيه ، أدت إلى تراجع بعض الشيعة عن القول بإمامة العسكري نفسه ، كما تراجع بعض الشيعة (الموسوية) قبل مائة عام ، عن القول بإمامة عبد الله ألا فطح بن جعفر الصادق ، الذي اصبح إماما بعد أبيه ، ولكنه لم ينجب ولدا تستمر الإمامة فيه . وقال هؤلاء :· إن القول بإمامة الحسن كان غلطا وخطأ ، وجب علينا الرجوع عنه إلى إمامة جعفر ، وان الحسن قد توفي ولا عقب له ، فقد صحّ عندنا انه ادعى باطلا ، لأن الإمام بإجماعنا جميعا لا يموت إلا عن خلف ظاهر معروف يوصي إليه ويقيمه مقامه بالإمامة ، والإمامة لا ترجع في أخوين بعد حسن وحسين ، فالأمام لا محالة جعفر بوصية أبيه إليه .
وكان السبب في تراجع هؤلاء عن القول بإمامة العسكري هو أيمانهم بقانون الوراثة العمودية ، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخ أو ابن آخ أو عم ابن عم .
القائلون بمهدوية العسكري
وقد ذهب قسم آخر من الشيعة إلى إنكار وفاة الإمام العسكري ، والقول بمهدويته وغيبته ، وذلك بناء على عدم جواز وفاة الإمام دون ولد معروف ظاهر له ، لأن الأرض لا تخلو من إمام ، واعتبروا اختفاء الإمام نوعا من الغيبة عنهم .(1/4)
ومنهم من اعترف بموته ولكنه قال بعودته إلى الحياة مرة أخرى .. وذلك استنادا إلى حديث حول معنى (القائم): (انه يقوم من بعد الموت) ويقوم ولا ولد له ، وان كان له ولد لصح موته ولا رجوع ، لأن الإمامة كانت تثبت لخلفه ، ولا أوصى إلى أحد .. فلا شك انه القائم ، والحسن بن علي قد مات لا شك في موته ولا ولد له ولا خلف ولا أتوصى إذ لا وصية له ولا وصي .. فلا شك انه القائم وانه حي بعد الموت. وقالوا : انه قد عاش بعد الموت! .. وقد رووا:( إن القائم إذا بلغ الناس خبر قيامه قالوا: كيف يكون فلان إماما وقد بليت عظامه؟) فهو اليوم حي مستتر لا يظهر وسيظهر ويقوم بأمر الناس ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا .
ومنهم من قال: انه سيعود إلى الحياة في المستقبل.. وانما سمي القائم لأنه يقوم بعدما يموت.
وقد اختلق هؤلاء أو استوردوا أحاديث بهذا المضمون من بعض الحركات الشيعية الواقفية السابقة .
ويقول الصدوق: إن هؤلاء سموا بالواقفية على الحسن ، وقد ادعوا : إن الغيبة وقعت به لصحة أمر الغيبة عندهم وجهلهم بموضعها.
المحمدية والنفيسية
وذهب قسم من هؤلاء المتراجعين عن القول بإمامة الحسن العسكري لعدم وجود ولد له، إلى القول بإمامة أخيه محمد ، الذي كان قد توفي قبل سبع سنوات في حياة أبيه الهادي ، فأنكروا وفاة محمد وقالوا: إن أباه قد أشار إليه ونصبه إماما ونص على اسمه وعينه - وهذا ما يتفق عليه الجميع - ولا يجوز إن يشير الإمام بالوصية والإمامة إلى غير إمام .. إذن فانه لم يمت في الحقيقة ، كما هو الظاهر ، بل إن أباه قد أخفاه (تقية) كما أخفى الإمام الصادق ابنه إسماعيل - حسب قول الإسماعيلية - وانه المهدي المنتظر .
وعرفت هذه الفرقة ب :(المحمدية )(1/5)
وقال قسم من هذه الفرقة فيما بعد : إن محمد بن علي قد توفي ، وانه أوصى إلى غلام لأبيه اسمه (نفيس) ودفع إليه الكتب والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأمة و أوصاه : إذا حدث بي حدث الموت إن يؤدي ذلك إلى أخيه جعفر .
وكانت هذه الفرقة تتخذ موقفا عنيفا من الإمام الحسن العسكري وتكفره وتكفر كل من يقول بإمامته ، وتغلو في جعفر ، وتدعي انه القائم . وقد عرفت هذه الفرقة المتطرفة باسم :(النفيسية) .
الواقفون
وفي مقابل هولاء المتطرفين كان فريق آخر من شيعة الإمام الحسن العسكري يذهب ، نتيجة الصدمة والحيرة ، إلى إنكار وفاة الإمام ، والقول بغيبته ومهد ويته ، وذلك بناء على عدم جواز وفاة الإمام دون ولد معروف ظاهر ، لأن الأرض لا يمكن إن تخلو من إمام حسب عقيدتهم .
وانقسم هؤلاء إلى عدة فرق .. فمنهم من اعترف بموت الإمام الحسن ، ولكنه قال بعودته إلى الحياة بعد ذلك بوقت قليل ، وذلك استنادا إلى حديث حول معنى كلمة (القائم): انه يقوم من بعد الموت . ومنهم من قال : انه مات ولم يعد إلى الحياة ، ولكنه سوف يعود في المستقبل .
وقد استورد هؤلاء أحاديث بهذا المضمون من بعض الحركات الشيعية الواقفية السابقة ، وسموا ب (الواقفية على الحسن) وقد ادعوا : إن الغيبة وقعت به وانه المهدي المنتظر.
الحيارى(1/6)
وقد دفعت أزمة وفاة الإمام العسكري دون ولد ظاهر ، بكثير من الشيعة الإمامة الذين كانوا يعتقدون باستمرار الإمامة إلى يوم القيامة.. دفعتهم إلى البحث والتمحيص والتفتيش عن ولد يحتمل إن يكون الإمام العسكري قد أخفاه لسبب من الأسباب ، كالخوف من الأعداء مثلا ، وأحجم بعضهم عن القول بأي شيء انتظارا لجلاء الأزمة ، فلم يقولوا بإمامة جعفر كما لم يقولوا بانقطاع الإمامة ، ولم يقولوا بمهدية الحسن العسكري ، بل قالوا:· لا ندري ما نقول في ذلك .. وقد اشتبه الآمر علينا ، فلسنا نعلم إن للحسن بن علي ولد أم لا؟ أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد ؟ وقد كثر الاختلاف ، إلا أنا نقول: إن الحسن بن علي كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة وقد توفي وصحت وفاته ، والأرض لا تخلو من حجة . فنحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده.. إذ لم يصح عندنا إن له خلفا ، وخفي علينا أمره ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ، فانه لا خلاف بين الشيعة: انه لا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه وصية ظاهرة .
الجنينيون
وفي غمرة أجواء الشك والحيرة والخلاف والبحث عن الحقيقة هذه ، اعتمد بعض الشيعة الإمامة على دعوى الجارية (صقيل ) أو (نرجس) بالحمل من الحسن ، عند وفاته .. وقالوا بولادة ابن له ولد بعد وفاة الحسن بثمانية اشهر ، وانه مستتر لا يعرف اسمه ولا مكانه ، واستندوا إلى حديث رووه عن الإمام الرضا يقول فيه:· إنكم ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع .
وذهب قسم من هؤلاء الذين قالوا بوجود الحمل عند الوفاة ، إلى ادعاء استمرار الحمل في بطن أمه إلى أمد غير منظور ، وذلك بصورة اعجازية ، وقالوا بحتمية ولادة الجارية لولد ذكر تستمر الإمامة فيه وفي ذريته إلى يوم القيامة!(1/7)
وبقدر ما كان احتمال الولادة بعد الوفاة أمرا واردا وممكنا ، فان دعوى استمرار الحمل في البطن إلى ما يشاء الله كانت غير معقولة ومرفوضة جدا خاصة وان الجارية صقيل (أو نرجس) اختفت في زحمة الأحداث ، أو توفيت ، ولم يستطع أحد إن يشاهدها وينظر إلى نتيجة حملها بعد ذلك .
ولم يكن بعيدا في أجواء الغلو البعيدة عن العقل والعرف إن يقول أي فريق بما يشاء من أقوال وفرضيات وأوهام .
القائلون بوجود الولد المسبق
(الاثناعشريون)
وبالرغم من عدم توصل كثير من الشيعة الذين بحثوا عن ولد للعسكري إلى أية نتيجة.. وفيما كانت الحيرة تعصف بعامة الشيعة الإمامة ، والغموض يلف موضوع الخلف ، والاختلاف يمزق الناس يمينا وشمالا.. كان بعض أصحاب الإمام الحسن العسكري يهمسون بتكتم شديد بوجود ولد له في السر ولد قبل وفاته بسنتين أو ثلاث ، أو خمس أو ست أو ثماني سنين ، ويقولون انهم قد رأوه في حياة أبيه وانهم على اتصال به ، ويطلبون من عامة الشيعة التوقف عن البحث والتفتيش عنه أو التصريح باسمه ويحرمون ذلك .
وكانوا يفسرون ادعاء الجارية صقيل بوجود الحمل عند وفاة العسكري بأنه محاولة منها للتغطية على وجود الولد في السر .
وعرف هؤلاء الذين قالوا بوجود ولد مغمور للإمام العسكري بالفرقة الاثني عشرية .
عصر الحيرة
وقد كان القول بوجود ولد له قولا سريا باطنيا قال به بعض أصحاب الإمام العسكري بعد وفاته. ولم يكن الأمر واضحا وبديهيا ومجمعا عليه بين الشيعة في ذلك الوقت ، حيث كان جوٌ من الحيرة والغموض حول مسألة الخلف يلف الشيعة ، ويعصف بهم بشدة .
وقد كتب عدد من العلماء المعاصرين لتلك الفترة كتبا تناقش موضوع الحيرة وسبل الخروج منها ، منهم الشيخ علي بن بابويه الصدوق الذي كتب كتابا اسماه :( الإمامة والتبصرة من الحيرة) .(1/8)
وقد امتدت هذه الحيرة إلى منتصف القرن الرابع الهجري حيث أشار الشيخ محمد بن علي الصدوق في مقدمة كتابه (إكمال الدين) إلى حالة الحيرة التي عصفت بالشيعة وقال:· وجدت اكثر المختلفين اليّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة ، ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة وذكر الكليني والنعماني والصدوق مجموعة كبيرة من الروايات التي تؤكد وقوع الحيرة بعد غيبة صاحب الامر واختلاف الشيعة وتشتتهم في ذلك العصر واتهام بعضهم بعضا بالكذب والكفر والتفل في وجوههم ولعنهم ، وانكفاء الشيعة كما تكفأ السفينة في امواج البحر وتكسرهم كتكسر الزجاج أو الفخار .
وقال محمد بن أبى زينب النعماني في (الغيبة) يصف حالة الحيرة التي عمت الشيعة في ذلك الوقت:· إن الجمهور منهم يقول في (الخلف ): أين هو؟ وأنى يكون هذا ؟ والى متى يغيب؟ وكم يعيش؟ هذا وله الآن نيف وثمانون سنة؟ فمنهم من يذهب إلى انه ميت ومنهم من ينكر ولادته ويجحد وجوده بواحدة ويستهزئ بالمصدق به ، ومنهم من يستبعد المدة ويستطيل الأمد ويقول:· أي حيرة اعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الامر الخلق الكثير والجم الغفير؟ ولم يبقَ ممن كان فيه إلا النزر اليسير ، وذلك لشك الناس .
وهذا ما يدل على إن قضية ( وجود ابن للإمام العسكري) لم تكن قضية مجمع عليها بين صفوف الشيعة الإمامة في ذلك العصر ، وان دعاوى الإجماع والتواتر والاستفاضة التي يدعيها البعض على أحاديث وجود وولادة ومهدوية الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) لم يكن لها وجود في ذلك الزمان ..(1/9)
ولا بد إن نضع علامة استفهام على دعاوى الإجماع والتواتر المتأخرة والمناقضة تماما للتاريخ.. خاصة وان دعوى الإجماع والتواتر لاتمنع من المراجعة والنقد والتمحيص.. بالإضافة إلى إن الإجماع لا يشكل لدى الشيعة الإمامة الاثني عشرية حجة بديلة عن الأدلة العلمية.. وحسبما يقول علماء الأصول: إن الإجماع يمكن إن يؤخذ به في غياب الدليل الشرعي ، فإذا علمنا استناد دعوى معينة على أدلة نقلية أو عقلية فعلينا مراجعة تلك الأدلة وعدم التشبث بالإجماع . ومن المعروف إن دعوى ولادة الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) تأتي بأدلة عقلية ونقلية وتاريخية .. فلا بد إذن من مراجعتها والتحقق بنفسنا منها ، وعدم الانسياق وراء المتكلمين أو التسليم لدعاواهم وفرضياتهم واجتهاداتهم .(1/10)
(أدلة وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري)
المبحث الأول
الاستدلال الفلسفي
المطلب الأول : العقل أولا ..
تقدم الفرقة (الاثناعشرية) التي قالت بوجود ولد مستور للإمام الحسن العسكري ، واستمرار حياته إلى اليوم والى إن يظهر في المستقبل .. تقدم عدة أدلة على ذلك ، وهي تنقسم إلى أنواع عديدة، ويأتي على رأسها الدليل الأول : الفلسفي ، أو العقلي ، فماذا يقول هذا الدليل؟ وعلى ماذا يرتكز؟
انه يقول :
أولا : بضرورة وجود الإمام (أي الرئيس ) في الأرض ، وعدم جواز بقاء البلاد فوضى بلا حكومة .
ثانيا: ضرورة عصمة الإمام من الله ، وعدم جواز حكومة الفقهاء العدول ، أو الحكام العاديين .
ثالثا: وجوب كون الإمامة وحصرها في أهل البيت وفي أبناء علي والحسين إلى يوم القيامة .
رابعا : الأيمان بوفاة الإمام الحسن العسكري ، وعدم القول بغيبته و مهدويته .
خامسا: الالتزام بقانون الوراثة العمودية ، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين.
قدم المتكلمون الذين كتبوا حول (المهدي محمد بن الحسن العسكري) قديما وحديثا ، دليل العقل كأهم الأدلة على وجود ه ، وأولوه أهمية كبرى في عمليات الاستدلال . وقد نقل الشيخ الصدوق قول المتكلم الشيعي المعاصر لتلك الفترة: أبى سهل إسماعيل بن علي النوبختي الذي استدل على · وجود (الإمام المهدي ) بالعقل ، وذكر في كتابه (التنبيه) - الذي ألفه بعد ثلاثين عاما من (الغيبة) -: · إن الشيعة قد علموا بوجود ابن الحسن بالاستدلال ، كما عرفوا الله والنبي وأمور الدين كلها بالاستدلال .
و اعتبر الشيخ المفيد ( 338 - 413) :· الدليل العقلي الذي يقتضي وجود الإمام المعصوم في كل زمان ... دليلاً كافياً على وجود ابن الحسن وحصر الإمامة فيه ، و قال:إن هذا أصل لن يحتاج معه إلى رواية النصوص لقيامه بنفسه في قضية العقول وصحته بثابت الاستدلال .(1/1)
و استخدم الشيخ الكراجكي ( - 427) الدليل العقلي ، القائم على ضرورة الإمامة وضرورة العصمة في الإمام ، في عملية الاستدلال
على وجود ولد للإمام الحسن العسكري وثبوت الإمامة فيه وصحة غيبته ، وذلك لانحصار (العصمة ) فيه مع عدم عصمة أدعياء الإمامة الآخرين .
وقال السيد المرتضى علم الهدى( 355 - 436):· إن العقل يقتضي بوجوب الرياسة في كل زمان ، وان الرئيس لا بد من كونه معصوما.. وإذا ثبت هاذان الاصلان فلا بد من القول : انه (صاحب الزمان) بعينه ، لأن الصفة التي اقتضاها ودلّ على وجوبها لا توجد إلا فيه ، وتساق الغيبة بهذا سوقا ضروريا لا يقرب منه شبهة.. ولأنه إذا بطلت إمامة من اثبتت له الإمامة بالاختيار لفقد الصفة التي دلّ العقل عليها ، وبطل قول من خالف من شذاذ الشيعة ، فلا مندوحة عن مذهبنا ، فلا بد من صحته ، وإلا خرج الحق عن الأمة .
ونفى السيد المرتضى الحاجة إلى مشاهدة الإمام للأيمان به ، بعد إمكانية التعرف عليه بالاستدلال العقلي ، و ردّ في كتاب (الشافي) على القاضي المعتزلي عبد الجبار الهمداني الذي نفى في (المغني) وجود الإمام الثاني عشر وقال : · إن قول الشيعة بالعصمة أداهم إلى إثبات أشخاص لا اصل لهم ، وانهم اثبتوا في هذا الزمان إماما مختصا بنسب واسم من غير إن يعرف منه عين أو اثر وقال المرتضى في (الشافي):· إن قوله هذا مبني على مجرد دعوى ومحض اقتراح ، وقد دللنا على وجوب الإمامة في كل زمان ، بما لا حيلة فيه ولا قدرة على دفعه .(1/2)
وقال الشيخ الطوسي ( 385 - 460) في (تلخيص الشافي): · إن كل من قطع على وجوب اعتبار الدليل العقلي قطع على وجود (صاحب الزمان) وإمامته . وقال في: (مسائل كلامية / المسائل العشر ):· إن الإمام اليوم هو : الخلف الحجة القائم المنتظر المهدي محمد بن الحسن صاحب الزمان... وان المهدي حي موجود من زمان أبيه الحسن العسكري إلى زماننا هذا بدليل: إن كل زمان لا بد فيه من أمام معصوم ، مع إن الإمامة لطف واللطف واجب على الله تعالى في كل وقت .
وقسم الشيخ الطوسي في (الغيبة) الأدلة على ولادة صاحب الزمان إلى قسمين عقلية ونقلية ، وركز على أهمية القسم الأول بصورة مستقلة ، فقال:· أما الكلام في ولادة صاحب الزمان وصحتها فأشياء اعتبارية وأشياء إخبارية ، فأما الاعتبارية فهو: إذا ثبت إمامته بما دللنا عليه من الأقسام وإفساد كل قسم منها إلا القول بإمامته ، علمنا بذلك صحة ولادته ، وان لم يرد فيه خبر أصلاً .
وقال بعد إن استعرض دليل العصمة وان الإمام لا بد إن يكون معصوما وان الحق لا يخرج من الأمة:· إذا ثبتت هذه الأصول ثبتت إمامة صاحب الزمان ، لأن كل من يقطع على ثبوت العصمة للإمام قطع على انه الإمام .
وتصدى الشيخ الطوسي لإبطال صحة ادعاءات الفرق الشيعية المختلفة من الكيسانية والناووسية والفطحية والواقفية وغيرها من الفرق التي ادعت العصمة لأئمتها ، واستنتج من ذلك · ضرورة صحة إمامة ابن الحسن ، وصحة غيبته ، ونفى - مع ثبوت ذلك - الحاجة إلى تكلف الكلام في إثبات ولادته وسبب غيبته ، لأن الحق لا يجوز خروجه عن الأمة .
واستدل الفتال النيسابوري في (روضة الواعظين) على وجود (صاحب الزمان) وإمامته ب :· ما يقتضيه العقل من الاستدلال الصحيح من استحالة خلو الزمان من كون معصوم يكون لطفا للمكلفين .(1/3)
وهكذا اعتبر الحسن بن أبى الحسن الديلمي صاحب (إرشاد القلوب) في :(أعلام الدين في صفات المؤمنين ) :انحصار العصمة في أئمة أهل البيت ، دليلا على وجود الإمام الثاني عشر (الحجة بن الحسن) .
واحتج عبد الله بن النصر ابن الخشاب البغدادي في (تاريخ مواليد الأئمة ووفياتهم) لاثبات · وجود وإمامة القائم بالحق ابن الحسن ، بما يقتضيه العقل بالاستدلال الصحيح من : وجود أمام معصوم .. ووجوب النص على من هذه سبيله أو ظهور المعجز عليه.. وعدم هذه الصفات من كل أحد سوى من اثبت إمامته أصحاب الحسن بن علي وهو ابنه المهدي وقال:· إن هذا اصل لا يحتاج معه في الإمامة إلى رواية النصوص وتعداد ما جاء فيها من الأخبار ، لقيامه بنفسه في قضية العقول وصحته بثبات الاستدلال .
و جاء بعد ذلك العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر ، ليستدل في (الباب الحادي عشر - الفصل السادس ) على وجود (الإمام المهدي) بالدليل العقلي الذي يتألف من :·وجوب الإمامة ووجوب كون الإمام معصوما ، ووجوب النص عليه أو ظهور المعجز على يديه ثم اثبت إمامة علي وأولاده بالنص المتواتر من النبي (ص) وقال: · إن الإمام الثاني عشر حي موجود من حين ولادته وهي سنة 256ه إلى آخر زمان التكليف ، لأن كل زمان لا بد فيه من أمام معصوم لعموم الأدلة ، وغيره ليس بمعصوم ، فيكون هو الإمام .
وانطلق العلامة محمد باقر المجلسي في عملية إثبات وجود (الإمام المهدي) من قاعدة (الحسن والقبح العقليين) وقال في (بحار الأنوار ): · إن العقل يحكم بأن اللطف على الله واجب.. وان وجود الإمام لطف.. وانه لا بد إن يكون معصوما... وان العصمة لا تعلم إلا من جهته... وان الإجماع واقع على عدم عصمة غير صاحب الزمان .. فيثبت وجوده عليه السلام .(1/4)
وقال السيد محمد صادق الصدر في (الشيعة الإمامة ) : · لقد عرفت إن الأمة في حاجة ماسة إلى أمام معصوم... ولا شك إن هذه الحاجة ليست خاصة بوقت دون وقت أو عصر دون عصر ، فالضرورة إذا تلجئنا إن نؤمن بوجود الإمام المهدي.. إذ ليس ثمة أمام يدعى وجوده سواه.. وهذه حقيقة واضحة .
واعتمد بعض المتكلمين على مبدأ:· ضرورة وجود ولد للإمام لكي تستمر الإمامة في عقبه للاستدلال على وجود ولد للإمام الحسن العسكري . ونقل الشيخ الطوسي عن الإمام علي بن موسى الرضا قوله:· إن صاحب هذا الامر لا يموت حتى يرى ولده من بعده وابطل بذلك قول من قال :( لا ولد لأبي محمد العسكري) .
المطلب الثاني: خطوات نقلية على طريق العقل
ولا بد من القول هنا: إن · الدليل العقلي على وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) ليس دليلا عقليا محضا ، بحيث يستطيع أي عاقل مجرد إن يتوصل إليه تلقائيا ، وانما هو يعتمد على مقدمات نقلية عديدة. وقد قال الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين):· إن القول بغيبة صاحب الزمان مبني على القول بإمامة آبائه... وان هذا باب شرعي ، وليس بعقلي محض .
ولذلك فقد قام المتكلمون الشيعة بمناقشة كل فقرات · الدليل العقلي كالعصمة وغيرها من نقاط الخلاف التي كانت بينهم وبين عامة المسلمين وسائر الفرق الشيعية ، وبالأخص الزيدية والواقفية الذين كانوا يؤمنون بنظريات مهدوية أخرى ، والذين كانوا من أشد خصوم الشيعة الاثني عشرية في عصر الحيرة.
ومن هنا فقد كانت المحطة الأولى في الاستدلال النقلي على طريق العقل هي:
1- ضرورة وجود الإمام
وقد اعتمد علي بن بابويه القمي في كتابه:( الإمامة والتبصرة من الحيرة ) لإثبات هذه المقدمة ، على مجموعة كبيرة من الأحاديث ، ونقل عن الإمام الباقر والصادق أحاديث تقول بعدم جواز بقاء الأرض بغير أمام أو بغير أمام عادل ( وان آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله انه تركه بغير حجة).(1/5)
كما روى ابنه الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين) عن أبى عبد الله (ع) انه قال:( إن الله أجل واعظم من إن يترك الأرض بغير عدل).
وأضاف إليها في (علل الشرائع) حديثا آخر حول ضرورة وجود العالم الحي الظاهر في الأرض لكي يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم . وروى عن أبى عبد الله قوله:( إن الأرض لو خلت طرفة عين من حجة لساخت بأهلها) .
وروى الطبري في :(دلائل الإمامة) عن أبى عبد الله انه قال:( ما تزال الأرض لله فيها حجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله عز وجل).
2- إثبات الإمامة في عترة الرسول (ص)
وكانت الخطوة الثانية هي إثبات الإمامة في أهل البيت (ع) وذلك استنادا إلى الحديث النبوي الشريف الذي يقول:( آني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعثرتي أهل بيتي ، وهما الخليفتان من بعدي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) . ولما كان لفظ :(العترة) عاما يشمل جميع أقرباء الرسول ، فقد تم اللجوء ، كما يقول الصدوق ، إلى العقل والتعارف والسيرة في تفسير الحديث بما يدل على إن الرسول الأكرمأراد علماء العترة دون جهالهم ، والبررة الاتقياء منهم دون الفساق والظالمين.
وروى الطبري في :(دلائل الإمامة) حديثا في تفسير قوله تعالى :(أطيعوا الله أطيعوا الرسول أتولي الأمر منكم) :أن المراد بهم : الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى إن تقوم الساعة.
3- إثبات إمامة أمير المؤمنين (ع) ونفي مهدويته
وذلك بإثبات النصوص عليه بالخلافة والإمامة من رسول الله (ص) . ونفي القول بمهديته وغيبته - كما قال السبئية - وذلك اعتمادا على موته الظاهر والشهير ورفض التفسيرات الباطنية .
4- إثبات الإمامة في أبناء علي
5- نفي الإمامة والمهدوية عن محمد بن الحنفية ، وكذلك نفي الإمامة والمهدوية والغيبة عن أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، اللذين ادعي الشيعة الكيسانية لهما ذلك . وإثبات الإمامة لعلي بن الحسين .(1/6)
6- نفي إمامة أبناء الحسن الذين ادعى بعضهم كمحمد بن عبد الله (ذي النفس الزكية) الإمامة والمهدوية ، وحصر الإمامة بدلا من ذلك في أبناء الحسين فقط ، وذلك بناء على تفسير قوله تعالى :(وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله) .
7- عدم جواز اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين ، وذلك اعتمادا على تفسير قوله تعالى :( وجعلها كلمة باقية في عقبه) بأن المقصود من (الكلمة) : الإمامة ، والمقصود من الضمير المتصل بالعقب : هو الحسين بن علي ، وعدم جواز رجوع الإمامة إلى أخ أو ابن عم وضرورة انتقالها من الوالد إلى الولد.
وقد تم اعتماد هذا القانون من اجل نفي إمامة زيد بن علي وأبنائه الذين ادعوا المهدوية أو ادعيت لهم ، وحصر الإمامة في الإمام محمد الباقر وابنه جعفر الصادق .
8- إثبات إمامة الصادق ونفي مهدويته ، وذلك خلافا للشيعة الناووسية الذين أنكروا وفاة الصادق وادعوا مهدويته وغيبته .
9- إثبات إمامة الكاظم ، ونفي مهدويته ، وذلك خلافا للشيعة الإسماعيلية الذين ساقوا الإمامة بعد الصادق في ولد إسماعيل ، أو الفطحية الذين قالوا بإمامة عبد الله ألا فطح ، وخاصة الفريق الذي قال بوجود ولد مستور له هو (محمد بن عبد الله ألا فطح) وادعى مهدويته وغيبته . وقد قام علي بن بابويه القمي بإيراد عدة روايات حول إمامة الكاظم والنص عليه من أبيه ، ونفي إمامة عبد الله ألا فطح وإبطال إمامة إسماعيل الذي توفي في حياة الإمام الصادق ، وذلك من اجل حصر الإمامة في الكاظم ونزعها من أبناء إسماعيل الذين ادعوا توارث الإمامة فيهم وادعوا ظهور المهدي من بين صفوفهم .
وقام ابنه الشيخ الصدوق بإيراد مجموعة روايات عن الإمام علي بن موسى الرضا تؤكد وفاة أبيه وتنفي مهدويته التي قال بها (الواقفية) الذين رفضوا الاعتراف بوفاة الكاظم وقالوا بهروبه من سجن الرشيد وغيبته عن الأبصار استعدادا للظهور في المستقبل.(1/7)
- إثبات إمامة بقية الأئمة كالرضا والجواد والهادي والعسكري ، حتى تصل إلى (الإمام الثاني عشر : محمد بن الحسن العسكري)
11- نفي إمامة ومهدوية محمد بن علي الهادي . التي قال بها قسم من الشيعة الإمامة في ذلك الزمان وهم (المحمدية) الذين رفضوا كالاسماعيلية الاعتراف بوفاته في حياة أبيه وأصروا على القول بحياته وغيبته ومهدويته ، وذلك اعتمادا على وصية أبيه إليه . وقد اعتمد الشيخ الطوسي في :(الغيبة) في إبطال هذا القول على موت السيد محمد، الظاهر ، واعتبر إنكاره إنكارا للضروريات.
12 - إثبات إمامة الحسن العسكري ، ونفي مهدويته ، حيث كان ذلك عملا مهما على طريق إثبات الإمامة والمهدوية لابنه محمد. وقد توقف الشيخ الطوسي في :(الغيبة) عند هذه النقطة ملياً ، وجاء بعدة روايات عن الإمام الهادي يثبت فيها الإمامة والوصية للعسكري . ونقل حديثا يتضمن حدوث البداء لله في إمامة محمد بن علي ونقلها إلى أخيه الحسن العسكري .
واعتمد الطوسي في عملية إثبات إمامة العسكري على مجموعة من (المعاجز) التي رواها أبو هاشم الجعفري ، والتي تدور حول محور (علم الإمام بالغيب) .
وكان لا بد من إثبات وفاة الإمام العسكري اعتمادا على الظاهر ، ونفي مهدويته وغيبته ، وتأويل الأحاديث التي تدعي القيام بعد الوفاة ، وذلك لقطع الطريق على الذين قالوا بغيبة الإمام الحسن ومهدويته .
13- نفي إمامة جعفر بن علي الهادي .
وقد اعتمدت هذه العملية على إسقاطه من أهلية الإمامة فضلا عن المهدوية ، وذلك باتهامه بشرب الخمر والفسق والفجور والكذب .
واعتمد الشيخ الطوسي في مناقشة الشيعة الإمامة
الفطحية الذين قالوا بإمامة جعفر بن علي بعد وفاة أخيه الحسن العسكري ، على مبدأ الوراثة العمودية في الإمامة واستمرارها في الأعقاب وأعقاب الأعقاب أبدا إلى يوم القيامة ، وعدم جواز انتقالها إلى الاخوة أو أبناء العم .
14- ضرورة استمرار الإمامة إلى يوم القيامة(1/8)
وكان لا بد من إثبات هذا المبدأ ، في الطريق إلى القول بوجود (ابن الحسن) وذلك ردا على الفرقة الإمامة التي قالت بانقطاع الإمامة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري ، وقد قام علي بن بابويه القمي بالرد على هؤلاء بإيراد حديث عن رسول الله (ص) يذكر فيه استمرار الإمامة في أهل البيت إلى يوم القيامة ، وعدم توقيتها لفترة محددة فقط .
واعتمد الشيخ المفيد على عدم جواز خلو الأرض من حجة (أي عن أمام معصوم) في عملية الاستدلال العقلي على وجود الإمام (صاحب الزمان المهدي المنتظر) .
و روى الطوسي حديثا عن أبى عبد الله (ع):( إن الأرض لو بقيت بغير أمام ساعة لساخت) .
وتمسك الكراجكي في كتاب:( البرهان على صحة طول عمر صاحب الزمان): بضرورة استمرار الإمامة في أهل البيت ، وعدم جواز خلو الزمان من أمام ، بعد وفاة العسكري ،في الاستدلال على ضرورة استنتاج وجود (الإمام صاحب الزمان) وعدم استحقاق غيره للإمامة.
15- نفي وفاة المهدي
وكانت الخطوة الأخيرة في عملية إثبات وجود (الإمام المهدي) هي نفي وفاته ، وتأويل الأحاديث الكثيرة التي كانت متداولة في تلك الأيام ، والتي تتحدث عن وفاة القائم وقيامه بعد الموت ، وهي الأحاديث التي طبقها أصحاب نظرية مهدوية الحسن العسكري عليه ، وطبقها آخرون على ابنه فقالوا انه ولد ومات وسيحيى ويظهر في المستقبل ، وقد ذكر بعضها الطوسي في :(الغيبة) ولم يضعّفها ، ولكنه أوّلها بموت ذكره ، وأشار إلى ضرورة التوقف فيها والتمسك بما هو معلوم.(1/9)
هذه هي فقرات الدليل العقلي ، الذي يقدمه المتكلمون كأول وأهم دليل على وجود (محمد بن الحسن العسكري ) ويمكن تلخيصه في: نظرية (الإمامة الإلهية لأهل البيت القائمة على العصمة و النص والوراثة العمودية ) . وهو يتركز أساسا على مبدأ (الوراثة العمودية) وعدم جواز الجمع بين الأخوين في الإمامة ، خلافا للشيعة الإمامة الفطحية الذين لم يؤمنوا بهذا المبدأ فذهبوا إلى القول بإمامة جعفر بن علي ولم يشاركوا (الاثني عشرية) بالقول بوجود (ابن مغمور للحسن العسكري) .(1/10)
المبحث الثاني :
الدليل الروائي على وجود المهدي
يعتمد الاستدلال على وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) بالدليل النقلي ، على القرآن الكريم ، و الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) حول التبشير بالمهدي المنتظر ، وهي تنقسم إلى عدة أقسام رئيسية:
القسم الأول: القرآن الكريم
لتفسدن في الأرض مرتين ، قوله تعالى :( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ولتعلن علوا كبيرا ، فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، ثم رددنا لكم الكرة عليهم ..) وقد روى الكليني في :(الكافي) عن أبى عبد الله (ع) : أنها نزلت في القائم .
قوله تعالى :( فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) وقد روى الكليني عن أبى جعفر (ع) إن المخاطب بها أصحاب القائم . 2
قوله تعالى :( حتى يتبين لهم انه الحق) وقد روى الكليني أيضا : أنها تعني خروج القائم من عند الله . 3
قوله تعالى :( ولتعلمن نبأه بعد حين ) روى الكليني : إن ذلك عند خروج القائم .وقوله تعالى:( وقل جاء الحق وزهق الباطل) :إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل. 4
قوله تعالى:( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون) . وقد روى الكليني عن أبى جعفر (ع) انه قال: إذا قام القائم وبعث إلى بني أمية بالشام هربوا إلى الروم.. فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح فيقول أصحاب القائم : لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا فيدفعونهم إليهم ، فذلك قوله:( لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ..) قال : ويسألهم عن الكنوز ، وهو أعلم بها ، فيقولون:( يا ويلنا انا كنا ظالمين ، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) بالسيف. 5
قوله تعالى :( حتى إذا رأوا ما يوعدون) وذلك بظهور القائم، كما يقول علي بن إبراهيم القمي في تفسيره. 6(1/1)
7 - قوله تعالى:( يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ) أي صيحة القائم من السماء . 7
8 - قوله تعالى :( ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) : إن المقصود هو المهدي من ولد فاطمة .
9 - قوله تعالى:( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)
10 - قوله تعالى :( ونريد إن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين )
وكل هذه الآيات تُأوّل بالمهدي القائم .
القسم الثاني: الأحاديث :
- الروايات الواردة حول المهدي والقائم .
وذلك مثل:(المهدي يخرج في آخر الزمان) و( ابشروا بالمهدي...) و (القائم لا يقوم حتى ينادي منادي السماء...) و( لا تذهب الدنيا حتى يلي هذه الأمة رجل من أهل بيتي يقال له المهدي) و ( المهدي من ولد فاطمة) و ( المهدي من ولد الحسين).. وهي روايات كثيرة يرويها الكليني في (الكافي) والنعماني في :(الغيبة) والصدوق في (إكمال الدين) والطوسي في (الغيبة) والمفيد في :(الإرشاد)، وهي وان كانت عامة غير محددة بشخص معين إلا إن كثيرا من المؤلفين حول الإمام الثاني عشر يستخلصون منها دليلا على وجوده وولادته ، وذلك بعد إضافة روايات أخرى عن الإمام الجواد والإمام الهادي: إن المهدي من أولادهما. 8
2الواردة حول الغ- الروايات يبة والغائب
وذلك مثل :( المهدي من ولدي تكون له غيبة وحيرة) و( إن الثابتين على القول بالمهدي في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر ) و ( المهدي.. له غيبة وحيرة تضل الخلق عن أديانهم ) و ( للقائم منا غيبة أمدها طويل ) و ( لا بد لصاحب هذا الامر من عزلة أو غيبة) و ( إن للقائم غيبة قبل ظهوره) و ( إن لصاحب هذا الامر غيبتين إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات ، وبعضهم يقول : قتل ، وبعضهم يقول: ذهب ، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير ).(1/2)
وقد اتخذ القائلون بوجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) من تلك الأحاديث دليلا على صحة نظريتهم ، وقال محمد بن أبى زينب النعماني في (الغيبة):· لو لم يكن يروى في الغيبة إلا هذا الحديث (الأخير) لكان فيه كفاية لمن تأمله . 9
واعتبر محمد بن علي بن بابويه الصدوق : نقل الشيعة لتلك الروايات التي تتحدث عن (الغيبة) قبل وقوعها دليلا على صحتها. 10 وقال: إن عدم ظهور النص والخلف بعد الحسن العسكري وغيبة الإمام المهدي واختفاء شخصه ، واختلاف الشيعة ووقوع الحيرة من أمره ، كما جاء في الروايات الماضية دليل على (كون المهدي ووجوده وغيبته) .
وقال الشيخ الطوسي في (الغيبة):· إن موضع الاستدلال من هذه الأخبار ما تضمن الخبر بالشيء قبل كونه ، فكان كما تضمنه ، فكان ذلك دلالة على صحة ما ذهبنا إليه من إمامة ابن الحسن ، لأن العلم بما يكون لا يحصل إلا من جهة علام الغيوب ، فلو لم يُروَ إلا خبر واحد ووافق مخبره ما تضمنه الخبر لكان ذلك كافيا .
وقال أيضا:· إن ما يدل على إمامة ابن الحسن وصحة غيبته ما ظهر وانتشر من الأخبار الذائعة عن آبائه قبل هذه الأوقات بزمان طويل من إن لصاحب هذا الأمر غيبة ، وصفة غيبته وما يجري فيها من الاختلاف ويحدث فيها من الحوادث ، وانه يكون له غيبتان إحداهما أطول من الأخرى.. وان الأولى يُعرف فيها خبره ، والثانية لا يُعرف فيها أخباره.. فوافق ذلك ما تضمنه الأخبار ، ولولا صحتها وصحة إمامته لما وافق ذلك ، ولا يكون ذلك إلا بإعلام الله تعالى على لسان نبيه .
3- الروايات الواردة حول الاثني عشر إماما
وذلك مثل حديث النبي (ص):( يكون بعدي اثنا عشر خليفة) أو ( لا يزال أمر امتي ظاهرا حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) أو ( يلي هذه الأمة اثنا عشر.. كلهم من قريش لا يرى مثله) أو ( يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش) .(1/3)
وهذه روايات كلها من طرق أهل السنة ، وقد رواها الصدوق وقال تعليقاً عليها:· نقل مخالفونا من أصحاب الحديث نقلا ظاهرا مستفيضا من حديث جابر بن سمرة السوائي عن رسول الله... وقد أخرجت طرق هذا الحديث... فدل على إن الأخبار التي في أيدي الإمامة عن النبي والأئمة بذكر الأئمة الاثني عشر اخبار صحيحة .
كما رواها الكليني في (الكافي) والطوسي في (الغيبة) .
أما الروايات الشيعية الواردة حول موضوع (الاثني عشرية) فقد ذكر الكليني في :(الكافي) منها حوالي سبع عشرة رواية ، وذكر الصدوق في :(إكمال الدين) حوالي بضع وثلاثين رواية.. و روى الخزاز في :(كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر) حوالي مائتي رواية ، وقال عنها : أنها متواترة · وذلك لعدم إمكانية اتفاق صحابة رسول الله وخيار العترة والتابعين الذين يُنقل عنهم شطرا من الروايات على الكذب .
وتعتمد النظرية الاثني عشرية حسب الرواية الشيعية التي تذكر أسماء الأئمة الاثني عشر في قائمة مُعدَّة من قبل ، على كتاب سليم بن قيس الهلالي الذي يقول : إن الشيعة كانوا يحتفضون بالقائمة الاثني عشرية في بيوتهم خلال القرون الثلاثة السابقة .
وقد قال ابن أبى زينب النعماني عن كتاب سليم:· انه ليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة خلاف في إن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من كتب الأصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت وأقدمها ، وهو من الأصول التي يرجع إليها الشيعة ويعوّل عليها .(1/4)
اتخذ الصدوق وسائر المتكلمين من تلك الروايات التي اعتبروها (متواترة) دليلا على وجود وولادة (الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) من حيث انه لا بد إن يكمل الرقم (12) المُخبَر به من قبل ، ومن دونه يصبح عدد الأئمة (أحد عشر) خلافاً للأحاديث ، ومن حيث إن الروايات قد جاءت بأن (المهدي) من أهل البيت ومن ولد الحسين ، وقد مضى الأئمة الأحد عشر ولم يظهر واحد منهم ، فتحتم : انه المهدي الذي سوف يظهر ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا . 19
واعتبر الطوسي إجماع الطائفتين المختلفتين والفرقتين المتباينتين : (العامة) و (الإمامة) على : إن الأئمة بعد النبي (ص) اثنا عشر ، لا يزيدون ولا ينقصون، دليلاً على ولادة (صاحب الزمان) وصحة غيبته ، وقال: إن الشيعة يروون تلك الأخبار على وجه التواتر خلفاً عن سلف. 20
4- المهدي الإمام الثاني عشر
وإضافة إلى ذلك توجد في التراث الشيعي اكثر من سبعين رواية عن رسول الله (ص) أهل البيت (ع) تتحدث عن (المهدي والقائم) بصراحة : انه (الإمام الثاني عشر أو التاسع من ولد الحسين ) وبعضها يذكره بالاسم الصريح الكامل ، وبعضها يكتفي بالإشارة إليه بالكنية واللقب . ومن تلك الروايات ما ذكره الصدوق في :(إكمال الدين) عن رسول الله (ص):· إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي المهدي ...).
وما عنه أيضا:· إن الله عز وجل اختار... من علي الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء من ولده... تاسعهم قائمهم) . 22
وما عن أمير المؤمنين (ع) :· آني فكرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي هو المهدي .23
وما عن الحسين بن علي (ع) :· التاسع من ولدي ...هو قائمنا أهل البيت يصلح الله تبارك وتعالى أمره في ليلة واحدة . 24(1/5)
وما عن أبى عبد الله (ع):· إن الغيبة ستقع بالسادس من ولدي ، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله أولهم أمير المؤمنين وآخرهم بقية الله في الأرض وصاحب الزمان . 25
وما عن الإمام الرضا (ع):· إن القائم هو... الرابع من ولدي . 26
وما عنه أيضا:· الإمام بعدي محمد ابني ، وبعده ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر .27
وما عن الإمام الهادي (ع) :· إن الإمام بعدي الحسن ابني وبعد الحسن ابنه القائم 28
وما عن أبى عبد الله عن جابر بن عبد الله الأنصاري انه دخل على فاطمة الزهراء في حياة رسول الله ليهنئها بولادة الحسين ، فرأى في يدها لوحا أخضر ، ورأى فيه كتابا شبه نور الشمس ، فسألها عن ذلك فقالت له : هذا اللوح أهداه الله إلى رسول الله فيه اسم أبى واسم بعلي واسم ابني واسماء الأوصياء من ولدي فأعطانيه أبي ليسرني بذلك... وكان فيه أسماء الأئمة الاثني عشر واحدا واحدا .. وان الأخير منهم (م ح م د )يبعثه الله رحمة للعالمين . 29
5- حتمية وجود الحجة في الأرض
وهناك أحاديث أخرى تؤكد على ضرورة وجود الحجة في الأرض وعدم جواز خلوها من الإمام ، مثل ما يروى عن رسول الله في كتب السنة :( من مات بغير أمام مات ميتة جاهلية ، ومن نزع يداً من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له) وما عن الإمام الصادق ( من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) الذي يرويه سليم بن قيس في كتابه ، والصدوق في : ( إكمال الدين ص 413) والكليني في :(الكافي ج1 ص 376) والنعماني في :(الغيبة ص 129 ) والمفيد في (الاختصاص ص 268) و(الرسائل ص 384)(1/6)
والحديث الآخر الذي يرويه عن الإمام الصادق :( لن تخلو الأرض من رجل يعرف الحق ، فإذا زاد الناس فيه قال: زادوا ، وإذا نقصوا قال: قد نقصوا ، وإذا جاؤا به صدقهم ، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يعرف الحق من الباطل ) كل من: البرقي في (المحاسن ص 235) والصدوق في (علل الشرائع ج1 ص 200) والمفيد في (الاختصاص ص 289)
وما يروى أيضا عن الإمام الصادق من (إن الله جل وعز ، أجل واعظم من إن يترك الأرض بغير أمام ) والذي يرويه كلٌ من الصفار في (بصائر الدرجات ص 485) والكليني في (الكافي ج1 ص 178) والصدوق في (إكمال الدين ص 229)
وما يروى عنه أيضا ، من انه قال:( ما ترك الله عز وجل الأرض بغير أمام قط منذ قبض آدم (ع) يهتدى به إلى الله عز وجل ، وهو الحجة على العباد ، من تركه ضلّ ومن لزمه نجا حقاً على الله عز وجل). 30
وما يروى أيضا عن الإمام الصادق من انه ( لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها) والذي يرويه الصفار في (بصائر الدرجات ص 481) والكليني في (الكافي ج1 ص 179) والنعماني في (الغيبة ص 139) والصدوق في (علل الشرائع ص 197 و إكمال الدين ص 201 )
إذن فان الدليل النقلي كان يتألف من عدة مجاميع من الآيات والروايات التي تتحدث عن القائم والمهدي بصورة عامة ، وتلك التي تخصصه في أهل البيت وفي أولاد الإمام علي (ع) وفي أولاد السيدة فاطمة الزهراء (ع) وفي أولاد الإمام الحسين وفي أولاد الإمام الصادق وفي أولاد الإمام الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) إضافة إلى الروايات التي كانت تتحدث عن عدد الأئمة الاثني عشر ، وعن ولادة (الإمام المهدي) واسمه ، وهذا ما يؤدي إلى الأيمان بولادة ووجود (الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن العسكري) واستمرار حياته ، بالرغم من عدم ظهوره في حياة أبيه أو الوصية له أو الإشارة المباشرة منه إليه.(1/7)
الدليل التاريخي على ولادة الإمام المهدي
المطلب الأول: ولادة المهدي
يعترف الدليل التاريخي بأن الظاهر من حياة الإمام العسكري وسيرته ينفي إن يكون له ولد ولكنه يقول : إن الظروف السياسية لم تكن لتسمح للحسن العسكري بإعلان وجود ولد له ، وان الخوف عليه من السلطات العباسة التي كانت تعلم من قبل انه الإمام المهدي الذي سوف يزلزل عرشها ، هو الذي اجبر الإمام على إخفاء أمر ولادة ابنه ( المهدي المنتظر). ثم يذهب · الدليل التاريخي ليذكر تفاصيل ولادة (محمد بن الحسن العسكري) والظروف التي أحاطت بها ، وقصص الذين شاهدوه والتقوا به في مختلف مراحل حياته أيام أبيه وبعد وفاته .
أم المهدي
تختلف الروايات حول اسم أم المهدي ، فبينما يقول الشيخ الأقدم ابن أبى الثلج البغدادي في (تاريخ الأئمة) والمسعودي في (إثبات الوصية) والطوسي في (الغيبة ) والمجلسي في (بحار الأنوار) : أن اسمها :(نرجس) يقول محمد بن علي الصدوق في :(إكمال الدين) :إن اسمها (مليكة) وهي بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم في ذلك الزمان ، وأنها رأت الإمام الحسن العسكري في المنام فأحبته وتزوجته وهربت من أبيها الذي كان يريد تزويجها من ابن أخيه ، ووقعت في الآسر حيث أرسل الإمام الهادي نخاسا لشرائها من سوق الرقيق في بغداد . 1
ولكن المسعودي يقول : إنها كانت جارية ولدت في بيت بعض أخوات أبى الحسن علي بن محمد ، وربتها في بيتها فلما كبرت وعبلت دخل أبو محمد فنظر إليها فأعجبته ، وطلب من عمته أن تستأذن أباه في دفعها إليه ، ففعلت . 2
ويقول الصدوق في رواية أخرى : إن اسم أم المهدي هو (صقيل) وأنها ماتت في حياة الحسن العسكري . 3
وهناك عدة أسماء أخرى يذكرها المجلسي هي (سوسن) و(ريحانة) و( خمط) و ينقل عن الشهيد الأول في (الدروس): انها حرة وان اسمها (مريم بنت زيد العلوية) . 4
تاريخ ولادته(1/1)
اختلفت الروايات حول تاريخ مولد (الإمام محمد بن الحسن العسكري) وأخذ قوم من الشيعة الأوائل بدعوى الجارية (نرجس) بالحمل ، بعد وفاة الإمام العسكري ، وقالوا: إنها ولدت (المهدي) بعد ذلك بثمانية اشهر . 5
ويقول الشيخ المفيد في :(رسالة مولد الأئمة ص 6): انه ولد في الثامن من شهر ذي القعدة سنة 257 أو 258ه ويقول : انه كان له عند وفاة أبيه سنتان واربعة اشهر . كما يقول في (الفصول المختارة): انه ولد في النصف من شعبان من سنة 255ه (6) ويقول في رواية أخرى : انه ولد سنة 252 ه وكان سنه عند وفاة أبيه ثماني سنوات .
ولكن الشيخ الصدوق يقول في (إكمال الدين): إن مولده كان في 8 شعبان سنة 256 ه . 8
أما الشيخ الطوسي فيقول في (الغيبة): انه ولد في النصف من رمضان . (9) دون إن يحدد السنة، ويتفق في رواية أخرى مع الشيخ المفيد : في انه ولد في النصف من شعبان سنة 255 ه . 10
وكان من الطبيعي إن تختلف هذه الروايات في تحديد تاريخ مولد شخص تقول انه ولد بصورة سرية وظل آمره مخفيا..
كيفية ولادته
يعتمد الصدوق والطوسي والمسعودي والخصيبي الذين يروون قصة ولادة الإمام (المهدي) على رواية واحدة ينسبونها إلى حكيمة (أو خديجة) عمة الإمام العسكري ، وتقول فيها:
- · بعث اليّ أبو محمد الحسن بن علي ، فقال: يا عمة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان ، فان الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة ، قالت فقلت له: ومن أمه؟ فقال لي : من نرجس ، قلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر ، فقال: هو ما أقول لك.(1/2)
قالت فجئت .. فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي : كيف أمسيت؟ ..فقلت لها: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي ، قالت : فأنكرت قولي وقالت : ما هذا يا عمة؟! .. فقلت لها: يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة. قالت فخجلت واستحيت.. فلما إن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت أخذت مضجعي فرقدت ، فلما كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة .. ففرغت من صلاتي ، وهي نائمة ليس بها حادث ، ثم جلستُ معقبة.. ثم اضطجعت.. ثم انتبهت فزعة وهي راقدة.. ثم قامت فصلت ونامت .
قالت حكيمة: وخرجت اتفقد الفجر فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان ، وهي نائمة ، فدخلني الشك ، فصاح أبو محمد (ع) من المجلس فقال: لا تعجلي يا عمة فهاك الامر قد قرب.
قالت : فبينما أنا كذلك إذا انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت: اسم الله عليك ، ثم قلت لها: أتحسين شيئا؟ قالت: نعم ، يا عمة. فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك .
قالت: فأخذتني فترة فانتبهت بحس سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به ساجدا يتلقى الأرض بمساجده ، فضممته اليّ فإذا أنا به نظيف متنظف ، فصاح بي أبو محمد هلمي اليّ ابني يا عمة ، فجئت به إليه فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ، ثم أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ، ثم قال: تكلم يابني ، فقال: اشهد إن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد إن محمدا رسول الله ، ثم صلى على علي أمير المؤمنين وعلى الأئمة إلى إن وقف على أبيه ثم أحجم .
ثم قال أبو محمد: يا عمة اذهبي به إلى أمه ليسلم عليها وائتيني به، فذهبت به فسلم عليها ورددته فوضعته في المجلس ، ثم قال: يا عمة إذا كان يوم السابع فأتينا .
قالت حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلم على أبى محمد وكشفت الستر لأتفقد سيدي فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ما فعل سيدي؟ فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعته أم موسى..(1/3)
قالت حكيمة: فلما كان في اليوم السابع جئت فسلمت وجلست ، فقال: هلمي اليّ ابني ، فجئت بسيدي وهو في الخرقة ، ففعل به كفعلته الأولى ، ثم أدلى لسانه في فيه كأنه يغذيه لبنا أو عسلا ، ثم قال: تكلم يا بني ، فقال: اشهد إن لا اله إلا الله وثنى بالصلاة على محمد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمة الطاهرين حتى وقف على أبيه ، ثم تلا هذه الآية :· بسم الله الرحمن الرحيم ونريد إن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . 11
وتقول حكيمة في رواية أخرى يذكرها الصدوق: إن نرجس لم يكن بها أي أثر للحمل وأنها لم تكن تعرف ذلك ، وعندما قالت لها حليمة إنها ستلد هذه الليلة استغربت وقالت: · يا مولاتي ما أرى شيئا من هذا (12) حتى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة وقالت: · ظهر بي الأمر الذي أخبرك مولاي وتقول الرواية : إن حكيمة أقبلت تقرأ على نرجس القرآن فأجابها الجنين من بطن أمه ..يقرأ مثلما تقرأ وسلّم عليها . مما أثار فزعها . ولكن الرواية تقول: إن نرجس غُيّبت عن حكيمة فلم ترها كأنه ضرب بينها وبين نرجس حجاب ، مما أثار استغرابها وصراخها ولجوئها إلى أبى محمد ، حيث قال لها: ارجعي يا عمة وستجدينها في مكانها.
قالت حكيمة: فرجعت .. فلم ألبث إن كشف الغطاء الذي كان بيني وبينها ، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري ، وإذا بالصبي ساجدا لوجهه . 13
وتضيف هذه الرواية موضوعا آخر هو تحليق عدد من الطيور فوق رأس الوليد ، وقول الحسن لطير منها: احمله واحفظه ورده إلينا في كل أربعين يوما ، فتناوله الطير وطار به في جو السماء ، مما جعل أمه تبكي لفراقه .(1/4)
قالت حكيمة : فقلت: وما هذا الطير؟ فقال: هذا روح القدس الموكل بالأئمة يوفقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم . فلما كان بعد أربعين يوما رد الغلام وكان يمشي كأنه ابن سنتين ، مما دفعها للتساؤل بدهشة فقال لها أخوها الحسن: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشئون بخلاف ما ينشأ غيرهم ، وان الصبي منا إذا كان آتي عليه شهر كان كمن آتي عليه سنة ، وان الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عز وجل وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحا ومساءا .
وتواصل الرواية نقلا عن حكيمة : أنها لم تزل ترى ذلك الصبي في كل أربعين يوما إلى إن رأته رجلا قبل مضي أبى محمد بأيام قلائل فلم تعرفه ، وقالت لأبن أخيها : من هذا الذي تأمرني إن اجلس بين يديه؟! فقال لها: هذا ابن نرجس ، وهذا خليفتي من بعدي ، وعن قليل تفقدوني فاسمعي له أطيعي .
قالت حكيمة: فمضى أبو محمد بعد ذلك بأيام قلائل وافترق الناس كما ترى .. ووالله آني لأراه صباحا مساءا وانه لينبئني عما تسألون عنه فاخبركم، ووالله آني لأريد إن اسأله عن الشيء فيبدأني به وانه ليرد عليّ الامر فيخرج اليّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي .. 14
رواية الطوسي لقصة ولادة المهدي(1/5)
ويورد الطوسي في :(الغيبة) قصة ولادة المهدي ، ولكن لا يذكر قصة الطيور وروح القدس وأخذ الوليد (المهدي) ..بل يقول: إن حكيمة ودعت ابا محمد وانصرفت إلى منزلها في أعقاب ولادة المهدي ، وعندما اشتاقت له بعد ثلاثة أيام رجعت ففتشت عنه في غرفته فلم تجد له أثرا ولا سمعت له ذكرا فكرهت إن تسأل ، ودخلت على أبى محمد فبدأها بالقول: · هو يا عمة في كنف الله أحرزه وستره حتى يأذن الله له ، فإذا غيّب الله شخصي وتوفاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا ، فأخبري الثقاة منهم .. وليكن عندك مستورا وعندهم مكتوما ، فان ولي الله يغيبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرائيل فرسه ليقضي الله أمرا كان مفعولا . 15
ويضيف الطوسي في رواية أخرى قول الحسن لعمته:· استودعناه الذي استودعته أم موسى والطلب منها إن تأتي في اليوم السابع ، حيث يعود المهدي فتراه حكيمة . 16
ويقول في رواية ثالثة: إن حكيمة دخلت بعد ثلاثة أيام فرأت المهدي في المهد وعليه ثوب اخضر وكان نائما على قفاه غير محزوم ولا مقموط ففتح عينيه وجعل يضحكلها ويناجيها بإصبعه ، ثم غاب بعد ذلك.. 17
ويقول في رواية رابعة: إن حكيمة وجدت على ذراع المهدي عند ولادته مكتوبا :· جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا كما وجدته مفروغا منه (أي مختونا) وانه رفع بينها وبين المهدي مع أبيه الحسن كالحجاب ، فلم ترَ أحدا ، فقالت: أين مولاي؟!.. فقال لها الحسن: أخذه من هو أحق منك ومنا . وعندما عادت بعد أربعين يوما وجدت المهدي يمشي في الدار فلم ترَ وجها أحسن من وجهه ولا لغة افصح من لغته ، وعندما تعجبت من ذلك وقالت:·أ
أرى من أمره ما أرى وله أربعون يوما تبسم أبو محمد وقال:· يا عمتي أما علمت انا معاشر الأئمة ننشوء في اليوم كما ينشأ غيرنا في السنة؟ فقامت وانصرفت ولم تره بعد ذلك. 18(1/6)
ويروي الطوسي عن خادمتين للإمام العسكري (نسيم ومارية) انهما قالتا: · لما خرج صاحب الزمان من بطن أمه سقط جاثيا على ركبتيه رافعا سبابته نحو السماء ، ثم عطس فقال: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله داخرا لله غير مستنكف ولا مستكبر ، ثم قال: زعمت الظلمة إن حجة الله داحضة ، ولو إذن لنا في الكلام لزال الشك . 19
ويضيف المسعودي والخصيبي جانبا آخر إلى قصة ولادة المهدي فيقولان: إن المهدي ولد من فخذ أمه ، وينقلان عن الإمام العسكري قوله لعمته حكيمة :· إن الأئمة لا يحملون في البطون وانما يحملون في الجنوب . 20
ويتفق المسعودي مع الصدوق والطوسي في إن حكيمة نامت في تلك اللحظات وهي قاعدة ووقع عليها سبات لم تتمالك نفسها منه ولم تحس إلا على صوت الوليد تحت نرجس وصوت أبيه يناديها: · يا عمتي هاتي ابني ويقول : إن المهدي اختفى في ذلك اليوم وعاد بعد أسبوع فرأته حكيمة مرة أخرى ثم اختفى ولم تره حتى أربعين يوما ، حيث شاهدته يمشي. 21
ويختلف المسعودي مع الصدوق الذي ذكر في روايته: إن الإمام ينشأ في الشهر كما ينشأ غيره في السنة، ومع الطوسي الذي ذكر : إن الإمام ينشأ في اليوم كما ينشأ غيره في السنة ، فيقلل المسعودي النسبة ، وينقل عن العسكري قوله لحكيمة:· أوما علمت يا عمتي انا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثل ما ينشأ غيرنا في الجمعة؟ وننشأ في الجمعة مثل ما ينشأ غيرنا في الشهر وننشأ في الشهر مثل ما ينشأ غيرنا في السنة؟ 22
ويروي المسعودي أخيرا عن أبى محمد العسكري انه قال:· لما ولد الصاحب بعث الله (عزّ وجلّ) ملكين فحملاه إلى سرادق العرش حتى وقف بين يدي الله فقال له:· مرحبا بك.. بك أعطي وبك أعفو وبك أعذب . 23
سرية الولادة(1/7)
ومع إن رواية حكيمة السابقة تقول : إن أمر الولادة ظل سريا مكتوما عن الجميع وان الإمام الحسن طلب منها إذا رأت اختلاف الشيعة بعد وفاته إن تخبر الخواص فقط ، إلا إن الصدوق يذكر في :(إكمال الدين) إن الإمام الحسن العسكري اخبر كبير الشيعة في قم : أحمد بن إسحاق ، وانه كتب له ·ولد لنا مولود فليكن عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما ، فانا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته ، أحببنا إعلامك ليسرك الله به مثل ما سرنا به ، والسلام . 24
وفي رواية أخرى يقول الصدوق : إن احمد بن إسحاق دخل على الإمام العسكري يوما فسأله عن الإمام والخليفة بعده ، فنهض مسرعا فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام من أبناء الثلاث سنين ، وقال له:· يا أحمد لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا . 25
ويقول الفضل بن شاذان في (كشف الحق) إن الحسن قال:· ولد ولي الله وحجته على عباده وخليفتي من بعدي ليلة النصف من شعبان وكان أول من غسله رضوان خازن الجنة ثم غسلته حكيمة .
ويقول الصدوق : إن من الذين علموا بخبر الولادة أبو الفضل الحسن بن الحسين العلوي ، الذي يقول: انه دخل على أبى محمد بسرّ من رأى وهنأه بولادة ابنه . وكان منهم أيضا: (أبو هارون) الذي يقول: انه رأى صاحب الزمان وانه كشف عنه الثوب فوجده مختونا . 26
ويؤكد الطوسي هاذين الخبرين في :(الغيبة) 27
ويقول الشيخ المفيد : إن الحسن العسكري كان يعرضه على أشخاص بمفردهم حين يزورونه ، كعمرو الاهوازي . 28
وفي رواية أخرى : إن الإمام العسكري أرسل أموالا إلى بعض الشيعة وأمرهم إن يعقوا عن ابنه . 29
رؤية المهدي في حياة أبيه(1/8)
وعلى أي حال فان المؤرخين الشيعة ينقلون قصصا كثيرة عن مشاهدة الإمام الثاني عشر ( محمد بن الحسن العسكري) في حياة أبيه وعند وفاته ، حيث ينقل الكليني والصدوق والطوسي عن رجل من أهل فارس كان يخدم في بيت الإمام العسكري : انه شاهد يوما جارية تحمل غلاما ابيض ، وقول الإمام له:· هذا صاحبكم وعدم رؤيته بعد ذلك. 30
كما ينقل الصدوق والطوسي عن مجموعة من أصحاب الإمام العسكري فيهم عثمان بن سعيد العمري: انه عرض عليهم ابنه وقال لهم:· هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم ..أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا ، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا قالوا : فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد . 31
كما ينقل الصدوق في :(إكمال الدين) قصصا عن رجل اسمه (يعقوب بن منقوش ) : انه دخل على الإمام العسكري يوما فسأله: من صاحب هذا الامر؟ فكشف له الإمام سترا عن بيت فخرج غلام خماسي وجلس على فخذ أبى محمد ، فقال ليعقوب: · هذا صاحبكم ثم قال للغلام :· يابني ادخل إلى الوقت المعلوم فدخل البيت واختفى فيه . وينقل عن (نسيم) خادمة الإمام العسكري : أنها دخلت على صاحب هذا الامر بعد مولده بليلة فعطست عنده ، فقال لها:· يرحمك الله .
وينقل عن خادم آخر هو (طريف أبو نصر) : انه دخل على صاحب الزمان فطلب منه إن يأتيه بصندل أحمر ثم قال له: · أنا خاتم الأوصياء وبي يدفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي .وينقل عن رجل سوري اسمه (عبد الله): انه ذهب إلى بستان بني عامر فرأى فتى جالسا على مصلى واضعا كمه في فيه ، فقال: من هذا ؟ فقيل له :( م ح م د ) ابن الحسن . 32(1/9)
وينقل الصدوق رواية مطولة جدا عن سعد بن عبد الله القمي : انه دخل مع احمد بن إسحاق على الإمام العسكري فرأى غلاما على فخذه وبين يديه رمانة ذهبية يلعب بها ، وبيد الحسن قلم إذا أراد إن يكتب شيئا قبض الغلام على يده فيدحرج الرمانة بين يديه ويشغله بردها كيلا يصده عن كتابة ما أراد ، وكان مع احمد بن إسحاق جراب فيه هدايا الشيعة والموالي فوضعه بين يدي العسكري ، فقال للغلام : فض الخاتم ، فرفض وقال: · أيجوز إن أمدّ يدا طاهرة إلى هدايا نجسة واموال رجسة قد شيب حلالها بحرامها؟! فأخرجها احمد بن إسحاق ليميز بينها ، فأخذ الغلام يحكي قصة الأموال والهدايا واحدة فواحدة.. 33
وفي رواية أخرى ينقلها الصدوق عن احمد بن إسحاق يقول فيها : انه سأل الإمام عن الخليفة بعده وانه جاء بابنه وعرضه عليه ، ولكنه لم يطمئن فسأل :· يا مولاي هل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام بلسان عربي فصيح فقال:· أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه ، فلا تطلب أثرا بعد عين فقال الإمام العسكري:· هذا سر من سر الله فخذ ما آتيتك أكتمه وكن من الشاكرين . 34
ويروي الطوسي في (الغيبة) عن كامل بن إبراهيم المدني: انه ذهب إلى الإمام العسكري ليسأله عن بعض المسائل ، وبينما هو جالس في الدار ، وإذا بالريح تكشف سترا مرخى على باب ، وإذا هو بفتى كأنه فلقة قمر ، فقال له: يا كامل بن إبراهيم جئت إلى ولي الله وحجته وبابه تسأله كذا وكذا ، فقال: أي والله . ثم رجع الستر إلى حالته ، فلم يستطع كشفه ، ولم يعاينه بعد ذلك. 35(1/10)
وينقل أيضا عن إسماعيل بن علي النوبختي : انه دخل على الإمام العسكري قبيل وفاته بساعة ، وانه طلب من خادمه (عقيد) إن يدخل البيت ويأتيه بصبي فيه ، فقال له أبو محمد:· أبشر يا بني فأنت صاحب الزمان وأنت المهدي وأنت حجة الله على أرضه وأنت ولدي ووصيي وأنا ولدتك ، وأنت محمد بن الحسن ...وأنت خاتم الأئمة الطاهرين ، وبشر بك رسول الله وكناك بذلك عهد الي أبى عن آبائك الطاهرين . 36
رؤيته عند وفاة أبيه
وينفرد محمد بن علي الصدوق من بين المؤرخين القدامى بذكر قصص أخرى كقصة (أبى الأديان البصري) الذي يقول:- : كنت اخدم الحسن بن علي واحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت عليه في علته التي توفي فيها فكتب معي كتبا وقال: امضِ بها إلى المدائن فانك ستغيب خمسة عشر يوما وتدخل إلى (سر من رأى) يوم الخامس عشر ، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل
فقلت: يا سيدي إذا كان ذلك فمن؟ ..
قال: من طالبك بجواب كتبي فهو القائم بعدي
فقلت: زدني
قال: من يصلي علي فهو القائم بعدي .
فقلت: زدني
فقال: من اخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.(1/11)
وخرجت بالكتب إلى المدائن أخذت جواباتها ودخلت (سرمن رأى) يوم الخامس عشر ، كما ذكر لي فإذا انا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا انا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزونه ويهنؤ نه ، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة ، لأني كنت اعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور ، فتقدمت فعزيت وهنيت ، فلم يسألني عن شيء ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم وصل عليه ، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان (عثمان بن سعيد العمري) فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن على نعشه مكفنا ، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه فلما همّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج فجذب برداء جعفر وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبى ، فتأخر جعفر ، وقد اربد وجهه واصفرّ.. فتقدم الصبي وصلى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه ، ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك ، فدفعتها إليه ، فقلت في نفسي: هذه بينتان ، بقي الهميان ، ثم خرجت إلى جعفر وهو يزفر فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم عليه الحجة؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا اعرفه. فنحن جلوس إذقدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعزوه وهنوه ، وقالوا: إن معنا كتبا وأموالا فتقول ممن الكتب؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا إن نعلم الغيب؟!
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان وهميان فيه أف دينار وعشرة دنانير منها مطلية ، فدفعوا إليه الكتب والمال ، وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام . 37(1/12)
وينقل الصدوق هذه القصة برواية أخرى عن سنان الموصلي : انه لما قبض العسكري وفد من قم والجبال وفود بالأموال ولم يكن لديهم خبر وفاة الحسن فسألوا عن وارثه فقيل لهم: انه أخوه جعفر وقد ذهب يتنزه في دجلة مع المغنين ، فأرادوا إن يرجعوا ولكن ابا العباس محمد بن جعفر الحميري القمي قال لهم: قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحة ، وانهم طالبوه بالتحدث غيبيا عن تفاصيل الأموال واصحابها ، فأنكر علم الغيب ...
ولما إن خرجوا من البلد خرج إليهم غلام فنادى: يافلان ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم ، قالوا فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي فإذا ولده القائم سيدنا قاعد على سرير كأنه فلقة قمر عليه ثياب خضر ، فسلمنا فرد علينا السلام ثم قال: جملة المال كذا وكذا .. حمل فلان كذا وحمل فلان كذا .
ولم يزل يصف حتى وصف الجميع.. ثم وصف رحالنا وثيابنا وما كان معنا من الدواب فخررنا سجدا لله عز وجل شكرا لما عرفنا و قبلنا الأرض بين يديه ، وسألناه عما أردنا فأجاب ، فحملنا إليه الأموال ، وأمرنا إن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئا من المال ، فانه ينصب لنا ببغداد رجلا يحمل إليه الأموال ويخرج من عنده التوقيعات. 38
محاولة القبض على المهدي
و هناك رواية تاريخية ينقلها عدد من المؤلفين عن شرطي اسمه (رشيق) يتحدث عن محاولة المعتضد العباسي للقبض على (المهدي) وإرساله ثلاثة من الشرطة وذهابهم إلى بيت الإمام الحسن العسكري في سامراء ، ورؤيتهم في البيت بحرا من الماء ورجلا على حصير على الماء قائما يصلي ، وغرقهم عند محاولتهم التقدم نحوه ، ثم اعتذارهم وتراجعهم. 39
وينقل المجلسي و الصدر قصة أخرى مشابهة ، وهي تجريد المعتضد لحملة أكبر وكبس البيت وسماع العسكر لصوت قراءة من السرداب ، واجتماعهم عند مدخله لالقاء القبض على صاحب الصوت ، وخروجه من بين أيديهم. 40(1/13)
المطلب الثاني:
شهادة النواب الأربعة
لعل أهم دليل تاريخي على ولادة ووجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) هو شهادة (النواب الأربعة) الخاصين الذين ادعوا (النيابة ) عنه ، في فترة (الغيبة الصغرى) من سنة 260 إلى سنة 329 هجرية . حيث كان هؤلاء (النواب) يدعون مشاهدته واللقاء به وإيصال الأموال إليه و نقل الرسائل و (التواقيع) منه إلى المؤمنين به.
وكان الجيل الأول من (النواب ) أو (السفراء) أو (الوكلاء) رجال من أصحاب الإمامين علي بن محمد الهادي (ع) والحسن بن علي العسكري (ع) ، وكان على رأسهم عثمان بن سعيد العمري ، الذي كان وكيلا للإمامين في قبض الأموال من الشيعة وإيصالها اليهما في حياتهما ، والذي يصفه الشيخ الطوسي بأنه :· الشيخ الموثوق به ومن السفراء الممدوحين للأئمة . 41
ويقال : انه كان محل ثقة الإمامين العسكريين ، ولم يكن وكيلا لهما في جمع الأموال فقط ، وانما كان يقوم بأدوار أكبر في إيصال رسائل الإمامين إلى الشيعة ، وكان يحتل مرتبة عظيمة عندهما . وينقل الشيخ الطوسي في :(الغيبة) رواية عن احمد بن اسحق القمي ، قال: دخلت على أبى الحسن علي بن محمد ، في يوم من الأيام ، فقلت: يا سيدي أنا اغيب واشهد ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت ، فقول من نقبل ، وأمر من نمتثل؟ فقال لي: · هذا أبو عمرو الثقة الامين ، ما قاله لكم فعني يقوله ، وما أداه اليكم فعني يؤديه . فلما مضى أبو الحسن وصلت إلى أبى محمد الحسن العسكري ، ذات يوم ، فقلت له مثل قولي لأبيه ، فقال لي: · هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم فعني يقوله ، وما ادى إليكم فعني يؤديه . 42
وهذه الرواية تكشف عن إن العمري لم يكن وكيلا في جمع المال فقط ، وانما كان يقوم بأدوار اكبر في إيصال رسائل الإمامين الهادي والعسكري إلى الشيعة ، ويحتل مرتبة عظيمة عندهما.(1/1)
وينقل الطوسي أيضا عن احمد بن علي بن نوح أبو العباس السيرافي ، قال : اخبرنا أبو نصر عبد الله بن محمد بن احمد المعروف بابن برنية الكاتب ، قال : حدثني بعض الشراف من الشيعة الإمامة أصحاب الحديث ، قال : حدثني أبو محمد العباس بن احمد الصائغ ، قال : حدثني الحسين بن احمد الخصيبي ، قال : حدثني محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيان ، قالا: دخلنا على أبى محمد الحسن بسرمن رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه ، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر ، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن (في حديث طويل يسوقه ) إلى إن ينتهي إلى إن قال الحسن لبدر : فامض إئتنا بعثمان بن سعيد العمري ، فما لبثنا إلا يسيرا حتى دخل عثمان ، فقال له سيدنا أبو محمد : · امض يا عثمان فانك الوكيل والثقة المأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال ( ثم ساق الحديث إلى إن قال ) ثم قلنا بأجمعنا : يا سيدنا والله إن عثمان لمن خيار شيعتك ، ولقد زدتنا علما بموضعه من خدمتك وانه وكيلك وثقتك على مال الله ، قال: · نعم ، واشهدوا على إن عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وان ابنه محمد وكيل ابني مهديكم . 43
ويلاحظ إن هذه الرواية تشتمل ، إضافة إلى وثاقته ووكالته ، على وثاقة ابنه ووكالته .(1/2)
ويروي الطوسي عن أبى محمد هارون بن موسى قال وقال جعفر بن محمد بن مالك الفزاري عن جماعة من الشيعة منهم علي بن بلال واحمد بن هلال ومحمد بن معاوية بن حكيم والحسن بن أيوب بن نوح (في خبر طويل مشهور) قالوا جميعا: اجتمعنا إلى أبى محمد الحسن بن علي نسأله عن الحجة من بعده ، وفي مجلسه أربعون رجلا ، فقام إليه عثمان بن سعيد العمري ، فقال له : يا ابن رسول الله أريد إن أسألك عن أمر آنت اعلم به مني ، فقال له: اجلس يا عثمان ، فقام مغضبا ليخرج ، فقال: لا يخرجن أحد ، فلم يخرج منا أحد إلى إن كان بعد ساعة ، فصاح (ع) بعثمان ، فقام على قدميه ، فقال: أخبركم بما جئتم ؟.. جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي ، قالوا: نعم ، فإذا غلام كأنه قطع قمر أشبه الناس بأبي محمد ، فقال: · هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم.. اقبلوا من عثمان ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم ، والأمر إليه . 44
ويقول الطوسي - نقلا عن حفيد العمري ، هبة الله - : إن الحسن بن علي لما مات حضر غسله عثمان بن سعيد وتولى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه وتقبيره مأمورا بذلك للظاهر من الحال... وكانت توقيعات صاحب الأمر تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبى جعفر ، إلى شيعته وخواص أبيه بالأمر والنهي ، والأجوبة عما يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه ، بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن ، فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى إن توفي عثمان بن سعيد. 45(1/3)
وهكذا اصبح العمري (نائبا خاصا) عن (الإمام المهدي) بعد إن ادعى وجوده وولادته والنيابة له . وقد سأله احمد بن اسحاق ، فقال له: أنت الآن ممن لا يشك في قوله وصدقه ، فأسألك بحق الله وبحق الإمامين اللذين وثقاك ، هل رأيت ابن أبى محمد الذي هو صاحب الزمان ؟ .. فبكى ثم قال: على إن لا تخبر بذلك أحدا وآنا حي ، قال: نعم ، قال: قد رايته ، وعنقه هكذا ( يريد: أنها اغلظ الرقاب حسنا وتماما ) قال: فالاسم ؟ .. قال: نهيتم عن هذا . 46
وقد توفي عثمان بن سعيد العمري بعد وفاة الإمام العسكري بسنتين وخلف ابنه محمد (سفيرا) بين الإمام المهدي والشيعة.
وينقل الكليني والطوسي ( تواقيع ) واردة من الإمام بتوثيقه وتزكيته وتنصيبه في منصب (النائب الخاص) . 47
ويقول عبد الله بن جعفر الحميري القمي ، زعيم الشيعة في قم : إن المهدي قد أرسل إلى العمري الابن ( توقيعا ) جاء فيه : · أنا لله وانا إليه راجعون ، تسليما لأمره ورضاء بقضائه.. عاش أبوك سعيدا ومات حميدا ، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه ، فلم يزل مجتهدا في أمرهم ساعيا في ما يقربه إلى الله عز وجل ، نضّر الله وجهه وأقاله عثرته.. . وكان من كمال سعادته إن رزقه الله تعالى ولدا مثلك يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه ، واقول : الحمد لله ، فان الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله عز وجل فيك وعندك ، أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك وكان لك وليا وحافظا وراعيا وكافيا . 48
وقال الحميري : لما مضى أبو عمرو (عثمان بن سعيد ) أتتنا الكتب بالخط الذي كنا نكاتب به بإقامة أبى جعفر مقامه. 49
وقال محمد بن ابراهيم بن مهزيار الاهوازي : انه خرج إليه بعد وفاة أبى عمرو · والابن وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب رضي الله عنه وأرضاه ونضّر وجهه ، يجري عندنا مجراه ، ويسد مسده ، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل ، تولاه الله ، فانتهِ إلى قوله وعرّف معاملتنا ذلك . 50(1/4)
وروى الطوسي عن اسحاق بن يعقوب : قال سألت محمد بن عثمان العمري إن يوصل لي كتابا قد سألت فيه مسائل اشكلت علي فوقع (التوقيع) بخط مولانا صاحب الدار :·وما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل ، فانه ثقتي وكتابه كتابي . 51
وكان العمري إذا سُئل : هل رأيت المهدي ؟ يقول · نعم ، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام ، وهو يقول : · اللهم انجز لي ما وعدتني ورايته متعلقا بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول : ·اللهم انتقم لي من أعدائي .. والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه . 52
ويقول الطوسي: إن التوقيعات كانت تخرج على يد العمري طول حياته بالخط الذي كانت تخرج في حياة أبيه ، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره. 53
واستمر العمري (الابن) في هذا المنصب حوالي خمسين عاما حيث توفي في مطلع القرن الرابع الهجري سنة 305ه ، وأوصى إلى (الحسين بن روح النوبختي) الذي كان واحدا من عشرة وكلاء له في بغداد . وهكذا أوصى النوبختي الذي توفي سنة 325 هجرية إلى النائب الرابع علي بن محمد السمري (الصيمري) كخليفة من بعده بالوكالة عن الإمام المهدي الغائب . 54
والى جانب هؤلاء (النواب الأربعة) ادعى النيابة حوالي أربعة وعشرين رجلا آخر من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري ، أو من أتباعهم كالحسن الشريعي ومحمد بن نصير النميري وابي هاشم داود بن القاسم الجعفري واحمد بن هلال العبرتائي ومحمد بن علي بن بلال واسحاق الأحمر وحاجز بن يزيد ومحمد بن صالح الهمداني ومحمد بن جعفر بن عون الاسدي الرازي ومحمد بن ابراهيم بن مهزيار والحسين بن منصور الحلاج وجعفر بن سهيل الصيقل ومحمد بن غالب الاصفهاني ، واحمد بن اسحاق ألا شعري القمي والقاسم بن محمد بن علي بن ابراهيم الهمداني ومحمد بن صالح القمي والقاسم بن العلاء وابنه الحسن ومحمد بن علي الشلمغاني ابن أبى العزاقر ، وابو دلف الكاتب .(1/5)
وكان الكثير من هؤلاء يدعي وجود علاقة خاصة بينه وبين الإمامين الهادي والعسكري ومن ثم (الإمام المهدي) كما يدعي القدرة على اجتراح المعاجز و العلم بالغيب ، ويخرج رسائل سرية يقول أنها وردته من الإمام الغائب ، ويقوم باستلام الاموال والحقوق الشرعية . وقد اختلف الشيعة الإمامة القائلون بوجود الإمام الثاني عشر فيما بينهم حول صدق أولئك النواب وصحة ادعائهم بالنيابة ، فذهب فريق إلى تصديق (النواب الأربعة ) الأوائل ، وذهب فريق آخر كالنصيرية إلى تصديق الشريعي والنميري ، كما ذهب آخرون إلى تصديق مجموعة أخرى.
وعلى أي حال فان البعض يعتبر وجود (النواب الأربعة) وغيرهم ، شهادة تاريخية على وجود ابن للإمام الحسن العسكري هو ( الإمام المهدي) إضافة إلى تلك الروايات التاريخية التي تحدثت عن ولادته ومشاهدته في حياة أبيه واللقاء به بعد ذلك .
يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه :(بحث حول المهدي) انه ليس من المعقول إن يكذب أولئك النواب الثقاة العدول في دعواهم النيابة أو في وجود الإمام المهدي . بعد إناجمع الشيعة على صدقهم وورعهم وتقواهم.
وقد اعتبر بعض المحدثين السابقين كالنعماني محمد بن أبى زينب : إن وجود اولئك النواب الخاصين الأربعة في فترة (الغيبة الصغرى) وانقطاعهم في فترة (الغيبة الكبرى ) الممتدة منذ ذلك الحين إلى يوم الظهور ، وانسجام الفترتين مع الروايات التي تتحدث عن وجود غيبتينصغرى وكبرى للإمام المهدي ، دليلا على وجود (محمد بن الحسن العسكري) وصحة غيبته .
المطلب الثالث: رسائل المهدي
ذكر الصدوق والطوسي وابن شهرآشوب والطبرسي عددا من الرسائل التي قالوا إن (الإمام محمد بن الحسن العسكري) قد بعث بها إلى عدد من (وكلائه) في عصر (الغيبة الصغرى) . منها ما رواه الطوسي في :(الغيبة)(1/6)
عن احمد بن اسحاق ألا شعري القمي الذي يقول انه كتب إلى (ابن الحسن) رسالة حول دعوة جعفر بن علي الهادي لأهل قم لأتباعه بعد وفاة أخيه . ويقول فيها : إن (صاحب الزمان) كتب إليه كتابا يتضمن اتهام جعفر بالجهل بالدين وبالفسق وشرب الخمر والعصيان لله ، وبعدم امتلاكه لأية حجة ، ودعوة لامتحانه ، وتأكيدا على عدم جواز اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين. 55
كما ينقل الطوسي رواية ثانية عن ابن أبى غانم القزويني انه وجماعة من الشيعة اختلفوا حول وجود (الخلف) وتشاجروا ، ثم انهم كتبوا في ذلك كتابا انفذوه إلى ( الناحية) وأعلموه بما تشاجروا فيه ، فورد جواب كتبهم بخطه (ع) وكان يتضمن أسفا وحرقة عليهم ، ودعوة للتسليم وعدم محاولة الكشف عن استار الغيبة. 56
وتوجد رسالة ثالثة يرويها الصدوق في (إكمال الدين) عن اسحاق بن يعقوب ، قال: سألت محمد بن عثمان العمري إن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ ، فورد التوقيع (الجواب) بخط مولانا صاحب الدار ، وكان فيه:· واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله عليهم كما كان يتضمن تزكية وتوثيقا للعمري ، وإباحة للخمس في عصر الغيبة ، ونهيا عن السؤال عن سبب الغيبة . 57
وينقل الصدوق في (إكمال الدين) رسالة أخرى من (الإمام المهدي) إلى (النائب الأول): عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد (النائب الثاني) يذكر فيها اخبار الخلاف بين الشيعة حول (الخلف) وقول بعضهم بعدم وجود غير جعفر بن علي ، ويطالب الشيعة بعدم البحث عما ستر عنهم لكي لا يأثموا ، وعدم كشف ستر الله لكي لا يندموا ، والاقتصار على الاجمال والتعريض دون التفسير والتصريح . 58(1/7)
وقد ذكر ابن شهر آشوب في (المناقب) والطبرسي في (الاحتجاج) : إن المفيد اخرج نسخا من رسائل قال إن الإمام المهدي قد بعثها إليه بيد اعرابي وبخط رجل آخر ، وكان المهدي يخاطب فيها المفيد بالاخ السديد والمولى الرشيد والمخلص الناصر ، وملهم الحق ودليله والعبد الصالح الناصر للحق والداعي إليه بكلمة الصدق. 59
هذه أهم القصص التي تروى عن مشاهدة (الإمام محمد بن الحسن العسكري) عند ولادته وفي حياة أبيه وعند وفاته وبُعيد ذلك.. وهناك قصص أخرى كثيرة تروى عن مشاهدته في البيت الحرام في الطواف أو في شعب من شعاب الطائف أو في المدنية أو هنا وهناك ، وهي أقل دلالة من هذه القصص وأضعف سنداً..
وربما كانت قصة حكيمة وابي الاديان البصري هما اشهر القصص التي تروى عن ولادة ووجود (الإمام الثاني عشر) .(1/8)
الدليل الاعجازي على وجود (المهدي)
وبالإضافة إلى الأدلة العقلية والنقلية والتاريخية على وجود (محمد بن الحسن العسكري) فان المؤيدين لهذه النظرية يوردون دليلا رابعا هو (المعاجز) التي يقولون إن (النواب الأربعة) كانوا يقومون بها أو (علم الغيب ) الذي كانوا يتحدثون عنه .
وقد استعرضنا كثيرا من تلك ( المعاجز ) في أثناء الحديث عن الروايات التاريخية حول ولادة (ابن الحسن) ووجوده في الفصل الماضي ، وسوف نقوم الآن باستعراض (المعاجز) التي قدمها (النواب الأربعة: عثمان بن سعيد العمري ومحمد بن عثمان ، والحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري) · وكلاء (الإمام المهدي) في فترة :(الغيبة الصغرى) التي امتدت حوالي سبعين عاما من 260 للهجرة إلى 329 تاريخ وفاة (النائب الرابع).
وقد ذكر الشيخ المفيد في (الإرشاد) قصة محمد بن ابراهيم بن مهزيار ، الذي شكك في وجود (الإمام المهدي) بعد وفاة الإمام العسكري ، والذي يقول : إن أباه قد أوصى إليه بمال جليل وأمره إن يتقي الله فيه ويسلمه لخليفة الإمام العسكري ، فقال في نفسه:· احمل هذا المال إلى بغداد واكتري دارا على الشط ولا اخبر أحدا بشيء ، فان وضح لي شيء كوضوحه في أيام أبى محمد انفدته ، وإلا انفقته في ملاذي وشهواتي فقدم بغداد واكترى دارا على الشط وبقي أياما فإذا برقعة مع رسول ، وفيها:· يا محمد معك كذا وكذا... حتى قصّ عليه جميع ما معه وذكر في جملتها شيئا لم يحط به علما فسلم المال إلى الرسول ، وبقي أياما ثم خرج إليه اعلان بنصبه ( وكيلا ) مقام أبيه . 1
وذكر الكليني والمفيد والطوسي أمثلة كثيرة على · معاجز النواب ، وعلمهم بالغيب ، كدليل على ارتباطهم بالإمام المهدي ، وعلى وجود المهدي وارتباطه بالسماء .
منها قيام الإمام المهدي برفع جمل وما عليه في السماء .
ومنها : نهي المهدي لرجل عن ختان ابنه ، وموت الطفل بعد ذلك بقليل .(1/1)
ومنها نهي رجل عن السفر في البر والبحر وأمره بالإقامة بالكوفة ، وخروج القراصنة وقطاع الطرق على القوافل في ذلك الوقت .
ومنها قصة معرفة العمري بموضع أمانة نسيها الرسول بين أمتعته ، مع عدم حمل الرسول لأية تذكرة أو كتاب حول الموضوع.
ومنها اخبار العمري بتاريخ وفاته في اليوم والشهر والسنة.
ومنها اخبار العمري الناس بالأجوبة العجيبة ، واخباره لرجل بتفاصيل خلاف سري بينه وبين زوجته .
ومنها قدرة النائب الثالث: الحسين بن روح النوبختي على قراءة رسالة بيضاء ومعرفته بمحتوياتها ، والإجابة عليها بسرعة.
ومنها اخبار علي بن بابويه الصدوق بولادة ولدين صالحين له في المستقبل .
ومنها : اخبار النوبختي لعدد من الناس بحل قضاياهم في المستقبل بالتحديد وبالتفصيل ، وبموت بعض الأشخاص في أوقات محددة من قبل .
ومنها : معرفة النوبختي باللغات الأجنبية والتكلم بها ، من دون تعلم ، بالمعجزة .
ومنها : اخبار النائب الرابع السمري ، لأصحابه ، وهو في بغداد ، بنبأ وفاة علي بن الحسين بن بابويه في قم في نفس اليوم .
ومنها اخبار الشيعة بتاريخ وفاته بعد ستة أيام.
ومنها اخبار الوكيل القاسم بن العلاء بقرب وفاته بعد أربعين يوما ، وإرجاع بصره إليه بعد فقده لمدة طويلة ، و إخباره ببقاء ولده وعدم موته كأخوته السابقين .
ومنها علم النواب بمصدر الأموال التي كانت ترد إليهم .
ومنها إخبار محمد بن زياد الصيمري بوفاته وموته في الوقت المحدد . 2
ويشير الطوسي إلى ·دليل المعاجز ويعتبره :· دليلا على إمامة ابن الحسن وثبوت غيبته ووجود عينه ، لأنها اخبار تضمنت الإخبار بالمغيبات وبالشيء قبل كونه على وجه خارق للعادة لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه (ص) ووصل إليه من جهة مَن دلّ الدليل على صدقه ، لأن المعجزات لاتظهر على يد الكذابين ، وإذا ثبت ذلك دلّ على وجود من اسندوا ذلك إليه . 3(1/2)
دليل الإجماع
بعد الدليل الفلسفي (العقلي ، أو الاعتباري ) والدليل الروائي (النقلي) والدليل التاريخي ، ودليل (المعاجز الغيبية) الخارقة للعادة.. بعد كل ذلك ، يأتي دليل الإجماع الذي يشير إليه بعض القائلين بنظرية وجود (محمد بن الحسن العسكري) وولادته.
وكان أول من أشار إلى دليل الإجماع هو سعد بن عبد الله ألا شعري القمي في :(المقالات والفرق) 1 (ص 106)
ونقل الشيخ الصدوق عن النوبختي : إن الشيعة اجمعوا جميعا على إن الإمام الحسن العسكري قد خلف ولدا هو الإمام ، وقال: إن كل من قال بإمامة الأحد عشر من آباء القائم لزمه القول بإمامة الثاني عشر ، لنصوص آبائه عليه باسمه ونسبه واجماع شيعتهم على القول بإمامته ، وانه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة فيملأ الأرض قسطا وعدلا. 2 (إكمال الدين ص 44 و93)
وهو ما يتبادر إلى الأذهان اليوم ، حيث يحتج الكثير من الناس بأن قضية وجود (الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري) هي من الأمور المجمع عليها بين صفوف الشيعة الإمامة الاثني عشرية على الأقل.(1/1)
لماذا الغيبة ؟
بعد تقديم جميع الأدلة العقلية والنقلية والتاريخية على · وجود (محمد بن الحسن العسكري ) وولادته في منتصف القرن الثالث الهجري ، فان غيبته عن الأنظار وعدم خروجه وتصديه لقيادة الأمة الإسلامية والاضطلاع بمهام الإمامة ، يشكل تحديا كبيرا للقائلين بوجوده ، ولذلك كان عليهم إن يفسروا · سرّ الغيبة . وقد قدموا عدة نظريات في تفسير ظاهرة الغيبة المحيرة ، وهي كما يلي:
1 - نظرية الحكمة المجهولة
وقد مال الشيخ الصدوق إلى هذه النظرية في :(إكمال الدين) وحتّم وجود حكمة في غيبة الإمام ، انطلاقا من آثار حكمة الله في حججه المتقدمين ، وقال: إن أيماننا بعصمة الإمام المهدي يقتضي منا التسليم بوجود حكمة وراء غيبته. 1
وقد نفى السيد المرتضى علم الهدى ضرورة معرفة سبب الغيبة على وجه التعيين ، وكفاية علم الجملة بوجود سبب ما للغيبة ، مع الأيمان بعصمة الإمام ، واعتبر العلم في ذلك كالعلم بمراد الله من الآيات المتشابهات في القرآن الكريم. 2
وهكذا قال الشيخ الطوسي بضرورة افتراض سبب لغيبة (صاحب الزمان) واستتاره ، والقول بوجود حكمة مسوّغة وان لم نعلمها مفصلا ، كما يتم افتراض أسباب وحكم لخلق الله عز وجل للبهائم والمؤذيات والصور القبيحة وإيلام الأطفال ، وان لم نعلم وجه حكمتها بالتفصيل ، وقال: إذا علمنا إمامته بدليل وعلمنا عصمته بدليل آخر وعلمناه غاب حملنا غيبته على وجه يطابق عصمته ، فلا فرق بين الموضعين . 3
وقال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في :(اصل الشيعة وأصولها):· إن السؤال عن الحكمة ساقط إذا قامت البراهين على وجوب وجود الإمام في كل عصر ، وان الأرض لا تخلو من حجة ، وان وجوده لطف وتصرفه لطف آخر واعتبر المقام أدق واغمض من ذلك ، كما اعترف بجهل الحكمة وعدم الوصول إلى حاقّ المصلحة . 4
2 - نظرية التمحيص(1/1)
وهناك نظرية أخرى في تفسير (غيبة الإمام ) هي نظرية (التمحيص) أي تمحيص الشيعة وتمييزهم وغربلتهم من اجل التعرف على حقيقة إيمانهم بالمهدي وصبرهم على البلاء .وقد روى الصدوق والطوسي روايات عديدة في هذا المضمون عن الإمامين الباقر والصادق (ع) ويتحدث بعض تلك الروايات عن عدم ظهور صاحب الامر إلا بعد ذهاب ثلثي الناس ، وعدم بقاء أحد إلا القليل ، وعن غربلة الشيعة كما يغربل الزوان من القمح . 5
وتقول رواية منها:· انه لا بد لصاحب هذا الامر من غيبة يغيبها حتى يرجع عن هذا الامر من كان يقول به ، انما هي محنة من الله امتحن بها خلقه ، وان عقولكم تصغر عن هذا الامر وأحلامكم تضيق عن حمله ، ولكن إن تعيشوا تدركوه . 6
وتشبه رواية أخرى منها :· غيبة المهدي بإبطاء العقوبة التي استنزلها نوح من السماء حتى أخذت طوائف من المؤمنين به ترتد طائفة بعد أخرى .. وكذلك القائم فانه تمتد أيام غيبته ليصرح الحق عن محضه ويصفو من الكدر بارتداد كل من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم . 7
ولكن لم يأخذ بهذه النظرية سوى الصدوق ، وقد أهملها المفيد والمرتضى والطوسي . وان كانوا قد ذكروا بعض الروايات المتضمنة لها ، وفسر الطوسي تلك الروايات الواردة حول امتحان الشيعة في حال الغيبة بأنها تعني اتفاق ذلك في أثنائها لا انه سبب لها. 8
3 - نظرية الخوف
وهذه أقوي نظرية في تفسير سبب الغيبة ، وقد روى الكليني في (الكافي )والصدوق في (إكمال الدين) مجموعة روايات عن الإمام الصادق (ع) تشير إلى إن سبب الغيبة هو الخوف على الحياة والتقية . 9(1/2)
وقال الشيخ المفيد في (الارشاد):· خلف الحسن ابنه المنتظر لدولة الحق وكان قد أخفى مولده ، وستر أمره لصعوبة الوقت وشدة طلب سلطان الزمان له واجتهاده في البحث عن أمره ، ولِما شاع من مذهب الإمامة فيه وعرف من انتظارهم له ، فلم يظهر ولده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته . 10
واعتبر المفيد إن الظروف المحيطة بغيبة (الإمام المهدي) اصعب بكثير من الظروف التي أحاطت بالأئمة السابقين من أهل البيت الذين لم يختفوا عن الأنظار ، وكانوا يتحصنون بالتقية ، وان سلاطين الزمان كانوا يعلمون قيام المهدي بالسيف ، ولذلك كانوا احرص على ملاحقته واستيصال شأفته ، وان السبب الذي كان يمنعه من الخروج هو قلة الأعوان والأنصار . 11
وأكد السيد المرتضى في (الشافي):· إن سبب غيبته إخافة الظالمين له ومنعهم يده عن التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه ، فإذا حيل بينه وبين مراده سقط عنه فرض القيام بالإمامة ، وإذا خاف على نفسه وجبت غيبته ولزم استتاره . 12
وقال الكراجكي في (كنز الفوائد):· إن السبب في غيبة الإمام إخافة الظالمين له وطلبهم بسفك دمه وإعلام الله انه متى أبدى شخصه لهم قتلوه ، ومتى قدروا عليه أهلكوه ، وانما يلزمه القيام بواجباته بشرط التمكن والقدرة وعدم المنع والحيلولة وإزالة المخافة على النفس والمهجة ، فمتى لم يكن ذلك فالتقية واجبة ، والغيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة ، لأن التحرر من المضار واجب عقلا وسمعا . 13
وحصر الطوسي أسباب الغيبة في الخوف ، وقال:· لا علة تمنع من ظهوره (ع) إلا خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار ، وكان يتحمل المشاق والأذى ، فان منازل الأئمة وكذلك الأنبياء (ع) إنما تعظم منزلتهم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله . 14
ولكن لماذا يخاف الإمام (محمد بن الحسن) على نفسه من القتل ، وقد خرج الإمام الحسين وضحى بنفسه في كر بلاء؟(1/3)
إن السيد المرتضى والشيخ الطوسي والكراجكي يجيبون على ذلك بالقول: إن أحدا من البشر لا يقوم مقام الإمام المهدي ، لأنه آخر الأئمة ولأن مصلحة المكلفين مقصورة عليه! 15
وهذا الجواب يفترض عدة أمور هي :
1 - تحديد مهدوية الإمام الثاني عشر من قبل الأئمة السابقين ، والإشارة إليه من قبل .
2 - وجود أزمة سياسية وعداوة وخوف لدى السلطات العباسية من المهدي ، ووجود خوف شديد واعظم لدى الإمام من المخاوف التي كانت في عصور الأئمة السابقين في ظل الحكام الأمويين والعباسيين.
3 - خاتمية الإمام الثاني عشر للأئمة وانحصار الإمامة فيه.
4 - تحريم التقية للمهدي قبل قيامه و ظهوره .
وإلا فإذا قلنا : إن الأئمة السابقين لم يحددوا هوية المهدي من قبل ، فلا حاجة له للغيبة منذ ولادته. وإذا ثبت إن العلاقة بين أهل البيت والعباسيين في تلك الفترة كانت طبيعية وإيجابية ولا يوجد فيها ضغط أو توتر سياسي ، فلا حاجة أيضا إلى الغيبة . وإذا قلنا إن الإمام الثاني عشر هو واحد من الأئمة وليس آخرهم ، كما كان الاماميون يعتقدون في البداية وحتى نهاية القرن الثالث ، فلا توجد ضرورة للغيبة ، لأن الأئمة السابقين كانوا جميعا معرضين للقتل ولم يغيبوا. وإذا قلنا إن الإمام الثاني عشر (المهدي) يجوز له استخدام التقية كسائر الأئمة فرضا ، فانه كان بمقدوره إن ينفي هويته ومهدويته إلى إن يظهر ، ولم يكن بحاجة إلى الغيبة منذ ولادته.
المطلب الثاني: أين مكان الغيبة؟(1/4)
إن معظم الروايات التي تتحدث عن (المهدي محمد بن الحسن العسكري) تشير إلى انه كان في بيت أبيه في (سرّمن رأى) عاصمة الخلافة العباسية يوماك ، وان الذين شاهدوه في حياة أبيه شاهدوه فيها ، وتقول بعض الروايات : انه خرج للصلاة على جثمان أبيه الذي توفي ودفن في (سامراء) وانه التقى بعد ذلك بوفد قم الذي جاء يبحث عن الإمام الجديد ، وانه ظل مقيما في البيت إلى أعوام طويلة حتى دهمته قوات المعتضد فغاب في (السرداب) . وقد بنى الخليفة العباسي الناصر بالله قبة على ذلك السرداب ، لا تزال موجودة حتى اليوم ، ويزورها الشيعة من كل مكان ، وهي القبة المعروفة بقبة سرداب الغيبة ، في جوار قبر الإمامين الهادي والعسكري في مدينة سامراء شمالي بغداد .
ويورد الشيخ المفيد في :(الارشاد) قصة رجل اسمه (علي بن الحسين) يقول : انه زار الإمام المهدي في بيته في سامراء ، وجلس عنده ثلاثة أيام ، كما يذكر قصة (الحسن بن الفضل ) الذي يقول انه ورد العسكر (أي : سامراء) فبعث إليه الإمام المهدي صرة فيها دنانير . 16
وينقل المفيد عن الحسن بن عبدالحميد انه شك في أمر أحد وكلاء المهدي واسمه (حاجز بن يزيد) فذهب إلى العسكر ، فخرج إليه ما يؤكد صحة دعوى ذلك الوكيل وينهاه عن الشك. 17
المطلب الثالث: كم هي مدة الغيبة؟
وكانت مدة الغيبة في بداية القول بها تتأرجح بين أيام وشهور أو سنين لا تتجاوز عدد أصابع اليدين ، كما تقول روايات كثيرة يذكرها الكليني في :(الكافي) والطوسي في :(الغيبة). 18
بينما كان بعض الروايات يقول : أنها ستطول حوالي ثلاثين أو أربعين عاما . 19
أشارت بعض الروايات التي نقلها النعماني في (الغيبة) إلى تحديد مدة الغيبة جدا وحداثة عمر الإمام المهدي عند الظهور ، وقد فسرها النعماني بحداثة عمره وقت إفضاء الإمامة إليه . 20
ونقل الطوسي رواية أخرى عن الإمام الباقر (ع) : إن صاحب هذا الامر لا يتجاوز الأربعين . 21(1/5)
وقالت روايات أخرى إن عمره قد يجاوز المائة والعشرين . 22
و روى الطوسي في :(الغيبة) عن أبى عبد الله (ع) : انه قال: ما تنكرون إن يمد الله لصاحب هذا الأمر في العمر كما مد لنوح في العمر؟ . وردّ على من استشكل حول طول مدة الغيبة وخروجها عن العادة ، بأن الأمر ليس على ما قالوه ، ولو صح لجاز إن ينقض الله العادة لضرب من المصلحة.23
واستشهد الصدوق والطوسي بغيبات موسى بن عمران ويوسف بن يعقوب ويونس بن متى الصحاب الكهف وصاحب الحمار ، ونوح وسلمان الفارسي والدجال ولقمان بن عاد وربيع بن ضبع ويعرب بن قحطان ، الذين قالوا انهم غابوا عن اقوامهم لفترات من الزمان .
المطلب الرابع: كيفية التأكد من هوية المهدي
وعلى أي حال فان الغيبة الطويلة أدت و تؤدي إلى مشكلة موضوعية ، وهي : كيفية التعرف على المهدي بعد الظهور ، والتأكد من هويته ، ولم تكن هذه المشكلة مطروحة في البداية وخاصة في عصر (الغيبة الصغرى) ولكنها بدأت تفرض نفسها مع توالي الزمان .. ومرور الأعوام . وقد كانت مدار بحث ونقاش بين الرافضين والقائلين بوجود المهدي ، في ذلك الوقت. وقد تصدى الشيخ الصدوق لمناقشتها ، وقال ردا على المعتزلة والمعارضين الذين كانوا يغمزون من هذه القناة:( انه قد يجوز بنقل من تجب بنقله الحجة من أوليائه ، وقد يجوز إن يظهر معجزا يدل على ذلك ، وهذا الجواب الثاني هو الذي نعتمد عليه ونجيب الخصوم به ، وان كان الأول صحيحا ) . 24
وقد أشار المفيد والطوسي إلى هذا الموضوع :(مشكلة التعرف على المهدي والتأكد من هويته عند الظهور ) بذكر مجموعة كبيرة من المعاجز والآيات الكونية الغريبة التي تسبق الظهور كعلامات على قيامه ، وعالج السيد المرتضى علم الهدى المشكلة في معرض مناقشته لإمكانية الظهور المؤقت أثناء فترة الغيبة ، فاشترط ظهور آيات تدل على صدقه. 25
المطلب الخامس: علائم الظهور(1/6)
يذكر الكليني في :(الكافي) والصدوق في :( إكمال الدين ) و(عيون اخبار الرضا) والمفيد في :(الارشاد) والطوسي في :(الغيبة) والعياشي في (تفسيره) : مجموعة من الروايات تربط بين الظهور وبين حدوث علائم سماوية ، تتعلق بتوقف حركة الأفلاك ، وتغير في قوانينها ، وما شابه من المعاجز غير الطبيعية ، كركود الشمس وقت الزوال إلى وقت العصر ، وخروج صدر رجل ووجهه في عين الشمس ، وكذلك وقوع الكسوف والخسوف بصورة غير طبيعية ، ككسوف الشمس في النصف من شهر رمضان وخسوف القمر في آخره. أو تكلم العلم والسيف مع (الإمام المهدي) ومناداته بعدم جواز القعود بعد ذلك الوقت. فيخرج ويقتل أعداء الله حيث ثقفهم ، ويقيم حدود الله ويحكم بحكم الله .
إضافة إلى قصة طلوع الشمس من المغرب ، وطلوع نجم بالمشرق يضيء كما يضيء القمر... وخروج جراد في أوانه وغير أوانه.. وخروج العبيد عن طاعة أسيادهم وقتلهم مواليهم.. ومسخٍٍ لقوم من أهل البدع حتى يصيروا قردة وخنازير ، وغلبة العبيد على بلاد السادات.. ونداء من السماء يسمعه أهل الأرض كلهم ، كل أهل لغة بلغتهم ، واموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون..
ويذكر المفيد : إن جبرائيل ينزل على القائم لمبايعته عند الظهور ، ويقول الطوسي: إن أصحاب القائم سوف ينقلون إلى مقر المهدي من بيوتهم بصورة اعجازية كلمح البصر.!
ويتحدث المفيد عن بعض العلائم الكونية التي سوف تحدث عند ظهور (المهدي) كامتداد طول اليوم إلى عشرة أضعاف ليكون 240 ساعة !
وهذا ما يفسره الطوسي بحديث مشابه ، حيث يقول: ( إذا قام القائم .. يأمر الله الفلك في زمانه فببطيء في دوره حتى يكون اليوم في أيامه كعشرة من أيامكم ، والشهر كعشرة اشهر ، والسنة كعشر سنين من سنيكم )(1/7)
ويروي الكليني حديثا عن الإمام الباقر (ع) يتنبأ فيه باستعمال الشيعة لطريقة (التلفون التلفازي) في التحدث مع القائم ومشاهدته عن بعد ، ومن مختلف الأقطار. وذلك عند ظهوره.
وتقول بعض الروايات: إن القائم إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها واستغنى العباد عن ضوء الشمس ، وذهبت الظلمة ، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له أف ولد ذكر لا يولد فيهم انثى.!
واخيرا تتحدث الروايات الواردة حول ظهور المهدي عن مدة ملكه ، فتقول إحداها : انه سيحكم سبع سنين تكون اشبه بسبعين سنة من سنينا .
وتقول رواية أخرى: إن القائم يملك ثلاثمائة وتسع سنين ، كما لبث أهل الكهف في كهفهم ، ولكن رواية ثالثة تقول: انه يحكم تسعة عشر عاما فقط. 26(1/8)
نظرية التقية والانتظار
تأثر الفكر السياسي الشيعي بنظرية (وجود الامام المهدي محمد بن الحسن العسكري) تأثرا كبيرا ، واتسم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة ، وذلك لأن هذه النظرية قد انبثقت من رحم النظرية ( الامامية ) التي تحتم وجود امام معصوم معين من قبل الله ، ولا تجيز للامة ان تعين او تنتخب الامام ، لأنه يجب ان يكون معصوما ، وهي لا تعرف المعصوم ، الذي ينحصر تعيينه من قبل الله . ولذلك اضطر الاماميون الى افتراض وجود (الامام الثاني عشر) بالرغم من عدم وجود أدلة علمية كافية على وجوده .
وقد كان من الطبيعي ان يترتب على ذلك ، القول بالانتظار للامام الغائب ، وتحريم العمل السياسي او السعي لإقامة الدولة الإسلامية في (عصر الغيبة) .. وهذا ما حدث بالفعل ، حيث أحجم (النواب الخاصون) عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة (الغيبة الصغرى) ولم يفكروا بأية حركة ثورية ، في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولا في اليمن وشمالي أفريقيا وطبرستان .
لقد كانت نظرية (الانتظار) للامام الغائب ، بمعناها السلبي المطلق ، تشكل الوجه الآخر للإيمان بوجود (الامام المعصوم ) ولازمة من لوازمها ، ولذلك فقد اتخذ المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفا سلبيا من مسألة إقامة الدولة في (عصر الغيبة) ، و أصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج (المهدي الغائب) .
وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري وسيطرتها على الدولة العباسية ، فان العلماء الاماميين ظلوا متمسكين بنظرية (الانتظار) وتحريم العمل السياسي ، وقد قال محمد بن ابي زينب النعماني (توفي سنة 340ه ) في (الغيبة):· ان أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره ، لا من خلقه ولا باختيارهم ، فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ، وَرَدَ مورد الظالمين والمنافقين الحالّين في ناره . 1(1/1)
وقال في (باب : ما أُمر الشيعة به من الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره) بعدما ذكر سبع عشرة رواية حول (التقية والانتظار في عصر الغيبة) :·انظروا - يرحمكم الله - الى هذا التأديب من الأئمة (ع) والى أمرهم ورسمهم في الصبر والكف والانتظار للفرج ، وذكرهم هلاك المحاضير والمستعجلين ، وكذب المتمنين ، ووصفهم نجاة المسلّمين ، ومدحهم الصابرين الثابتين ، وتشبيههم إياهم على الثبات بثبات الحصون على أوتادها ، فتأدبوا - رحمكم الله - وامتثلوا أمرهم ، وسلموا لهم ولا تتجاوزوا رسمهم ، ولا تكونوا ممن أردته الهوى والعجلة ومال به الحرص عن الهدى والمحجة البيضاء . 2
وكان من تلك الروايات التي اعتمد عليها محمد بن ابي زينب النعماني في تنظيره لفكرة الانتظار ، هي ما رواه عن ابي جعفر الباقر (ع) انه قال:
- الزم الأرض ، لا تحركن يدك ولا رجلك أبدا حتى ترى علامات اذكرها لك.. وإياك وشذاذ آل محمد ، فان لأل محمد وعلي راية ولغيرهم رايات ، فالزم الأرض ولا تتبع منهم رجلا أبدا حتى ترى رجلا من ولد الحسين معه عهد النبي ورايته وسلاحه.. فالزم هؤلاء أبدا وإياك ومن ذكرت لك .
- أوصيك بتقوى الله وان تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس ، وإياك والخوارج منا فانهم ليسوا على شيء ولا الى شيء.
- انظروا الى اهل بيت نبيكم فان لبدوا فالبدوا ، وان استصرخوكم فانصروهم ، تؤجروا ، ولا تستبقوهم فتصرعكم البلية .
- كل راية ترفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله .
- كل بيعة قبل ظهور القائم فانها بيعة كفر ونفاق وخديعة.
- والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم الا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل ان يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.(1/2)
و هكذا روى النعماني في (الغيبة) عن أهل البيت :· ان من ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا وروى الصدوق عن الامام الصادق (ع) انه قال:· من مات منكم على هذا الأمر منتظرا كان كمن في فسطاط القائم (3) وروى عن الرضا (ع) انه قال: · ما أحسن الصبر وانتظار الفرج؟.. أما سمعت قول الله عز وجل :(فارتقبوا اني معكم رقيب)؟ (فانتظروا اني معكم من المنتظرين) فعليكم بالصبر فانه انما يجيء الفرج على اليأس ، وقد كان من قبلكم أصبر منكم (4) · ان من عرف بهذا الأمر ثم مات قبل ان يقوم القائم كان له أجر من قتل معه . 5
وقال الشيخ الصدوق (توفي سنة 381 ه ) في كتاب (الاعتقادات) الباب الخامس والثلاثين،):· لا قائم غير المهدي وان طالت الغيبة بعمر الدنيا ، لأن النبي أشار الى اسمه ونسبه وبشّر به . وافتى بناء على هذه النظرية قائلا:· التقية واجبة .. وتركها لا يجوز حتى خروج القائم ، ومن يتركها قبل خروج القائم فانه خارج من دين الامامية ومخالف لله والرسول والأئمة (6) كما أفتى بنفس الحكم في كتاب :(الهداية ص 47) حيث قال:· التقية فريضة واجبة علينا في دولة الظالمين ، فمن تركها فقد خالف دين الامامية وفارقه ، وقال الصادق: خالطوا الناس بالبرانية وخالفوهم بالجوانية مادامت الإمرة صبيانية.. والتقية واجبة لا يجوز تركها الى ان يخرج القائم ، فمن تركها فقد دخل في نهي الله عز وجل ونهي رسوله والأئمة (ع) ويجب الاعتقاد ان حجة الله في ارضه وخليفته على عباده في زماننا هذا هو القائم المنتظر ابن الحسن.. ويجب ان يعتقد انه لا يجوز ان يكون القائم غيره بقي في غيبته ما بقي ، ولو بقي عمر الدنيا لم يكن القائم غيره .
وقال الصدوق في :(إكمال الدين ):· .. علينا فعل ما نؤمر به ، وقد دلت الدلائل على فرض طاعة هؤلاء الأئمة الأحد عشر الذين مضوا ، ووجب القعود معهم إذا قعدوا والنهوض معهم إذا نطقوا ، فعلينا ان نفعل في كل وقت ما دلت الدلائل على ان نفعله . 7(1/3)
وهكذا علق الشيخ المفيد ( توفي 413ه ) مسؤولية الإصلاح على (الامام المهدي ) الذي قال عنه : انه غائب بسبب الخوف من الظالمين ، فقال:· انه إذا غاب الامام للخوف على نفسه من القوم الظالمين فضاعت لذلك الحدود وانهملت به الأحكام ووقع به في الأرض الفساد ، فكان السبب لذلك فعل الظالمين دون الله عز وجل اسمه ، وكان المأخوذين بذلك المطالبين به دونه . 8
وكان السيد المرتضى علم الهدى ( 355 - 436) يعتقد ان مهمة نصب الأئمة تقع على عاتق الله وليس على عاتق الامة وان ذلك لا يسوغ لها . ومن هنا فقد حرم السعي لتنصيب الامام وتشكيل الحكومة في عصر الغيبة · لأن ذلك ليس بأيدينا وانما بيد الله وأوجب الانتظار ، وقال: · ليس إقامة الامام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته . 9
و قال في :(الشافي):· اعلم ان كلامنا في وجوب النص وانه لا بد منه ولا يقوم غيره في الإمامة مقامه.. كافٍ في فساد الاختيار ، لأن كل شيء أوجب النص بعينه فهو مبطل للاختيار . واعلم ان الذي نعتمده في فساد اختيار الامام هو بيان صفاته التي لا دليل للمختارين عليها ، ولا يمكن إصابتها بالنظر والاجتهاد ، ويختص علام الغيوب تعالى بالعلم بها كالعصمة والفضل في الثواب والعلم على جميع الامة ، لأنه لا شبهة في ان هذه الصفات لا تستدرك بالاختيار ، ولا يوقف عليها الا بالنص .
ولا يمكن ان يقال بصحة الاختيار مع هذه الصفات ، لأن ذلك تكليف قبيح .. لما لا دلالة عليه ولا إمارة تميز الواجب من غيره .
ومما يمكن ان يعتمد في فساد الاختيار : ان العاقدين للإمامة يجوز ان يختلفوا فيرى بعضهم : ان الحال يقتضي ان يعقد فيها للفاضل ، ويرى آخرون : انها تقتضي العقد للمفضول ، وهذا مما لا يمكن . 10(1/4)
وقال الشيخ الطوسي في :(تلخيص الشافي) :· ومما يدل على وجوب النص او ما يقوم مقامه من المعجز ، انا قد دللنا على ان الامام لا بد ان يكون افضل الخلق عند الله تعالى وأعلاهم منزلة في الثواب ، وفي حال ثبوت إمامته ، وإذا ثبت كونه كذلك ، ولم يمكن التوصل اليه بالأدلة ولا بالمشاهدة وجب النص او المعجز . 11
وقد رفض العلامة الحلي في :(الالفين) فكرة قيام الامة بنصب الامام واختياره عبر الشورى (12) واعتبر إسناد أمر الامامة الى اختيار الأمة خلافا لقول الله تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم) وانه تقديم بين يدي الله ورسوله ، وقد نهى الله عن ذلك .(13) ورأى في إسناد مهمة اختيار الامام الى الامة فتح باب عظيم للفساد ينافي الحكمة الإلهية ، لأن كل واحد من الامة يختار رئيسا ، وهذا ما يؤدي الى الفتنة والهرج والمرج والتغلب والمقاهرة . (14) وقال: لا طريق الى الامامة الا بالنص بقول النبي (ص) او الامام ، او بخلق المعجز على يده . 15
وقد أسهب العلامة الحلي في (الالفين) في استعراض الأدلة التي تنقض نظرية الشورى ، وأكد على ضرورة تعيين الامام (العالم المعصوم) من قبل الله تعالى ، ولم يبحث في كتابه أدلة إثبات الإمامة الإلهية للأئمة الاثني عشر فقط ، وانما بحث حرمة الإمامة لغيرهم بشكل مطلق ، وألقى باللوم لعدم القدرة على تشكيل الدولة في فترة (الغيبة) على الذين تسببوا في إخافة الامام المهدي واضطروه للغيبة. (16) وقال بصراحة:· ان رئاسة غير المعصوم في الدين والدنيا جالبة لخوف المكلف.. ولا شيء من غير المعصوم بإمام . 17(1/5)
و بناء على ذلك قال الميرزا محمد تقي الاصفهاني ( توفي 1348ه ) في :(مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم) :· لا يجوز مبايعة غير النبي والامام.. إذ لو بايع غيره جعل له شريكا في المنصب الذي اختصه الله تعالى به ونازع الله في خيرته وسلطانه ، قال تعالى :( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقد ورد في تفسير قوله تعالى (ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) روايات بأن المراد : لئن أشركت في الولاية غير علي .
وقد تبين من ذكرنا عدم جواز مبايعة أحد من الناس من العلماء وغيرهما بالاستقلال ولا بعنوان نيابتهم عن الامام في زمن الغيبة ، لما قدمناه آنفا من ان ذلك من خصائصه ولوازم رياسته العامة وولايته المطلقة وسلطنته الكلية ، فان بيعته بيعة الله (18) وأضاف:· ويدل على عدم جوازه مضافا الى ما عرفت من كونه من خصائص الامام وكون أمور الشرع توقيفية ماروي في البحار (ج3 ص 8 ) و(مرآة الانوار) عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) انه قال : ( يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة ، لعن الله المبايع بها والمبايع له) وهذا كما ترى صريح في عدم جواز مبايعة غير الامام من غير فرق بين كون المبايع له فقيها او غير فقيه ، ومن غير فرق بين ان يكون البيعة لنفسه او بعنوان النيابة عن الامام . 19
وقال الاصفهاني:· ويؤيد ما ذكرنا من كون المبايعة بالمعنى المذكور من خصائص الامام ولوازم رياسته العامة وولايته المطلقة وعدم جوازه لغيره ، أمور:
منها: انه لم يعهد ولم ينقل في زمان أحد من الأئمة تداول المبايعة بين أصحابهم.
ومنها: انه لم يرد منهم (ع) إذن في مبايعة غيرهم من أصحابهم بنيابتهم.(1/6)
ومنها : عدم معهودية ذلك في ألسنة العلماء ولا في كتبهم ، ولم ينقل في آدابهم وأحوالهم وافعالهم ، بل لم يكن معهودا في سائر المؤمنين من زمن الأئمة الى زماننا ان يبايعوا احدا بعنوان ان بيعته بيعة الامام.
ومنها : ما تقدم من المجلسي في (البحار) ( ج 102 ص 111 باب 7 من الطبعة الحديثة ) بعد ذكر دعاء تجديد العهد والبيعة في زمان الغيبة ، انه قال:· وجدت في بعض الكتب القديمة بعد ذلك :( ويصفق بيده اليمنى على اليسرى) فانظر كيف جوّز ان يصفق بيده على يده ، ولم يجوّز مصافقة الغير . 20
واستنتج الاصفهاني صاحب (مكيال المكارم):· اقول : فمن جميع ما ذكرنا وغيره يحصل الجزم بأن المبايعة من خصائص النبي والامام ولا يجوز لأحد التصدي لذلك الا من جعله النبي او الامام نائبا له في ذلك .
فان قلتَ : بناءً على القول بثبوت الولاية العامة للفقيه يمكن ان يقال: بأن الفقهاء خلفاء الامام ونوابه ، فيجوز لهم أخذ البيعة من الناس نيابة عن الامام ويجوز للناس مبايعتهم. قلتُ : اما اولاً: فالولاية العامة غير ثابتة للفقيه، واما ثانياً: فانما هي فيما لم يكن مختصا بالنبي والامام ، وقد ظهر من الروايات - دليلا وتأييدا - اختصاص المبايعة بهما ، فليس للنائب العام نيابة في هذا المقام. وهذا نظير الجهاد حيث انه لا يجوز الا في زمان حضور الامام وبإذنه ، اما في مثل زماننا هذا فجواز المبايعة على وجه المصافقة مما دليل له، فهي من البدع المحرمة التي توجب اللعنة والندامة . 21(1/7)
الموقف السلبي
من الاجتهاد وولاية الفقيه
المطلب الأول:
الموقف السلبي من الاجتهاد
وقد رفض أولئك العلماء الذين التزموا بنظرية :( التقية والانتظار) اي بديل للامام المعصوم الغائب (المهدي المنتظر) ، حتى لو كان فقيها عادلا ، وذلك لأنهم كانوا يحرمون الاجتهاد والعمل بالقياس والأدلة الظنية ، ويشترطون حصول العلم اليقين بأحكام الدين من أهل البيت (ع) ، وذلك عبر الأخبار الواردة عنهم . وقد روى القاسم بن العلاء ( وكيل الامام المهدي في آذربايجان) رواية عن الامام علي بن الحسين يقول فيها:· ان دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب الا بالتسليم ، فمن سلم لنا سلم ومن اقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله او نقضي به حرجا فقد كفر بالذي انزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم وقد نقلها الشيخ الصدوق في كتابه :(إكمال الدين) . 1
وألّف سهل النوبختي ، في القرن الثالث الهجري ، كتابين في :(ابطال القياس) و (نقض اجتهاد الرأي) . كما كتب ابن أخته الحسن بن موسى النوبختي كتابا في نفس الموضوع وكتابا آخر في :(خبر الواحد والعمل به) وكل هذه الكتب تدور في مجال العمل بالأخبار ، ولم تتجاوز لكي تفتح باب (الاجتهاد) على مصراعيه لكي يشمل القياس او القياس العلمي واستنباط روح الشريعة الإسلامية واستحداث المسائل الجديدة.(1/1)
و روى الكليني في :(الكافي ) حديثا عن الامام الصادق جاء فيه :· المداومة على العمل في أتباع الآثار والسنن ، وان قلّ ، أرضى لله وانفع عدة في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء . ونقل النعماني ابن ابي زينب في :(تفسيره) حديثا عن الامام الصادق جاء فيه:· واما الرد على من قال بالاجتهاد ، فانهم يزعمون ان كل مجتهد مصيب ... على انهم لا يقولون انهم مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحق عند الله عز وجل لأنهم في حال اجتهادهم ينتقلون عن اجتهاد الى اجتهاد . ومن هنا اقتصر العلماء الأوائل على رواية الأخبار ، ولم يعرفوا معنى الاجتهاد بالمعنى المتعارف عليه اليوم . وبالرغم من محاولة العماني وابن جنيد الاسكافي فتح باب الاجتهاد في القرن الرابع ، الا ان الجو العام كان يرفض اي نوع من الاجتهاد ، وذلك انسجاما مع نظرية (الامامة الإلهية ) التي تحصر العمليتين : التشريعية والتنفيذية في (الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله ) .
وقد أدى الموقف السلبي من الاجتهاد ، الى حدوث أزمة في التشريع عند المدرسة (الامامية - الاخبارية) واشتدت هذه الأزمة مع انقطاع اي الاتصال بالامام الغائب في ظل (الغيبة الكبرى) ومع ذلك فقد استمر (الاماميون - الاخباريون) بالالتزام بنظرية (التقية والانتظار) في مجال التشريع ، لأنهم كانوا يحصرون ذلك في (الامام المعصوم ) الغائب .
وقد اتخذ عبد الرحمن بن قبة من الحديث النبوي الذي يقول:( اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي.. ألا وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) دليلا على حتمية علم اهل البيت بالكتاب وعلم الدين كله ، واستنتج ضرورة التمسك بهم واخذ العلم منهم فقط . 2(1/2)
كما اعتمد الشيخ الصدوق ( توفي 381 ه ) على ذلك الحديث وأكد ان علم اهل البيت علم يقيني يكشف عن مراد الله عز وجل كعلم رسول الله (ص) وليس علما قائما على الاستخراج والاستنباط والاستدلال . (3) ونفى الصدوق إمكانية معرفة تأويل القرآن بالاستنباط لأي أحد غير اهل البيت . 3
وهكذا حصر الشيخ المفيد أدلة جميع الأحكام في منابع ثلاثة هي : الكتاب والسنة واقوال الأئمة من اهل البيت (ع) . 4
و أنكر المفيد على أوائل المجتهدين (العماني وابن جنيد) اشتغالهم عن حمل الآثار بالرأي والاستحسان وهجرانهم من أمر الله تعالى بصلته ، واخذ معالم الدين عنه وعن عترة نبيه . 5 وألّف المفيد كتابين في الرد على أستاذه ابن الجنيد الذي كان يحاول (الاجتهاد) .
وأكد السيد المرتضى في :(الشافي): بطلان الاجتهاد ، واستدل على ذلك بأن الاجتهاد في الشريعة هو طلب غلبة الظن فيما لا دليل عليه ، والظن لا مجال له في الشريعة ، ولا يصح ان يطلب في الظن تحريم شيء منها او تحليله ، لأن الشريعة مبنية على ما يعلمه الله تعالى من مصالحنا التي لا عهد لنا فيها ولا عادة ولا تجربة. وقال: · ان الاجتهاد والقياس لا يثمران فائدة ولا ينتجان علما ، فضلا عن ان تكون الشريعة محفوظة بهما . 6(1/3)
وقد شكى الشيخ الطوسي في مقدمة :(المبسوط) من قلة رغبة هذه الطائفة في الاجتهاد ، وترك عنايتهم به ، لأنهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ ، حتى ان مسألة لو غيّر ألفاظها وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها ، وقصر فهمهم عنها. ولكنه قال في :(تلخيص الشافي) :· اما القياس وأخبار الآحاد والاجتهاد ، فقد بينا .. انه لا يجوز التعبد به ، واما رجوع العامي الى العالم ، فعندنا انه لا يجوز ان يقلد غيره ، بل يلزمه طلب العلم من الجهة التي تؤدي الى العلم ، ولو أجزنا ذلك لم يشبه أمره أمر الامام ، لأنه انما جاز ذلك من حيث لم يكن حاكما فيه بل لزمه تقليد العالم والعمل به . 7
وبالرغم من ممارسة العلامة الحلي ( توفي 762) للاجتهاد في كثير من أبواب الفقه ، الا انه نفى الحجية عن القياس ، ورفض الاعتماد على أخبار الآحاد ، وقال : انها لا تصلح لإفادة الشريعة ، لقوله تعالى:( ان الظن لا يغني من الحق شيئا) . 8
واشترط الحلي :· العلم بالأحكام يقينا لا ظنا بالاجتهاد ، لأن المصيب واحد ، وقد تتعارض الأدلة وتتساوى الإمارات ويستحيل الترجيح بلا مرجح ، وتتساوى أحوال العلماء بالنسبة الى المقلدين ، فلا بد من عالم بالأحكام يقينا لا ظنا بالإمارة ، ليرجع اليه من يطلب العلم ويطلب الصواب يقينا . 9
وقال :· ان تحصيل الأحكام الشرعية في جميع الوقائع من الكتاب والسنة وحفظها .. لا بد له من نفس قدسية تكون العلوم الكسبية بالنسبة اليها كفطرية القياس ، معصومة عن الخطأ ، ولا يقوم غيرها مقامها في ذلك ، اذ الوقائع غير متناهية ، والكتاب والسنة متناهيان ، ولا يمكن ان تكون هذه النفس لسائر الناس .. فتعين ان تكون لبعضهم وهو الامام . 10(1/4)
وقال:· الوقائع غير محصورة.. والكتاب والسنة لا يفيان بها .. فلا بد من امام منصوب من قبل الله تعالى من الزلل والخطأ يعرفنا الأحكام ويحفظ الشرع لئلا يترك بعض الأحكام ان يزيد فيها عمدا وسهوا او يبدلها . 11
وانطلاقا من هذا الفكر الامامي الرافض للاجتهاد والمجتهدين شنَّ الميرزا محمد امين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) في :(الفوائد المدنية) حملة شعواء ضد أنصار المدرسة الاجتهادية الأصولية التي راجت في الدولة الصفوية وقال:· ان الروايات التي ذكرها قدماء أصحابنا الإخباريين كالشيخين الأعلمين الصدوقين والامام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، كما صرح به في اوائل كتاب (الكافي) وكما نطق به في : باب حرمة الاجتهاد والتقليد ، وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة (ع) المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم . 12
وقال :· الصواب عندي مذهب قدمائنا الإخباريين وطريقتهم.. اما مذهبهم فهو: ان كل ما تحتاج اليه الامة الى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى ، حتى ارش الخدش ، وان كثيرا مما جاء به (ص) من الأحكام وما يتعلق بكتاب الله او سنة نبيه (ص) من نسخ او تقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (ع) وان القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة الى أذهان الرعية ، وكذلك كثير من السنن النبوية ، وانه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام النظرية الشرعية ، أصلية كانت او فرعية ، الا السماع من الصادقين (عليهما السلام) وانه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السنن النبوية ، ما لم يعلم أحوالهما من جهة اهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقف والاحتياط فيهما.(1/5)
وان المجتهد في نفس أحكامه تعالى ان اخطأ كذب على الله وافترى ، وان أصابه لم يؤجر ، وانه لا يجوز القضاء ولا الإفتاء الا بقطع ويقين ، ومع فقده يجب التوقف ، وان اليقين المعتبر فيهما قسمان: يقين متعلق بأن هذا حكم الله في الواقع ، ويقين متعلق بأن هذا ورد عن معصوم ، فانهم (عليهم السلام) جوزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم (عليه السلام) وان كان وروده في الواقع من باب (التقية) ولم يحصل لنا منه ظن بما هو حكم الله تعالى في الواقع ، والمقدمة الثانية متواترة معنى عنهم . 13
المطلب الثاني:
الموقف السلبي من ولاية الفقيه
كان من البديهي بعد قول الامامية بحرمة الاجتهاد في ظل (الغيبة) ان يتخذوا موقفا سلبيا من نظرية (ولاية الفقيه) وذلك لفقدان شرط العلم الإلهي والعصمة في العلماء والمجتهدين.
واذا كان بعض العلماء قد مال ، منذ بداية القرن الخامس الهجري ، الى فتح باب الاجتهاد شيئا فشيئا ، فان الموقف العام للعلماء الأوائل ، وربما لبعض العلماء حتى اليوم ، ظل سلبيا من مسألة :( ولاية الفقيه) وقيام الفقهاء بتشكيل الدولة في (عصر الغيبة) فقد كان الفكر الامامي القديم اخباريا يرفض الاجتهاد ، وقد رفض نظرية (ولاية الفقيه) لأنها تقوم على الاجتهاد ، والاجتهاد من مختصات الأئمة المعصومين ،
وكان الموقف السلبي الذي اتخذه اولئك العلماء يبتني على امرين :
الأول: هو الإيمان باشتراط العصمة والعلم الإلهي والنص في الامام (اي الحاكم او الرئيس) والايمان بوجود الامام المعصوم العالم المنصوص عليه من قبل الله وغيبته ( وهو المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري) .
الثاني: الايمان بحرمة الاجتهاد وحرمة تصدي غير المعصوم المعين من قبل الله ، للامور السياسية .(1/6)
و من هنا فقد رفض المتكلمون (الاماميون) الأوائل دعوة المعتزلة والشيعة الزيدية الذين لم يكونوا يشترطون العصمة الإلهية ولا النص في الامام ، الى تبني نظرية (ولاية الفقيه) ، خاصة في ظل (الغيبة الكبرى) التي لا صلة فيها بينهم وبين الامام الغائب ، ولكن الالتزام بنظرية :( الامامة والتقية والانتظار) منعهم من قبول ذلك ، استنادا الى فقدان الفقيه للعصمة والتعيين من الله ، وتعارض نظرية (ولاية الفقيه) مع نظرية (الامامة الالهية) . ودار نقاش حامٍ بين الطرفين حول الموضوع ، وقد نقله الشيخ الصدوق في مقدمة كتابه :(اكمال الدين) حيث نقل مقتطفات من كتاب (الاشهاد) لأبي زيد العلوي ، وكتاب علي بن احمد بن بشار حول الغيبة وولاية الفقيه ، ورد الشيخ عبد الرحمن بن قبة عليهما . وقد استند ابن قبة في رفضه لنظرية :( ولاية الفقيه) على رفضه للاجتهاد ، وحتمية وجود العالم المفسر للقرآن الكريم من اهل البيت ، واستنتج ضرورة اشتراط العصمة في الامام . 14
وكان الشيخ ابن قبة ( توفي حوالي 350ه ) قد طالب الزيدية بالعودة الى موضوع النص والشورى بعد وفاة رسول الله مباشرة ، فان ثبت هناك بالنص ، فان الخلافة والإمامة لا بد ان تثبت بالنص في كل زمان ، وقال:· اذا ذكروا الحجة الصحيحة فننقلها الى الامام في كل زمان ، لأن النص ان وجب في زمن وجب في كل زمان ، لأن العلل الموجبة له موجودة ابدا . 15
ولما كانت الشورى المباشرة بعد الرسول باطلة في نظر الزيدية والامامية ، فقد استصحب عبد الرحمن بن قبة بطلانها في كل العصور ، ومنها بطلانها في (عصر الغيبة) وأجاب بذلك عن سؤال الزيدية من الامامية : لماذا لا تقيمون الحكومة في عصر الغيبة؟ لأن ذلك يتطلب خروجا على النص وعودة الى نظام الشورى الباطل في نظره. ورفض الشيخ ابن قبة إقامة اية حكومة في عصر الغيبة حتى تحت قيادة الفقهاء العدول ، وقال:· ليس يقوم عندنا مقام الامام الا الامام . 16(1/7)
وقد خاطب عبد الرحمن بن قبة الشيعة الزيدية والمعتزلة الذين عرضوا على الشيعة الاثني عشرية نظرية (ولاية الفقيه) قائلا :· اننا نرضىمن اخواننا بشيء واحد ، وهو ان يدلونا على رجل من العترة .. لا يستعمل الاجتهاد والقياس في الأحكام السمعية ، ويكون مستقلا كافيا حتى نخرج معه ، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على قدر الطاقة وحسب الإمكان ، والعقول تشهد ان تكليف مالا يطاق فاسد ، والتغرير قبيح . 17
و أضاف الشيخ الصدوق في مجال رفضه لنظرية (ولاية الفقيه) القائمة على الاجتهاد :· ان الامامة لا يتم أمرها الا بالعلم بالدين والمعرفة بأحكام رب العالمين ، وأئمة الزيدية قائلون في التأويل - اعني تأويل القرآن - على الاستخراج ، وفي الأحكام على الاجتهاد والقياس ، وليس يمكن معرفة تأويل القرآن بالاستنباط .. وفيه أشياء لا يعرف المراد منها الا بتوقيف ، مثل الصلاة والزكاة والحج.
فان قال قائل منهم : لم ينكر ما كان سببه ان يعرف بالتوقيف قد وقفه الله ورسوله عليه ، وما كان سبيله ان يستخرج فقد وكل الى العلماء وجعل بعض القرآن دليلا على بعض ، فاستغنينا بذلك عمن تدعون من التوقيف والموقف؟
قيل له : لا يجوز ، لتعدد الاحتمالات في الآية الواحدة ، وليس يجوز ان يكون للمتكلم الحكيم كلاما يحتمل مرادين متضادين .. انه لا بد للقرآن من مترجم يعلم مراد الله تعالى فيخبر به ونفى الصدوق إمكانية معرفة تأويل القرآن بالاستنباط لأي أحد غير الأئمة من اهل البيت . 18(1/8)
وقال السيد المرتضى في : (الشافي): · لا بد من كون امام معصوم في كل زمان ، لأن أدلة الشرع من كتاب وسنة لا تدل بنفسها ، لاحتمالها عدة وجوه ، ولذلك اختلفوا في معناها مع اتفاقهم في كونها دلالة ، فلا بد من مبيّن عرف معناها اضطرارا من الرسول او من امام سواه .. ( وقال ): لسنا نقول ان جميع أدلة الشرع محتملة غير دالة بنفسها ، بل فيها ما يدل اذا كان ظاهره مطابقا لحقائق اللغة .. ولا شبهة ان جميع أدلة الشرع ليست بهذه الصفة ، لأنا نعلم ان في القرآن متشابها وفي السنة محتملا ، وان العلماء من اهل اللغة قد اختلفوا في المراد بهما ومالوا في مواضع الى طريقة الظن والأولى ، فلا بد والحال هذه من مبيّن للمشكل ومترجم للغامض يكون قوله حجة كقول الرسول (ص) .. فلا بد من امام مؤدٍ لترجمة النبي (ص) مشكل القرآن وموضح عما غمض عنا من ذلك ، فقد ثبتت الحاجة الى الامام . 19
وقد رفض الشيخ الطوسي نظرية ولاية الفقيه اعتمادا على ضرورة علم الامام (اي الحاكم الاسلامي) بجميع أحكام الدين علما يقينيا قاطعا ، وقبح ولاية الفاقد للعلم . 20
ورفض فكرة اعتماد الامام على الاجتهاد ، او الاخبار ، او استفتاء العلماء ، او التوقف فيما لا يعلمه حتى يتبين له الحكم الشرعي بأحد طرق العلم ، واشترط حصول العلم الإلهي للامام ، وشكك بصحة الطرق الظنية كالقياس والاجتهاد وكونها طريقا للعلم الإلهي المطلوب في الامام .
كما رفض فكرة تقليد الحكام للعلماء ، لعدم جواز التقليد أساسا ، او لعدم جواز التقليد لخصوص الحكام ، وضرورة حصول العلم اليقيني لديهم ، وهو ما لا يمكن الا في (الأئمة المعصومين ) . 21(1/9)
وهكذا رفض الشيخ الطوسي ان يكون الحاكم مجتهدا او مقلدا للمجتهدين ، واشترط ان يكون حاصلا على العلم من الله ، بالرغم من ان الطوسي ومن قبل استاذيه المرتضى والمفيد كانوا قد فتحوا باب الاجتهاد ومارسوه .. ولكنهم لم يرتقوا بشرعيته الى درجة صياغة نظرية دستورية تعتمد على ولاية الفقيه بدلا من الامام المعصوم ، حتى في عصر الغيبة الذي لم يكن بمقدور الشيعة فيه التوصل الى الامام الغائب والتعاون معه على إقامة حكومة في الارض .
وبالرغم من انهم كانوا يعيشون في ظل الدولة البويهية الشيعية الا انهم لم يستطيعوا انتاج نظرية عصرية سياسية تلبي متطلبات الحياة ، وأصروا على تكريس نظرية (الانتظار) السلبية وترديدها في مختلف كتبهم الفكرية والفقهية .
كما رفض العلامة الحلي بشدة نظرية ولاية الفقيه ، حيث قال في :(الألفين) :· الوقائع غير محصورة ، والكتاب والسنة لا يفيان بها ، فلا بد من امام منصوب من قبل الله تعالى ، من الزلل والخطأ يعرفنا الاحكام ويحفظ الشرع لئلا يترك بعض الأحكام او يزيد فيها عمدا او سهوا او يبدلها . 22
وقال:· المطلوب من الرئيس.. العلم بالأحكام يقينا لا ظنا بالاجتهاد . 23
ولما كان المجتهد يعتمد على الظن فلم يسمح العلامة الحلي له بتولي القيادة العامة بالطبع ، ومع ان العلامة وسائر علماء الحلة كانوا يقولون بنيابة الفقيه عن (الامام المهدي) في بباب الخمس ، ويمارسون بعض مهام الامامة ، او يؤيدون الحكام الذين كانوا يمارسون دور الامام .. فان الحليين ظلوا - بصورة عامة - يلتزمون بنظرية التقية و الانتظار .(1/10)
و بالرغم من قيام الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري ، وتأييد الشيخ علي الكركي لها فقد كان هنالك في (النجف) تيار قوي يعارض قيام الدولة الصفوية كما يرفض بشدة نظرية (النيابة العامة) ويتمسك بنظرية (الانتظار) كلازمة من لوازم نظرية (الامامة الإلهية) ويرى في المحاولة الصفوية - الكركية انقلابا على أهم أسس النظرية الامامية ، من حيث اشتراط العصمة والنص في الامام (الرئيس) واستلابا واغتصابا لدور الامام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب) . وكان يقود ذلك التيار الشيخ ابراهيم القطيفي ، الذي أفتي بحرمة صلاة الجمعة خلافا للشيخ الكركي الذي أفتى بإباحتها . و ألف رسالة خاصة في حرمة الخراج في الرد على الشيخ الكركي ، اسماها :( السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج ) وأيده في ذلك المقدس الاردبيلي ( توفي 993ه ) الذي كتب (تعليقات على خراجية المحقق الثاني) .
وبالرغم من قول الشيخ محمد حسن النجفي في (جواهر الكلام) بدرجة كبيرة من الولاية للفقيه ، الا انه نفى إمكانية النيابة عن (الامام المهدي ) في الثورة وتأسيس الدول والحكومات ، وقال في كتاب القضاء:· لم يأذنوا (الأئمة) لهم (للفقهاء) في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم اليها كجهاد الدعوة المحتاج الى سلطان وجيوش وامراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه ، والا ظهرت دولة الحق (وخرج الامام المهدي).
وتوصل النجفي من خلال تحليله ذلك الى ضرورة الانتظار في عصر الغيبة.. عصر التقية، وعدم جواز إقامة الدولة الإسلامية ، بل عدم إمكانيتها.(1/11)
الموقف من عملية الإصلاح الاجتماعي
لقد انعكست نظرية (الانتظار للامام المهدي الغائب) التي التزم بها المتكلمون (الامامية) في القرون الأولى ، على مختلف جوانب الحياة السياسية في ( عصر الغيبة ) ، وأولها : الثورة والتغيير ، أو عملية الإصلاح الاجتماعي ، أو قانون : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي وضعه الإسلام لمكافحة الفساد الداخلي ، والوقوف امام تهافت المسلمين وانهيارهم ، أو سيطرة الفساق والظلمة والطواغيت عليهم ، والذي يشمل العمل السياسي والإعلامي واستعمال القوة من قبل الدولة الإسلامية ضد المنحرفين والخارجين على القانون ، أو من قبل الأمة ضد كل من تسول له نفسه الخروج على القوانين الإسلامية من الحكام والمحكومين .
وكان لا بد للذين التزموا بنظرية ( التقية والانتظار) ان ينظروا نظرة مختلفة إلى قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وإذا كان هذا القانون بحد ذاته قانونا واسعا وينطوي على مراحل إعلامية وسياسية وعسكرية ، وان مراحله العليا التي تقتضي استخدام القوة منوطة بالسلطات الشرعية ، فان الذين اعتقدوا بنظرية الانتظار وتحريم العمل السياسي في عصر الغيبة ، كان عليهم ان ينظروا إلى ذلك القانون نظرة مختلفة ، فيجيزوا المراحل الأولية منه فقط ويعلقوا المراحل العليا التي تستلزم استعمال القوة ، خاصة تلك التي تؤدي إلى إراقة الدماء.(1/1)
ومن هنا كانت فتاوى أولئك العلماء تحجم حدود استعمال قانون (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) باللسان واليد فقط ، وترفض استعماله بما يؤدي إلى إراقة الدماء . و في هذا الصدد يقول الشيخ المفيد في :(المقنعة):· ... وليس له القتل والجراح إلا بأذن سلطان الزمان المنصوب لتدبير الأنام ، فان فقد الأذن بذلك لم يكن له من العمل في الإنكار إلا بما يقع بالقلب واللسان من المواعظ بتقبيح المنكر والبيان عما يستحق عليه من العقاب والتخويف بذلك وذكر الوعيد عليه ، وباليد ، ما لم يؤدِ العمل بها إلى سفك الدماء ، وما تولد من ذلك من إخافة المؤمنين على أنفسهم والفساد في الدين ، فان خاف الإنسان من الإنكار باليد ذلك لم يتعرض له ، وان خاف بإنكار اللسان أيضا ما ذكره امسك عن الإنكار به واقتصر على إنكاره بالقلب . 1
ويقول الشيخ الطوسي في :(النهاية):·... وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضربه من الجراحات ، إلا ان هذا الضرب لا يجب فعله إلا بأذن سلطان الوقت المنصوب للرياسة (ويقصد الإمام المعصوم : المهدي مثلا ) فان فقد الأذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها (وهي القلب واللسان) وإنكار المنكر يكون كذلك .. فأما باليد مشروط بالأذن من جهة السلطان . 2
ويقول القاضي عبد العزيز بن نحرير ابن براج الطرابلسي (400 - 481) في :(المهذب ):· ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتصر على القلب واللسان ، وقد يكون بالقتل والردع والتأديب والجراح والآلام على فعله ، إلا ان هذا الوجه لا يجوز للمكلف الإقدام عليه إلا بأمر الإمام العادل وإذنه له في ذلك ، أو من نصبه الإمام ، فان لم يأذن له الإمام أو من نصبه في ذلك ، فلا يجوز له فعله ، ويجب عليه حينئذ الاقتصار على الوجه الذي قدمنا ذكره (وهو القلب واللسان) وهذا الوجه أيضا لا يجوز فعله في إنكار المنكر إلا بأذن الإمام أو من نصبه . 3(1/2)
و التزم ابن إدريس بموقف الشيخ الطوسي ونقل قوله في كتاب (الاقتصاد) :· ان الظاهر من مذهب شيوخنا الامامية: ان هذا الجنس من الإنكار (القتل والجرح) لا يكون إلا للأئمة ، أو من يأذن له الإمام . 4
وقد تردد المحقق الحلي في :(شرائع الإسلام ص 343) حول جواز الجرح والقتل في عصر (الغيبة) فتساءل: · ... ولو افتقر إلى الجراح والقتل هل يجب؟ .. قيل : نعم ، وقيل : لا إلا بأذن الإمام ، وهو الأظهر ولكن المحقق جزم بالعدم في :( المختصر النافع) حيث قال:· لو افتقر إلى الجراح أو القتل لم يجز إلا بإذن الإمام أو من نصبه . 5
وقال الشهيد الأول في :(الدروس - كتاب الحسبة) :· اما الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام
وقال المحقق الكركي في :( جامع المقاصد):· لو افتقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الجراح أو القتل ، ففي الوجوب مطلقا أو بأذن الإمام ؟ قولان ، أحدهما قول السيد المرتضى : لا يشترط إذن الإمام ، والثاني: الاشتراط ، لما يخشى من ثوران الفتنة ، وهو الأصح ، فعلى هذا هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط ان يتولاه في زمان الغيبة؟ ينبغي بناؤه على جواز إقامة الحدود . 6
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في:( جوامع عباسي):· إذا احتاج إلى الجرح ، فيحتاج إلى إذن الإمام؟ .. الأصح : انه يحتاج إلى إذن الإمام . 7
وقال الشيخ محمد حسن النجفي في :( جواهر الكلام):· عدم جواز الجرح أو القتل إلا بأذن الإمام ، وكيف كان فلو افتقر (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ .. قيل :نعم يجب ، وقيل: ... لا يجوز إلا بأذن الإمام (ع) بل في (المسالك) هو اشهر ، بل عن (الاقتصاد): الظاهر من شيوخنا الامامية ان هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة (ع) أو لمن يأذن له الإمام (ع) فيه. وهو الأظهر ، للأصل السالم عن معارضة الإطلاق المنصرف إلى غير ذلك . 8(1/3)
والى جانب رأي هؤلاء العلماء كان ثمة رأي آخر ابتدأه السيد المرتضى في القرن الخامس الهجري ، وأيده آخرون قالوا بعدم الحاجة إلى إذن الإمام ، وجواز ارتكاب القتل والجرح من قبل عامة الناس ، وسوف نتطرق إلى آرائهم بالتفصيل في الفصل القادم . وربما كان رأي العلماء الرافضين الذين اشترطوا إذن الإمام ، على جانب من الموضوعية والصحة خوفا من الوقوع في الفتنة وإجازة القتل والجرح لكل أحد ، ولكن الإشكال كان يكمن في تفسيرهم ل :(الإمام) بالإمام (المعصوم) الذي هو :( الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري) ، وليس بالإمام المطلق الذي يعني الرئيس والحاكم ، أو الدولة ، ولو كانوا قد فسروا كلمة ( الإمام ) بالمعنى الثاني لكانوا توصلوا إلى إقامة القانون بصورة كاملة ولم يعلقوا أي جزء منه في (عصر الغيبة) ، وبما انهم قد فعلوا ذلك وحصروا الحق الشرعي في إقامة الدولة في الإمام المعصوم الغائب ، فقد كانوا مضطرين إلى تجميد العمل بالجوانب الحيوية ، والمراحل العليا من قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وبالرغم من قيام الشيخ الكركي بتزعم الدولة الصفوية روحيا واعطاء الملك الشيعي (طهماسب بن اسماعيل) إجازة في الحكم باسم الإمام المهدي باعتباره (الكركي) نائبا عاما عنه (المهدي) ، إلا انه تردد في تطبيق مرحلة القتل والجرح ، واعتبر اشتراط إذن الإمام اصح القولين ، وذلك لأنه لم يكن يعتقد بشرعية إقامة الدولة بصورة كاملة في (عصر الغيبة) كما يظهر من مجموع فتاواه المتعلقة بالشؤون السياسية ، والتي سوف نستعرضها في الفصول التالية.(1/4)
وعلى أي حال ، فقد أدى هذا الموقف السلبي من :(قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى نشوء ظاهرة الانسحاب السياسي عند قطاع واسع من الشيعة الامامية ، وضعف المشاركة الشعبية في التغيير الاجتماعي ، وقد تمثل ذلك بصورة جلية في إحجام عدد من الفقهاء الذين تسلموا زمام المرجعية الشيعية العامة عن خوض العمل السياسي أو التصدي للظلمة والطواغيت .
ومن الواضح ان السبب الرئيسي كان يكمن في الموقف السلبي من تشكيل الدولة الإسلامية في (عصر الغيبة) وتحريم مزاولة العمل السياسي بعيدا عن دائرة ( الإمام المعصوم) ، فبالرغم من قول كثير من الفقهاء بنظرية:( نيابة الفقيه العامة) أو ( ولاية الفقيه) ومساهمتهم في التعاون مع بعض الدول ·الشيعية التي قامت في التاريخ ، كالدولة البويهية والدولة الصفوية والقاجارية ، إلا ان كثيرا منهم ظل على موقفه السلبي من ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقترنة بالجرح أو القتل ، إلا بأذن (الإمام المعصوم) أي (الإمام المهدي الغائب) .(1/5)
الموقف من إقامة الحدود
وقد انعكست نظرية (الانتظار) التي التزم بها أولئك العلماء ، أيضا ، على مسألة إقامة الحدود في (عصر الغيبة) ، فبما ان المسلمين يجمعون على ان تنفيذ الحدود واقامتها من مهام الامام (اي الدولة) وبما ان اولئك العلماء كانوا يعتقدون ان الشخص الوحيد الذي يحق له تأسيس الدولة الإسلامية هو :(الامام المهدي الغائب) فقد اضطروا الى تعليق مهمة تنفيذ الحدود عليه فقط ، وتحريم اقامتها لغيره .. وقد أدى هذا الموقف الى تجميد العمل بالحدود في (عصر الغيبة) والانتظار الممتد الى خروج الامام المهدي .
وقد أفتى السيد المرتضى بذلك في (رسائله) وعلّق تطبيق الحدود على المجرمين حال غيبة الامام حتى يظهر ، وقال:· ان ظهر الامام والمستحق للحدود باقٍ وهي ثابتة عليه بالبينة والإقرار استوفاها منه ، وان فات ذلك بموته كان الإثم على من أخاف الامام وألجأه الى الغيبة ، وليس ينسخ الشريعة في إقامة الحدود ، لأنه انما يكون نسخا لو سقط فرض إقامتها مع التمكين وزوال الأسباب المانعة من أقامتها ، واما مع عدمه والحال ما ذكرنا فلا . 1
ونفى ان تكون الامة مخاطبة بتنفيذ الحدود حتى تكون مذمومة بتضييعها ، وقال:· ان اقامة الحدود من فرض الأئمة (ع) وعباداتهم
التي يختصون بها . 2
ورفض الشيخ الطوسي في (الغيبة) اعتبار تجميد الحدود في عصر الغيبة بمثابة السقوط ، وأصرّ على انها باقية في جنوب مستحقيها ، فان ظهر الامام ومستحقوها باقون أقامها عليهم بالبينة او الاقرار ، وان كان فات ذلك بموته ، كان الأثم في تفويتها على من أخاف الامام وألجأه الى (الغيبة) ، ولم يعتبر ذلك نسخا لاقامة الحدود · لأن الحد انما يجب إقامته مع التمكن وزوال المانع ، ويسقط مع الحيلولة ، وانما يكون ذلك نسخا لو سقط اقامتها مع الامكان وزوال المانع . 3(1/1)
وقال في :(النهاية) :· اما اقامة الحدود .. فليس يجوز لأحد اقامتها الا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى او من نصبه الامام لاقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال . 4
وقد استثنى ( المفيد والمرتضى والطوسي) حالات خاصة هي إقامة الحدود على الأهل والأولاد والعبيد مع أمن الضرر ، وفيما اذا اجبر الحاكم الظالم أحدا على إقامة الحدود . 5
وعلق ابو الصلاح الحلبي في :( الكافي في الفقه) مهمة تنفيذ الأحكام الشرعية ، بصورة أولية ، على الأئمة ( عليهم السلام) وقال: انها من فروضهم المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوا لذلك . وذكر عدم جواز تولي عامة الناس غير الشيعة إقامة الحدود ، ولا التحاكم اليه ، ولا التوصل بحكمه الى الحق ولا تقليده الحكم مع الاختيار ، الا لمن تكاملت له شروط النيابة عن الامام . 6
واشترط القاضي ابن براج في (المهذب) إذن الامام المعصوم في تنفيذ الحدود في عصر الغيبة. 7
والقى الشيخ علاء الدين ابو الحسن الحلبي في :(إشارة السبق) الإثم في تعطيل الحدود في عصر الغيبة على من أحوج الامام (المهدي) الى الغيبة ، مع بقائها في ذمم من تعلقت به . 8(1/2)
وقال الشيخ محمد بن ادريس الحلي ( توفي سنة 598ه ) في :(السرائر) :· اما إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها الا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى او من نصبه الامام لاقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال . وقد روي : ان من استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل اليه إقامة الحدود جاز له ان يقيمها .. ويعتقد انه انما يفعل ذلك بأذن سلطان الحق . والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية ، بل الواجب ذلك .. لأن الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعا : انه لا يجوز إقامة الحدود ، ولا المخاطب بها الا الأئمة ، والحكام القائمون بأذنهم في ذلك ، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض لها على حال ، ولا يرجع عن هذا الإجماع بأخبار الآحاد ، بل بإجماع مثله او كتاب او سنة متواترة مقطوع بها . 9
وقد رفض المحقق الحلي في :(شرائع الإسلام) جواز إقامة الحدود لأي أحد ما عدا الامام المعصوم او من نصبه لاقامتها. وتردد في جواز إقامة الرجل الحد على ولده وزوجته ، واختار من باب الاحوط عدم جواز التولي للجائر القامة الحدود حتى وان نوى انه يفعل ذلك بأذن الامام الحق . 10
وقال في :( المختصر النافع): · الحدود لا ينفذها الا الامام او من نصبه . 11
وقال في :(تذكرة الفقهاء): · لا يجوز لأحد إقامة الحدود الا الامام او من نصبه الامام لاقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما اقامتها على حال . 12
وقال محمد بن الحسن الحلي ، صاحب :( إيضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد):· لو جاز إقامة الحدود في عصر الغيبة لجاز الجهاد من غير أذن الامام (ع) لكن التالي باطل إجماعا فالمقدم مثله ، والملازمة ظاهرة . 13(1/3)
وكان المقدس الاردبيلي قد رفض أيضا إقامة الحدود في (عصر الغيبة) وقال في (مجمع الفائدة والبرهان ) : · الظاهر: عدم الخلاف في عدم جواز إقامة الحدود الا بأذنه (ع) بالرغم من قوله :· لا ينبغي التردد في جواز قيام المتولي من قبل الجائر بتنفيذ الحدود معتقدا نيابة الامام اذا كان مجتهدا . 14
وقال الملا محمد باقر السبزواري في :(كفاية الاحكام) :· اما إقامة الحدود فللإمام او من يأذن له . 15
و رفض الشيخ بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد الذي اصبح شيخ الإسلام في اصفهان في زمان الشاه عباس الكبير ، إقامة الحدود في (عصر الغيبة) اذا أدت الى القتل او الجرح . 16
أذن فان نظرية (التقية والانتظار) قد انعكست على جوانب الحدود وجمدت تطبيقها في (عصر غيبة الامام المهدي) بصورة أولية.(1/4)
تحريم الجهاد في عصر الغيبة
وقد نتج عن الالتزام بنظرية (الانتظار) وتفسير شرط (الامام) المجمع عليه في وجوب الجهاد ، بمعنى :( الامام المعصوم) بالإضافة الى ما سبق ، تعطيل الجهاد في :(عصر الغيبة) . فقد اشترط الشيخ الطوسي في :(المبسوط) في وجوب الجهاد : ظهور الامام العادل الذي لا يجوز لهم القتال الا بأمره ، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه ، أو حضور من نصبه الامام للقيام بأمر المسلمين ، وقال بعدم جواز مجاهدة العدو متى لم يكن الامام ظاهرا ولا من نصبه الامام حاضرا ، وقال: ·ان الجهاد مع أئمة الجور أو من غير امام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، وان أصاب لم يؤجر وان أصيب كان مأثوما .
واستثنى من ذلك حالة الدفاع عن النفس وعن حوزة الإسلام وجميع المؤمنين إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام ، واشترط عدم القصد في هذه الحالة : الجهاد مع الامام الجائر ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام ، وقال: · ان المرابطة في سبيل الله فيها فضل كبير وثواب جزيل ، غير ان الفضل فيها يكون في حال كون الامام ظاهرا .. ومتى لم يكن الامام ظاهرا لم يكن فيه ذلك الفضل ، فان نذر في حال استتار الامام وانقباض يده عن التصرف : ان يرابط ، وجب عليه الوفاء ، غير ان حكمه ما ذكرناه من انه لا يبدأ العدو بقتال ، وانما يدفعهم إذا خاف سطوتهم ، وان نذر ذلك في حال انقباض يد الامام صرف ذلك في وجوه البر . 1
وقال حمزة بن عبد العزيز (سلار ) في :(المراسم ):· اما الجهاد ، فالى السلطان أو من يأمره السلطان . 2
وعلق ابو الصلاح الحلبي ( 373 - 447) في :(الكافي في الفقه) الجهاد على وجود الامام المهدي وقيادته . 3(1/1)
واشترط الشيخ سعد الدين عبد العزيز بن نحرير بن براج الطرابلسي القاضي ( 400 - 481) في كتابه :( المهذب) في وجوب الجهاد ، ان يكون مأمورا به من قبل الامام العادل أو من نصبه الامام . وحرم الخروج الى الجهاد في حالة عدم وجود الامام أو نائبه الخاص ، وقال :· ان الجهاد مع أئمة الكفر ومع غير امام اصلي أو من نصبه قبيح يستحق فاعله العقاب ، فان أصاب كان مأثوما وان أصيب لم يكن على ذلك أجر وقال:· ان المرابطة في حال ظهور الامام (عليه السلام) فيها فضل كثير ، ومتى نذر إنسان المرابطة ، والإمام ظاهر وجب عليه الوفاء بذلك ، فان نذر ذلك في حال استتار الامام صرفه في وجوه البر ، وإذا اخذ إنسان شيئأ من غيره لينوب عنه في المرابطة وكان الامام مستترا كان عليه رد ذلك ، فان لم يجده رده على وارثه . 4
وقال الشيخ علاء الدين ابو الحسن الحلبي في :(إشارة السبق ) :· اما الكلام في الجهاد فهو فرض على الكفاية ، وشرائط وجوبه ... مع امام الأصل ، به أو من نصبه وجرى مجراه . 5
وكذلك قال الشيخ ابو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة في :(الوسيلة الى نيل الفضيلة ):· إنما يجب الجهاد بثلاثة شروط... أحدها: حضور امام عدل ، أو من نصبه الامام للجهاد ... ولا يجوز الجهاد بغير الامام ولا مع أئمة الجور . 6
وقال السيد حمزة بن علي بن زهرة الحسيني المعروف بأبي المكارم ( 511ه - 585ه ) في (الغنية) :· الجهاد يجب بأمر الامام العادل ، به أو من ينصبه الامام ، أو من يقوم مقام ذلك ، من حصول خوف على الإسلام أو على النفس أو الاموال ، ومتى اختل شرط من هذه الشروط سقط فرض الجهاد بلا خلاف اعلمه . 7
و اعتبر ابن ادريس : ·ان الجهاد مع الأئمة الجوّار أو من غير امام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، ان أصاب لم يؤجر وان أصيب كان مأثوما ، وقال: ان المرابطة فيها فضل كبير إذا كان هناك امام عادل ولا يجوز مجاهدة العدو من دون ظهور الامام . 8(1/2)
وقد اشترط المحقق الحلي في (شرائع الإسلام) وجود الامام أو من نصبه للجهاد في وجوب فرضه . (9) وقال في :(المختصر النافع):
· لا يجوز الجهاد مع الامام الجائر ، الا ان يدهم المسلمين من يخشى منه على بيضة الإسلام . 10
وصرح يحيى بن سعيد في :(الجامع للشرائع) بحرمة الجهاد من دون اذن امام الأصل ، وان وجوبه مشروط بحضور الامام داعيا اليه أو من يأمره . 11
ومع قوله باستحباب الرباط ، فانه أفتى بعدم المرابطة ، ورد المال الموصى به للمرابطة في حال انقباض يد الامام ، أو المرابطة وعدم القتال الا في حالة الدفاع عن بيضة الإسلام. 12
وقسّم العلامة الحلي في (تحرير الأحكام ) و(تذكرة الفقهاء ) الجهاد الى قسمين: الأول: الدعاء الى الإسلام ، والثاني: الدفاع عن المسلمين ، واشترط في الأول أذن الامام العادل أو من يأمره الامام . 13
وجوّز المرابطة حال استتار الامام (المهدي) ولكنه لم يجوّز القتال الا في حالة الدفاع عن النفس وعن الإسلام ، لا الجهاد. (14) واعتبر العلامة في :(تذكرة الفقهاء) القتال مع غير الامام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ! 15
واشترط في :(الألفين) ان يكون الرئيس المكلف بقيادة الجهاد معصوما ، لأن الجهاد فيه سفك الدماء وإتلاف الأموال ، فلا بد من ان يتيقن صحة قوله . وتساءل باستغراب : كيف يقاتل وغير المعصوم لا يحصل الوثوق بقوله فتنتفي فائدة التكليف؟! 16(1/3)
وقال في شرح قول الله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) :·انه أمر بالقتال ، فلا بد فيه من نصب رئيس ، إذ القتال من دونه محال ، ولا بد ان يكون منصوبا من قبل الله تعالى ، والا لزم الاختلاف والهرج والمرج وتجاذب الاهوية ، وذلك ضد القتال ، لأنه موقوف على الاتفاق ورفع النزاع ويستحيل من الله تعالى تحكيم غير المعصوم (17) وقال:· القتال في سبيل الله لا يتم الا بالامام المعصوم ، إذ لا يتعين دعاؤه الى الله تعالى الا إذا كان معصوما ، وان قبول قول غير المعصوم إلقاء باليد الى التهلكة خصوصا في الجهاد ، فلا يجب .(18) كما قال بعدم جواز القتال مع غير المعصوم ، لأن امتثال أوامر غير المعصوم في القتال وغيره لا يعلم انه في سبيل الله ولا صوابه ، والمقطوع به مقدم على المظنون . 19
وإضافة الى ذلك بحث العلامة الحلي مسألة قتال اهل البغي الذين يخرجون على الامام الذي يجب إتباعه ، ويصير الإنسان باغيا بالخروج عليه ، فاشترط في الامام أمورا عديدة وذكر منها العصمة والنص . (تذكرة الفقهاء ص 453) وأكد هذا المعنى مرة أخرى فقال:· الإمامة عندنا تثبت بالنص ، لا بالإجماع ولا الاختيار ، وكل من خرج على امام منصوص على إمامته وجب قتاله . 20
وقال المقداد السيوري في (كنز العرفان): · الجهاد المأمور به انه هو الجهاد مع الامام المعصوم ، لا اي جهاد كان . 21
وهكذا اشترط الشهيد الأول في :( الدروس الشرعية في فقه الامامية) في وجوب الجهاد ، دعاء الامام العادل أو نائبه ، وصرح بعدم جواز الجهاد مع الجائر اختيارا ، الا ان يخاف على بيضة الإسلام. 22(1/4)
وبالرغم من قيام الدولة الشيعية الصفوية تحت رعاية المحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين ، فانه رفض تعديل الحكم في (عصر الغيبة) وحصر في :( جامع المقاصد في شرح القواعد) وجوب الجهاد بشرط الامام أو نائبه ، وفسر المراد بالنائب ، ب : (نائبه المنصوص بخصوصه حال ظهور الامام وتمكنه ، لا مطلقا) . 23
ومن هنا فقد رفض الشهيد الثاني (911 - 966) أيضا في :( مسالك الافهام في شرح شرائع الإسلام ) إعطاء الفقيه ( المنصوب للمصالح العامة حال الغيبة) صلاحية مباشرة الجهاد ، واشترط وجود الامام أو من نصبه للجهاد خاصة ، أو بشكل عام يدخل في ولايته الجهاد ، واخرج الفقيه (النائب العام) من ذلك. 24
وقد وافق المولى احمد المقدس الاردبيلي ( - 993) في :( مجمع الفائدة والبرهان) العلامة الحلي في اشتراط وجوب الجهاد بوجود الامام أو من نصبه. 25
واغفل الشيخ بهاء الدين العاملي بحث الجهاد في كتابه :( جامع عباسي) وفسر (سبيل الله ) في (عصر الغيبة) : ببناء الجسور والمساجد والمدارس . 26
ولم يخصص السيد محمد جواد الحسيني العاملي في :(مفتاح الكرامة) كتابا للجهاد ، ولكنه روى بعض الأحاديث عن الامام الصادق والإمام أمير المؤمنين (ع) من قبيل: لا غزو الا مع امام عادل . وان خرجوا على امام عادل فقاتلوهم ، وان خرجوا على امام جائر فلا تقاتلوهم . 27
وحصر السيد علي الطباطبائي في :(رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل) : وجوب الجهاد مع وجود الامام العادل وهو المعصوم عليه السلام أو من نصبه لذلك ، اي النائب الخاص المنصوب للجهاد أو لما هو أعم . أما العام كالفقيه ، فقال: · انه لا يجوز له ولا معه الجهاد حال الغيبة بلا خلاف اعلمه . وأكد : ان النصوص متظافرة من طرقنا بل متواترة منها :ان القتال مع غير الامام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، ومنها: لا غزو الا مع امام عادل ، والجهاد واجب مع امام عادل . 28(1/5)
وأشار السيد محمد بن علي الطباطبائي ( -1009) في :( مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام) الى وجوب الجهاد الدفاعي في حال الغيبة ، وذلك إذا دهم المسلمين - والعياذ بالله - عدو يخاف منه على بيضة الإسلام ، لا للدعوة الى الإسلام ، فان ذلك لا يكون الا مع الامام (ع). 29
واعرض الشيخ يوسف البحراني ( - 1186) في :(الحدائق الناضرة) عن بحث موضوع الجهاد وما يتبعه · لقلة النفع المتعلق به الآن تبعا لبعض الأعيان ، وإيثارا لصرف الوقت فيما هو أحوج أحق لأبناء الزمان . 30
وصرح الشيخ جعفر كاشف الغطاء في :(كشف الغطاء) باشتراط حضور الامام أو نائبه الخاص دون العام في وجوب الجهاد الذي يراد به الجلب الى الإسلام . واعتبر ان ذلك مخصوص بالنبي وخلفائه (ع) وبمن نصبوه بالخصوص دون العموم . 31
وذكر الشيخ محمد حسن النجفي ( - 1266) في :( جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) نصوصا كثيرة حول اشتراط وجود الامام عليه السلام في وجوب الجهاد ، وقال: ان مقتضاها كصريح الفتاوى ، عدم مشروعية الجهاد مع الجائر وغيره (العادل غير المعصوم) بل في :(المسالك) وغيرها : عدم الاكتفاء بنائب الغيبة ، فلا يجوز له توليه ، بل في :(الرياض) : نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر (المنتهى) وصريح(الغنية) الا من احمد في الأول ، وظاهرهما الإجماع ، مضافا الى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الامام . 32
وأكد النجفي : عدم إذن (الأئمة)للفقهاء في زمن الغيبة بجهاد الدعوة المحتاج الى سلطان وجيوش وامراء. وادعى علم الأئمة بعدم الحاجة اليه والى بعض الأمور المشابهة في (عصر الغيبة) وقصور اليد فيها عن ذلك. وربط بين إمكانية الجهاد في عصر الغيبة وبين ظهور دولة الحق ، اي دولة (الامام المهدي) الذي لم يختف الا تحت وطأة الخوف . 33(1/6)
ولم يتحدث السيد كاظم اليزدي ( - 1919) عن الجهاد في :(العروة الوثقى) وفسر (سبيل الله) الوارد في مصارف الزكاة ، بأنه: جميع سبل الخير كبناء القناطر والمدارس والخانات والمساجد وتعميرها وتخليص المؤمنين من يد الظالمين ونحو ذلك من المصالح كإصلاح ذات البين ودفع وقوع الشرور والفتن بين المسلمين ، وكذا إعانة الحجاج والزائرين وإكرام العلماء والمشتغلين مع عدم تمكنهم من الحج والزيارة ، والاشتغال ونحوها ، من أموالهم. 34
ويعلق الامام الخميني على تفسير اليزدي في حاشية (العروة الوثقى) بقوله: · لا يبعد ان يكون سبيل الله هو المصالح العامة للمسلمين والإسلام ... لا مطلق القربات كالإصلاح بين الزوج والزوجة والوالد والولد .
ولا يذكر احد من العلماء المعاصرين كالكلبايكاني والشاهرودي والخونساري والخوئي والقمي والشريعتمداري ، الذين يعلقون على (العروة الوثقى) شيئا عن الجهاد ، أو تفسير كلمة (سبيل الله) به.
ومن هنا ، وإذا استثنينا عددا محدودا جدا من الفقهاء الذين شككوا في تحريم الجهاد وربطه بالإمام العادل المعصوم ، يكاد يكون إجماع الفقهاء الامامية عبر التاريخ ينعقد على تحريم الجهاد ، بمعنى الدعوة للإسلام والقتال من اجل ذلك ، وخاصة لدى العلماء الأوائل . وقد تطرف الشيخ المفيد فروى في :(الاختصاص) رواية مرسلة عن ابي الحسن (ع) تجيز الغزو مع الكفار ضد الحكام المسلمين . 35
ومن الواضح ان هذا الموقف السلبي من الجهاد كان يبتني على نظرية :(التقية والانتظار) المنبثقة من الإيمان بنظرية :(وجود الامام المهدي محمد بن الحسن العسكري وغيبته) وتعليق كل مهام الدولة عليه ، وعدم جواز مزاحمته بالقيام بمسئولياته. وقد أدت تلك النظرية التي التزم بها الفقهاء القائلون بنظرية :(التقية والانتظار) عمليا خلال اكثر من الف عام ، الى إلغاء واجب مهم من واجبات الإسلام وهو :(الجهاد) .(1/7)
الموقف من الزكاة
وإضافة الى تلك الجوانب السياسية التي علقها الفقهاء الذين آمنوا بنظرية (الانتظار) في عصر الغيبة ، فقد علقوا أيضا الجوانب الاقتصادية التي ترتبط بالدولة ، كالزكاة والخمس والأنفال والخراج وما شابه..
ولم يعطل أولئك الفقهاء قانون الزكاة بالمرة ، ولكنهم عطلوا بعض موارد صرفها ، وهي الموارد التي تتعلق بشؤون الدولة و (الامام) فقد أجازوا لمن وجبت عليه الزكاة ان يتولى إخراجها من ماله وتوزيعها بنفسه ، وذلك عند فقد الامام والنائبين عنه ، وتعذر إيصالها اليه . 1
وقال الشيخ الطوسي عن سهم المؤلفة قلوبهم :· ان للامام ان يتألف هؤلاء القوم ويعطيهم ان شاء من سهم المؤلفة قلوبهم ، وان شاء من سهم المصالح ، لأن هذا من فرائض الامام وفعله حجة ، وليس علينا في ذلك حكم اليوم (في عصر الغيبة).. فان هذا قد سقط ، على ما بينا ، وفرضنا تجويز ذلك . (2) وقال كذلك عن سهم (سبيل الله) من مصارف الزكاة ، حيث حصر المنفذ للغزاة بالامام أو خليفته . 3
وأفتى الطوسي في :(النهاية) بتوزيع الزكاة في (عصر الغيبة) في خمسة أصناف ، واسقط سهم المؤلفة قلوبهم وسهم السعاة وسهم الجهاد ، لأن هؤلاء لا يأخذون الا مع ظهور الامام ، ولأن المؤلفة قلوبهم إنما يتألفهم الامام ليجاهدوا معه ، والسعاة إنما يكونون من قبله في جمع الزكوات ، والجهاد أيضا إنما يكون به أو من نصبه الامام ، فإذا لم يكن هو ظاهرا ولا من نصبه ، فُرّقَ فيمن عداهم . 4
و أجاز ابو الصلاح الحلبي في (الكافي في الفقه ) للمكلف الذي تجب عليه الزكاة ان يتولى إخراجها وتفريقها على المستحقين. 5(1/1)
و أوجب القاضي ابن براج في (المهذب) حمل الزكاة الى الامام إذا كان ظاهرا ، وأجاز في حالة (الغيبة) لمن وجبت عليه ان يفرقها في خمسة أصناف ، واسقط من الأصناف الثمانية التي ذكر انهم يستحقون الزكاة ويصح دفعها إليهم: · من لا يتم الا مع ظهور الامام (عليه السلام) أو من نصبه ، الثلاثة الباقية ، وهم : العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله ، لأن وجودها لا على الوجه الذي معه يستحقون الزكاة . 6
ومع سقوط نظرية الدولة في الفكر السياسي الشيعي الاثني عشري ، وتحريم إقامتها في (عصر الغيبة) تعامل علماء القرن السادس الهجري مع موضوع الزكاة من ثلاثة جوانب ، فأوجبوا الزكاة من ناحية ، وأمروا المكلفين بإخراجها وتوزيعها بأنفسهم لعدم وجود الإمام الشرعي ، من ناحية ثانية ، واسقطوا حصص العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والجهاد ، من ناحية أخرى .
هكذا فعل ابن حمزة في (الوسيلة الى نيل الفضيلة )، وهكذا قال ابن ادريس في (السرائر) :· لأن المؤلف إنما يتألفه الامام ليجاهد معه ، والعامل إنما يبعثه الامام لجباية الصدقات ، اما ( سبيل الله) فهو كل ما يصرف في الطريق التي يتوصل بها الى رضى الله وثوابه . 7
وقال المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن في (شرائع الاسلام ) و (المختصر النافع) بسقوط نصيب الجهاد ، وصرفه في المصالح ، وسقوط سهم السعاة وسهم المؤلفة قلوبهم ، والاقتصار بالزكاة على بقية الأصناف ، وذلك مع فقد الامام كما في حالة (الغيبة). 8
وقد استعرض المقداد بن عبد الله السيوري الحلي في :(كنز العرفان في فقه القرآن) مختلف الأقوال حول (سهم المؤلفة قلوبهم) بعد رسول الله (ص) وروى عن الامام الباقر (ع) انه قال:·من شرطه ان يكون هناك امام عادل يتألفهم على ذلك وقال: ان فتوى أصحابنا حال الغيبة على اختصاصه بزمان النبي (ص) . 9(1/2)
وبالرغم من رعاية المحقق الكركي للدولة الشيعية الصفوية ، واعطاء الشاه (طهماسب) الإجازة في الحكم نيابة عنه باعتباره نائبا عن الامام المهدي ، الا انه التزم بنظرية :(التقية والانتظار) واسقط في (جامع المقاصد) سهم المؤلفة والساعي والغازي حال الغيبة ، الا مع الحاجة الى الجهاد. 10
وقال في المطلب الثاني في المخرج، بتخيير المالك بين الصرف الى الامام والى المساكين وبقية الأصناف ، وباستحباب دفعها الى الفقيه المأمون حال غيبة الامام . 11
وبالرغم من ان الاردبيلي كان يقول بنوع من (النيابة العامة) الا انه ألغى سهم الغازي في (عصر الغيبة) من الزكاة ، وكذا المؤلفة قلوبهم والعامل على الزكاة ، وشرح وجه سقوط سهم العامل بأنه وكيل الامام (عليه السلام) وان معيّنه هو (عليه السلام) فمع غيبته (عليه السلام) لا يمكن . وأجاز الاردبيلي للمالك ان يتولى إخراج الزكاة بنفسه ، وأفتى باستحباب دفعها الى الفقيه حال الغيبة . 12
واستظهر الاردبيلي إباحة مطلق التصرف في أموال الامام الغائب للشيعة ، خصوصا مع الاحتياج (13) وأفتى بجواز إحياء الأرض الموات بلا حاجة لاستئذان الامام العادل المعصوم مع غيبته . 14
واختار محمد باقر السبزواري في :(كفاية الأحكام) القول المشهور بين الأصحاب ، خصوصا المتأخرين ، انه يجوز ان يتولى المالك الإخراج ، واستعرض الأقوال التي توجب حمل الزكاة الى الفقيه في زمان الغيبة ، فقال: انه أحوط ، وعلى المشهور فالحمل الى الفقيه مستحب . 15
وأوصى الفيض الكاشاني في :( مفاتيح الشريعة) بدفع الزكاة في (الغيبة) الى الفقيه المأمون ، كما أجاز أيضا تفريق المالك لها بنفسه بلا خلاف . 16
وقوى الشيخ جعفر كاشف الغطاء في :(كشف الغطاء) سقوط سهم المؤلفة قلوبهم في زمان الغيبة. وقال باستحباب حمل زكاة الفطرة الى الامام أو نائبه الخاص أو العام (الفقيه) واستضعف القول بالوجوب . 17(1/3)
وكاد الشيخ محمد حسن النجفي ان يقول في :(جواهر الكلام) بإعطاء العاملين على الزكاة في عصر الغيبة سهمهم من الزكاة ، إذا استعمل المجتهد على جبايتها ، الا انه قال بتوجه السقوط في زمان الغيبة بصورة عامة وحتى إذا استعمل المجتهد على جبايتها ، وذلك باعتبار انسياق العمل الناشئ عن بسط اليد من الأدلة ، وليس ذلك الا في زمان ظهور الامام (ع) وبسط يده. واستشهد بقول الطوسي في :(النهاية) بسقوط سهم المؤلفة وسهم السعاة وسهم الجهاد ، لأن هؤلاء لا يوجدون الا مع ظهور الامام (ع) لأن المؤلفة إنما يتألفهم ليجاهدوا معه ، والسعاة الذين يكونون من قبله في جمع الزكوات . 18
وقال في باب المتولي للإخراج :· أفتى الشيخ الطوسي بوجوب نصب الامام (ع) عاملا للصدقات ، بل في (الحدائق): انه المشهور ، الا انه يمكن حملها على زمان بسط اليد والتسلط ، لا زمان الغيبة وما في حكمها من زمن التقية . .. وكأن المفيد وابا الصلاح وابن البراج اغتروا بتلك النصوص فأوجبوا حملها الى الامام (ع) مع ظهوره ، ومع غيبته : فالى الفقيه المأمون من أهل ولايته ، لأنه القائم مقامه (ع) في ذلك وامثاله ، بل ألحق التقي منهم الخمس وكل حق وجب إنفاقه بها أيضا ، وغفلوا عن النصوص الأخر الدالة على جواز تولي المالك ذلك التي هي فوق التواتر ، بل مضمونها كالضروري بين الشيعة . 19
وقال السيد علي الطباطبائي في :(رياض المسائل ) بسقوط سهم السعاة والمؤلفة - في حالة غيبة الامام (ع) - بلا خلاف ولا أشكال ، حيث لا يحتاج اليهما ، كما في زماننا هذا وما ضاهاه غالبا ، واستشكل فيما لو احتيج اليهما كما إذا تمكن الفقيه النائب عن الامام (ع) من نصب السعاة ، أو دهم المسلمين عدو يخاف منه ، بحيث يجب عليهم الجهاد ويحتاج الى التأليف ، فان الظاهر عدم السقوط هنا. ورفض الإطلاق بالقول بسقوط سهم السبيل على اختصاصه بالجهاد المفقود في هذا الزمان. 20(1/4)
ولكن السيد محمد بن علي الطباطبائي فرق في :( مدارك الأحكام) بين الجهاد في حالة الغيبة للدعوة الى الإسلام ، فأفتى بعدم وجوبه الا مع الامام (المعصوم) ، وبين الجهاد الدفاعي إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الاسلام ، وبنى حكمه حول سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة على ذلك. وقال: ان الأصح عدم سقوطه لامكان الاحتياج الى التأليف مع عدم وجوب الجهاد في زمن الغيبة. 21
وبما ان الجهاد في (عصر الغيبة) كان محرما حسب نظرية (التقية والانتظار) فان السيد كاظم اليزدي لم يذكر الجهاد في مصارف الزكاة ، في كتابه :(العروة الوثقى) .
وهكذا لم يستبعد السيد الكلبايكاني في حاشيته على (العروة الوثقى) اختصاص إعطاء سهم (المؤلفة قلوبهم ) بالامام (عليه السلام).22
النتيجة:
إذن فان نظرية (التقية والانتظار للمهدي) وعدم جواز إقامة الدولة في (عصر الغيبة) قد أثرت على الجوانب السياسية من الزكاة ، وأدت الى بروز فتاوى بتعطيل صرفها فيما يتعلق بأجهزة الدولة وأعمالها.(1/5)
الموقف من الخمس والأنفال
لقد كان الشيخ المفيد يعتقد - كما يقول في (المقنعة ) : ان الأنفال لله وللرسول خاصة ، وهي للإمام القائم مقامه من بعده خالصة له كما كانت له (ص) في حياته ، ولا يحق لأحد ان يعمل في شيء من الأنفال الا بأذن الإمام العادل ، فمن عمل فيها بأذنه فله أربعة أخماس المستفاد منها وللامام الخمس . 1
ولما كان (الإمام العادل) في المصطلح الامامي - كما يقول الطوسي في :(الخلاف في الفقه ) (2) يعني : (الإمام المعصوم المعين من قبل الله تعالى ) وانه منذ وفاة الإمام الحسن العسكري سنة 260 ه هو (الإمام الثاني عشر المهدي محمد بن الحسن العسكري ) الذي ولد سنة 255 ه وغاب بعد ذلك الى اليوم ، فانه يصبح : المالك الحقيقي للأنفال ، وكذلك المالك الحقيقي للخمس ، وهو قانون خاص غير الزكاة يفرضه الشيعة على المغانم والأرباح ، ويعتقدون ان عليهم تقديمه لله وللرسول وللامام ولليتامى والمساكين وابناء السبيل من بني هاشم ، وان سهم الله والرسول وذي القربى يجب تقديمه للإمام (الذي يمثل ذوي القربى ) والذي واليوم (الإمام المهدي المنتظر ) كما يجب إعطاؤه الأسهم الثلاثة الأخرى : اسهم اليتامى والمساكين وابناء السبيل ، لكي يوزعها على الأصناف الثلاثة من بني هاشم . 3
وقد أدى الالتزام بنظرية (الانتظار) الى الوقوع في أزمة حادة في موضوع الخمس والأنفال في (عصر الغيبة) ، فمن جهة : ان الإمام المهدي هو الشخص الوحيد صاحب الخمس والأنفال ، والذي يحق له استلامها وتوزيعها ، ومن جهة أخرى : لا سبيل الى الوصول اليه لأداء حقوقه ، كما لا توجد اية نصوص منه في مسالة توزيعها والتصرف فيها في ظل الغيبة.
ومن هنا فقد احتار الفقهاء في حكم الخمس والأنفال ، وقد قال الشيخ المفيد في :(المقنعة):· قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة ، وذهب كل فريق منهم الى مقال:(1/1)
فمنهم من يسقط فرض إخراجه ، لغيبة الإمام ، وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار .
و بعضهم يوجب كنزه ، ويتأول خبرا ورد :( ان الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام ، وانه (ع) اذا قام دلّه الله على الكنوز فيأخذها من كل مكان).
وبعضهم يرى صلة الذرية وفقراء الشيعة على طريق الاستصحاب.
وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر ، فان خشي إدراك الموت قبل ظهوره وصّى به الى من يثق به في عقله وديانته حتى يسلم الى الإمام ، ثم ان ادرك قيامه .. والا وصّى به الى من يقوم مقامه في الثقة والديانة، ثم على هذا الشرط الى ان يظهر امام الزمان .
وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم ، لأن الخمس حق لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته رسما يجب الانتهاء اليه فوجب حفظه الى وقت ايابه ، والتمكن من إيصاله اليه او وجود من انتقل بالحق اليه ، ويجري ذلك مجرى الزكاة التي يعدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند ذلك سقوطها ، ولا يحل التصرف فيها على حسب التصرف في الأملاك ، ويجب حفظها بالنفس او الوصية الى من يقوم بإيصالها الى مستحقها من اهل الزكاة من الأصناف .
وان ذهب ذاهب الى ما ذكرناه في شطر الخمس الذي هو خالص الإمام وجعل الشطر الآخر لأيتام آل محمد وابناء سبيلهم ومساكينهم على ما جاء في القرآن لم يبعد إصابته الحق في ذلك ، بل كان على صواب .وانما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ اليه من صريح الألفاظ ، وانما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة مع إقامة الدليل بمقتضى العقل في الأمر من لزوم الأصول في حظر التصرف في غير المملوك الا بأذن المالك وحفظ الودائع لأهلها ورد الحقوق . 4(1/2)
ويلاحظ : ان المفيد يكشف عن الحيرة في موضوع الخمس والغموض الذي يلفه ، ويتحدث عن عدم وجود نصوص صريحة من (الإمام المهدي) او غيره حول حكم الخمس في (عصر الغيبة) وهو ما أدي الى ظهور عدد من الأقوال الغريبة المنافية للعقل والقرآن من قبيل إسقاط الخمس او دفنه في الأرض او إلقائه في البحر او عزله والوصية به الى يوم ظهور المهدي ، وهو الرأي الذي اختاره المفيد .
وقد اتخذ الشيخ المفيد هذا الرأي اعتمادا على التزامه بنظرية (الانتظار للإمام المهدي الغائب) التي كانت تعني تحريم إقامة الدولة في (عصر الغيبة) او القيام بمسئولياتها ، ومنها استلام الخمس وتوزيعه .
وقد أيد الشيخ الطوسي في :(المبسوط) رأي الشيخ المفيد ، وعزى اختلاف الشيعة في حكم الخمس في (عصر الغيبة) الى عدم وجود نص معين. 5
واستعرض الطوسي مختلف الآراء ورفض الإباحة بقول مطلق · لأنه ضد الاحتياط ، وتصرف في مال الغير بغير إذن قاطع وأوجب شطر الخمس الى شطرين ودفن الشطر الخاص بالامام ، اوالايصاء به حتى ظهوره . 6
وذهب الشيخ الطوسي في :(النهاية) الى تحليل الخمس للشيعة في حال الغيبة في الأمور التي لا بد لهم منها من المناكح والمتاجر والمساكن ، ورفض التصرف فيما عدا ذلك . 7
وذكر اختلاف أقوال أصحابنا في حكم الخمس في الكنوز وغيرها ، وذلك لعدم وجود نص معين ، وقال:· لو ان انسانا استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المتقدم ذكرها من الدفن والوصاية لم يكن ماثوما . 8
ومن الواضح ان الشيخ الطوسي قد بنى موقفه على أساس الظن والتخمين ، او الاحتياط ، كما بنيت الأقوال الأخرى على ما يشبه ذلك ، ولم يكن يمتلك نصا معينا ، كما يقول . والسبب في ذلك ... هو الإيمان بحصر إقامة الدولة في (الإمام المعصوم) وعدم جواز أقامتها لأي أحد من الفقهاء او غيرهم في (عصر الغيبة).(1/3)
وقد سجل الشيخ أبو الصلاح الحلبي تقدما في (الكافي في الفقه) فرفض نظرية دفن الخمس ، وافتى بلزوم إخراج الخمس ، ولكنه قال بعزل شطره لولي الأمر (المهدي المنتظر) انتظارا للتوصل اليه ، فان استمر التعذر أوصى حين الوفاة الى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم بأداء الواجب مقامه ، واخراج الشطر الآخر الى مساكين آل علي وجعفر وعقيل والعباس وايتامهم وابناء سبيلهم . 9
والتزم سلار في (المراسم) في كتاب الخمس بنظرية التحليل والإباحة وقال:· ان الأئمة (ع) قد أحلوا الخمس في زمان الغيبة كرما وفضلا للشيعة خاصة . 10
وفصّل القاضي ابن براج في (المهذب) في تحليل الخمس بين المساكن والمناكح والمتاجر ، فأجاز التصرف فيها زمان غيبة الإمام (ع) للشيعة فقط دون غيرهم ، وبين غير ذلك مما يختص به الإمام ، فلم يجز التصرف في شيء منه ، ورجّح نظرية الاحتفاظ بسهم الإمام أيام الحياة الى حين إدراك الإمام المهدي ، ووجوب دفعه اليه بعد الوفاة . ومع انه ذكر أيضا نظرية الدفن المعتمدة على خبر إخراج الأرض لكنوزها عند ظهور القائم ، الا انه قال عن نظرية الاحتفاظ بسهم الإمام من الخمس والايصاء به لحين ظهوره :· انها أحوط واقوى في براءة الذمة . 11
وظلت مشكلة إخراج الخمس وتوزيعه في (عصر الغيبة) تراوح مكانها لدى علماء القرن السادس ، بتأثير الحيرة والازمة الكبرى التي نجمت من جراء حصر المتكلمين الامامة والتنفيذ بالامام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب) وتحريم إقامة الدولة لغيره في (عصر الغيبة) .(1/4)
وكاد موقف محمد ابن ادريس الحلي ( 543 - 598) ان يكون مطابقا لموقف القاضي ابن براج ، فقد قال في (السرائر) بإباحة الخمس في المساكن والمتاجر والمناكح للشيعة في عصر الغيبة ، وذكر اختلاف أقوال الشيعة لعدم وجود النص ، كما استعرض مختلف الأقوال ورد القول الذي يبيح الخمس بشكل مطلق ، بشدة ، ورفض نظرية الدفن التي قال بها الشيخ الطوسي وغيره اعتمادا على خبر واحد ، واختار نظرية الحفظ والوصية بسهم الإمام من الخمس ، وقال:· الأولى عندي الوصية به والوديعة ، ولا يجوز دفنه ، لأنه لا دليل عليه . وهذا الذي أخبرناه وافتيانا به ، وهو الذي يقتضيه الدين أصول المذهب وأدلة العقول وأدلة الفقه وأدلة الاحتياط . 12
وأكد المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676) في :( شرائع الاسلام - كتاب الخمس): ثبوت إباحة المناكح والمساكن والمتاجر حال الغيبة ، وقال:· لا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منه . 13
وقد مال الشيخ يحيى بن سعيد الحلي ( 601 - 690) في :(الجامع للشرائع) الى نظرية إباحة الخمس وغيره للشيعة حال الغيبة كرما من الأئمة وفضلا ، وذكر اختلاف الشيعة فيما يستحقه الإمام من الكنوز وغيره ، فاستعرض مختلف الأقوال من الإباحة المطلقة الى الحفظ والوصية والدفن والتفريق والصرف على الفقراء الصالحين ، ولكنه لم يختر رأيا معينا وتردد قائلا: الله اعلم. 14
اما العلامة الحسن بن المطهر الحلي فقد أكد في :(تحرير الأحكام) إباحة الأئمة لشيعتهم المناكح في حال ظهور الإمام وغيبته ، وقال: ان الشيخ الطوسي قد ألحق المساكن والمتاجر. وافتى بصراحة بعدم وجوب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منه. 15(1/5)
واستقرب الشهيد الأول ( -786) في : (الدروس الشرعية): صرف نصيب الأصناف عليهم مستحبا في حال الغيبة ، والتخيير في نصيب الإمام بين الدفن والايصاء ، وصلة الأصناف مع الإعواز ، وأكد إباحة المناكح والمساكن والمتاجر وعموم الأنفال حال الغيبة . 16
واعتبر في :(البيان) القول بحفظ نصيب الإمام الى حين ظهوره من أصح الأقوال ، ورخّص في حال الغيبة : المناكح والمتاجر والمساكن . 17
وبالرغم من ان المحقق الكركي ( - 940) كان قد ابتعد عن نظرية :(التقية والانتظار) خطوات واسعة ، وذلك بتبنيه لنظرية :(النيابة العامة) وقيامه بإعطاء الملك الصفوي (طهماسب بن اسماعيل) إجازة الحكم باسمه كنائب عن الإمام المهدي ، الا انه أفتى في :(جامع المقاصد في شرح القواعد) بالتخيير في نصيب الإمام بين الحفظ بالوصية الى ان يسلم اليه عند ظهوره وبين قسمة حقه على الأصناف ، ولم يقل بوجوب صرف نصيب الإمام على الفقراء والمساكين وابناء السبيل وحاجات الدولة الشيعية الأخرى . 18
وذهب الشهيد الثاني ( 911 - 966) في :(مسالك الافهام): الى إباحة الأنفال بشكل مطلق في حال الغيبة ، وليس إباحة المناكح والمساكن والمتاجر فقط ، وقال: · ان الأصح هو ذلك . 19
ومع إفتائه بملك الإمام للأرض الموات وقت الفتح وعدم جواز أحيائها الا بأذنه ، الا انه اشترط في ذلك وجود الإمام فان كان غائبا فهي ملك للمحيي ولا حاجة للاذن . 20
وتردد محمد بن الحسن الحلي ، في :(إيضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد) في الموقف من الخمس حال الغيبة ، وخيّر المكلف بين الحفظ بالوصية الى ان يسلم اليه ، وبين صرف النصف الى أربابه وحفظ الباقي ، وبين قسمة حقه على الأصناف. 21(1/6)
واستظهر المقدس الاردبيلي ( - 993) في :( مجمع الفائدة والبرهان) : إباحة مطلق التصرف في أموال الإمام الغائب للشيعة ، خصوصا مع الاحتياج ، وقال:· اعلم ان عموم الأخبار ... يدل على السقوط بالكلية في زمان الغيبة والحضور ، بمعنى عدم الوجوب الحتمي فكأنهم (عليهم السلام) اخبروا بذلك فعلم عدم الوجوب الحتمي واضاف:· فلا يرد انه لا يجوز الإباحة لما بعد موتهم (عليهم السلام) فانه مال الغير ، مع التصريح في البعض بالسقوط الى القائم ويوم القيامة. بل ظاهرها : سقوط الخمس بالكلية حتى حصة الفقراء أيضا ، واباحة أكله مطلقا ، سواء أكل من في ماله ذلك او غيره . وهذه الأخبار هي التي دلت على السقوط حال الغيبة وكون الإيصال مستحبا ، كما هو مذهب البعض ، مع ما مرّ من عدم تحقق محل الوجوب الا قليلا ، لعدم دليل قوي على الأرباح والمكاسب وعدم الغنيمة ولكنه استدرك قائلا:· هذا ولكن لا ينبغي الاحتياط التام وعدم التقصير في إخراج الحقوق خاصة حقوق الأصناف الثلاثة .. بل لو صرف حصته (عليه السلام) أيضا في الذرية العلوية أظن عدم البأس وبراءة الذمة بذلك ، وان لم نقدر على الجزم بالوجوب والتضييق بذلك على صاحب الحق للاحتمالات المذكورة ، ولما ذكره الأصحاب من احتمال الدفن والايصاء وغير ذلك . 22
وافتى المقدس الاردبيلي بجواز احياء الارض الموات بلا حاجة لاستئذان الإمام العادل المعصوم ، مع غيبته . 23
وأكد محمد باقر السبزواري ( 1018 - 1090) في :(كفاية الاحكام) و ( ذخيرة المعاد) إباحة المتاجر والمناكح والمساكن من الأنفال في حال غيبة الإمام للشيعة خاصة دون المخالفين ، ونفى وجود اي خلاف حول إباحة التصرف في ارض الموات وما يجري مجراها ، كما استظهر إباحة سائر الأنفال غير الأرض للشيعة في زمان الغيبة ، وذلك للأخبار الكثيرة. 24(1/7)
وبعد ان استظهر الإباحة في حكم سائر الأنفال غير الأرض استدرك قائلا في :(ذخيرة المعاد) : او وجب حفظ ما يخص الإمام له الى ظهوره ، او صرف الفقيه له . 25
ورجح سقوط خمس الأرباح في زمان الغيبة ، وقال:· المستفاد من الأخبار الكثيرة في بحث الأرباح كصحيحة الحرث بن المغيرة النضري وصحيحة الفضلاء وصحيحة زرارة وصحيحة علي بن مهزيار وصحيحة ضريس وحسنة الفضيل ورواية محمد بن مسلم ورواية داود بن كثير ورواية الحرث بن المغيرة ورواية معاد بن كثير ، ورواية اسحق بن يعقوب ورواية عبد الله بن سنان ورواية حكم مؤذن بني عبس : إباحة الخمس للشيعة. وتصدى للرد على بعض الاشكالات الواردة على هذا الرأي وقال: · ان أخبار الإباحة أصح أصرح فلا يسوغ العدول عنها بالأخبار المذكورة ، وبالجملة : ان القول بإباحة الخمس مطلقا في زمان الغيبة لا يخلو عن قوة . 26
ولكن السبزواري احتاط أخيرا استحبابا بصرف جميع الخمس على الأصناف الموجودين .
وهكذا فعل محمد حسن الفيض الكاشاني في :(مفاتيح الشريعة) حيث اختار نظرية سقوط ما يختص بالامام المهدي الغائب ، لتحليل الأئمة ذلك للشيعة ، وأوجب صرف حصص الباقين الى اهلها ، واستحسن احتياطا صرف الكل اليهم . 27
وقد ذكر الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( - 1227) في :(كشف الغطاء) : تحليل الأئمة الأنفال للامامية من شيعتهم. 28(1/8)
وبحث الشيخ محمد حسن النجفي ( - 1266) في :( جواهر الكلام) حكم أموال الإمام (ع) في زمان الغيبة ، بشكل مفصل ، وقال بعد ان استعرض الأخبار التي تحلل الخمس للشيعة:· وكيف كان فسبر هذه الأخبار المعتبرة الكثيرة التي كادت تكون متواترة ، المشتملة على التعليل العجيب والسر الغريب ، يشرف الفقيه على القطع بإباحتهم (ع) شيعتهم زمن الغيبة ، بل والحضور الذي هو كالغيبة في قصور اليد وعدم بسطها : سائر حقوقهم (ع) في الأنفال ، بل وغيرها مما كان في أيديهم ، وأمره راجع اليهم مما هو مشترك بين المسلمين ثم صار في أيدي أعدائهم ، اما غير الشيعة فهو محرم عليهم أشد تحريم وابلغه ولا يدخل في أملاكهم شيء منها . 29
وقال في المسألة الثالثة من كتاب الخمس من (جواهر الكلام) :· صرح جماعة بأنه ثبت شرعا إباحتهم (ع) المناكح والمساكن والمتاجر في حال الغيبة ، وان كان ذلك بأجمعه للإمام (ع) او بعضه فانه مباح ولا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منه ... وان كان في عباراتهم نوع اختلاف بالنسبة للمباح هو الأنفال او الخمس او الأعم . 30
واستعرض أقوال العلماء القائلين بالتحليل والسقوط في عصر الغيبة ، وتردد فيها . 31
ثم استعرض أقوال القائلين بالعزل والحفظ والوصية بالخمس الى ان يظهر (الإمام المهدي) ونفى وجود اي دليل على ذلك سوى ما أشار اليه المفيد : من كون الخمس حقا لإمام لم يأمرنا ما نصنع فيه فيجب حفظه له كما في سائر الأمانات الشرعية. 32
ورفض النجفي :· دعوى وجوب دفع حق الإمام (ع) للأصناف الآن من حيث وجوب الإتمام حتى في هذا الزمان وقال :· انها مما لا تستأهل ان يسود بها قرطاس او يستعمل فيها يراع . 33
وقد أباح السيد علي الطباطبائي في :( رياض المسائل) كتاب الخمس : المناكح من الخمس للشيعة ، على الاشهر ، وقال: ان الشيخ ألحق بها المتاجر والمساكن. 34(1/9)
وقال عن الأنفال :· انها للإمام ولا يجوز لأحد ان يتصرف فيها الا باذنه ، بالنص والإجماع . 35
والتزم السيد محمد علي الطباطبائي (- 1009) بنظرية (التقية والانتظار) فقال في :(مدارك الأحكام) عن الخمس والأنفال في حال الغيبة :· الأصح إباحة الجميع ، كما نص عليه الشهيدان وجماعة ، للأخبار الكثيرة المتضمنة لاباحة حقوقهم في حال الغيبة.. وكيف كان فان المستفاد من الأخبار المتقدمة إباحة حقوقهم (ع) من جميع ذلك . 36
وأباح الشيخ رضا الهمداني ( - 1310) في :( مصباح الفقيه) الأنفال للشيعة في عصر الغيبة وقال:· الذي يقتضيه التحقيق هو ان ما كان من الأنفال من قبيل الارضين الموات والمعادن ورؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وتوابعها مما جرت السيرة على المعاملة معها معاملة المباحات الأصلية ، فلا ينبغي الارتياب في أباحتها للشيعة في زمن الغيبة وقصور اليد عن الاستيذان من الإمام عليه السلام . 37(1/10)
الموقف من صلاة الجمعة
وكانت صلاة الجمعة هي المعقل الأخير الذي تأثر بنظرية (الانتظار) حيث كان الشيعة في (عصر الغيبة الصغرى والكبرى) يؤدونها باستمرار ، وبالرغم من سيادة نظرية (الانتظار) منذ أواسط القرن الثالث الهجري وتأثر الجوانب السياسية والاقتصادية سلبا بها ، الا ان صلاة الجمعة بقيت حتى اواسط القرن الخامس بعيدة عن التأثر والانفعال . حيث لم يشترط العماني الحسن بن ابي عقيل (المعاصر للكليني) في وجوب صلاة الجمعة غير تكامل العدد ، ولم يذكر حضور الامام العادل او الامام المعصوم ولا نائبه الخاص ، واكتفى بالقول:· اذا زالت الشمس صعد الامام المنبر ، فاذا علا استقبل الناس بوجهه ، فإذا فرغ المؤذن من اذانه قام خطيبا للناس . 1
ولم يعرف عن احد من علماء القرن الثالث والرابع قولا بمقاطعة صلاة الجمعة باعتبار فقدانها لشرط وجود الامام او اذنه الخاص ، الا ما نقل عن الشيخ علي بن الحسين بن بابويه القمي الذي يقول في (رسالة ) له :· اذا زالت الشمس من يوم الجمعة فلا تصلِّ الا المكتوبة ولكن هذا القول لم يعرف عن الشيخ الصدوق الوالد ، ولم يروه عنه احد من العلماء ، ولم تثبت صحة نسبة الكتاب اليه .
ولم يكن ليحدث في أمر هذه الصلاة العظيمة من جديد لولا التفسير الذي راج عند بعض الفقهاء الامامية في وقت متأخر حول كلمة :( الامام) او (الامام العادل) حيث حصروا معناها ب :( الامام المعصوم) . ولما كانوا يقولون : ان الامام المعصوم غائب في هذا العصر ، وان من شروط إقامة صلاة الجمعة حضور الامام او اذنه ، فقد قال اولئك الفقهاء بافتقاد احد شروط صلاة الجمعة ، وهو إذن الامام المعصوم المهدي المنتظر ، ونتيجة لذلك قال اولئك الفقهاء المؤمنون بنظرية (الانتظار) بحرمة او بعدم وجوب صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) .(1/1)
وقد تحدث الشيخ المفيد في (الارشاد) عرضا عن مهمات الامام المعصوم وضرورة وجوده فذكر من مهماته:( جمع الناس في الجمعات) (2) ، ولكنه لم يشترط بصراحة ان يكون المقيم للجمعة معصوما ، كما لم يسقط وجوب الجمعة في غيبة الامام المعصوم. ولكن تلميذه السيد المرتضى علم الهدى أشار في :(الناصريات) الى ضرورة العدالة في الامام ، وقال:· الذي يذهب اليه اصحابنا في صلاة العيدين انها فرض على الاعيان وتكامل الشروط التي تلزم معها صلاة الجمعة من حضور السلطان العادل (3) وقال في :(الميافارقيات):· لا جمعة الا مع امام عادل او من ينصبه الامام العادل ، فاذا عدم ذلك صليت الظهر اربع ركعات ، ومن اضطر الى ان يصليها مع من لا يجوز امامته تقية وجب عليه ان يصلي بعد ذلك ظهرا اربعا .
ومع ان السيد المرتضى لم يصرح بشرط حضور الامام المعصوم او اذنه ، فان بعض من تأخر عنه قد فسر كلامه بارادة الامام المعصوم من كلمة (العادل) حيث اعتقد انه لا امام عادلا الا الامام المعصوم ، وذلك لعدم جواز إقامة الدولة لغير الامام المهدي المعصوم الغائب ، وضرورة انتظاره . وربما كان السيد المرتضى يقصد ذلك فعلا .
وذكر الشيخ الطوسي في :(الخلاف في الفقه):· ان من شرط انعقاد الجمعة : الامام او من يأمره الامام بذلك من قاض او أمير ونحو ذلك ، ومتى اقيمت بغير امره لم تصح . 4
وقال في :(المبسوط في فقه الامامية ) :· فأما الشروط الراجعة الى صحة الانعقاد ، فأربعة ... السلطان العادل او من يأمره السلطان . (5)
وقال في : ( الجمل والعقود ) :· ومع اجتماع الشرائط لا ينعقد الجمعة الا بأربعة شروط وهي : السلطان العادل او من يأمره السلطان العادل ... . 6
وقال في :(النهاية):· ومن شرائطه ان يكون هناك امام عادل او من نصبه الامام للصلاة بالناس (7) وقال في :(التبيان في تفسير القرآن) :· وعند اجتماع شروط ، وهي كون سلطان عادل او من نصبه السلطان للصلاة . 8(1/2)
وكان الشيخ الطوسي في كل ذلك يشترط اذن السلطان العادل ، ولم يصرح في واحد من كتبه بهوية هذا السلطان العادل ، ولكن ايمان الطوسي بنظرية(الامامة الإلهية) القائمة على حصر الامامة الشرعية في أهل البيت ، واعتبار السلطان العادل الوحيد هو الامام المعصوم ، وعدم ايمانه بولاية الفقيه ، يعزز من إرادته لمعنى (المعصوم) من كلمة ( الامام العادل) ويشكل مدخلا لربط الصلاة بالامام المعصوم . وهو ما ينسجم مع الموقف العام الذي اتخذه الطوسي من مسألة اقامة الدولة في (عصر الغيبة) وتجميد الجوانب السياسية والثورية والاقتصادية المتعلقة بالامام الغائب .
وقد عبر عن ذلك بصراحة ابو الصلاح الحلبي ( 373 - 447) المعاصر للطوسي ، في :(الكافي في الفقه) حيث قال:· لا تنعقد الجمعة الا بامام الملة او منصوب من قبله ، او بمن يتكامل له صفات امام الجماعة عند تعذر الأمرين . 9
ويلاحظ انه مع تصريحه بربط الجمعة بامام الملة ، اي الامام المعصوم ، الا انه استدرك بإمكانية اقامتها لمن تكاملت له صفات امام الجماعة ايضا ، اي انه لم يحصر جواز الصلاة بحضور الامام المعصوم او اذنه ، ولكن تصريحه هذا شكل مقدمة لمن جاء بعده ، والغى الخيار الثاني وحصرها بالامام المعصوم او اذنه .
ويقول المؤرخون : ان صلاة الجمعة توقفت في عهد الشيخ الطوسي سنة 451ه بعد ان كان الشيعة يدأبون على أدائها في مسجد براثا في بغداد ، وذلك إثر سيطرة السلاجقة على الحكم وسقوط الدولة البويهية ورحيل الطوسي من بغداد الى النجف . 10
وقد قال سلار بعد الغائها باثنتي عشرة سنة في (المراسم ):· ان صلاة الجمعة فرض مع حضور امام الأصل او من يقوم مقامه ... ولفقهاء الامامية ان يصلوا الناس في الاعياد والاستسقاء ، وأما الجمع فلا . وكان رأيه هذا اصرح من السابقين الذين عبروا عنه بالكناية فقط .(1/3)
وقال القاضي عبد العزيز ابن براج الطرابلسي ( 400 - 481) في (المهذب) :· اعلم ان فرض الجمعة لا يصح كونه فريضة الا بشروط متى اجتمعت صح كونه فريضة جمعة ووجبت لذلك ، ومتى لم تجتمع لم يجب كونه كذلك ، بل يجب كون هذه الصلاة ظهرا . 11
وقال ابن حمزة في (الوسيلة الى نيل الفضيلة) وابن زهرة في (الغنية) والطبرسي في (مجمع البيان في تفسير القرآن)و ابن ادريس في (السرائر) بتعطيل اقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة وعدم وجوبها لانعدام شرط حضور الامام او اذنه الخاص . يقول ابن ادريس في (السرائر):· صلاة الجمعة فريضة... بشروط احدها: حضور الامام العادل او من نصبه الامام . وان إجماع اهل الاعصار على ان من شرط انعقاد الجمعة: الامام او من نصبه الامام للصلاة من قاضٍ او امير ونحو ذلك ، ومتى أقيمت بغيره لم يصح . وان إجماع الفرقة الامامية على ذلك ، وانهم لا يختلفون ان من شرط الجمعة: الامام او من يأمره . 12
وقد بنى ابن ادريس رأيه في تعطيل صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) على تفسير لكلام الشيخ الطوسي في (مسائل الخلاف) من اشتراط الامام ، مع ان الطوسي نفسه لم يصرح بمقصوده هناك ، ولم يشترط صفة العدالة في الامام . ولم يثبت الإجماع عند الشيعة قبل ذلك على معنى (الامام المعصوم) واشتراط حضوره او اذنه بالخصوص في صلاة الجمعة ، كما لم يثبت إجماع المسلمين على اشتراط حضور الامام المطلق في اقامة صلاة الجمعة .
ومن المعروف ان ابن ادريس قاد ثورة على الاعتماد على أخبار الآحاد في الفقه ، وقد تحدث عن ذلك في مقدمة كتابه (السرائر)
واستنكر إضاعة أحكام الدين بالاعتماد على أخبار الآحاد ، ولكنه لجأ هنا الى الاعتماد على (إجماع ) موهوم وغير دقيق وغير حاصل ، وقام في ظل اجواء نظرية (الانتظار) بإلغاء صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) بصراحة.(1/4)
وقد سار كثير من الفقهاء اللاحقين بعد ذلك ، والى يومنا هذا ، على خطى اولئك العلماء الذين اشترطوا العدالة في الامام وفسروا كلمة (الأمام العادل) بالإمام المعصوم (المهدي المنتظر) ، وانتهوا آلي تعطيل صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، انسجاما مع نظرية (الانتظار) التي تحرم إقامة الدولة الإسلامية لغير الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله تعالى.
وبالرغم من قول المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676) في موضوع الخمس بجواز استلام الفقيه له باعتباره نائبا عاما عن (الأمام المهدي) في الغيبة ، فقد اضطربت أقواله في موضوع صلاة الجمعة ، ولم يشر آلي موضوع النيابة العامة فيها ، حيث اشترط في :(المعتبر في شرح المختصر) حضور السلطان العادل او نائبه في وجوب الجمعة ، وقال :· انه قول علمائنا . 13
وقال في :(شرائع الإسلام) : انها لا تجب الا بشروط : الأول : السلطان العادل او من نصبه . 14
ولكنه استظهر في المسألة التاسعة : استحباب إقامة صلاة الجمعة اذا امكن الاجتماع ، في حالة عدم وجود الأمام ولا من نصبه للصلاة ، مع انه عبر عن هذا الرأي ب :·قيل وذكر آلي جنبه القول بعدم الجواز. 15
وكذلك فعل في :(المختصر النافع في فقه الامامية
( حيث اشترط حضور السلطان العادل كواحد من الشروط الخمسة. 16
ولكنه عاد فذكر الاستحباب في حالة إمكان الاجتماع والخطبتين في عصر الغيبة ، وأشار آلي منع قوم منها ايضا. 17
واعترف يحيى بن سعيد الحلي ( 601 - 690) في :( الجامع للشرائع) بوجوب صلاة الجمعة ، ولكنه اشترط حضور امام الأصل او من يأمره. (18) ولم يتحدث عن الاستحباب في حالة إمكان الاجتماع والخطبتين.
واشترط العلامة الحلي ( - 762) في :( منتهى المطلب) في وجوب صلاة الجمعة : حضور الأمام العادل ، وفسره ب ·المعصوم واذنه.. وقال:· ان اشتراط الأمام واذنه هو مذهب علمائنا اجمع . 19(1/5)
وتساءل عن جواز فعل الجمعة اذا لم يكن الأمام ظاهرا؟.. ونقل كلام الشيخ الطوسي في :(النهاية) بجواز ذلك اذا أمن المصلون من الضرر وتمكنوا من الخطبة ، كما نقل قوله في :(الخلاف) بعدم الجواز ، وقال الحلي:· انه اختيار المرتضى وابن ادريس وسلار ، وهو اقوى عندي ، لما تقدم من اشتراط الأمام او نائبه ، فمع الغيبة يجب الظهر لفوات الشرط . 20
وأكد العلامة الحلي في :( تذكرة الفقهاء) :· شرط السلطان او نائبه ، في وجوب الجمعة ، عند علمائنا اجمع ، وقال: كما لا يصح ان ينصب الانسان نفسه قاضيا من دون اذن الأمام كذا امامة الجمعة ... ولأنه إجماع اهل الاعصار ، فانه لا يقيم الجمعة في كل عصر الا الأئمة . 21
وعاد فذكر · إجماع علمائنا كافة على اشتراط عدالة السلطان وهو الأمام المعصوم او من يأمره بذلك ، خلافا للجمهور كافة .. لأن الاجتماع مظنة التنازع ، والحكمة تقتضي انتفاء ذلك ، ولا يحصل الا بالسلطان ، ومع فسقه لا يزول لأنه تابع في افعاله لقوته الشهوية لا مقتضى الشرع ومواقع المصلحة ، وليس محلا للأمانة ، فلا يكون اهلا للاستنابة . 22
وادعى في :(تحرير الاحكام) : سقوط الوجوب اجماعا ، في حالة عدم ظهور الأمام او نائبه ، وذلك لفقد شرط الأمام العادل او من نصبه ، وتساءل ايضا عن الجواز حينئذ مع امكان الخطبة ، ثم قوى رأي المانعين لها كسلار وابن ادريس . 23
واستعان الحلي في :( مختلف الشيعة في احكام الشريعة) برأي سلار وابن ادريس لتأييد جانب المنع ، وقال: · ان قول السيد المرتضى في :(المسائل الميافارقيات ):· لا جمعة الا مع امام عادل او من نصبه الأمام العادل ، فاذا عدم صليت الظهر اربع ركعات يشعر بعدم التسويغ في حال الغيبة . 24(1/6)
وقد اكتفى تقي الدين ابراهيم بن علي العاملي الكفعمي في :(المصباح) بذكر السلطان العادل او من يأمره في وجوب صلاة الجمعة ، دون ان يشير آلي جوازها او حرمتها في حالة الاجتماع وامكان الخطبة في ظل (الغيبة) . 25
وقد كان السيد الصدر الكبير الامير نعمة الله الحلي الذي ذهب مع الشيخ الكركي آلي ايران ايام الشاه طهماسب ، واصبح شريكا في الصدارة مع الامير قوام الدين حسين ، لا يؤمن بجواز إقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) · لأنها من اعمال الأمام المهدي ، وقد تباحث حولها مع الشيخ الكركي امام الشاه وجمع من العلماء ، مما أدى بالشاه آلي نفيه آلي بغداد .
وكان السيد نعمة الله الجزائري يرفض إقامة صلاة الجمعة ، لأنه كان يرى فيها اغتصابا لمنصب الأمام (المهدي) ، وكان يصب لعناته على كل من يصلي الجمعة ويقول · لعن الله الظالمين آل محمد حقهم وذلك اعتقادا منه ان إقامة الصلاة من مناصب الامامة التي لا يجوز لغير الأمام اقامتها .
كما عبر الفاضل الهندي محمد بن الحسن (توفي سنة 1062ه ) عن موقف الرفض لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة استناداً لنظرية (النيابة العامة) ، وذلك لتناقضها مع نظرية (الامامة الالهية) فقال في (كشف اللثام) في باب صلاة الجمعة ما يلي: · في شروط صلاة الجمعة... الشرط الثاني: السلطان العادل او من ينصبه او يأمره بها . والمراد بالسلطان العادل : الأمام المعصوم ... فمن الضروريات عقلا وشرعا انه لا يحسن الاقتداء بمن لا دليل على إمامته ولا دليل على إمامة غير المعصوم الا اذنه ، بل هو الأمام والامامة منصبه ، فلا يجوز لغيره : الامامة في شيء ، ولا يجوز لنا الايتمام بغيره في شيء الا باذنه واستنابته .
... لكن لا يمكن الاجتزاء بمفردها على التصرف في منصب الأمام خصوصا مع الاجماع الفعلي والقولي على الامتناع من هذا التصرف الا باذنه الخاص .
...(1/7)
ولما بلغ الكلام هذا المبلغ ظهر: عدم جواز عقدها لغير من نصب الأمام بخصوصه.. فلا وجوب عينيا لها ولا تخييريا . 26
وقال:· الامامة من مناصب الأمام فلا يتصرف فيه احد ولا ينوب منابه فيه الا باذنه ، ضرورة من الدين ومن العقل والاجماع فعلا وقولا مع ذلك على توقف الامامة هنا بخصوصه عند ظهوره (ع) على الاذن فيها ، خصوصا او عموما ، بل خصوصا ، ولا اذن الآن كما عرفت ، ولا دليل على الفرق بين الظهور والغيبة حتى يشترط الاذن عند الظهور دون الغيبة ، ولذا ينسب التحريم آلي السيد المرتضى . وما يتوهم من ان الفقهاء مأذونون لإذنهم في القضاء والفتيا ، وهما أعظم ، فظاهر الفساد للزوم تعطل الأحكام وتحير الناس في أمور معاشهم ومعادهم وظهور الفساد فيهم واستمراره ان لم يقضوا او يفتوا . ولا كذا الجمعة اذا تركت.. وايضا : ان لم يقضوا او يفتوا لم يحكموا بما أنزل الله وكتموا العلم وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحرمة الجمع مقطوعة ضرورة من الدين .. وان صلوا الجمعة قاموا مقام الأمام واخذوا منصبه من غير اذنه ، فانظر آلي الفرق بين الأمرين!
فما لم يحصل القطع بالإذن كما حصل في سائر الجماعات لم يجز شيء منها كسائر مناصبه ، ولأنه لا ضرورة تدعو اليه .
وصريح المصنف: الإجماع على ان الجمعة انما تجب في (الغيبة) تخييرا ففعلها مردود بين الحرمة والجواز ، وكل أمر تردد بينهما وجب الاجتناب عنه حتى نعلم الجواز .
... ثم الإذن في كل زمان لا بد من صدوره عن امام ذلك الزمان فلا يجدي زمن الغيبة الا اذن الغائب ، ولم يوجد قطعا ، او نص امام من الائمة على عموم جواز فعلها في كل زمان ، وهو ايضا مفقود .
.. لا خلاف لأحد من المسلمين في انه اذا حضر امام الأصل لم يجز لغيره الاقامة فيها الا باذنه .(1/8)
ولو لم يعم وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يحرم كتمان العلم وترك الحكم بما انزل الله لم يجز للفقهاء الحكم ولا الإفتاء زمن الغيبة الا باذن الغائب ، ولم يكن لهم اذن من قبله وجعله (ع) قاضيا .
... بل عرفت الإجماع قولا وفعلا على اشتراطها زمن الظهور باذنه لخصوص امام في امامتها ، فما الذي اذن فيها في زمن الغيبة؟
على انك عرفت انه لا بد من اذن كل امام لرعيته او عموم الاذن لامام من الأئمة لجميع الأزمان ، ولا يوجد شيء منهما زمن الغيبة . 27
وهكذا كان الفاضل الهندي يرفض إقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) ولا يجيز للفقيه اقامتها لأنه كان يعتبر عمله تجاوزاً على منصب الامامة و اغتصاباً لمهمات (الأمام المعصوم ) .
واذا كان الفاضل الهندي قد انطلق في تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة من منطلق رفضه لنظرية (النيابة العامة) فان بعض الفقهاء الذين قالوا بنظرية (النيابة العامة) وخاصة في موضوع الخمس ، قد قالوا بالتحريم في موضوع صلاة الجمعة في عصر الغيبة ،واشتراط الإذن الخاص من الأمام فيها ، وذلك كالشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي قال في :(كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغراء) في شرائط عينية وجوب صلاة الجمعة :·احدها : وجود السلطان العادل المنصوب من قبل الله تعالى من نبي او امام مبسوطي الكلمة لا يختشيان في اقامتها ودعاء الناس اليها من الفسقة الفجرة ، مع المباشرة للامام او تعيين نائب خاص معين ... الا اذا عرض للامام عارض في اثناء الصلاة من موت او عزل او نحوهما او اطلع المأمومون على فسقه فيتعين إتمامها بدون المنصوب ، فيتمونها بنصب من أرادوا من المأمومين او يتقدم من يأتمون به ...(1/9)
ولا تجب عينا مع الغيبة او الحضور من دون انقياد الأمور وعدم التمكن من النصب ، كما يظهر من ملاحظة السيرة القطعية ، فان امامتها لن تزل في زمن النبي وخليفته وامينه على رعيته من المناصب الشرعية التي لا يجوز فيها القيام الا بعد الاذن من النبي (ص) او الأمام (ع) وكذلك استقرت كلمة العلماء من القدماء والمتأخرين سوى من شذ آلي يومنا هذا ...
وكيف يخطر في نظر العاقل : ان الأمام في زمن التقية يأمر اصحابه بمخالفتها؟.. مع انه ينبغي ان يمنع عن فعلها ، فلا بد من حملها على التقية بإقامة جمعة القوم ، وهي جمعة صحيحة كغيرها من صلوات التقية ، حتى ان اصحابنا مأمورون بأنهم ان استطاعوا ان يكونوا الأئمة كانوا ، وفي كتاب علي: إذا صلوا الجمعة فصلوا معهم . والأوامر الواردة فيها على العموم لا يزيد على ما ورد في الوضوء والغسل الرافعين للحدث ... فلتكن تلك العمومات مخصصة والمطلقات مقيدة.
وعلى كل حال فمقتضى الادلة هو : التحريم ، على نحو ما كان فيما تقدم من الزمان . 28
ويبدو ان الشيخ كاشف الغطاء كان يتردد بين نظريتي :(التقية والانتظار) و (النيابة العامة) ولم يحسم موقفه تماما لهذه الجهة او تلك ، ومن هنا فقد مال آلي تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة .
وعلى قاعدة هذا التردد بين النظريتين قال السيد محمد رضا الكلبايكاني ( توفي 1413) في :(الهداية آلي من له الولاية ) بوجوب الخمس وضرورة تسليمه آلي الفقيه في عصر الغيبة ، ولكنه توقف في موضوع صلاة الجمعة ، وشكك في اصل التكليف والجواز في عصر الغيبة ، وتشبث بالأصول العملية ، فمال آلي العدم وقال:· لو شك في اعتبار الاذن في شيء ، واحتمل كونه دخيلا في اصل وجوبه ، وتعلق الإرادة به وترتب المصلحة عليه ، كأجراء الحدود واقامة الجمعة ، وغيرها مما يحتمل كونه من الوظائف التي يقوم بها شخص الأمام ، او من هو مأذون منه ، فحينئذ يكون الشك في اصل التكليف فيجري فيه البراءة ..(1/10)
وبالجملة : الإذن المشكوك اعتباره قد يحتمل كونه من مقدمات وجود المكلف به وشرطا فيه ، كما لو علم ان الشارع اراد وجود شيء في الخارج ولم يرض بتركه ، ولكن يشك في انه يعتبر الاذن فيه من نائبه العام او الخاص ؟ أم لا ؟ فيرجع الشك آلي القيد الزائد فيحكم بالأصل على عدم اعتباره .
وقد يحتمل كون الإذن دخيلا في اصل الوجوب وشرطا له ، كما في صلاة الجمعة لقوله تعالى · إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا آلي ذكر الله... لاحتمال كون المنادي هو الأمام ، او المأمور من قبله ، فيكون الشك في اصل التكليف والجواز ، ومقتضى الأصل : عدمه . 29
ويلاحظ هنا : ان الكلبايكاني ألغى وجوب صلاة الجمعة باحتمال كون المراد من المنادي في الآية: الأمام ، وان المقصود بذلك الأمام المحتمل هو الأمام المعصوم ، وان الأمام المعصوم موجود وهو (محمد بن الحسن العسكري) الغائب ، ولما لم يثبت منه الاذن فقد ألغى الوجوب ، ولم يجد الكلبايكاني حاجة في العودة آلي ( نائب الأمام العام : الفقيه) واستئذانه في إقامة الصلاة . وذلك بالرغم من بناء فعل النداء في الآية على صيغة المجهول :( اذا نودي) وليس المعلوم ، بحيث لا يقبل التخصيص بواحد معين امام او غير امام ، وانما يكتفى بحصول النداء وتحققه في الخارج ، كما لا يوجد في الآية اية اشارة آلي كون المنادي اماما ، ولكن ايمان الكلبايكاني بنظرية (الامامة الالهية ) ونظرية (التقية والانتظار) دفعه آلي التشكيك في اصل الجواز والوجوب خلافا لمن سبقه من الفقهاء .(1/11)
وبالرغم من قول السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي ( 1340 - ) بنظرية :(ولاية الفقيه) في كثير من أبواب الفقه ، وبقوة تصل أحيانا آلي درجة القول بنظرية (الولاية المطلقة) الا انه تمسك بنظرية (التقية والانتظار) في موضوع صلاة الجمعة ، وقال تبعا لذلك بأفضلية الظهر على الجمعة ، معتبرا وجود الأمام المعصوم او نائبه الخاص للصلاة شرطا من شرائط الوجوب ، وقال في :( الفقه - الصلاة) باب صلاة الجمعة في زمان الغيبة :· مسألة 8 : لا اشكال ولا خلاف في وجوب صلاة الجمعة في الجملة بإجماع المسلمين والضرورة من الدين ، لكنهم (الفقهاء) اختلفوا في زمان الغيبة ، حيث لا يكون الأمام حاضرا ولا يوجد نائبه العام ولا نائبه المنصوب للجمعة خاصة ، آلي اقوال ...
ولا اشكال في وجوبها ، وانما الكلام في اشتراطها بالإمام او من نصبه ، فهو مثل ان يقول : الجهاد واجب على كل انسان الا من استثني ، فانه لا ينافي اشتراطه بشرائط خاصة . 30
وقال :· ومما ذكرنا ظهر : ضعف الاستشهاد للوجوب العيني بالاخبار الأخر ، فان ذكر المطلقات في قبال دليل الاشتراط من قبيل التمسك باطلاقات ادلة الجماعة في قبال دليل اشتراط عدالة الأمام . 31
وبناء على ذلك فقد اعتبر القول بالوجوب العيني لصلاة الجمعة في غاية الضعف ، بالرغم من اعترافه بصحة الروايات التي تؤكد على وجوب الجمعة ، لأنها مطلقات لا تنافي الدليل المقيد . 32
وادعى عدم أداء الائمة الاثني عشر ، غير من كان بيدهم الحكم ، ولا اصحابهم لصلاة الجمعة ، وعدم التزامهم بالتقية في ذلك ، ولو كان لبان . كما ادعى جريان سيرة الفقهاء المراجع منذ عصر الغيبة آلي اليوم على الترك الا ما ينقل عن نادر منهم ، واستظهر لذلك عدم وجود اي وجه للاحتياط بالجمع بين الظهر والجمعة ، وان قول جماعة بأفضلية الجمعة مطلقا او بتساويها مع الظهر خلاف ظاهر الدليل. 33(1/12)
اذن .. فان السر وراء قول معظم الفقهاء الامامية بعدم وجوب او حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، يعود آلي الايمان بنظرية :(التقية والانتظار للامام المهدي الغائب) .
وبالرغم من عدم قول العلماء الأوائل في عصر (الغيبة الصغرى ) والمائة الأولى من :(الغيبة الكبرى) بسقوط وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فان التفسير المتأخر في القرن الخامس الهجري في عهد السيد المرتضى ومن بعده ، لكلمة :· الأمام العادل وتأويلها بالإمام المعصوم ، وربط ذلك بنظرية :(التقية والانتظار) العامة التي كانت تمد ظلالها على مختلف الشؤون السياسية والاقتصادية العامة ، انتج القول بضرورة حصول الإذن الخاص من (الأمام المهدي الغائب) في جواز إقامة الجمعة ، ولما كان ذلك متعذرا ومتعسرا في ظل الغيبة ، فقد أدى آلي تجميد هذا الفرض العظيم والغاء وجوب صلاة الجمعة او القول بحرمتها.
وبالرغم من قول الفقهاء الامامية في العصور المتأخرة بنظرية :(النيابة العامة) ونظرية (ولاية الفقيه) إلا ان بعض العلماء لا يزال يتشبث بنظرية (التقية والانتظار) في موضوع صلاة الجمعة ، ويقول تبعا لذلك بحرمتها أو عدم وجوبها عينا في عصر الغيبة.(1/13)
فتح باب الاجتهاد
وحل عقدة التشريع في (عصر الغيبة)
لقد أدت نظرية (الانتظار للامام المهدي الغائب) - كما رأينا في الفصل الماضي - آلي غيبة الشيعة الامامية أنفسهم عن مسرح الحياة السياسية ، وذلك بتحريم العمل السياسي واقامة الدولة في (عصر الغيبة) ، والى انفصام بعضهم عمليا عن الفكر الامامي الذي يشترط العصمة والنص في الأمام ، و ممارسة السلطة بشكل أو بأخر ، مما أدى بكثير من العلماء آلي التراجع عن الفكر الامامي المتصلب والتخلي عن نظرية الانتظار المتشددة ، وكانت أول خطوة في هذا الطريق هي فتح باب الاجتهاد .
وكان الاجتهاد - كما قلنا في الفصل الماضي - محرما في الفكر الامامي الذي كان يحصر العمليات التشريعية الجديدة في (الأئمة المعصومين ) . ولذلك فقد كانت المدرسة الامامية القديمة اخبارية تحرم الاجتهاد خارج النصوص ، وظلت هكذا آلي فترة طويلة بعد (الغيبة) ، وكان منتهى العمل (الاجتهادي) يدور داخل النصوص والترجيح فيما بينها ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد وما شابه ، وكانت فتاوى العلماء ، كعلي بن بابويه الصدوق ، مجرد نصوص روايات معتبرة لديهم .(1/1)
ولكن بعد القول بغيبة (الأمام الثاني عشر) ومرور مدة طويلة على انقطاع الاتصال ب :·مصدر العلم الإلهي وحدوث مسائل جديدة تستوجب الإجابة عليها ، بدأ موقف الامامية من (الاجتهاد) يتطور .. ويتغير ، واضطروا لفتح باب الاجتهاد والقول بجواز القياس . وكان أول من قال بذلك في أواسط القرن الرابع هو الحسن بن عقيل العماني ، المعاصر للكليني ، الذي يصفه الشيخ عباس القمي في :(الكنى والالقاب) بأنه :· أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى و · كان يرى القول بالقياس ويقول باجتهاد الرأي كما يقول النجاشي في رجاله ، و ·اول من أبدع أساس الاجتهاد في أحكام الشريعة كما يقول الخونساري في :(روضات الجنات) . وكان يشاركه في تلك المدرسة الاجتهادية الرائدة محمد بن احمد بن الجنيد الاسكافي - وهو من مشايخ المفيد - الذي يصفه الخونساري في :(روضات الجنات) بأنه · قد عمل صريحا بالقياسات الحنفية واعتمد على الاستنتاجات الظنية . 1
وقد اعتمدت هذه المدرسة (الأصولية) على بعض الأحاديث الصادرة عن أهل البيت (ع) كالحديث الذي يرويه الحر العاملي : عن الأمام الصادق (ع) انه قال:· إنما علينا ان نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا والحديث الذي يرويه عن الأمام الرضا (ع) انه قال:· علينا القاء الأصول وعليكم التفريع (2) أو · التوقيع الذي يرويه الصدوق في :(اكمال الدين) عن (الأمام المهدي) والذي يقول:· واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها آلي رواة أحاديثنا .(1/2)
ومع ان الشيخ المفيد محمد بن النعمان (توفي سنة 413 ه ) قد رفض مدرسة الاجتهاد في البداية أو في الظاهر ، وردّ على ابن الجنيد في رسالة له ، وانكر في (المسائل الصاغانية) على العماني وابن جنيد اشتغالهم عن حمل الآثار بالرأي والاستحسان ، وهجرانهم مَن أمَر الله تعالى بصلته وأخذ معالم الدين عنه وعن عترة نبيه ، وألّف كتابين في الرد على أستاذه ابن الجنيد الذي كان يحاول ممارسة الاجتهاد . - وقد نقلنا رأيه في الفصل الماضي - فانه قد مارس الاجتهاد في عملياته الفقهية ، مما دفع (الإخباريين) آلي اعتباره من رواد مدرسة الاجتهاد .
ولكن تلميذه السيد المرتضى علم الهدى (توفي سنة 440 ه ) قد نقح القول في مسألة الاجتهاد ، وافتتح القول بجواز (الاجتهاد) رسميا ، مؤسساً لمدرسة أصولية اجتهادية استمرت حتى اليوم ووضعت نهاية لما عرف بالمرحلة الإخبارية الأولى ، وجاء زميله وتلميذه الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (توفي سنة 460 ه ) فمارس الاجتهاد على أوسع أبوابه وكتب (المبسوط في فقه الامامية) ، ثم تلتهما المدرسة الأصولية الحلية ومدرسة جبل عامل وكربلاء والنجف وقم الأصولية المستمرة حتى اليوم .
ولم تنقرض المدرسة الإخبارية التي نشطت مجددا في القرن الحادي عشر الهجري في إيران والعراق بقيادة الميرزا محمد أمين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) الذي شنّ هجوما عنيفا على المدرسة الاجتهادية (الأصولية) في كتابه :(الفوائد المدنية) . وقد تصدى الوحيد البهبهاني زعيم الحوزة العلمية في كر بلاء في نهاية القرن الثاني عشر ، للحركة الإخبارية بقوة ، مما ساعد على تراجعها وانزوائها في بعض الدوائر العلمية الضيقة ، ولا تزال موجودة آلي اليوم في صورة الخط الإخباري الذي يرفض عمليات الاجتهاد والمجتهدين خارج إطار النصوص ، ويتهم المدرسة الأصولية بالتأثر بالفكر السني والانحراف عن خط أهل البيت والتقليد لهم .(1/3)
ويعتبر كتاب السيد المرتضى :(الذريعة آلي اصول الشريعة) أول كتاب اصولي شيعي يقر مبدأ الاجتهاد والقياس ، حيث يقول فيه بعد ان يعرف ذلك في فصل خاص تحت عنوان :( فصل في القياس والاجتهاد والرأي ما هو؟ وما معاني هذه الألفاظ ؟):· ان القياس هو إثبات مثل حكم المقيس عليه للمقيس ، وله شروط لا بد منها ... فأما الاجتهاد فموضوع في اللغة لبذل الوسع والطاقة في الفعل الذي يلحق في التوصل اليه بالمشقة ، كحمل الثقيل وما جرى مجراه ، ثم استعمل في فيما يتوصل به آلي الأحكام من الأدلة على وجه يشق ... وليس يمتنع ان يكون قولنا (أهل الاجتهاد) إذا اطلق ، محمولا بالعرف على من عوّل على الظنون والإمارات في إثبات الأحكام الشرعية ، دون من لم يرجع إلا آلي الأدلة والعلوم (وهم الاخباريون) . فأما (الرأي) فالصحيح عندنا انه عبارة عن المذهب والاعتقاد ، وان استند آلي الأدلة دون الإمارات والظنون . 3
وبعد ان عرّف السيد المرتضى القياس والاجتهاد قال في (فصل في جواز التعبد بالقياس):· اعلم انا إذا بينا ان القياس الشرعي يمكن ان يكون طريقا آلي معرفة الأحكام الشرعية ، فقد جرى القياس مجرى الأدلة الشرعية كلها من نص وغيره ، فمن منع - مع ثبوت ذلك - من ان يدل الله تعالى به كما يدل النص على الأحكام فهو مقترح لا يلتفت آلي خلافه ... فأما من أحال القياس لتعلقه بالظن الذي يخطئ ويصيب ، فالذي يبطل قوله: ان كثيرا من الأحكام العقلية والشرعية تابعة للظنون .
.. ومن توهم على من سلك هذه الطريقة انه قد اثبت الأحكام بالظنون فهو متعد ، لأن الأحكام لا تكون إلا معلومة ، ولا تثبت إلا من طريق العلم ، إلا ان الطريق قد يكون العلم تارة والظن أخرى .. . 4(1/4)
ولكن الغريب ان السيد المرتضى بالرغم من وضوح قوله هذا فانه عقد فصلا جديدا تحت عنوان :( فصل في نفي ورود العبادة بالقياس) وقال: · اعلم ان العبادة بذلك لو وقعت لكان عليها دليل شرعي كسائر العبادات الشرعية ، واذا كنا قد تأملنا أدلة الشرع فلم نعثر على ما هو دلالة على هذا الموضوع وجب نفي العبادة به ، ويمكنا ان نستدل على نفي العبادة بالقياس أيضا بإجماع الامامية على نفيه وأبطاله في الشريعة ، وقد بينا ان في إجماعهم الحجة . 5
ولكنه عاد فنفى أساس القول برفض الأدلة الظنية ، فقال: · وليس يجوز ان يعتمد في إبطال القياس على ظواهر من الكتاب والسنة تقتضي إبطال القول بغير علم مثل قوله تعالى :( ولا تقفُ ما ليس لك به علم ) . 6
وقال في (باب الكلام في الاجتهاد وما يتعلق به ):· اعلم ان الاجتهاد وان كان عبارة عن إثبات الأحكام الشرعية بغير النصوص وأدلتها ، بل بما طريقه الإمارات والظنون ، وادخل في جملة ذلك القياس الذي هو حمل الفروع على الأصول بعلة متميزة ، كما ادخل في جملته ما لا إمارة له متعينة كالاجتهاد في القبلة ، فقد بينا : ان القياس الذي هو حمل الفروع على الأصول بعلة متميزة قد كان من الجائز في العقل ان يتعبد الله به ، لكنه ما تعبد به ، ودللنا على ذلك وبسطنا الكلام فيه . فأما الاجتهاد الذي لا تتميز الإمارات فيه وطريقه غلبة الظن كالقبلة وما شاكلها فعندنا ان الله تعالى قد تعبد بذلك زائدا على جوازه في العقل . 7(1/5)
وبعد ان أسس السيد المرتضى لشرعية (الاجتهاد) وأجاز العمل بالظنون خارج إطار النصوص كضرورة لتغطية الحوادث الواقعة الجديدة ، مضى ليناقش (الإخباريين) الذين كانوا يحرمون التقليد والاستفتاء من المجتهدين ، ويصرون على وجوب حصول العامي على العلم ، وقد كان ذلك ممكنا في حدود الروايات في المرحلة الإخبارية ، فقال في :( فصل في صفة المفتي والمستفتي): · اعلم ان في الناس من منع من الاستفتاء وزعم ان العامي يجب عليه ان يكون عالما بأحكام فروع الحوادث وانما يرجع المستفتي آلي المفتي لتنبيهه على طريق الاستدلال
، ويعتمد على ان تجويز المستفتي على المفتي خطأ يمنعه من قبول قوله لأنه لا يأمن ان يكون مقدما على قبيح . والذي يدل على حسن تقليد العامي للمفتي : انه لا خلاف بين الأمة قديما وحديثا في وجوب رجوع العامي آلي المفتي ، وانه يلزمه قبول قوله لأنه غير متمكن من العلم بأحكام الحوادث ، ومن خالف في ذلك كان خارقا للإجماع . 8
ويبدو ان السيد المرتضى لم يجد دليلا على جواز التقليد غير دعوى الإجماع ، بالرغم من ان هذا الموضوع كان محل خلاف بين الشيعة ، وكان الاخباريون يرفضون الاجتهاد والتقليد للمجتهدين.
وفي نهاية القرن السادس الهجري أيد الشيخ محمد بن ادريس الحلي ( 543 - 698) في مقدمة :(السرائر) طريق الاجتهاد وقال:· إذا فقدت الثلاثة : الكتاب والسنة والإجماع ، فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل العقل فيها .(1/6)
وقد دعم المحقق الحلي جعفر بن الحسن ( 602 - 676) نظرية السيد المرتضى الأصولية (الاجتهادية) فقال في :( معارج الأصول) :· الأحكام اما تكون مستفادة من ظواهر النصوص المعلومة على القطع ... واما ان تفتقر آلي اجتهاد ونظر ، ويجوز اختلافه باختلاف المصالح . وشرح معنى الاجتهاد فقال :· الاجتهاد هو في عرف الفقهاء : بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، وسواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا ان يكون الامامية من (أهل الاجتهاد) .
قلنا: الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث ان القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق الظنية التي ليس أحدها القياس . 9
وبحث موضوع القياس من زاوية عقلية فقال: · من الناس من منع من التعبد بالقياس عقلا ، وأكثرهم قالوا بجوازه .احتج المانعون بوجوه ، أحدها: ان عمومات القرآن والسنة المتواترة كافلة بتحصيل الأحكام الشرعية ، والقياس ، ان طابقها فلا حاجة اليه ، وان نافاها لم يجز العمل به ..
واحتج شيخنا المفيد لذلك أيضا بأنه لا سبيل آلي علة الحكم في الأصل ، فلا سبيل آلي القياس .
والجواب : انا لا نسلم ان عموميات القرآن كافلة بالاحكام ، فان في مسائل الديات والمواريث والبيوعات وغيرها ما يعلم خروجه من مدلولات العموم . 10
وقال :· القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا ، منهم من يقول: ورد التعبد به وهم الأكثر ، وأطبق أصحابنا على المنع من ذلك إلا شاذا منهم ، وقد أجمعت الامامية على ترك العمل به ، ونقل عن أهل البيت (ع) المنع منه متواترا نقلا يقطع به العذر . 11(1/7)
و في القرن السابع الهجري .. وجد المحقق الحلي نفسه مضطرا لمناقشة الإخباريين الذين كانوا يرفضون الاجتهاد والتقليد ، والخروج عن دائرة النصوص والأحاديث ، وقال في :(فصل في المفتي والمستفتي): · يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعية ، وقال الجبائي: يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد دون ما عليه دلالة قطعية. واحتج المانعون بوجوه:
الأول: قوله تعالى:( وان تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ( ولا تقف ما ليس لك به علم) ( ان الظن لا يغني من الحق شيئا ).
ثانيها: انه عمل بما لا يؤمن من كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، لأن المفتي جائز الخطأ فكل ما يفتي به يجوز ان يكون مخطئا فيه فيكون الإقدام على العمل على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، وقبح ذلك ظاهر.
ثالثها: لو جاز التقليد في الشرعيات لجاز في العقليات ، والثاني محال فالأول مثله . 12
وفي القرن العاشر تبنى الشهيد الثاني ( 911 - 966) في :( الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) شرعية الاجتهاد وقال: · الاجتهاد يتحقق بمعرفة المقدمات الست ، وهي الكلام والأصول والنحو والتصريف ولغة العرب وشرائط الأدلة ، والأصول الأربعة وهي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل . 13
وحاول ابنه الشيخ جمال الدين حسن بن زين الدين ( - 1011) في :( معالم الدين وملاذ المجتهدين) ان ينصر الخط الأصولي بقبول القياس ، ولكن بعد تصنيفه آلي قسمين ، وتفسير النصوص الواردة عن أهل البيت ، المضادة للاجتهاد ، والتي يتشبث بها الاخباريون ، بقسم خاص من القياس ، وان ينزع صفة الإطلاق عن تحريمه ، فقال: · القياس هو الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم ... وهي اما مستنبطة أو منصوصة .(1/8)
وقد أطبق أصحابنا على منع العمل بالمستنبطة إلا من شذ ، وحكي إجماعهم فيه غير واحد منهم ، وتواتر الأخبار بإنكاره عن أهل البيت (ع). وبالجملة فمنعه يعد من ضروريات المذهب ، واما المنصوصة ففي العمل بها خلاف بينهم ، فظاهر كلام المرتضى: المنع منه أيضا ، وقال المحقق (الحلي): إذا نص الشرع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم ، وكان ذلك برهانا ، وقال العلامة (الحلي): الأقوى عندي ان العلة إذا كانت منصوصة وعلم بوجودها في الفرع كان حجة. واحتج في :(النهاية) لذلك : بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها ، فإذا نص على العلة عرفنا انها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأين وجدت وجب وجود المعلول . 14
وقال السيد ابو القاسم الخوئي في :(التنقيح / الاجتهاد والتقليد): · ان الأصل في تعريف الاجتهاد : · بانه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي هم العامة ، حيث عرفوه بذلك لذهابهم آلي اعتبار الظن في الأحكام الشرعية ، ومن هذا آخذوه في تعريف الاجتهاد ، ووافقهم عليه أصحابنا مع عدم ملائمته لما هو المقرر عندهم من عدم الاعتبار بالظن في شيء . 15
وفسر الخوئي الاجتهاد بأنه : · تحصيل الحجة على الحكم الشرعي وقال: · ان هذا التعريف يمكن ان تقع به المصالحة بين الإخباريين والاصوليين ، وذلك لأن الفريقين يعترفان بلزوم تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية ، ولا استيحاش للاخباريين عن الاجتهاد بهذا المعنى ، وانما انكروا الاجتهاد المفسر باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي ، والحق معهم : لأن الاجتهاد بذلك المعنى بدعة ولا يجوز العمل على طبقه ، إذ لا عبرة بالظن في الشريعة المقدسة . 16(1/9)
وبناء على ذلك كان السيد الخوئي يرى : ان الخلاف بين المدرستين لفظي ، وان الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي - كما يراه المحثدثون - بدعة وضلال ، إلا ان الأصوليين لا يريدون إثباته وتجويزه ولا يدعون وجوبه ولا جوازه بوجه . 17
مع ان الحقيقة هي وجود الاختلاف بين الطرفين في مدى الاجتهاد واعتماده على الأصول والقواعد المرفوضة من قبل الإخباريين وخاصة القياس .
وقد قام الأمام الخميني في أواخر أيام حياته بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه ، وسمح للحاكم الإسلامي باستخدام صلاحياته المطلقة ، والاجتهاد حتى في مقابل النص ، إذا رأى مصلحة في ذلك . وقال في رسالة له آلي رئيس الجمهورية الإيرانية السيد علي الخامنائي :· ان الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة ، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج ... ولو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب ان تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة آلي نبي الإسلام (ص) وان تصبح دون معنى ...
وان باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة ، وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع ان يعالجه بدون التخريب.
وتستطيع الحكومة ان تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام .
وتستطيع ان تقف امام اي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام ، مادام كذلك.
ان الحكومة تستطيع ان تمنع مؤقتا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك ان تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية . 18(1/10)
وقد بنى الأمام الخميني نظريته الواسعة جدا في الاجتهاد على أتساس المصلحة العامة التي يقررها الحاكم الإسلامي ، باعتبار ان الحكومة والولاية من أهم أركان الدين ، وان لها الأولوية على الأحكام الفرعية كالصلاة والصوم والحج فضلا عن حرمة المساجد والبيوت أو احترام آراء الناس والاتفاقيات الشرعية المعقودة معهم . وقد خطى بذلك أوسع خطوة يمكن ان يبلغها الاجتهاد ، وذلك اعتمادا على روح الشريعة الإسلامية وإيقاف العمل بالنصوص والأحكام الإلهية إذا تعارضت مع المصلحة العامة في تقدير الحاكم الإسلامي.
وبغض النظر عن القبول بهذا المدى الواسع من الاجتهاد في مقابل النص ، أو رفضه ، فانه يشكل اختلافا جوهريا عن رأي الإخباريين ، أو الاماميين القدماء الذين كانوا يحصرون العمل التشريعي بمصادر العلم الإلهي : اي الأئمة المعصومين ، ولا يجيزون التعدي عن الروايات الواردة عنهم .
نظرية اللطف في الاجتهاد
وقد كان فتح باب الاجتهاد يحمل في طياته شبهة استغناء الأمة عن الحاجة آلي الأمام المعصوم العالم بالعلم الإلهي ، وهنا كان لا بد للسيد المرتضى ان يجمع بين الاثنين بإبداع نظرية (اللطف) التي تعني اشراف ( الأمام المهدي الغائب ) من وراء ستار على العمليات الاجتهادية في (عصر الغيبة) وتسديد الشيعة وتصحيح آرائهم ، ومنعهم من الإجماع على الخطأ ، والمبادرة آلي تبيان الرأي السليم لهم بصورة سرية ودون ان يكشف الأمام عن هويته ، ولذلك فقد اهتم السيد المرتضى في (الذريعة آلي أصول الشيعة) بآراء الفقهاء المجهولين في مناقضة الإجماع الشيعي (19) ولم يلتفت آلي مخالفة العلماء معروفي النسب ، لاحتمال كون واحد من المجهولين (الأمام المهدي) ، وكذلك فعل الشيخ الطوسي في :(عدة الأصول) لدى الحديث عن نظرية اللطف في مبحث الإجماع . 20(1/11)
و يعبر الشيخ الكراجكي ، المعاصر للطوسي ، عن تردد واضح وعدم ثقة كاملة بعملية الاجتهاد ، وذلك خوف الجهل والتزوير ، وهو ذات السبب الذي دفع متكلمي الامامية آلي اشتراط العلم الإلهي والعصمة في الأمام ، ولكنه حل هذه المشكلة المستعصية بنظرية اللطف ، حيث اطمأن آلي وجود الأمام المعصوم المراقب و المسدد ، وقال في :(كنز العرفان):· .. كثيرا ما يقول المخالفون عند سماعهم منا هذا الكلام : إذا كنتم قد وجدتم السبيل آلي علم ما تحتاجونه من الفتاوى في الأحكام المحفوظة عن الأئمة المتقدمين فقد استغنيتم بذلك عن امام الزمان . وهذا قول غير صحيح ، لأن هذه الآثار موجودة مع من لا يستحيل منه الغلط والنسيان ، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان ، واذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلا بوجود معصوم يكون من ورائهم شاهد لأحوالهم عالم بأخبارهم ان غلطوا هداهم أو نسوا ذكّرهم ، فلو انصرفوا عن النقل وضلوا عن الحق لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ، ومنع منه آلي ان يبين الحق ويثبت الحجة على الخلق . 21(1/12)
ولكن العلماء المتأخرين لم يعبئوا بنظرية ( اللطف ) حيث لم يجدوا لها مصداقا واحدا طوال اكثر من الف عام ، وتغيرت بناء على ذلك نظرتهم آلي (الإجماع) بعد ان كان يشتمل على حضور المعصوم ، حسب نظرية اللطف . وقد رفض الشيخ يوسف البحراني اعتبار الإجماع لعدم ثبوت نظرية اللطف ، وقال في :( الحدائق الناضرة) :· واما الإجماع عندنا فهو بانضمام المعصوم ... على ان تحقق هذا الإجماع في زمن الغيبة متعذر لتعذر ظهوره (ع) ( يقصد الأمام المهدي) وعسر ضبط العلماء على وجه يتحقق دخول قوله في جملة اقوالهم ... ودونه خرط القتاد. وما يقال من انه إذا وقع إجماع الرعية على الباطل يجب على الأمام ان يظهر ويباحثهم حتى يردهم آلي الحق لئلا يضل الناس ، أو انه يجوز ان تكون هذه الأقوال المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها قولا للامام (عليه السلام) ألقاه بين أقوال العلماء حتى لا يجمعوا على خطأ ، كما ذهب اليه بعض المتأخرين ، حتى انه (قدس سره) - المصنف - كان يذهب آلي اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل لذلك ، فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وعلى هذا فليس في عد الإجماع في الأدلة إلا مجرد تكثير العدد واطالة الطريق . 22
وينقل الشيخ الطوسي في :(عدة الأصول) ان السيد المرتضى تراجع في أواخر ايامه عن نظرية اللطف ، ولم يوجب ظهور الأمام المهدي لتصحيح إجماع الطائفة إذا كان باطلا . 23(1/13)
على اي حال فقد كان فتح باب الاجتهاد خطوة كبيرة للخروج من الازمة ، وملأ الفراغ التشريعي الذي حدث للشيعة الامامية بعد وفاة الأمام الحسن العسكري وغيبة أو افتقاد الأمام الثاني عشر ، وذلك في ظل القول بحصر العمل التشريعي بالأئمة المعصومين الذين يرتبطون بمصادر العلم الإلهي الحقيقي ، وعدم جواز اللجوء آلي الطرق الظنية والإمارات كالقياس والاجتهاد وما شابه ، لمعرفة الأحكام الشرعية . وقد أدى فتح باب الاجتهاد بالشيعة آلي التحرر من نظرية (التقية والانتظار) و إعادة النظر في كثير من أبواب الفقه المعطلة بسبب نظرية (الغيبة) ، و ملاحقة التطورات والإجابة على المسائل الحادثة ، كما أدى آلي حدوث تطورات جذرية في الفكر الامامي والتخلي عن اشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الأمام ، والقول بجواز الحكومة لغير المعصوم أو وجوبها ، واستنباط نظرية (ولاية الفقيه) وغيرها من النظريات التي أعادت الشيعة آلي مسرح الحياة .(1/14)
مناقشة النظرية المهدوية (الاثني عشرية)
( الإمام محمد بن الحسن العسكري)
حقيقة تاريخية ؟.. أم فرضية فلسفية ؟..
كانت النظرية ( المهدوية الاثناعشرية ) نظرية مركبة من الأيمان بوجود الإمام الثاني عشر : ( محمد بن الحسن العسكري) و انه :( المهدي المنتظر ) . وهي تعترف بعدم إعلان الإمام الحسن العسكري لوجود ولدٍ له في الظاهر ، وتدعي انه أخفاه في السر خوفاً عليه من السلطات العباسية، التي تقول : أنها كانت تعلم مسبقاً بأنه المهدي المنتظر الذي سوف يزلزل عروشها ، وأنها كانت تبحث عنه لتقضي عليه وهو في المهد .
ولكن الدراسة التاريخية المتعمقة لقصة نشوء هذه النظرية تكشف عن وجود فاصل زمني طويل بين جزئي النظرية ، حيث كانت في البداية تتركز أساساً حول وجود ولد للإمام العسكري ، يرثه في الإمامة ، ثم تحولت بعد ذلك إلى القول أنه المهدي المنتظر الغائب . ووجدت في (غيبة المهدي ) تفسيرا لعدم اعلان أبيه عن ولادته ، وعدم ظهوره بعد ذلك .
ولكي نتأكد من حقيقة هذه النظرية التي لعبت دورا كبيرا في التاريخ الإسلامي ، وفي صياغة الفكر السياسي الشيعي الامامي الاثني عشري ، لا بد إن نفكك اجزاء هذه النظرية وندرسها على حدة ، وبدقة وموضوعية . ولا بد إن نرى أولا : هل كانت النظرية المهدوية الشيعية قبل منتصف القرن الثالث الهجري ، واضحة ومعروفة ومحددة بشخص (الإمام الثاني عشر : محمد بن الحسن العسكري)؟ أم كانت غامضة وعامة وفكرة مجردة ؟(1/1)
محمد بن الحسن العسكري
حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟
كانت النظرية ( المهدوية الاثناعشرية ) نظرية مركبة من الأيمان بوجود الإمام الثاني عشر : ( محمد بن الحسن العسكري) و انه :( المهدي المنتظر ) . وهي تعترف بعدم إعلان الإمام الحسن العسكري لوجود ولدٍ له في الظاهر ، وتدعي انه أخفاه في السر خوفاً عليه من السلطات العباسية، التي تقول : أنها كانت تعلم مسبقاً بأنه المهدي المنتظر الذي سوف يزلزل عروشها ، وأنها كانت تبحث عنه لتقضي عليه وهو في المهد .
ولكن الدراسة التاريخية المتعمقة لقصة نشوء هذه النظرية تكشف عن وجود فاصل زمني طويل بين جزئي النظرية ، حيث كانت في البداية تتركز أساساً حول وجود ولد للإمام العسكري ، يرثه في الإمامة ، ثم تحولت بعد ذلك إلى القول أنه المهدي المنتظر الغائب . ووجدت في (غيبة المهدي ) تفسيرا لعدم اعلان أبيه عن ولادته ، وعدم ظهوره بعد ذلك .
ولكي نتأكد من حقيقة هذه النظرية التي لعبت دورا كبيرا في التاريخ الإسلامي ، وفي صياغة الفكر السياسي الشيعي الامامي الاثني عشري ، لا بد إن نفكك اجزاء هذه النظرية وندرسها على حدة ، وبدقة وموضوعية . ولا بد إن نرى أولا : هل كانت النظرية المهدوية الشيعية قبل منتصف القرن الثالث الهجري ، واضحة ومعروفة ومحددة بشخص (الإمام الثاني عشر : محمد بن الحسن العسكري)؟ أم كانت غامضة وعامة وفكرة مجردة ؟
المطلب الأول:
غموض هوية المهدي عند أهل البيت (ع)(1/1)
إن تاريخ أئمة أهل البيت (ع) و رواياتهم التي يحتفظ بها التراث الشيعي الامامي تؤكد غموض هوية الإمام المهدي وعدم التصريح باسمه أو زمان خروجه ، ليس بسبب الخوف عليه ، وانما بسبب عدم تحديده من قبل ، لأن فكرة (المهدوية) كانت اسما عاما وأملا يحلق فوق رأس كل واحد منهم ، وقد بزغ هذا الأمل مع تولي الإمام علي للخلافة ، واشتد بعد مقتل الإمام الحسين بن علي في كربلاء ، حيث أخذ كثير من الشيعة يعد العدة للثأر والانتقام ويعمل من اجل إسقاط النظام الأموي ، والخروج المسلح ، ويلتف حول هذا الإمام أو ذاك من أئمة أهل البيت ، ويطلق عليه صفة المهدوية ، فيقوم وينجح أو يدركه الموت قبل إن يخرج ، فيقول البعض : انه اختفى وغاب وسوف يظهر في المستقبل .
ولو كانت هوية المهدي قد حددت من قبل منذ زمان رسول الله (ص) واجمع الشيعة عليها ، لما ذهبوا يمينا وشمالا ، واحتاروا وتساءلوا من الأئمة عن هوية المهدي .
يقول الإمام محمد بن علي الباقر مخاطبا الشيعة:· لا تزالون تمدون أعناقكم إلى الرجل منا تقولون :هذا هو ، فيذهب إلى ربه حتى يبعث الله لهذا الامر من لا تدرون ولد ؟ أم لم يولد؟ خلق؟ أم لم يخلق؟ . 1
ويقول الكليني : إن الحكم بن أبى نعيم جاء إلى الإمام الباقر في المدينة فقال له:
- عليّ نذر بين الركن والمقام إن انا لقيتك أن لا اخرج من المدينة حتى اعلم انك قائم آل محمد أم لا ؟ فقال له الإمام الباقر:
- ياحكم ..كلنا قائم بأمر الله .
ولكن الحكم لم يرتضِ هذا الجواب العام فسأله بالتحديد:
- فأنت المهدي؟ فاجابه الباقر جوابا عاما أيضا:
- كلنا نهدي إلى الله ، وعاد الحكم ليسأل بتحديد ووضوح:
- فأنت صاحب السيف ، وأجابه الإمام للمرة الثالثة بغموض:
كلنا صاحب السيف ووارث السيف ، فسأل الحكم بوضوح تام:
- فأنت الذي تقتل أعداء الله؟ فقال الإمام الباقر:(1/2)
- يا حكم .. كيف اكون انا وقد بلغت خمسا واربعين سنة؟! وان صاحب هذا الامر اقرب عهدا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة. 2
ويقول الكليني والنعماني : إن الإمام الصادق كان يرفض تحديد هوية المهدي ، وان ابا حمزة - أحد أصحابه - سأله مرة:
- أنت صاحب هذا الامر ؟ فقال : لا ، فقال: فولدك؟ .. قال :لا ، قال: فولد ولدك هو؟ فقال : لا ، فقال: فولد ولد ولدك ؟ فقال: لا ، قال: من هو؟ قال : الذي يملأها عدلا كما ملئت ظلما وجورا على فترة من الأئمة كما إن رسول الله (ص) بعث على فترة من الرسل . 3
يؤيد ذلك إن الإمام الصادق عندما اقنع الشاعر السيد الحميري الذي كان يعتقد بمهدوية محمد بن الحنفية ، بوفاته ، لم يقل له من هو الإمام المهدي بالتحديد ، وقد انشد الحميري أبياتا من الشعر سجل فيها تحوله عن القول بمهدوية ابن الحنفية ، ولكنه لم يشر إلى هوية المهدي ، حيث قال:
وما كان قولي في ابن خولة مطنباً معاندة مني لنسل المطيب
ولكن روينا عن وصي محمد وما كان فيما قال بالمكذب
بأن ولي الأمر يفقد لا يرى ستيرا كفعل الخائف المترقب
فتقسم أموال الفقيد كأنما تغيبه بين الصفيح المنصب
فلما روى : إن ابن خولة غائب صرفنا إليه قولنا لم نكذب
وقلنا هو المهدي والقائم الذي يعيش به من عدله كل مجدب
فان قلت لا فالحق قولك والذي أمرت ، فحتم غير ما متعصب
واشهد ربي إن قولك حجة على الناس طرا من مطيع ومذنب
فان ولي الأمر والقائم الذي تطلع نفسي نحوه بتطرب
له غيبة لا بد من إن يغيبها فصلى عليه الله من متغيب
فيمكث حينا ثم يظهر حينه فيملك من في شرقها والمغرب
بذاك أدين الله سرا وجهرة ولست وان عوتبت فيه بمعتب(1/3)
ومع إن الإمام الصادق في الرواية السابقة لم يكن ينفي فكرة القيام عن نفسه ولم يؤكدها ، فان الصدوق يروي عن ابن أبى يعفور انه سمع الصادق يقول:( ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب ) ، ويروي أيضا عن سدير عن أبى عبد الله انه قال:( يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار ، فإذا بلغك إن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك . 4
مما يوحي إن الإمام الصادق كان يحدث أصحابه بقرب قيامه. ولكن محمد بن الحسن الصفار يروي في :(بصائر الدرجات) عن أبى بصير انه جاء يوما إلى أبى عبد الله وقال له:
- جعلت فداك ، آني اريد إن المس صدرك ( وكان أبو بصير أعمى) فقال له:
- افعل ، قال: فمسست صدره ومناكبه ، فقال:
- و لِمَ يا أبا محمد ؟ فقال أبو بصير:
- جعلت فداك .. آني سمعت أباك وهو يقول: إن القائم واسع الصدر مسترسل المنكبين عريض ما بينهما ، فقال الإمام الصادق:
- يا أبا محمد .. إن أبى لبس درع رسول الله (ص) وكانت تستخب على الأرض ، وانا لبستها فكانت وكانت .. وأنها تكون من القائم كما كانت من رسول الله مشمرة كأنه ترفع نطاقها بحلقتين ، وليس صاحب هذا الأمر من جاز أربعين. 5
و يروي الطوسي في :(الغيبة) حوارا جرى بين الإمام الصادق وابي بصير الذي سأله: (ألهذا الأمر أمد نريح إليه أبداننا وننتهي إليه؟ ) فقال له الإمام:( بلى.. ولكنكم أذعتم فزاد الله فيه) ويروي رواية أخرى اكثر صراحة يقول فيها الإمام الصادق :(كان هذا الأمر فيّ فأخره الله ، ويفعل بعد في ذريتي ما يشاء) . 6
مما يكشف إن أمل المهدوية كان معلقا على الإمام الصادق في عصره ، ولذلك عندما توفي ولم تتوفر له الظروف لتحقيق الأمل المطلوب والكامن في قلوب الشيعة ، رفض بعض أصحابه ، ومنهم خاصته ، إن يصدق نبأ وفاته ، وأصرّ على أنه قد غاب وسيظهر عما قريب ، وقال : انه المهدي المنتظر ، وكان على رأس هؤلاء زعيم الشيعة في البصرة : عبد الله بن ناووس .(1/4)
الأمل بمهدوية الكاظم
ومع اشتداد الضغط السياسي العباسي على الإمام موسى بن جعفر الكاظم ازداد أمل الشيعة الذين قالوا بإمامته ، بخروجه وقيامه ،وتفجير الثورة في وجه الحكم العباسي.. واعتقد معظم الشيعة قويا بأن موسى هو القائم المهدي ، و رووا روايات كثيرة عن الباقر والصادق في تحديد شخصه ، وربما أضافوا إليها من عند أنفسهم الشيء الكثير ، انطلاقا من شوقهم وحرصهم ومعاناتهم .
وعندما توفي الإمام الكاظم بعد خمس وثلاثين سنة من الانتظار والأمل ، لم يصدق عامة الشيعة الموسوية نبأ وفاته ، ورفضوا إلا الإصرار على القول بغيبته وحياته والتأكيد على انه المهدي المنتظر وانه سوف يخرج ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
الرضا ينفي احتمال المهدوية فيه
وقد عاد ذلك الأمل إلى الشيعة بعد حوالي عشرين عاما ، وذلك عندما دعى الخليفة العباسي المأمون عام 200 هجرية الإمام علي بن موسى الرضا إلى خرا سان ، وقلده ولاية العهد عام 201 ، وهذا ما أحيي الأمل في نفوس الشيعة ودفعهم للاعتقاد بإمكانية إن يصبح الرضا : المهدي المنتظر.
ينقل الكليني في :(الكافي ): إن ايوب بن نوح جاء إلى الإمام الرضا وقال له: ( آني أرجو إن تكون صاحب هذا الأمر.. وان يسوقه الله إليك بغير سيف ، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك ) . ولكن الإمام الرضا بدد توقعه ونفى إن يكون هو المهدي . 7
وعندما جاء الشاعر دعبل الخزاعي إلى الإمام الرضا وانشده القصيدة المعروفة : (مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات) أشار إلى المهدي بصورة غامضة وقال: (خروج أمام لا محالة خارج يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات ) ولم يسمه بالاسم .(1/5)
وان تحديد هوية ( الإمام المهدي ) بالثاني عشر من أئمة أهل البيت ، كما هو معروف لدى الشيعة الاثني عشرية اليوم ، قد حدث في وقت متأخر بعد وفاة الإمام الحسن العسكري والقول بوجود ولد له في السر ، بفترة طويلة ، أي في بداية القرن الرابع الهجري تقريبا . وذلك في أعقاب تطور نظرية (الإمامة الإلهية ) وتحولها من التسلسل اللامحدود إلى الاقتصار على (اثني عشر ) وتكون الفرقة الاثني عشرية .
وقد ذكر الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين) الذي ألفه في منتصف القرن الرابع الهجري ، مجموعة كبيرة من الروايات عن النبي الأكرم (ص) وأئمة أهل البيت (ع) ، يشير بعضها إلى القائم أو المهدي دون تحديد اسمه واسم أبيه ، ويؤكد بعضها تحديد رقمه الثاني عشر وانه ابن الحسن العسكري ، كما في الرواية التي يقول فيها: إن الإمام الرضا سأل الشاعر دعبل الخزاعي ، بعد إن القى قصيدته واشار فيها إلى المهدي بصورة غامضة ، فقال له: هل تدري من هذا الإمام ؟ ومتى يقوم؟ فقال: لا يا مولاي ، إلا آني سمعت بخروج أمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلا كما ملئت جورا . فقال له :( يا دعبل .. الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ) . 8
وهذه الروايات ضعيفة المتن والسند ، ولا تصمد أمام البحث العلمي ، وسوف نناقشها في الفصل الخاص بنقد الأدلة الروائية (النقلية) ونثبت عدم صحتها واختلاقها فيما بعد.(1/6)
غموض هوية المهدي عند أهل البيت (ع)
إن تاريخ أئمة أهل البيت (ع) و رواياتهم التي يحتفظ بها التراث الشيعي الامامي تؤكد غموض هوية الإمام المهدي وعدم التصريح باسمه أو زمان خروجه ، ليس بسبب الخوف عليه ، وانما بسبب عدم تحديده من قبل ، لأن فكرة (المهدوية) كانت اسما عاما وأملا يحلق فوق رأس كل واحد منهم ، وقد بزغ هذا الأمل مع تولي الإمام علي للخلافة ، واشتد بعد مقتل الإمام الحسين بن علي في كربلاء ، حيث أخذ كثير من الشيعة يعد العدة للثأر والانتقام ويعمل من اجل إسقاط النظام الأموي ، والخروج المسلح ، ويلتف حول هذا الإمام أو ذاك من أئمة أهل البيت ، ويطلق عليه صفة المهدوية ، فيقوم وينجح أو يدركه الموت قبل إن يخرج ، فيقول البعض : انه اختفى وغاب وسوف يظهر في المستقبل .
ولو كانت هوية المهدي قد حددت من قبل منذ زمان رسول الله (ص) واجمع الشيعة عليها ، لما ذهبوا يمينا وشمالا ، واحتاروا وتساءلوا من الأئمة عن هوية المهدي .
يقول الإمام محمد بن علي الباقر مخاطبا الشيعة:· لا تزالون تمدون أعناقكم إلى الرجل منا تقولون :هذا هو ، فيذهب إلى ربه حتى يبعث الله لهذا الامر من لا تدرون ولد ؟ أم لم يولد؟ خلق؟ أم لم يخلق؟ . 1
ويقول الكليني : إن الحكم بن أبى نعيم جاء إلى الإمام الباقر في المدينة فقال له:
- عليّ نذر بين الركن والمقام إن انا لقيتك أن لا اخرج من المدينة حتى اعلم انك قائم آل محمد أم لا ؟ فقال له الإمام الباقر:
- ياحكم ..كلنا قائم بأمر الله .
ولكن الحكم لم يرتضِ هذا الجواب العام فسأله بالتحديد:
- فأنت المهدي؟ فاجابه الباقر جوابا عاما أيضا:
- كلنا نهدي إلى الله ، وعاد الحكم ليسأل بتحديد ووضوح:
- فأنت صاحب السيف ، وأجابه الإمام للمرة الثالثة بغموض:
كلنا صاحب السيف ووارث السيف ، فسأل الحكم بوضوح تام:
- فأنت الذي تقتل أعداء الله؟ فقال الإمام الباقر:(1/1)
- يا حكم .. كيف اكون انا وقد بلغت خمسا واربعين سنة؟! وان صاحب هذا الامر اقرب عهدا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة. 2
ويقول الكليني والنعماني : إن الإمام الصادق كان يرفض تحديد هوية المهدي ، وان ابا حمزة - أحد أصحابه - سأله مرة:
- أنت صاحب هذا الامر ؟ فقال : لا ، فقال: فولدك؟ .. قال :لا ، قال: فولد ولدك هو؟ فقال : لا ، فقال: فولد ولد ولدك ؟ فقال: لا ، قال: من هو؟ قال : الذي يملأها عدلا كما ملئت ظلما وجورا على فترة من الأئمة كما إن رسول الله (ص) بعث على فترة من الرسل . 3
يؤيد ذلك إن الإمام الصادق عندما اقنع الشاعر السيد الحميري الذي كان يعتقد بمهدوية محمد بن الحنفية ، بوفاته ، لم يقل له من هو الإمام المهدي بالتحديد ، وقد انشد الحميري أبياتا من الشعر سجل فيها تحوله عن القول بمهدوية ابن الحنفية ، ولكنه لم يشر إلى هوية المهدي ، حيث قال:
وما كان قولي في ابن خولة مطنباً معاندة مني لنسل المطيب
ولكن روينا عن وصي محمد وما كان فيما قال بالمكذب
بأن ولي الأمر يفقد لا يرى ستيرا كفعل الخائف المترقب
فتقسم أموال الفقيد كأنما تغيبه بين الصفيح المنصب
فلما روى : إن ابن خولة غائب صرفنا إليه قولنا لم نكذب
وقلنا هو المهدي والقائم الذي يعيش به من عدله كل مجدب
فان قلت لا فالحق قولك والذي أمرت ، فحتم غير ما متعصب
واشهد ربي إن قولك حجة على الناس طرا من مطيع ومذنب
فان ولي الأمر والقائم الذي تطلع نفسي نحوه بتطرب
له غيبة لا بد من إن يغيبها فصلى عليه الله من متغيب
فيمكث حينا ثم يظهر حينه فيملك من في شرقها والمغرب
بذاك أدين الله سرا وجهرة ولست وان عوتبت فيه بمعتب(1/2)
ومع إن الإمام الصادق في الرواية السابقة لم يكن ينفي فكرة القيام عن نفسه ولم يؤكدها ، فان الصدوق يروي عن ابن أبى يعفور انه سمع الصادق يقول:( ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب ) ، ويروي أيضا عن سدير عن أبى عبد الله انه قال:( يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار ، فإذا بلغك إن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك . 4
مما يوحي إن الإمام الصادق كان يحدث أصحابه بقرب قيامه. ولكن محمد بن الحسن الصفار يروي في :(بصائر الدرجات) عن أبى بصير انه جاء يوما إلى أبى عبد الله وقال له:
- جعلت فداك ، آني اريد إن المس صدرك ( وكان أبو بصير أعمى) فقال له:
- افعل ، قال: فمسست صدره ومناكبه ، فقال:
- و لِمَ يا أبا محمد ؟ فقال أبو بصير:
- جعلت فداك .. آني سمعت أباك وهو يقول: إن القائم واسع الصدر مسترسل المنكبين عريض ما بينهما ، فقال الإمام الصادق:
- يا أبا محمد .. إن أبى لبس درع رسول الله (ص) وكانت تستخب على الأرض ، وانا لبستها فكانت وكانت .. وأنها تكون من القائم كما كانت من رسول الله مشمرة كأنه ترفع نطاقها بحلقتين ، وليس صاحب هذا الأمر من جاز أربعين. 5
و يروي الطوسي في :(الغيبة) حوارا جرى بين الإمام الصادق وابي بصير الذي سأله: (ألهذا الأمر أمد نريح إليه أبداننا وننتهي إليه؟ ) فقال له الإمام:( بلى.. ولكنكم أذعتم فزاد الله فيه) ويروي رواية أخرى اكثر صراحة يقول فيها الإمام الصادق :(كان هذا الأمر فيّ فأخره الله ، ويفعل بعد في ذريتي ما يشاء) . 6
مما يكشف إن أمل المهدوية كان معلقا على الإمام الصادق في عصره ، ولذلك عندما توفي ولم تتوفر له الظروف لتحقيق الأمل المطلوب والكامن في قلوب الشيعة ، رفض بعض أصحابه ، ومنهم خاصته ، إن يصدق نبأ وفاته ، وأصرّ على أنه قد غاب وسيظهر عما قريب ، وقال : انه المهدي المنتظر ، وكان على رأس هؤلاء زعيم الشيعة في البصرة : عبد الله بن ناووس .(1/3)
الأمل بمهدوية الكاظم
ومع اشتداد الضغط السياسي العباسي على الإمام موسى بن جعفر الكاظم ازداد أمل الشيعة الذين قالوا بإمامته ، بخروجه وقيامه ،وتفجير الثورة في وجه الحكم العباسي.. واعتقد معظم الشيعة قويا بأن موسى هو القائم المهدي ، و رووا روايات كثيرة عن الباقر والصادق في تحديد شخصه ، وربما أضافوا إليها من عند أنفسهم الشيء الكثير ، انطلاقا من شوقهم وحرصهم ومعاناتهم .
وعندما توفي الإمام الكاظم بعد خمس وثلاثين سنة من الانتظار والأمل ، لم يصدق عامة الشيعة الموسوية نبأ وفاته ، ورفضوا إلا الإصرار على القول بغيبته وحياته والتأكيد على انه المهدي المنتظر وانه سوف يخرج ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
الرضا ينفي احتمال المهدوية فيه
وقد عاد ذلك الأمل إلى الشيعة بعد حوالي عشرين عاما ، وذلك عندما دعى الخليفة العباسي المأمون عام 200 هجرية الإمام علي بن موسى الرضا إلى خرا سان ، وقلده ولاية العهد عام 201 ، وهذا ما أحيي الأمل في نفوس الشيعة ودفعهم للاعتقاد بإمكانية إن يصبح الرضا : المهدي المنتظر.
ينقل الكليني في :(الكافي ): إن ايوب بن نوح جاء إلى الإمام الرضا وقال له: ( آني أرجو إن تكون صاحب هذا الأمر.. وان يسوقه الله إليك بغير سيف ، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك ) . ولكن الإمام الرضا بدد توقعه ونفى إن يكون هو المهدي . 7
وعندما جاء الشاعر دعبل الخزاعي إلى الإمام الرضا وانشده القصيدة المعروفة : (مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات) أشار إلى المهدي بصورة غامضة وقال: (خروج أمام لا محالة خارج يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات ) ولم يسمه بالاسم .(1/4)
وان تحديد هوية ( الإمام المهدي ) بالثاني عشر من أئمة أهل البيت ، كما هو معروف لدى الشيعة الاثني عشرية اليوم ، قد حدث في وقت متأخر بعد وفاة الإمام الحسن العسكري والقول بوجود ولد له في السر ، بفترة طويلة ، أي في بداية القرن الرابع الهجري تقريبا . وذلك في أعقاب تطور نظرية (الإمامة الإلهية ) وتحولها من التسلسل اللامحدود إلى الاقتصار على (اثني عشر ) وتكون الفرقة الاثني عشرية .
وقد ذكر الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين) الذي ألفه في منتصف القرن الرابع الهجري ، مجموعة كبيرة من الروايات عن النبي الأكرم (ص) وأئمة أهل البيت (ع) ، يشير بعضها إلى القائم أو المهدي دون تحديد اسمه واسم أبيه ، ويؤكد بعضها تحديد رقمه الثاني عشر وانه ابن الحسن العسكري ، كما في الرواية التي يقول فيها: إن الإمام الرضا سأل الشاعر دعبل الخزاعي ، بعد إن القى قصيدته واشار فيها إلى المهدي بصورة غامضة ، فقال له: هل تدري من هذا الإمام ؟ ومتى يقوم؟ فقال: لا يا مولاي ، إلا آني سمعت بخروج أمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلا كما ملئت جورا . فقال له :( يا دعبل .. الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ) . 8
وهذه الروايات ضعيفة المتن والسند ، ولا تصمد أمام البحث العلمي ، وسوف نناقشها في الفصل الخاص بنقد الأدلة الروائية (النقلية) ونثبت عدم صحتها واختلاقها فيما بعد .(1/5)
ظاهرة المهدوية في التاريخ الإسلامي
ومما يؤكد غموض هوية المهدي عند أهل البيت ، ولدى جماهير الشيعة والمسلمين في القرون الثلاثة الأولى ، هو تكرر دعوات المهدوية هنا وهناك .. حتى جاوزت العشرات ، وحتى اصبح لكل فرقة وطائفة اكثر من مهدي واحد.. حيث تدلنا هذه الظاهرة على تماهي مصطلح (الإمام المهدي) مع معنى الثورة والحرية والعدالة وانبثاقه كرد فعل على الواقع الفاسد الذي كان يتدهور إليه المجتمع الإسلامي مرة بعد أخرى.
لقد كانت معظم قصص المهدوية في القرون الإسلامية الأولى، مرتبطة ومنبثقة من حركات سياسية ثورية تتصدى لرفع الظلم والاضطهاد وتلتف حول زعيم من الزعماء ، وعادة ما يكون إماما من أهل البيت (ع) وعندما تفشل الحركة ويموت الإمام دون إن يظهر ، أو يقتل في المعركة ، أو يختفي في ظروف غامضة.. كان أصحابه يختلفون ، فمنهم من يسلّم بالآمر الواقع ويذهب للبحث عن أمام جديد ومناسبة جديدة للثورة.. ومنهم من كان يرفض التسليم بالأمر الواقع فيرفض الاعتراف بالهزيمة ويسارع لتصديق الإشاعات التي تتحدث عن هروب الإمام الثائر واختفائه وغيبته. وعادةً ما يكون هؤلاء من بسطاء الناس الذين يعلقون آمالاً كبيرة على شخص أو يضخمون مواصفات ذلك الزعيم فيصعب عليهم التراجع ، لأنه كان يعني لديهم الانهيار والانسحاق النفسي.
مهدوية الإمام علي
كان شيعة الإمام علي بن أبى طالب (ع) الذين ثاروا على الحكم الاموي وقاتلوا في معركة الجمل وحاربوا معاوية في صفين ، واشتبكوا مع الخوارج في النهروان يأملون إن يستمر حكم الإمام العادل إلى فترة اطول ينعمون خلالها بالعدل والمساواة.. وكان أملهم في الإمام كبيرا.. ولذلك فان البعض منهم صدم بخبر اغتياله ولم يكد يصدق نبأ وفاة الإمام .(1/1)
يقول مؤرخو الشيعة كالنوبختي والاشعري القمي والكشي : إن جماعة من الشيعة رفضوا التصديق بوفاة الإمام ، وقالوا: إن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا . 9
يمكن إن نفسر هذا القول بمهدوية الإمام علي وغيبته: بالصدمة والمفاجأة والأمل الكبير.. حيث لم يتحمل اولئك النفر الذين كانوا بعيدين عن الكوفة خبر استشهاد الإمام ، بعد إن كانوا يأملون إن يحقق الإمام العدالة الكونية على الأرض ، فأدى بهم ذلك إلى تصورات بعيدة عن الواقع.
مهدوية ابن الحنفية
وبعد مجزرة كربلاء تجمع الغضب الشيعي حول قيادة محمد بن الحنفية اخي الإمام الحسين ، من اجل الثأر والانتقام لشهداء كربلاء.. وعندما توفي محمد في ظروف غامضة عام 81 ه قالت جماعة من أنصاره (الكيسانية) : انه لم يمت وانه مقيم بجبال رضوى بين مكة والمدينة ، واعتقدوا انه (الإمام المهدي المنتظر) الذي بشّر به النبي (ص) انه يملأ الأرض قسطا وعدلا .
ويفسر السيد المرتضى علم الهدى دعوى الكيسانية بمهدوية ابن الحنفية بالحيرة التي ألجأتهم إلى القول بها .
وربما كانت الحيرة قد اصابتهم نتيجة عقدهم الأمل على ابن الحنفية لكي يسترجع السلطة من ايدي الامويين ، وقد أصيبوا بالخيبة بعد موته قبل تحقيق الهدف المنشود ، فاضطر أتباعه من الشيعة الكيسانية إلى اختراع القول بمهديته واستمرار حياته وغيبته في محاولة منهم للمحافظة على الأمل متقداً في صدورهم ، خاصة وان الشيعة يوماك لم يكونوا يعرفون شخصية معينة محددة من قبل على أنها (المهدي المنتظر) .
مهدوية أبى هاشم(1/2)
وقد تراجع هذا القول بمهدوية ابن الحنفية عندما برز أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، كقائد جديد للشيعة في نهاية القرن الأول الهجري ، وتعلق الأمل الكبير به لتحقيق ما عجز أبوه عن تحقيقه.. وتكررت الأزمة من جديد عندما توفي أبو هاشم دون إن يظهر.. وهذا ما أدى إلى اعتقاد قسم من شيعته باختبائه وغيبته والقول انه (المهدي المنتظر) وانه حي لم يمت .
أما الذين اعترفوا بوفاة أبى هاشم فقد حافظوا على الأمل في نفوسهم أيضا وذلك بانتظار قيام أحد أبناء محمد بن الحنفية في المستقبل ، ولم يحددوا شخصا معينا.
مهدوية الطيار
سرعان ما التف الشيعة الذين كانوا يشكلون المعارضة الرئيسية للحكم الاموي حول قائد جديد من أبناء أهل البيت هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار ، الذي نجح في إقامة دولة شيعية في اصفهان في أواخر العهد الاموي ، ولكنه انهزم بعد ذلك وقتل في ظروف غامضة.. ولم يتحمل بعض الشيعة نبأ انهيار الدولة الشيعية ، فقالوا إن الطيار حي لم يمت وانه مقيم في جبال اصفهان لا يموت أبدا حتى يقود نواصيها إلى رجل من بني هاشم من ولد علي وفاطمة.
انحصار المهدوية في البيت الفاطمي(1/3)
لم تكن النظرية المهدوية عند الشيعة قبل هذه الحركة محصورة في البيت الفاطمي ، حيث كان (الكيسانية) - الذين يمثلون مرحلة تاريخية من تطور الشيعة - يحصرونها في البيت العلوي ويجيزونها في محمد بن الحنفية وأولاده ، أو يحصرونها فيهم ، ثم امتدت إلى خارج البيت العلوي ، إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار ، ثم تطورت لتنحصر في البيت الفاطمي من أبناء الحسن والحسين.. ولم تكن محصورة في ذلك الوقت في أي واحد من البيتين . لذلك اعتقد قسم من الشيعة بمهدوية زيد بن علي ، كما اعتقد قسم آخر بمهدوية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (ذي النفس الزكية) ، وإذا كان زيد قد قتل بسرعة ..فان أتباعه انظموا إلى النفس الزكية . وكان عبد الله بن الحسن أبوه قد سمّى ابنه (محمدا) وتنبأ عند ولادته بأن يكون (المهدي الموعود) الذي بشّر به النبي وقال عنه إن:(اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ) حسبما كان مشهورا في تلك الفترة.
مهدوية ذي النفس الزكية
كان (النفس الزكية) يأمل إن يثور ضد الحكم الاموي حيث بايعه في الابواء بنو هاشم ، وكان فيهم ابراهيم الإمام والسفاح والمنصور ، ولكن سرعان ما قامت الدولة العباسية فانتفض عليه من بايعه والتف حوله قسم من الشيعة فخرج في المدينة سنة 145 وسيطر على مكة واليمن ، وقتل بعد شهور . وهنا اصيب قسم من شيعته بالصدمة ولم يتحملوا نبأ الهزيمة ولم يصدقوا بمقتل (المهدي ) الذي كانوا ينتظرون خروجه منذ فترة طويلة ، فقالوا: انه حي لم يمت ولم يقتل وانه مقيم بجبل العلمية - بين مكة ونجد - حتى يخرج . وتشبثوا بالحديث النبوي الذي يقول:(القائم اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ).
و لما لم تكن هناك أحاديث صريحة ومحددة ومعروفة توضح هوية المهدي ، فقد طبّق أتباع النفس الزكية أحاديث المهدوية عليه وتأوّلوا الأحاديث الواردة به ، وربما اختلقوا بعض الروايات أو نسبوها إلى النبي لتعزيز نظريتهم وتأييد زعيمهم المنتظر.(1/4)
مهدوية الباقر
وتقول بعض الروايات: إن قسما من الشيعة اعتقد بمهدوية الإمام محمد بن علي الباقر (ع) اعتمادا على رواية تقول : إن النبي (ص) قال لجابر بن عبد الله الانصاري: (انك تلقاه فاقرأه مني السلام) .
ويقول الكليني في :(الكافي): إن الإمام الباقر كان يسرّ إلى اصحابه بقرب القيام والخروج ويوصيهم بالكتمان ، وان بعضهم قد ترك أعماله انتظارا لساعة الصفر .
مهدوية الصادق
وبعد وفاة الإمام الباقر وهزيمة محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية وانتصار العباسيين ، وتألق الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) شاعت روايات كثيرة حول مهدويته (18) وينقل النوبختي : إن بعض الشيعة روى عن الإمام الصادق انه قال :( إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه فاني انا صاحبكم) وانه قال:( إن جاءكم من يخبركم عني انه مرضني وغسلني وكفنني فلا تصدقوه فاني انا صاحبكم صاحب السيف).
من هنا رفض قسم من شيعة الإمام الصادق الاعتراف بموته وقالوا:( انه المهدي المنتظر وانه حي لم يمت ) وعرفت هذه الفرقة ب :(الناووسية) نسبة إلى عجلان بن ناووس (20) وكان منهم أبان بن عثمان الاحمر الذي يعده الكشي من (أصحاب الإجماع) أي من اقرب المقربين إلى الإمام الصادق .
مهدوية إسماعيل(1/5)
من هذا يبدو إن النظريات المهدوية المختلفة كانت تولد مع الزمن وفي الظروف المختلفة.. وكانت اقرب إلى الأمل منها والرجاء إلى الاستناد إلى أحاديث قاطعة وصريحة ، وكان القول ب :(الغيبة) يبرز عند وفاة الإمام المنتظر دون إن يظهر .. ولم يكن الشيعة يجمعون دائما وابدا ومنذ البداية على مهدوية أمام معين من قبل.. ففي الوقت الذي كان بعضهم يؤمن بمهدوية الإمام الصادق كان البعض الآخر يذهب ليعلق الأمل على مهدوية ابنه إسماعيل ، وعندما توفي إسماعيل في حياة أبيه الإمام الصادق رفض اصحابه التسليم بوفاته واخترعوا القول بغيبته وفسروا تشييع الإمام له ودفنه أمام أعين الناس بأنه مسرحية تستهدف التغطية على هروب إسماعيل واختفائه والإعداد لظهوره في المستقبل !.
ومن المعروف إن الشيعة اختلفوا بعد وفاة الإمام الصادق إلى ست فرق ، فذهب الإسماعيلية إلى القول بحياة إسماعيل وإمامته ومهدويته وغيبته ، ثم قال فريق منهم بعد إن يئسوا منه بمهدوية ابنه محمد .. ثم نقلوا المهدوية في أبناء إسماعيل إلى إن ظهر واحد منهم في نهاية القرن الثالث واقام الدولة الفاطمية في شمال افريقيا.
مهدوية الديباج
وادعى محمد بن جعفر الصادق (الديباج) الذي خرج في مكة عام 200 انه المهدي المنتظر ، واعلن نفسه خليفة للمسلمين واخذ البيعة وتسمى بأميرالمؤمنين.
إذن.. نستطيع إن نقول إن النظرية المهدوية كانت تعني الثورة والقيام والخروج ولم تكن محددة في شخص معين.. وان نظرية الغيبة كانت تبرز عندما يفشل أي أمام منتظر أو يموت دون تحقيق اهدافه.
مهدوية محمد بن عبد الله ألا فطح(1/6)
الحالة الاستثنائية الوحيدة التي نجدها خلاف تلك القاعدة في ذلك الوقت هي نظرية :( مهدوية محمد بن عبد الله بن جعفر الصادق ) .. وهذا الشخص لم يولد أساسا ولم يكن له وجود ، وقد اختلق بعض الشيعة الفطحية قصة وجوده في السر بعد وفاة أبيه عبد الله ألا فطح الذي آمن أولئك الشيعة انه الإمام بعد أبيه الصادق ، أصيبوا بأزمة عندما توفي ألا فطح دون عقب يرثه في الإمامة ، وكانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب العقاب الأعقاب ، أي بتوارثها بصورة عمودية ، ولذا لم يستطيعوا بسبب هذه الأزمة الفكرية إن ينتقلوا إلى القول بإمامة اخي عبد الله : موسى بن جعفر ، فاخترعوا قصة وجود ولد له في السر! ، وقالوا : إن اسمه يطابق الحديث النبوي المشهور :(اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى) .
ولا يستبعد إن يكون بعض المصلحيين والمنافقين من أصحاب الأئمة قد اخترع هذه القصة الوهمية (أسطورة المهدي المنتظر محمد بن عبد الله بن الصادق) لكي يتاجر بها ويدعي الوكالة له ويقبض الأموال باسمه ، حيث كان يروّج الإشاعات عن وجود ذلك المهدي الموهوم في اليمن ، وانه سوف يظهر ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد إن تملأ ظلما وجورا.
مهدوية الكاظم(1/7)
ومع انقلاب الدولة العباسية على أهدافها الإصلاحية وانتشار الظلم والفساد كان من الطبيعي إن يلتف المعارضون لها حول شخصية عظيمة من زعماء أهل البيت هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الذي كان رمز التقوى والعلم والعبادة.. وان يعظم الأمل بخروجه وقيامه.. وهكذا فقد انتشرت روايات جدا حول مهدوية الإمام الكاظم وانه (قائم آل محمد) .. وراح البعض من الشيعة ينقل روايات عن الصادق :( إن من المحتوم إن ابني هذا قائم هذه الأمة وصاحب السيف) ( وان موسى هو القائم وهذا حتم من الله) ( وان يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدقوا فانه القائم) ( وان القائم اسمه حديدة الحلاق) ( وكأني بالراية السوداء صاحبة الرقعة الخضراء تخفق فوق رأس هذا الجالس ) وما إلى ذلك من الروايات التي فاقت حد (التواتر)!
وعندما اعتقل الرشيد الإمام الكاظم احتسب معظم الشيعة الموسوية ذلك غيبة أولي أو صغرى ، ولما قتله ورمى بجسده الطاهر على الجسر ببغداد رفضوا التصديق بذلك وقالوا أنها مسرحية عباسية وقالوا: إن الإمام الكاظم قد غاب غيبته الثانية وهرب من السجن وانه حي لم يمت ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلها عدلا كما ملئت جورا وانه القائم المهدي. 25
وقد قال معظم أولاد الإمام بذلك ، وكذلك معظم اصحابه المقربين كالمفضل بن عمر وداود الرقي وضريس الكناني وابوبصير واعين بن عبدالرحمن بن اعين وحديد الساباطي والحسن بن قياما الصيرفي وكتب علي بن أبى حمزة كتابا حول (الغيبة) كما كتب علي بن عمر الأعرج كتابا حول ذلك أيضا.
وقد عُرف أولئك الشيعة بالواقفية ، أي الذين وقفوا على الإمام الكاظم ورفضوا الأيمان بابنه علي بن موسى الرضا . و تردد داود الرقي في الاعتراف بإمامة الرضا بناء على تلك الروايات (المتواترة) التي تحدد المهدوية بالكاظم وتقول :(إن سابعنا قائمنا) فقال له الإمام الرضا: إن الأمل بقيام الكاظم كان معلقا على مشيئة الله ولم يكن من المحتوم .(1/8)
و ظل الواقفية يؤمنون بمهدوية وغيبة الإمام الكاظم إلى وقت طويل .. ولكنهم تقلصوا شيئا فشيئا حتى ماتت النظرية وانقرضوا ، خاصة عندما أكد الإمام الرضا وفاة أبيه وقال لهم: · إن الحجة لله على خلقه لا تقوم إلا بإمام حي يعرف..سبحان الله!.. مات رسول الله ولم يمت موسى بن جعفر؟! بلى والله لقد مات وقُسمت أمواله ونكحت جواريه واتهم من قال بعدم وفاته بالكذب وقال:· انهم كفار بما انزل الله عز وجل على محمد (ص) ولو كان الله يمدّ في اجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمدّ الله في اجل رسول الله (ص) .
مهدوية محمد بن القاسم
وفي مطلع القرن الثالث الهجري في سنة 219 وفي أيام خلافة المعتصم ، حدثت ثورة علوية في الطالقان بقيادة محمد بن القاسم ، ولكن المعتصم هزمه واعتقله وحمله إلى بغداد فحبسه في قصره ، ولكن الثائر العلوي استطاع الهرب . واختلف الناس في أمره ، وقال بعضهم: مات أو هرب ، وقال بعض الشيعة : انه حي وانه سيخرج وانه مهدي هذه الأمة .
مهدوية يحيى بن عمر
وخرج أمام علوي آخر هو يحيى بن عمر ، في الكوفة أيام المستعين ، فوجه إليه الحسين بن إسماعيل فقتله ، إلا إن بعض أصحابه رفض الاعتراف بالهزيمة وقال انه لم يقتل وانما اختفى وغاب وانه المهدي القائم وسوف يخرج مرة أخرى.
مهدوية محمد بن علي الهادي والعسكري
واختلف الشيعة الإمامة في منتصف القرن الثالث الهجري في هوية الإمام المهدي المنتظر فقال قسم منهم : بأنه محمد بن علي الهادي ، الذي توفي فجأة في الدجيل ، وقالوا بغيبته كغيبة إسماعيل بن جعفر ، ورفضوا التصديق بوفاته.. وذهب قسم آخر إلى القول بمهدوية الإمام الحسن العسكري ، بينما قال قسم ثالث بوجود ومهدوية ولد له في السر هو الإمام (محمد بن الحسن العسكري) .. وقال آخرون : انه غير محدد وانه سوف يكون واحدا من أهل البيت لا على التعيين وانه سوف يولد ويظهر في المستقبل .
مهدوية القائم المجهول(1/9)
واخيرا يذكر المؤرخان الشيعيان المعاصران لوفاة الإمام العسكري: إن فرقة من أتباع الإمام قالت: ( إن الحسن بن علي قد مات وصح موته ، وانقطعت الإمامة إلى وقت يبعث الله فيه قائما من آل محمد ممن قد مضى ، إن شاء بعث الحسن بن علي وان شاء بعث غيره من آبائه . ولا بد من ذلك .. لأن قيام القائم وخروج المهدي حتم من الله ، وبذلك وردت الأخبار وصحت الآثار واجمع عليه الأمة فلا يجوز بطلان ذلك ، ولأن وفاة الحسن بن علي قد صحت وصح أنه لا خلف له ، فقد انقطعت الإمامة ولا عقب له ، وإذ لا يجوز إلا إن يكون في الأعقاب ، ولا يجوز إن ينصرف إلى عم ولا ابن عم ولا أخ بعد الحسن والحسين ، فهي :(الإمامة) منقطعة إلى القائم منهم ، فإذا ظهر وقام اتصلت إلى قيام الساعة.
كل ذلك التعدد والتنوع في الحركات المهدوية يعبر عن غموض مفهوم (الإمام المهدي) واحتمال كونه أي واحد من أئمة أهل البيت ، وهو من يقوم بالسيف ويخرج ويقيم دولة الحق.. وقد كانت كل فرقة شيعية تعتقد انه من هذا البيت الهاشمي أو ذاك البيت العلوي أو الفاطمي أو الحسني أو الحسيني أو الموسوي.. وانه هذا أو ذاك .. ولو كانت هوية المهدي قد حددت من قبل ، منذ زمان رسول الله (ص) أو الأئمة الأحد عشر السابقين لما اختلف المسلمون ولا الشيعة ولا الإمامة ولا شيعة الإمام الحسن العسكري في تحديد هوية المهدي ، ولما اعتقد بعضهم بكونه :(الإمام الحسن العسكري) نفسه .
نستنتج من كل ذلك : إن هوية المهدي كانت غامضة وغير محددة في حياة أهل البيت ، وان القول بأنه (ابن الحسن العسكري) نشأ بعد افتراض وجوده في السر ، وفي محاولة لتفسير (غيبته) عن الأنظار وعدم إعلان أبيه عن ولادته ، باعتبار (الغيبة) صفة من صفات (المهدي).(1/10)
الجزء الأول
نظرية الامامة الالهية لأهل البيت
الفصل الاول
الشورى نظرية أهل البيت
كانت الامة الاسلامية في عهد الرسول الاعظم (ص) وبعد وفاته وخلال العقود الاولى من تاريخها تؤمن بنظام الشورى وحق الامة في اختيار ولاتها وكان اهل البيت في طليعة المدافعين عن هذا الايمان ، والعاملين به ، وعندما اصيبت الامة بتسلط الحكام الامويين بالقوة ، وتداولهم للسلطة بالوراثة ، وإلغائهم لنظام الشورى ، تأثر بعض الشيعة الموالين لأهل البيت بما حدث فقالوا رداً على ذلك بأحقية اهل البيت بالخلافة من الامويين ، وضرورة تداولها في اعقابهم . ولكن هذه النظرية لم تكن نظرية اهل البيت انفسهم ولا نظرية الشيعة في القرن الاول الهجري.
وبالرغم مما يذكر الاماميون من نصوص حول تعيين النبي (ص) للامام علي بن ابي طالب كخليفة من بعده ، الا ان تراثهم يحفل بنصوص اخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم واهل البيت بمبدء الشورى وحق الامة في انتخاب أئمتها. تقول رواية يذكرها الشريف المرتضى -وهو من ابرز علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري - ان العباس بن عبد المطلب خاطب اميرالمؤمنين في مرض النبي (ص) ان يسأله عن القائم بالامر بعده ، فان كان لنا بينه وان كان لغيرنا وصى بنا ، وان اميرالمؤمنين قال: دخلنا على رسول الله (ص) حين ثقل ، فقلنا: يارسول الله.. استخلف علينا ، فقال: لا ، اني اخاف ان تتفرقوا عنه كما تفرقت بنو اسرائيل عن هارون ، ولكن ان يعلم الله في قلوبكم خيرا اختار لكم. ?(1/1)
و يقول الكليني في (الكافي) نقلا عن الامام جعفر بن محمد الصادق:انه لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة دعا العباس بن عبدالمطلب وامير المؤمنين فقال للعباس : ـ ياعم محمد .. تأخذ تراث محمد وتقضى دينه وتنجز عداته ؟ ..فرد عليه فقال : ـ يارسول الله بأبي انت وامي اني شيخ كبير كثير العيال قليل المال من يطيقك وانت تباري الريح . قال فأطرق هنيهة ثم قال : ـ يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ ..فقال كرد كلامه .. قال : اما اني سأعطيها من يأخذها بحقها ، ثم قال : ياعلي يا اخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ ..فقال : نعم بأبي انت وامي ذاك علي¹ ولي¹ .
وهذه الوصية ـ كما هو ملاحظ وصية عادية شخصية آنية ، لا علاقة لها بالسياسة والامامة ، والخلافة الدينية ، وقد عرضها الرسول في البداية على العباس بن عبدالمطلب ، فاشفق منها ، وتحملها الامام اميرالمؤمنين طواعية .
وهناك وصية اخرى ينقلهاالشيخ المفيد في بعض كتبه عن الامام اميرالمؤمنين (ع) ويقول ان رسول الله (ص) قد اوصى بها اليه قبل وفاته ، وهي ايضا وصية اخلاقية روحية عامة ، وتتعلق بالنظر في الوقوف والصدقات .
واذا القينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها اقطاب الشيعة الامامية كالكليني والمفيد والمرتضى ، فاننا نرى انها تكشف عن عدم وصية رسول الله للامام علي بالخلافة والامامة ، وترك الامر شورى ، وهو ما يفسر احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول ، بالرغم من الحاح العباس بن عبد المطلب عليه بذلك ، حيث قال له · امدد يدك ابايعك ، وآتيك بهذا الشيخ من قريش . يعني ابا سفيان . فيقال · ان عم رسول الله بايع ابن عمه¨ فلا يختلف عليك من قريش احد ، والناس تبع لقريش ¨ . فرفض الامام علي ذلك .(1/2)
وقد روى الامام الصادق عن ابيه عن جده انه لما استخلف ابو بكر جاء ابو سفيان الى الامام علي وقال له أرضيتم يا بني عبد مناف ان يلي عليكم تيم؟ ابسط يدك ابايعك ، فوالله لأملأها على أبى فصيل خيلا ورجلا ، فانزوى عنه وقال ويحك يا ابا سفيان هذه من دواهيك ، وقد اجتمع الناس على أبى بكر. ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام ، ووالله ما ضر الاسلام
ذلك شيئا حتى ما زلت صاحب فتنة ¦
شعور الامام علي بالأولوية
ويجمع المؤرخون السنة والشيعة على ان الامام علي بن ابي طالب امتعض من انتخاب ابي بكر في البداية ، وامسك يده عن البيعة وجلس في داره لفترة من الزمن ، وانه عقب على احتجاج قريش في (سقيفة بني ساعدة) بأنهم شجرة رسول الله بالقول · انهم احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة.
ويذكر الشريف الرضي في (نهج البلاغة) ان الامام اشتكى من قريش ذات مرة فقال · اللهم اني استعديك على قريش ومن اعانهم فانهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا انائي ، واجمعوا على منازعتي حقا كنت اولى به من غيري
وبالرغم من شعور الامام علي بالأحقية والأولوية في الخلافة ، الا انه عاد فبايع ابابكر ، وذلك عندما حدثت الردة ، حيث مشى اليه عثمان بن عفان فقال له · يا ابن عم انه لا يخرج احد الى قتال هؤلاء وانت لم تبايع ، فأرسل الى ابي بكر ان يأتيه ، فأتاه ابو بكر فقال له · والله ما نفسنا عليك ما ساق الله اليك من فضل وخير ، ولكنا كنا نظن ان لنا في هذا الامر نصيبا استبد به علينا ¨ وخاطب المسلمين قائلا · انه لم يحبسني عن بيعة ابي بكر الا اكون عارفا بحقه ، ولكنا نرى ان لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا ¨ ثم بايع ابابكر ، فقال المسلمون اصبت واحسنت .(1/3)
ولا شك ان تمنع الامام علي من المسارعة الى بيعة ابي بكر كان بسبب انه كان يرى نفسه اولى وأحق بالخلافة - وهو كذلك- او كان يرى ضرورة مشاركته في الشورى وعدم جواز الاستبداد بها دونه ، وقد سأله رجل من بني أسد كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم أحق به ؟ فقال يا أخا بني أسد اما الاستبداد بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا والأشد برسول الله نوطا ، فانها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين .
وقد قال الامام اميرالمؤمنين في الخطبة المعروفة بالشقشقية · أما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى الي الطير ، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وطفقت ارتئي بين ان اصول بيد جذاء او اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت ان الصبر على هاتا احجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، ارى تراثي نهبا ، حتى اذا مضى الاول لسبيله فأدلى بها الى فلان بعده ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى اذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم ، فيا لله والشورى متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت اقرن الى هذه النظائر؟ ??
وهناك رواية أخرى عن زيد بن علي عن الإمام أمير المؤمنين يقول فيها · بايع الناس ابابكر وانا أولى بهم مني بقميصي هذا ، فكضمت غيظي ، وانتظرت امري وألزقت كلكلي بالارض ??(1/4)
وفي هذه الخطب يشير الامام علي بن ابي طالب الى اولويته بالخلافة واحقيته بها وان اهل البيت هم الثمرة اذا كانت قريش شجرة رسول الله ، ولا يشير الى مسالة النص عليه من رسول الله او تعيينه خليفة من بعده ، وينقل الكليني رواية عن الامام محمد الباقر يقول فيها ان الامام علي لم يدع الى نفسه وانه أقر القوم على ما صنعوا وكتم امره واذا كان حديث الغدير يعتبر اوضح واقوى نص من النبي بحق اميرالمؤمنين فان بعض علماء الشيعة الامامية الاقدمين كالشريف المرتضى يعتبره نصا خفيا غير واضح بالخلافة ، حيث يقول في (الشافي) · انا لا ندعي علم الضرورة في النص ، لا لأنفسنا ولا على مخالفينا ، وما نعرف احدا من اصحابنا صرح بادعاء ذلك
ولذلك فان الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير او غيره من الاحاديث معنى النص والتعيين بالخلافة ، ولذلك اختاروا طريق الشورى ، وبايعوا ابابكر كخليفة من بعد الرسول ، مما يدل على عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحق الامام علي ، او عدم وجودها في ذلك الزمان .
الامام علي والشورى
ومما يؤكد كون نظام الشورى دستورا كان يلتزم به الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وعدم معرفته بنظام الوراثة الملكية العمودية في اهل البيت ، هو دخول الامام في عملية الشورى التي اعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطاب ، ومحاججته لأهل الشورى بفضائله ودوره في خدمة الاسلام ، وعدم اشارته الى موضوع النص عليه او تعيينه خليفة من بعد الرسول ، ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لأشار الامام الى ذلك ، وحاججهم بما هو اقوى من ذكر الفضائل
لقد كان الامام علي يؤمن بنظام الشورى « وان حق الشورى بالدرجة الاولى هو من اختصاص المهاجرين والانصار ، ولذلك فقد رفض بعد مقتل عثمان الاستجابة للثوار الذين دعوه الى تولي السلطة وقال لهم ليس هذا اليكم هذا للمهاجرين والانصار من أمره اولئك كان اميرا .(1/5)
وعندما جاءه المهاجرون والانصار فقالوا امدد يدك نبايعك ، دفعهم ، فعاودوه ، ودفعهم ثم عاودوه فقال · دعوني والتمسوا غيري واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم ,وان تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم وانا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا . ومشى الى طلحة والزبير فعرضها عليهما فقال من شاء منكما بايعته ، فقالا لا الناس بك ارضى ، واخيرا قال لهم · فان ابيتم فان بيعتي لا تكون سرا ، ولا تكون الا عن رضا المسلمين ولكن اخرج الى المسجد فمن شاء ان يبايعني فليبايعني
ولو كانت نظرية النص والتعيين ثابتة ومعروفة لدى المسلمين ، لم يكن يجوز للامام ان يدفع الثوار وينتظر كلمة المهاجرين والانصار ، كما لم يكن يجوز له ان يقول · انا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا¨ ، ولم يكن يجوز له ان يعرض الخلافة على طلحة والزبير ، ولم يكن بحاجة لينتظر بيعة المسلمين
وهناك رواية في كتاب (سليم بن قيس الهلالي) تكشف عن ايمان الامام علي بنظرية الشورى وحق الامة في اختيار الامام ، حيث يقول في رسالة له : · الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم او يقتل .. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدأوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة ¨ ?¦
وعندما خرج عليه طلحة والزبير احتج عليهما بالبيعة وقال لهما ـ بايعتماني ثم نكثتما بيعتي ¨ ولم يشر إلى موضوع النص عليه من رسول الله ، وكلما قاله للزبير فتراجع عن قتاله هو ان ذكره بقول رسول الله له · لتقاتلنه وانت له ظالم وقال الامامعلي لمعاوية الذي تمرد عليه · اما بعد .. فان بيعتي بالمدينة لزمتك وانت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا ابابكر وعمر وعثمان ، فلم يكن للشاهد ان يختار ولا للغائب ان يرد. وانما الشورى للمهاجرين والانصار اذا اجتمعوا على رجل فسموه اماما كان ذلك لله رضا(1/6)
اذن فقد كانت الشورى هي اساس الحكم في نظر الامام علي ، وذلك في غياب نظرية (النص والتعيين) التي لم يشر اليها الامام في اي موقف.
وقد كان الامام علي (ع) ينظر الى نفسه كانسان عادي غير معصوم ، ويطالب الشيعة و المسلمين ان ينظروا اليه كذلك ، ويحتفظ لنا التاريخ برائعة من روائعه التي ينقلهاالكليني في (الكافي) والتي يقول فيها اني لست في نفسي بفوق ان اخطيء ولا آمن ذلك من فعلي ، الا ان يكفي الله من نفسي ماهو املك به مني . ويتجلى ايمان الامام علي بالشورى دستورا للمسلمين بصورة واضحة ، في عملية خلافة الامام الحسن ، حيث دخل عليه المسلمون ، بعدما ضربه عبدالرحمن بن ملجم ، وطلبوا منه ان يستخلف ابنه الحسن ، فقال · لا ، انا دخلنا على رسول الله فقلنا استخلف ، فقال لا اخاف ان تفرقوا عنه كما تفرقت بنو اسرائيل عن هارون ، ولكن ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يختر لكم . وسالوا عليا ان يشير عليهم بأحد ، فما فعل ، فقالوا له ان فقدناك فلا نفقد ان نبايع الحسن ، فقال لا آمركم ولا انهاكم . انتم ابصر
وقد ذكر الحافظ ابو بكر بن ابي الدنيا في كتاب (مقتل الامام أمير المؤمنين) عن عبدالرحمن بن جندب عن ابيه قال قلت: يا اميرالمؤمنين، ان فقدناك ـ ولا نفقدك ـ نبايع للحسن ؟..فقال: ـ ما آمركم ولا انهاكم. فعدت فقلت مثلها فرد¹ علي مثلها
وذكر الشيخ حسن بن سليمان في (مختصر بصائر الدرجات) عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : سمعت عليا يقول وهو بين ابنيه وبين عبدالله بن جعفر وخاصة شيعته : · دعوا الناس وما رضوا لانفسهم والزموا انفسكم السكوت
وقد قام الامام اميرالمؤمنين بالوصية الى الامام الحسن وسائر ابنائه ولكنه لم يتحدث عن الامامة والخلافة ، وقد كانت وصيته روحية اخلاقية وشخصية ، او كما يقول الشيخ المفيد في (الإرشاد) ان الوصية كانت للحسن على اهله وولده واصحابه ، و وقوفه وصدقاته .?(1/7)
وتلك الوصية هي كالتالي · هذا ما اوصى به علي بن ابي طالب: اوصى انه يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ثم ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، بذلك امرت وانا من المسلمين . ثم اني اوصيك ياحسن وجميع ولدي واهلي ومن بلغه كتابي : ان تتقوا الله ربكم ولا تموتن الا وانتم مسلمون) ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا فاني سمعت رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين افضل من عامة الصيام والصلاة ، وان المعرة حالقة الدين فساد ذات البين ، ولا قوة الا بالله . انظروا ذوي ارحامكم فصلوهم يهون عليكم الحساب. والله الله في الايتام فلا تغب¹بون افواهم ، ولا يضيعون بحضرتكم . والله الله في جيرانكم ، فانهم وصية رسول الله مازال يوصينا بهم حتى ظننا انه يو¹رثهم . والله الله في القرآن أن يسبقكم في العمل به غيركم . والله الله في بيت ربكم ، لا يخلون¹ ما بقيتم ، فانه ان خلا لم تناظروا . والله الله في رمضان فان صيامه جن¹ة من النار لكم . والله الله في الجهاد في سبيل الله بأيديكم واموالكم وألسنتكم . والله الله في الزكاة فانها تطفيء غضب الرب . والله الله في ذمة نبيكم ، فلا يُظلمن¹ بين اظهركم . والله الله فيما ملكت ايمانكم . انظروا فلا تخافوا في الله لومة لائم ، يكفكم من ارادكم وبغى عليكم ، وقولوا للناس حسنا كما امركم الله . ولا تتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم . عليكم يابني بالتواصل والتباذل ، واياكم والتقاطع والتكاثر والتفرق وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ، واتقوا الله ان الله شديد العقاب حفظكم الله من اهل بيت ، وحفظ نبيكم فيكم ، استودعكم الله ، اقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته(1/8)
ولذلك لم تلعب هذه الوصية القيمة الروحية والاخلاقية اي دور في ترشيح الامام الحسن للخلافة ، لأنها كانت تخلو من الاشارة اليها ، ولم تكن تشكل بديلا عن نظام الشورى الذي كان اهل البيت يلتزمون به كدستور للمسلمين
الامام الحسن والشورى
وقد ذكر ابن ابي الحديد في (شرح نهج البلاغة) · انه لما توفي علي (ع) خرج عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب الى الناس فقال: ان اميرالمؤمنين توفي ، وقد ترك خلفا ، فان احببتم خرج اليكم ، وان كرهتم فلا احد على احد فبكى الناس وقالوا: بل يخرج الينا.
وكما هو ملاحظ فان الامام الحسن لم يعتمد في دعوة الناس لبيعته على ذكر اي نص حوله من الرسول او من ابيه الامام علي ، و قد اشار ابن عباس إلى منزلة الامام الحسن عندما ذكر المسلمين بانه ابن بنت النبي ، و ذكر : انه وصي الامام اميرالمؤمنين ، ولكنه لم يبين : ان مستند الدعوة للبيعة هو النص او الوصية بالامامة
وهذا ما يكشف عن ايمان الامام الحسن (ع) بنظام الشورى وحق الامة في انتخاب امامها ، وقد تجلى هذا الايمان مرة اخرى عند تنازله عن الخلافة الى معاوية واشتراطه عليه العودة بعد وفاته الى نظام الشورى حيث قال في شروط الصلح · ««على انه ليس لمعاوية ان يعهد لأحد من بعده وان يكون الامر شورى بين المسلمين
ولو كانت الخلافة بالنص من الله والتعيين من الرسول ، كما تقول النظرية الامامية ، لم يكن يجوز للامام الحسن ان يتنازل عنها لأي احد تحت اي ظرف من الظروف « ولم يكن يجوز له بعد ذلك ان يبايع معاوية او ان يدعو اصحابه وشيعته لبيعته « ولم يكن يجوز له ان يهمل الامام الحسين ولأشار الى ضرورة تعيينه من بعده .. ولكن الامام الحسن لم يفعل اي شيء من ذلك وسلك مسلكا يوحي بالتزامه بحق المسلمين في انتخاب خليفتهم عبر نظام الشورى
الامام الحسين والشورى(1/9)
وقد ظل الامام الحسين ملتزما ببيعة معاوية الى آخر يوم من حياة الاخير ، ورفض عرضا من شيعة الكوفة بعد وفاة الامام الحسن بالثورة على معاوية، وذكر ان بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه ، ولم يدع الى نفسه الا بعد وفاة معاوية الذي خالف اتفاقية الصلح وعهد الى ابنه يزيد بالخلافة بعده ، حيث رفض الامام الحسين البيعة له ، وأصر على الخروج الى العراق حيث استشهد في كربلاء عام61 للهجرة.
و يصرح الشيخ المفيد بان الامام الحسين لم يدع احدا الى امامته في ظل عهد معاوية، ويفسر ذلك بالتقية والهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية والتزام الامام الوفاء بها حتى وفاة معاوية
ولا توجد اية آثار لنظرية النص في قصة كربلاء ، سواء في رسائل شيعة الكوفة الى الامام الحسين ودعوته للقدوم عليهم ، او في رسائل الامام الحسين لهم ، حيث يقول الشيخ المفيد: ان الشيعة اجتمعت بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا هلاك معاوية .فحمدوا الله واثنوا عليه ، فقال سليمان بن صرد : ان معاوية قد هلك وان حسينا قد تقبض على القوم ببيعة ، وقد خرج الى مكة وانتم شيعته وشيعة ابيه ، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهدوا عدوه وتقتل انفسنا دونه فاكتبوا اليه واعلموه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه ، قالوا : لا بل نقاتل عدوه ونقتل انفسنا دونه قال فاكتبوا اليه ، فكتبوا اليه : ـ(1/10)
للحسين بن علي ، من سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من اهل الكوفة : سلام عليك فانا نحمد اليك الله الذي لا اله الا هو .. اما بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الامة فابتزها امرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها واستبقى اشرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها واغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود . انه ليس علينا امام ، فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الحق . والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه الى عيد ، ولو قد بلغنا انك قد اقبلت الينا اخرجناه حتى نلحقه بالشام ان شاء الله .
فكتب اليهم : ـ من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين
.. اما بعد فان هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم ، وكان آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم ·أنه ليس علينا امام فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الحق والهدى ¨ واني باعث اليكم اخي وابن عمي وثقتي من اهل بيتي مسلم بن عقيل ، فان كتب الي انه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم فاني اقدم اليكم وشيكا ان شاء الله . فلعمري ما الامام الا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله ، والسلام .(1/11)
اذن فان مفهوم (الإمام) عند الامام الحسين لم يكن الا (الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الداين بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله) ولم يكن يقدم اية نظرية حول (الامام المعصوم المعين من قبل الله) ولم يكن يطالب بالخلافة كحق شخصي له لأنه ابن الامام علي او انه معين من قبل الله . ولذلك فانه لم يفكر بنقل (الإمامة) الى احد من ولده ، ولم يوصِ الى ابنه الوحيد الذي ظل على قيد الحياة علي زين العابدين ، وانما اوصى الى اخته زينب او ابنته فاطمة ، وكانت وصيته عادية جدا تتعلق باموره الخاصة ، ولا تتحدث ابدا عن
موضوع الامامة والخلافة
ومما يؤكد عدم وجود نظرية (الامامة الإلهية) في ذلك الوقت ، عدم اشارة الامام علي بن الحسين اليها ، في خطبته الشهيرة التي القاها بشجاعة امام يزيد بن معاوية في المسجد الاموي عندما أُخذ اسيرا الى الشام ، وقد قال في خطبته تلك: · ايها الناس أُعطينا ستا وفضلنا بسبع : اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفُضلنا بأن منا النبي والصديق والطيار واسد الله واسد رسوله وسبطا هذه الامة. ثم ذكر الامام اميرالمؤمنين فقال: انا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ومفرق الاحزاب ، اربطهم جأشا وامضاهم عزيمة ذاك ابو السبطين علي بن ابي طالب .
ولم يشر الامام زين العابدين في خطبته الجريئة تلك الى موضوع الوصية او الامامة الالهية ، او الى قانون وراثة الامامة بالنص ، ولم يقل للناس انه الامام الشرعي المفترض الطاعة بعد ابيه الامام الحسين ، وانما اكتفى بالحديث عن فضل اهل البيت وفضائل الامام اميرالمؤمنين وانجازاته التاريخية
اعتزال الامام زين العابدين(1/12)
وقد بايع الامام علي بن الحسين يزيد بن معاوية بعد واقعة الحرة ورفض قيادة الشيعة الذين كانوا يطالبون بالثأر لمقتل ابيه الامام الحسين ، ويعدون للثورة ، ولم يدعِ الامامة ، ولم يتصدَ لها ، ولم ينازع عمه فيها ، وكما يقول الشيخ الصدوق : فانه انقبض عن الناس فلم يلق احدا ولا كان يلقاه الا خواص اصحابه ، وكان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم الا يسيرا
ويتطرف الصدوق جدا وبشكل غير معقول فينقل عن الامام السجاد : انه كان يوصي الشيعة بالخضوع للحاكم والطاعة له وعدم التعرض لسخطه، ويتهم الثائرين بالمسؤلية عن الظلم الذي يلحق بهم من قبل السلطان
انتخاب سليمان بن صرد الخزاعي زعيما للشيعة
ومن هنا ونتيجة للفراغ القيادي فقد انتخب الشيعة في الكوفة بعد مقتل الامام الحسين سليمان بن صرد الخزاعي زعيما عليهم ، وذلك عندما اجتمعوا الى خمسة من رؤوسهم ، وقام المسيب بن نجيبة خطيبا فقال: ـ ايها القوم ولوا عليكم رجلا منكم فانه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها ، وقام رفاعة بن شداد فعقب على كلامه قائلا ·قلت: ولوا امركم رجلا منكم تفزعون إليه وتحفون برايته ، وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت ، فان تكن انت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا متنصحا وفي جماعتنا محبا ، وان رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الامر شيخ الشيعة صاحب رسول الله وذا السابقة سليمان بن صرد ، المحمود في بأسه والموثوق بحزمه¨« ثم تكلم عبدالله بن وال ، وعبدالله بن سعد فحمدا ربهما واثنيا عليه ... فقال المسيب بن نجيبة : · اصبتم ووفقتم وانا ارى مثل الذي رأيتم فولوا امركم سليمان بن صرد¨ وقد قام سليمان بن صرد الخزاعي بقيادة حركة قامت للثأر من قتلة الحسين ، وعرفت بحركة التوابين
امامة محمد بن الحنفية(1/13)
وعندما قام المختار بن عبيدة الثقفي ، بعد ذلك ، بحركته في الكوفة ، كتب الى علي بن الحسين يريده على ان يبايع له ويقول بامامته ويظهر دعوته ، وانفذ اليه مالا كثيرا ، فأبى ان يقبل ذلك منه ، او يجيبه عن كتابه ، فلما يئس المختار منه كتب الى عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك ، واخذ يدعو الى امامته وقد استلم محمد بن الحنفية قيادة الشيعة فعلا ، ورعى قيام دولة المختار بن عبيدة الثقفي في الكوفة
لقد كان أئمة اهل البيت يعتقدون بحق الامة الاسلامية في اختيار اوليائها وبضرورة ممارسة الشورى ، وادانة الاستيلاء على السلطة بالقوة ولعلنا نجد في الحديث الذي يرويه الصدوق في (عيون اخبار الرضا) عن الامام الرضا عن ابيه الكاظم عن ابيه جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن ابيه عن جده رسول الله (ص) والذي يقول فيه من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة ويغصب الامة امرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه ، فان الله عزوجل قد اذن ذلك .. لعلنا نجد في هذا الحديث افضل(1/14)
تعبير عن ايمان اهل البيت بالشورى والتزامهم بها ، واذا كانوا يدعون الناس الى اتباعهم والانقياد اليهم فانما كانوا يفعلون ذلك ايمانا بأفضليتهم واولويتهم بالخلافة في مقابل ·الخلفاء¨ الذين كانوا لا يحكمون بالكتاب ولا يقيمون القسط ولا يدينون بالحق من هنا وتبعا لمفهوم (الأولوية) قالت اجيال من الشيعة الاوائل ، وخاصة في القرن الاول الهجري ان عليا كان اولى الناس بعد رسول الله لفضله وسابقته وعلمه ، وهو افضل الناس كلهم بعده واشجعهم وأسخاهم وأورعهم وأزهدهم . وأجازوا مع ذلك امامة ابي بكر وعمر وعدوهما اهلا لذلك المكان والمقام ، وذكروا ان عليا سلم لهما الامر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما ، فنحن راضون كما رضي المسلمون له ، ولمن بايع ، لا يحل لنا غير ذلك ولا يسع منا احدا الا ذلك ، وان ولاية ابي بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه
بينما قالت فرقة اخرى من الشيعة : · ان عليا افضل الناس لقرابته من رسول الله ولسابقته وعلمه ولكن كان جائزا للناس ان يولوا عليهم غيره اذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا ، أحب¹ ذلك او كرهه ، فولاية الوالي الذي ولوا على انفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله عزوجل ، وطاعته واجبة من الله عزوجل
وقال قسم آخر منهم : · ان امامة علي بن ابي طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس واظهر امره و قد قيل للحسن بن الحسن بن علي الذي كان كبير الطالبيين في عهده وكان وصي ابيه وولي صدقة جده ألم يقل رسول الله من كنت مولاه فعلي مولاه؟فقال: بلى ولكن والله لم يعنِ رسول الله بذلك الامامة والسلطان ، ولو اراد ذلك لأفصح لهم به
وكان ابنه عبدالله يقول: · ليس لنا في هذا الامر ما ليس لغيرنا ، و ليس في احد من اهل البيت امام مفترض الطاعة من الله¨ وكان ينفي امامة اميرالمؤمنين انها من الله(1/15)
مما يعني ان نظرية النص وتوارث السلطة في اهل البيت فقط ، لم يكن لها رصيد لدى الجيل الاول من الشيعة ، ومن هنا فقد كانت نظرتهم الى الشيخين ابي بكر وعمر نظرة ايجابية ، اذ لم يكونوا يعتبرونهما ·غاصبين¨ للخلافة التي تركها رسول الله شورى بين المسلمين ولم ينص على أحد بالخصوص وهذا ما يفسر أمر الامام الصادق لشيعته بتوليهما .(1/16)
نقد الدليل الروائي
(النقلي)
لسنا بحاجة لمناقشة الاستدلال بالقرآن الكريم أو الأحاديث العامة التي تتحدث عن (المهدي) أو (القائم) من دون تحديد هوية ذلك الشخص.. فان هدف دراستنا ليس نفي مبدأ خروج المهدي في المستقبل من الأساس .. وانما نهدف إلى القول إن شخصاً باسم (محمد بن الحسن العسكري) لم يولد ولم يوجد بعد ، وبالتالي فان تلك الآيات أو الأحاديث العامة لا تثبت ولادة ذلك الانسان أو وجوده ، بالرغم من إمكانية المناقشة في دلالة الآيات الكريمة على الموضوع.
أما الروايات الواردة حول (الغيبة) و(الغائب) فهي أيضا لا تتحدث عن (غائبٍ) بالتحديد.. ولا تذكر اسم (محمد بن الحسن العسكري) ولا تشير إلى غيبته بالخصوص.. وبالتالي فانها لا يمكن إن تشكل دليلا على (غيبة الحجة بن الحسن) لأنه لم يولد بعد .. ولم يغب .. وهي لا تتحدث عن أمر قبل وقوعه حتى يكون ذلك إعجازاً ودليلا على صحة الغيبة ، كما قال الشيخ الصدوق.(1/1)
ولا توجد في تلك الروايات اية دلالة على ما ذهب إليه المتكلمون ، لأنها لم تتضمن الإخبار بالشيء قبل كونه ، كما قال الشيخ الطوسي ، ولم يحصل أي إخبار مسبق من جهة علام الغيوب.. وذلك لأن تلك الروايات كانت موجودة من قبل وتتحدث عن أشخاص آخرين كانوا موجودين فعلا ، وادعيت لهم المهدوية وغابوا في الشعاب والجبال والسجون كمحمد بن الحنفية ومحمد بن عبد الله بن الحسن (ذي النفس الزكية) والإمام موسى الكاظم (ع).. وقد حدث في ظل غيبتهم إن تفرق شيعتهم واختلفوا واحتاروا.. وقد صنع اصحابهم تلك الروايات من وحي الواقع ولأهداف خاصة ، وبالذات الشيعة الواقفية الذين كانوا يؤمنون بقوة بمهدوية الإمام الكاظم ، ولما اعتقله الرشيد قالوا بغيبته ، ولما توفي الإمام رفضوا الاعتراف بوفاته وادعوا هروبه من السجن وغيبته غيبة كبرى لا يُرى فيها، واعتبروا مرحلة السجن غيبة صغرى. وقد كانت الغيبة الكبرى اطول من الغيبة الصغرى ، لأنها امتدت وامتدت بلا حدود .
وكان الواقفية قد استعاروا أحاديث الغيبة ممن سبقهم من الحركات المهدوية ، وطبقوها على الإمام الكاظم .
وإذا توقفنا عند الرواية التي يذكرها النعماني حول الغيبة ، والتي يقول عنها :· لو لم يكن يروى في الغيبة إلا هذا الحديث لكان فيها كفاية لمن تأملها لوجدنا أنها تتحدث عن الوفاة والقتل والذهاب لإمام موجود ومعروف سابقا.. بينما يحتاج هو (أي النعماني) إن يثبت وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) أولا حتى يستطيع إن ينسب إليه تلك الأفعال لاحقاً.(1/2)
لقد كان المتكلمون في البداية ( في القرن الثالث الهجري) يحاولون إثبات صحة فرضية ( وجود الإمام الثاني عشر ابن الحسن ) ولم يكونوا يتحدثون عن (المهدي والمهدوية) إذ انهم كانوا بحاجة إلى إثبات وجود العرش قبل إثبات النقش.. ولكن الأزمة التي وقعوا فيها بعد القول بوجود (ابن الحسن) وهي :(عدم ظهور الإمام للقيام بمهمات الإمامة ) دفعتهم إلى البحث والتنقيب في تراث الفرق الشيعية القديمة كالكيسانية والواقفية ، والتفتيش عن مخرج للأزمة والحيرة ، ووجدوا في أحاديث المهدوية القديمة أفضل حل للخروج من أزمة عدم الظهور ، ودليلاً جديداً على إثبات فرضية (وجود ابن الحسن) في نفس الوقت.
ومن هنا فقد تطورت الفرضية التي كانت مهتمة بإثبات (وجود الإمام الثاني عشر) إلى الحديث عن (مهدويته) واصبح الحديث يدور حول (وجود الإمام المهدي الحجة ابن الحسن العسكري) وذلك انطلاقا من حالة الفراغ والغيبة وعدم المشاهدة ، والاستنتاج منها: إن الشخص المفترض انه الإمام والذي لا يُشاهد : هو المهدي صاحب الغيبة ، وان سبب عدم مشاهدته هو : الغيبة!
وإذا كان يصح الاستدلال بتلك الروايات على مهدوية الأئمة السابقين المعروفين الذين غابوا في السجون أو الشعاب أو في سائر انحاء الأرض ، فانه لا يمكن الاستدلال بها على صحة فرضية (وجود ابن الحسن) .. وذلك لأن وجوده كان موضع شك واختلاف بين أصحاب الإمام الحسن العسكري، وان عملية الاستدلال بها على (مهدوية ابن الحسن) بحاجة أولا إلى الاستدلال على وجوده واثبات ذلك قبل الحديث عن إمامته ومهدويته وغيبته وما إلى ذلك.
وان الاستدلال بالغيبة على الوجود ، بدون إثبات ذلك من قبل ، يشبه عملية الاستدلال على وجود ماء في إناء ، بالقول :· إن الماء لا رائحة له ولا لون.. ونحن لا نشم رائحة ولا نرى لونا في هذا الإناء.. إذن فان فيه ماء !(1/3)
إذا كان ذلك لا يجوز إلا بعد إثبات وجود شيء سائل في الإناء ثم القول : إن هذا السائل ليس له لون ولا رائحة..فإذن هو ماء ، فان عملية إثبات وجود (ابن الحسن) كذلك تحتاج أولا إلى إثبات وجوده وإمامته ومهدويته.. ثم إثبات غيبته ، لا إن يتم عكس الاستدلال ، فيُتخذ من المجهول والعدم و ( الغيبة ) دليلا على إثبات الوجود والإمامة والمهدوية لشخص لا يزال موضع بحث ونقاش!.
إذن فلا يمكن في الحقيقة الاستدلال بأحاديث ( الغيبة ) العامة والغامضة والضعيفة على إثبات وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) .
وقد حاول بعض المنظرين لموضوع (الغيبة) إن يستشهدوا بحديث الغيبتين الصغرى والكبرى ليثبتوا صحة (نظرية وجود ابن الحسن) ولكن حكاية (الغيبتين) نفسها لم تثبت في التاريخ ، ولا يوجد عليها دليل سوى موضوع (النيابة الخاصة ) التي ادعاها بعض الأشخاص ، وهي لم تثبت لهم في ذلك الزمان ، وكان الشيعة القائلون بوجود (ابن الحسن) يختلفون فيما بينهم حول صحة ادعاء هذا الشخص او ذاك بالنيابة الخاصة التي كان قد ادعاها حوالي عشرين شخصا أكثرهم من الغلاة . ومن هنا فان الحد الفاصل بين الغيبتين : الصغرى والكبرى كان حداً وهمياً لم يثبت في التاريخ . ويلاحظ ان الاستشهاد ب :(الغيبتين ) قد ابتدأه النعماني في منتصف القرن الرابع الهجري ، بعد انتهاء عهد (النواب الخاصين) ولم يشر اليه من سبقه من المؤلفين حول (الغيبة) الذين اكتفوا بالإشارة الى الغيبة الواحدة .
وقد اعترف السيد المرتضى علم الهدى والشيخ الطوسي لدى الحديث عن أسباب الغيبة: ان من الضروري أولا بحث موضوع الوجود والإمامة ل : ( ابن الحسن العسكري) قبل الحديث عن الغيبة واسبابها.
وقالا:· ان من شك في إمامة ابن الحسن يجب ان يكون الكلام معه في نص إمامته ، والتشاغل بالدلالة عليها ، ولا يجوز مع الشك فيها ان نتكلم في سبب الغيبة ، لأن الكلام في الفرع لا يسوغ إلا بعد إحكام الأصول .(1/4)
دليل (الاثني عشرية )
وهذا دليل متأخر .. بدأ المتكلمون يستخدمونه بعد اكثر من نصف قرن من الحيرة ، اي في القرن الرابع الهجري ، ولم يكن له أثر في القرن الثالث عند الشيعة الامامية ، حيث لم يشر اليه الشيخ علي بن بابويه الصدوق في كتابه:( الامامة والتبصرة من الحيرة) كما لم يشر اليه النوبختي
في كتابه:(فرق الشيعة) ولا سعد بن عبد الله الاشعري القمي في :(المقالات والفرق).. وذلك لأن النظرية (الاثني عشرية) طرأت على الامامية في القرن الرابع ، بعد ان كانت النظرية الامامية ممتدة الى آخر الزمان بلا حدود ولا حصر في عدد معين ، كما هو الحال عند الاسماعيليين والزيدية.. لأنها كانت موازية لنظرية الشورى وبديلا عنها.. فمادام في الأرض مسلمون ويحتاجون الى دولة وامام ، وكان محرماً عليهم اللجوء الى الشورى والانتخاب - كما تقول النظرية الامامية - كان لا بد ان يعين الله لهم إماما معصوما منصوصا عليه .. فلماذا إذن يحصر عدد الأئمة في اثني عشر واحدا فقط؟
من هنا لم يكن الاماميون يقولون بالعدد المحدود في الأئمة ، ولم يكن حتى الذين قالوا بوجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) يعتقدون في البداية انه خاتم الأئمة ، وهذا هو النوبختي يقول في كتابه (فرق الشيعة):· ان الامامة ستستمر في أعقاب الامام الثاني عشر الى يوم القيامة ( انظر : المصدر: الفرقة التي قالت بوجود ولد للعسكري).(1/5)
تشير روايات كثيرة يذكرها الصفار في :(بصائر الدرجات) والكليني في (الكافي) والحميري في (قرب الاسناد) والعياشي في (تفسيره) والمفيد في (الارشاد) والحر العاملي في (إثبات الهداة) وغيرهم وغيرهم .. الى ان الأئمة انفسهم لم يكونوا يعرفون بحكاية القائمة المسبقة المعدة منذ زمان رسول الله (ص) وعدم معرفتهم بامامتهم او بإمامة الامام اللاحق من بعدهم الا قرب وفاتهم ، فضلا عن الشيعة او الامامية انفسهم الذين كانوا يقعون في حيرة واختلاف بعد وفاة كل أمام ، وكانوا يتوسلون لكل أمام ان يعين اللاحق بعده ويسميه بوضوح لكي لا يموتوا وهم لا يعرفون الامام الجديد.
يروي الصفار في (بصائر الدرجات) (3) باب (ان الأئمة يعلمون الى من يوصون قبل وفاتهم مما يعلمهم الله) : حديثا عن الامام الصادق يقول فيه:· ما مات عالم حتى يعلمه الله الى من يوصي ، كما يرويه الكليني في (الكافي) (4) ، ويروي ايضا عنه (ع) :· لا يموت الامام حتى يعلم من بعده فيوصي اليه وهو ما يدل على عدم معرفة الأئمة من قبل باسماء خلفائهم ، او بوجود قائمة مسبقة بهم . وقد ذهب الصفار والصدوق والكليني ابعد من ذلك فرووا عن أبى عبدالله انه قال:· ان الامام اللاحق يعرف إمامته وينتهي اليه الأمر في آخر دقيقة من حياة الأول.
ونتيجة لذلك فقد طرحت عدة اسئلة في حياة اهل البيت ، وهي : كيف يعرف الامام إمامته اذا مات ابوه بعيدا عنه في مدينة اخرى؟ وكيف يعرف انه أمام اذا كان قد اوصى الى جماعة؟ او لم يوصِ ابدا؟ وكيف يعرف الناس انه اصبح إماما؟ خاصة اذا تنازع الاخوة الامامة وادعى كل واحد منهم الوصية؟ كما حدث لعدد من الأئمة في التاريخ؟
روى الكليني حديثا عن احد العلويين هو عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبى طالب ، قال قلت لأبي عبدالله:
- ان كان كونٌ - ولا أراني الله ذلك - فبمن أأتم؟ ..قال فأومأ الى ابنه موسى ، قلت:
- فان حدث بموسى حدث فبمن أأتم؟ قال :
- بولده، قلت:(1/6)
- فان حدث بولده حدث وترك أخا كبيرا وابنا صغيرافبمن أأتم؟ قال:
- بولده، ثم قال: هكذا ابدا . قلت:
??
??فان لم اعرفه ولا اعرف موضعه؟ قال:
- تقول: اللهم اني اتولى من بقي من حججك من ولد الامام الماضي ، فان ذلك يجزيك ان شاء الله .
وهذا الحديث يدل على عدم وجود قائمة مسبقة باسماء الأئمة من قبل، وعدم معرفة علوي امامي مثل عيسى بن عبدالله بها ، وامكانية وقوعه في الحيرة والجهل ، ولو كانت القائمة موجودة من قبل لأشار الامام اليها
وبسبب غموض هوية الأئمة اللاحقين لجماهير الشيعة والامامية ، فقد كانوا يسألون الأئمة دائما عن الموقف الواجب اتخاذه عند وفاة احد الأئمة. ينقل الكليني وابن بابويه والعياشي حديثا عن يعقوب بن شعيب عن أبى عبدالله ، قال قلت له:
- اذا حدث للامام حدث كيف يصنع الناس؟ قال:
- يكونوا كما قال الله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقةمنهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون) قلت :
- فما حالهم ؟ قال:
- هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع اليهم اصحابهم .
وهناك رواية اخرى مشابهة عن زرارة بن اعين الذي ابتلي بهذه المشكلة ومات بُعَيد وفاة الامام الصادق ، ولم يكن يعرف الامام الجديد فوضع القرآن على صدره وقال: اللهم اشهد اني اثبت من يقول بامامته هذا الكتاب .
وقد كان زرارة من اعظم تلاميذ الامامين الباقر والصادق ، ولكنه لم يعرف خليفة الامام الصادق فأرسل ابنه عبيدالله الى المدينة لكي يستطلع له الامام الجديد ، فمات قبل ان يعود اليه ابنه ومن دون ان يعرف من هو الامام ؟
وتقول روايات عديدة يذكرها الكليني في (الكافي)
((1/7)
10) والمفيد في (الارشاد) (11) والطوسي في (الغيبة) (12) : ان الامام الهادي اوصى في البداية الى ابنه السيد محمد ، ولكنه توفي في حياة أبيه ، فأوصى للامام الحسن وقال له:· لقد بدا لله في محمد كما بدا في إسماعيل.. يابني أحدث لله شكراً فقد احدث فيك أمراً ، او نعمة .
وإذا كانت روايات القائمة المسبقة باسماء الأئمة الاثني عشر صحيحة وموجودة من قبل ، فلماذا لم يعرفها الشيعة الامامية الذين اختلفوا واحتاروا بعد وفاة الامام الحسن العسكري ، ولم يشر اليها المحدثون او المؤرخون الامامية في القرن الثالث الهجري؟
ان نظرية (الاثناعشرية) لم تكن مستقرة في العقل الامامي حتى منتصف القرن الرابع الهجري .. حيث أبدى الشيخ محمد بن علي الصدوق شكه بتحديد الأئمة في اثني عشر اماماً فقط ، وقال:· لسنا مستعبدين في ذلك الا بالاقرار باثني عشر إماما ، واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر بعده .
ونقل الكفعمي في (المصباح) عن الامام الرضا (ع) الدعاء التالي حول (صاحب الزمان) :· ... اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده .
وروى الصدوق عدة روايات حول احتمال امتداد الامامة بعد الثاني عشر وعدم الاقتصار عليه ، وكان منها رواية عن الامام أمير المؤمنين (ع) حول غموض الأمر بعد القائم ، وان رسول الله (ص) قد عهد اليه : ان لا يخبر احدا بذلك الا الحسن والحسين ، وانه قال: لا تسألوني عما يكون بعد هذا ، فقد عهد اليّ حبيبي ان لا اخبر به غير عترتي .
وروى الطوسي في (الغيبة): ان رسول الله (ص) قال لعلي:· يا علي انه سيكون بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم اثنا عشر مهديا ، فأنت ياعلي اول الاثني عشر الامام ... ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديا .(1/8)
وعندما نشأت فكرة تحديد عدد الأئمة ، بعد القول بوجود وغيبة ( محمد بن الحسن العسكري) ، كاد الشيعة الامامية يختلفون فيما بينهم حول تحديد عددهم باثني عشر او ثلاثة عشر ، اذ برزت في ذلك الوقت روايات تقول : بأن عدد الأئمة ثلاثة عشر ، وقد نقلها الكليني في (الكافي) (17) و وُجدت في الكتاب الذي ظهر في تلك الفترة ونُسِبَ الى سليم بن قيس الهلالي ، حيث تقول احدى الروايات : ان النبي قال لأميرالمؤمنين :( انت واثنا عشر من ولدك أئمة الحق) . وهذا ما دفع هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب ، حفيد أبى جعفر محمد بن عثمان العمري ، الذي كان يتعاطى (الكلام) لأن يؤلف كتابا في الامامة ، يقول فيه : ان الأئمة ثلاثة عشر ، ويضيف الى القائمة المعروفة (زيد بن علي) كما يقول النجاشي في (رجاله) .
وقد ذكر المؤرخ الشيعي المسعودي (توفي سنة 345ه ) في ( التنبيه والاشراف):· ان أصل القول في حصر عدد الأئمة باثني عشر ما ذكره سليم بن قيس الهلالي في كتابه .
وكان كتاب سليم قد ظهر في بداية القرن الرابع الهجري ، وتضمن قائمة باسماء الأئمة الاثني عشر ، التي يقول عنها : أنها كانت معروفة منذ عهد رسول الله وانه هو الذي قد أعلنها من قبل . وأدى ظهور هذا الكتاب الى تكون الفرقة (الاثني عشرية) في القرن الرابع الهجري.. ثم بدأ الرواة يختلقون الروايات شيئا فشيئا ، ولم يذكر الكليني في (الكافي) سوى سبع عشرة رواية ، ثم جاء الصدوق بعده بخمسين عاما ليزيدها الى بضع وثلاثين رواية.. ثم يأتي تلميذه الخزاز ليجعلها مائتي رواية!
المفيد يضعف كتاب سليم(1/9)
وكان اعتماد الكليني والنعماني والصدوق في قولهم بالنظرية (الاثني عشرية) على كتاب سليم الذي وصفه النعماني : بأنه من الأصول التي يرجع اليها الشيعة ويعولون عليها ، ولكن عامة الشيعة في ذلك الزمان كانوا يشكون في وضع واختلاق كتاب سليم ، وذلك لروايته عن طريق (محمد بن علي الصيرفي ابو سمينة ) الكذاب المشهور ، و (احمد بن هلال العبرتائي) الغالي الملعون ، وقد قال ابن الغضائري :· كان اصحابنا يقولون : ان سليما لا يُعرف ولا ذكر له... والكتاب موضوع لا مرية فيه وعلى ذلك علامات تدل على ما ذكرنا ... .
وقد ضعّف الشيخ المفيد (كتاب سليم) وقال:· انه غير موثوق به ولا يجوز العمل على اكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس ، فينبغي للمتدين ان يتجنب العمل بكل ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته ، وليفزع الى العلماء فيما تضمنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد ( المفيد: اوائل المقالات وشرح اعتقادات الصدوق).
وانتقد المفيدُ : الصدوقَ على نقله الكتاب واعتماده عليه وعزى ذلك الى منهج الصدوق الاخباري ، وقال عنه: · انه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الالفاظ والعدول عن طرق الاعتبار ، وهذا رأي يضر صاحبه في دينه ويمنعه المقام عليه عن الاستبصار .
ومن هنا فقد اعترض الزيدية على الامامية وقالوا:· ان الرواية التي دلّت على ان الأئمة اثناعشر قولٌ أحدثه الامامية قريباً وولّدوا فيه أحاديث كاذبة واستشهدوا على ذلك بتفرق الشيعة بعد وفاة كل أمام الى عدة فرق وعدم معرفتهم للامام بعد الامام ، وحدوث البداء في إسماعيل ومحمد بن علي ، وجلوس عبدالله ألا فطح للامامة واقبال الشيعة اليه وحيرتهم بعد امتحانه ، وعدم معرفتهم الكاظم حتى دعاهم الى نفسه ، وموت الفقيه زرارة بن اعين دون معرفته بالامام .(1/10)
وقد نقل الصدوق اتهاماتهم للامامية باحداث النظرية (الاثني عشرية) في وقت متأخر ، ولم ينفِ التهمة ولم يرد عليها ، وانما برر ذلك بالقول: · ان الامامية لم يقولوا : ان جميع الشيعة بما فيهم زرارة كانوا يعرفون الأئمة الاثني عشر ثم انتبه الصدوق الى منزلة زرارة وعدم إمكانية جهله بأي حديث من هذا القبيل ، وهو اعظم تلامذة الامامين الباقر والصادق ، فتراجع عن كلامه وقال باحتمال علم زرارة بالحديث وإخفاءه للتقية ، ثم عاد فتراجع عن هذا الاحتمال وقال:· ان الكاظم قد استوهبه من ربه لجهله بالامام ، لأن الشاك فيه على غير دين الله .
وهذا ما يناقض دعوى الخزاز في (كفاية الأثر) والطوسي في (الغيبة) بتواتر أحاديث (الاثني عشرية) عن طريق الشيعة ، ويثبت ان لا أساس لها من الصحة في الاجيال الأولى وخاصة في عهود الأئمة من آل البيت (ع) حيث لم يكن يوجد لها اي أثر ، خاصة وان الطوسي لم يذكر الكتب الشيعية القديمة التي زعم أنها تتحدث عن (الاثني عشرية) وقد تهرب الخزاز من مناقشة تهمة الوضع المتأخر ، وحاول ان ينفي تهمة الوضع من قبل الصحابة والتابعين واهل البيت (24) في حين ان التهمة لم تكن موجهة الى الصحابة واهل البيت ، وانما الى بعض الرواة المتأخرين الذين اختلقوا كتاب سليم في عصر الحيرة . من امثال (ابو سمينة) و (العبرتائي ) و (علي بن ابراهيم القمي).
أين الدلالة؟
هذا وان معظم الأحاديث التي تتحدث عن حصر الأئمة في اثني عشر ، وكذلك جميع الأحاديث الواردة عن طريق السنة لا تذكر اسماء الأئمة او الخلفاء او الامراء بالتفصيل.. وان الأحاديث السنية بالذات لا تحصرهم في اثني عشر ، وانما تشير الى وقوع الهرج بعد الثاني عشر من الخلفاء ، كما في رواية الطوسي عن جابر بن سمرة (25) او تتحدث عن النصر للدين او لأهل الدين حتى مضي اثني عشر خليفة .(1/11)
ولو اخذنا بنظرية الشيعة الامامية الفطحية الذين لا يشترطون الوراثة العمودية في الامامة ، لأصبح الامام الحسن العسكري هو الامام الثاني عشر ، بعد الاقرار بإمامة عبدالله ألا فطح بن الصادق ، او الاعتراف بإمامة زيد بن علي ، الذي اعترف به قسم من الامامية .
إذن .. فان الاستدلال بأحاديث (الاثني عشرية) العامة والغامضة والضعيفة دون وجود دليل علمي على ولادة (محمد بن الحسن العسكري) هو نوع من الافتراض والظن والتخمين .. وليس استدلالا علميا قاطعا..
(لا بد من أمام حي ظاهر يُعرف!)
اما الدليل النقلي الأخير القائل بضرورة وجود الامام في كل عصر ، وعدم جواز خلو الأرض من حجة.. فهو دليل ينقض نفسه بنفسه ، اذ ما معنى الامام والحجة ؟ وما الفائدة منهما ؟ أليس لهداية الناس وادارة المجتمع وتنفيذ الاحكام الشرعية؟ فكيف يمكن للامام الغائب - على فرض وجوده - ان يقوم بكل ذلك؟ .. وإذا كان الامام الغائب يقوم بمهمة الامامة والحجية ، فلماذا شعر الفقهاء بالحاجة الى الامام والحجة في عصر الغيبة ؟
وإذا كان الهدف من وجوده هو ادارة الكون كما يقول بعض الغلاة ، فان الله سبحانه وتعالى لديه ملائكة كثيرون يقومون بذلك..
وقد رد الامام علي بن موسى الرضا (ع) على الواقفية الذين قالوا بغيبة أبيه (الامام الكاظم) : بأنه لا بد من أمام حي ظاهر يعرفه الناس ويرجعون اليه ! وقال:· ان الحجة لا تقوم لله على خلقه الا بامام حي يُعرف و · من مات بغير أمام مات ميتة جاهلية.. أمام حي يعرفه.. وقد قال رسول الله (ص): من مات وليس له أمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية . 27
وقال الامام الرضا لأحد الواقفية:· من مات وليس عليه أمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية ، فسأله مستوضحا ومركزا على كلمة (أمام حي) فأكد له مرة اخرى ( أمام حي ) .(1/12)
ان منشأ هذه الفكرة هي المقدمة الأولى العقلية لنظرية الامامة ، والمقصود منها : ضرورة وجود عموم الامام (اي الرئيس) في الأرض ، وعدم جواز بقاء المجتمع بلا حكومة ، اية حكومة واي أمام .. وإذا كانت قد تطورت الى ضرورة وجود (الامام المعصوم المعين من قبل الله) فان الاصرار عليها والاستنتاج منها : وجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) واستمرار حياته الى اليوم ، هو ايضا نوع من الافتراض والظن والتخمين . فاين هو الامام المعلم الهادي والمطبق لأحكام الله الذي يحافظ على الشريعة من الزيادة والنقصان؟
وحتى لو صحت تلك الأحاديث فقد يكون الامام شخصا آخر .. اذا لم يكن المقصود به مطلق الامام او مطلق الحجة والعالم باحكام الدين .(1/13)
نقد الدليل التاريخي
المطلب الأول: تناقض الروايات
اعتقد ان القاريء العادي لا يحتاج الى ان يتجشم عناء درس علم الرواية والدراية حتى يقيّم تلك الروايات ·التاريخية الواردة حول مولد (الامام محمد بن الحسن العسكري) او ان يكون من العلماء المختصين في التاريخ.. فان المؤلفين الذين اوردوا تلك الروايات في كتبهم أراحوا انفسهم من تهمة الاعتماد على هكذا روايات ضعيفة وقالوا في البداية: اننا نثبت وجود (الامام الثاني عشر) بالطرق الفلسفية العقلية الاعتبارية النظرية ، ولسنا بحاجة الى الروايات التاريخية ، وانما نأتي بها من باب الاسناد والتعضيد والتأييد . وألقوا عن انفسهم عبأ المناقشة العلمية لتلك الروايات والتأكد من سندها والنظر الى متنها.
واعتقد انهم كانوا يوردونها من باب (الغريق يتشبث بكل قشة) وإلا فانهم اعرف الناس بضعفها وهزالها.. ولو كانت فرقة اخرى تستشهد بهكذا روايات على وجود أئمة لها او أشخاص من البشر .. لسخروا منها واستهزأوا بعقولها واتهموها بمخالفة المنطق والعقل والظاهر.. كما فعل متكلموا الفرقة الاثني عشرية في مناقشتهم لفريق من الشيعة الامامية الفطحية الذين ادعوا وجود ولد مكتوم للامام عبدالله ألا فطح بن جعفر الصادق ، وقالوا : ان اسمه محمد وانه المهدي المنتظر ، وزعموا ولادته في السر واختباءه في اليمن.. وذلك اعتمادا على مبدأ ضرورة استمرار الامامة في الأعقاب العقاب الأعقاب وعدم جواز انتقالها الى أخوين بعد الحسن والحسين.. وقال الشيعة الاثناعشرية عن ذلك الفريق من الشيعة الفطحية: انهم اخترعوا وجود شخص وهمي لا وجود له هو :(الامام المهدي محمد بن عبد الله ألا فطح) نتيجة لوصولهم الى طريق مسدود .(1/1)
ان من يطلع على التراث الشيعي العلمي الضخم في مجال الرواية والدراية ، ويرى اعتناء العلماء - منذ القرون الأولى - بتقييم الرواة ودراسة الأحاديث وغربلتها وتمييز القوي من الضعيف.. يدرك مدى الأهمية التي يوليها العلماء الشيعة لبناء الاحكام الشرعية على اسس علمية متينة وعدم قبولهم بجواز بناء مسائل الدين على الاوهام والفرضيات والاشاعات والاساطير.
ولكن المراقب المحايد يصاب بالدهشة لإهمال العلماء طوال التاريخ لدراسة الروايات التاريخية الواردة حول إثبات ولادة ووجود (الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) واعتمادهم في ذلك على قاعدة ما أنزل الله بها من سلطان ، تقول:( الضعيف يقوي بعضه بعضا) واعتبار مسألة الولادة والوجود أمرا مفروغا منه مسَلّماً لا يحتاج الى مراجعة او نقاش.. وهذا ما ادى بهم الى ترديد تلك الروايات بلا تمعن ولا تفكير.. تماما كما كان يفعل غلاة الاخباريين.
ومن المعروف ان الإخباريين الأوائل كانوا يتلقفون كل رواية بلا دراسة ولا تمحيص .. ثم تطوروا فأخذوا يميزون بين الروايات.
, ثم ولدت الحركة الأصولية التي راحت تقسم الأحاديث الى صحيح وحسن وقوي وضعيف.. الا ان هذا التطور لم يشمل الروايات التاريخية الواردة حول موضوع (ولادة الامام الثاني عشر) حيث نرى الشيخ الطوسي الذي ألف (الفهرست ) و (الرجال) في علم الرجال ، ينقل تلك الروايات عن رجال يضعفهم في كتبه ، وذلك بسبب الحاجة الى تلك الروايات لبناء نظريات كلامية معينة.(1/2)
لقد انفق محقق كبير مثل السيد مرتضى العسكري سنوات طويلة من عمره ، لكي يثبت في مجلدين او ثلاثة: ان عبد الله بن سبأ اسطورة وهمية اختلقها بعض المؤرخين لكي يتهموا الشيعة بأخذ نظرية الوصية في الامامة من الاسرائليين، وبذل السيد العسكري جهودا مضنية ودرس عشرات الكتب التاريخية لكي ينفي قصة وجود عبد الله بن سبأ ودوره في الفكر الشيعي ، ولكنه لم يبذل واحدا بالمئة او بالألف من تلك الجهود ليبحث حقيقة (وجود الامام الثاني عشر) او يدرس تلك الروايات التي تتحدث عن ولادته.. ولم يتوقف عندها في كتاب من كتبه ، وهو الذي اكتشف وجود (مائة وخمسين صحابي مختلق)!
بعد كل ذلك.. يمكنني القول بعدم وجود قضية مهملة او معرض عنها في التراث الشيعي كقضية (وجود الامام المهدي وولادته) ولا توجد قضية خارج البحث والاجتهاد مثل تلك القضية.. وعندما قمت بدراستها بالصدفة ، او بالاحرى بتوفيق من الله تعالى ، وعرضت نتيجة دراستي على العلماء والمجتهدين والمفكرين لأكثر من خمسة اعوام ، وجدت الكثير منهم يتهرب من قراءة الدراسة ويمتعض نفسيا من مجرد البحث فيها كأنها تحاول ان توقضه من الاستغراق في حلم جميل.. وقد تأكدت من وجود حالة نفسية عقائدية تحول دون ممارسة البحث العلمي او نقد تلك الروايات التاريخية ..
ان بعض المثقفين من عامة الناس يتلذذ بنقد عقائد الفرق الاخرى والاستهزاء برجالها الضعاف الوضاعين ورواياتها غير المعقولة ، ولكنه عندما يتعلق الأمر بقضية تخص طائفته فانه يغمض عينيه ويتذرع بالجهل وعدم الاختصاص ويرفض ان يشغل عقله قليلا ، ويفضل ان ينام على ما ورثه من خرافات واساطير.(1/3)
قبل ان نناقش تلك الروايات ·التاريخية متنا وسندا.. ينبغي ان نشير الى ان هذه الروايات لم تكن معروفة في فترة ما يسمى ب :(الغيبة الصغرى) حيث لم ينقلها المؤلفون الذين اعتقدوا بوجود الامام الثاني عشر وكتبوا حول ذلك في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري كالنوبختي في (فرق الشيعة) وسعد بن عبدالله الاشعري القمي في (المقالات والفرق) وعلي بن بابويه الصدوق في (الامامة والتبصرة من الحيرة) ومحمد بن أبى زينب النعماني في :(الغيبة) وحتى الشيخ الكليني الذي حاول ان يجمع اية قصة او رواية حول الموضوع ، وذكر قصة الرجل الهندي (سعيد بن أبى غانم) الذي سافر من كشمير بحثا عن الامام المهدي ، ولكنه لم يذكر كثيرا من تلك القصص التي سجلها من بعده الشيخ محمد بن علي الصدوق في :(إكمال الدين) او الشيخ المفيد في :(الارشاد ) و( الفصول) او الشيخ الطوسي في (الغيبة).
ومن المعروف ان الشيخ الصدوق (الابن) جاء بعد حوالي مائة سنة من وفاة الامام العسكري .. وان الشيخ الطوسي توفي بعد قرنين من ذلك التاريخ.. ولكنهما راحا يسجلان كل ما يسمعان من حكايات واشاعات واساطير تتعلق بولادة (محمد بن الحسن العسكري) ، ويرسلان او ينقلان عن عدد من الغلاة والضعاف والمجاهيل والمختلقين .
وكما رأينا فقد كانت تلك ·الادلة التاريخية تختلف فيما بينها اختلافا فاحشا وكبيرا بدءا من تحديد هوية أم (محمد بن الحسن) المفترضة ، ومرورا بتاريخ ولادته ، وانتهاء بأدق التفاصيل.. حيث اختلفت في اسم والدته بين الجارية نرجس او سوسن او صقيل او خمط او ريحانة او مليكة ، او الحرة مريم بنت زيد العلوية ، وانها جارية ولدت في بيت بعض اخوات الامام الهادي .. او اشتريت من سوق الرقيق في بغداد..
واختلفت تلك الروايات في تحديد تاريخ الولادة في اليوم والشهر والسنة.. واختلفت تبعا لذلك في تحديد عمره عند وفاة أبيه بين سنتين او ثماني سنوات.(1/4)
واختلفت في طريقة الحمل في الرحم أم في الجنب ، وفي الولادة من الفرج أم من الفخذ!
واختلفت الروايات في تحديد لونه بين البياض اوالسمرة .
واختلفت في طريقة نموه بين الطريقة العادية المتعارفة والقول بأنه كان يبدو عند وفاة أبيه بهيئة صبي ، وبين الطريقة اللاطبيعية .. واختلفت في هذه الطريقة بين النمو السريع في اليوم مثل النمو خلال سنة اعتيادية ، او النمو في اليوم مثل النمو في اسبوع .. والنمو في الاسبوع مثل النمو خلال شهر..والنمو في شهر مثل النمو خلال سنة . وبناء على ذلك فانه كان يبدو قبل وفاة أبيه بهيئة رجل كبير قد يبلغ سبعين عاما.. بحيث لم تتعرف عليه عمته حكيمة واستغربت من أمر الامام الحسن لها بالجلوس بين يديه.
واختلفت في أمر التكتم عليه.. فقالت رواية: ان حكيمة ودعت الامام الحسن في أعقاب ولادة ابنه وانصرفت الى منزلها ، وعندما اشتاقت له بعد ثلاثة أيام رجعت ففتشت عنه في غرفته فلم تجد له أثرا ولا سمعت له ذكرا ، فكرهت ان تسأل ودخلت على أبى محمد فبدأها بالقول: ·هو يا عمة في كنف الله أحرزه وستره حتى يأذن الله له فإذا غيب الله شخصي وتوفاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقاة منهم وليكن عندك مستورا وعندهم مكتوما فان ولي الله يغيبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه احد حتى يقدم له جبرائيل فرسه .
وقالت رواية اخرى: ان حكيمة كانت تشاهد ابن الحسن كل أربعين يوما ، وانها لم تزل تراه الى ان اصبح رجلا .
وقالت روايات اخرى : ان الامام الحسن العسكري أعلن عن ولادة ابنه وارسل الى بعض اصحابه بكبش ليعقوا عنه ، وانه عرضه على مجموعة من اصحابه ، وانه كتب الى احمد بن اسحاق القمي بذلك.. وانه أخرج ابنه وأراه اياه عند زيارته له في (سر من رأى) وان عددا من الخدم والاصحاب شاهدوا بالصدفة او بالعمد ابن الامام الحسن وهو جالس في غرفة او يمشي في الدار .(1/5)
واختلفت الروايات بين ذكر الخوف من السلطة للقبض عليه ، وبين الاطمئنان التام الى حد الخروج للصلاة على جثمان أبيه واستقبال الوفود في دار أبيه.
واختلفت الروايات حول علم الاصحاب والخدم بوجود ابن للامام العسكري ، فقال بعضها: بأن الخدم والاصحاب المقربين كانوا يعلمون بوجوده وانهم قد شاهدوه .. وقال بعضها: انهم فوجئوا به عند ظهوره للصلاة على جثمان أبيه وعدم معرفته الا بالعلامات العديدة.
واختلفت الروايات حول نضجه العقلي ، فقال بعضها: انه سجد لحظة ولادته وتشهد بالشهادتين وصلى وسلم على آبائه وحدا واحدا وقرأ آيات من القرآن المجيد.. وقال بعضها: انه كان وهو غلام يلعب برمانة ذهبية ويصد اباه عن كتابة ما يريد!..
رواية حكيمة
تقول رواية الصدوق عن حكيمة: ان نرجس لم يكن بها أي أثر للحمل وانها لم تكن تعرف ذلك وقد استغربت عندما قالت لها حكيمة : أنها ستلد تلك الليلة ، وقالت يامولاتي ما أرى شيئا من هذا !.. وان حكيمة نفسها استغربت عندما اخبرها الامام الحسن بولادة ابن له في ليلة النصف من شعبان وتساءلت : من أمه؟ وعدما قال لها :(نرجس) قالت: جعلني الله فداك ما بها أثر. وعندما اقترب الفجر ولم يظهر اي أثر دخل الشك الى قلب حكيمة .
تقول الرواية: ان حكيمة أقبلت تقرأ القرآن على نرجس فأجابها الجنين من بطن أمه ، يقرأ مثلما تقرأ ، وسلم عليها ، مما أثار فزعها ، ومع ذلك تقول الرواية: ان حكيمة اخذتها فترة ولم تشهد عملية الولادة ، وفي رواية اخرى: ان نرجس غُيّبت عن حكيمة ، فلم ترها ، كأنه ضُرب بينها وبينها حجاب ، مما أثار استغرابها ودفعها الى الصراخ واللجوء الى أبى محمد.(1/6)
ولا تذكر رواية الصدوق ما ذكره الطوسي في احدى رواياته: ان حكيمة وجدت على ذراع الوليد مكتوبا :· جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا بالرغم من تقدم الصدوق على الطوسي ، ولكن الصدوق ينفرد بذكر الطيور التي حلقت فوق رأس الوليد ، وقول الحسن لطير منها : احمله واحفظه ورده الينا في كل أربعين يوما.
ويتفق الاثنان :(الصدوق والطوسي) على تكلم الوليد والتشهد بالشهادتين والصلاة على النبي والأئمة السابقين والسلام على أمه وابيه ، كما يتفق الاثنان ايضا: على ان الوليد غاب بعد ذلك واختفى ، وان عمته لم تجد له أثرا ولا سمعت له ذكرا.
وكل هذه الامور غريبة لم تعرف عن رسول الله (ص) ولا عن أحد من الأئمة السابقين (ع) .. وهي من مقولات الغلاة واساطيرهم ، ولا علاقة لها بالشيعة الجعفرية او الامامية الذين جعلوا النص طريقا للتعرف على الامام الجديد ، ولم يذكروا شيئا من تلك الامور الخارقة اللاطبيعية.
وقد ذكر الله عز وجل قصة تكلم النبي عيسى (ع) في المهد أمام الناس بصورة اعجازية لكي ينفي عن امه تهمة الزنا ، ويثبت ولادته بصورة غير طبيعية ، وليست هناك حاجة لإحداث المعجزة والامور الخارقة للعادة مع ولادة (الامام الثاني عشر) . وإذا كان لا بد للمعجزة ان تحدث .. فلا بد ان تحدث أمام الناس لكي يطلعوا عليها ويؤمنوا برسالتها.. ولا يمكن ان تحدث بصورة سرية لا يطلع عليها احد .. فما الفائدة منها؟
لقد كان هناك شك في اساس ولادة ابن للحسن العسكري ، وإذا كانت هناك إمكانية لحدوث أمر خارق للعادة ، فانه كان يمكن ان يحدث لإثبات امر الولادة .. وحفظ الوليد من السوء مثلا.. وهذا ما لم يحدث.(1/7)
ويلاحظ ان جميع الروايات التي تتحدث عن ولادته سرا وغيبته بين اجنحة الطيور التي هي الملائكة ، لم تشر الى وجود خوف من السلطة ، والى انه المهدي المنتظر.. ولو كان قد ولد حقاً لكان من الأفضل ان يعلن الامام العسكري عن ولادته بحيث يراه جميع الناس ويتأكدوا من وجوده وخلافته لأبيه.. وإذا حاولت السلطة العباسية ان تلقي القبض عليه او تقتله فانه يختفي بقدرة الله وبصورة اعجازية..
وتقول الرواية المنسوبة الى حكيمة: ان الامام الحسن العسكري كان يعلم بصورة غيبية بجنس الجنين وانه ذكر .. كما تقول : انه كان يعلم غيبيا بما تفكر به اخته حكيمة التي شكت في قوله ، وقال لها : لا تعجلي يا عمة. كما تشير الى علم الامام الحسن باقتراب اجله وقوله لأخته : (عن قريب تفقدوني) وكذلك علم الامام المهدي بالغيب واجابته على اسئلة حكيمة قبل ان تبدأ بها .. وكل هذه امور تخالف عقيدة الشيعة الجعفرية والامامية وتتفق مع نظريات الغلاة والمنحرفين عن اهل البيت (ع) اذ ان هناك حديث مشهور لدى الشيعة عن أئمتهم : يأمر بضرب اي حديث يتعارض مع القرآن عرض الجدار .
إذن فان كل هذه التساؤلات والاشكالات والمآخذ تضعف الرواية المنسوبة الى حكيمة ، وتسقطها عن الحجية والوثوق وتقرب من كونها اسطورة حاكها الغلاة والمتطرفون.
رواية أبى الاديان البصري
وهي رواية انفرد بها الصدوق في :(إكمال الدين) عن رجل مختلق او موهوم لم يذكر اسمه ولا اسم أبيه ولا عشيرته :(ابوالاديان البصري) وقال انه احد خدام الامام وحامل كتبه ورسوله الى الأمصار وجامع امواله.. ومع ذلك فلم يعرفه احد ولم يشر الى وجوده اي مؤرخ آخر.(1/8)
وبالرغم من المكانة العالية التي يعطيها اياه الصدوق ، فان الراوي (ابو الأديان ) يعترف في نفس الرواية: بأن الامام العسكري لم يخبره بهوية الامام من بعده ، وجهله بوجود ابن للامام ، ويقول ايضا: بأن عامة الشيعة بما فيهم عقيد والسمان (عثمان بن سعيد) والبصري نفسه عزوا جعفر بن علي وهنأوه ، ولم يكونوا يعرفون من هو الامام بعد العسكري ، وارادوا ان يصلوا خلف جعفر .
وتعتمد الرواية من بدايتها الى نهايتها على عنصر (علم الامام بالغيب) حيث يقول الراوي في البداية: ان الامام الحسن قال له:· امضِ الى المدائن فانك ستغيب خمسة عشر يوما وتدخل الى (سر من رأى) يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل وكل ذلك من علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله ، حيث يقول القرآن الكريم:· وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت .
وتقول الرواية: ان الامام القادم المجهول سوف يطالب البصري ، دون ان يعرفه من قبل، بجواب كتب الامام العسكري ، كما تقول : بأنه سوف يخبر بما في الهميان . وان صبيا خرج بعد تكفين العسكري ودفع جعفرا وصلى على أبيه ، ثم قال للبصري: هات جوابات الكتب التي معك ، فدفعها اليه . وفي تلك الاثناء جاء وفد من شيعة قم والجبال فسألوا عن الامام العسكري فأخبروهم بوفاته ، فقالوا: من نعزي؟ فأشار الناس الى جعفر بن علي ، فسلموا عليه وعزوه وهنوه..
ولم يوضح البصري لماذا لم يدلهم هو الى الامام الجديد؟ ولماذا لم يشر قادة الشيعة الذين صلوا _ لتوهم _ خلف الصبي ، اليه ، اذا كان قد حدث ذلك حقاً و فعلاً ؟.(1/9)
وعلى اي حال فان الراوي ( ابو الأديان البصري) يقول: ان وفد قم لم يعترضوا على تعيين جعفر كامام بعد أخيه ، ولم يحتجوا بضرورة الوراثة العمودية ، وانما قالوا بأن معهم كتبا واموالا وطلبوا من جعفر ان يخبر بصورة غيبية ممن هي الكتب والاموال.. فقام جعفر ينفض اثوابه ويقول: تريدون منا ان نعلم الغيب؟!.. فخرج الخادم (؟) وقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه الف دينار وعشرة دنانير مطلية ، فدفعوا اليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الامام .
ولم يقل الصدوق في هذه الرواية: ان وفد قم عرفوا هوية الامام او رأوه او التقوا به . ولكنه يقول في رواية اخرى: ان الوفد سار مع الخادم ودخل على الامام القائم وهو قاعد على سرير كأنه فلقة قمر عليه ثياب خضر ، فسلم الوفد عليه ، ورد عليهم السلام ، ثم قال: جملة المال كذا وكذا.. حمل فلان كذا وحمل فلان كذا.. ولم يزل يصف حتى وصف الجميع ، ثم وصف رحال الوفد وثيابه وما كان معه من الدواب.
وبالرغم من أن المسألة ليست عسيرة جدا .. حيث يمكن لأي شخص ان يندس بين الوفد ويطلع على حاله او يتفق مع رئيس الوفد ويخبر البقية بالتفاصيل.. فان رواية أبى الاديان البصري تعتبر ذلك من علم الغيب ، وانه يشكل دلالة على إمامة الرجل (او الصبي) القاعد على السرير ، وإمامته ، دون ان تقول كيف تعرف الوفد على هوية الرجل ، وهل قال لهم انه ابن الامام العسكري ؟ .. أم لا ؟.
وكما هو واضح.. فان هذه الرواية لا تذكر شيئا عن الخوف والإرهاب المحيط بالشيعة والامام الجديد ، بل تقول ان الخليفة العباسي المعتمد وقف الى جانب الوفد في خلافهم مع جعفر وانه ارسل لهم حرسا يحمونهم في الطريق ، وتنسى الرواية التي تقول : ان السلطات العباسية كبست دار الامام العسكري وفتشته بحثا عن وجود ولد له.(1/10)
وإذا كان الامام فعلا خائفا ومتكتما ومستورا فلماذا يخرج للصلاة على أبيه ولماذا يجلس في بيته ويستقبل الوفود على مقربة من عيون السلطة؟
هذا وان المعروف والثابت تاريخيا ان ابا عيسى المتوكل هو الذي صلى على جثمان الامام العسكري وشيعته عاصمة الخلافة (سرمن رأى) التي اغلقت ابوابها عن بكرة ابيها وضجت بالبكاء والعويل .
ويبدو ان هذه الحكاية قد نشأت في قم في مرحلة متقدمة ، لإثبات وجود خلف للامام العسكري .. قبل ان تتطور وتنشأ نظرية مهدوية ذلك الخلف.. وذلك لأن مسألة إثبات الخلف تختلف وتسبق زمنيا مسألة إثبات صفة المهدوية له ، وقد كان الناس مشغولين في البداية بإثبات المسألة الأولى ، ولم تنشأ المسألة الثانية (المهدوية) الا في وقت متأخر بعد سنين طويلة ، انطلاقا من حالة الغيبة وعدم الوجدان للامام فاعتبر البعض ذلك علامة من علامات المهدي وقال إذن فانه المهدي المنتظر.
ومن هنا فان واضعي الحكاية لم يأخذوا في حسبانهم الخوف من السلطات وتفتيش الشرطة عنه ، فتحدثوا عن خروج الصبي للصلاة على أبيه واستقبال الوفود في داره.
وقد ذكرنا الى جانب تلك الرواية روايتين اخريين هما رواية إسماعيل بن علي النوبختي الذي يقول: انه زار الامام العسكري قبيل ساعة من وفاته فطلب الامام من خادمه (عقيد) ان يأتيه بابنه ، وانه جاء به اليه فقال له:· أبشر يا بني فأنت صاحب الزمان... ورواية: المجموعة من الاصحاب الذين قالوا ان الامام العسكري عرض عليهم ابنه وقال لهم:· هذا امامكم من بعدي وخليفتي عليكم.. أما انكم لا ترونه بعد يومكم هذا ..
والرواية الأولى تتناقض مع رواية أبى الاديان البصري الذي يقول فيها: ان (عقيد) كان يجهل وجود ولد للامام العسكري ، ولذلك طلب من أخيه جعفر ان يصلي عليه ، بينما تقول الرواية الأولى: ان (عقيد) جاء بالصبي لأبيه أمام إسماعيل بن علي النوبختي.(1/11)
ومن الجدير بالذكر ان النوبختي لا يشير بنفسه الى هذه القصة ويقول: انه عرف بوجود ابن للحسن عن طريق الاستدلال النظري ، كما ينقل عنه الصدوق في كتابه (إكمال الدين ص 92) عن كتاب النوبختي:( التنبيه)
اما الرواية الثانية فتتناقض ايضا مع رواية أبى الاديان البصري التي تنفي معرفة كبار الاصحاب بوجود ابن للحسن العسكري ، بما فيهم السمان (عثمان بن سعيد العمري) و(حاجز الوشاء) الذي تساءل من جعفر : من الصبي لنقيم عليه الحجة؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا اعرفه!
ومن المعروف .. ان السمان العمري وحاجز الوشاء ادعيا (النيابة الخاصة والوكالة عن الحجة ابن الحسن) بعد ذلك ، فمتى رأوه؟ ومتى اخذوا الوكالة منه؟
وهناك نقطة اخرى: هي ان الرواية الثانية تقول: ان الامام العسكري قال لأصحابه بعد ان عرض عليهم ابنه:· أما انكم لا ترونه بعد يومكم هذا فكيف ظهر بعد ذلك وصلى على جثمان أبيه واستقبل الوفود؟
وكل هذه الروايات تتناقض مع الرواية الأولى المروية عن حكيمة والتي يقول فيها الامام العسكري: أنها لن تراه بعد يوم ولادته ، حيث تعود كل رواية فتنقض الرواية السابقة.
وهذا ما يدل على ان الفريق الذي اخترع وجود ولد للامامالعسكري خلافاللظاهر والحقيقة.. وبناء على مقولات فلسفية واهية، كعدم جواز انتقال الامامة الى أخوين بعد الحسن والحسين وضرورة استمرار الامامة في الأعقاب العقاب الأعقاب.. ان هذا الفريق راح يختلق القصص والحكايات والاساطير عن مولد ابن الحسن واللقاء به في حياة أبيه ومشاهدته عند وفاته.(1/12)
ولما كانت الروايات مختلقة ولا تعبر عن الحقيقة ومصنوعة من قبل رجال مختلفين، فقد جاءت الروايات متناقضة ومختلفة في ادق التفاصيل ، وتعبر كل واحدة منها عن افكار واضعها النفسية الخاصة ، كما جاءت محفوفة بالمعاجز والامور الخارقة للعادة ، ومنطوية على دعوى علم الأئمة بالغيب ، وهذه دعوى تناقض القرآن الكريم الذي يصرح:· قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب الا الله ويقول:· عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا الا من ارتضى من رسول .. وتحاول تفسير ظاهرة الغيبة المحيرة والمناقضة لنظرية الامامة الالهية واللطف الالهي .
ان الرواية التاريخية الظاهرية تقول: ان الامام الحسن العسكري لم يشر الى وجود ولد له ، وعندما أحسّ بالوفاة استدعى القاضي ابن أبى الشوارب ، وأوصى امامه بأمواله وممتلكاته الى امه (حديث) ، وقد ادعت جارية له اسمها (نرجس) بأنها حامل منه أملا في عتقها ، لأنها كانت ستصبح (أم ولد) وتعتق من نصيب ابنها .. وربما كانت الدورة الشهرية قد تأخرت عليها فظنت نفسها أنها حامل.. وقد أرجأ القاضي قسمة التركة واهتم بالجارية
ونقلها الى نساء الخليفة المعتمد وأمر باستبرائها ، اي التحقق من ادعائها الحمل.. ثم لم يتبين عليها اي شيء .
وكان بعض الشيعة الامامية الذين لم يقولوا بإمامة جعفر بن علي قد اصيبوا بأزمة فكرية وحيرة فتشبث بعضهم ب : · قشة نرجس ، وقال: أنها ولدت بعد ذلك.. وقال بعضهم: أنها لم تلد ولم نرَ ذلك .. ولكنها سوف تلد عندما يأذن الله ، وان الجنين بقى في بطنها مدة طويلة بصورة اعجازية.. وقال بعض آخر: أنها ادعت الحمل للتغطية على ولدها الذي ولدته من قبل.. وقال آخرون اقوالا اخرى مشابهة .(1/13)
وراح الذين ادعوا وجود الولد من قبل ينسجون الاشاعات والاساطير بصورة سرية خافتة ليضلوا بها البسطاء ويستفيدوا من ورائها الاموال.. ولم يصدق العلماء والمحققون الاوائل بتلك الاشاعات.. ثم جاء الشيخ الصدوق بعد مائة عام والشيخ الطوسي بعد مائتي عام ليسجلوا تلك القصص والاساطير دون ان يحققوا بمصادرها واسنادها ، ودون ان يعتمدوا عليها كثيرا.. وكانوا يشعرون بضعفها وهزالها فقالوا في البداية : اننا نعتمد على الدليل العقلي (الفلسفي) لإثبات وجود (ابن الحسن) ونأتي بتلك القصص من باب المعاضدة والتأييد..
ثم جاء من بعدهم من المؤرخين (الاخباريين) فنقلوا تلك القصص الاسطورية كأنها حقائق تاريخية لا تقبل المناقشة والحوار.
ومع ان الله سبحانه وتعالى يطالبنا بالأخذ بالرواية الظاهرية النافية لوجود ولد للامام الحسن العسكري ، ولا يحاسبنا ولا يسألنا بالأخذ بالرواية السرية الباطنية المتناقضة والمحفوفة بالخرافات والاساطير .. واننا لسنا بعد ذلك ، وبعد ما تبين ما فيها من ضعف كبير ، بحاجة الى دراسة سندها ومعرفة الرواة الناقلين لها.. فاننا بالرغم من ذلك سوف نلقي نظرة على سندها لننظر من أين جاء بها اولئك المؤرخون ، ولنزداد معرفة ويقينا بضعف هذه الروايات التي لعبت دورا كبيرا في التاريخ الاسلامي وفي بناء الفكر السياسي الشيعي عبر التاريخ.(1/14)
تقييم سند الروايات التاريخية
قبل ان ندخل في دراسة سند تلك الروايات التاريخية لا بد ان نشير الى ان بعض العلماء الذين كتبوا حول (الامام المهدي) أهملوا تلك الروايات ولم يعتمدوا عليها ، كما فعل الشهيد السيد محمد باقر الصدر في :(بحث حول المهدي) ولكنه اعتمد على دعوى (النواب الأربعة) الذين ادعوا النيابة الخاصة والوكالة عن (الامام المهدي) واستبعد ان يكذب هؤلاء في دعواهم اللقاء بالإمام ، وبنى بناء على ذلك على صحة وجود وولادة الامام المهدي ، وراح يفسر بعد ذلك فلسفة الغيبة ويثبت إمكانية العمر الطويل.
وهناك من يعتمد على المشايخ الكبار الذين رووا تلك الروايات كالشيخ الكليني والصدوق والطوسي والمفيد ويستبعد كذبهم أو اعتمادهم على رواة ضعاف وروايات ضعيفة.
وبالرغم من وجود عمليات تزوير وتلاعب في الكتب القديمة والحديثة ، فلم أرَ من يتوقف لكي يدرس تلك الكتب ويتأكد من صحتها..
وعموما اعتقد : ان من الضروري في البحث العلمي التأكد :
أولا: - من صحة نسبة الكتب التاريخية المعروفة ك :(الغيبة) و(إكمال الدين) و(الإرشاد) و(الفصول) الى اصحابها، والتأكد من عدم إضافة أو نقصان أو تحوير أي شيء منها .. وهذا أمر عسير غير ممكن.. حيث لا توجد في التراث الشيعي من الكتب (الصحيحة) - أي ما صح نسبتها الى مؤلفيها - سوى كتب الحديث الأربعة (الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار) التي رواها العلماء واحدا عن واحد.
ثم لا بد ثانيا: من دراسة مؤلفيها ومدى دقتهم وضبطهم . وهذا أمر ممكن وليس بعسير.
ثم لا بد من دراسة سلسلة الرواة الذين ينقلون عنهم ، والتأكد من وجودهم وصدقهم وضبطهم.. فان بعض الرواة لا وجود لهم ، أي انهم أشخاص وهميون مختلقون ، وبعضهم غلاة كذابون وضاعون ، وذلك حسبما يقول علماء الرجال الشيعة الامامية الاثناعشرية كالطوسي والنجاشي والكشي وابن الغضائري وغيرهم.(1/1)
وهناك بعض الرواة الذين اجمع علماء الرجال (الاماميون الاثناعشريون) على وثاقتهم وصدقهم والأخذ عنهم.. ولكن بقية الفرق الامامية والشيعية والإسلامية لا تعترف بذلك وتشك بصدقهم ، وذلك كالنواب الأربعة وغيرهم ممن ادعى رؤية (الامام المهدي) واللقاء به واخذ الوكالة عنه.
وان اية دراسة لسند الروايات التاريخية التي تثبت ولادة ووجود (الامام المهدي) ينبغي ان تدرس الظروف الموضوعية المحيطة بهؤلاء (النواب) وتعيد النظر في وثاقتهم وصدقهم.. كما أعاد الشيعة النظر في كثير من أصحاب الامام الكاظم (ع) الذين وقفوا عليه وقالوا بغيبته ومهدويته ، رغم وثاقتهم وصدقهم.. وتوقفوا على الأقل في رواياتهم التي يتحدثون فيها عن استمرار حياة الامام الكاظم.. بعد ان اتهموهم بجر النار الى قرصهم ، والاستفادة ماديا من دعوى مهدوية الامام الكاظم وغيبته واللقاء به.
وقد اعتاد المؤرخون والمؤلفون عن (الامام المهدي) ان يسلّموا بوثاقة (النواب الأربعة) ويصدقوا برواياتهم عن مشاهدة (الامام المهدي) واستلام (التواقيع ) منه .. وهذا نوع من الانحياز المسبق والتسليم الاعمى والتصديق الساذج لرجال متهمين باختلاق القصة من اساسها ، واستغلالها لتحقيق مكاسب مادية شخصية.
ولقد كان الشك موجودا في حياتهم.. حيث كان الشيعة يشكون بصدق دعواهم في (النيابة) ويتساءلون عن مصير الاموال التي يجبونها باسم (الامام المهدي) وكان بعض أدعياء النيابة يكذب بعضا ، ويتهم كل فريق منهم الفريق الآخر بالدجل والشعوذة.
ولا يوجد ما يثبت صحة دعوى (النواب الأربعة) من بين اكثر من عشرين شخصا كان يدعي (النيابة الخاصة) في تلك الايام ، سوى مجموعة اشاعات عن قيام النواب بالمعاجز وعلمهم بالغيب ، وهذه امور ذكرها المؤرخون (الكليني والصدوق والطوسي والمفيد) في كتبهم وصدقوا حدوثها بالنسبة لبعض (النواب) ورفضوا تصديقها بالنسبة الى البعض الآخر.(1/2)
وإذا رفضنا قبول حكايات المعاجز والعلم بالغيب التي ادعاها (النواب الأربعة) أو روّجها عنهم انصارهم.. فلا يبقى لدينا ما نستدل به على صدقهم وتمييزهم عن سائر المدعين الكذابين ، لأن الجميع متهم بجر النار الى قرصه .
ومن هنا سوف ندرس سلسلة رواة القصص التاريخية التي تتحدث عن ولادة ووجود ومشاهدة (الامام المهدي محمد بن الحسن العسكري) دراسة محايدة ونعتمد أساساً على تضعيف علماء الرجال الشيعة الامامية الاثني عشرية .. وإذا كان لدينا رأي خاص حول رجل معين فسوف نقدم ادلتنا الخاصة حوله.
رواية حكيمة
ينقل الصدوق في :(إكمال الدين) ص 424 قصة ولادة (صاحب الزمان) عن محمد بن الحسن بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار ، قال: حدثنا ابو عبدالله الحسين بن رزق الله ، قال: حدثني موسى بن محمد القاسم ، قال : حدثتني حكيمة...
والحسين بن رزق الله شخص مجهول أو مختلق لا وجود له في تراجم الرجال ، اما موسى بن محمد فهو مهمل .
وفي بعض النسخ يوجد (الحسين بن عبيد الله) بدلا من (ابو عبدالله الحسين) ، وهو من يطعن فيه النجاشي ويتهمه بالغلو.
وفي رواية اخرى ينقل الصدوق القصة عن الحسين بن احمد بن ادريس ، قال: حدثنا أبى ، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال: حدثني محمد بن ابراهيم الكوفي ، قال: حدثنا محمد بن عبدالله الطهوي ، عن حكيمة...
وتختلف النسخ الموجودة من (إكمال الدين) في اسم الطهوي ، ففي بعضها: الظهري و وفي بعضها الزهري ، وفي بعضها: المطهري، وفي بعضها: الطهري.. ولا يوجد أي ذكر لهذا الرجل في تراجم الرجال ، مما يحتمل اختلاقه من قبل بعض الرواة ، وعلى أي حال .. فهو مجهول.
اما الشيخ الطوسي فينقل القصة في (الغيبة) (1) عن عمة الامام العسكري ، ويسميها (خديجة) بدلا من (حكيمة) .(1/3)
وينقل القصة مرة اخرى عن ابن أبى جيد عن محمد بن الحسن بن الوليد عن الصفار محمد بن الحسن القمي عن أبى عبدالله المطهري عن حكيمة،التي تذكر ان اسم والدة ابن الحسن (سوسن) وليس (نرجس) كما في رواية الصدوق.
وينقل القصة ايضا برواية ثالثة عن ابن جيد عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن حمويه الرازي ، عن الحسين بن رزق الله عن موسى بن محمد..
وفي رواية رابعة ينقلها الطوسي عن احمد بن علي الرازي عن محمد بن علي عن علي بن سميع بن بنان عن محمد بن علي بن أبى الداري عن احمد بن محمد عن احمد بن عبدالله عن احمد روح الاهوازي عن محمد بن ابراهيم عن حكيمة ، بمثل معنى الحديث الاول ، الا انه قال: قالت بعث الي ابو محمد ليلة النصف من رمضان ، وليس من شعبان.
وفي رواية خامسة ينقلها الطوسي عن احمد بن علي الرازي عن محمد بن علي عن حنظلة بن زكريا ، قال :حدثني الثقة عن محمد بن بلال عن حكيمة..
وفي رواية سادسة ينقلها الطوسي عن جماعة من الشيوخ عن حكيمة.
وفي هذه الرواية الاخيرة لا يذكر الطوسي اسم احد من الشيوخ الذين يرسلون الرواية الى حكيمة من دون ذكر أي سند . وهذا ما يسقطها عن الحجية والاعتبار.
وفي الرواية التي قبلها لا يقول حمزة بن زكريا (الذي يضعفه النجاشي) من هو (الثقة) الذي حدثه؟.. اما محمد بن علي بن بلال فهو احد أدعياء الوكالة عن المهدي وقد اختلف مع محمد بن عثمان العمري . واما احمد بن علي الرازي ، فان الطوسي نفسه يضعفه في كتب الرجال ، وكذلك يضعفه النجاشي وابن الغضائري ، ويتهموه بالغلو
ومن هنا يتبين حال الرواية الرابعة التي ينقلها الطوسي عن احمد بن علي الرازي (الضعيف الغالي) الذي ينقلها عن مجهول هو (احمد الاهوازي) .
اما الرواية الثالثة .. ففيها (محمد بن حمويه الرازي) وهو مجهول ايضا ، بالإضافة الى ( الحسين بن رزق الله) المجهول كذلك .(1/4)
وفي الرواية الثانية يتبدل اسم (محمد بن عبدالله الطهوي) الذي ذكره الصدوق الى (أبى عبدالله المطهري) .. وهو مجهول في كلا الحالين .
اما الرواية الأولى فتقول عمة الامام فيها : أنها لم تعاين مولد ابن الحسن ، وانما سمعت بذلك خبرا كتب به ابو محمد الى امه في المدينة.
إذن فان رواية حكيمة عن مولد (ابن الحسن) يرويها المتأخرون عن غلاة عن ضعاف عن مجاهيل عن مختلقين.. ولا يمكن الاعتماد عليها مطلقا.
رجل من اهل فارس
ينقل الكليني في (الكافي) (2) والصدوق في :(إكمال الدين) (3) والطوسي في :(الغيبة) (4) والصدر في (الغيبة) (5) قصة (رجل من اهل فارس) ذهب الى (سرمن رأى) ولزم باب أبى محمد الحسن العسكري يعمل مع الخدم.. وشاهد يوما غلاما ابيض ، فقال له الامام الحسن :· هذا صاحبكم .
وهذه رواية ضعيفة جدا لا حاجة للتوقف عندها حيث لا تذكر اسم الراوي وتكتفي بالقول : انه (رجل من اهل فارس) ! .. وهذا اسلوب غير مقبول في الحديث مطلقا.
يعقوب بن منقوش
واما رواية يعقوب بن منقوش التي يقول فيها انه سأل الامام العسكري يوما :· من صاحب هذا الامر؟ فقال له: · ارفع سترا مسبلا على باب بيت فخرج منه غلام خماسي فقال:· هذا صاحبكم والتي ينقلها الصدوق عن أبى طالب المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي السمرقندي ، عن جعفر بن محمد بن مسعود عن أبيه محمد بن مسعود العياشي عن آدم البلخي عن علي بن الحسن بن هارون الدقاق عن جعفر بن محمد بن عبدالله بن القاسم عن يعقوب بن منقوش .. فهذه رواية ضعيفة جدا ..
أولا: لعدم وجود شخص باسم المظفر السمرقندي في تراجم الرجال.
وثانيا: لأن العياشي يروي عن الضعفاء كثيرا ، كما يقول النجاشي ، وهو يقول بتحريف القرآن في تفسيره بصراحة.
وثالثا: لقول آدم البلخي بالتفويض ، وهو من الغلاة الذين كانوا يقولون بأن الله خلق محمدا وفوّض اليه خلق الدنيا ، وهو الخلاق لما فيها ، ثم فوّض الامر الى علي ( راجع رجال النجاشي)(1/5)
ورابعا: لإهمال الدقاق واختلاف اسم والده بين الحسن والحسين.
وخامسا: لمجهولية جعفر بن محمد بن عبدالله.
وسادسا لإهمال يعقوب بن منقوش ، واضطراب اسم والده بين منقوش ومنفوش ومنفوس .
عثمان بن سعيد العمري
اما الرواية التي ينقلها الصدوق في :(إكمال الدين) (6) والطوسي في (الغيبة) (7) عن جماعة فيهم عثمان بن سعيد العمري ومعاوية بن حكيم ومحمد بن ايوب ، وقول الامام لهم :· هذا امامكم من بعدي... فان الصدوق والطوسي يرويانها عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري ، وهو كذاب شهير وضاع للاحاديث ، يقول عنه ابن الغضائري:· كذاب متروكالحديثجملة ، وكان في مذهبه ارتفاع (غلو) ويروي عن الضعفاء والمجاهيل ، وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه.. روى في مولد القائم اعاجيب ويقول عنه النجاشي:· كان ضعيفا في الحديث ، وقال احمد بن الحسين : كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل ، وسمعت من قال: كان ايضا فاسد المذهب والرواية ، ولا ادري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة ابوعلي بن همام وشيخنا الجليل الثقة ابو غالب الرازي
اما رواية (نسيم) و(طريف ابو نصر) الخادمين عند الامام العسكري ، فينقلهما الصدوق عن المظفر السمرقندي (المهمل ) عن العياشي (الضعيف) عن آدم البلخي (الغالي المفوض) .
واما رواية إسماعيل النوبختي التي يرويها الطوسي عن احمد بن علي الرازي ، فهي ضعيفة جدا ، لأن الطوسي نفسه لا يوثق الرازي ويتهمه بالضعف والغلو ، إضافة الى اتهام ابن الغضائري والنجاشي له بذلك .
ويروي الطوسي رواية اخرى عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري ، وعن احمد بن علي الرازي عن كامل بن ابراهيم المدني الذي يقول : انه دخل على الامام العسكري فجاءت الريح وكشفت سترا مرخى على باب ، فشاهد فتى وراءه ، فعرفه الفتى وناداه باسمه ، ثم رجع الستر الى حاله فلم يستطع كشفه ، فانها واضحة الضعف بعد روايتها عن الفزاري والرازي الغاليين الضعيفين.
ابو الاديان البصري(1/6)
واما رواية (ابو الاديان البصري) التي ينفرد بنقلها الصدوق ، ويرسلها دون أي سند ، حيث يقول (وحدث ابو الاديان ...) بالرغم من ان بينهما حوالي مائة عام .. ولا يعرف احد شخصا بهذا الاسم مما يؤكد اختلاقه من قبل بعض الغلاة .
واما تكملة القصة - وهي مجيء وفد قم والجبال الى (سر من رأى) - التي ينقلها الصدوق.. ففي سندها (احمد بن الحسين الآبي العروضي) و ] أبى[ الحسين ] ابن[ زيد بن عبد الله البغدادي عن سنان الموصلي عن أبيه.. فكلهم مجاهيل لا وجود لذكرهم في تراجم الرجال ، بالإضافة الى اضطراب اسم البغدادي.
سعد بن عبدالله القمي
واما رواية سعد بن عبدالله القمي التي يقول فيها انه دخل مع احمد بن اسحاق ، على الامام العسكري ، فرأى على فخذه غلاما وهو يلعب برمانة ذهبية ، والتي ينقلها الصدوق عن النوفلي الكرماني عن احمد بن عيسى الوشاء البغدادي عن احمد بن طاهر القمي .. فيوجد في سندها اربعة من المهملين أو المجهولين ، واما الراوي الخامس (الشيباني) فهو من الضعاف والغلاة المفوضة ، كما يقول الكشي وابن الغضائري والطوسي والنجاشي .
وقد سلب العلامة الحلي في (الخلاصة) الثقة من سعد بن عبدالله القمي ، على أثرها . وقال الشهيد الثاني : ·ان امارات الوضع عليها لائحة وذلك لما تتضمن من لعب الغلام (المهدي) بالرمانة الذهبية!
إذن فان الضعف الكبير في سند كل رواية يسقطها جميعا عن الحجية والوثوق .. وإذا ما جمعنا الضعف في السند الى الضعف في المتن .. والى تناقض الروايات مع نفسها ، وتناقضها مع الرواية الظاهرية .. فانها تصبح مجرد اشاعات وهمية اسطورية ، لا تثبت مولد انسان عادي .. فكيف يمكن ان نعتمد عليها في إثبات مولد أمام من الأئمة وبناء عقيدة دينية على اساس ذلك؟.(1/7)
واما خبر محاولة القبض على المهدي الذي رواه الطوسي والمجلسي والصدر ، فانه خبر مرسل الى (رشيق) الشرطي المجهول ، والمشكوك بعدالته ، وهو ضعيف لعدم التصريح بهوية ذلك الرجل الذي كان يصلي على الحصير ، واحتواء الرواية امورا غريبة منها: بقاء المهدي في بيت أبيه وفي سامراء طوال فترة الغيبة ، وهذا أمر بعيد جدا ، وقد كان بامكانه ان يسيح في الأرض ويختبيء في اماكن اخرى . ومنها : اسحتواء الرواية على معاجز غيبية لا ضرورة لها ، وهي تنسجم مع روايات الغلاة واساطيرهم .
هذا وقد كان المعتضد العباسسي يميل الى التشيع وقد عزم على لعن معاوية على المنابر ، وأمر بانشاء كتاب يقرأ على الناس حول ذلك ، كما يقول ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) (8) مما يبعد صحة الرواية المرسلة التي تتحدث عن محاولته اعتقال (الامام المهدي) ، أو يرجح اختلاقه لقصة اختفاء المهدي في السرداب .(1/8)
التحقيق في شهادة النواب الاربعة
ان الرواية التاريخية الظاهرية للاحداث بعد وفاة الامام الحسن العسكري تقول : ان الامام لم يخلف ولدا لا ذكرا ولا انثى ، وانه اوصى بأمواله لأمه : (حديث) ، ولذلك فقد ادعى اخوه جعفر الامامة وتبعه قوم من الشيعة ، اما رواية (النواب ) فتقول : انه كان ثمة ولد مخفي مستور للامام العسكري ، وقد ادعوا النيابة عنه والوكالة له . وان تصديقهم يجر الى التصديق بوجود (الحجة بن الحسن) ولكن التشكيك بقولهم لا يثبت شيئا من الرواية السرية بوجود ولد للامام العسكري ، فهل كانوا صادقين حقا ؟ وهل اجمع الشيعة على وثاقتهم؟ وكيف صدقوهم ؟ وماهو الدليل على صحة كلامهم ؟ .. وهل هناك ما يدعو الى التشكيك بهم والريب في دعواهم النيابة عن (الامام المهدي) والشك في وجوده؟
قبل ان نقيّم تلك الروايات التي وردت بمدحهم وتوثيقهم ، لا بد ان نشير الى ان ظاهرة ادعاء النيابة عن (الامام المهدي) هذه لم تكن اول ظاهرة في تاريخ الشيعة ، حيث سبقتها وسبقت هؤلاء (النواب الاربعة) ظواهر اخرى ادعى فيها كثير من الاشخاص النيابة والوكالة عن الأئمة السابقين الذين ادعيت لهم المهدوية ، كالامام موسى الكاظم (ع) ، الذي ادعى كثير من اصحابه استمرار حياته وغيبته ومهدويته ، وكان منهم محمد بن بشير الذي ادعى النيابة عنه ، ثم ورّث النيابة الى ابنائه واحفاده .(1/1)
وقد ادعى النيابة عن (الامام محمد بن الحسن العسكري ) بضعة وعشرون شخصا ، كان منهم الشريعي والنميري والعبرتائي والحلاج وغيرهم ، و ذلك لأن دعوى النيابة كانت تجر مصالح مادية ومكانة اجتماعية سياسية للمدعي ، خاصة وان المدعي كان يهمس بها في السر وينهى عن التحقيق في دعواه ، ويستغل علاقاته السابقة بالامام فيدعي استمرار حياته او وجوده والنيابة عنه . وكانت دعواه تنطلي على البسطاء ويرفضها الاذكياء المحققون الواعون . وقد رفض الشيعة الامامية دعوى اكثر من عشرين مدعٍ للنيابة عن (الامام المهدي ابن الحسن العسكري) واتهموهم بالكذب والتزوير ، كما شككوا بصحة دعوى اولئك (النواب الاربعة) واختلفوا حولهم ، و لم يكن في الروايات التي اوردها المؤرخون دليلا علميا قويا على صدقهم وصحة دعاواهم وهذا ما يجعل هؤلاء قسما من المدعين الكاذبين المتاجرين بقضية (الامام المهدي) .
لقد اعتمد الشيخ الطوسي في توثيق عثمان بن سعيد العمري على عدة روايات ، وكان بعضها ، كرواية احمد بن اسحاق القمي ، ينص على توثيقه من قبل الامام الهادي والامام العسكري في المحيا والممات ، وانه الوكيل والثقة المأمون على مال الله ، وليس فيها ما ينص على نيابة العمري عن الامام (المهدي) ولكن بعض الروايات كان ينص بصراحة على اعلان الامام العسكري خلافة العمري للامام المهدي ، الا ان سند هذه الرواية ضعيف جدا وذلك لاشتماله على (جعفر بن محمد بن مالك الفزاري) الذي يقول عنه النجاشي وابن الغضائري : · انه كذاب متروك الحديث وكان في مذهبه ارتفاع (غلو) ويروي عن الضعفاء والمجاهيل وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه ، وقد روى في مولد القائم اعاجيب ، وكان يضع الحديث وضعا ، وانه كان فاسد المذهب والرواية .(1/2)
أما الرواية السابقة التي تتحدث عن وثاقة العمري وأمانته ووكالته فانها مجهولة ، ويوجد في سندها الغالي (الخصيبي) وهي تنطوي على دعوى علم الامام العسكري بالغيب ومعرفته بوفد اليمن قبل ان يراهم (9) وهذه الدعوى من مفاهيم الغلاة ، وان الرواية الأولى تقول: ان العسكري أخبر باستقامة العمري في المستقبل بعد وفاته ، وهذا ما لا يعلمه الا الله ، وهو من علم الغيب ايضا.
ومن هنا ، وبعد سقوط هذه الروايات لضعفها متنا وسندا ، فانا نكاد نحصل على نتيجة واحدة ، هي: ان العمري الذي كان وكيلا للامامين الهادي والعسكري في قبض الاموال ، قد استصحب الوكالة وادعى وجود (ولد) للامام العسكري ، ليدعي الوكالة له ، دون ان يقدم دليلا واضحا وأكيدا على ما يقول . ولذلك لا يؤكد المؤرخون بصراحة على توكيل (المهدي) له ، وهذا الطبرسي الذي كان حريصا على تدوين كل ما وصل اليه لا يقول في كتابه (الاحتجاج) اكثر من : ( ان العمري قام بأمر صاحب الزمان ، وكانت توقيعاته وجوابات المسائل تخرج على يديه) . 10
ولم يذكر المؤرخون الشيعة اية (معجزة ) له تثبت دعواه في النيابة ، بالرغم من قول السيد عبدالله شبر في :(حق اليقين): ان الشيعة لم تقبل قول النواب الا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر ، تدل على صدق مقالتهم وصحة نيابتهم . 11
أما (النائب الثاني : محمد بن عثمان بن سعيد العمري) فلم يذكر المؤرخون الشيعة اي نص مباشر عليه من (المهدي) بتعيينه نائبا عنه ، وقال الطوسي: : ·انه قام مقام أبيه بنص أبى محمد (الحسن العسكري) عليه ونص أبيه عثمان بأمر القائم . 12(1/3)
وذكر الطوسي رواية عن عبدالله بن جعفر الحميري القمي ، انه قال: ان المهدي قد ارسل الى العمري (توقيعا) يعزيه فيه بوفاة والده عثمان بن سعيد ، ويحمد الله على قيامه مقامه ويدعو له بالتوفيق . وان الكتب أتتنا بالخط الذي كنا نكاتب به باقامة أبى جعفر مقام أبيه ، كما نقل الطوسي رواية اخرى عن محمد بن ابراهيم بن مهزيار الاهوازي واخرى عن اسحاق بن يعقوب عن الامام المهدي يشهد بوثاقته ويترضى عليه. وكل هذه روايات تنقل بواسطة العمري نفسه ، وهو ما يضعف الرواية.
ولا يوجد اي طريق لاثبات دعوى ان العمري عثمان بن سعيد قد نص على ابنه محمد بأمر القائم ، ويبدو انه تخمين من قبل الطوسي ، كما لا يوجد في الحقيقة اي دليل لاثبات النص من الأب على الابن سوى الوراثة والادعاء.
ان المشكلة الكبرى تكمن في صعوبة التأكد من صحة (التواقيع) التي كانت يخرجها العمري وينسبها الى (الامام المهدي) وخاصة التوقيع الذي رواه الحميري القمي ، حيث لم يذكر طريقه الى (الامام الغائب ) مما يحتمل قويا ان يكون العمري قد كتبه بيده ونسبه الى (المهدي) خاصة وانه يكيل المدح والثناء لنفسه فيه ، مما يلقي بظلال الشبهة عليه لو كان الامام ظاهرا ، فكيف وهو غائب؟ ولا يوجد اي راوٍ للتوقيع سوى العمري نفسه ، ولم يقل الحميري كيف سارع الى تصديق التوقيع مع وجود الجدل في ذلك الزمان بين الشيعة حول صدق العمري في دعوى النيابة ؟ مع احتمال اختلاق الحميري القمي نفسه للتوقيع ونسبته الى (المهدي).(1/4)
واما رواية محمد بن ابراهيم بن مهزيار الاهوازي ، فهي ضعيفة لأنه يعترف بأنه كان يشك في وجود المهدي في البداية ، وقد ادعى الوكالة بعد ذلك في أعقاب لقائه بالعمري في بغداد ، وبالتالي فانه مشكوك في أمره ، ولا يقول هنا كيف خرج التوقيع اليه مباشرة او عبر العمري ؟ فان كان يدعي انه وصله مباشرة ، فكيف؟ وهل رأى المهدي بنفسه ؟ وهو لا يدعي ذلك ؟ أم عن طريق العمري ؟ وهذا ما يثير الشك ايضا .
واما الرواية الثالثة (رواية اسحق بن يعقوب) التي تصرح بأنها واردة عن طريق العمري ، فانها ضعيفة لوجود الشك باختلاق العمري لها ، ولمجهولية وضعف اسحاق بن يعقوب ، وعدم تصريحه بكيفية التعرف على خط المهدي ، علما بأن الطوسي يقول: ان الخطوط التي كانت تخرج بها التوقيعات هي نفس الخطوط التي كانت تخرج في زمان العسكري . 13
واخيرا فان حكاية رؤية محمد بن عثمان العمري للمهدي في الحج ، هي دعوى مجردة عن الدليل ، وهو لم يقل كيف تعرف على المهدي الذي لم يره من قبل ؟ وربما كان قد اشتبه به مع رجل آخر .
ومن هنا فقد توقف احمد بن هلال العبرتائي (شيخ الشيعة في بغداد) - الذي نقل الفزاري عنه انه شهد مجلس عرض العسكري للمهدي وتعيين العمري خليفة له - وشكك في صحة دعوى العمري الابن في النيابة الخاصة عن المهدي ، وانكر ان يكون سمع الامام العسكري ينص عليه بالوكالة ، ورفض الاعتراف به بوكالته عن (صاحب الزمان) . 14
وكان العبرتائي قد لعب دورا كبيرا في دعم دعوى عثمان بن سعيد العمري بالنيابة ، وكان يأمل ان يوصي اليه من بعده ، فلما اوصى الى ابنه محمد ، رفض ذلك وادعى هو النيابة لنفسه ، مما يكشف عن التواطؤ والمصلحية في دعاوى (النيابة الخاصة) .(1/5)
ونتيجة لغياب النصوص الصحيحة والمؤكدة على نيابة محمد بن عثمان العمري ، فقد شك الشيعة في دعواه ، وروى المجلسي في :(بحار الأنوار) : ان الشيعة كانوا في حيرة ولم يكونوا يثقون بدعاوى النيابة الكثيرة ، وقال ان ابا العباس احمد السراج الدينوري سأل العمري عن الدليل الذي يؤكد صحة ادعاءه ، وانه لم يؤمن به الا بعد ان اخبره شخص بالغيب وقدم له (معجزة) . 15
وقد اشتهر عند الشيعة تلك الايام حديث عن أهل البيت (ع) يقول:( خدامنا وقوامنا شرار خلق الله) مما دفعهم للتشكيك بصحة دعاوى النيابة الخاصة ، وقد أكد الشيخ الطوسي صحة ذلك الحديث ولكنه قال:· انه ليس على عمومه ، وانما قالوا لأن فيهم من غيّر وبدّل وخان . 16
وقد ندم بعض الشيعة على اعطاء الاموال الى العمري كما شكوا بوجود المهدي والتواقيع التي كان يخرجها العمري وينسبها اليه ، وكان منهم قسم من أهل البيت (ع) وهذا ما دفع العمري الى ان يصدر كتابا على لسان المهدي يندد بالشاكين والمنكرين لوجود المهدي .
كما شك قسم آخر بصحة وكالة النوبختي وتساءل عن مصرف الاموال التي كان يقبضها باسم الامام المهدي ، وقال : ان هذه الاموال تخرج في غير حقوقها ، ويقول الصدوق والطوسي : ان النوبختي استطاع ان يقنعهم عن طريق المعاجز والاخبار بالغيب كتحديد وفاة بعض الاشخاص مسبقا ، والتقاطه لدراهم من صرة شخص على مسافة بعيدة. 17
وفي الحقيقة ان المؤرخين الشيعة يذكرون قصصا كثيرة عن شك الناس بالمدعين للنيابة وتكذيب بعضهم للبعض الآخر ، و لكن عامة الاثني عشرية يميزون اولئك (النواب الاربعة) عن بقية المدعين المذمومين بقدرة اولئك على اجتراح المعاجز وعلمهم بالغيب . وقد ذكر الكليني والمفيد والطوسي عشرات القصص التي تتحدث عن قيام النواب الاربعة بفعل المعاجز الخارقة للعادة ، واخبارهم بالمغيبات . ونقل الطوسي عن (هبة الله ) حفيد العمري: ·ان معجزات الامام ظهرت على يديه وانه كان يخبر عن الغيب . 18(1/6)
وذكر الطوسي: خبرا عن علي بن احمد الدلال : ان العمري اخبره بساعة وفاته من يوم كذا وشهر كذا وسنة كذا ، فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي ذكره من السنة التي ذكرها ، وكان ذلك في آخر جمادى الأولى من سنة 305 ه (19)
ولكن هذا القول كان يخالف مباديء التشيع واحاديث أهل البيت (ع) الذين كانوا ينفون علمهم بالغيب او استخدام الطريقة الاعجازية الغيبية لاثبات امامتهم. يقول الشيخ الصدوق في :(إكمال الدين):· الامام لا يعلم الغيب وانما هو عبد صالح يعلم الكتاب والسنة ، ومن ينحل للأئمة علم الغيب فهذا كفر بالله وخروج عن الاسلام عندنا ، وان الغيب لا يعلمه الا الله وما ادعاه لبشر الا مشرك كافر . 20
وقد قال الامام الصادق (ع) :· يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب!.. والله لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت في اي بيوت الدار هي . 21
وجاء ابو بصير ذات مرة الى الامام الصادق وقال له :· انهم يقولون... انك تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب ، فقال : سبحان الله!.. سبحان الله ! لا والله ما يعلم هذا الا الله . 22
وسأل يحيى بن عبدالله الامام موسى الكاظم (ع) فقال:· جعلت فداك انهم يزعمون انك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان الله! ضع يدك على رأسي ، فوالله ما بقيت شعرة فيه وفي جسدي الا قامت . لا والله ما هي الا وراثة من رسول الله . 23
وفي رواية اخرى ينقلها الحر العاملي ، يقول فيها الامام :· قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم ومن دينه جناح البعوضة ارجح منه... اني بريء الى الله والى رسوله ممن يقول انا نعلم الغيب . 24
إذن فلا يمكننا ان نصدق بدعوى اولئك النواب بالنيابة عن الامام المهدي ، ونعتبر قولهم دليلا على وجود الامام ، استنادا الى دعاوى المعاجز او العلم بالغيب ، ولا يمكننا ان نميز دعواهم عن دعوى أدعياء النيابة الكاذبين الذين كانوا يتجاوزون الاربعة والعشرين .(1/7)
وإذا كنا نتهم أدعياء النيابة الكاذبين بجر النار الى قرصهم ، وبالحرص على الاموال والارتباط بالسلطة العباسية القائمة يومذاك ، فان التهمة تتوجه ايضا الى اولئك (النواب الاربعة) الذين لم يكونوا بعيدين عنها .
يقول محمد بن علي الشلمغاني الذي كان وكيلا عن الحسين بن روح النوبختي في بني بسطام ، ثم انشق عنه وادعى النيابة لنفسه :· ما دخلنا مع أبى القاسم الحسين بن روح في هذا الأمر الا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه ، لقد كنا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف . 25
وإذا لم نستطع إثبات دعاوى (النواب الاربعة) وشككنا في صحة اقوالهم ، فكيف نستطيع إثبات · وجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) ، بناء على شهادتهم باللقاء به و الوكالة عنه ؟
واضافة الى هذا الشك ، هناك دليل آخر على كذب أدعياء النيابة ، وهو عدم قيامهم بأي دور ثقافي او فكري او سياسي لخدمة الشيعة والمسلمين ما عدا جباية الاموال والادعاء بتسليمها الى (الامام المهدي) .
وكان المفترض بالنواب الذين يدعون وجود صلة خاصة بينهم وبين (الامام المهدي) ان يحلوا مشاكل الطائفة وينقلوا توجيهات الامام الى الامة ، ولكنا نرى (النائب الثالث) : الحسين بن روح النوبختي ، مثلا ، يلجأ الى علماء قم ليحلوا له مشكلة الشلمغاني الذي انشق عنه ، ويرسل كتابه (التأديب) الى قم ، ليبين علماؤها له الصحيح والسقيم ، كما يقول الشيخ الطوسي في (الغيبة)ص26 ان في ذلك دلالة على عدم وجود اي اتصال بينه وبين (المهدي) وإلا لكان عرض الكتاب عليه وسأله عن صحته .(1/8)
ومما يعزز الشك في عدم وجود (المهدي محمد بن الحسن العسكري) هو عدم قيام أدعياء النيابة بملأ الفراغ الفقهي وتوضيح كثير من الأمور الغامضة التي كان يجب عليهم تبيانها في تلك المرحلة ، ومن المعروف ان الكليني قد ألف كتاب (الكافي) في أيام النوبختي ، وقد ملأه بالاحاديث الضعيفة والموضوعة التي تتحدث عن تحريف القرآن وأمور اخرى باطلة ، ولكن النوبختي او السمري لم يعلقا على الموضوع ولم يصححا اي شيء من الكتاب ، مما تسبب في اذية الشيعة عبر التاريخ و اوقعهم في مشكلة التعرف على الأحاديث الصحيحة من الكاذبة .
ولقد أبدع السيد المرتضى نظرية (اللطف ) التي يقول فيها : ان الامام المهدي يجب ان يتدخل ليصحح اجتهادات الفقهاء في عصر الغيبة ويخرب اجماعهم على الباطل ، وبناء على ذلك كان الاجدر والاولى والأيسر ان يصحح (الامام المهدي) لو كان موجودا ، كتاب الكليني ، او يترك وراءه في (عصر الغيبة الكبرى ) كتابا جامعا يرجع اليه الشيعة . وهذا ما لم يحصل ، ولم يقدم أدعياء النيابة اي شيء يذكر في هذا المجال ، وهذا ما يدفعنا للشك في صدقهم ، وفي دعواهم بوجود (أمام غائب) من ورائهم.
وقد تعجب الشيخ حسن الفريد (زميل الامام الخميني ) في كتابه :( رسالة في الخمس) واستغرب بحيرة وتساءل عن السر وراء عدم سؤال الكليني من (صاحب الزمان) عبر وكيله النوبختي عن حكم مسألة الخمس في (عصر الغيبة) . 27(1/9)
التحقيق في رسائل المهدي
اتخذ المؤيدون لنظرية وجود (الامام المهدي) الرسائل التي قالوا انه قد بعث بها الى عدد من الناس دليلا إضافياً على صحة نظريتهم بوجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) ولكننا بعد دراسة هذه الروايات والتحقيق في سندها نكتشف ضعفها بدرجة كبيرة ، وانها ليست الا اشاعات روجها أدعياء الوكالة .
فان رواية الطوسي الأولى يرويها عن جماعة لم يسمهم عن أبى محمد التلعكبري عن احمد بن علي الرازي ، الذي يقول عنه علماء الرجال الشيعة : انه ضعيف غالي ، بالإضافة الى ان احمد بن اسحاق القمي لم يذكر كيفية مراسلة (صاحب الزمان) ومن هو الذي اوصل اليه الجواب ، مما يحتمل اختلاقه للرسالة بنفسه .
اما الرسالة الثانية فان الطوسي ينقلها ايضا عن احمد بن علي الرازي (الضعيف الغالي) عن عدد من المجهولين ، بالاضافة الى انها تتضمن أمرا غير معقول هو الاحتكام الى شخص غير معروف متنازع في وجوده ليثبت هو وجوده ! مع احتمال صدور الجواب من احد ادعياء النيابة . علما بأن الشك بوجود (ابن الحسن) يقتضي الشك بصدق النواب ، فكيف يمكن العودة الى واحد منهم والوثوق به قبل التأكد من صدقه ، والتصديق بما يقدمه من اوراق يدعي انها صادرة عن المهدي؟(1/1)
اما رواية الصدوق المعروفة ب L التوقيع) فهي ضعيفة لمجهولية وضعف إسحاق بن يعقوب ، وعدم ذكر السابقين كالكليني لها ، ولتضمن الرواية عدة أمور غير صحيحة هي : أولا: مدح الناقل للرسالة وهو (النائب الثاني محمد بن عثمان العمري) لنفسه وابيه ، وهو ما يقوي احتمال ان تكون الرسالة من وضعه . ثانيا: اباحة الخمس في عصر الغيبة إلى وقت الظهور ، وهذا ما يخالف استمرارية أحكام الإسلام في كل حين ، وقد عدل علماء الشيعة موخرا عن الاخذ بهذه الإباحة لمنافاتها مع مباديء الإسلام. ثالثا: المطالبة بالكف عن السؤال عن علة الغيبة ، مع ان فلسفة الغيبة من الأمور الدينية الضرورية التي لا بد من معرفتها على طريق الايمان بالمهدي . ومن هنا تصبح تلك الرواية - الرسالة ضعيفة جدا وغير قابلة للاعتماد.
وكذلك حال رواية الصدوق الثانية عن العمري ، التي ينقلها عن ابي عبد الله جعفر الذي يقول انه وجدها مثبتة عن سعد بن عبد الله ، اي انه لم يروها مباشرة ، وانما وجدها في كتاب ، ومن المعروف في علم الرواية : ان الوجدان في الكتب من اضعف انواع الرواية ، وإضافة الى ذلك لا يذكر سعد كيف انه حصل على الرسالة؟ ومن اخبره بها؟ ، وهو لا يرويها عن العمريين اللذين لا يصرحان بها ، وانما يذكرها عن شخص لم يحدد اسمه ، ولكن يفترض انه (المهدي) . واذا صحت الرواية عن العمريين فانها قد تكون من تأليفهما دعما لنظريتهما القائلة بوجود المهدي ، وتعزيز ادعائهما بالنيابة عنه ، ومن هنا فلا حجة فيها.(1/2)
اما رسائل الشيخ المفيد ، التي يذكرها الطبرسي وابن شهر آشوب في كتبهما ، فان المفيد نفسه لم يذكرها في احد من كتبه ، ولو صحت نسبتها اليه فهي لا تحمل في طياتها اي دليل ، وذلك لأن المفيد يقول: انه استلمها من رجل اعرابي لا يعرفه ، والرسالة بخط رجل غير المهدي يقول انها من املاء المهدي عليه ، وقد رفض المفيد ان يعرض الرسائل ، التي اوصلها الاعرابي اليه ، على احد من اصحابه، وقال ان ذلك بأمر المهدي ، ولم يبرز الى الناس سوى رسائل بخط يده قال ان المهدي قد طلب منه ان يفعل ذلك .
فاذا صح ذلك.. فنحن في الحقيقة امام رسائل بخط الشيخ المفيد نفسه يقول انها نسخ عن رسائل سلمها اليه اعرابي مجهول لا يعرفه المفيد ، يقول ذلك الاعرابي انها من رجل لا يعرفه كتب تلك الرسائل ، يقول ذلك الرجل المجهول: ان الامام المهدي قد املاها عليه .
اي اننا امام خبر آحاد يرويه المفيد عن رجل مجهول عن رجل مجهول عن المهدي .
وهذا ما يثير عددا من الاحتمالات: منها: الجعل من قبل المفيد ، خاصة وانها تحمل تزكية ومدحا فائقا له ، ويقدم المهدي اسم المفيد في بعضها على اسمه . ومنها : الجعل من قبل ذلك الاعرابي ، او الجعل من قبل ذلك الرجل المجهول ، او الجعل من قبل رجل ثالث كذب على الكاتب وقال انه المهدي. وهكذا رواية في منطق علم الدراية غير قابلة للالتفات او التوقف عندها قليلا او كثيرا.
مشكلة التعرف على الخط(1/3)
واود ان الفت نظر القاريء الكريم الى نقطة مهمة هنا ، وهي موضوع خط الامام المهدي في رسائله تلك ، وتواقيعه الكثيرة المنسوبة اليه ، فان الانسان المؤمن بالمهدي ، وخاصة اليوم ، يتوق الى رؤية خط الامام ، اذ لم يحظَ برؤية شخصه ، ويتمنى ان يكون التاريخ قد احتفظ ولو بنسخة واحدة من تلك الرسائل والتواقيع ، ويرجو ان يكون الشيعة في تلك الايام قد ادركوا هذه الأهمية وحافظوا على رسائل الامام في خزاناتهم التاريخية ، فانها تشكل أهم مادة لدراسة تلك المرحلة والتأكد من حقيقة (الامام المهدي) والظروف التي ادت به الى الغيبة .
ومن هذا المنطلق حاولت ان استقصي آثار خطوط (الامام المهدي) في رسائله ، وابحث عن اية نسخة من رسائله ، واتابع (تواقيعه) . وكنت احسب في البداية ، او افترض ان يكون الشيعة في تلك الايام او بالأخص (النواب الاربعة ) او الفقهاء او المحدثون قد اهتموا بالمحافظة عليها والعناية بها ، فلم اجد لذلك أثرا ، ووجدت غموضاً مريباً يلف هذا الموضوع ، ووجدت في (التوقيع ) الذي يرويه الطبرسي في (الاحتجاج) عن اسحق بن يعقوب عن العمري ، نصا يقول :· .. ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه احدا وهو يكشف عن خلاف ما كان متوقعا من الاهتمام بالتعرف على الخط والمحافظة على رسائل المهدي ، وعدم وجود خط معين ومعروف للمهدي يمكن الرجوع اليه ومقارنة بقية الرسائل به للتأكد من صحتها . كما وجدت الشيخ الطوسي يتحدث عن (خط المهدي) بصورة مريبة ، حيث يقول: ( قال ابو نصر هبة الله: · وجدت بخط ابي غالب الرازي: ان العمري كان يتولى هذا الأمر (النيابة) نحوا من خمسين سنة ، يحمل الناس اليه اموالهم ويخرج اليهم التوقيعات بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن (ع) بالمهمات في أمر الدين والدنيا ، وفيما يسألونه من المسائل بالأجوبة العجيبة ) . 28(1/4)
ولم يقل لماذا كان العمري يفعل ذلك ؟ ولماذا لم يكن يخرج التواقيع بخط المهدي؟ ومن المعروف ان التعرف على خط الامام الحسن بذاته كان مشكلة في حياته ، اذ كان يلجأ بعض ادعياء النيابة عنه ، من الغلاة ، الى تزوير خطه ، وقد وقع الشيعة بسبب ذلك في مشكلة التعرف على خط الامام العسكري والتأكد من خطه ، في حياته ، فكيف يمكن التعرف على خط (الامام المهدي) الذي لم يره أحد ولم يُرَ خطه ولم يُتأكد من وجوده؟ ولا يملك عامة الناس وسيلة للتحقق منه ؟
ومع وجود هذه الاشكالية الكبيرة فان العمري لم يكن يسلم الخطوط والتواقيع الى أحد ، بل كان يبرزها لهم فقط او يستنسخها بخطه. وقد لجا الشيخ المفيد - حسب الرواية المزعومة - الى هذه الطريقة ايضا ، فقدم نسخا بخط يده قال انها منقولة عن رسائل من المهدي لم تكن مكتوبة اساسا بخطه ، وانما كانت املاء منه على كاتب مجهول .
ولو كنا قد حصلنا على نسخ من خط (الامام المهدي) لكان باستطاعتنا المقارنة بينها والتأكد من حقيقة نسبتها اليه او التمييز بين الصحيح والمزور منها ، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
و لذلك يمكننا اتخاذ (سرية الخط او الحرص على إخفائه ) دليلا اضافيا على عدم وجود (محمد بن الحسن العسكري) الذي ان كان موجودا فعلاً وكان مختفيا وغائبا لأسباب أمنية ، لكان لجأ بصورة قاطعة الى اثبات شخصيته عند الشيعة ، وقيادتهم عبر الرسائل الموقعة التي لا تقبل الشك والنقاش ، ويمكن معرفتها وتمييزها بواسطة التعرف على الخط ، والمقارنة بينها ، كواحدة من الوسائل العديدة التي يثبت بها نفسه .(1/5)
ماهي حقيقة حكايات المعاجز ؟
من الملاحظ ان معظم تلك (المعاجز) التي يدعيها القائلون بوجود (المهدي محمد بن الحسن العسكري ) و التي ينقل أكثرها الطوسي ، يدور حول محور (علم النواب الأربعة بالغيب ) وهي تحاول إثبات صحة دعاوى النواب بالوكالة والنيابة عن (الإمام المهدي) وبالتالي (صحة وجوده ).
وقد لجأ (النواب الأربعة ) وغيرهم من أدعياء النيابة الذين تجاوز عددهم العشرين ، الى سلاح (المعاجز) بعد ان أعيتهم الحيلة لاثبات دعاواهم في النيابة ، في غياب النصوص والأدلة العلمية على ولادة (الإمام) أو صحة نيابتهم عنه ، كما لجأ الى ذلك ، من قبل ، محمد بن بشير الذي ادعى الوكالة عن الإمام موسى الكاظم (ع) بعدما ادعى الواقفية هروبه من السجن وغيبته ومهدويته ، لاثبات دعاواهم الواهية في النيابة عنه .
وإذا القينا - كمثال - نظرة على قصة (الوكيل) : محمد بن إبراهيم الاهوازي الذي يعترف انه كان يشك بوجود (محمد بن الحسن العسكري) في البداية ، وانه حمل الأموال التي كانت لدى أبيه الى بغداد واستأجر داراً على شاطئ دجلة وفكر بصرف الأموال على ملذاته وشهواته ، ثم تحوله الى ادعاء (الوكالة ) التي تدر عليه ربحا مستمرا حتى آخر يوم من حياته ، وذلك بتأليف قصة الاتصال الغيبي مع العمري .. إذا القينا نظرة على هذه القصة فاننا سنكتشف العلاقة بين ادعاء (المعاجز) للامام المهدي وادعاء (النيابة عنه).(1/1)
ولسنا بحاجة ماسّة لمناقشة · دليل المعجزة أو · العلم بالغيب فان هذا الأمر لم يثبت لأحد من الأئمة الأحد عشر السابقين من آل البيت (ع) ولم يكن رسول الله (ص) الذي كانت له قابلية الاطلاع من الله على علم الغيب ، لم يكن ليدعيه أو يمارسه بمثل ما كان يدعيه (النواب) ويشيعون عن أنفسهم معرفته. وقد اعتمد الرسول الأكرم على العقل و(معجزة القرآن) الخالدة ، وقال للمشركين الذين طالبوه باتيان المعاجز والآيات الخارقة كتفجير الينابيع من الأرض وإسقاط السماء كسفاً والرقي في السماء وانزال الكتب منها ، قال لهم:· سبحان الله !.. هل كنت الا بشرا رسولا؟ (الاسراء 93 ) وقال :· إنما الآيات عند الله وانما انا نذير مبين (العنكبوت 50) وقال الله عز وجل:· وما منعنا ان نرسل بالآيات الا ان كذب بها الأولون (الاسراء 59)
فإذا لم يكن الرسول الأعظم (ص) يستخدم المعاجز والآيات لإثبات رسالته ، فكيف استطاع (النواب الأربعة) استخدامها لاثبات نيابتهم؟ ومن الذي يؤكد حصول ذلك ؟ علماً بأن الطوسي الذي يذكر معظم تلك (المعاجز) الوهمية قد جاء بعد عصر النواب بمائة عام أو اكثر . وقد اعتمد على تلك الروايات وهي أخبار آحاد متهافتة جدا صادرة عن الغلاة والمشبوهين وذوي المصالح المادية في وضعها ، ولا توجد رواية واحدة منها يمكن الاعتماد عليها بعد تنقيح السند ، وهي تشتمل على عدة نقاط غامضة ، فتروى عن المجاهيل أو عن أشخاص بدون أسماء وتعتمد على الادعاء الفارغ بلا دليل.
وان من السهل جدا وصف تلك (المعاجز) المدعاة ، ب :( الكذب والاختلاق أو السحر والشعوذة والمخاريق) وهو ما يسقطها عن الحجية ، وعن ان تكون (معاجز) خارقة للعادة وحاسمة للجدال . وكان الشيخ الصدوق في :(اكمال الدين) قد برر عدم لجوء الإمام أمير المؤمنين (ع) الى سلاح (المعاجز) لإثبات حقه بالخلافة ، بسبب احتمال تفسير الآخرين لها بالسحر والشعوذة والمخاريق .(المصدر ص 109)(1/2)
كما رفض والده علي بن بابويه الصدوق ادعاء الحلاج بالنيابة عن الإمام المهدي ومعرفته للغيب ، وأمر بإخراجه من دكانه ركلاً بالأرجل !. (المصدر)
ان (المعاجز الغيبية) متعارضة مع القرآن الكريم الذي ينفي علم الغيب عن أي بشر ويقول:· عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول ويقول:· قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب الا الله ويقول:· وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي ارض تموت . ومن هنا فلم يشر الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) في (بحث حول المهدي) الى مسألة معاجز النواب الأربعة كدليل على صحة نيابتهم وادعائهم في وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري ) (انظر المصدر ص 36 )(1/3)
تهافت دعوى الإجماع
وقبل ان ندرس دعوى وجود الإجماع على وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) يجدر بنا ان نتحدث قليلا عن حجية الإجماع عند الشيعة الامامية الاثني عشرية ، ومن المعروف ان الإجماع لا يعتبر لديهم دليلا مستقلا ، الا إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم ، ولم يكن يستند الى دليل قرآني أو روائي أو عقلي ، فإذا كان يستند الى آية من القرآن الكريم ، فيمكن ان نراجع الآية وننظر في الأمر ، وقد يختلف اجتهادنا عن اجتهاد العلماء السابقين الذين اجمعوا على ضوء فهمهم الخاص لها ، فلا يصبح اجتهادهم أو الإجماع الذي بنوه على أساس ذلك الاجتهاد حجة علينا ، لأن الحجة في القرآن ، وهو - مثلا - لا يدل عندنا على المطلوب.
وكذلك الأمر بالنسبة الى الأحاديث ، وحكم العقل .
الحالة الوحيدة التي قد يصبح الإجماع فيها دليلا شرعيا وحجة عند الشيعة ، هي فيما إذا كان الإجماع موجودا في مسألة معينة ، ولم نكن نعرف مستند الإجماع ، فنحتمل انه مبني على حديث لم يصلنا ، وبالتالي نقطع على انه معبر عن رأي المعصوم.
وهذا النوع من الإجماع لا يمكن ان يحصل ، ولم يحصل لدى الشيعة الا في الأجيال الأولى القريبة من عهد الأئمة ، وهو ما يعبر عنه بإجماع المتقدمين ، فإذا لم يكن في مسألة إجماع عند المتقدمين ، وحصل فيها بعد ذلك إجماع بين المتأخرين فانه ليس بحجة ، لأنه لا يعبر عن رأي المعصوم .. ولأن الإجماع بذاته غير حجة.
هذا هو حكم الإجماع وطبيعته.
والإجماع حول مسألة وجود المهدي ليست من نوع الإجماع الوارد في بعض المسائل الفقهية الجزئية ، بل هو - حسب الفرض - مبني على الأدلة العقلية والنقلية والتاريخية ، وليس معبرا عن رأي أو قول غير واصل الينا من الأئمة.(1/1)
ثم ان الإجماع الذي يدعيه الاشعري القمي أو النوبختي أو الصدوق غير حاصل أساسا في موضوع وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) .. ولم يختلف الشيعة الامامية سابقاً في مسألة كما اختلفوا في موضوع (الخلف) حيث انقسموا بعد وفاة الإمام الحسن العسكري الى أربعة عشر فرقة ، فقال بعضهم بمهدوية الحسن بن علي وقال بعضهم بمهدوية أخيه محمد ، وقال بعضهم بامامة ومهدوية أخيه الآخر جعفر ، وقال بعضهم بانقطاع الامامة ، ولم يقل بوجود وولادة وامامة ومهدوية (محمد بن الحسن) الا فرقة واحدة من تلك الفرق الأربعة عشر .
وقد اختلفت هذه الفرقة ايضا فيما بينها على أقسام ، وذلك حول اسم وهوية المهدي !
وقد فصل النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) والاشعري القمي في كتابه :( المقالات والفرق) والمفيد في :(الفصول المختارة من العيون والمحاسن) والطوسي في (الغيبة) أخبار تلك الفرق التي اوصلها بعضهم الى عشرين فرقة. وقد استعرضنا خلال صفحات هذا الكتاب كثيرا من تفاصيل تلك الفرق وآرائها المختلفة ، وقد نقل الصدوق والطوسي أخبار تشاجر الشيعة واحتكامهم الى العمري حول وجود الخلف للامام الحسن؟
كل ذلك يدل على عدم وجود الإجماع في هذه المسألة عند الشيعة الأوائل ، بل يوجد النص المضاد من الإمام العسكري ، الذي أوصى الى أمه - باتفاق جميع الشيعة - ولم يوصِ الى أحد غيرها ، وإذا كان له ولد حتى في الرحم لكان أوصى اليه ، وهذا ما لم يحدث .
من هنا يمكننا القول ، إذا استثنينا شرذمة قليلة ، ان إجماع الشيعة في القرن الثالث والقرن الرابع كان قائما على عدم الأيمان بوجود (محمد بن الحسن العسكري ) ، وقد ذكر ذلك عامة مؤرخي الشيعة كالنوبختي والاشعري والكليني والنعماني والصدوق والمفيد والطوسي ، الذين أطلقوا على ذلك العصر اسم : (عصر الحيرة(1/2)
تناقض (الغيبة) مع فلسفة الإمامة
لكي نفهم موضوع (الغيبة) على حقيقته لا بد ان نفهم أولا نظرية (الإمامة) كما كان يقول بها المتكلمون الاماميون الأوائل الذين أسسوا لها . تقول نظرية ( الإمامة الإلهية ) : ان الأرض لا يجوز ان تخلو من امام ( أي من حكومة ودولة ) وان الامام ، أي الرئيس أو الخليفة أو القائد الأعلى ، يجب ان يكون معصوما ومعينا من قبل الله ، وان الشورى باطلة ولا يجوز انتخاب الامام من قبل الأمة ، وتقول النظرية الموسوية ( المتفرعة عن الامامية و الموازية للفطحية ) : ان الإمامة تتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرية علي والحسين الى يوم القيامة .
ومن هنا فقد افترض المتكلمون الاماميون وجود وولادة ( ابن ) للامام الحسن العسكري ، بالرغم من عدم وجود أدلة تاريخية كافية ، ورفض بعضهم الإيمان بامامة جعفر بن علي الهادي ، · لعدم جواز الجمع بين أخوين بعد الحسن والحسين وقالوا :· لا بد ان يكون قد ولد الامام الحجة بن الحسن العسكري ، وان اباه قد اخفاه عن أعين الناس .
ولكن السؤال الكبير الذي فرض نفسه هو: إذا كانت الإمامة محصورة في هذا الشخص ، ولا تجوز لغيره من الناس العاديين غير المعصومين وغير المعينين من قبل الله تعالى ، فلماذا يغيب ويختفي ولا يظهر ليقود الشيعة والمسلمين ويؤسس الحكومة الإسلامية التي لا بد منها؟ ما دام ان الأرض لا يجوز ان تخلو من امام ، والامام الغائب لا يمكن ان يمارس إمامته وقيادته للناس ؟. وما هو السر في الغيبة ؟ والى متى يغيب؟ وما هو واجب الشيعة في حالة الغيبة؟(1/1)
لقد كانت النتيجة الطبيعية واللازمة لذلك الفكر هي نظرية (الانتظار) وتحريم النشاط السياسي في (عصر الغيبة) وهي النظرية التي سادت قرونا طويلة من الزمن ، ولا تزال بعض آثارها مستمرة بالرغم من القول بنظرية (النيابة العامة وولاية الفقيه) حيث انتهت نظرية المتكلمين المثالية الى غيبوبة الشيعة عن الحياة وافتقادهم للإمامة ، لعدم ظهور (الامام المعصوم). وهذا ما شكل تناقضا صارخا مع فلسفة الإمامة التي تقول بوجوب الامام في الأرض ووجوب كونه معصوما ووجوب تعيين الله له في كل زمان ومكان ، من اجل تطبيق الشريعة الإسلامية وقيادة المسلمين والإفتاء لهم وحل مشاكلهم التشريعية .
وكان الشيعة الامامية (الموسوية) قد خاضوا تجربة مرة مماثلة مع (الحركة الواقفية) التي ادعت غيبة الامام موسى الكاظم (ع) ، ووقفت منها موقفا رافضا ، وذلك لتناقض الغيبة مع فلسفة الإمامة ، حيث قال لهم الامام علي بن موسى الرضا (ع) :
- · سبحان الله !.. يموت رسول الله ولا يموت موسى !.. قد والله مضى كما مضى رسول الله . 1
واتهم الواقفية الذين زعموا ان أباه لم يمت ، بالكذب والكفر بما انزل الله عز وجل على محمد (ص) وقال :
- · لو كان الله يمد في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق اليه لمدّ الله في أجل رسول الله (ص) . 2
واخذ الامام الرضا يناقش (الواقفية ) في معنى الامام وفائدة قولهم بالإمامة إذا كانوا يعلقون التزامهم بإمام غائب لا وجود له في الحياة ، وينبههم الى ضرورة التفاعل مع الامام الحي الظاهر ، وينقل عن آبائه قولهم :· ان الحجة لا تقوم لله على خلقه الا بامام حي يُعرف . ومن مات بغير امام مات ميتة جاهلية.. امام حي يعرفه. وقد قال رسول الله (ص): من مات وليس له امام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية . ومن مات وليس عليه امام حي ظاهر مات ميتة جاهلية .. امام حي . 3(1/2)
مما يكشف عن رفض الامام الرضا (ع) لنظرية الغيبة في أيام الامام ، وذلك لسقوط الحجة عن الناس في حالة الغيبة ، وضرورة حضور الامام بينهم ومعرفتهم له ، والاستماع اليه وطاعته ، والتفاعل معه ، إذا كان يجب على الله ان يبعث اماما من قبله.
إذن فان الغيبة تشكل تناقضا صارخا مع (ضرورة وجود الامام ) الذي يفترض ان يتصدى لقيادة المسلمين ، ولا يجوز له ان يغيب عن الساحة . فإذا قلنا مثلا ان الدولة يجب ان تعين ضابطا للمرور في التقاطع الفلاني ، ورأيناه غائبا والمرور مشتبكا ، فان غيابه يشكل تناقضا مع قولنا (لا بد ان تعين الدولة ضابطا ) ولا يفيد وجوده خلف ستار الغيب ، لأن المرور اصبح مشتبكا ومعقدا وفوضويا . وهذا أمر عقلي بديهي وواضح ، لا يمكن التغاضي عنه ، أو تجاهله أو تبريره ببعض الأخبار الضعيفة.
ولكن أركان نظرية (الغيبة) رفضوا استخدام العقل هنا بالرغم من استخدامه في تثبيت المقدمات الأولى :( ضرورة وجود الامام ، وضرورة كونه معصوما ، وضرورة كونه معينا من قبل الله ) وقد اخرج احمد بن اسحاق القمي ( أحد أركان نظرية الغيبة) كتابا عن (الامام الحجة ابن الحسن) قال : انه أرسله اليه جوابا عن رسالة كان قد بعثها اليه واستفسر فيها عن علة الغيبة ، وقد جاء في ذلك الكتاب (التوقيع):· لا تسألوا عن أشياء ان تبدَ لكم تسؤ كم ! وبناء على ذلك فقد قال الشيخ الصدوق :· ان الله لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. ولا يقال له : لم؟ ولا كيف:.. وهكذا إظهار الامام الى الله الذي غيبه، فمتى أراده أذن فيه فظهر . 4
وقال أيضا:· لا يصح إيمان عبد حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى ويسلم في جميع الأمور تسليما ولا يخالطه شك ولا ارتياب، والإسلام هو الاستسلام والانقياد. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين . 5(1/3)
وروى الصدوق حديثا عن الامام الصادق (ع) يعتذر فيه عن بيان وجه الحكمة في (غيبة صاحب الأمر) وذلك لأمر لم يؤذن له بكشفه للناس ، ويقول:· ان وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف الا بعد ظهوره.. وانه أمر من أمر الله وسر من سر الله وغيب من غيب الله . 6
ورفض الشيخ المفيد سلوك طريق العقل والاعتبار في التحري عن سبب الغيبة ، وقال:· ان المصلحة لا تعرف الا من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر والعالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر... . 7
وطالب الكراجكي الشيعة بالكف عن التفكير في هذه المسألة ، بعد الإيمان بوجود الإمام وعصمته وانه لا يفعل شيئا الا بإذن الله والتسليم لكل خطوة أو فعل أو موقف يتخذه (الإمام المعصوم) حتى مع عدم معرفة الأسباب والأغراض ، وقال:· انه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب ولا يتعين علينا الكشف عنه ، ولا يضرنا عدم العلم به . (8 ) ونفى الشيخ الطوسي الحاجة الى تكلف الكلام في سبب غيبة الإمام بعد ثبوت وجوده . 9
وبعد اعتراف أركان نظرية (الغيبة) بعدم وجود تفسير معقول واكيد للغيبة ، لا تبقى حاجة لمناقشة الروايات والنظريات المختلفة التي قدموها لتبرير الغيبة بالحكمة المجهولة أو بتمحيص الشيعة وغربلتهم ، أو بخوف صاحب الزمان على حياته من القتل ، فان رواتها غلاة وضعاف ، ومضمونها لا ينطبق على (محمد بن الحسن العسكري) .
وقد اعرض معظم الكتاب الذين ألفوا حول الغيبة كالمفيد والمرتضى والطوسي عن تبني نظرية (التمحيص) ما عدا الشيخ الصدوق الذي اهتم بها بعض الشيء ، وان لم يتبنها تبنيا كاملا ، خاصة بعد انقراض الجيل الأول الذي تعرض للتمحيص حتى لم يبق منه أحد .(1/4)
وارى من الضروري التوقف فقط عند نظرية الخوف التي فسر بها بعض المتكلمين كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والكراجكي حالة (الغيبة) . وقد اعتمد القائلون بنظرية الخوف على مجموعة روايات ضعيفة السند وعامة لا تحدد اسم القائم ، وهي مروية عن زرارة عن الإمام الصادق (ع) قبل اكثر من مائة عام من وفاة الإمام الحسن العسكري .ولم يمكن اللجوء الى نظرية الخوف في تفسير الغيبة الا بعد القول بمجموعة من النقاط الافتراضية الوهمية كتحديد هوية الإمام المهدي من قبل ، وهو أمر اثبتنا في الفصل الثاني عدم صحته ، وكذلك افتراض وجود توتر سياسي بين البيت العلوي والبيت العباسي الحاكم ، وهذا ما سوف ننفيه في فصل آخر ، والقول أيضا بفكرة خاتمية المهدي للأئمة الاثني عشر ، وهذه نظرية لم تكن موجودة في البداية وقد ظهرت في القرن الرابع الهجري ، و القول كذلك بحرمة استعمال الإمام المهدي للتقية واخفاء هويته حتى يوم ظهوره ، وهو أمر لا ينسجم مع سياسة الأئمة السابقين ولا مبرر له.
ومع كل ذلك فقد كانت نظرية الخوف بعيدة جدا عن أخلاق أهل البيت (ع) وحبهم للشهادة في سبيل الله ، وهي تثير تساؤلات كبيرة حول السر وراء عدم حفظ الله تعالى للمهدي ، على فرض وجوده ، كما حفظ النبي موسى وأنجاه من فرعون ، وكما حفظ الرسول الأعظم (ص) المبشر به من قبل .
وبالرغم من عدم تحديد الأئمة من أهل البيت (ع) لهوية المهدي من قبل ، فان التسليم بهذه المقولة جدلاً يثير تساؤلاً عن السر وراء إعلان أهل البيت لإسم القائم من قبل اذا كانوا يعرفون انه سيتعرض للضغط؟ ولماذا لم يتركوه سراً لحين موعد القيام ، حتى يجنبوا المهدي ملاحقة الأعداء منذ الولادة والطفولة؟(1/5)
وإذا صحت نظرية الخوف من الأعداء فلماذا يستتر المهدي عن أوليائه؟ ولقد قام مئات الملايين من الشيعة عبر التاريخ بانتظار (الإمام المهدي) وإعلان الاستعداد لنصرته ، وقامت لهم دول تتبنى الإيمان به فلماذا لم يظهر مع ارتفاع الخوف بالتأكيد؟
وهذا سؤال طرحه بعض رؤساء الدولة البويهية الشيعية التي قامت في القرن الرابع الهجري ، على الشيخ المفيد وطالبه بالإجابة عليه ، فأحال المفيد الإجابة على الله وقال:· ان سر الغيبة لا يعلمه الا هو واعترف فيه بكثرة الشيعة في ظل الدولة البويهية ، ولكنه شكك في صدقهم وشجاعتهم وتقواهم . 10
والآن.. وبعد مضي اكثر من ألف عام على القول بنظرية (الخوف) في تبرير (الغيبة).. وبعد سقوط عشرات الدول وقيام أضعافها ، فان تلك النظرية تبدو بعيدة جدا عن الواقع وعارية عن اية مصداقية ، ولا تشكل سوى فرضية وهمية لتبرير فرضية وجود الإمام (محمد بن الحسن العسكري) وتناقض غيبته مع مسئولية الإمامة الملقاة على كاهله من الله .
وهذا ما يثبت عدم صحة فرضية ولادة ووجود (الإمام الحجة بن الحسن) والا فلو كان حقا موجودا لكان يجب عليه الظهور والقيام عند أول فرصة تسمح له بذلك ، وعدم جواز إبقاء الامة مهملة بدون قيادة شرعية .
لقد طالب أصحاب نظرية الخوف : الشيعة ، بأن يزيلوا الأسباب التي دفعت (الإمام المهدي) الى الغيبة ، وذلك بتمكينه وإعداد العدة لنصرته ، أو العزم على نصرته ومعاضدته والانقياد له والكف عن نصرة الظالمين ، ودعوته للخروج ، وقال السيد المرتضى في (الشافي):· ان المكلفين متمكنون مما إذا فعلوه زالت تقية الإمام وخوفه ووجب عليه الظهور.. وقد بينا ان سبب الغيبة هو فعل الظالمين وتقصيرهم فيما يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرف فيهم، وبينا انهم مع الغيبة متمكنون من مصلحتهم بأن يزيلوا السبب الموجب للغيبة ليظهر الإمام وينتفعوا بتدبيره وسياسته . 11(1/6)
وقد زال الخوف اليوم و أزال الشيعة الأسباب التي دفعت الإمام الى الغيبة ، وأعدوا العدة لنصرته وعزموا على معاضدته والانقياد له والكف عن نصرة الظالمين ، ودعوه للخروج ، ولكنه لم يخرج ! بالرغم من قول السيد المرتضى بوجوب الظهور عليه .
وقد رفض الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) التصديق بقول الواقفية في غيبة الإمام موسى الكاظم ومهدويته لأن عمره كان قد تجاوز يوم ذاك العمر الطبيعي المعهود ، ومع ذلك فقد روى هو والطوسي روايات تقول بأن عمر المهدي قد يطول مثل عمر نوح ، وجواز ان ينقض الله العادة لضرب من المصلحة . 12(1/7)
الوضع السياسي العام
عشية (الغيبة) وغداتها
القسم الأول: النظام العباسي
امتاز العهد العباسي الثاني بسيطرة الموالي الأتراك على شؤون الخلافة ، والتدخل في تعيين الخلفاء وإزالتهم ، حيث قتل (باغر) التركي المتوكل نتيجة صراعات داخل البيت الحاكم ، وخلافات بين أركان السلطة والقوات المسلحة . 1
وورث عرش الخلافة من المتوكل ابنه محمد المنتصر ، وله من العمر 25 سنة ، ولكنه لم يستمر في الخلافة اكثر من ستة اشهر حتى توفي . 2
وقام قائدا الأتراك (وصيف) و(بغا) بعد وفاة المنتصر بقتل (باغر) الذي قتل المتوكل وجاءا بالمنتصر الى سدة الخلافة . (3) كما قاما بالسيطرة على الخليفة المستعين الذي لم يكن له من الأمر شيء غير الاسم ، حتى قال بعض الشعراء فيه: خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول ما قالا له كما يقول الببغا4
وانحدر المستعين الى بغداد بعد ان اعتقل المعتز والمؤيد ، فقام الموالي بإخراج المعتز والمبايعة له والانقياد الى خلافته ومحاربة المستعين وناصريه (وصيف وبغا) ببغداد ، فبايعوه ، وذلك في 11/ محرم/251 ، وأحدر المعتز اخاه احمد مع عدة من الموالي لحرب المستعين الى بغداد ، فلما رأى محمد بن عبد الله بن طاهر ذلك كاتب المعتز وجنح اليه ومال الى الصلح على خلع المستعين. وخلع المستعين نفسه من الخلافة يوم الخميس 3 محرم 252 ه وسلم الخلافة الى المعتز .(5) حيث بويع للمعتز ، وهو الزبير بن جعفر المتوكل ، وله يومئذ 18 سنة ، وعين المؤيد وليا للعهد ، ولكنه سرعان ما حبسه لأنه سمع أن المؤيد يتآمر عليه ، ثم خلعه . 6(1/1)
وقام المعتز بقتل وصيف وبغا ، ومال الى المغاربة والفراغنة ، فنقم عليه الأتراك الذين تألبوا عليه بعد قتله لرؤسائهم فثاروا عليه واجبروه على الاستقالة في أواخر شهر رجب سنة 255 بعد ان حكم حوالي اربع سنين وستة اشهر ، وحاول محمد بن الواثق ان يتوسط بينه وبين الأتراك ، فقال له المعتز يائساً: أمر لا أطيقه ولا أقوم به ولا اصلح له . وحاول المهتدي ان يتوسط ايضا فقال له المعتز: لا حاجة لي فيها ولا يرضونني لها. وقتل في محبسه بعد ستة ايام من الاستقالة . 7
وقد نصب الأتراك بعد استقالة المعتز ، المهتدي محمد بن هارون الواثق ، وكان له من العمر 37 سنة ، وحكم حوالي عام من 29 رجب 255 الى 16 رجب 256 ، حيث قتل على أيدي الأتراك .
وكان موسى بن بغا الكبير ، عندما قتل المعتز ، غائبا ، بينما كان صالح بن وصيف يدير الأمر مع المهتدي ، فعاد موسى مسرعا ودخل ( سرمن رأى ) بدون إذن الخليفة المهتدي ، وقتل صالح بن وصيف . 8
وفي هذه الأثناء تمرد (مساور الشاري) ودنا في عسكره من سامراء ، وعم الناس بالأذى ، وانقطعت السابلة وظهرت الأعراب ، فأخرج المهتدي: موسى بن بغا وبايكال الى حرب الشاري ، ولكنهما عادا وتحارب بايكال مع الخليفة المهتدي ، وكانت بينهما حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس ، وانكشف بايكال واستظهر المهتدي عليه وقتله ، فخرج كمين بايكال على المهتدي ، فولى هو واصحابه ودخل سامراء مستغيثا بالعامة مستنصرا بالناس يصيح في الأسواق فلا مغيث ، فمضى مؤيسا من النصر الى دار ابن خيعونة متخفيا ، فهجموا عليه وعزلوه وطعنوه بالخناجر ، وذلك في 16 رجب سنة 256 . 9(1/2)
وقد بويع بعد ذلك للمعتمد احمد بن جعفر المتوكل ، وهو ابن 25 سنة ، وبقي في الخلافة 23 سنة الى ان توفي سنة 279 ، وقد كان ضعيفا جدا مشغوفا بالطرب ، والغالب عليه المعاقرة ومحبة انواع اللهو والملاهي .. وبايع المعتمد لابنه جعفر وسماه المفوض الى الله ، ولكن أخاه ابا احمد الموفق غلب على الأمور وتدبيرها فحظر على أخيه المعتمد وحبسه ، فكان أول خليفة يقهر ويحبس ويحجر عليه ، وعندما توفي الموفق قام ابنه المعتضد بأمور الناس في التدبير وخلع جعفرا من ولاية العهد سنة 278 ، واصطبح المعتمد في 19 رجب 279 وتغدى غداء مسموما فمات..ودخل اسماعيل بن حماد القاضي الى المعتضد وعليه السواد فسلم عليه بالخلافة . 10
وقد توفي الامام الحسن العسكري في عهد المعتمد سنة 260 ، وحدثت (الغيبة) والحيرة والخليفة المعتمد يبلغ من العمر حوالي ثلاثين سنة.
وتوفي المعتضد في 22 ربيع الثاني سنة 289 فخلف ابنه علي المكتفي بالله الذي بويع له بالخلافة وله من العمر 25 سنة ، فكان شابا ضعيفا ، فغلب عليه القاسم بن عبيد الله وفاتك مولاه ، ثم غلب عليه بعد وفاة القاسم وزيره العباس بن الحسن وفاتك. 11
وعاش الخلفاء العباسيون بعد ذلك سلسلة من الصراعات الداخلية الدموية العنيفة على السلطة ، فيما بينهم وبين الموالي والأتراك ، فقد قتل المقتدر عام 320 في الواقعة التي كانت بينه وبين مؤنس الخادم في بغداد ، وبويع للقاهر بالله بعده ، ثم خلع بعد اقل من عامين وسملت عيناه في 5/5/322 وبويع للراضي بالله بعده ، الذي حكم حوالي خمس سنين ومات حتف انفه في 10/3/329 ، ولكن عصره شهد سيطرة الموالي و (بجكم) التركي الذي ضرب الدنانير والدراهم ووضع صورته عليها وهو شاكي السلاح مع كتابة هذه الجملة ( انما العز فاعلم ، للامير المعظم ، سيد الناس بجكم ) . 12(1/3)
وبويع بعده للخليفة المتقي بالله في 1/3/329 فظل في الخلافة حوالي اربع سنين ، فخلع وسملت عيناه في 3/4/333 ، وذلك بسبب استعانته بالحمدانيين وتفويض الملك اليهم ، مما اغضب الأتراك وزعيمهم توزون الذين سيطروا على بغداد سنة 332 فتآمروا على المتقي وخلعوه أرسلوا الى عبد الله بن علي المستكفي وبايعوه بالخلافة في 3/2/333 ولكنه خلع بعد عام وسملت عيناه ، وذلك على يدي احمد بن بويه الديلمي ، الذي اتهمه بمكاتبة بني حمدان واطلاعهم على أسراره ، وولى المطيع مكانه في 23/ شعبان / 334ه
القسم الثاني: وضع المعارضة
كما شاهدنا في القسم الأول: كان من ابرز خصائص العصر العباسي الثاني: التفسخ والانحلال ، وقد نشأ من ضعف الخلافة وعدم امتلاكها زمام الأمور.. فصار أي واحد من أمراء الأطراف في الدولة الإسلامية الواسعة غير مقيد بالارتباط الوثيق بالعاصمة ، ان شاء كان مواليا ، وان شاء اصبح مستقلا وناجز الآخرين ، فكانت الحروب تدور في الأطراف بين الأمراء والولاة.
ومن أوضح تلك الموارد: الاندلس التي استقلت تلك الفترة بالخلافة تحت حكم عبد الرحمن الناصر الاموي ، وكان الشمال الافريقي مستقلا الى حد كبير تحت امرة آل الاغلب ، وكانت بلاد فارس والعراق مسرحا خصبا لجيوش يعقوب بن الليث الصفار وحروبه من سنة 253 الى ان توفي سنة 265 ، حيث خلفه أخوه عمرو بن الليث ، وفي عام 261 استقل الى حد كبير نصر بن احمد الساماني ببلاد ما وراء النهر حتى توفي عام 270 ، ولم تكن الأطراف القريبة من العاصمة (سر من رأى) بأحسن حالا من الأطراف البعيدة ، فقد كانت أيضا مسرحا لمصالح العمال والقواد من ناحية ، ومسرحا لنشاط الخوارج والزنج ثم القرامطة من ناحية أخرى.
وكان الخليفة المعتمد الذي كان مولعا بالطرب والملاهي وشرب الخمور ، بالخصوص ضعيفا الى درجة كبيرة بحيث لم تبق معه من الخلافة الا صورتها بلا واقع.. لا حل له ولا عقد .(1/4)
وشهد هذا العصر سلسلة من ثورات الشيعة والعلويين بمختلف فئاتهم وأحزابهم ، رغم ان بعض الخلفاء العباسيين بدأ يميل الى التشيع او يتعاطف مع العلويين بصورة كبيرة ، فقد كان النظام يتفسخ ويتفتت ، وربما حدث الصراع داخل البيت العباسي نفسه.
الثورات العلوية عشية (الغيبة)
يقول المسعودي في (مروج الذهب):· في عام 250 ه ظهر ببلاد طبرستان الحسن بن زيد العلوي ، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة وقتال شرير.. وظلت في يده الى ان توفي سنة 270 فخلفه اخوه محمد بن زيد ، الى ان حاربه رافع بن هرثمة ، ودخل محمد بن زيد الديلم في سنة 277 فصارت في يده وبايعه بعد ذلك رافع بن هرثمة وصار في جملته وانقاد الى دعوته والقول بطاعته..
وكان الحسن ومحمد يدعوان الى الرضا من آل محمد ، وكذلك من طرأ بعدهما ببلاد طبرستان وهو الحسن بن علي الحسني المعروف بالاطروش وولده الداعي الحسن بن القاسم . 13
وفي نفس الوقت (سنة 250) ظهر بالري محمد بن جعفر ودعا للحسن بن زيد صاحب طبرستان .(14) كما ظهر بقزوين الكركي ، وهو ثائر علوي آخر، ثم التحق بالحسن بن زيد.
وظهر بعده بالري علوي آخر هو : احمد بن عيسى ، ودعا الى الرضا من آل محمد ، وسيطر على الري. كما ظهر بعد ذلك بعام الحسين بن محمد العلوي بالكوفة ، وأجلى عنها عامل الخليفة . وثار بعده علوي آخر هو : محمد بن جعفر .
وفي عام 251 ثار علي بن عبدالله الطالبي المسمى بالمرعشي في مدينة آمل. كما ثار الحسين بن احمد الأرقط بقزوين ، وظل مستوليا عليها حتى عام 252 ، كما استولى على الري أيضا .
وقد تم كل ذلك في ظل تدهور الأمور أيام الخليفة المستعين الذي اختلف مع اهل بيته ، وانحدر الى بغداد ، فاضطرب عليه الموالي وحاربوه واجبروه على خلع نفسه ، وتمت البيعة للمعتز. 15(1/5)
وفي عام 252 في ظل خلافة المعتز الشاب الذي لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره ، ثار العلوي: اسماعيل بن يوسف ، في المدينة وخلفه بعد وفاته أخوه محمد بن يوسف ، ثم سار الى اليمامة والبحرين واستولى عليها ، و خلف بها عقبه المعروف ببني الأخضر. 16
وفي خلافة المهتدي سنة 255 ظهر صاحب الزنج في البصرة.
وفي عام 256 خرج في مصر ، العلوي: إبراهيم بن محمد المعروف بابن الصوفي . كما ثار علي بن زيد العلوي في الكوفة ، وقاتل بعكبرا ، حتى قتل سنة 257 .
وفي سنة 257 ظهر القرامطة في البحرين وامتدوا الى البصرة والعراق والجزيرة.
وقد تفجرت في الري ثورة شيعية بقيادة احمد بن الحسن المادراني الذي سيطر عليها في عهد المعتمد ، في عام 275 ، واظهر فيها التشيع وأقام حكومة شيعية. 17
الثورات الإسماعيلية في اليمن وشمال أفريقيا(1/6)
وكان (الحسين بن حوشب) قبل ذلك ، وبعد سنوات قليلة من وفاة الامام العسكري ، وذلك في سنة 266 قد استطاع ان يؤسس في اليمن أول حركة إسماعيلية ناجحة ويجمع حوله عددا كبيرا من قبائل اليمن ويظهر بينهم الدعوة ل :(المهدي الإسماعيلي ) الذي كان يعيش مستترا في مدينة سلمية في سوريا ، ويؤسس أول دولة إسماعيلية في التاريخ. ثم ارسل ابن حوشب : الداعي (ابا عبد الله الشيعي) الذي كان قد انسحب من الفرقة القائلة بوجود (محمد بن الحسن العسكري) والتحق بالاسماعيلية ، وكان يعمل محتسبا في بغداد ، ارسله الى شمال أفريقيا للدعوة الى الامام الإسماعيلي المستتر (عبيد الله المهدي) . واستطاع ابو عبد الله في ظل ضعف قبضة الدولة العباسية ، ان يكسب تأييد قبيلة كتامة ، ويسيطر على المغرب ويكتسح نفوذ بني الأغلب ، ويقضي على دولتهم في القيروان في تونس عاصمة أفريقية ، ويؤسس الدولة الفاطمية التي امتدت بعد ذلك الى مصر وسوريا ، وذلك في سنة 296 في عهد الخليفة العباسي المقتدر ، الذي بويع وله من العمر 13 عاما ، وكان الامام المهدي الإسماعيلي يقود نشاطاته المعارضة للدولة العباسية ويعمل على إسقاطها ، وبعد نجاحه في تفجير الثورة في اليمن على يدي الداعي بن حوشب ، استطاع ان يفجر الثورة في واسط في العراق ، على يدي احد أتباع المذهب الإسماعيلي:( حمدان بن قرمط) الذي اكتسح جنوب العراق والجزيرة العربية وامتد الى سوريا .
تعاطف الخلفاء العباسيين مع العلويين
ونتيجة لذلك فقد كانت سياسة المعتضد لينة مع العلويين كسياسة من سبقه من الخلفاء العباسيين ، بالرغم من خروج الداعي في طبرستان واستقلاله بالسلطة هناك.
ويقول المسعودي: ان الداعي العلوي بعث بمال الى عاصمة الخلافة لكي يوزع على آل ابي طالب فيها ، فعلم الخليفة المعتضد بذلك ، فلم يستطع ، او لم يشأ ان يعارض ذلك ، بل ارسل الى الرجل المكلف بالتوزيع(1/7)
أحضره أنكر عليه إخفاء ذلك وأمره بإظهاره ، وقرب اليه آل ابي طالب ، و ادعى الخليفة المعتضد انه كان قد شاهد الامام علي في الرؤيا قبل ان يصل الى الخلافة وقال له: ان هذا الأمر سيصل اليك فلا تتعرض لولدي ولا تؤذهم ، فقال : السمع والطاعة. 18
ويروي المجلسي في (بحار الأنوار) عن محمد بن جرير الطبري: ان المعتضد ، الذي ولي الخلافة بعد المعتمد ، عزم على لعن معاوية بن ابي سفيان على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس. 19
واخفق المعتضد في مسعاه لمقاومة الحركة القرمطية ، أرسل جيشا لقمعها لكنه هزم واسر قائده ، وكان القرامطة يزحفون على البصرة تارة وعلى بغداد تارة ، وعلى الحجاز تارة أخرى. ونودي بزعيم لهم هو ( صاحب الناقة ابو عبد الله محمد) خليفة وتسمى بأمير المؤمنين ، ثم هجموا على الشام وظهروا فيها سنة 289 وظل خطرهم جاثما على المنطقة حتى نهبوا الكعبة وسرقوا الحجر الأسود وقتلوا آلافا من الحجاج سنة 317 ، ثم نهبوا البصرة واحتلوا الكوفة ، واضطر الخليفة المعتضد ان يعقد معهم الهدنة ويؤدي لهم ( مائة وعشرين الف دينار) كل عام .
وفي عهد الخليفة الطفل المقتدر بالله أصيبت الدولة العباسية بالضعف الشديد داخليا وخارجيا ، واحتل الروم ساحل الشام ومدينة اللاذقية سنة 298 ، وظهر محسن بن جعفر بن علي الهادي في دمشق سنة 300 ، ولكنه هزم وقتل بعد ذلك .
ومنذ ذلك الحين شهد العصر العباسي سيطرة البويهيين (الشيعة) على مقاليد السلطة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد ، حيث كانوا ينصبون الخلفاء ويعزلونهم . 20(1/8)
اذن فان الظروف المحيطة ب :(الغيبة) من قبل ومن بعد ، لم تكن تنطوي على أي مبرر للخوف والتقية ، بحيث يخفي الامام الحسن العسكري مولد ابنه ويكتمه بالمرة ، ولم يكن من العسير على (محمد بن الحسن العسكري) لو كان موجودا فعلا ، ان يظهر هنا وهناك . وحتى لو كان قد أعلن عن نفسه منذ البداية انه (المهدي المنتظر) لم يكن يصعب عليه اللجوء الى أطراف الدولة العباسية ويختبيء بالجبال والغابات ، وان يتحدى السلطات العباسية الضعيفة جدا ويقيم دولته المعهودة ، ويؤدي مسئولياته في إمامة الشيعة والمسلمين ، ومن المعروف ان الحكام البويهيين (الشيعة المؤمنين به) طالبوا الشيخ المفيد ان يخرج ويحكم بدل الخليفة العباسي ، كما خرج (المهدي الفاطمي) وحكم في شمال أفريقيا ، بعد ان كان مستترا ، فلم يحر المفيد جوابا ، بعد تهافت حكاية التقية والخوف على نفسه من القتل .(1/9)
ماذا في علائم الظهور؟
إضافة الى عدم وجود مبرر حقيقي للغيبة ، فان القائلين بها يتحدثون عن محاولات السلطة العباسية للتفتيش عن (الامام المهدي) والقبض عليه ، ومع ذلك فانهم يتحدثون عن اختباء (المهدي) في بيت ابيه في عاصمة الخلافة (سامراء) ولمدة طويلة ، وهو ما يناقض فلسفة الغيبة المفترضة :( الخوف والتقية) حيث كان ينبغي لو صح وجوده ان ينأى عن قبضة السلطة بالاختباء في نواحي البلاد البعيدة .
وبما ان الغيبة مناقضة لفلسفة الإمامة ، خاصة بتلك الصورة الطويلة ، فقد كان القول بها في البداية يتأرجح بين ستة ايام او ستة شهور او ست سنين ، ثم تطور الى ثلاثين عاما او اربعين عاما او مائة وعشرين عاما ، حسبما تقول روايات كثيرة ينقلها الطوسي في :(الغيبة) ص 76 - 78
ولم تكن مدة الغيبة تتصور اكثر من عمر الإنسان الاعتيادي ، ولذا فقد رفض الشيخ الصدوق قول (الواقفية) بغيبة الامام موسى الكاظم ، لإنه كان قد تجاوز العمر الطبيعي في القرن الرابع الهجري ، اي اصبح له من العمر حوالي مائتي عام . (إكمال الدين )
وعلى اي حال ، فان الروايات التي تتحدث عن علائم الظهور ، تشكل دليلا إضافيا على عدم صحة نظرية (المهدي محمد بن الحسن العسكري) وذلك لأنها تتحدث عن علائم ظهور مضى عليها الزمان ، كالظهور بعد سقوط الدولة الأموية ، والانتقام من الأمويين .
او الظهور في العهد العباسي ، او نهايته عند اختلاف ولد بني العباس فيما بينهم ، او في أعقاب قتل (ذي النفس الزكية) كما تقول روايات أخرى يذكرها الطوسي والنعماني والكليني
وتشير بعض الروايات الى ان (المهدي) سيفتح القسطنطينية التي استعصت على المسلمين قرونا طويلة ، وانه سيفتح الديلم والسند والهند وكابل والخزر . وكل هذه العلائم او المهمات قد حدثت ولم يظهر المهدي الموعود ، مما يدل على عدم صحة الروايات او ارتباطها بأشخاص آخرين.(1/1)
وتتحدث بعض الروايات عن علائم تعجيزية لا تحدث الا يوم القيامة او بعد زوال الدنيا ، كركود الشمس وسط السماء وطلوعها من المغرب ، وامتداد اليوم الى 240 ساعة ، وخروج أموات من قبورهم .
او تتحدث عن معاجز تقنية كالحديث مع القائم ورؤيته عن بعد ، بما يشبه جهاز (البث التلفزيوني المباشر عبر الأقمار الصناعية) وقد حدث هذا الجهاز مؤخرا ، ولكن ليس على يدي القائم ، مما يحول دون اعتباره معجزة من معاجز (المهدي).
او حدوث بعض العلائم الغريبة التي تتنافى مع سنة الله في الحياة كولادة الذكور دون الإناث بالآلاف للشخص الواحد ، كما يقول المفيد .
ومن الجدير بالذكر ان جميع الروايات الواردة في هذا الشأن هي مرسلة او مروية عن مجاهيل وغلاة ووضاعين ، وهي لا تذكر هوية القائم المهدي بالتحديد ، وانما تشير اليه بصورة عامة ، مما يحتمل وضعها او اختلاقها من قبل الحركات المهدوية السابقة في القرون الهجرية الاولى ، وبالتالي فانها تشكل دليلا على تطور النظرية المهدوية ، وتطبيق اصحاب نظرية (المهدي محمد بن الحسن العسكري) تلك الأحاديث عليه.(1/2)
دور الغلاة الباطنيين
في صنع الفرضية المهدوية
بعد تهافت الأدلة العقلية والنقلية والتاريخية التي قدمها أصحاب نظرية ( وجود المهدي محمد بن الحسن العسكري) واتضاح ان ذلك القول لم يكن الا ·فرضية اجتهادية سرية افترضها جماعة من الناس ، يأتي السؤال المحير الكبير : من كان وراء ذلك القول الغريب الافتراضي ؟.. وكيف استطاع اولئك الناس إحداثه ؟ وما هي مصلحتهم من وراء ذلك؟ وما هي أجواؤهم الثقافية والعقلية ؟ و لماذا اختاروا القول بوجود ولد للامام العسكري ، بالخصوص من بين الخيارات العديدة التي كانت تواجه الشيعة الأمامية بعد الحيرة ؟ وكيف نجحوا في تسويق نظريتهم ؟
لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة ومعرفة حلولها بدقة ، الا بالرجوع الى الوراء وقراءة التاريخ الشيعي العام خلال القرون الثلاثة الأولى ، والإطلاع على جذور الحركات المهدوية السابقة وعلاقتها بالفرق الباطنية الغالية التي كانت تحاول إلصاق نفسها بأهل البيت (عليهم السلام) .
العلاقة بين الغلو والمهدوية في التجارب السابقة
كنا قد استعرضنا في الفصل الثاني قصة نشوء حوالي عشرين حركة مهدوية ، وكان معظمها وليد الحركات المغالية ، وقد رأينا ان أول نظرية مهدوية في التاريخ الشيعي كانت تدور حول الامام أمير المؤمنين (ع) وقد اختلقها الغلاة (السبئية) الذين كانوا يغالون في شخصية الامام علي ويرفعونه الى درجة الربوبية .
اما النظرية الثانية فقد كانت حول محمد بن الحنفية ، وقد اختلقها الكيسانية المتأثرين بالسبئية الغلاة ، وخاصة (الكربية( منهم .
وكان رجل من الكيسانية الغلاة اسمه ( حمزة بن عمارة البربري ) قد طور نظرية مهدوية ابن الحنفية ، فقال بألوهيته وبنبوة ابن كرب ، وجعل من نفسه إماما مرتبطا بالسماء .(1/1)
وقد تناسلت تلك الحركة المغالية ، بعد ذلك ، الى عدة فرق ، وقالت فرقة منهم تعرف ب :(البيانية) بزعامة (بيان النهدي) قالت: بمهدوية ابي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وغلت فيه ، وادعى (بيان) النبوة عن ابي هاشم.
كما قال قسم آخر من الكيسانية الغلاة يعرف ب :(الجناحية) ب مهدوية الثائر الطالبي عبد الله بن معاوية بن جعفر الطيار .
وقد انتقلت عدوى الغلو من الكيسانية الى بعض الزيدية الذين قالوا بمهدوية (ذي النفس الزكية : محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن) حيث رفض قسم منهم الاعتراف بوفاته وقالوا بغيبته ، وحدث فيهم ما حدث في الحركة الكيسانية ، عندما قام رجل يدعى (المغيرة بن سعيد) بتطوير النظرية المهدوية وادعى الإمامة لنفسه في ظل (غيبة) ذي النفس الزكية ، ثم ترقى به الأمر الى ان ادعى انه رسول نبي ، وان جبرائيل يأتيه بالوحي من عند الله ، كما يقول النوبختي والاشعري .
وتسربت روح الغلو بعد ذلك من ( المغيرية) الى (الخطابية) اصحاب ابي الخطاب محمد ين ابي زينب الأجدع ، الذين كانوا يغالون في الامام الصادق (ع) ويؤلهونه ، وقد قالوا بامامة اسماعيل بن جعفر الصادق ورفضوا الاعتراف بوفاته في حياة ابيه ، وقالوا بمهدويته وغيبته .
وبالقرب من أجواء الغلو اللامنطقية تلك ، قال فريق آخر من الشيعة الامامية الفطحية بمهدوية (محمد بن عبد الله ألا فطح بن جعفر الصادق) وكان هذا اغرب قول بالمهدوية في ذلك الزمان ، حيث نسب ذلك الفريق (المهدوية) الى شخص وهمي ليس له وجود ، نتيجة المرور في أزمة نظرية بعد وفاة (الامام عبد الله الافطح) دون عقب يخلفه في الإمامة ،وذلك بسبب إيمانهم بضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب واعقاب الأعقاب الى يوم القيامة ، وعدم جواز الجمع بين أخوين في الامامة .(1/2)
وقد كان القول بوجود (محمد بن عبد الله ألا فطح) في البداية ، مجرد فرضية فلسفية ، ولكنهم قاموا بعد ذلك بحياكة مجموعة من القصص الاسطورية حول اللقاء به ومشاهدته هنا وهناك ، واختلقوا بعض المعاجز للاستدلال الغيبي على وجوده.
والى جانب هؤلاء وأولئك.. كان فريق آخر من الشيعة الامامية المتأثرين بالغلاة وهم (الواقفية) يقولون بمهدوية الامام موسى الكاظم (ع) وغيبته واستمرار حياته الى أمد غير منظور. وكان بعضهم يزعم ان الكاظم مات ثم قام بعد موته واختفى في موضع من المواضع السرية .
وكما حدث في الحركتين الشيعيتين الكيسانية والزيدية من استغلال بعض أقطابهما لفكرة المهدوية وادعاء الامامة او النبوة ، قام واحد من (الواقفية) اسمه ( محمد بن بشير الكوفي) بادعاء الخلافة و (النيابة الخاصة) عن الامام الكاظم والالتقاء به في (غيبته) . وذلك من اجل الحصول على منافع مالية وسياسية ضخمة ، ثم نقل الخلافة الى ولده سميع والى من أوصى اليه سميع من بعده . وقال : ·انه الإمام المفترض الطاعة على الامة الى وقت ظهور موسى ، فما يلزم الناس من حقوقهم في أموالهم مما يتقربون به الى الله عليهم أداؤه اليه الى قيام القائم .
ويقول النوبختي والاشعري : ان محمد بن بشير كان على قدر كبير من الغلو والقول بالتناسخ والتفويض والإباحة.
التفسير الباطني(1/3)
الى جانب القول بالمهدوية والغلو في الأئمة ، الذي طبع قسما من المنتسبين للحركة الشيعية العريضة ، كان يوجد أيضا القول بالتفسير الباطني ، وفي الحقيقة ان كثيرا من المقولات الباطلة لم تكن تستقيم الا بهذا التفسير الباطني المقلوب للأحداث والأقوال ، ورفض الاعتراف بالحقائق التاريخية الظاهرية ، او اختلاق حوادث وأشخاص لا وجود لهم ، كعدم الاعتراف بوفاة الامام أمير المؤمنين ، او وفاة محمد بن الحنفية ، او وفاة ابنه ابي هاشم ،او وفاة ذي النفس الزكية ، او وفاة الامام الصادق ، او وفاة ابنه اسماعيل ، او وفاة الامام الكاظم ، واختلاق ولد لعبد الله ألا فطح الذي مات دون خلف ظاهر ، والقول بوجود ولد له في السر أخفاه للتقية .
وقد كان (الخطابية ) أتباع ( محمد بن ابي زينب الأجدع ) ينسبون الى الامام الصادق معاني الغلو الفاحشة ويقولون انه الله ، وقد حج جماعة منهم الى بيت الله الحرام ولبوا هكذا :( لبيك يا جعفر لبيك) فارتعش الامام الصادق من قولهم وخرّ ساجدا الى الأرض واستنكر قولهم اشد استنكار ، ثم لعن ابا الخطاب ، فذهب أصحابه اليه واخبروه بلعن الامام الصادق له ، فأجابهم بأن الامام لا يلعنه شخصيا وانما يلعن رجلا آخر يحمل نفس الاسم في البصرة ، وقد كان هو يعيش في الكوفة.(1/4)
فعاد أصحابه الى الامام الصادق في المدينة واخبروه بمقالة ابي الخطاب الكوفي ، فحدده الامام بالاسم واللقب والمكان وجميع المواصفات الخاصة وكرر لعنه والبراءة من قوله.وعندما اخبره أصحابه بذلك لم يتراجع وظل مصرا على دعواه بالانتماء الى الشيعة والى الامام الصادق ونسبة أقواله الى الامام سرا ، وقال: ان الامام لم يلعنه بهذه الصورة الدقيقة العلنية الا لكي يحافظ على بقية الشيعة من آثار قول الألوهية ، تماما كما فعل الخضر الذي خرق السفينة لينقذها من الغصب والمصادرة ، وقرأ قوله تعالى:· وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت ان اعيبها وكان من ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا .
وكان الباطنيون ينسبون كثيرا من الأقوال والآراء الى أئمة اهل البيت (ع) سرا وخلافا لما كان يعلن به اهل البيت ويقولوه أمام الملأ من الناس ، وبشكل يتعارض مع مواقفهم الحقيقية ، ولما كان الأئمة ينفون تلك الأقوال الغريبة ويستهجنونها او يرفضونها ، كان الباطنيون يتشبثون بأقوالهم ويفسرون نفي الأئمة لادعاءاتهم بالتقية وبخوف الأئمة من إعلان الحق والتحدث بما لا يحتمله الناس !.(1/5)
وبغض النظر عن مناقشة دعوى( التقية ) ونسبتها الى اهل البيت بهذه الصورة المناقضة لأمانة الكلمة والمحافظة على الرسالة ، فان الباطنيين استطاعوا لعب أدوار كبيرة في التاريخ الشيعي وتحريف الناس عن خط أهل البيت ، في كل زمان ، حتى جاء عهد الامام الحسن العسكري ، الذي توفي عن دون ولد ظاهر ، واوصى بأمواله الى أمه (حديث) ولم يتحدث عن وجود ولد له في حياته . وقد قبل جميع المسلمين هذه الحقيقة كما قبلها معظم الشيعة الامامية وذهبوا الى القول بإمامة جعفر بن علي الهادي ، او القول بانقطاع الإمامة ، او القول بالشورى .. ولكن فريقا من الغلاة والباطنيين رفض التسليم بهذه الحقيقة الظاهرية ، وأصر على اختلاق قصة سرية ووجود ولد مكتوم ومخفي لم يعلن عنه الامام العسكري خوفا عليه من القتل ، وتقية . وارتد قسم منهم عن القول بامامة الحسن العسكري ، وراح يقول بمهدوية محمد بن علي الهادي الذي كان قد توفي في حياة ابيه ، ويرفض الاعتراف بهذه الحقيقة ، ويصر على اختفائه واستمرار حياته الى يوم الظهور ، تماما كما فعل قسم من الإسماعيلية الذين رفضوا التسليم بوفاة اسماعيل بن جعفر الصادق ، وفسروا عملية الدفن التي قام بها الامام الصادق بأنها مسرحية من قبل الامام !(1/6)
وقد رفض مشايخ الطائفة الامامية الاثني عشرية كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي منهج الفرق الشيعية الأخرى الباطنية التي ترفض الاعتراف بوفاة الامام علي او ابنه محمد بن الحنفية او ابنه ابي هاشم او وفاة الامام الصادق او ابنه اسماعيل او وفاة الامام موسى الكاظم ، او وفاة الامام العسكري او اخيه محمد ، وذلك لمخالفة منطقها الباطني للظاهر ، الذي يشكل حجة لله على الناس . ولكن جميع القائلين بوجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) ينتهجون بدورهم المنطق الباطني حيث يعترفون بعدم إعلان الامام العسكري لولادة (ابنه) ووصيته لوالدته عند وفاته ، ويفسرون ذلك بالخوف و التقية . وبغض النظر عن مناقشة هذه الدعوى والتأكد من حقيقة الظروف المحيطة بوفاة الامام العسكري ، فان القول بوجود ولد له في السر ، هو إذن قول باطني سري مخالف للظاهر .
النصيرية (او النميرية)
وقد رأينا أيضا : ان معظم الروايات التي تتحدث عن ولادته ومشاهدته في حياة أبيه تتضمن معاني الغلو الفاحشة والعلم بالغيب وما الى ذلك ، من مقولات الغلاة المتطرفين ، ويجدر بنا ان نتوقف قليلا عند الحركة المغالية (النصيرية) او (النميرية) التي كانت قد نشأت حول الامام علي بن محمد الهادي ، على يدي محمد بن نصير النصيري (او النميري) الذي كان من أقطاب الشيعة في البصرة . وكان هذا قد رفع الامام الهادي الى درجة الألوهية ، وادعى لنفسه مرتبة النبوة والرسالة من قبل الامام ، وكان يقول بالتناسخ .
وقد التف هذا الغالي (النصيري) بعد وفاة الامام الهادي حول ابنه الامام الحسن العسكري ، وكان بعد وفاته من ابرز القائلين بوجود (ولد) له في السر ، هو : ( محمد بن الحسن العسكري) وقد ادعى البابية و(النيابة الخاصة) عنه ، ثم ادعى النبوة وأورثها الى عدد من اصحابه .
المخمسة(1/7)
والى جانب النصيرية كان يوجد في تلك الأيام تيار آخر من الغلو والغلاة في صفوف الشيعة الامامية ، هم : (المخمسة) الذين يعتقدون - كما يقول سعد بن عبد الله الاشعري القمي في :(المقالات والفرق) - : · ان الله عز وجل هو محمد ، وانه ظهر في خمس صور مختلفة .. ظهر في صورة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وان أربعة من هذه الصور الخمسة تلتبس لا حقيقة لها ، والمعنى شخص محمد وصورته لأنه أول شخص ظهر وأول ناطق نطق ، لم يزل بين خلقه موجودا بذاته يتكون في اي صورة شاء ، يظهر نفسه لخلقه في صور شتى من صور الذكران والإناث والشيوخ والشباب والكهول والأطفال ، يظهر مرة والدا ومرة ولدا وما هو بوالد ولا بمولود ، ويظهر في الزوج والزوجة ، وانما اظهر نفسه بالإنسانية والبشرانية لكي يكون لخلقه به انس ولا يستوحشوا ربهم.
وان محمدا كان آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى لم يزل ظاهرا في العرب والعجم.. وانه كان يظهر نفسه لخلقه في كل الأدوار والدهور ، وانه ترأى لهم بالنورانية ، فدعاهم الى الإقرار بوحدانيته فأنكروه فتراءى لهم من باب النبوة فأنكروه فتراءى لهم من باب الإمامة فقبلوه ، فظاهر الله عز وجل بالإمامة وباطنه الله الذي معناه محمد يدركه من كان من صفوته بالنورانية ، ومن لم يكن من صفوته بدرجة بالبشرانية اللحمانية الدموية ، وهو الامام ...وان كل من كان من الأوائل مثل ابي الخطاب وبيان وصائد والمغيرة وحمزة وبزيع والسري ومحمد بن بشير هم أنبياء أبواب بتغيير الجسم وتبديل الاسم ، وان المعنى واحد ، وهو سلمان وهو الباب الرسول يظهر مع محمد في كل صورة ظهر ، وهو رسول محمد متصل به ، ومحمد الرب... .
ويقول الاشعري القمي : انهم ( لعنهم الله ) اظهروا دعوة التشيع واستبطنوا المجوسية فزعموا ان سلمان (رحمه الله ) هو الرب ، وان محمدا داعٍ اليه ، وان سلمان لم يزل يظهر نفسه لأهل كل دين . وذهبوا في جميع الأشياء مذهب المجوس .(1/8)
وقد كان شيعة الكرخ في تلك الأيام من (المخمسة ) وانه لا أحد يشك في ذلك . كما يقول الشيخ الطوسي في :(الغيبة) .
وكان شيخ الشيعة بالكرخ يوم ذاك :(احمد بن هلال العبرتائي) وهو من اعظم الغلاة -وقد اخرج الحسين بن روح النوبختي (النائب الثالث) توقيعا بلعنه بشدة والتبرؤ ممن لا يلعنه - وقد كان قطبا رئيسيا في عملية اختلاق نظرية (وجود ولد مخفي ) للامام الحسن العسكري ، ومن اقرب المساعدين ل عثمان بن سعيد العمري (النائب الأول) وقد أيده في دعوى (الوكالة عن المهدي) ثم اختلف مع ابنه محمد (النائب الثاني) وادعى النيابة لنفسه .
المفوضة
والى جانب أولئك الغلاة النميرية والمخمسة كان يوجد في صفوف الشيعة تلك الأيام صنف آخر من الغلاة هم (المفوضة) الذين كانوا يعتقدون:· ان الله أقام شخصا واحدا كاملا لا زيادة فيه ولا نقصان ، ففوض اليه التدبير والخلق ، فهو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وسائر الأئمة ، ومعناهم واحد ، والعدد يلبس ، وان هذا (الواحد الكامل) - اي محمد - هو الذي خلق السماوات والأرضين والجبال والإنس والجن والعالم بما فيه .
وقد اضطر هؤلاء (المفوضة ) بعد وفاة الامام الحسن العسكري الى افتراض (وجود ولد ) له في السر ، لكي تستمر نظرية (الواحد الكامل) الذي يدبر الكون ويخلق ويرزق ..
ولكن بقية الشيعة لم يكونوا يؤمنون بأفكارهم الغالية ، وقد حدث بين الفريقين نوع من التنازع والاختلاف ، وقاموا بالاحتكام الى محمد بن عثمان العمري ، باعتباره (نائبا عن صاحب الزمان) وطلبوا منه ان يحسم النزاع ، فأخرج لهم (توقيعا) يتضمن رفض نظرية (التفويض الكامل) ، ويؤكد تدخل الأئمة في السؤال من الله ان يخلق فيخلق او يرزق فيرزق .
ولم يخلُ جواب العمري لهم ، في الواقع ، من درجة مخففة من القول بالتفويض ، وهو ما يدل على ارتباطه وارتباط القول بوجود (ابن الحسن ) بالغلاة.(1/9)
وهذا ما يؤكده الحسين بن روح النوبختي في حديثه عن اختلاف الشيعة في ذلك الزمان حول مسألة التفويض ، وذهابه الى ابي طاهر ابن بلال (احد أقطاب النظرية المهدوية) ومناقشته في الموضوع ، وإخراجه حديثا عن ابي عبد الله (ع) يذكر فيه:· ان الله اذا اراد أمرا عرضه على رسول الله ثم أمير المؤمنين ثم الأئمة واحدا بعد واحد .. الى ان ينتهي الى صاحب الزمان ، ثم يخرج الى الدنيا . واذا اراد الملائكة ان يرفعوا الى الله عز وجل عملا عرض على صاحب الزمان ثم يخرج على واحد واحد من الأئمة الى ان يعرض على رسول الله ثم يعرض على الله عز وجل ، فما نزل من الله فعلى ايديهم ، وما عرج الى الله فعلى أيديهم ، وما استغنوا عن الله عز وجل طرفة عين .
وهو ما يوحي بمشاركة الأئمة مع الله في إدارة الكون ، وهذا نوع من (التفويض) غير الكامل .
وكان محمد بن الحسن الصفار القمي - صاحب كتاب (بصائر الدرجات ) - الذي كان معاصرا لفترة الحيرة ، وكان أحد أقطاب (النظرية المهدوية الاثني عشرية )، يعتقد بنوع من التفويض للأئمة في التشريع وادارة الحياة ، وهو يقول: · وجدت في كتاب قديم في نوادر محمد بن سنان ، قال قال ابوعبدالله: لا والله ما فوّض الله الى أحد من خلقه ، الا الى رسول الله والأئمة ، فقال:( انا انزلنا الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ) وهي جارية في الأوصياء .
ومن الواضح ان هذه النظرية تحتوي على درجة من الغلو ، وان لم تصل الى درجة القول بالتفويض في الخلق والرزق و إدارة الكون . وقد كان الصفار يتطرف في الغلو في الأئمة ، يشهد على ذلك كتابه (بصائر الدرجات) المليء بالأفكار المرفوضة من الشيعة اليوم .(1/10)
وكان بعض اهل نيسابور من الشيعة على درجة كبيرة من الغلو والارتفاع والتفويض ، كما يقول الكشي في ترجمة الفضل بن شاذان . وعموما فقد كان الغلو بمختلف مدارسه ومذاهبه ينتشر بين الشيعة في منتصف القرن الثالث الهجري ، كما يقول السيد هبة الدين الشهرستاني في مقدمته لكتاب الشيخ المفيد :(أوائل المقالات ) .
وقد لعب جعفر بن محمد بن مالك الفزاري وآدم البلخي واحمد الرازي و الحسين بن حمدان الخصيبي دورا كبيرا في نشر نظرية (وجود الامام المهدي) ونسج الروايات الأسطورية حول مولده واللقاء به ، وكان هؤلاء من أعاظم الغلاة الذين يجمع علماء الحديث الشيعة على رفض أحاديثهم .(1/11)
دور الإعلام في تكريس الفرضية المهدوية
السؤال الذي يفرض نفسه الآن .. بعد وضوح تأليف نظرية (المهدي محمد بن الحسن العسكري ) من قبل الغلاة والمتكلمين وأدعياء النيابة المستفيدين ، وتبين عدم وجود رصيد لها من الواقع والحقيقة ، وانها لم تكن الا فرضية وهمية اخترعت في عصر (الحيرة) التي أعقبت وفاة الامام العسكري دون ولد يرثه في الإمامة .. السؤال هو: كيف إذن شقت هذه النظرية أو الفرضية طريقها الى عقول وقلوب ملايين المسلمين من الشيعة الامامية الاثني عشرية ، وغيرهم عبر التاريخ؟ وكيف أصبحت عقيدة راسخة وقوية ؟
في الإجابة على هذا السؤال لا بد ان نقول أولا :
- ان الشيعة الأوائل في عصر الأئمة من أهل البيت (ع) لم يعرفوا هذه النظرية بتاتا ، كما لم يعرفها الشيعة بعد وفاة الامام الحسن العسكري مباشرة ، وقد احتار الامامية في أمرهم عندما لم يجدوا له خلفا ظاهرا ، وكان المهدي مجهولا لديهم بالمرة وغامضا غير محدد في شخص معين ، وقد قالت فرقة واحدة من أربعة عشر فرقة بنظرية وجود ولد للامام العسكري ، مما يعني ان الشيعة لم يجمعوا على هذه النظرية في فترة (الغيبة الصغرى) وربما مال اليها بعض الشيعة الامامية .
ثم .. ان عامة الشيعة تراجعوا عن هذا القول بعد حوالي خمسين عاما ، وقد سجل الكليني في (الكافي) والخصيبي في (الهداية الكبرى ) ظاهرة التراجع عن القول بوجود الولد عند قوم من أهل المدينة من الطالبيين .
وقال تلميذ الكليني : محمد بن ابي زينب النعماني (توفي سنة 340ه ) في (الغيبة):·انا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة الى التشيع ممن يقول بالإمامة .. قد تفرقت كلمتها وتشعبت مذاهبها.. وشكوا جميعا الا القليل في امام زمانهم وولي أمرهم وحجة ربهم ... فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم... حتى أداهم ذلك الى التيه والحيرة والعمى والضلالة ، ولم يبقَ منهم الا القليل النزر.(1/1)
وقال في موضع آخر من كتابه:· أي حيرة اعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير؟.. ولم يبقَ ممن كان فيه الا النزر اليسير ، وذلك لشك الناس.
وروى النعماني مجموعة من الروايات التي تتحدث عن وقوع الحيرة بعد الغيبة ، ووصف حالة الحيرة التي عمت الشيعة في ذلك الوقت ، فقال:· ان الجمهور منهم يقول في (الخلف) أين هو؟ وأنى يكون هذا ؟ والى متى يغيب؟ وكم يعيش؟ هذا وله الآن نيّف وثمانون سنة ؟ فمنهم من يذهب الى انه ميت ، ومنهم من ينكر ولادته ويجحد وجوده بواحدة ، ويستهزئ بالمصدق به ، ومنهم من يستبعد المدة ويستطيل الأمد .
وقال: · شذّ الأكثر ممن كان متقدما وطار يمينا وشمالا .. وتفرق الناس عنه (الخلف) ويأسهم منه واستهزائهم بالمعتقد لإمامته ونسبتهم إياهم الى العجز . ووصف القائلين بوجود (الامام الثاني عشر) ب : · الشرذمة المنفردة عن هذا الخلق الكثير المدعين للتشيع الذين تفرقت بهم الأهواء.. واستوحشوا من التصديق بوجود الامام مع فقدان شخصه وطول غيبته .
كما أشار الشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (توفي سنة 381 ه ) في مقدمة كتابه :( إكمال الدين واتمام النعمة) الى حالة الحيرة التي عصفت بالشيعة ، وقال:· وجدت اكثر المختلفين اليّ من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة وعدلوا عن طريق التسليم الى الآراء والمقاييس.. وورد الينا شيخ من بخارى من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم ، فبينا هو يحدثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارى من كبار الفلاسفة والمنطقيين كلاما في القائم قد حيره وشككه في أمره .(1/2)
وقد ذكر الكليني والنعماني والصدوق مجموعة من الروايات التي تؤكد وقوع الحيرة بعد غيبة صاحب الأمر واختلاف الشيعة وتشتتهم في ذلك العصر ، واتهام بعضهم بعضا بالكذب والكفر ، والتفل في وجوههم ولعنهم ، وانكفاء الشيعة كما تكفأ السفينة في أمواج البحر ، وتكسرهم كتكسر الزجاج أو الفخار ، وقولهم بموت صاحب الأمر ، وارتدادهم وعدم البقاء على أمره الا يسيرا منهم .
وبغض النظر عن مناقشة هذه الروايات المختلقة أو المستوردة من الفرق الشيعية والحركات المهدوية القديمة ، فان نقل الكليني والنعماني والخصيبي والصدوق وغيرهم لها ، وتطبيقهم لها على الشيعة في القرن الرابع ، يكشف عن تراجع عامة الشيعة عن القول بوجود (محمد بن الحسن العسكري) بعد قول فئة منهم بذلك فترة من الزمن.
وإذا كانت النظرية قد أصبحت في وقت لاحق عند قسم من الشيعة الامامية وهم (الاثني عشرية) أشبه بالعقيدة الراسخة التي لا تقبل الجدل أو النقاش ، فليس ذلك الا بسبب عملية إعلامية كبرى قام بها أدعياء النيابة وأعوانهم ، وامتدت آثارها الى اليوم .
كانت العملية الإعلامية تتألف من عدة أمور ، هي :
1 - التلفيق الروائي ، واختلاق الأحاديث المختلفة حول (الاثني عشرية والمهدي) . وقد مرّ عرضها ونقدها في الفصل الخاص بالأدلة النقلية حول إثبات المهدي .
2 - الإرهاب الإعلامي ، وقد استخدم أصحاب النظرية ، بالإضافة الى ذلك ، قسما آخر من الروايات الهجومية التي تتهم من لا يؤمن بالمهدي المفترض :(محمد بن الحسن العسكري) بالكفر والردة والفسق والضلال ، والتي تساوي بين إنكار (وجود ) المهدي وإنكار الرسول الأعظم ، وتكذيبه والجحد بنبوته .(1/3)
واعتمدت الحملة الإعلامية على بعض الأحاديث القديمة التي تعتبر من يموت ولا يعرف امام زمانه كأنه قد مات ميتة جاهلية ، وفسرتها بمعرفة (صاحب الزمان وامام العصر المهدي المنتظر) واعتبرت كل من لم يعرفه ومن لم يؤمن به بأنه سوف يموت ميتة جاهلية ، وذلك بالرغم من عدم وجود طريق الى معرفته والالتفاف حوله ونصرته والانقياد اليه.
وقال محمد بن عثمان العمري (النائب الثاني) : انه سمع الحسن العسكري يقول: · من مات ولم يعرف ابني مات ميتة جاهلية .
وذهب العمري شأواً بعيدا جدا في هجومه الإعلامي حيث اعتبر المشككين بوجود المهدي مفارقين للدين ومرتابين ومعاندين للحق ، وأخرج (توقيعا) باسم المهدي يندد بمن لا يؤمن به ويهدده بالويل الوخيم . وقد ساعد الشيخ ابو عبد الله جعفر الحميري القمي وسعد بن عبد الله الاشعري القمي على نشر تلك الرسالة في صفوف الشيعة.
3 - الأدعية والزيارات ، وربما كانت الأدعية والزيارات أهم عمل إعلامي ساهم في ترسيخ نظرية (المهدي محمد بن الحسن) بين الشيعة ، وذلك لما لهذه الادعية والزيارات من دور حيوي مؤثر في حياة الناس ، حيث يدأب الشيعة على قراءة الادعية عقيب كل صلاة وفي جميع المناسبات الدينية ، ويحرصون على زيارة قبور الأئمة دائما وفي الجمعات.
والأدعية والزيارات المتداولة بين الشيعة حول المهدي والقائم تنقسم الى قسمين :(1/4)
أ - أدعية عامة وغير محددة بمحمد بن الحسن العسكري ، وانما تدور حول القائم أو المهدي المطلق ، كدعاء صاحب الأمر ، أو الدعاء في غيبة الامام ، وهي مروية عن الأئمة السابقين كالباقر والصادق والكاظم والرضا ، مما ينسجم مع العمومية التي كانت تلف موضوع المهدي نفسه وعدم تحديد هويته في زمن الأئمة ، الأمر الذي بحثناه في الفصول الماضية ، وهو ما يوحي بأن هذه الادعية والزيارات مستوردة من التراث الشيعي القديم أو الفرق الشيعية المختلفة كالواقفية التي كانت تقول بمهدوية الامام الكاظم ، وقد طبق الشيعة المتأخرون تلك الادعية والزيارات على المهدي (محمد بن الحسن) الذي افترضوا وجوده ، حتى لم يعد لها من مفهوم سوى هذا (الامام المهدي) ، ولم يعد أحد ينتبه الى عمومية الروايات وعدم تحديد المصداق الخاص بها .
ب - أدعية خاصة محددة بمحمد بن الحسن العسكري ، كأدعية شهر رمضان ودعاء الافتتاح والاختتام واليوم الثالث عشر منه ، ودعاء العهد والندبة ، والزيارات المختلفة لمراقد أهل البيت (ع) وزيارة سرداب الغيبة في سامراء. وهي أدعية وزيارات مؤلفة بصورة مستقلة أو ملفقة من مجموعة روايات ، أو أدعية عامة مضاف اليها اسم المهدي .
ومما يميز هذه الادعية والزيارات التي تتحدث عن المهدي وتذكر اسمه بالتحديد ، بعد ان تسرد أسماء الأئمة السابقين واحدا واحدا ، انها تخلو من ذكر السند ، وتعتمد على الإرسال التام ، وهي صادرة عن عثمان بن سعيد العمري (النائب الأول) أو ابنه محمد بن عثمان العمري (النائب الثاني) أو الحسين بن روح النوبختي (النائب الثالث) أو محمد بن جعفر الحميري الذي كان أحد مساعدي العمري في مدينة قم .
وقد روى السيد ابن طاووس في (مهج الدعوات) دعاء يقول انه يصلح لأيام الغيبة ، يقول انه رأى في المنام من يعلمه إياه ! ()(1/5)
وقد روى المجلسي بالاسناد الى علي بن محمد بن عبد الرحمن البشري ، قال : دخلت مسجد صعصعة (في الكوفة) واذا برجل عليه ثياب الحجاز وعمته كعمتهم قاعد يدعو بهذا الدعاء :( اللهم ياذا المنن السابغة...( ثم سجد طويلا وقام وركب الراحلة وذهب ، فقال صاحبي : هو والله صاحب الزمان .
4 - الطقوس والقصص المرتبطة برؤية المهدي
وبالإضافة الى الادعية والزيارات الواردة حول (المهدي) هناك بعض الطقوس المعتادة التي تلعب هي الأخرى دورا إعلاميا مهما في تكريس الاعتقاد بنظرية (وجود المهدي) وتحويلها الى · حقيقة راسخة في أذهان الشيعة ، وذلك مثلا ، كالقيام و أداء التحية والانحناء عند سماع اسم (القائم) وهو ما يفعله عامة الشيعة المتدينين اليوم ومنذ زمن طويل ، الأمر الذي يبعث على الاحترام والخشوع والرهبة والتحسس بوجود المهدي ، والتعامل معه كأنه حي وحاظر في الأوساط.
وتلعب القصص الكثيرة التي يتداولها العامة والخاصة من الشيعة حول رؤية بعض الناس أو العلماء للمهدي ولقائهم به ، وهي قصص يسرد المجلسي كمية كبيرة منها في موسوعته :(بحار الأنوار / الجزء 51) .. تلعب دورا كبيرا أيضا في تعزيز نظرية المهدي ، وتحويلها الى قصة قريبة من الواقع ، خاصة وانها تروى عن مجموعة من الزهاد والعباد والعلماء البارزين .
وهناك مسجد شهير في الكوفة في العراق يعرف بمسجد السهلة يشتهر بأنه مسجد الامام المهدي ، وان من يدأب على الصلاة فيه أربعين ليلة أربعاء فانه يحضى برؤية المهدي ، وتوجد بعض المساجد هنا وهناك في العراق تعرف ب ( مقامات المهدي) حيث يقال انه قد شوهد (الامام) في تلك الأماكن وهو يصليفبني فيها مساجد ، وان هذه المساجد أو المقامات تلعب هي الأخرى دورا إعلاميا في تعزيز الإيمان بالنظرية المهدوية (الاثني عشرية) وتحويلها من فرضية الى واقع مادي يعيشه الناس وينظرون إليه بأعينهم.(1/6)
وهكذا يلعب الإعلام المهدوي بكل فقراته وفروعه دورا كبيرا في تعزيز نظرية · وجود الامام المهدي وترسيخها بين أوساط الشيعة ، وتحويلها من فرضية وهمية الى · حقيقة بديهية لا تقبل الجدال !(1/7)
فرضية النيابة الواقعية عن الامام المهدي
في القضاء والحدود
الى جانب العمل العظيم الذي قام به الفقهاء الامامية في مطلع القرن الخامس الهجري ، وهو فتح باب الاجتهاد ، قاموا أيضا باستنباط نظرية أو فرضية كان لها دور كبير في مستقبل الفكر السياسي الامامي ، حيث فتحت هذه الفرضية نافذة تطورت مع مرور الزمان وأدت آلي تخلي الامامية عن شرط العصمة والنص في الأمام ، وبالتالي التخلي عن الالتزام بنظرية (التقية والانتظار للامام الغائب) والقول بنظرية (ولاية الفقيه) .
وقد انطلقت هذه النظرية وهي:( فرضية النيابة الواقعية للفقهاء عن الأمام المهدي ) من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والتي تسمح للفقهاء الشيعة في حياتهم بممارسة القضاء وتوجب التقاضي اليهم .
ومن المعلوم ان القضاء يعتبر من أهم أعمال الدولة ، ولما كان الشيعة الامامية يحصرون الدولة الشرعية في الدولة التي يقودها (الأمام المعصوم المعين من قبل الله) فانهم قد حرموا ممارسة القضاء لغير الأمام المعصوم ، ولكنهم رووا عدة روايات تجيز للفقهاء الشيعة ممارسة ذلك بالنيابة عن (الأئمة المعصومين) . والروايات هي:
1 - مقبولة عمر بن حنظلة عن الأمام الصادق (ع) التي يقول فيها :· انظروا آلي رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فارضوا به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكما . 1
2 - مشهورة أبى خديجة عن الأمام الصادق أيضا :· انظروا آلي رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا فتحاكموا اليه . 2
3 - رواية أخرى لأبي خديجة يقول فيها: · بعثني ابو عبدالله (عليه السلام) آلي أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو ترادي بينكم في شيء من الأخذ والعطاء ان تحاكموا آلي أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلا منكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته قاضيا ، واياكم ان يتحاكم بعضكم بعضا آلي السلطان الجائر . 3(1/1)
وقد تم استعارة هذه الاذونات العامة الصادرة في عهد حضور الأئمة ، والحكم بجواز ممارسة القضاء في عهد (الغيبة) للفقهاء من الشيعة ، وذلك للتشابه بين الحالتين وهو عدم سيطرة الأئمة وممارستهم للحكم ، وحل الشيعة الامامية بذلك مشكلة القضاء في عصر الغيبة ، وإضافة آلي ذلك فقد استنبطوا من تلك الروايات :( فرضية النيابة الواقعية عن الأمام المهدي).
وكان الشيخ المفيد قد حصر في :(المقنعة / كتاب الحدود) الحق في إقامة الحدود بسلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى وهم أئمة الهدى من آل محمد أو من ينصبونه لذلك من الأمراء والحكام ولكنه أجاز في عصر الغيبة لكل من يقدر على تنفيذ الحدود اقامتها ، وخاصة للفقهاء الذين قال عنهم ان الأئمة قد فوضوا اليهم النظر في القضاء مع الإمكان ، وقال :· فمن تمكن من إقامتها على ولده وعبده ولم يخف من سلطان الجور ضررا به على ذلك فليقمها ، ومن خاف من الظالمين اعتراضا عليه في إقامتها أو خاف ضررا بذلك على نفسه أو على الدين فقد سقط عنه فرضها وقال:· وكذلك ان استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه وأمن بوائق الظالمين في ذلك فقد لزمه إقامة الحدود عليهم فليقطع سارقهم ويجلد زانيهم ويقتل قاتلهم . وهذا فرض متعين على من نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له ، أو الإمارة من قبله على قوم من رعيته فيلزمه إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار ويجب على إخوانه المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدا من حدود الايمان أو يكون مطيعا في معصية الله تعالى من نصبه من سلطان الضلال ... ومن تأمر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له وكان أميرا من قبله في ظاهر الحال ، فانما هو أمير في الحقيقة من قبل (صاحب الأمر) الذي سوغه ذلك وأذن له فيه دون المتغلب من أهل الضلال .(1/2)
ومع ان ( المفيد ) لا يخصص الإذن هنا بالفقهاء فقط ، فان من الواضح انه يفترض الإمارة الحقيقية أو النيابة الواقعية عن (صاحب الأمر) افتراضا كحل للأزمة .
وبالرغم من ان السيد المرتضى قد التزم في كثير من كتبه الكلامية بتجميد الحدود في عصر الغيبة لاشتراطها باذن الأمام المعصوم وهو غائب ، فقد حاول التهرب من ذلك الموقف السلبي ، وأجاز في بعض :(رسائله) الولاية للمتغلب الظالم وقال :· جاءت الرواية الصحيحة لمن هذه حاله ان يقيم الحدود ويقطع السراق ويفعل كل ما اقتضت الشريعة فعله من هذه الأمور . 4
ولكن السيد المرتضى لم يشر آلي موضوع (النيابة الواقعية عن صاحب الأمر) التي تحدث عنها المفيد . وقد أيد الشيخ الطوسي في :(المبسوط) هذا الرأي أيضا ، وأشار إلى مسألة (النيابة الواقعية) مع اشتراط النية بذلك من قبل المنفذ للحدود في عصر الغيبة ، فقال:· وقد رخص في حال قصور أيدي أئمة الحق وتغلب الظالمين ان يقيم الإنسان الحد على ولده واهله ومماليكه إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين وأمن بوائقهم . ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود جاز له ان يقيم ما عليهم على الكمال ، ويعتقد انه إنما فعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ما لم يتعد الحق في ذلك . 5
وتحدث الطوسي عن تفويض الأئمة لفقهاء الشيعة إقامة الحدود ، فقال:· واما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضا إلا لمن اذن له سلطان الحق في ذلك ، وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليته بنفوسهم ، فمن تمكن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك وله بذلك الأجر والثواب ما لم يخف على نفسه ولا على أحد من أهل الإيمان ويأمن الضرر فيه ، فان خاف شيئا من ذلك لم يجز له التعرض لذلك على حال . 6(1/3)
وتحدث أبو الصلاح الحلبي ( 373 -447) المعاصر للمرتضى والطوسي في :(الكافي في الفقه) عن نفس الموضوع ، بعد ان التزم في البداية بنظرية :(التقية والانتظار) حيث تخلى عنها في حالة إجبار الظالم للفقيه الشيعي على تنفيذ الحدود ، وتحدث عن (النيابة العامة الواقعية عن الإمام المهدي الغائب) فقال: · ان تعذر تنفيذها بهم (عليهم السلام) وبالمأهول لها من قبلهم ، لأحد الأسباب ، لم يجز لغير شيعتهم تولي ذلك ، ولا التحاكم إليه ولا التوصل بحكمه إلى الحق ولا تقليده الحكم مع الاختيار ، ولا لمن لم يتكامل له شروط (النائب) عن الإمام في الحكم من شيعته ، وهي العلم بالحق في الحكم المردود إليه . ومتى تكاملت الشروط فقد اذن له في تقلد الحكم ، وان كان مقلده ظالما متغلبا . وعليه متى عرض لذلك ان يتولاه لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ونهيا عن منكر تعين فرضها بالتعريض للولاية عليه ، وان كان في ظاهر الحال من قبل المتغلب ، فهو نائب عن ولي الأمر (الإمام المهدي ) عليه السلام ، في الحكم ، ومأهول له ، لثبوت الإذن منه ، ومن آبائه لمن كان بصفته في ذلك ، ولا يحل له القعود عنه . وان لم يقلد من هذه حاله النظر بين الناس فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر ، وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم وحمل حقوق الأموال إليه والتمكين من أنفسهم لحدّ أو تأديب تعين عليهم ، لا يحل لهم الرغبة عنه ولا الخروج عن حكمه ، لكون ذلك حكم الله سبحانه الذي تعبد بقوله وحظر خلافه.
ولا يحل له مع الاختيار وحصول الأمن من معرة أهل الباطل الامتناع من ذلك . 7(1/4)
ولم يكتف أبو الصلاح الذي كان يعيش في ظل الدولة البويهية بالقول بالجواز ، وإنما أضاف إليه القول بالوجوب وحرمة الامتناع عن التصدي لتنفيذ الحدود ، وكما لاحظنا فقد اعتبر القاضي الذي يعينه الظالم المتغلب (ويقصد الحكام البويهيين الشيعة) نائبا عن الإمام المهدي الغائب ، وقد أشار إلى وجود بعض الروايات من الأئمة السابقين التي تجيز رجوع الشيعة إلى الفقهاء والتحاكم لديهم ، وربما كان يعني مقبولة ابن حنظلة أو مشهورة أبى خديجة ، ولكن مفهومه عن (نيابة الفقيه) لم يكن يتعدى المجال القضائي .
ومع تألق القول بجواز إقامة الحدود منذ عهد المفيد إلا ان (سلار) حاول التراجع عنه في (المراسم) حيث أفتى بالجواز على مضض ، وقال :· ان عدم الجواز اثبت وقال أخيرا بعد ان ذكر فرضية (التفويض العامة من الأئمة للفقهاء) :· ومن تولى من قبل ظالم وكان قصده إقامة الحق ، أو اضطر إلى التولي ، فليتعمد تنفيذ الحق ما استطاع وليقض حق الإخوان . 8
و أجاز القاضي ابن براج ( 400 - 481) في (المهذب) إقامة الحد على الولد والأهل دون غيرهم مع اشتراط عدم الخوف من وصول المضرة من ظالم ، كما أجاز لكل إنسان مسلم - وليس للفقهاء فقط - ان يقيم الحدود ، إذا استخلفه السلطان الجائر ، وجعل إليه إقامة الحدود بشرط ان يعتقد : انه من قبل الإمام العادل (المهدي المنتظر) في ذلك ، وانه يفعل ذلك بإذنه لا بإذن السلطان الجائر . 9(1/5)
وقد اثبت محمد بن إدريس الحلي ( 543 - 598) في :(السرائر) اختصاص الحق بإقامة الحدود بالأئمة (ع) وان من فروضهم بمقتضى التعبد دون من عداهم ممن لم يؤهلوا لذلك ، ثم تحدث عن عدم جواز تنفيذ الأحكام الشرعية في حالة التعذر إلا لشيعتهم المنصوبين من قبلهم لتولي ذلك ، وبالأخص لمن تكاملت فيه شروط النيابة عن الإمام المهدي ، وتحدث عن (النيابة الواقعية) للحاكم في ظل الغيبة عن (ولي الأمر) لثبوت الإذن له منه ومن آبائه ، وان كان في الظاهر منصوبا من قبل المتغلب . 10
ويمكننا ان نلاحظ هنا : ان الحديث عن جواز إقامة الحدود في عصر الغيبة ، كان إلى نهاية القرن السادس الهجري يدور في حالة قيام الظالم بإجبار الفقيه أو غير الفقيه على تطبيقها ، وكان الرأي الاستثنائي يقوم على جواز أو وجوب ذلك بشرط عقد النية - افتراضا - على النيابة عن امام الأصل المنصوب من قبل الله تعالى وهو (الإمام المهدي الغائب ) ، وان الفقهاء الذين أجازوا تقريبا إقامة الحدود لمن يأمره السلطان الظالم بذلك ، لم يفعلوا ذلك بصورة أولية ، أي انهم لم يجيزوا إقامة الدولة في عصر الغيبة وقالوا بسقوط الحدود في هذا العصر ، حسب نظرية :(التقية والانتظار) التي كانوا يلتزمون بها بقوة ، ولكنهم عادوا فجوزوا إقامة الحدود تحت سلطة الظالمين لو أمروا بها .
وقد حدث بعض التطور في هذه النظرية الاستثنائية
في منتصف القرن السابع على يدي المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676) الذي تحدث في :(شرائع الإسلام) و (المختصر النافع) عن جواز إقامة الفقهاء العارفين للحدود في حال غيبة الإمام ، والحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت ، ووجوب مساعدتهم من قبل الناس على ذلك ، حيث طرح المحقق الحلي فكرة استقلال الفقيه بإقامة الحدود في عصر الغيبة ، من دون إشارة إلى تكليف الظالم له بذلك ، ولكن المحقق لم يتبنَ هذا الرأي بقوة ، وعبر عنه في كلا الكتابين ب :· قيل . 11(1/6)
وقد تردد العلامة الحلي الحسن بن المطهر ( -762) في :(تذكرة الفقهاء) في موضوع جواز قيام الفقهاء بإقامة الحدود في عصر الغيبة ، وذكر وجود رواية تجيز لمن استخلفه ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود بشرط ان يعتقد انه يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ، كما ذكر منع ابن إدريس من ذلك ، ثم مال إلى الجواز اضطرارا في حال التقية وخوف الفقيه على نفسه من ترك إقامتها ، ما لم يبلغ قتل النفوس ، فان بلغ الحال ذلك لم يجز للفقيه إقامة الحدود ولا تقية فيها على حال . 12
وتحدث أيضا في :(تذكرة الفقهاء) عن عدم جواز إقامة الحدود لغير الإمام أو لمن نصبه لإقامتها ، ثم ذكر الترخيص بإقامتها في حالة الغيبة على الزوجة والأولاد والمماليك ، وتساءل عن جواز قيام الفقهاء بإقامة الحدود في عصر الغيبة ، وقوى الرأي القائل بالجواز ، و أوجب على الناس مساعدتهم على ذلك . 13
وكان العلامة الحلي في رأيه هذا اكثر تطورا من المحقق حيث طرح الموضوع في إطار استقلال الفقهاء تبعا للمحقق ، ولكنه قوى جانب الجواز ولم يعبر عنه ب : · قيل ، ولكنه أيضا كالمحقق لم يتحدث عن موضوع ( افتراض النيابة الحقيقية ) هنا في هذا الموضوع .
وقد خطى جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري ( - 826) خطوة أخرى إلى الإمام عندما قال في :(التنقيح الرابع):· لا بد من إقامة الحدود مطلقا وعلل ذلك بالروايات العامة التي تقول (ان العلماء ورثة الأنبياء) وبالنظر إلى السبب الذي لا يفرق بين تطبيق الحدود في حضور الإمام أو غيبته ، وبقيام المقتضي لذلك في الصورتين ، وان الحكمة من الحدود عائدة إلى المستحق وليس إلى المقيم . 14(1/7)
لقد كان السيوري يشعر بإمكانية إقامة الحدود في عصره ، وبعدم ضرورة استئذان الإمام المعصوم الغائب ، لأن هذا كان أمرا مستحيلا.. كما كان يشعر بتناقض نظرية (الانتظار) مع العقل والشرع ، ولذلك ألقى بحبال المتكلمين جانبا وتحرر من نظرياتهم الفلسفية المخدرة والمثبطة والسلبية.
وقد أجاز الشهيد الأول ( - 786) في :(الدروس الشرعية) ل : · نائب الإمام العام في حال الغيبة ان يقيم الحدود والتعزيرات مع المكنة ، وأوجب على العامي تقويته ومنع المتغلب عليه مع الإمكان . ولم يجز ابتداء التولي للقضاء من قبل الجائر ، إلا مع الإكراه ، أو التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحدث بشكل ضعيف عن ضرورة اعتقاد النيابة عن الإمام المهدي في حالة الإجبار من قبل الجائر . 15
وقد منع المحقق الكركي ( - 940) في :( جامع المقاصد) جواز إقامة الحد على الولد والزوجة إلا مع الأهلية . وجزم بأن للفقهاء في حال الغيبة إقامة الحدود . 16
ورفض الشهيد الثاني ( - 911 - 966) في :( مسالك الافهام في شرح شرائع الإسلام) جواز تولي غير الفقيه الشرعي لإقامة الحدود من قبل الجائر إلا تقية مع الإجبار ، ونفى إمكانية تحقق قصد النيابة عن الإمام (ع) مع عدم اتصاف النائب بصفات الفتوى ، وقال:· ان القصد غير مؤثر في التجويز وقوى - بشكل مستقل - قيام الفقهاء العارفين بتنفيذ الحدود ، بالرغم من وجود ضعف في طريق الرواية المروية عن الصادق حول الموضوع ، وذلك لوجود المصلحة الكلية في إقامة الحدود واللطف في ترك المحارم وحسم انتشار المفاسد . 17
كما أجاز الشهيد الثاني في :(اللمعة الدمشقية) قيام الفقهاء حال الغيبة بإقامة الحدود مع الأمن من الضرر ، وكذا الحكم بين الناس . 18
وقال المقدس الاردبيلي ( - 993) في :( مجمع الفائدة والبرهان): · لا ينبغي التردد في جواز قيام المتولي من قبل الجائر بتنفيذ الحدود ، معتقدا نيابة الإمام .. إذا كان مجتهدا . 19(1/8)
وتردد الملا محمد باقر السبزواري ( 1018 - 1090) في :( كفاية الأحكام) في جواز قيام فقهاء الشيعة بإقامة الحدود في حال الغيبة ، وقال:· ان الأكثر على ان للمولى ان يقيم الحد على عبده في زمان الغيبة ، وربما يلوح من كلام بعضهم اشتراط الفقاهة ، ومقتضى الإطلاق جواز الإقامة للفاسق . 20
وقوى الشيخ بهاء الدين العاملي ( 953 - 1031) في :( جوامع عباسي) استطاعة المجتهد حال الغيبة من إقامة الحدود بشرط ان لا تؤدي إلى القتل والجرح . 21
وارجع الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( - 1227) في كتابه :( كشف الغطاء) أمر الحدود والتعزيرات إلى الإمام أو نائبه الخاص أو العام فأجاز للمجتهد في زمان الغيبة إقامتها ، واوجب على جميع المكلفين تقويته ومساعدته ومنع المتغلب عليه مع الإمكان... وأجاز إقامة التعزير لكل أحد إذا توقف عليه الأمر بالمعروف من الواجب والنهي عن المنكر . وخصص إقامة الحد بالمجتهد . وفرض على المجتهد المنصوب من السلطان عند إقامة الحدود نية :· ان ذلك عن نيابة الإمام دون الحاكم . 22
وأكد الشيخ محمد حسن النجفي ( - 1266) في :(جواهر الكلام) جواز قيام الفقهاء العارفين بإقامة الحدود في حال غيبة الإمام (ع) والحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت ، وأوجب على الناس مساعدتهم على ذلك ، وقال : · ان هذا الرأي هو المشهور ، ولا خلاف فيه إلا ما يحكى عن ظاهر كلام بعض العلماء كابن زهرة وابن إدريس واستغرب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف (صاحب الشرائع) وبعض كتب الفاضل ... ومن وسوسة بعض الناس في ذلك . واستند النجفي على بعض الأحاديث التي تجعل الفقيه حاكما على الشيعة ، والتي يظهر منها إرادة نظم زمان الغيبة للشيعة في كثير من الأمور الراجعة إليهم (ع) وتفويضهم العلماء في ذلك. 23(1/9)
ولعل آراء العلماء هذه في باب الحدود كانت متميزة بين مختلف آرائهم حول الأبواب الأخرى التي كانوا يلتزمون فيها بنظرية :(التقية والانتظار) وهي من المواضيع الأولى التي خرجوا عبرها من كهف الغيبة ، وكانت وسيلة كبرى ساعدتهم على الخروج من سائر المرافق الأخرى ، وكانت · فرضية النيابة الحقيقية التي اقترح بعض العلماء افتراضها عند إجبار الحاكم الظالم للفقيه أو لغيره على إقامة الحدود ، قاعدة أساسية لتطوير نظرية (النيابة العامة) و (ولاية الفقيه) فيما بعد ، وذلك بالرغم من انها أيضا لم تسلم من محاولات بعض العلماء الذين أرادوا تعطيل هذا الباب في أوقات متأخرة ، وقد استعرضنا آراءهم في مبحث الحدود من الفصل السابق.(1/10)
المبحث الثالث :
الموقف الإيجابي من قانون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا كانت نظرية :(التقية والانتظار) تحرم الثورة والدولة في عصر الغيبة ، وتحدد - تبعا لذلك - قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمراتب الدنيا القلبية والإعلامية ، وترفض استخدام القوة المؤدية إلى الجرح أو القتل في غياب دولة (الإمام المهدي) الشرعية الوحيدة الممكنة .. فان الالتزام بهذه النظرية في عصر الغيبة ولمدة طويلة كان يبدو صعبا جدا ، ومن هنا فقد تخلى الشيعة عمليا وتدريجيا عن نظرية :(التقية والانتظار( واخذوا يبنون دولهم المستقلة هنا وهناك . وكان لا بد ان يطور الفقهاء قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويخففوا من الشروط التعجيزية التي تحول دون تنفيذه . وربما كان أول من حاول الخروج من كهف الغيبة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو السيد المرتضى الذي نقل عنه الطوسي في :(الاقتصاد) قوله بجواز ممارسة القتل والجرح في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عصر الغيبة بلا حاجة إلى استئذان الإمام .
وقد تبعه بعد ذلك حمزة بن عبد العزيز الديلمي (سلار) في :(المراسم) حيث أشار إلى تفويض الأئمة إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بما فيها القتل والجرح ، وأمرهم لعامة الشيعة بمعونة الفقهاء . 1
ومع انه لم يذكر أين فوض الأئمة ذلك إلى الفقهاء؟ ومتى أمروا الشيعة بمعاونتهم ؟ وفي أي مجال؟ .. إلا ان حديثه هذا يعتبر محاولة أولى لتفعيل الجوانب الحيوية المعطلة من قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوى محمد بن إدريس في :(السرائر) رأي السيد المرتضى ، وأفتى بجواز القتل والجرح في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من دون الحاجة إلى إذن الإمام . 2(1/1)
ومن الجدير بالذكر ان السيد المرتضى وابن إدريس لم يكونا يؤمنان بشرعية إقامة الدولة في عصر الغيبة ، ولكنهما - ومن قال قولهما - حاولا إسقاط شرط إذن الإمام في ممارسة القتل والجرح في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما من أعمال الدولة عادة ، أو من أعمال الثورات التي تغير الأنظمة وتأتي بدول جديدة .
ومع ان علماء مدرسة الحلة لم يكونوا يفكرون بالثورة المسلحة لإقامة نظام إسلامي ، لأنهم كانوا يعتقدون ان ذلك من مهام الإمام المهدي الغائب (محمد بن الحسن العسكري) ولكنهم ارتأوا المحافظة على الميزان الاجتماعي الإسلامي ، ونظروا إلى قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالته الفردية - لا السياسية - نظرة جديدة ، وتناولوه بصورة حيوية . ابتدأ المحقق الحلي الاقتراب من القانون ، وتدرج من الموقف السلبي القاطع الذي اتخذه في (المختصر النافع) (3) حيث رفض السماح باستخدام العنف المتضمن للجرح والقتل إلا بإذن الإمام أو من نصبه الإمام ، إلى التردد الإيجابي في (شرائع الإسلام) حيث قال:· ولو افتقر إلى الجراح أو القتل ، هل يجب؟ قيل:نعم ، وقيل:لا ، إلا بإذن الإمام ، وهو الأظهر ومع انه استظهر اشتراط إذن الإمام ، إلا ان الأجيال التالية من مدرسة الحلة تقدمت خطوات أخرى إلى الإمام ، وانطلق العلامة الحلي ويحيى بن سعيد من تردد المحقق ليختارا الجواز ، والتحرر من شرط إذن الإمام المستحيل في ظل (الغيبة ) .. فاختار يحيى بن سعيد في )الجامع للشرائع ) عدم الحاجة إلى الإذن واعتبر ذلك اصح القولين .(4 ) 4 (الجامع للشرائع ص 243) وقال العلامة في (تحرير الأحكام ) :· ولو لم ينزجر وافتقر إلى اليد وشبهه جاز ، ولو افتقر إلى الجراح . وهو الأقوى عندي . 5(1/2)
ورغم تراجع الشهيد الأول في :(الدروس) واستقراب تفويض الأمر إلى الإمام ، وتردد المحقق الكركي في :(جامع المقاصد) خشية من فوران الفتنة واشتراطه إذن الإمام ، وتردد الشهيد الثاني في (مسالك الافهام ) وربطه للجواز بتسويغ إقامة الحدود للفقيه الجامع لشرائط الفتوى حال الغيبة ، إلا ان المقدس الاردبيلي قوى في : (مجمع الفائدة والبرهان) الرأي القائل بعدم اشتراط الإذن من الإمام ، واستدل على ذلك بلزوم كثرة الفساد في زمان الغيبة عند تجميد العمل به ، لا من الجرح والقتل . 6
وكان رأي المقدس الاردبيلي هذا خطوة متقدمة جدا على طريق الخروج من كهف الغيبة ، حيث لم يشترط إذن الإمام ولا الفقيه في ممارسة القتل والجرح من اجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وان كان لم يصل به القول إلى حد الإقرار بشرعية الدولة في عصر الغيبة .
ولم يبين السيد محمد باقر بن محمد مؤمن السبزواري ( - 1090) رأيه بصراحة في :(كفاية الأحكام) إلا انه تمسك بأصل الجواز والقواعد التي تذم تعطيل الحدود ، والسعي في ان لا يعصى الله في الأرض ، والروايات التي تدعو إلى إنكار المنكر بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلي . 7
وقد أوكل الشيخ محمد حسن الفيض الكاشاني في :(مفاتيح الشريعة) البت في هذه المسألة إلى الفقيه الجامع للشرائط لأنه أدرى بما يقتضيه الحال . 8
ومع تبلور نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي ) أو (ولاية الفقيه) فقد قوي القول بجواز القتل والجرح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بإذن الفقيه الولي أو · نائب الإمام .(1/3)
هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اما في الجهاد الابتدائي ، فانه بالرغم من تحرر الفقهاء الشيعة الامامية من نظرية :(التقية والانتظار) خلال القرون الأخيرة وفي كثير من المجالات ، فان الموقف العام ظل سلبيا ولم يحدث تطور يذكر إلا في السنوات الأخيرة . ولم أجد من يتحدث عن جواز الجهاد في عصر الغيبة سوى السيد محمد الحسيني الشيرازي الذي يقول بنظرية (ولاية الفقيه) وذلك في كتاب (الفقه / الجهاد) حيث يقول :· الظاهر ان الجهاد في حال الغيبة جائز مع الفقيه الجامع للشرائط ، وذلك لاطلاقات أدلة الجهاد ، ولا مانع ولا مخصص لها ، وذهب إلى ذلك بعض الفقهاء خلافا لما يحكى عن المشهور من عدم الجواز في حال الغيبة بالنسبة إلى الجهاد الابتدائي لا الدفاعي فان جوازه موضع وفاق . 9
ويرد الشيرازي الروايات التي يعتمد عليها الفقهاء القائلون بحرمة الجهاد في عصر الغيبة ، فيتهمها بالضعف في السند والدلالة . 10
كما لاحظت ان الإمام الخميني يتوقف في (كتاب البيع) ليتأمل القول بالإطلاق في منع الجهاد في عصر الغيبة . 11(1/4)
الفقيه يتولى إخراج الزكاة
رأينا في الفصل الماضي في مبحث الزكاة : ان أصحاب نظرية :(التقية والانتظار) قد اسقطوا الحصص المتعلقة بالدولة من الزكاة كحصص العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله ، وذلك لتحريمهم إقامة الدولة في عصر (الغيبة) وانهم لم يسقطوا وجوب دفع الزكاة كلها ، وإنما قالوا بضرورة صرف الزكاة في المصارف الباقية كالفقراء والمساكين وابن السبيل وما شابه . وقد سجل علماء الشيعة الامامية الأوائل أقوالا إيجابية نسبيا في هذا الموضوع ، لأنهم لم يكونوا يعتبرون الزكاة أموالا خاصة للإمام ، وبالرغم من وجود أزمة الدولة في عصر الغيبة ، إلا انهم وجدوا حلا مبكرا لها ، وذلك بإعطائها إلى الفقيه ، ليس باعتباره نائبا عن (الإمام المهدي ) ، حيث لم تكن نظرية (النيابة ) قد تبلورت بعد ، وإنما باعتباره اعرف بموارد توزيعها .
وقد كان موضوع المتولي لإخراج الزكاة في عصر الغيبة ، إحدى النوافذ التي عبر من خلالها الفقهاء من نظرية (التقية والانتظار) إلى نظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) .
وقد بكر الشيخ المفيد باقتراح دفع الزكاة إلى الفقهاء المأمونين من الشيعة في عصر الغيبة ، وقال في :(المقنعة) باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام :· إذا عدم (السفراء ) بين (الإمام) وبين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته ، لأن الفقيه اعرف بموضعها ممن لا فقه له في ديانته . 1
وقد استند المفيد في فتواه هذه على معرفة الفقيه بمواضع الزكاة ، ولم يشر إلى وجود رواية خاصة في الموضوع ، ولكن السيد المرتضى أشار إلى وجود هكذا رواية ، فقال في :(جمل العلم والعمل) باب كيفية إخراج الزكاة :· ان تعذر ذلك (إيصالها إلى الإمام أو إلى خلفائه) فقد روي إخراجها إلى الفقهاء المأمونين يضعونها في مواضعها . 2(1/1)
إلا ان المرتضى لم يذكر الرواية ، ولا الراوي ولا المصدر الذي استند إليه ، ولذلك عبر عنه بصيغة المجهول ، ولذلك لم يلتزم بوجوب تسليم الزكاة إلى الفقهاء ، وأجاز إخراج المالك لها وتوزيعها . 3
ومن هنا فلم يقل الطوسي بوجوب إخراج الزكاة إلى الفقيه كما قال المفيد ، وإنما اكتفى في :(المبسوط) بتفضيل دفعها إلى العلماء ليتولوا تفريقها لأنهم اعرف بمواضعها ، وقال باستحباب حمل الفطرة إلى الإمام ، أو إلى العلماء ليضعها حيث يراه . 4
وبالرغم من تبني أبى الصلاح الحلبي في :(الكافي في الفقه) لنظرية :(النيابة العامة) في مجال الحدود ، إلا انه لم يتحدث عن تلك النظرية في مجال الزكاة ، ولم يشر إلى وجوب دفع الزكاة إلى الفقيه أو استحبابه أو لزومه ، كما لم يشر إلى فلسفة الحكم من كون الفقيه اعرف بمواضع صرف الزكاة أو وجود رواية في الموضوع ، وإنما اكتفى بالقول بدفع الزكاة إلى الفقيه في حالة تعذر إيصالها إلى الإمام في عصر الغيبة ، مع إجازته للمالك بتوزيعها بنفسه . 5
اما القاضي ابن براج فكان اشد في :(المهذب) حيث أوجب حمل الزكاة إلى فقهاء الشيعة في عصر غيبة الإمام (ع) وبرر ذلك بأنهم اعرف بمواضعها . 6
وبالرغم من قول المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن في :(شرائع الإسلام) بنظرية (النيابة العامة) في باب الخمس ، إلا انه أوصى بدفع الزكاة إلى الفقيه المأمون من الامامية إذا لم يكن الإمام (ع) موجودا ، ولم يشر إلى موضوع (النيابة العامة) وإنما اكتفى بالقول:· فانه ابصر بمواضعها . 7
وقد فعل نفس الشيء في :(المختصر النافع) حيث أشار إلى دفع الزكاة إلى الفقيه المأمون مع فقد الإمام (ع) من دون الإشارة إلى نظرية (النيابة العامة) .(1/2)
وكان العلامة الحلي أول من طرح نظرية (النيابة العامة) في مجال الزكاة ، وقال في :(نهاية الأحكام ) :· لو تعذر الإمام فالأولى صرفها إلى الفقيه المأمون ، وكذا حال الغيبة ، لأنه اعرف بمواقعها ، ولأنه نائب الإمام عليه السلام ، فكان له ولاية ما يتولاه . 8
ولكنه لم يوجب الصرف إلى الفقيه ، وإنما عبر عنه بالأولوية ، ولم يقدم أدلة خاصة حول نيابة الفقيه وحقه في استلام الزكاة ، ولم يشر إلى وجود رواية في الموضوع كما أشار السيد المرتضى إلى ذلك .
ومع ان المحقق الكركي كان يؤمن بنظرية (النيابة العامة) التي منح على ضوئها الشرعية للسلطان الصفوي (طهماسب بن اسماعيل) إلا انه لم يوجب حمل الزكاة إلى الفقيه أو السلطان الشيعي ، وقال في :(جامع المقاصد) باستحباب دفع الزكاة إلى الفقيه المأمون حال غيبة الإمام ، ولم يتحدث حتى عن الاستحباب في زكاة الفطرة ، بل اكتفى باقتراح الدفع إلى الفقيه مع الغيبة ، وذلك دون ان يشير إلى نظرية (النيابة العامة) . 9
وقد استغرب الشهيد الثاني في :(مسالك الافهام في شرح شرائع الإسلام) من قول المحقق الحلي بأولوية دفع الزكاة إلى الإمام ، وذكر ان المشهور هو الاستحباب ، كما ذكر قول جماعة من العلماء بالوجوب ، وقال:· ان القائل بوجوب دفعها للإمام ابتداء أوجب دفعها مع غيبته إلى الفقيه المأمون . 10
وربما كان القول بالاستحباب مبني على ضعف المبرر ، وهو (اعلمية الفقيه) بمواضع صرف الزكاة ، وعدم تشكيل ذلك مبررا كافيا للقول بالوجوب ، إضافة إلى عدم ثبوت نظرية :(النيابة العامة) . ولذلك لم يجد كثير من العلماء ربطا كافيا بين وجوب الدفع إلى الإمام (ع) وبين وجوب الدفع إلى الفقيه ، وقالوا بالاستحباب ، وكان من هؤلاء المقدس الاردبيلي الذي قال في :(مجمع الفائدة والبرهان) باستحباب دفع الزكاة إلى الفقيه حال الغيبة ، بالرغم من الاستدلال على ذلك بدليلي :(الاعلمية بمواقع الصرف) و ( خلافة الفقيه للإمام) . 11(1/3)
وأشار إلى القول بالوجوب بعد تبني القول بالاستحباب في :(ذخيرة المعاد). 12
وقد سجل المقدس الاردبيلي ولأول مرة في تاريخ الفقهاء الامامية في عصر الغيبة ملاحظات على سقوط سهم (المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها وفي سبيل الله ) ورفض القبول بالإطلاق ، فدعى إلى التأمل ، وقال بإمكانية الحاجة إلى كل ذلك بإذن الحاكم في عصر الغيبة . 13
ويبدو ان المقصود من (الحاكم) في نظر الاردبيلي هو :(الفقيه العادل) الذي عبر عنه ب :( خليفة الإمام ) . 14
وبالرغم من عدم إشارة محمد باقر السبزواري في(كفاية الأحكام) : إلى دليلي:(الاعلمية ) و (النيابة العامة) إلا انه مال إلى القول بوجوب تسليم الزكاة إلى الفقيه في حال الغيبة احتياطا ، وأشار إلى القول بالوجوب بعد تبني القول بالاستحباب في :(ذخيرة المعاد) . 15
وتمسك الفيض الكاشاني في :(مفاتيح الشريعة) بحجة اعلمية الفقهاء بمواقع الزكاة ، فاقترح دفعها إليهم في عصر الغيبة ، مع تجويزه بتفريق المالك لها بنفسه . 16
ومع تأكيد الشيخ جعفر كاشف الغطاء لموضوع (النيابة العامة) في :(كشف الغطاء) إلا انه أفتى بالاستحباب ، وصرح بضعف القول بالوجوب. 17
وتردد الشيخ محمد حسن النجفي في :(جواهر الكلام) بين الاستحباب على أساس :(اعلميته بمواقع الصرف) أو الوجوب على أساس :(نيابته عن الإمام) . 18
ومع استبعاده لإمكانية إقامة الدولة في عصر الغيبة انطلاقا بأيمانه بنظرية :(الخوف والتقية والانتظار) إلى ظهور المهدي ، وارتباط الأسهم الثلاثة بوجود الإمام ، فانه قال بإمكانية قيام الفقهاء بجبايتها بناء على عموم نيابته عن الإمام المهدي ، ووجوب إجابته لذلك · لأنه نائب للإمام كالساعي ، بل أقوى منه لنيابته عنه في جميع ما كان للإمام ، والساعي إنما هو وكيل للإمام في عمل مخصوص كما يقول الشهيد الأول في اللمعة الدمشقية . 19(1/4)
وقد رد (صاحب الجواهر) على الاصفهاني (الشارح للمعة الدمشقية) في تفريقه بين الساعي المعين من قبل الإمام الذي لا يجوز رده وبين الفقيه الذي لم يعلم أمر من الأئمة (ع) بإطاعته في كل شيء ، فقال:· ان إطلاق أدلة حكومة الفقيه ، خصوصا رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (ع) يصيّره من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم ، نعم من المعلوم اختصاصه في كل ماله في الشرع مدخلية حكما أو موضوعا ، ودعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية توليته كثيرا من الأمور التي لا ترجع إلى الأحكام كحفظه لمال الأطفال والمجانين والغائبين ، ويمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء ، فانهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه المؤيد بمسيس الحاجة إلى ذلك اشد من مسيسها في الأحكام الشرعية . 20
وهكذا كان القول بنظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي ) نافذة إيجابية نسبيا أدت إلى القول بتولي الفقيه إخراج الزكاة وتوزيعها على المستحقين ، ولكنه لم يتخذ صفة الوجوب والإلزام إلا عند نادر من الفقهاء ، ومع ذلك فان القول بأعلمية الفقيه بمواضع صرف الزكاة أو نيابته عن الإمام شكل خطوة نحو الإمام على طريق إقامة الدولة في عصر الغيبة والخروج من نظرية :(التقية والانتظار).(1/5)
تطور حكم الخمس
من الإباحة ..إلى الوجوب
لقد كانت نظرية :(التقية والانتظار) تقول: · ان الخمس من حق الإمام المعصوم ، وانه في عصر غيبة الإمام المهدي مباح للشيعة . وقد تم الانسحاب من هذه النظرية في هذا المجال في وقت مبكر ، ولكن خطوة .. خطوة ..
وكانت الخطوة الأولى هي القول بوجوب الخمس في عصر الغيبة ، مع القول بدفنه أو الاحتفاظ به حتى ظهور المهدي ، أو الايصاء به بعد الموت من واحد إلى واحد حتى يوم الظهور .
وكانت الخطوة الثانية هي القول بتسليم الخمس إلى الفقهاء للاحتفاظ به حتى ظهور الإمام المهدي .
وكان القاضي ابن براج أول من أشار إلى ضرورة إيداع سهم الإمام عند من يوثق بدينه وأمانته من فقهاء المذهب ، وايصائه بدفع ذلك إلى الإمام (ع) ان أدرك ظهوره ، وان لم يدرك ظهوره وصى إلى غيره بذلك. 1
وكان العلماء السابقون يوصون بإيداعه عند أمين ، ولكنه أضاف :(من فقهاء المذهب) دون ان يشير إلى مستنده في ذلك ، وقد جاء العلماء المتأخرون عنه فطوروا هذه المسألة شيئا فشيئا ..
وربما كان أول من مال إلى جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى (الفقهاء) لكي يقسموه ، هو ابن حمزة في :(الوسيلة إلى نيل الفضيلة) واعتبر ذلك افضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه ، خاصة إذا لم يكن يحسن القسمة . 2
وقد أوجب الشيخ علاء الدين أبو الحسن الحلبي في :(إشارة السبق) الخمس في المستخرج بالغوص ، وقسمته على ستة اسهم هي سهم الله وسهم رسوله وسهم ذوي القربى ، وقال :· انه لا يستحقها بعد الرسول سوى الإمام القائم مقامه ، وثلاثة ليتامى آل محمد ومساكينهم وابناء سبيلهم ، ولكنه لم يوضح كيفية التصرف في الخمس في عصر غيبة الإمام . 3(1/1)
وقد استعرض المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676) في :(شرائع الإسلام) مختلف الأقوال حول الخمس في عصر الغيبة ، ما بين الإباحة والحفظ والدفن والوجوب ، وعبّر ب :· قيل عن صرف حصة الإمام إلى الأصناف الموجودين ، وقال : انه الاشبه . 4
وهكذا اختار في :(المختصر النافع ) جواز دفع سهم الإمام إلى من يعجز حاصلهم من الخمس ، ولكن بقول ضعيف. 5
وليس من الواضح لدي : أي الرأيين اقدم ؟ وأيهما المتأخر ؟ ولكن يمكن ملاحظة غياب نظرية (النيابة ) في هذا الموضوع من (المختصر النافع) وعدم وضوحها بصورة كاملة وعامة في بقية المسائل عند المحقق الحلي .
وقد جاء العلامة الحلي بعد ذلك وكرر نفس عبارة المحقق الحلي ، فقال في :(تحرير الأحكام) بوجوب الخمس ووجوب صرفه في الأصناف في عصر الغيبة. 6
ولم يترسخ هذا القول بقوة في أوساط فقهاء الشيعة ، وقد جاء عالم كبير هو الشهيد الأول ، بعد ذلك بحوالي قرن ، وتردد فيه فقال بالتخيير بين القولين ، القديم: الدفن والايصاء ، والجديد: الصرف ، واستقرب في :(الدروس الشرعية) صرف نصيبي الأصناف عليهم ، والتخيير في نصيب الإمام بين الدفن والايصاء ، وصلة الأصناف مع الأعوام بإذن نائب الغيبة ، وهو الفقيه العدل الامامي الجامع لصفات الفتوى . 7
ولم يحكم بالوجوب ، بل حكم بالتخيير ، مع تقديم حكم الدفن والايصاء ، وقد أكد قوله هذا في :(البيان) فأجاز صرف العلماء لسهم الإمام . 8
وقد رفع الشهيد الأول هنا في :(البيان) صفة الحرمة من التصرف بالخمس للعلماء ، فقط ، مع ميله إلى حفظ نصيب الإمام المهدي إلى حين ظهوره بالوصية أو الدفن .
وبالرغم من قيام الدولة الجلائرية الشيعية في خراسان أيام الشهيد الأول ، واستعانتها به وطلبها منه المجيء إليها لتولي الجوانب الشرعية والتشريعية ، فانه لم يطور هذه المسألة بما يخدم إدارة الدولة الشيعية التي تحتاج إلى المال لصرفه على المحتاجين والفقراء.(1/2)
وكذلك فعل المحقق الكركي الذي استقدمته الدولة الصفوية التي قامت في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري ، وظل على الرأي القديم الذي يقول بالتخيير بين صرف سهم الإمام المهدي أو حفظه إلى حين ظهوره ، وقد استعرضنا رأيه في الفصل السابق .
وتردد محمد باقر السبزواري في :(كفاية الأحكام) بين وجوب حفظ ما يخص الإمام إلى ظهوره ، وبين قيام الفقيه الامامي العادل بصرفه. ومع ميله الشديد إلى القول بالإباحة مطلقا في زمان الغيبة بناء على الأخبار ، فانه مال احتياطا إلى القول بصرف الجميع في الأصناف الموجودين بتولية الفقيه العدل الجامع لشرائط الإفتاء. 9
وكذلك اختار محمد حسن الفيض الكاشاني في :(مفاتيح الشريعة) القول بالإباحة وسقوط سهم الإمام (ع) ووجوب صرف حصص الباقين إلى أهلها لعدم مانع منه ، واستحسن من باب الاحتياط صرف الكل إليهم . 10
وأوصى الشيخ بهاء الدين العاملي في :(جوامع عباسي) بتوزيع صاحب المال نصف الخمس على الأصناف الثلاثة المستحقة ، وإعطاء النصف الآخر وهو حصة صاحب الزمان للمجتهد لكي يوزعه على تلك الجماعة. 11
وكرر الشيخ جعفر كاشف الغطاء في :(كشف الغطاء) نفس الحكم تقريبا ، مع إجازة تولي عدول المؤمنين لأمر الخمس إذا تعذر الوصول إلى المجتهد . 12
واوجب الشيخ محمد حسن النجفي في :(جواهر الكلام) صرف حصة الإمام (ع) من الخمس في زمان الغيبة ، في الأصناف الموجودين . 13
وارجع السيد كاظم اليزدي في :(العروة الوثقى) أمر النصف من الخمس الذي للإمام (عليه السلام) في زمان الغيبة إلى نائبه ، وهو المجتهد الجامع للشرائط ، واوجب الإيصال إليه أو الدفع إلى المستحقين بإذنه . 14(1/3)
واستشكل السيد محسن الحكيم في :(مستمسك العروة الوثقى / كتاب الخمس ) في البداية ، في التصرف في سهم الإمام (ع) زمان الغيبة ، ثم استثنى بعد ذلك ما إذا أحرز رضاه (ع) بصرفه في بعض الجهات التي يعلم رضاه بصرفه في إقامة دعائم الدين ورفع اعلامه وترويج الشرع الأقدس ومؤنة طلبة العلم وغير ذلك من الواجبات الدينية ... واحتاط بنية التصدق عنه (ع) ولم يشترط الحكيم عند إحراز رضا الإمام مراجعة الحاكم الشرعي . 15
وقد قام الشيخ حسن الفريد ( 1319 - 1417) في :( رسالة في الخمس) بثورة في مسألة الخمس عندما نفى حق الإمام المهدي في الخمس في عصر الغيبة ، فقال:· ان مقتضى القاعدة سقوط النصف الذي هو للإمام (ع) إذ لا ريب انه إنما استحق ذلك بحق الرئاسة والإمامة ، ولذا ينتقل هذا الحق بموته إلى الإمام الذي يقوم بعده بالإمامة لا إلى ورثته ، فإذا غاب عن الناس ولم يقم بالإمامة انتفت رئاسته خارجا ، وينتفي حقه بانتفاء موضوعه وقال :· انه إذا غاب عن شيعته واعتزل عن أمر الإمامة والزعامة التي تحتاج إلى مؤنة وسيعة قد جعل النصف من الخمس معونة لتلك المؤنة الوسيعة ، فهل يسقط حقه من الخمس لغيبته واعتزاله عن الزعامة؟ .. أو يكون حقه محفوظا كما كان؟ .. وعلى هذا فما ذا يجب ان يصنع به ؟ .(1/4)
وقال ناقدا ومتأسفا :· اختلف الأصحاب فيما يجب أو يجوز ان يصنع بسهم الإمام في عصر الغيبة على أقوال ، ليتهم لم يقولوا ببعضها ولم ينحطوا بذلك عن شامخ مقامهم ، وليت المتأخرين لم ينقلوا هذه الأقوال في مؤلفاتهم ، ولعمري اني اجل فقه الشيعة عن نقل مثل القول بالدفن والوصية فيه . وحاول بعد استعراض مختلف الآراء وتفنيدها الالتفاف على حكم سقوط الخمس في عصر الغيبة ، بالقول:· ما دام أحد الأصناف المذكورة في الآية الكريمة موجودا لا يسقط شيء من الخمس ، بل يصرف كله على هذا الصنف الموجود ، ولما كان أحد المصارف هو الله عز وجل فما دام كونه حيا وهو حي لا يموت لا يسقط من الخمس شيء كما لا يخفى .
وقال: · لا إشكال في وجوب إيصال نصف الخمس الذي للإمام (ع) إليه أو إلى وكيله في زمان الحضور ... وبعد غيبته ان قلنا ب : ( ولاية الفقيه) على الإطلاق ونيابته العامة عن الإمام ، كان للفقيه الولاية على ذلك ، وان لم نقل بولايته إلا في باب القضاء والإفتاء فلا بد ان يقوم به واحد من باب الحسبة لأنه من الأمور الحسبية التي لا محيص عن وقوعه في الخارج ، ولم يعين للقيام به في غيبة الإمام شخص أو صنف خاص ، وليس من الوظائف التي يقوم بها آحاد الناس ، بل من الأمور التي لا بد ان يقوم بها الحاكم .. فان .. الفقيه الجامع للشرائط هو الذي ينبغي ان يقوم به وانه القدر المتيقن ممن يصح منه القيام به وتوزيع الخمس على أهله ، فلا بد ان يقوم به الفقيه .. من باب الحسبة ، وان شئت قلت : ان للفقيه الولاية على صرف الخمس على أهله ، ولكن ولايته على ذلك لم تستفد من الكتاب والسنة بل من دليل الحسبة والضرورة .. يعني : ان الضرورة الدينية هي التي كشفت كشفا قطعيا عن ولايته على ذلك .. ومما ذكرنا يمكن ان يستكشف : ان له ولاية التحليل إذا اقتضت الضرورة ذلك فيما لم يشمله أخبار التحليل . 16(1/5)
ومن الواضح ان الشيخ حسن الفريد يحاول ان يتخلص من نظرية (التقية والانتظار) ويملأ الفراغ القيادي ، ويعالج مسألة الإمامة ويبني مهماتها ومسئولياتها ، فيكاد يقول بضرورة إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة ، ولكن ليس بناء على نظرية :(النيابة العامة) التي لم تثبت لديه من الكتاب والسنة ، وإنما بناء على نظرية الحسبة المنسجمة مع العقل والقرآن الكريم .
وانتقد السيد محمود الهاشمي في :(كتاب الخمس) المنهج الذي سلكه الفقهاء في هذه المسألة (مسألة الخمس) وقال: انهم بعد ان افترضوا : ان هذا السهم حاله حال سائر الأموال الشخصية ، بحثوا في كيفية التصرف فيه على ضوء القواعد المقررة في الأموال الشخصية من حرمة التصرف فيها بلا إذن أصحابها ، فحكموا بوجوب حفظها لصاحبها من خلال دفنها حتى يأتي الإمام فيخرج كنوز الأرض كما في بعض الروايات ، أو الايصاء بها والتصدق بها عنه باعتبار الجهل وعدم إمكان تشخيص المالك خارجا ، أو صرفه في شأن من شؤون المالك الذي يحرز رضاه الشخصي بذلك وقبوله له ، الأمر الذي يجعل القضية ذوقية أو وجدانية حسب اختلاف أذواق الناس وسلائفهم .. وهذا كله لا أساس له بعد ان يتضح ان المال المذكور ليس حاله حال الأموال الشخصية المتعارفة ، بل هذا المال اما ان يكون ملكا لمنصب الإمامة والولاية الشرعية فيكون الولي الشرعي في كل زمان هو المتولي على صرفه قانونا وشرعا .. ومنه يعرف ان هذا المال بحسب الروح والمحتوى من معلوم المالك لا مجهوله . 17
ويلاحظ هنا ان السيد الهاشمي يحاول ان يخرج بخطوة جريئة مننظرية :(التقية والانتظار) ويحل لغز الخمس الخاص للإمام المعصوم في عصر الغيبة ، بالالتفاف على قضية الانتظار وتحويله إلى الولي أي الإمام الجديد في عصر الغيبة .(1/6)
وهكذا نرى محاولات الخروج من تلك النظرية في باب الخمس قد ابتدأت منذ قرون ، وانتقلت عبر التاريخ من القول بإباحة الخمس وتجميده ودفنه والوصية به وحفظه إلى ظهور المهدي وتسليمه له ، إلى القول بالوجوب ..
والى جانب هذا التطور في ذات الموضوع شاهدنا في الصفحات الماضية تطورا آخر شمل موضوع (المتولي للخمس ) فبعد قول المفيد والطوسي، في القرن الخامس : ان المتولي لقبض الخمس وتفريقه في عصر الغيبة ، ليس بظاهر ، لانعدام النص المعين ، قال القاضي ابن براج في أواسط القرن الخامس بضرورة إيداع الخمس أمانة عند الفقهاء لدفعه إلى الإمام المهدي عند ظهوره .
ثم جاء ابن حمزة في القرن السادس ففضل دفع الخمس إلى الفقيه ليتولى القسمة ، واوجب ذلك إذا لم يكن المالك يحسن القسمة .
ثم جاء المحقق الحلي في القرن السابع فأوجب تسليم حصة الإمام - وهي نصف الخمس - إلى · من له الحكم بحق النيابة لكي يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين .
وأشار الشهيد الأول ، في القرن الثامن ، إلى ضرورة استئذان · نائب الغيبة : الفقيه العدل الامامي الجامع لصفات الفتوى ان اختار المكلف توزيع نصيب الإمام على الأصناف .
وأوكل المحقق الكركي ، في القرن العاشر ، مهمة صرف حق الإمام إلى الحاكم (الشرعي) وكذلك أشار السيد محمد علي الطباطبائي إلى وجوب تولي المأذون له على سبيل العموم وهو الفقيه .
وأفتى محمد باقر السبزواري ، في القرن الحادي عشر ، بتولية الفقيه العدل في عملية صرف الخمس في الأصناف الموجودين احتياطا، وتحدث عن نيابة الفقيه عن الإمام المهدي .
وتطور الحكم في القرن الثالث عشر إلى درجة أقوى ، حيث أفتى الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) بقوة: بوجوب تولي الحاكم (أي الفقيه العادل) صرف سهم الإمام .(1/7)
وبالرغم من عدم إيمان السيد كاظم اليزدي بنظرية (ولاية الفقيه) في سائر أبواب الفقه ، إلا انه التزم بهذه النظرية في مجال الخمس وقال في مطلع القرن الرابع عشر الهجري : بضرورة إيصال سهم الإمام في زمان الغيبة إلى · نائبه وهو المجتهد الجامع للشرائط ، أو الدفع إلى المستحقين بإذنه .
وقد تراجع السيد محسن الحكيم في :(مستمسك العروة الوثقى) ولم يرَ حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي في صرف المالك حصة الإمام في جهة معينة إذا أحرز رضا الإمام (ع) ، إلا برأي ضعيف .
وقام الشيخ حسن الفريد بثورة في باب الخمس عندما سلب حق الخمس من الإمام المهدي لغيبته وعدم قيامه بمهام الإمامة ، وقال بضرورة قيام واحد من الناس باستلام الخمس وتوزيعه من باب الحسبة ، لأنه من الأمور الحسبية التي لا محيص عن وقوعه في الخارج ولم يعين للقيام به في غيبة الإمام شخص أو صنف خاص ، وقال أيضا: ان للفقيه الولاية على صرف الخمس على أهله ، ولكن ولايته على ذلك لم تستفد من الكتاب والسنة ، بل من دليل الحسبة والضرورة .
وقد تطور حكم المتولي للخمس في (عصر الغيبة) بعد القول بوجوبه ، في مرحلة أخيرة ، إلى القول بضرورة تسليم الخمس إلى الفقيه ، ليس باعتباره نائبا عن الإمام المهدي الغائب ، وإنما بصورة مستقلة ، وذلك باعتباره وليا وزعيما وحاكما وإماما ، وذلك كما قال الشيخ الفريد و السيد محمود الهاشمي الذي نفى ان يكون الخمس حقا شخصيا للإمام المهدي ، وأعطى حق التصرف به للولي الشرعي في كل زمان .
ومن الواضح ان كل تلك الأقوال تطورت مع تطور حكم الخمس نفسه من الإباحة إلى الوجوب ، ومع تطور نظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) وتخلي الشيعة عن نظرية :(التقية والانتظار للإمام المهدي الغائب ) .(1/8)
العودة إلى صلاة الجمعة
لقد استعرضنا في الفصل الماضي أقوال العلماء الذين التزموا بنظرية :(التقية والانتظار) في عصر الغيبة ، في موضوع صلاة الجمعة ، كالسيد المرتضى وسلار ومن تبعهم كابن إدريس والخط الطويل الذي لا يزال ممتدا ، والذي وقف منها موقفا سلبيا رافضا بسبب غياب الإمام أو نائبه الخاص . ونحاول في هذا الفصل استعراض آراء العلماء الذين قاوموا فكرة التحريم أو عدم إيجاب صلاة الجمعة ، وحاولوا التحرر من نظرية:(التقية والانتظار) والعودة إلى القرآن الكريم الذي يأمر بإقامتها بصورة مطلقة ولا يشترط لذلك أية شروط ، ولا يربطها بالإمام (المعصوم) الغائب .
وكان الحسن بن علي بن أبى عقيل العماني ، المعاصر للكليني ، يفتي في بداية القرن الرابع الهجري ، بوجوب صلاة الجمعة ، وقد قال في ( رسالة ) له : · إذا زالت الشمس صعد الإمام المنبر فإذا علا استقبل الناس بوجهه ، فإذا فرغ المؤذن من اذانه قام خطيبا للناس . ولم يشترط العماني غير تكامل العدد في صلاة الجمعة ، كما لم يذكر حضور الإمام العادل ولا المعصوم ولا نائبه .
وكان الشيعة يقيمون صلاة الجمعة حتى أواسط القرن الخامس الهجري ، وخاصة في مسجد براثا في بغداد ، ولكن التطرف في التنظير لنظرية:(التقية والانتظار) واشتراط حضور الإمام العادل أو اذنه ، وتفسير الإمام العادل بالإمام المعصوم الغائب (المهدي المنتظر) أدى إلى تجميد الشيعة لإقامة صلاة الجمعة في القرن الخامس والسادس ، وولادة الفتاوى التي تحرم إقامتها في (عصر الغيبة) وكان ابن إدريس الحلي اشد الفقهاء سلبية منها حيث أفتى بتحريمها وادعى إجماع الشيعة الامامية على ذلك .(1/1)
إلا ان هذه الدعوى لم تثبت ولم تستمر ، حيث قام العلماء بنقضها تدريجيا ، وكان المحقق الحلي أول من حاول الخروج من نظرية (التقية والانتظار) في باب صلاة الجمعة ، حيث قال في :(المختصر النافع): · إذا لم يكن الأمام موجودا وأمكن الاجتماع والخطبتان استحب الجماعة ، ومنعه قوم . 1
ومع انه أشار آلي اعتبار شرط السلطان العادل أو نائبه في : (شرائع الإسلام ) حيث قال: · انها لا تجب إلا بحضور السلطان العادل أو من نصبه ولكنه استظهر في المسألة التاسعة استحباب صلاة الجمعة إذا أمكن الاجتماع في حالة عدم وجود الأمام ولا من نصبه للصلاة ، وعبر عن هذا الرأي ب : · قيل . 2
لقد كسر المحقق الحلي حاجز الإجماع المدعى على التحريم ، وإذا لم يقل بالوجوب فقد قال بالاستحباب ، ولو كان على تردد.
وتبعه يحيى بن سعيد فقال في (الجامع للشرائع ) بالجواز ، ولكن بصورة ضعيفة :· لا بأس باجتماع المؤمنين وقت التقية (عصر الغيبة) ولا ضرر عليهم لصلاة الجمعة بخطبتين ، فان تعذر صلوا الظهر جماعة . 3
اما العلامة الحلي الذي جاء بعدهما ، فبالرغم من انه مال آلي التحريم والمنع في معظم كتبه الفقهية مستندا على الإجماع المدعى ، إلا انه استقرب الجواز في حالة إمكان الاجتماع و الخطبة وقال في (تحرير الأحكام):· ان ذلك مأذون ومُرغّب فيه . 4
وكذلك فعل ابنه محمد بن الحسن ( 682 - 771) في :(إيضاح الفوائد) حيث قوى الجواز لعموم الآية المقدسة ، وأكد بقاء الجواز إذا رفع الوجوب . 5(1/2)
لقد كان معتمد دليل تحريم صلاة الجمعة في عصر (الغيبة) هو الإجماع على اشتراط إذن الأمام ، وتفسير (الأمام) بالإمام العادل أي (المعصوم) والاعتقاد بوجود (المعصوم) وهو (الأمام المهدي) وغيبته، وانتظار خروجه والحصول على اذنه كشرط لإقامة صلاة الجمعة.. ولكن (غيبة الأمام ) الطويلة وعدم القدرة على وضع نهاية لها دفع علماء مدرسة الحلة آلي تفكيك الدليل والالتفاف على شرط الإذن ، وذلك بالتخلص من الإجماع الذي يربط بين الصلاة والإمام ، وإجازة الفقهاء للقيام بها.
ويبدو ان علماء مدرسة الحلة قد قاموا بخطواتهم المتقدمة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود وصلاة الجمعة ، انطلاقا من الواقع الذي كان يساعدهم على تنفيذ تلك الأمور ، وتفكيك مهام الإمامة بالرغم من إيمانهم بنظرية الإمامة الإلهية واعتقادهم بوجود الأمام المهدي الغائب.. فقد قالوا بجواز إراقة الدماء والقتل من اجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وصلاة الجمعة .
ومع بروز نظرية (نيابة الفقيه العامة )في القرن السابع والثامن ، وجد بعض العلماء فيها مخرجا للهروب من نظرية (التقية والانتظار) فقالوا بجواز إقامة الفقهاء للجمعة باعتبارهم نوابا عامين للإمام المهدي ، فقال الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ( - 786) في :(الدروس الشرعية في فقه الامامية):· تجب صلاة الجمعة بشرط الأمام أو نائبه ، وفي الغيبة يجمع الفقهاء مع الأمن ، وتجزي عن الظهر على الأصح وقال في :( اللمعة الدمشقية) :· لا تنعقد إلا بالإمام أو نائبه ، ولو كان فقيها ، مع إمكان الاجتماع في الغيبة . 6(1/3)
ولم يصرح الشهيد الأول بمستند الجواز ولا بنظرية (النيابة العامة) وإنما اكتفى بحصر الحق في إقامتها على الفقهاء ، ولكنه لم يشر آلي ذلك الحصر في :(البيان) حيث قال:· في شرائط وجوبها ... الأمام العادل أو نائبه ، وفي الغيبة أو العذر يسقط الوجوب لا الجواز ، ومنع أبو الصلاح وسلار وابن إدريس وهو ظاهر المرتضى ، وهو بعيد . 7
وتقدم جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري ( - 826) خطوة أخرى من الاستحباب آلي القول بالوجوب اعتمادا على نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الأمام المهدي) التي كانت قد بدأت في التبلور في القرن السابع الهجري ، فقال في :(التنقيح الرابع):· إذا لم يكن الأمام موجودا وأمكن الاجتماع والخطبتان استحبت الجمعة ، ومنعه قوم.. ومبنى الخلاف: ان حضور الأمام هل هو شرط في ماهية الجمعة ومشروعيتها؟ أم في وجوبها؟ فابن إدريس على الأول ، وباقي الأصحاب على الثاني ، وهو أولى.. لأن الفقيه المأمون كما ينفذ أحكامه حال الغيبة كذا يجوز الإقتداء به في الجمعة ، وموضع البحث : إنما هو استحباب الاجتماع لا إيقاع الجمعة ، فانه مع الاجتماع يجب الإيقاع ويتحقق البدلية من الظهر . 8
وقد قال بذلك بناء على توسيع مهمات (النيابة العامة للفقهاء) بما يشمل إقامة صلاة الجمعة ، وكذلك قال من بعده احمد بن محمد بن فهد الحلي ( 757 - 841) في :(المهذب البارع في شرح المختصر النافع) :· إذا أمكن في حال الغيبة اجتماع العدد المعتبر والخطبتان استحب الاجتماع ، وإيقاع الجمعة بنية الوجوب ويجزي عن الظهر ... لأن الفقيه المأمون منصوب عن الأمام حال الغيبة ، ولهذا يجب الترافع إليه ويمضي أحكامه ، وعلى الناس مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس . 9
ويلاحظ ان ابن فهد قد بنى نظرية الوجوب على نظرية (النيابة العامة) التي وسعها اكثر ، وادعى بقوة : ان الفقيه منصوب عن الأمام حال الغيبة للقيام بما يشبه مهام الإمامة .(1/4)
وفي القرن العاشر الذي شهد ولادة الدولة الصفوية الشيعية حاول المحقق الكركي الالتفاف على القول بالتحريم بناء على فقدان شرط الأمام أو إذن نائبه ، فقال في :(جامع المقاصد في شرح القواعد) :· ان الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الأمام ولهذا تمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس . لا يقال: الفقيه منصوب للحكم والإفتاء ، والصلاة أمر خارج عنهما ، لأنا نقول: ان هذا في غاية السقوط ، لأن الفقيه منصوب من قبلهم (ع) حاكما كما نطقت به الأخبار .
ولكن الكركي تهيب من القول بالوجوب الحتمي خشية مخالفة الإجماع ، وقال بالوجوب التخييري وحاول الالتفاف على القائلين بالحرمة بتخريجات جانبية .
ومع ان المحقق الكركي كان يعيش في ظل دولة شيعية أعطاها الشرعية باسم النيابة عن الأمام المهدي الغائب ، إلا انه لم يفت بقوة بوجوب صلاة الجمعة ، مما يشعر بعدم إيمانه بنظرية (النيابة العامة ) بقوة ، وخاصة في باب الصلاة ، وإلا فإذا كان الفقهاء حقا منصوبين من قبل الأمام ومأذونون في إقامة الجمعة لتحتم عليه القول بوجوبها في عصر الغيبة.(1/5)
وعلى أي حال فقد حاول الشهيد الثاني ( - 965) في :(روض الجنان) ان يتحرر من عقدة (إذن الأمام) في وجوب صلاة الجمعة ، وان يحصر ذلك في زمان حضور الأمام ، وان يسقط ذلك في عصر الغيبة ، من الأساس ، فقال:· ان شرط الأمام أو من نصبه إنما هو حال الحضور والإمكان ، لا مطلقا .. وأين الدليل الشرعي عليه؟ ولو سلم لا يلزم سد باب الجمعة في حال الغيبة وتحريمها ، لأن الفقيه الشرعي منصوب من قبل الأمام عموما لقول الصادق (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة :· فاني قد جعلته عليكم حاكما وحكمهم (ع) على الواحد حكم على الجماعة ، ومن ثم تمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس ، وهذه الأشياء اعظم من مباشرة إمامة الصلاة ، فلا يتم القول بتحريمها مطلقا في حال الغيبة ... ويعلم ذلك من إجماع الأصحاب على نفوذ حكم الفقيه الجامع للشرائط في حال الغيبة وجواز إقامته للحدود وغيرها ، ووجوب مساعدته والترافع إليه . 10
وقال:· قد بالغ المحقق الشيخ علي (الكركي) في إنكار القول الثاني من قولي الجواز ، وزعم ان كل من قال بالجواز اشترط فيه حضور الفقيه محتجا عليه بدعوى جماعة من الأصحاب: الإجماع على اشتراط الأمام أو نائبه في شرعية الجمعة .
وفي الدعوى والسند منع ظاهر .. اما الدعوى فقد بينا من صرح بخلافها ، واما الإجماع فانما نقلوها على حالة الحضور لا الغيبة ، فانهم يبتدؤن بحال الحضور ويذكرون فيه الإجماع ثم يذكرون حال الغيبة ، ويذكرون الخلاف ، فكيف يتحقق الإجماع في مورد النزاع ؟ فراجع . وقال :· من خواص الشرط ان يستلزم فقده فقد المشروط إلا ان هذا الشرط - وهو إذن الأمام - ليس له مستند يرجع إليه من كتاب أو سنة كما ورد في باقي الشروط ، وإنما العمدة في إثباته على الإجماع ، ولا ريب ان الإجماع إنما وقع على الاشتراط في حال الحضور لا الغيبة .. فتحرر من ذلك ان لا دليل على الاشتراط في حالة الغيبة يجب المصير إليه . 11(1/6)
وانتقد الشهيد الثاني أيضا في رسالة خاصة كتبها ، حول ضرورة صلاة الجمعة ، قبل ثلاث سنوات من وفاته : انتقد حالة التقليد الأعمى وتهديم الدين بالشبهات ، وشنّ فيها هجوما عنيفا على الذين يتهاونون في صلاة الجمعة ، واشتكى بحرقة وحسرة من القائلين بتحريمها ، وقد جاء فيها : · .. وبعد .. فهذه جملة تشتمل على بيان حكم صلاة الجمعة في هذا الزمان الذي قد مني فيه بالبلبلة أهل الإيمان وخذلهم ببغيه وحسده الشيطان ، حتى هدموا اعظم قواعد الدين بالشبهة لا بالبرهان ، وها انا محقق لموضع الخلاف ومرشد لمن اخرج رقبته من ربقة التقليد للأسلاف وسلك سبيل الحق بالإنصاف وخاف الله تعالى في امتثال أمره والوقوف معه فانه أولى من يخاف ، مستمدا من الله التوفيق والإلهام للحق فانه به حقيق :
فأقول : اتفق علماء الإسلام في جميع الإعصار وسائر الأمصار والأقطار على وجوب صلاة الجمعة على الأعيان في الجملة ، وإنما اختلفوا في بعض شروطها ، وسيأتي تحقيق الكلام في موضع الخلاف ان شاء الله تعالى ، ومع ذلك فالحث على فعلها والأمر به بضروب التأكيد في الكتاب والسنة لا يوجد مثله في فريضة البتة ، وسنورد عليك جملة منه .
ثم ان الأصحاب اتفقوا على وجوبها عينا مع حضور الأمام أو نائبه الخاص ، وإنما اختلفوا فيه في حال الغيبة وعدم وجود إجماع المأذون له فيه على الخصوص ، فذهب الأكثر حتى كاد يكون إجماعا أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورة من ان المخالف إذا كان معلوم النسب لا يقدح فيه ، آلي : وجوبها ، مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الأمام .
وهم بين مطلق للوجوب ، كما ذكرناه ، وبين مصرح بعدم اعتبار شرط الأمام أو من نصبه . وربما ذهب بعضهم آلي اشتراطها حينئذ بحضور الفقيه الذي هو نائب الأمام على العموم ، وإلا لم تصح . وذهب قوم آلي عدم شرعيتها أصلا حال الغيبة مطلقا . والذي نعتمده من هذه الأقوال ونختاره وندين الله تعالى به هو المذهب الأول . 12(1/7)
وإضافة آلي رفض الشهيد الثاني لدعوى الإجماع على اشتراط إذن الأمام في حالة الغيبة ، فانه رفض اشتراط إذن الفقيه (نائب الأمام ) فقال: · اما القول بوجوب الصلاة المذكورة بشرط حضور الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، وإلا لم تشرع . اعلم .. ان هذا القول لم يصرح به أحد من فقهائنا على وجه اليقين ، وإنما هو ظاهر عبارة العلامة جمال الدين في :(التذكرة)و (النهاية) والشهيد (الأول) في :(الدروس واللمعة ) لا غير ، وفي باقي كتبهما وافقا غيرهما من المجوزين من حيث الإطلاق ... ولكن المحقق المرحوم الشيخ علي (الكركي) اعتنى بهذا القول وترجيحه وادعى إجماع القائلين بشرعيتها عليه ، والأصل في هذا القول ان إذن الأمام معتبر فيها ، فمع حضوره يعتبر حضوره أو نائبه ، ومع غيبته يقوم الفقيه المذكور مقامه لأنه نائبه على العموم وناقش الشهيد الثاني دعوى الإجماع ثم علق على اعتراف الكركي بفقد الشرط الذي أدى به آلي القول بعدم الوجوب ، ومع ذلك قال بالاستحباب ، وقال:· فلو كان الأمام أو من نصبه شرطا مطلقا لما أمكنه الحكم باستحبابها حينئذ مع اعترافه بفقد الشرط ، ومن هنا يظهر ظهورا بيّنا : ان الفقيه ليس بشرط عنده ، وان مثل به ، وإلا لزم القول بالوجوب ان تحقق معه الشرط . 13
واستعرض الشهيد الثاني عبارات الشيخ المفيد في كتاب :( الاشراف في عامة فرائض الإسلام) والشيخ الصدوق في كتابه :(المقنع) وأبى الصلاح الحلبي في كتابه :( الكافي) واستخلص منها : ان القائل باشتراط حضور الفقيه حال الغيبة اما قليل جدا بالعناية التامة ، أو معدوم ، وقال ان الكركي لم يذكر عليه دليلا معتبرا . 14
وفي الحقيقة لقد قام الشهيد الثاني بخطوة كبيرة نحو الأمام في التحرر من نظرية : (التقية والانتظار) ، وذلك بتحليله أو أيجابه إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة لغير الفقيه ، ولكن ذلك كان التفافا منه على شرط ( الأمام ) حيث أسقطه بالمرة في عصر الغيبة .(1/8)
وربما كان الإجماع منعقدا على اعتبار اشتراط الإذن من الأمام ، أو الأمام العادل مطلقا وعدم تقييدها بالإمام المعصوم ، ولكن الشهيد الثاني لم يلتفت آلي هذه النقطة لأنه كان يعيش في ظل التفسير الخاص للإمام العادل المطلوب توفره في صلاة الجمعة ، والذي ابتدأ منذ عهد السيد المرتضى ، حيث تم تحريم صلاة الجمعة أو إلغاء وجوبها في عصر الغيبة ، لافتقار الإذن من (الأمام المعصوم) أو نائبه الخاص .
وكاد المقدس احمد الاردبيلي ( - 993) ان يخطو خطوة أخرى آلي الأمام في إيجاب صلاة الجمعة ، وان يفتي بالوجوب العيني لولا الإجماع المدعى على عدم وجوبها في عصر الغيبة ، فتردد وقال بالجمع بين الجمعة والظهر احتياطا . وقال في : (مجمع الفائدة والبرهان ) :· لا دليل على الاشتراط ولا على عدم الوجوب العيني على تقديره إلا ما نقل من الإجماع ، والذي يظهر بالتأمل في الآية والأخبار هو عدم الاشتراط بوجه ، والوجوب العيني ... ولو جمع بينهما ( الجمعة والظهر) للاحتياط لأمكن كونه أحوط . 15(1/9)
ومع انتشار القول بوجوب صلاة الجمعة في القرن العاشر الهجري ، خاصة بعد قيام الدولة الصفوية التي استمرت آلي القرن الحادي عشر ، فان القول الآخر القاضي بالتحريم أو عدم الوجوب لم ينتفِ تماما ، واحتدمت المعركة بين أصحاب نظرية :(التقية والانتظار) وأصحاب نظرية :(النيابة العامة) ، وجاء بعض العلماء كالفاضل الهندي محمد بن الحسن ( - 1062) صاحب :(كشف اللثام) ليرفض صلاة الجمعة حتى بشرط الفقيه ، وقد استعرضنا رأيه في الفصل الماضي . ولكن يمكن القول ان جوا عاما مؤيدا لإقامة صلاة الجمعة قد حلّ في أوساط العلماء ، وشكل تيارا قويا امتد حوالي ثلاثة قرون . ومع ان القول بالوجوب العيني لم يترسخ بصورة عميقة لاعتقاد عامة الفقهاء بوجود الأمام المهدي الغائب واعتبار الصلاة جزء من أعماله الخاصة ، وقد صرح السيد محمد جواد الحسيني العاملي ( - 1226) في :( مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة)
بأن · الظاهر ... ان الوجوب العيني إنما يسقط في غيبتهم لعدم حضور الأمام (ع) الذي هو شرط فيها إجماعا . 16
وقد اعتبر السيد مهدي بحر العلوم موضوع صلاة الجمعة في عصر الغيبة · أبهم معتاص على الافهام ، وان أوسط الأقوال فيها الأوسط (بين الوجوب والتحريم) وان الاجتهاد في الأمام أحوط ، ولا يقيم الفرض غير المجتهد إلا إذا كان إليه يستند . 17
وبالرغم من تطور القول بنظرية :(النيابة العامة) و (ولاية الفقيه) في القرون المتأخرة ، إلا ان بعض الفقهاء ظل يتحفظ في خصوص صلاة الجمعة ، فتراجع عن القول بالوجوب واكتفى بالقول بالجواز ، كالسيد محمد الشيرازي الذي قال بالتخيير بين الجمعة والظهر مع أفضلية الأخيرة ، وعدم وجود وجه للاحتياط بين الاثنين . 18(1/10)
وكذلك السيد الكلبايكاني الذي أفتى بالجواز من باب الاحتياط ورجاء لوجوبها الواقعي ، ولكنه قال بعدم الاجتزاء بصلاة الجمعة عن الظهر · لأن وجوبها زمان الغيبة غير معلوم وان إذن لها الفقيه . (رسالة في أحكام صلاة الجمعة )
ولا بد من الإشارة أخيرا آلي ان الشيعة الامامية الذين كانوا على مدى التاريخ يؤدون صلاة الجمعة ، وان لم يكن بصورة عامة ، قد بدءوا يقيمون الصلاة في إيران وبعض الدول الأخرى بشكل واسع منذ إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران . وإذا كان الالتزام بها غير شامل لكل المتدينين فذلك لاختلاف العلماء المعاصرين حول وجوبها أو تعين وجوبها ، ومنهم من يحتاط بالجمع بينها وبين الظهر ، وذلك بسبب الاعتقاد بافتقاد الشرط الأساس وهو :(حضور الأمام المعصوم) أو إذن نائبه الخاص في الصلاة ، وعدم الإيمان الشامل بنظرية : (ولاية الفقيه) بصورة تغطي مختلف أبواب الدين والحياة آلي درجة توازي الإمامة بكل معنى الكلمة .(1/11)
وبالرغم من كل تلك الخطوات الإيجابية التي قطعها أصحاب نظرية (النيابة العامة وولاية الفقيه) نحو إقامة صلاة الجمعة ، إلا انه في الحقيقة لا يمكن الخروج التام من أزمة اشتراط (حضور الأمام أو نائبه) إلا بالعودة آلي القرآن الكريم الذي لا يذكر أي شرط في هذا الموضوع ، أو الالتزام بإجماع المسلمين الذي يشترط إذن الأمام العام ، أو إضافة شرط العدالة إليه ، ولكن بالمعنى العام من العدالة وليس العصمة بالخصوص ، والاعتقاد بناء على ذلك بأن المؤمن العادل أو الفقيه الحاكم امام عادل ، وبذلك يتم التخلص من أزمة التفسير الخاطئ للشرط الثابت بالإجماع المدعى وليس بالنص ، والذي أدى آلي إلغاء بعض الفقهاء لصلاة الجمعة في عصر (الغيبة) والتخلي بصورة كاملة عن نظرية :(التقية والانتظار) . وهذا ما فعله الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي فسر (الأمام العادل) بالشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فعلا بصورة مشروعة ويقيمون العدل بين الرعية ، حيث أوجب في :(الفتاوى الواضحة) إقامة الجمعة في ظله بصورة حتمية .(1/12)
الفصل الثاني
تطور النظريات السياسية الشيعية في عصر الغيبة
المبحث الأول:
نظرية النيابة العامة المحدودة
المحقق الحلي والتقليد
شاهدنا في الفصل الماضي محاولات الخروج من أزمة :(الانتظار للإمام المهدي) التي وقع بها العلماء الامامية ، نتيجة قولهم باشتراط العصمة والنص في الأمام ، والاعتقاد بوجود الأمام المعصوم الغائب ، وفتحهم تدريجيا لباب الاجتهاد والسماح بتنفيذ الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستلام الخمس والزكاة وإجازة أو إيجاب صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) ، تلك الأمور التي جمدوها في البداية انتظارا لخروج (الأمام المهدي) الحاكم الشرعي الوحيد الذي يحق له إقامة الدولة الإسلامية .
وقد كانت تلك المحاولات متفرقة ومتدرجة بابا ..بابا ، وجزءا .. فجزءا .. ولكنها لم ترقَ لتعالج المشكلة من جذرها ، حيث لم تبحث موضوع (الإمامة ) و ( الغيبة) من الأساس . ومع ذلك فقد حاول العلماء تطوير نظرية سياسية بديلة عن الإمامة والإمام المهدي ، وذلك بافتراض النيابة الواقعية أو الحقيقية عن الأمام الغائب عندما يأمر حاكم جائر أحدا بتنفيذ الحدود . وقد تطورت هذه النظرية البسيطة الافتراضية في بداية القرن الخامس الهجري لتصبح نظرية سياسية متكاملة في نهاية القرن الرابع عشر تحت اسم (ولاية الفقيه) .(1/1)
قلنا ان النظرية البديلة انطلقت من فرضية خاصة في مجال الحدود حيث كان الشيخ المفيد أول من تحدث عن تفويض الائمة للفقهاء إقامة الحدود في عصر الغيبة ، وتحدث عن (الإمارة الحقيقية عن صاحب الأمر ، لمن تأمر على الناس بتمكين ظالم له ) ، ومع ان المفيد ادعى ، أو قيل : ان (الأمام المهدي) أرسل له ثلاث رسائل خطية ، إلا انه لم يتحدث عن نظرية (النيابة العامة) في سائر أبواب الفقه كالخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وصلاة الجمعة والثورة وإقامة الدولة ، واكتفى في الزكاة بإيجاب حملها آلي الفقهاء لأنهم اعرف بمواضعها . وخلت الرسائل الثلاث من أية إشارة آلي تفويضه بأي منصب قيادي ، ولم تتحدث عن (النيابة العامة للفقهاء) .
وكذلك لم يتحدث المرتضى و الطوسي و سلار عن التفويض أو النيابة في مجال الخمس والزكاة وسائر أبواب الحياة السياسية والاقتصادية .
وكان أول من استخدم مصطلح (النيابة عن ولي الأمر عليه السلام) هو أبو الصلاح الحلبي ( 373 - 447) وذلك في مجال القضاء والحدود ، وحاول ان يسحب موضوع (النيابة) آلي أبواب الزكاة والفطرة والخمس والأنفال ، فأوجب اختيارا على من تعين عليه فرض من ذلك إخراج ما وجب عليه آلي الفقيه المأمون ، في حالة التعذر من إيصالها آلي سلطان الإسلام ، كما في حالة الغيبة.
و كان القاضي ابن براج أو ل من أوصى بحفظ الخمس لدى الفقهاء وإيداعه أمانة لديهم آلي ظهور المهدي . وربما كان هذا أول تطور في مجال الخمس ، حيث نقل ابن براج القول من حفظ الخمس عند أمين آلي حفظه عند فقيه مأمون .
و قد التقط ابن حمزة هذا التطور لكي يتقدم خطوة أخرى آلي الأمام فقال بتولي الفقيه لتقسيم سهم الأمام بدلا من الاحتفاظ به آلي ظهور المهدي(1/2)
و جاء المحقق الحلي جعفر بن الحسن ( 602 - 676) بعد ذلك بقرن لكي يطور نظرية (النيابة العامة) ويتحدث عن ( من له الحكم بحق النيابة) وذلك في مجال تولي صرف سهم الأمام من الخمس . ولكنه لم يشر آلي (النيابة ) في الزكاة ، وتردد في موضوع الحدود واستضعف الرأي القائل بجواز إقامة الفقهاء للحدود في عصر الغيبة ، كما اشترط إذن الأمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استلزم الجرح أو القتل . وهذا ما يدل على قول المحقق بنظرية (النيابة العامة) بشكل محدود في مجال الخمس فقط ، وليس بشكل شامل .
وكان العلامة الحلي أول من طرح نظرية (النيابة العامة) في مجال الزكاة ، حيث قال في (نهاية الأحكام):· ولو تعذر الأمام فالأولى صرفها آلي الفقيه المأمون ، وكذا حال الغيبة لأنه اعرف بمواقعها ، ولأنه نائب الأمام عليه السلام ، فكان له ولاية ما يتولاه . 1
ولكنه لم يوجب الصرف آلي الفقيه ، وإنما عبّر عنه بالأولوية ، ولم يقدم أدلة خاصة حول نيابة الفقيه وحقه في استلام الزكاة ، ولم يشر آلي وجود رواية في الموضوع .
وعلى أي حال يمكن تسجيل بعض التطور في نظرية (النيابة العامة) عند العلامة الحلي .
و قد أسس المحقق وعلماء مدرسة الحلة عموما ، لنظام المرجعية الدينية ، حيث أعطوا بفتاواهم تلك أدوارا اجتماعية للفقيه لكي يقوم بجباية الأموال من الأغنياء وصرفها على الفقراء والمحتاجين ، إضافة آلي إمامة الصلاة في الجمعة والجماعات . إضافة آلي فتح باب (التقليد) الذي كان محرما وقبيحا ومرفوضا من علماء الشيعة السابقين ، حيث قال المحقق الحلي في :(معارج الأصول - فصل المفتي والمستفتي ):· يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعية . 2
الشهيد الأول يتأرجح بين نظريتي:
الانتظار ..و النيابة العامة .(1/3)
وقد خطى الشهيد الأول شمس الدين محمد بن مكي العاملي الجزيني ( المولود سنة 732 ه والمتوفى سنة 786 ه ) في القرن الثامن خطوة جديدة آلي الأمام ، ومدّ نظرية (النيابة العامة) من القضاء والحدود آلي صلاة الجمعة ، حيث قال بوجوبها انطلاقا من نيابة الفقيه في باب القضاء . واعتبر في (اللمعة الدمشقية) الفقيه نائبا عن الأمام وأجاز له إقامة صلاة الجمعة ، كما أطلق على الفقيه العدل الامامي لقب :· نائب الغيبة في كتاب الخمس من (الدروس الشرعية) .
ومع وضوح إيمانه بنظرية (النيابة العامة للفقيه) في عصر الغيبة ، إلا ان تلك النيابة كانت محدودة جدا في نظره ، ولذلك استقرب دفن الخمس أو الوصية به انتظارا لخروج المهدي ، فضلا عن جواز القيادة والحكم ، ومع انه أجاز في (الدروس الشرعية في فقه الامامية) ل : · نائب الأمام العام - أي الفقيه العادل - في حال الغيبة ان يقيم الحدود والتعزيرات مع المكنة ، وأوجب على العامي تقويته ومنع المتغلب عليه مع الإمكان ، إلا انه لم يُجز ابتداء التولي للقضاء من قبل الجائر ، إلا مع الإكراه ، أو التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحدث بشكل ضعيف عن ضرورة اعتقاد النيابة عن الأمام المهدي في حالة الإجبار من قبل الجائر . 3
وتحدث الشهيد الأول عن نظرية ( النيابة العامة ) عرضا في (الدروس الشرعية) وذلك عندما خيّر المكلف بصرف (سهم الأمام) آلي الأصناف (الفقراء والمساكين وابن السبيل) بإذن · نايب الغيبة ، وهو الفقيه العدل الامامي الجامع لصفات الفتوى (4) وكذلك فعل في (البيان ) عندما أجاز للعلماء صرف سهم الأمام . 5(1/4)
ولكن الشهيد الأول تراجع عن موقف علماء الحلة المتقدم في مجال الخمس ، حيث أكد في (الدروس الشرعية) إباحة المناكح والمساكن والمتاجر وعموم الأنفال حال الغيبة (6) واستقرب صرف نصيب الأصناف عليهم مستحبا ، ومال آلي التخيير في نصيب الأمام بين الدفن والايصاء به وصلة الأصناف مع الأعوام . (7) واعتبر في (البيان) القول بحفظ نصيب الأمام آلي حين ظهوره من أصح الأقوال . 8
وكانت هذه النظرية قد انقرضت منذ اكثر من قرن .. ولكن الشهيد الأول عاد فأحياها من جديد، وسجل بذلك تراجعا عن مواقف علماء الحلة ، متأثرا بنظرية (الانتظار) السلبية التي كانت لا تزال مخيمة على الفكر السياسي الشيعي ، كما سجل تراجعا آخر في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حيث رفض اللجوء آلي استخدام القوة المؤدية آلي الجرح والقتل ، واستقرب في (الدروس ) تفويضهما آلي الأمام . 9
واشترط أيضا في وجوب الجهاد دعاء ( الأمام العادل) أو نائبه ، وصرح في (الدروس) بعدم جواز الجهاد مع الجائر اختيارا إلا ان يخاف على بيضة الإسلام. 10
ومن هنا.. لم يكن الشهيد الأول قريبا من التفكير بالثورة أو إقامة الحكومة الإسلامية ، لأنه كان يعتقد بحرمتها وعدم جوازها إلا للإمام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب) .
وبالرغم من ان الأجواء السياسية والظروف الموضوعية في منتصف القرن الثامن الهجري كانت مهيأة للثورة ، إلا ان الإيمان بنظرية (الانتظار) كان يحول دون إفتاء العلماء بجواز الثورة وإقامة الدولة ، كما كان يشل فاعلية الأمة ( وبالذات الشيعة الامامية) للتحرك والقيام ، ويحدثنا التاريخ عن قصة فريدة من نوعها تكشف عن طبيعة الصراع بين الفكر والواقع ، وهي قصة الحركة السربدارية في نيسابور من ارض خراسان .
الحركة السربدارية(1/5)
ولدت هذه الحركة الشيعية في منطقة خراسان بعد تفكك دولة بني هولاكو ، وموت أبى سعيد وتمرد الأمراء المغول واستقلالهم بما تحت أيديهم وتشتتهم آلي دول صغيرة.. وذلك ردا على فساد الجنود المغول وتعسفهم وظلمهم . وكان يقود هذه الحركة الشيخ خليفة الذي قتل سنة 736ه فاستلم القيادة تلميذه الشيخ حسن الجوري الذي كان يعد العدة لخروج الأمام المهدي ، وكان يخرج مع أصحابه صباح كل جمعة فرسا وسيفا وينادون (صاحب الزمان) ويستغيثون به للظهور ، ويتضرعون لإنقاذهم مما هم فيه من اضطهاد.
وفي يوم من الأيام دخل أحد الجنود المغول الذين كانوا قد اعتادوا على النهب والسلب ، دار الشيخ حسن الجوري ، فأخذ يأخذ منها ما يحلو له .. والشيخ ينظر إليه بصمت وحسرة ، ولا يفكر بمقاومته.. آلي ان وقعت عين الجندي على زوجة الشيخ الجوري ، فوضع يده عليها واراد ان يأخذها مع الغنائم فتوسل إليه الشيخ ان يأخذ كل ما يريد ويترك زوجته ، ولكن الجندي أصرّ على أخذها ، فما كان من الشيخ إلا ان فقد صبره وسحب سيفه وقتل الجندي ، وعندما جاء رفاقه لينتقموا له اشتعلت الثورة بالصدفة ، واكتشف الشيعة في نيسابور ضعف الجنود المغول ، وقوتهم ، فسيطروا على المنطقة وأقاموا حكومة شيعية في خراسان استمرت حوالي خمسين عاما من سنة 738 آلي سنة 782 حيث قضى عليها بعد ذلك تيمورلنك .
وكان آخر ملك من ملوك الدولة (السربدارية ) هو : السلطان علي بن المؤيد ، الذي تولى الحكم سنة 766 ه ، وهو الذي كتب آلي الشهيد الأول يستدعيه آلي خراسان ، ليكون مرجعهم الديني الذي يحل لهم ما أشكل عليهم من مسائل فقهية ، ويرجعوا إليه فيما يهمهم من أمور الحياة .(1/6)
وجاء في رسالة المؤيد ، بعد التحية والسلام :· أدام الله تعالى المولىالهمام العالم العامل الفاضل الكامل السالك الناسك ، رضي الأخلاق وفيّ الأعراق علامة العالم مرشد الأمم قدوة العلماء الراسخين أسوة الفضلاء والمحققين مفتي الفرق بالحق حاوي الفضائل والعلى وارث علوم الأنبياء والمرسلين محيي مراسم الأئمة الطاهرين سر الله في الارضين مولانا شمس الملة والدين ، مدّ الله اطناب ظلاله بمحمد وآله.
من دولة راسية الأوتاد ونعمة متصلة الامداد آلي يوم التناد.
وبعد... فالمحب المشتاق ... ينهي آلي ذلك الجناب - لا زال مرجعا لأولي الألباب - ان شيعة خراسان متعطشون آلي زلال وصاله والاغتراف من بحر فضائله وإفاضته ، وأفاضل هذه الديار قد مزقت شملهم أيدي الأدوار وفرقت جلهم أو كلهم صنوف صروف الليل والنهار.
قال أمير المؤمنين (ع) ثلمة الدين موت العلماء ، وانا لا نجد فينا من يوثق بعلمه في فتياه ويهتدي الناس برشده وهداه فهم يسألون الله تعالى شرف حضوره والاستضاءة بأشعة نوره والإقتداء بعلومه الشريفة والاهتداء برسومه المنيعة واليقين بكرمه العميم ان لا يخيب رجاءهم. قال الله تعالى:( والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل) ولا شك ان أولى الأرحام بصلةٍ: الرحم الإسلامية الروحانية ، وأحرى القرابات بالرعاية: القرابة الإيمانية ثم الجسمانية ، فهما عقدتان لا تحلهما الأدوار والأطوار ، بل شعبتان لا يهدمهما إعصار الإعصار .
ونحن نخاف غضب الله على هذه البلاد لفقدان الرشد وعدم الإرشاد ، والمأمول من إنعامه العام وإكرامه التام ان يتفضل علينا ويتوجه ألينا متوكلا على الله القدير غير متعلل بنوع من المعاذير ، ان شاء الله تعالى ...
والسلام على أهل الإسلام.
المحب المشتاق علي بن مؤيد(1/7)
ولكن الشهيد الأول رفض الاستجابة لطلب الملك علي بن مؤيد ، ورد الوفد الذي أرسله أهالي خراسان ان يقبل عليهم ليعرضوا ما يشكل عليهم من مسائل فقهية ، وليرجعوا إليه فيما يهمهم من شؤون الحياة وكتب بدلا من ذلك : (اللمعة الدمشقية) - وهو كتاب فقهي مختصر - سنة 784 ه ليكون مرجعا فقهيا لهم .
وكان الشهيد الأول قد تحالف مع (بيد مرو) الوالي على الشام من قبل (برقوق) السلطان المملوكي في مصر ، في محاربة (اليالوش( المتصوف الشيعي المتطرف في الغلو ، المنحرف ، في النبطية والقضاء عليه . مما يعتبر تطورا في موقف الشهيد الأول من حكم جواز استخدام القوة في عصر الغيبة ، حتى وان آدت آلي إراقة الدماء والقتل ، على عكس ما كان قد استقرب في (الدروس) من تفويضهما آلي الأمام (المعصوم) مما يبدو ان الواقع العملي كان يجره ويجر العلماء وعامة الشيعة آلي اتخاذ مواقف حيوية بعيدا عن نظرية (الانتظار) التي كانت تشلهم وتمنعهم من التقدم والعمل.
ولكن ليس من الواضح لماذا رفض الشهيد الأول الاستجابة لدعوة الملك الخراساني الشيعي ابن المؤيد في الذهاب إليه ، وهل كان ذلك لأنه كان يعتبره جائرا لأنه لم يحض بتأييد الأمام المهدي؟ أم لأنه لم يكن يرى لنفسه أي دور للقيام به في ظل السلطان سوى الفتوى والإرشاد؟ أم كان يشك بحقيقة ولاء السلطان له ؟ أم لغير ذلك من الأسباب؟
ولا بد ان نستعيد هنا فتواه في ( الدروس) حول عدم جواز التولي للقضاء من قبل الجائر إلا مع الإكراه ، فلعلها تلقي شيئا من الضوء على موقفه الرافض وهو في العراق والشام من الذهاب آلي خراسان .(1/8)
وبالرغم من إشارة الشهيد الأول آلي معنى (النيابة العامة للفقهاء عن الأمام المهدي ) في :(الدروس الشرعية) و (اللمعة الدمشقية) و (البيان) إلا ان رسالة ابن المؤيد التي أرسلها في طلب القدوم لم تحمل أية إشارة آلي ذلك . وكان (السربدارية) قد أسسوا دولتهم من قبل على أتساس الصوفية المعادين لخط الفقهاء ، وبالتالي فقد كانوا بعيدين جدا عن تقبل نظرية (النيابة العامة) بالرغم من التحول الذي كان قد حدث مؤخرا في صفوفهم على يدي ابن المؤيد باتجاه الفقهاء .
وقد تفرعت من دولة السربدارية دولة أخرى في مازندران قادها تلميذ لحسن الجوري هو السيد قوام الدين المرعشي ، وذلك في سنة 762ه /1360م ، وعرفت بحكومة السادة المرعشية ، واستمرت آلي سنة 795 حيث قضى عليها تيمورلنك ، ولكنها عادت بعد وفاته لتستقر مرة أخرى في مازندران ، وامتدت آلي لاهيجان و،كيلان . وانقرضت في سنة 1001ه / 1592م أي بعد تأسيس الدولة الصفوية في إيران . ولم يعرف عن هذه الدولة أيضا قيامها على أتساس نظرية (النيابة العامة) .
الدولة المشعشعية في خوزستان والعراق(1/9)
و بعد سقوط الدولة السربدارية مباشرة بسنة واحدة ولدت دولة شيعية أخرى ، في خوزستان سنة 783ه ، وقد أسسها السيد محمد بن فلاح الحويزي الملقب ب : · المهدي المشعشعي ، واستمرت دولته في أعقابه حتى تاريخ 1117 ه ، وكان مؤسس هذه الدولة على جانب من التصوف ، وكان أيضا على علاقة بالشيخ احمد بن فهد الحلي ( - 841) الذي كان يسكن مدينة كر بلاء في العراق . ولكن نظرية الدولة (الملكية) لم تقم على أتساس :(نيابة الفقيه العامة) بالرغم من قول الشيخ الحلي في :(المهذب البارع) :· ان الفقيه المأمون منصوب عن الأمام حال الغيبة ودعوته آلي إقامة صلاة الجمعة بنية الوجوب بإمامة الفقيه ، وذلك لإيمانه بها بصورة محدودة لا تشمل الخمس أو الزكاة أو سائر أبواب الحياة السياسية والاقتصادية ، التي ظل يلتزم فيها بنظرية (التقية والانتظار) .
وكان فقيه كبير آخر هو الشيخ جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلي ( - 826) المعاصر لهذه الدولة (المشعشعية) قد التزم أيضا بنظرية (الانتظار) في معظم أبواب الفقه ، ما عدا الحدود التي قال بصورة ضعيفة : بإمكانية إقامة الفقهاء لها في (عصر الغيبة) حيث قال: · قيل يقيم الفقهاء الحدود في زمان الغيبة ... و صلاة الجمعة التي قال :· ان الفقيه المأمون يجوز الإقتداء به في الجمعة كما ينفذ أحكامه حال الغيبة . 11
وبالرغم من مشاركة عدد من الفقهاء في السلطة وادارة الدولة المشعشعية كالسيد نور الله بن محمد شاه المرعشي التستري والقاضي عبد الله بن الخواجة حسين التستري ، إلا انه لا يوجد لدينا أي دليل على ارتباط الدولة أو قيامها على أتساس نظرية (النيابة العامة) التي لم تكن قد تحولت بعد آلي نظرية سياسية .(1/10)
ش المبحث الثاني
نظرية : (النيابة الملكية )
بينما كانت نظرية (النيابة العامة) تنمو ببطء وبصورة جزئية ومحدودة ، على أيدي علماء الحلة وجبل عامل في القرن السابع والثامن الهجريين ، كان الواقع الشيعي السياسي يتطور بعيدا عن الفكر السياسي الامامي.. حيث انفجرت ثورة (السربدارية) في نيسابور / خراسان ، وأقامت دولة دامت خمسين عاما من سنة 738ه آلي سنة 782ه - كما رأينا في الصفحات الماضية ، كما قام الشيعة بتأسيس دولة لهم في مازندران وخوزستان وجنوب العراق .
ثم انفجرت حركة جديدة في تبريز على أيدي الصفويين - وهم حركة صوفية تركمانية تحولت آلي التشيع - بقيادة شاب صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ، اسمه:( اسماعيل بن صفي الدين بن حيدر ) الذي أعلن قيام الدولة الصفوية في مطلع القرن العاشر الهجري سنة 907 ه ، في تبريز ، وكان يعتبر (قطبا) في الحركة الصوفية ، وقد ورث هذا اللقب عن أبيه ، كما كان شيخ تكية ويتمتع بمنزلة روحية بين أتباعه ، خاصة وانه ينتمي آلي السلالة العلوية . والانتماء آلي أهل البيت يحتل مكانة مميزة عند الصوفية .
وبالرغم من التطور الكبير الذي كان قد حصل في نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الأمام المهدي) في مجال الخمس والزكاة والحدود وصلاة الجمعة ، إلا انها - حتى ذلك التاريخ - لم تكن قد تبلورت بعد كنظرية سياسية متكاملة بديلة عن نظرية (الإمامة الإلهية) ولازمتها (الانتظار) بحيث تستطيع ان تبادر آلي تفجير الثورة وإقامة الدولة في (عصر الغيبة) وذلك لاشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الأمام (الرئيس) وعدم جواز تولي غير (الأمام المعصوم) لمقاليد السلطة في البلاد حسب النظرية (الامامية ) القديمة .. ومن هنا كانت نظرية (الانتظار) تفرض نفسها على الفقهاء الشيعة الامامية الاثني عشرية ، وتشل حركتهم وتمنعهم من العمل والتحرك السياسي.(1/1)
وعندما أراد الصفويون التحرك العسكري لإقامة دولة خاصة بهم.. وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعية ، وتشكل حجر عثرة امام طموحهم وتحركهم.. وبالرغم من انهم كانوا منذ فترة قد أعلنوا التمسك بالمذهب الامامي الاثني عشري ، إلا انهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية (الإمامة الإلهية) التي تشترط العصمة والنص في الأمام ، وحولوها آلي نظرية تاريخية ، ورفضوها عمليا .. حيث أجازوا لزعمائهم وهم غير معصومين ولا منصوص عليهم من الله ، ان يستولوا على الملك ويقوموا بمهام الإمامة تماما كما فعل الامويون والعباسيون والعثمانيون . و لم يصعب عليهم الالتفاف على نظرية الانتظار وتجاوزها.
واختلفت تجربة الدولة الصفوية في مرحلتها الأولى (أيام الشاه اسماعيل بن صفي الدين) عن التجارب السياسية الشيعية السابقة كالدولة البويهية والسربدارية والمرعشية والمشعشعية ، في ان هذه التجارب كانت دولا سياسية بحتة ، أي غير أيديولوجية ، بينما حاولت الدولة الصفوية تقديم نفسها كدولة عقائدية ومرتبطة بالأئمة الاثني عشر بصورة روحية غيبية . وكانت تشكل تطورا انقلابياً في الفكر السياسي الشيعي ، نقل الشيعة من نظرية الانتظار السلبية الانعزالية آلي سدة الحكم والسلطنة.
وقد طور الشاه اسماعيل ، أو تطور على يديه ، فكر سياسي جديد حاول الالتفاف على فكر (التقية والانتظار) فادعى ذات يوم انه اخذ إجازة من (صاحب الزمان : المهدي المنتظر ) بالثورة والخروج ضد أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران ، وبينما كان ذات يوم مع مجموعة من رفقائه الصوفية خارجين للصيد في منطقة تبريز ، مروا بنهر ، فطالبهم بالتوقف عنده وعبر هو النهر بمفرده ودخل كهفا .. ثم خرج متقلدا بسيف ، واخبر رفقاءه انه شاهد في الكهف ( صاحب الزمان ) وانه قال له: · لقد حان وقت الخروج وانه امسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض وشد حزامه بيده ووضع خنجرا في حزامه وقال له:· اذهب فقد رخصتك . 1(1/2)
وادعى بعد ذلك انه شاهد الأمام علي بن أبى طالب (ع) في المنام وانه حثه على القيام وإعلان الدولة الشيعية وقال له بالحرف الواحد :· ابني .. لا تدع القلق يشوش أفكارك .. احضر (القزلباشية) - وهم مليشيا الصوفية - مع اسلحتهم الكاملة آلي المسجد ( في تبريز) وأمرهم ان يحاصروا الناس .. وإذا أبدى هؤلاء أية معارضة أثناء الخطبة باسم أهل البيت فان الجنود ينهون الأمر . 2
وهكذا فعل الشاب اسماعيل بن صفي الدين (قطب الصوفية ) حيث احضر (القزلباشية) وحاصر جامع تبريز ذات جمعة وأعلن سيادة المذهب الامامي الاثني عشري ، وقيام الدولة الصفوية ، وذلك بناء على دعويين: دعوى الوكالة الخاصة عن الأمام المهدي ، ودعوى رؤية الأمام علي في المنام .
وقد أتاحت هاتان الدعويان للحركة الصوفية الصفوية ان تتحرر من نظرية (التقية والانتظار) وتأسيس الدولة الصفوية (الشيعية الاثني عشرية) .
يقول راجر سيوري في :(إيران في العصر الصفوي) :· اعتمد الصفويون على فكرة الحق الإلهي للملوك الايرانيين قبل الإسلام منذ سبعة آلاف سنة ، وذلك بوراثة هذا الحق باعتبارهم · سادة وان جدهم الأمام الحسين بن علي قد تزوج بنت يزدجرد فأولدها الأمام زين العابدين ، فاجتمع الحقان : حق أهل البيت في الخلافة (حسب النظرية الامامية) وحق الملوك الايرانيين فيهم ، بالاضافة آلي نيابة الأمام المهدي . 3
وبناء على ذلك فقد كان الشاه اسماعيل يعتبر نفسه · نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثني عشر وممثل الأمام المهدي في غيبته وكان جنود (القزلباش) الصوفية يعتقدون : انه تجسيد لله . 4(1/3)
وتقول بعض الروايات الصوفية : ان أحد شيوخ الصوفية وهو الشيخ زاهد الكيلاني ، قد تنبأ من قبل بظهور الشاه اسماعيل ، وقال لجده (صفي الدين) الذي زوجه ابنته :· السلام عليك يا ولدي سيد صدر الدين مشيرا بذلك آلي حفيده الذي ادعى ان قد رآه قبل ان يولد ، وأعطى علائمه وتنبأ قائلا :· ان أولاد هذا الزعيم سيملكون العالم ، ويترقون يوما بعد يوم آلي زمان القائم المهدي المنتظر) . 5
وقد انتشرت هذه العقيدة الغيبية بين متصوفة الصفويين الذين أقاموا الدولة الصفوية ، واعتقدوا انها ستدوم حتى ظهور (المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري) ولكنها اهتزت بعد هزيمة الشاه اسماعيل في موقعة (جالدران) مع السلطان العثماني سليمان القانوني عام 920ه / 1512م ، حيث بدأ (القزلباش) يتخلون عن الاعتقاد الغالي به انه موجود الهي أو نصف الهي أو انه ظل الله في الأرض ، ويخرجون على سلطته ويتقاتلون فيما بينهم . 6
وقد ساعدت الأرضية الصوفية للحركة الصفوية : الشاه اسماعيل على ادعاء الكشف والارتباط الشخصي بالأئمة المعصومين وأخذ التعليمات المباشرة منهم ، وهو ما أعطاه سلطة دينية ودنيوية مطلقة . 7
وبالرغم من حدوث تطورات فكرية سياسية عديدة ، فقد ظلت نظرية الدولة الصفوية الأولى (نيابة السلاطين عن المهدي ) حاكمة ، بشكل أو بأخر ، آلي وقت طويل . وامتدت حتى ما بعد انهيار الدولة الصوفية .. ويذكر المؤرخون: ان الميرزا عبد الحسين ملا باشي (رئيس العلماء) أيام نادر شاه قد عارض هذا الأخير الذي جاء بعد انقراض الدولة الصفوية وقال:· ان الشرعية مع السلالة الصفوية المتمثلة في ( طهماسب ميرزا ) أو ولده (عباس ميرزا) فقتله نادر شاه . 8(1/4)
وقد قامت بعض الحكومات اللاحقة في إيران باسم الصفويين ولم يعلن (كريم خان زند) الذي سيطر على إيران نفسه ملكا على البلاد ، بل :· صغيرا من آل الصفوي وحاول (القاجاريون ) البحث عن رابط دموي مع عائلة الصفوية ، واراد الشاه الأول في تلك السلالة :(فتح علي شاه) ان يعلن نفسه شاها (صفويا) لرابطة القرابة معهم ، ولكن رؤساء القاجار منعوه . 9
ومن الجدير بالذكر ان الملوك الصفويين لم يكونوا يلتزمون بصورة عامة - ما عدا بعضهم - بالشريعة الإسلامية واحكام الدين الحنيف ، فكانوا يشربون الخمر ويمارسون التعذيب والقتل العشوائي ويرتكبون المحرمات كما يحلو لهم. وكان حكمهم لا يختلف عن أي حكم ديكتاتوري طغياني فاسد . 10
وقد غطت الدولة الصفوية على تناقضها الكبير هذا ، وانقلابها على التشيع ، بجملة طقوس وشعارات متطرفة أساءت آلي الشيعة والتشيع عبر التاريخ .. كسب الخلفاء الثلاثة على المنابر وفي الشوارع ، وهو منهج مناقض لسيرة أهل البيت (ع) واخلاق الشيعة الجعفرية ، وإقحام الشهادة الثالثة ( اشهد ان عليا ولي الله) في الأذان ، وهو عمل كان بعض المتطرفين الغلاة في القرن الرابع الهجري قد حاول تنفيذه ، ولكن العلماء الشيعة الامامية رفضوه بشدة واعتبروه بدعة محرمة . كما يقول الشيخ الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) . وكذلك التطرف في إحياء الشعائر الحسينية من العزاء واللطم والاعلام والأبواق وصنع (التربة) للسجود في الصلاة.
وكان أسوأ عمل قام به الصفويون هو إجبار الناس على التحول بالقوة آلي المذهب (الاثني عشري) وقتل الألوف من الناس والعلماء من المذاهب الأخرى .. الأمر الذي أدى آلي ردة فعل عنيفة من قبل الدولة العثمانية وإبادة الكثير من الشيعة هنا وهناك ، والتسبب في تمزيق الوحدة الإسلامية وزرع الأحقاد الطائفية بين الشيعة والسنة منذ ذلك الحين آلي اليوم.(1/5)
لقد كان التشيع قبلئذ.. منهجا ثوريا و نظرية سياسية تختلف مع الآخرين حول النظام الدستوري للمسلمين ، وان الخلافة بالشورى أو بالوراثة لهذا البيت الهاشمي أو ذاك.. ولم يكن التشيع أبدا فكرا طائفيا يعادي أبناء الأمة ، أو يشكل دائرة منعزلة ضيقة في مقابل دائرة الأمة الإسلامية الواسعة.. بل كان تيارا سياسيا فقهيا في قلب الأمة، فجاء الصفويون وجردوا التشيع من روحه العلوية الحسينية الجعفرية ومسخوه آلي عقدة طائفية مستعصية ومعادية للمسلمين.
وكان الصفويون بعد ذلك ابعد الناس عن أخلاق أهل البيت (ع) في الزهد والحلم والتواضع ، إذ كانوا يتصارعون فيما بينهم ويقتل بعضهم بعضا من اجل السلطة.. وكان كثير من ملوكهم يقتلون أولادهم وإخوانهم وأرحامهم ويقتلعون عيونهم ويمثلون بهم في صراعهم من اجل السلطة ، وفي الحقيقة ربما كانوا اسوء من الامويين والعباسيين والحكام الظلمة الذين سبقوهم أو لحقوهم ..
ولا زال الشيعة آلي اليوم يدفعون ثمن سياساتهم الخاطئة ويعانون من البدع التي ادخلوها في الثقافة الشيعية الشعبية .
ولسنا بصدد دراسة تاريخ الصفويين.. وإنما أردنا الإشارة آلي دور الحركة الصفوية في تطور الفكر السياسي الشيعي ، والقول : بأن بروز التجربة الصفوية كان نتيجة الفراغ السياسي الذي كان يهيمن على الشيعة في ظل نظرية الانتظار السلبية الانعزالية ، في تلك الأيام ، واستغلال الشاه اسماعيل لنظرية (الأمام المهدي الغائب ) في اخذ الشرعية لنظامه الاستبدادي المطلق المناقض لروح التشيع . فعندما يجمد الفكر ويتحجر العلماء وينامون على أفكار خاطئة كنظرية الانتظار ، فانه لا بد ان يأتي من يرفض تلك الأفكار ، وإذا لم يجد امامه الفكر السليم فانه قد يلجأ آلي إنتاج أفكار خاطئة أخرى ، قد تكون أشد خطورة من الأفكار السابقة.. وهكذا كانت الأيديولوجية الصفوية أشد خطورة من نظرية الانتظار.(1/6)
بالرغم من كل ذلك.. فقد استهوت التجربة الصفوية ، في بدايتها : الشيعة المضطهدين في العراق وجبل عامل والبحرين ، وذهب العلماء بالخصوص ، ليدعموا تأسيس الدولة ·الشيعية الوليدة.. وعندما شاهدوا الواقع الصفوي السلطوي الظالم والمخادع انكفأ بعضهم راجعا آلي (النجف) وأنكر على الشاه اسماعيل دعاوى (النيابة الخاصة عن الأمام المهدي).
الكركي يجيز الملوك
وكان أحد هؤلاء العلماء هو الشيخ المحقق علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (جبل عامل) الذي ذهب آلي إيران وعاد منها سنة 916 ه وجلس في الحوزة العلمية في النجف ليطور نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الأمام المهدي) التي كانت حتى ذلك الحين نظرية جزئية محدودة غير سياسية .. يطورها آلي نظرية سياسية متقدمة ، متأثرا بقيام الدولة الصفوية وزوال ظروف التقية ، فقال في (جامع المقاصد):· ان الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الأمام (المهدي) ولهذا تمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس . 11
وجزم بأن للفقهاء حال الغيبة (غيبة الأمام المهدي) إقامة الحدود ، (12) وأجاز للفقيه الجامع للشرائط تولي القتل والجرح إذا تطلبهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . (13)
ومدّ صلاحيات الفقيه من الحدود والقضاء آلي صلاة الجمعة ، وقال مستنكرا:· لا يقال : الفقيه منصوب للحكم والإفتاء ، والصلاة أمر خارج عنهما ، لأنا نقول: ان هذا في غاية السقوط ، لأن الفقيه منصوب من قبلهم (ع) حاكما كما نطقت به الأخبار... ومن هنا فقد رفض فعل الجمعة في (الغيبة) بدون حضور الفقيه الجامع للشرائط . 14(1/7)
وألّف المحقق الكركي ، لأول مرة في التاريخ الشيعي في (عصر الغيبة) رسالة في تحليل الخراج أسماها :( قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج ) وقال فيها:· ثبت بطريق أهل البيت : ان ارض العراق ونحوها مما فتح عنوة بالسيف لا يملكها مالك خاص بل للمسلمين قاطبة ، يؤخذ منها الخراج والمقاسمة ويصرف في مصارفه التي بها رواج الدين بأمر امام الحق من أهل البيت ، كما وقع في أيام أمير المؤمنين. وفي حال غيبته (عليه السلام) قد إذن أئمتنا (ع) لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور . 15
وقد عزز المحقق في فتاواه هذه موقع العلماء في الدولة الصفوية ، وسلب من الصفويين الشرعية الدستورية ، بعد ان حصرها بيد الفقهاء الأمناء (نواب الأمام المهدي العامين) رافضا الاعتراف بادعاءات الشاه اسماعيل بالنيابة الخاصة المزعومة عن طريق اللقاء السري بالإمام المهدي أو الأمام علي في المنام ، دون ان يصرح بذلك .
وفيما كان المحقق الكركي يقبع في النجف الاشرف منطويا على الشرعية الدستورية متسلحا بنظرية (النيابة العامة) كان الشاه اسماعيل يمضي في حكمه بمنطق القوة غير آبه يقول الكركي ، ليموت بعد ثلاثة وعشرين عاما من الحكم المطلق في سنة 930 ه ويخلف ولده طهماسب البالغ من العمر عشر سنين وريثا على العرش . وهذا ما تسبب في تفجر صراعات داخلية بين أقطاب الصوفية (القزلباشية ) مما أدى آلي أضعاف موقعهم المعنوي وانهيار شرعيتهم (الثورية)..
وعندما نضج طهماسب واصبح في التاسعة عشرة من عمره قرر ان يستعين بالفقهاء (نواب الأمام المهدي العامين) لكي يعزز من شرعيته الدستورية ، ويضرب (القزلباشية) المتصارعين حول السلطة ، فاستدعى الشيخ علي الكركي من النجف الاشرف وكتب إليه في نهاية عام 939 ه رسالة تعبر عن التزامه بنظرية (النيابة العامة ) جاء فيها:
- · ... آلي من اختص برتبة أئمة الهدى (ع) في هذا الزمان ... نائب الأمام ...(1/8)
بهمة عالية ونية صادقة نأمر جميع السادات العظام والأكابر والأشراف الفخام والأمراء والوزراء وجميع أركان الدولة ان يقتدوا بالمشار إليه ويجعلوه امامهم ويطيعوه في جميع الأمور ، وينقادوا له ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ، ويعزل كل من يعزله من المتصدين للأمور الشرعية في الدولة والجيش ، وينصب كل من ينصبه ، ولا يحتاج في العزل والنصب آلي أي وثيقة أخرى . 16
واصدر الشاه طهماسب فرمانا عاما بهذه الصورة:
· بسم الله الرحمن الرحيم ...
بما ان مؤدى حقيقة حديث الأمام الصادق (ع) الذي يقول فيه (انظروا آلي من كان قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكم فمن لم يقبله منه فانما بحكم الله استخف وعلينا رد وهو راد على الله وهو على حد الشرك بالله ) فان مخالفة حكم المجتهدين حفظة شرع سيد المرسلين بدرجة الشرك ، لذا فان مخالفة خاتم المجتهدين وارث علوم سيد المرسلين نائب الأئمة المعصومين لا زال كاسمه العلي عليا عاليا ، وعدم متابعته يعتبر ملعونا بكل تأكيد ومطرودا من الدولة ومحاسبا ومعاقبا .
كتبه
طهماسب بن شاه اسماعيل
الصفوي الموسوي
يقول السيد نعمة الله الجزائري في صدر كتابه (شرح غوالي اللئاليء):· لما قدم الشيخ الكركي آلي اصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل طهماسب مكّنه من الملك والسلطان وقال له: انت أحق بالملك لأنك النائب عن الأمام ، وإنما أكون من عمالك ، أقوم بأوامرك ونواهيك وقد أعطى الكركي الشاه طهماسب إجازة لحكم البلاد بالوكالة عن نفسه باعتباره نائبا عن الأمام المهدي ، ولقبه الشاه بنائب الأمام وعينه (شيخا للإسلام) .
ولكن الشيخ الكركي لم يهنأ بمنصبه طويلا حيث توفي في نفس السنة (940ه ) وقيل انه مات مسموما من قبل بعض أمراء (القزلباشية) الذين لم يوافقوا على تعيينه في ذلك المنصب الكبير . 17(1/9)
وبرغم هذا التطور الكبير العملي والنظري في الفكر السياسي الشيعي ، فان المحقق الكركي لم يتخلص تماما من شوائب نظرية (التقية والانتظار) ولم يؤمن بشرعية الدولة الصفوية الحائزة على إجازته كفقيه (نائب للإمام) ، بصورة تامة ، وكأنها دولة (الأمام المعصوم) . ولذلك لم يوجب دفع الزكاة إليها أو آلي الفقيه ، وإنما قال بدفعها آلي الفقيه استحبابا . واسقط سهم المؤلفة قلوبهم والساعي والغازي حال (الغيبة ) إلا مع الحاجة آلي الجهاد . 18
وقال في (الخمس) بالتخيير بين صرف سهم الأمام أو حفظه آلي حين ظهوره . (المصدر)
ولم يفت بوجوب صلاة الجمعة بصورة عينية ، وإنما أجاز للفقهاء إقامتها باعتبارهم (نوابا عامين عن الأمام المهدي) كما لم يفت بجواز الجهاد في (عصر الغيبة) واشترط الإذن الخاص من الأمام المعصوم ، ولم يطور نظرية (النيابة العامة) لكي تشمل جميع أبواب الحياة المعطلة في (عصر الغيبة) .
وإضافة آلي ذلك فان نظرية ( النيابة العامة ) لم تأخذ طريقها بسهولة بين عامة الناس وأركان الدولة الصفوية أصحاب الطريقة الصوفية ، ولذلك فقد تخلى عنها الشاه اسماعيل الثاني بن طهماسب بعد وفاة أبيه ، وابتعد عن العلماء الذين اتهمهم باللعب بأبيه وقلّص نفوذهم فاتهموه بالميل آلي التسنن . 19
نظرية ( الملكية المستقلة )(1/10)
كما تخلى عنها بعض الفقهاء الذين كانوا يشعرون بالحاجة الماسة آلي إقامة الدولة في (عصر الغيبة) ولم يكونوا يؤمنون بقوة بنظرية (النيابة العامة) كالسيد محمد باقر السبزواري ( 1018 - 1090 ه ) الذي قام بخطوة ثورية جدا عندما دعى لتأسيس الملكية المستقلة بعيدا عن نظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) وذلك على ضوء الحاجة الماسّة لإقامة الدولة الإسلامية في (عصر الغيبة) وحاول الالتفاف على نظرية الغيبة والانتظار التي تشترط العصمة والنص في الأمام فقال في :(روضة الأنوار):· لا يخلو زمان من حجة ، ولكن في بعض الأوقات يغيب عن أبصار الناس لأسباب ومصالح ، ولكن العالم ليس بعيدا عن ألطافه وبركاته... ونحن الآن في هذه الدورة من الغيبة إذا لا يوجد سلطان عادل وقوي يدير العالم ويحكمه ، فان الأمور تنتهي آلي الفوضى والهرج والمرج وتصبح الحياة غير قابلة للتحمل بالنسبة لكل شخص ، لذلك لا بد للناس من الخضوع تحت سيطرة ملك يحكم بالعدل ويتبع سيرة وسنة الأمام .وان وظائف هذا الملك عبارة عن:
1 1- اتباع سيرة وسنة الأمام .
2- دفع شر الظالمين.
3- حفظ الرعية أمانة الله القادر المتعال.
4- حفظ كل مواطن بوضعه المناسب.
5- حماية المؤمنين من غلبة الكفار والمرتدين.
6- اشاعة ونشر كلام الشريعة .
7- تقوية المؤمنين والمتدينين.
8- الاجتناب عن أموال الرعية وما يملكون.
9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
10- حفظ أمن الشوارع والحدود. 20
وقد استخدم السبزواري مقولة المتكلمين الاماميين الأولى العقلية وهي :(عدم جواز خلو الأرض من امام ) بمعنى الرئيس أو الملك ، ولما لم يجد امامه إمكانية لاشتراط العصمة أو النص أو السلالة العلوية الحسينية في هذا (الأمام أو الملك أو الرئيس المعاصر) فلم يشترط فيه شيئا من ذلك..(1/11)
وفي خضم هذا الصراع بين التيارات المختلفة وبين الواقع والفكر .. كان بعض الملوك الصفويين والقاجاريين يستميلون الفقهاء · نواب الأمام المهدي ويأخذون منهم إجازات للحكم باسمهم ، وقد اصبح بعض العلماء كالعلامة المجلسي (صاحب موسوعة بحار الأنوار) وزيرا لبعض الملوك .
ومع ذلك فان نظرية (إجازة الملوك ) أو التحالف بين الفقهاء والملوك لم تمنح نظام الحكم الشرعية الكاملة ، حيث ظل الفقهاء يعتبرون الملوك غاصبين لحق الإمامة الخاص بالأئمة المعصومين المعينين من قبل الله تعالى ، وظل عامة الفقهاء حتى الذين تعاونوا مع الدولة متأثرين بنظرية :( التقية و الانتظار) في عدة جوانب . وهذا ما أدى لاحقاً آلي تطورات مختلفة لدى الفقهاء والملوك من اجل تطوير الفكر السياسي وحل · عقدة الشرعية المزمنة في الفكر السياسي الشيعي في ظل : (الغيبة) .(1/12)
المبحث الثالث:
نظرية ( المرجعية الدينية )
لقي تحالف الشيخ الكركي مع الدولة الصفوية معارضة شديدة من قبل عدد كبير من العلماء كالشهيد الثاني والمقدس الاردبيلي والشيخ إبراهيم القطيفي والملا محمد أمين الاسترابادي والملا محمد طاهر القمي ، وغيرهم من الفقهاء ، وذلك لأن نظرية (النيابة العامة) لم تكن قد تطورت لتحل محل نظرية:(الإمامة الإلهية) وإنما كانت لا تزال محدودة وجزئية ، وتقتصر على الفتيا وتنفيذ بعض الأمور الاجتماعية والاقتصادية والعبادية.
وبالرغم من ان الشهيد الثاني ( 911 - 966) كان قد تقدم في مجال صلاة الجمعة وقال بوجوبها دون حاجة آلي استئذان الأمام في عصر الغيبة ، وانتقد المحقق الكركي على تردده بإيابها واكتفائه بالقول بجوازها مع الفقيه .. وبالرغم من انه قد قال بقوة بنظرية :(النيابة العامة) في مجال القضاء والحدود ، حيث اعتبر · الفقيه منصوبا من قبل الأمام عموما ... ومن ثم تمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس .. . إلا انه لم يبح للفقيه استلام الخمس وخاصة سهم الأمام ، كما لم يتحدث عن الجهاد ولا إقامة الدولة في (عصر الغيبة) . ومع انه تعاون مع الدولة العثمانية واستلم إدارة المدرسة النورية في بعلبك وذهب آلي اسطنبول عام 951 ، إلا انه لم يعترف بالدولة الصفوية ورفض زيارة إيران .(1/1)
اما المقدس الاردبيلي ( - 993) الذي كان يقول بنظرية (النيابة العامة) ويميل آلي جواز القتل والجرح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا إذن من الأمام ، ويجيز إقامة المجتهد للحدود ، ويفتي بالوجوب العيني في صلاة الجمعة بلا حاجة لاستئذان الأمام ، ويقول بأولوية دفع الزكاة آلي الفقيه استحبابا .. فانه لم يكن يؤمن بالنيابة العامة آلي درجة إقامة الدولة في (عصر الغيبة) ، ولذا رفض التوجه آلي إيران بالرغم من إلحاح سلاطينها عليه وتعظيمهم له ، وقد عارض الشيخ الكركي في حلية الخراج ، وكتب في تحريمه :(شرح الإرشاد) ولم يكن يرى جواز الجهاد بغير إذن الأمام الخاص في (عصر الغيبة) .
وبالرغم من ان الشيخ بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد ( 953 - 1031) قد اصبح (شيخ الإسلام) في اصفهان زمان الشاه عباس الكبير ، إلا انه لم يكن يعتقد بشرعية الدولة الصفوية وبصلاحية الفقيه لتطبيق الحدود في (عصر الغيبة) بصورة مطلقة ، بحيث تؤدي آلي الجرح أو القتل . 1
وهكذا كان الشيخ محمد باقر المجلسي ( 1037 - 1111) الذي اصبح في مطلع القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام بدار السلطنة الصفوية اصفهان ، ورئيسا فيها بالرئاستين الدينية والدنيوية ، وإماما في الجمعة والجماعة ، وارجع السلطان الشاه سليمان أمور المسلمين واحكام الشرع إليه ، ولكنه لم يتخل نهائيا عن نظرية (التقية والانتظار) ولم يتصدَ لبعض الأبواب المجمدة في عصر الغيبة كالجهاد مثلا .
وبعد حوالي قرن من إقامة الدولة الصفوية والتحالف بين الفقهاء والملوك تراجع السيد محمد علي الطباطبائي ( - 1009) عن نظرية (النيابة العامة) وشكك في ثبوتها ، ولم يتحدث عنها إلا في باب الخمس على تردد . 2(1/2)
ومع ان السبزواري ( 1018 - 1090) اعتبر الفقيه نائبا عاما عن الأمام المهدي ، إلا انه تردد بين إعطائه سهم الأمام من الخمس وبين حفظه آلي يوم ظهوره ، ونقل قول المشهور باستحباب حمل الزكاة آلي الفقيه في زمان الغيبة كما في : ( ذخيرة العباد) (3) و (كفاية الأحكام) (4) وهذا ما يدل على ان نظريته في (النيابة العامة ) كانت مقتصرة على الخمس والزكاة ، ولا تشمل سائر الأبواب الحيوية السياسية ، بالرغم من شعوره بالحاجة الماسة لتنصيب ملوك لإدارة الشؤون العامة في (عصر الغيبة) .
و كان الفكر السياسي الشيعي في القرن الثالث عشر الهجري يتذبذب بين نظريتي : الانتظار ، والنيابة العامة ، ولذا فقد قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( - 1227) بنيابة الفقيه العامة عن الإمام المهدي في إقامة الحدود والتعزيرات ، وأجاز له إقامتها في زمان الغيبة واوجب على جميع المكلفين تقويته ومساعدته ومنع المتغلب عليه مع الإمكان ، وامر بتولي المحتهد لسهم الإمام من الخمس في حال الغيبة ، وقال باستحباب نقل الزكاة إليه ، وقام بإعطاء الشاه القاجاري (فتح علي ) إجازة للحكم باسمه باعتباره (نائبا عن الإمام) ولكنه اشترط إذن الإمام أو نائبه الخاص في الجهاد ، وحرم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة .
وكذلك فعل الشيخ محمد حسن النجفي ( - 1266) في :(جواهر الكلام) حيث وسع نظرية :(النيابة العامة) إلى درجة قريبة من (الإمامة ( وقال:· ان المراد من قولهم :· اني قد جعلته عليكم حاكما ونحو ذلك ، مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم ، ولذا جزم فيما سمعته من (المراسم) بتفويضهم (ع) لهم في ذلك . 5(1/3)
وقال بصراحة:· ان إطلاق أدلة حكومته خصوصا رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (ع) يصيره من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم ، نعم من المعلوم اختصاصه في كل ما له من الشرع مدخلية حكما أو موضوعا ، ودعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية توليه كثير من الأمور التي لا ترجع إلى الأحكام كحفظه لمال الأطفال والمجانين والغائبين . ويمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء ، فانهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه المؤيد بمسيس الحاجة إلى ذلك اشد من مسيسها في الأحكام الشرعية . 6
واوجب دفع الزكاة إلى الفقيه لو طلبها في عصر الغيبة · لأنه نائب الإمام كالساعي ، بل أقوى منه لنيابته عنه في جميع ما كان للإمام ، والساعي إنما هو وكيل للإمام في عمل مخصوص . كما ارجع الخمس في زمان الغيبة إلى :· من إليه الحكم بحق النيابة التي جعلها الشارع خاصة في أمثال ذلك . 7
ولكن صاحب الجواهر استثنى مسألة الجهاد وإقامة الدولة في عصر الغيبة ، وأكد · عدم إذن الأئمة بها وببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجة الشيعة إليها في عصر الغيبة ، لأنها تحتاج إلى سلطان وجيوش وامراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد عنها في عصر الغيبة وربط بين إمكانية تحقق ذلك وبين حتمية ظهور الإمام المهدي وقيام دولة الحق . 8
ومن الواضح انه كان يبني موقفه في تحديد نظرية (النيابة العامة ) على أرضية (التقية والانتظار) وفلسفة غيبة الإمام المهدي بسبب الخوف وعدم استطاعة القيام ، وحتمية الظهور عند زوال أسباب الغيبة ، و هذا ما دفعه إلى الاستنتاج من استمرار الغيبة وعدم ظهور الإمام : استمرار عوامل العجز والضعف عن إقامة دولة الحق ، وقصور اليد عنها في عصر الغيبة ، وإلا لظهر الإمام المهدي الغائب . ومن هنا فانه لم يكن يجد مجالا للقول بالنيابة العامة السياسية والحلول محل (الإمام) .(1/4)
ومنذ ذلك الحين والى اليوم ظل العلماء يتأرجحون بين نظرية الانتظار والنيابة العامة ، ويمارسون أدوارا اجتماعية وشبه سياسية فيما عرف باسم (المرجعية الدينية) التي لا تصل إلى مستوى (الولاية العامة) . وربما كان السيد كاظم اليزدي ( - 1337ه /1919م) افضل نموذج للمرجعية الدينية التي تكتفي بإصدار الأحكام الشرعية والقيام ببعض الأعمال الاجتماعية ، حيث أكد اليزدي في (العروة الوثقى) على نظرية (النيابة العامة) ولكن في مجال الخمس فقط ، فقال:· النصف من الخمس الذي للإمام (عليه السلام) أمره في زمان الغيبة راجع إلى نائبه ، وهو المجتهد الجامع للشرائط ، فلا بد من الإيصال إليه أو الدفع إلى المستحقين بإذنه . واما النصف الآخر الذي للأصناف الثلاثة فيجوز للمالك دفعه إليهم بنفسه ، لكن الاحوط فيه أيضا الدفع إلى المجتهد أو بإذنه ، لأنه اعرف بمواقعه والمرجحات التي ينبغي ملاحظتها . 9
ولكن اليزدي لم يتحدث عن الحدود أو الجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو صلاة الجمعة أو إقامة الدولة وما شابه من الأمور السياسية الحيوية ، ويبدو انه لم يكن يعتقد بجواز قيام الفقيه بها نيابة عن (الإمام المهدي ) في (عصر الغيبة).(1/5)
المبحث الرابع:
الحركة الإخبارية
أدى قيام الدولة الصفوية ، في القرن العاشر الهجري ، وتطوير نظرية (النيابة العامة للفقهاء) إلى نظرية سياسية على يدي المحقق الكركي الذي فتح الباب امام الفقهاء الشيعة لمنح الملوك الصفويين ومن ثم القاجاريين في إيران (إجازة شرعية ) والحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل ).. أدى ذلك إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في المجتمع الشيعي الامامي الاثني عشري.. وهو ما عرف بالصراع الاخباري - الأصولي ، الذي امتد عدة قرون.
لم يكن هذا الصراع يدور حول أمر جزئي بسيط.. إنما كان يتعلق بأمر أساسي يدخل في موضوع الهوية العقائدية.. وكان في حقيقته صراعا بين المحافظين والمجددين.. بين الخط الامامي المتمسك بنظرية (الانتظار) بالتحديد ، وبين الخط الشيعي المتحرر من شروط الإمامة المتصلبة كالعصمة والنص ، والمتحرر من نظرية (الانتظار) .
كان الفكر الامامي يعطي للإمام مهمتين رئيسيتين هما :
1 - التشريع في المسائل الحادثة التي لا توجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة ، ويرفض اللجوء إلى الاجتهاد الذي يعتبره نوعا من الظن غير الجائز في الدين.. ويشترط الحصول على العلم ، و يقول: ان الإمام المعصوم يحصل عليه من الله مباشرة بطريقة أو بأخرى.
2 - تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الدين ، وقيادة المسلمين .
وكان الفكر الامامي يحصر مهمة الإمامة في (الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله) ولا يجيز لأي شخص غيرهم ان يقوم بشيء من ذلك.. ولذا فقد كان من الطبيعي والضروري ان يؤدي الفكر الامامي إلى حتمية افتراض وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) و القول بانتظاره ، وتحريم العمل السياسي في (عصر الغيبة) .(1/1)
ومن هنا قال الشيخ محمد بن أبى زينب النعماني :· ان أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره ، لا من خلقه ولا باختيارهم ، فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ، وَرَدَ مورد الظالمين والمنافقين الحالّين في ناره . 1
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قبة:· ان الخلافة والإمامة لا بد ان تثبت بالنص في كل زمان.. لأن النص ان وجب في زمن وجب في كل زمان ، لأن العلل الموجبة له موجودة أبدا . 2
وقال الشيخ محمد بن علي الصدوق في (الاعتقادات ) :· لا قائم غير المهدي وان طالت الغيبة بعمر الدنيا ، لأن النبي أشار إلى اسمه ونسبه وبشّر به (3) وقال في الباب 39 :· التقية واجبة وتركها لا يجوز حتى خروج القائم ، ومن يتركها قبل خروج القائم فانه خارج من دين الامامية ومخالف لله والرسول والأئمة وقال في كتاب (الهداية):· التقية واجبة علينا في دولة الظالمين ، فمن تركها فقد خالف دين الامامية وفارقه.. وهي واجبة لا يجوز تركها إلى ان يخرج القائم فمن تركها فقد دخل في نهي الله ونهي رسوله والأئمة.. ويجب الاعتقاد: ان حجة الله في أرضه وخليفته على عباده في زماننا هذا هو القائم المنتظر ابن الحسن.. ويجب ان يعتقد انه لا يجوز ان يكون القائم غيره بقي في غيبته ما بقي ، ولو بقي عمر الدنيا لم يكن القائم غيره . 4
ومن يطلع على الفكر الكلامي الفلسفي للمفيد والمرتضى والطوسي والعلامة الحلي وغيرهم .. يجد بوضوح موقف الرفض التام لقيام أية سلطة بعيدا عن قيادة الإمام المعصوم .
وعندما اضطر بعض العلماء ، في القرن الخامس الهجري ،كالمفيد والمرتضى والطوسي إلى فتح باب الاجتهاد في (عصر الغيبة) اعتبر الاخباريون (أو الاماميون القدماء ) اللجوء إلى الاجتهاد خروجا عن الخط الامامي لأنه يهدم ركنا رئيسيا من أركان نظرية الإمامة التي تشترط العلم الإلهي في أحكام الدين ، وتحصر عملية التشريع والإفتاء
في (الإمام المعصوم العالم من الله) .(1/2)
وقد عادت الحركة الإخبارية في منتصف أيام الدولة الصفوية ، على يدي الشيخ محمد أمين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) لتدعو إلى التمسك الشديد بالأخبار ، ورفض التطورات التي تمت تحت ظل العقل والأصول ، ومن هنا فقد كانت ترفض عملية (الاجتهاد) و (المجتهدين) وتعتبر ذلك بدعة في الدين ، وترفض تقسيم الأمة إلى مجتهدين ومقلدين ، وكانت بالتالي ترفض الاعتراف بأية ولاية (للفقهاء) الذين تعتبرهم منحرفين عن خط أخبار أهل البيت (ع) كما ترفض عملية (التقليد) ولا تجيزه إلا للأئمة المعصومين . 5
و قد شنَّ الميرزا محمد أمين الاسترابادي في :(الفوائد المدنية ص 40) حملة شعواء ضد أنصار المدرسة الاجتهادية الأصولية التي راجت في الدولة الصفوية وقال:· ان الروايات التي ذكرها قدماء أصحابنا الاخباريين كالشيخين الأعلمين الصدوقين والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، كما صرح به في أوائل كتاب (الكافي) وكما نطق به في : باب حرمة الاجتهاد والتقليد ، وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة (ع) المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم .
وقال :· الصواب عندي مذهب قدمائنا الاخباريين وطريقتهم.. اما مذهبهم فهو: ان كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى ، حتى ارش الخدش ، وان كثيرا مما جاء به (ص) من الأحكام وما يتعلق بكتاب الله أو سنة نبيه (ص) من نسخ أو تقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (ع) وان القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية ، وكذلك كثير من السنن النبوية ، وانه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام النظرية الشرعية ، أصلية كانت أو فرعية ، إلا السماع من الصادقين (عليهما السلام) وانه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السنن النبوية ، ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام) بل يجب التوقف والاحتياط فيهما.(1/3)
وان المجتهد في نفس أحكامه تعالى ان اخطأ كذب على الله وافترى ، وان أصابه لم يؤجر ، وانه لا يجوز القضاء ولا الإفتاء إلا بقطع ويقين ، ومع فقده يجب التوقف ، وان اليقين المعتبر فيهما قسمان: يقين متعلق بأن هذا حكم الله في الواقع ، ويقين متعلق بأن هذا ورد عن معصوم ، فانهم (عليهم السلام) جوزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم (عليه السلام) وان كان وروده في الواقع من باب (التقية) ولم يحصل لنا منه ظن بما هو حكم الله تعالى في الواقع ، والمقدمة الثانية متواترة معنى عنهم . 6
وعندما قام العلماء المتأخرون كالمحقق الكركي بالقول بنظرية (النيابة العامة السياسية) اعتبر الاخباريون (أو بالأحرى : الاماميون) العمل السياسي وإقامة الدولة وممارسة مهامها اغتصابا لسلطات وصلاحيات(الإمام المعصوم) وتهديما للركن الثاني الأساسي من أركان نظرية (الإمامة الإلهية) وهو (التنفيذ) .
لقد كانت معارضة الاخباريين مرتكزة على قاعدة نظرية الإمامة التي تحرم التشريع والتنفيذ خارج دائرة (الإمام المعصوم) وكان الاخباريون يعتبرون (المجتهدين ) وأصحاب نظرية ( النيابة العامة أو ولاية الفقيه) خارجين من دين الإمامة حسبما يقول الشيخ الصدوق..(1/4)
وقد استعرضنا في فصل ماض بعض أقوال الاخباريين الرافضين للتطور السياسي الذي حصل مع قيام الدولة الصفوية.. على قاعدة الالتزام بنظرية الإمامة ، حيث قال الفاضل الهندي :· الإمامة (في صلاة الجمعة) من مناصب الإمام ، فلا يتصرف فيه أحد ، ولا ينوب منابه فيه إلا بإذنه ، ضرورة من الدين والعقل والإجماع . ومن المفيد هنا استعادة رأي الميرزا محمد تقي الاصفهاني ( توفي 1348ه ) الرافض لأية محاولة سياسية من قبل الفقهاء · لاغتصاب منصب الإمامة ، حيث يقول في :(مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم) :· لا يجوز مبايعة غير النبي والإمام.. إذ لو بايع غيره جعل له شريكا في المنصب الذي اختصه الله تعالى به ونازع الله في خيرته وسلطانه ، قال تعالى :( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقد ورد في تفسير قوله تعالى (ولقد اوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) روايات بأن المراد : لئن أشركت في الولاية غير علي .
وقد تبين من ذكرنا عدم جواز مبايعة أحد من الناس من العلماء وغيرهم لا بالاستقلال ولا بعنوان نيابتهم عن الإمام في زمن الغيبة ، لما قدمناه آنفا من ان ذلك من خصائصه ولوازم رياسته العامة وولايته المطلقة وسلطنته الكلية ، فان بيعته بيعة الله . 7
وأضاف:· ويدل على عدم جوازه مضافا إلى ما عرفت من كونه من خصائص الإمام وكون أمور الشرع توقيفية ما روي في البحار (8) و (مرآة الأنوار) عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) انه قال : ( يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة ، لعن الله المبايع بها والمبايع له) وهذا كما ترى صريح في عدم جواز مبايعة غير الإمام من غير فرق بين كون المبايع له فقيها أو غير فقيه ، ومن غير فرق بين ان يكون البيعة لنفسه أو بعنوان النيابة عن الإمام . 9(1/5)
وقال الاصفهاني:· ويؤيد ما ذكرنا من كون المبايعة بالمعنى المذكور من خصائص الإمام ولوازم رياسته العامة وولايته المطلقة وعدم جواز ه لغيره ، أمور:
منها: انه لم يعهد ولم ينقل في زمان أحد من الأئمة تداول المبايعة بين أصحابهم.
ومنها: انه لم يرد منهم (ع) إذن في مبايعة غيرهم من أصحابهم بنيابتهم.
ومنها : عدم معهودية ذلك في ألسنة العلماء ولا في كتبهم ، ولم ينقل في آدابهم وأحوالهم وأفعالهم ، بل لم يكن معهودا في سائر المؤمنين من زمن الأئمة إلى زماننا ان يبايعوا أحدا بعنوان ان بيعته بيعة الإمام.
ومنها : ما تقدم من المجلسي في (البحار) (10) بعد ذكر دعاء تجديد العهد والبيعة في زمان الغيبة ، انه قال:· وجدت في بعض الكتب القديمة بعد ذلك :( ويصفق بيده اليمنى على اليسرى) فانظر كيف جوّز ان يصفق بيده على يده ، ولم يجوّز مصافقة الغير . 11
واستنتج الاصفهاني صاحب (مكيال المكارم):· أقول : فمن جميع ما ذكرنا وغيره يحصل الجزم بأن المبايعة من خصائص النبي والإمام ولا يجوز لأحد التصدي لذلك إلا من جعله النبي أو الإمام نائبا له في ذلك .
فان قلتَ : بناءً على القول بثبوت الولاية العامة للفقيه يمكن ان يقال: بأن الفقهاء خلفاء الإمام ونوابه ، فيجوز لهم أخذ البيعة من الناس نيابة عن الإمام ويجوز للناس مبايعتهم.
قلتُ : اما أولا: فالولاية العامة غير ثابتة للفقيه، واما ثانياً: فانما هي فيما لم يكن مختصا بالنبي والإمام ، وقد ظهر من الروايات - دليلا وتأييدا - اختصاص المبايعة بهما ، فليس للنائب العام نيابة في هذا المقام. وهذا نظير الجهاد حيث انه لا يجوز إلا في زمان حضور الإمام وبإذنه ، اما في مثل زماننا هذا فجواز المبايعة على وجه المصافقة مما دليل له، فهي من البدع المحرمة التي توجب اللعنة والندامة . 12(1/6)
وقد انتشرت الحركة الإخبارية في القرن الثاني عشر ، وكان على رأسها الملا اسماعيل الخواجوئي الاصفهاني ( - 1197) والشيخ يوسف البحراني (- 1186) والشيخ محمد رفيع الكيلاني وآقا محمد بيد آبادي ( - 1197)
وقد تصدى لها السيد محمد باقر البهباني ( 1117 - 1208) الذي كان يدرس في كر بلاء في العراق ، وأفتى بكفر الاخباريين ، وسجل انتصارا كبيرا للمدرسة الأصولية التي استمرت في تلاميذه .
وعندما قامت الدولة القاجارية في إيران في مطلع القرن الثالث عشر الهجري ، وجاء فتح علي شاه ، تأرجحت الدولة (الشيعية) بين علماء المدرسة الأصولية بزعامة الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( -1228) والسيد محمد المجاهد ( - 1242) وعلماء المدرسة الإخبارية بزعامة الميرزا جمال الدين محمد الاخباري ( - 1232) والشيخ احمد زين الدين الاحسائي ( - 1241) .
وقد استغل الميرزا محمد الاخباري ضعف الشاه القاجاري فتح علي في صراعه مع الروس الذين كانوا يجتاحون شمال إيران في تلك الأيام ، فتعهد له بأن يأتي له برأس قائد الجيوش الروسية ( سيسيانيف) خلال أربعين يوما ، بصورة غيبية ، بشرط ان يعلن المذهب الاخباري مذهبا رسميا للدولة القاجارية ويلغي المذهب الأصولي ، فوافق الشاه ، ووفى الميرزا بوعده ، فدخل على الشاه ذات يوم وهو يحمل رأس القائد الروسي ، الذي كان حاكم لنكران - وهو أحد اتباع الميرزا - قد اقتطعه بعد ان خلا بالقائد الروسي ، ولكن الشاه خاف على ملكه وشعر ان من الصعب تغيير مذهب الناس في بدو ملك العائلة القاجارية ، فأعطاه أموالا وسفره إلى العراق . 13(1/7)
وكان الوعد الذي أعطاه الشاه فتح علي للميرزا محمد الاخباري بمناصرة مذهبه قد أثار المرجع الأصولي في النجف الاشرف الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، فسارع إلى تأليف كتابه الذي اشتهر باسمه :( كشف الغطاء عن معايب ميرزا محمد عدو العلماء ) واهداه إلى الشاه القاجاري ، وأجاز له ان يحكم بالوكالة عنه باعتباره ·نائبا عاما عن الإمام المهدي . إلا ان ميول الشاه فتح علي إلى الاخباريين لم تنقطع بتسفير الميرزا الاخباري إلى العراق ، فقد أقام رابطة أخرى أقوى مع الشيخ احمد زين الدين الاحسائي ، واستدعاه إلى طهران ، وكتب له رسالة يشير فيها إلى انه يعتقد بوجوب طاعة الشيخ وحرمة مخالفته ، ويعتذر من استدعائه . 14
وهذا ما دفع الشيخ كاشف الغطاء إلى ان يبادر إلى السفر إلى طهران والدخول على الشاه لتوثيق العلاقة معه ، والمحافظة على ارتباطه بنظرية (النيابة العامة) التي كان يرفضها الاخباريون ، ولكن الشاه رفض استقبال كاشف الغطاء كما رفض ان يزوره الشيخ في قصره ، ولم يجد الشيخ بدا من اقتحام القصر فاضطر الشاه لاستقباله مكرها . 15
ومن حسن حظ الأصوليين ان الشيخ احمد الاحسائي لم يوافق على الإقامة في طهران داعما للشاه ، نظرا للهوة السحيقة بين هذا الأخير وبين الرعية ، ومع ذلك فان الشاه القاجاري ظل يمد الشيخ الاحسائي بأموال كثيرة ويحاول ان يقوي من شعبيته. 16
ونتيجة لذلك الصراع بين الأصوليين والاخباريين للهيمنة على الدولة القاجارية وكسب ولائها ، فقد اصدر عدد من العلماء الأصوليين كالشيخ محمد تقي البرغاني والملا آقا دربندي وابراهيم بن سيد محمد باقر ، والميرزا احمد المجتهد فتاوى بتكفير الشيخ الاحسائي ، بسبب بعض نظرياته العقائدية حول المعاد والأئمة (ع) . وقد تبعهم اكثر فقهاء العصر الأصوليين . 17(1/8)
ويقال: ان الشيخ الاحسائي الذي كان يرفض (الاجتهاد) كان يدعي العلم عن طريق المكاشفة والشهود ، ويقال: انه ادعى انه شاهد في المنام الأئمة الاثني عشر مجتمعين ، فتعلق بأذيال الإمام الحسن (ع) وسأله ان يعلمه شيئا يحل به المشاكل التي تعترضه والأمور الغامضة التي يجهلها ويرى أحد الأئمة في المنام وقت ما يشاء حتى يسأله فيجيبه - بناء على الحديث الذي يقول: (من رآنا فقد رآنا ) - فعلمه الإمام أبياتا من الشعر ، لكنه نسيها عندما استيقظ ، وتأسف لذلك ، ثم شاهد المنظر في الليلة التالية وحفظ الأشعار.. وكان يقرأها كلما أراد ان يشاهد أحد الأئمة ويجالسه ويسائله ، ويحل عبره المشاكل والغامض. 18
وإذا صحت هذه الرواية فأنها تدل على محاولة الشيخ الاحسائي الاخباري فتح نافذة مباشرة على (الائمة المعصومين) لانتاج بديل عن (الاجتهاد) وعن نظرية (النيابة العامة) التي كان قد تعلق بها بعض الأصوليين ، واختلاق نظرية جديدة أقوى تأثيرا واوضح في إقامة العلاقة مع الأئمة وملأ الفراغ القيادي في (عصر الغيبة) .
ومع سقوط الشيخ احمد زين الدين الاحسائي نتيجة لتكفير العلماء له ، وعجزه عن تشكيل بديل عن نظرية (النيابة العامة) كان على الشاه القاجاري ان يبحث له عن غطاء شرعي لدولته الجديدة في ظل التحريم الذي تقول به نظرية (التقية والانتظار) ، ولذا كان يعلن الإخلاص والمحبة لمرجع ذلك الزمان الذي أعقب الشيخ كاشف الغطاء ، وهو السيد محمد المجاهد ، ويدعي الطاعة له في جميع الأمور . 19(1/9)
ولكن دعواه تلك لم تكن تتمتع بأي دليل ، وكان الشك يدور حولها ، وقد تجلى ذلك عندما أعلن السيد المجاهد :(الجهاد) على الروس ، بعد احتلالهم لأجزاء من أذربيجان ، وقاد الحرب بنفسه ، ووجد الشاه فتح علي نفسه مجبرا على مسايرة المرجع الديني في الدفاع عن إيران ، ولكن عندما انهزم الجيش الإيراني في تلك الحرب انقلب عليه الشاه وألقي باللوم عليه ، واخذ أعوانه يستهزئون به فمات في طريق العودة في قزوين سنة 1242ه . 20
التحول نحو الصوفية
وعندما تولى الشاه محمد بن فتح علي قاجار ، السلطة بعد أبيه ابتعد عن عامة العلماء الاخباريين والأصوليين ، ولم · يقلد واحدا منهم ، حسبما كان متعارفا في ذلك الحين ، واتجه نحو الصوفية الذين كانوا يعتقدون انهم ممثلو الشيعة الواقعيين ، وانهم مرتبطون بعلم الأئمة اللدني ، ويمثلون الجانب الباطني من الحقائق الصوفية ، ويشككون في فتاوى العلماء المتناقضة ، ويقولون:· ان الإسلام كامل ولا يحتاج إلى العلماء ، وإذا لم يكن كذلك فانه يعني ان الله يحتاج إلى مساعد ، أو ان النبي غفل عن نشره وتبيانه ، وهذا يدل على عدم الإيمان بالله والرسول ويرفضون بناء على ذلك أي تدخل من العلماء في الأمور · الدنيوية ويعتبرون ذلك خطرا على الدين .
ولهذا عين الشاه محمد أستاذه (الحاجي ميرزا آقاسي ) الصوفي وزيرا له ، وكان يعتقد بأنه :· قطب الشريعة والطريقة الإلهية ، وانه على علاقة دائمة ومباشرة مع الله ، وانه موجود خارق للعادة ، وكان ينظر إليه بمثابة المرجع . 21
وكان يزور بتأثير أستاذه (الحاجي) بقاع فريد الدين العطار والشيخ محمود الشبستري ، كما كان يزور المزارات الصوفية في كرمان ونائين وبسطام ، وأوقف أراضي كثيرة لمقبرة الشاه نعمت الله ولي في ماهان ، وأوكل إلى الصوفية الوظائف الحكومية والمهمات الرسمية .(1/10)
وقد كان الشاه محمد يدعم أيضا : الشيخ الإخباري احمد زين الدين الاحسائي ، الذي لم تكن أحاديثه عن الكشف والإلهام ، ودعواه بعدم احتياجه لعلم الرجال لمعرفة الأحاديث الصحيحة من الكاذبة ، بعيدة عن أجواء الصوفية وآرائهم وشطحا تهم .
الشيخية ونظرية الركن الرابع
ونتيجة لذلك التفاعل بين الصوفية والاخبارية (آراء الاحسائي بالخصوص) ولدت حركة جديدة قادها الشيخ محمد كريم خان قاجار ، أحد أركان العائلة الحاكمة القاجارية ، وتلميذ السيد كاظم الرشتي تلميذ الشيخ الاحسائي ، والذي كان يدعي الاجتهاد ويمارس الإفتاء و يسيطر على كرمان ، وكانت تلك الحركة تعرف بالشيخية أو الكشفية أو الناطقية ، وهي تقول بضرورة وجود : (الركن الرابع ) بالاضافة إلى ثلاثية وجود : (الله والرسول والإمام ) وان الركن الرابع هو : (الحاج محمد كريم خان) . 22
وكانت هذه الحركة توجب اتباع شخص واحد في كل زمان يطلق عليه (الشيعي الخالص) وتزعم انه · مرآة صفات الإمام وان معرفة ذلك الشخص هو الركن الرابع للإيمان . 23
ويقول الدكتور اسماعيل نوري علاء :· ان نظرية الركن الرابع أبدعها الشيخ احمد الاحسائي في عهد فتح علي شاه القاجاري ، بدعوى استمرارية الفيض واللطف الإلهي في عهد الغيبة ، وواصل تلميذه السيد كاظم الرشتي تطوير النظرية . 24
وقد كانت هذه الحركة تجمع إلى تلك النظريات نظرية (النيابة العامة) أيضا .. وقد سميت بالكشفية نسبة إلى الكشف والإلهام الذي كان يدعيه الشيخ احمد الاحسائي ، وسميت بالناطقة ، لأنها كانت تقول بضرورة نطق واحد من الفقهاء في كل عصر هو الشيخ أو الركن الرابع ، وعدم جواز قيام كل الفقهاء بالنطق معا .. كما لا يجوز للأئمة المعصومين النطق جميعا في وقت واحد ، وضرورة قيام واحد منهم بالنطق والتصدي للإمامة .(1/11)
ويبدو ان هذه النظرية المتأثرة بالحركة الإخبارية ، كانت تحاول تطوير نظرية (النيابة العامة) التي اخذ يمارسها كل فقيه أو متفقه حسبما يشاء ومن دون تنسيق مع بقية الفقهاء ، وانها كانت تحاول حصر الجانب السياسي في شخص واحد وتحريم القيادة إلا له .
الحركة البابية
وقد تطورت الحركة الشيخية الإخبارية وتشعبت إلى فرقة جديدة أخرى هي :(البابية) التي قادها زميل لمحمد كريم خان ، وتلميذ للسيد كاظم الرشتي ، هو المير علي محمد الشيرازي ، حيث اخذ هذا يدعي انه نائب الإمام المهدي المنتظر (محمد بن الحسن العسكري) الخاص وانه (باب امام الزمان) .
وقد كتب (الباب) علي محمد الشيرازي رسالة إلى الشاه إلى الشاه محمد بن فتح علي ليجلب تأييده ، خصوصا وانه كان يعيش أزمة مع العلماء الأصوليين ، وقد تبعه معظم اتباع الحركة الشيخية في شيراز ومازندران ومشهد وزنجان وتبريز وعموم إيران ، لأن انتظار الإمام المهدي كان أحد مفاهيم الشيخية والشيعة الاثني عشرية عموما ، فتطورت فكرتهم إلى ( البابية ) .
وكان الشيخية يعتقدون :· ان الإمام المهدي الغائب منذ اكثر من ألف عام يعيش في جسم هورقليائي ، وهو جسم لطيف بين المادة والروح ، كالبرزخ أو الحد الفاصل بين العالم المحسوس وعالم الغيب الواقع في الإقليم الثاني وفوق فلك أطلس كما يقول الشيخ احمد الاحسائي . 25
وكانت الحركة ( البابية ) تلتقي مع (الشيخية) في نظرية (الركن الرابع) ونظرية (الشيعي الكامل) وهو الواسطة بين الأمة والإمام . 26
ولكن الحركة الشيخية التي رأت في (البابية) منافسا خطرا لها وعليها ، اضطرت إلى محاربتها ، واصدر الحاجي محمد كريم خان فتوى بكفر (الباب) وكفّر أتباعه ، وألّف رسالة في كفر (البابية) وقدمها لناصر الدين شاه القاجاري .(1/12)
وقد تطورت الحركة (البابية) بعد ذلك فادعى علي محمد الشيرازي : انه المهدي المنتظر منذ ألف سنة ، وذلك بناء على نظرية الشيخ الاحسائي بحياة المهدي في الجسم الهورقليائي اللطيف ، وحلوله في جسم (الباب) .
وبالرغم مما يقال من وجود أصابع أجنبية في تأليف هذه الحركة الخطيرة ، فان مما يلاحظ: تعاملها مع الهم الشيعي الكبير في (عصر الغيبة) ألا وهو موضوع القيادة السياسية في ظل انتظار (الإمام المهدي) ومحاولة تكوين بديل عن حالة :(التقية والانتظار) باختلاق أسطورة (النيابة الخاصة) أو ادعاء المهدوية ، من اجل ضرب الخط المنافس الذي كان يتمثل في العلماء الأصوليين الذين كانوا يؤمنون بنظرية : (النيابة العامة) عن الإمام المهدي في (عصر الغيبة) والالتفاف عليهم ، ولذلك فقد شنّ العلماء (الاصوليون) حملة كبرى ضد (الباب) والحركة البابية واتهموها بالكفر ومخالفة الشرع المقدس ، وطالبوا بإعدام ( الباب) وقد نجحوا في مطلبهم هذا ، وتم إعدام (الباب) في 27 شعبان 1266 ه /1850م في تبريز . 27
بقعة صاحب الزمان في تبريز(1/13)
ومن الجدير بالذكر ان انتصار العلماء الأصوليين على الحركة البابية وإعدام زعيمها في تبريز قد أثار موجة من الاشاعات لتعزيز نظرية العلماء بالنيابة العامة ، واخذ بعض الناس يدعون مشاهدة ( الإمام المهدي ) في مقبرة وسط تبريز ، وظهوره عدة مرات هناك . وفي تلك الأيام انتشرت اشاعة تقول : ان قصابا كان يذهب ببقرة إلى المذبح ، ففرت منه والتجأت إلى المقبرة ، وقد استطاع القصاب ان يسحبها مرتين ولكنه في المرة الثالثة مات من فوره . واقبل التبريزيون على قص شعر البقرة التي أصبحت مقدسة ، للتبرك به ، وتحولت المقبرة إلى مزار جماهيري عُرف ب : ( بقعة صاحب الزمان) واخذ الناس يقدمون الهدايا للبقرة والقناديل للمقبرة ، وكان من بينهم القنصل الإنجليزي الذي قدم المصابيح هدية للمقام ، وأفتى امام جمعة تبريز بقتل من يسكر أو يلعب القمار إلى جوار المقبرة ، كما أعفت الحكومة مدينة تبريز من الضرائب وأوامر الحكام . 28(1/14)
المبحث الخامس:
نظرية ولاية الفقيه
بعد تطوير المحقق الكركي لنظرية (النيابة العامة) إلى مرحلة سياسية متقدمة ، واعطائه الشاه طهماسب بن اسماعيل وكالة للحكم باسم (نائب الإمام : الفقيه العادل). استمرت نظرية (نيابة الفقهاء العامة) في أداء دورها السياسي إلى جانب الملوك الصفويين ، ونظريتهم الخاصة (النيابة الملكية) بصورة عامة.. وان كانت في بعض الاحيان تشهد تراجعا لدى العلماء الذين ينكفئون إلى نظرية (التقية والانتظار) أو الملوك الذين يتمردون على هيمنة العلماء.. وانتقلت إلى العهد القاجاري..
ومع ان انهيار الدولة الصفوية في القرن الثاني عشر الهجري أدى إلى استفحال المد الاخباري ، وانتشار القول بنظرية الانتظار وحرمة الاجتهاد والتقليد وإقامة صلاة الجمعة ، فان القرن الثالث عشر الهجري شهد انتعاش المد الأصولي وقيام العلماء هنا وهناك بتطبيق الحدود وممارسة القضاء والإفتاء وتولي أمور الرعية والتصرف في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء وتقسيم الخمس والزكوات وممارسة مهمات الحكومة الأخرى. 1(1/1)
وهذا ما دل على تطور نظرية (النيابة العامة) من إجازة الملوك إلى تصدي الفقهاء بأنفسهم للحكم ، وتجاوز نظرية (الانتظار) والتخلي عنها تماما.. الأمر الذي دفع الشيخ احمد بن محمد مهدي النراقي (توفي 1245ه ) إلى تأليف كتاب:(عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام) وطرح النظرية في إطار جديد وشامل اكثر تطورا ، تحت عنوان :(ولاية الفقيه) وليس تحت العنوان السابق :(النيابة العامة) القائمة على قاعدة نظرية (الغيبة والانتظار) ، حيث نظر النراقي إلى واقع قيام الفقهاء بتشكيل حكومات لا مركزية في بلاد شيعية واسعة مما ينفي أدنى مبرر لاستمرار نظرية (التقية والانتظار) أو القول المحدود الاستثنائي بقيام الفقهاء بتغطية بعض الجوانب الجزئية من الحياة ، وبحث مشكلة الإمامة أو السلطة و الولاية العامة وضرورتها في (عصر الغيبة) وذلك على نفس الأسس الفلسفية والمبادئ التي توجب (الإمامة ) للأئمة المعصومين . 2
ولم يتوقف النراقي وهو يؤسس لشرعية (ولاية الفقيه الكبرى) التي تضاهي الإمامة العامة الكبرى ، عند شروط :(العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية) التي أدت بالأجيال الشيعية الامامية الأولى ، وخاصة بعد الحيرة التي أعقبت وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ظاهر ، إلى القول بفرضية وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) ثم أدت بهم إلى القول بنظرية (التقية والانتظار) التي كانت تحرم الثورة والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة وتبيح الخمس والزكاة والأنفال وما إلى ذلك في (عصر الغيبة) .(1/2)
وقام النراقي بإعطاء الفقهاء منصب (الإمامة الكبرى) ومسئولياتها العامة ، وقال بصراحة :· كلما كان للنبي والإمام فيه الولاية ، وكان لهم ، فللفقيه أيضا ذلك ، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما وقال:· ان كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولا بد من الإتيان به ولا مفر منه ، اما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور العباد والمعاش لواحد أو جماعة عليه ، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به ، أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم ، أو دليل آخر.. أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعينٍ واحد أو جماعة ولا لغير معين ، أي واحد لا بعينه ، بل عُلمَ لا بدية الإتيان به أو الإذن فيه ، ولم يُعلم المأمور ولا المأذون فيه .. فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به . 3
وقال:· انه مما لا شك فيه: ان كل أمر كان كذلك لا بد وان ينصب الشارع الرءوف الحكيم عليه والياً وقيّماً ومتولياً.. والمفروض عدم دليل على نصب معين أو واحد لا بعينه أو جماعة غير الفقيه ، واما الفقيه فقد ورد في حقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة وهي كافية في دلالتها على كونه منصوبا منه .
وان بعد ثبوت جواز التولي منه وعدم إمكان القول بأنه يمكن ان لا يكون لهذا الأمر من يقوم له ولا متولٍ له نقول: ان كل من يمكن ان يكون وليا متوليا لذلك ويحتمل ثبوت الولاية له يدخل فيه الفقيه قطعا من المسلمين أو العدول أو الثقاة ، ولا عكس .
وأيضا.. كل من يجوز ان يقال بولايته يتضمن الفقيه ، وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمنا لثبوت ولاية الغير سيما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيين وافضلهم والأمين والخليفة والمرجع فيكون جواز توليته يقينيا والباقون مشكوك فيهم ، فينفي ولايتهم وجواز تصرفهم . 4(1/3)
واستدل النراقي على جواز الولاية للفقهاء وحصرها فيهم بالأخبار والإجماع والضرورة والعقل ، وقدم أولا شطرا من الأخبار الواردة في حق العلماء من قبيل:( العلماء ورثة الأنبياء) و ( اللهم ارحم خلفائي... الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنتي) وحديث الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا الذي ذكره الصدوق في (علل الشرائع) حول أهمية الإمامة (الرئاسة) وضرورتها ، وان الإمام هو القيّم والأمين والرئيس وولي الأمر . 5
كما ذكر الأحاديث التي تؤكد على عدم ترك الله للأرض خالية إلا وفيها عالم يعرف الناس حلالهم وحرامهم ولئلا يلتبس عليهم أمورهم . ونفى ان يكون المقصود منها (الإمام المهدي) وقال:· ان الحجة والعالم الواردة في الروايات لا يحملان على الإمام المعصوم الغائب ، لأنه لا يعرّف الناس مسائلهم ولا يدعوهم إلى سبيل الله ولا يبيّن لهم أمورهم . 6
واستنبط النراقي من تلك الأخبار: بديهة أن للفقيه كل ما كان للنبي في أمور الرعية وما يتعلق بأمته ، وقال: ان اكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين المستدل بها في مقام إثبات الولاية والإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية ، ليس متضمنا لأكثر من ذلك.. . 7
وذكر اختلاف الفقهاء حول ثبوت ولاية الحدود والتعزيرات للفقيه في زمن الغيبة ، وقال : ·ان الحق ثبوتها .. وان الفقهاء هم الحكام في زمان الغيبة والنواب من الأئمة (المصدر)
واستدل على ذلك بما مضى من الروايات والقواعد ، وأضاف إليها الاطلاقات المستفادة من مثل قوله تعالى (فاقطعوا) أو قوله :( فاجلدوا) ونحوها ، مع إمكانية الخدشة فيها بعدم معلومية شمول تلك الخطابات لمثل الفقهاء .
وكذلك استدل ب : (الإجماع المركب) : من عدم جواز ترك الحدود وإهمالها ، ومسئولية الأمة في تنفيذها ، على ثبوت هذه الولاية للفقهاء أيضا.(1/4)
وادعى النراقي ثبوت ولاية الفقيه على أموال اليتامى بالضرورة والإجماع والأخبار المستفيضة الدالة على ان الشارع لم يدع شيئا مما يحتاج إليه الأمة إلا بينه لهم ، ومنه الولاية على أموال الأيتام. 8
تطوير نظرية الإمامة
لقد كانت نظرية الشيخ النراقي تتألف من قسمين هما: أولا : ضرورة الإمامة في عصر الغيبة ، وثانيا: حصر الإمامة في الفقهاء.. وبغض النظر عن مناقشة القسم الثاني ، فان القسم الأول من نظريته يرفض القبول بنظرية (الغيبة) وفائدة الإمام الغائب كإمام ، ويحتم استمرار الإمامة .. ويؤكد الحاجة الملحة لوجود الإمام الحجة العالم المعلم الهادي والداعي إلى سبيل الله بصورة ظاهرةٍ حيويةٍ متفاعلة مع الأمة .
ولما كانت نظرية (الإمامة) أو (وجود الإمام الثاني عشر الغائب) تعجز عن تلبية حاجة الأمة المستمرة للإمام فان النراقي يتخلى مضطرا عن اشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية في الإمام ، ويأتي بكل أدلة ضرورة الإمامة التي كان يستخدمها المتكلمون الاماميون الأوائل ومن ضمنها حديث الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا ، الذي يتحدث عن ضرورة الإمامة والعصمة ، فيأخذ النراقي الشطر الأول ويلغي (العصمة) ويكتفي بشرط الفقاهة والعدالة.
ويعتمد النراقي كثيرا على الأدلة العقلية الاطلاقات العامة التي تحتم إقامة الدولة بصورة مستقلة ، وليس بالضرورة : بالنيابة العامة عن الإمام المهدي.. إذ ان قيام الفقهاء بمهام الإمامة الكبرى - ولو بالنيابة - يتناقض مع اشتراط العصمة والنص في الإمام ، خاصة مع انتفاء ظروف التقية والخوف التي تجبر الإمام على الاختباء .(1/5)
ومن هنا تعتبر نظرية النراقي حول (ولاية الفقيه) تطورا جذريا في الفكر الشيعي السياسي نحو التحرر من نظرية (الإمامة الإلهية ) اكثر من التحرر من نظرية :(التقية والانتظار) .. وإذا كانت نظرية :(ولاية الفقيه) قد تعرضت منذ ذلك الحين إلى مناقشات حامية من قبل عدد من العلماء والمحققين ، فأنها نجحت في طرح موضوع (الإمامة ) على بساط البحث ، وجاء العلماء من بعد ذلك ليبحثوا المسألة في ضوء الحاجة الماسة والمستمرة إلى الإمامة والقيادة العامة في (عصر غيبة الإمام الذي لا يقوم بمهام الإمامة ) . ومع ان الشيخ محمد حسن النجفي ( توفي سنة 1266ه ) ، صاحب (جواهر الكلام) لم يقل بنظرية (ولاية الفقيه) إلى حد تأسيس الدولة وتجييش الجيوش ، إلا انه اعترف بحاجة الشيعة في هذا العصر إلى (ولي للأمر ) وقال: · ان المراد من قولهم:( اني قد جعلته عليكم حاكما) ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم ، ولذا جزم فيما سمعته من (المراسم) بتفويضهم (ع) لهم في ذلك وقال بصراحة:· ان إطلاق أدلة حكومته خصوصا رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (ع) يصيره (الفقيه) من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم ... . 9(1/6)
وقال الشيخ رضا الهمداني ( - 1310) في :(مصباح الفقيه) في معرض تأييده لنظرية ولاية الفقيه التي أسماها ب :(القائمقامية ) :· ان الذي يظهر بالتدبر في (التوقيع) المروي عن امام العصر (عج) الذي هو عمدة دليل النصب: إنما هو إقامة الفقيه المتمسك برواياتهم مقامه بإرجاع عوام الشيعة إليه في كل ما يكون مرجعا فيه كي لا يبقى شيعته متحيرين في أزمنة الغيبة . ومن تدبر في هذا (التوقيع) الشريف يرى انه (ع) قد أراد بهذا التوقيع إتمام الحجة على شيعته في زمان غيبته بجعل الرواة حجة عليهم لا يسع لأحد ان يتخطى عما فرضه إليه معتذرا بغيبة الإمام ، لا مجرد حجية قولهم في نقل الرواية أو الفتوى ... وملخص الكلام : دلالة هذا التوقيع على ثبوت منصب الرياسة والولاية للفقيه ، وكون الفقيه في زمان الغيبة بمنزلة الولاة المنصوبين من قبل السلاطين على رعاياهم في الرجوع إليه ، وإطاعته فيما شأنه الرجوع فيه إلى الرئيس ... . 10
وهكذا بنى الشيخ محمد حسن النائيني نظريته في (المشروطية ) على أساس استحالة التفاف الأمة حول الإمام المهدي المنتظر الغائب و عدم وجود الأئمة المعصومين ، وحاجة الأمة إلى قيادة مشروطة بمجلس منتخب منها .(1/7)
اما الإمام الخميني فقد مهد للقول بنظرية :(ولاية الفقيه) بضرورة الإمامة في عصر الغيبة ، وقال :· ان ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (ع) سيما مع هذه السنين المتمادية ، ولعلها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين، والعلم عنده تعالى وقال : · أية حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة)مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد؟ واستشهد بقول السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها المعروفة :( والطاعة نظاما للملة والإمامة لماً من الفرقة) كدليل على لزوم بقاء الولاية والرياسة العامة، وقال: ... أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة ، وان لم تجعل لشخص خاص ، لكن يجب بحسب العقل والنقل ان تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنها مما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي... والعلة متحققة في زمن الغيبة ، ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها . 11(1/8)
وقد انطلق السيد محمد رضا الكلبايكاني في إرساء قواعد (ولاية الفقيه) من الأدلة الفلسفية التي تحتم وجوب (الإمامة ) ، والواردة في رواية الفضل بن شاذان المنسوبة إلى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) والتي تقول:· انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا إلا بقيّم ورئيس لما لا بد منه في أمر الدين والدنيا .. وقال: · الظاهر منها ان عدة من الأمور مما لا بد منها في قوام الملة ونظم الرعية ، بحيث لولاها لاختل النظام وفسدت معيشة الأنام وكثرت الفتنة وازدادت الحيرة وانجذم حبل الدين والدنيا ، إذ ليست تلك الأمور مما يمكن صدوره من أي شخص وفرد ، بل لا بد في إجرائها من وجود الزعيم وحكم القيّم الذي له الولاية على الرعية والزعامة للامة ، ولهذا نرى في كل مجتمع ان طبقات الناس في منازعاتهم يرجعون في بدو الأمر إلى زعيمهم . 12
ولما كانت تلك الرواية تتحدث بعد ذلك عن ضرورة النص والتعيين من قبل الله تعالى للإمام ، فقد قال الكلبايكاني :· الرواية وان كانت وردت في علل الاحتياج إلى الإمام المنصوب من الله تعالى ، لكنه يستفاد منها حكم عام بملاك واحد ومناط جامع وهو ان الطبيعة البشرية والغرائز الحيوانية تقتضي وقوع الاختلاف والتزاحم والجدال والتنازع والتشاح ، وكذا تقتضي سلسلة من الأمور ، وتحققها في بقاء نظمهم وصيانتهم وحفظهم من النفاق والافتراق والشقاق وإلا لفسدت عيشتهم وضاقت معيشتهم . ولما كانت تلك الأمور مما لا يمكن تحققها ولا يصح صدورها من أي شخص وأي فرد فلا بد لهم من زعيم ورئيس وقيّم وحاكم وان لم يكن نبيا أو وصيا . 13(1/9)
ومع تشكيك السيد الكلبايكاني بشمول (ولاية الفقيه) للحدود وقوله بعدم الولاية التامة المطلقة ، إلا انه قال في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والتعزيرات :· ان ذلك مما لا ينبغي صدوره من كل شخص وفرد ولا يصح وقوعه من كل آمر وناهٍ ، ولا يصلح كل فرد من المسلمين ان يتصداه ويقدم عليه ، وإلا يزداد الفساد ويكثر النفاق والعناد ، فحينئذ لو قلنا بعدم الوجوب في تلك الأمور لاضمحلت آثار الدين واختلت أمور المسلمين واندرست الشريعة وضاقت المعيشة ، وان قلنا بجواز التصدي لكل فرد يلزم منه الفساد ، بل لا يوجد مرتدع ولا مزدجر ، فلا مناص من القول بأن المجتمع في هذا القسم من الأمور يحتاج إلى زعيم وقيّم له العظمة بين الناس والمهابة عندهم والشهامة لديهم . 14
وقد رفض الكلبايكاني بذلك نظرية (التقية والانتظار) وتخلى أيضا عن الشروط المثالية في الإمامة كالعصمة والنص ، وأكد ضرورة إقامة الدولة في ( عصر الغيبة ) . ومع انه حصر الحق في إقامة الدولة في (الفقهاء ) فقط ، إلا انه طرح نظرية (ولاية الفقيه) بصورة مستقلة واعتمادا على الأدلة العقلية العامة التي توجب إقامة الدولة وتطبيق أحكام الدين والأدلة النقلية التي تعتبر العلماء ورثة الأنبياء ، ولم يلتزم بنظرية (النيابة العامة) التي بنى كثير من الفقهاء نظريتهم السياسية عليها .(1/10)
الحركة الديموقراطية الإسلامية
بينما كان الفقهاء الشيعة الامامية في النصف الأخير من القرن الثاني عشر الهجري يتناقشون حول (ولاية الفقيه) وحدودها السياسية ، فيثبتها بعضهم كالنراقي ويرفضها بعض آخر كالشيخ مرتضى الانصاري ، كان الملوك القاجاريون يعززون من سلطتهم في إيران ويوسعون صلاحياتهم بلاحدود ، إلى حد ان الشاه ناصر الدين الذي حكم بلاد فارس بصورة مطلقة حوالي خمسين عاما ، منذ سنة 1264 ه / 1848م ، والذي وقع اتفاقية حصر بيع وشراء التنباك مع شركة بريطانية ، لم يستشر أحدا فيها ولم يأخذ رأي الشعب الإيراني ولا العلماء الذين كان يدعي الولاء لهم حسب التقليد (الصفوي - الكركي) المتبع الذي يوجب حصول الشاه على إجازة من (نائب الإمام ) حتى يصبح نظامه شرعيا .. وقد ضرب الشاه بعرض الحائط كل الاعتراضات والمطالبات الشعبية بإلغاء الاتفاقية الاستعمارية التي كانت تؤدي إلى هيمنة بريطانيا على 20% من الاقتصاد الإيراني .(1/1)
وإذا لم يكن العلماء قد حسموا رأيهم في نظرية (ولاية الفقيه) فانهم كانوا يحتلون موقعا قياديا روحيا عظيما في أوساط الشعب الإيراني والشيعة عموما حسب نظرية :(المرجعية والتقليد) حيث كان الشيعة ينظرون إلى (المرجع) : · نائبا للإمام المهدي ويحترمون فتاواه وأوامره وتعاليمه بدرجة فائقة . ولذا فقد لجأ الناس إلى مرجع ذلك العصر :(الميرزا محمد حسن الشيرازي) الذي كان يقطن مدينة سامراء في العراق ، فأفتى بحرمة التدخين واستعمال التنباك بأية صورة زراعة وشراء وبيعا وتدخينا وقال:· ان من يخالف هذا الحكم فكأنما يحارب الإمام المهدي المنتظر وذلك في سنة 1309ه / 1891م . وكان لفتواه هذه اثر كبير جدا في الشعب الإيراني الذي أطاعه بدقه تامة حتى زوجة الشاه والعاملين في القصر الملكي ، مما اضطر الشاه ناصر الدين إلى الخضوع وإلغاء امتياز الشركة البريطانية ، ودعوة العلماء إلى طهران والتعهد لهم بالاستشارة معهم في المستقبل في جميع الأمور . ( نقش روحانيت 293 - 303)
وكان بإمكان السيد الشيرازي ان يطور حركته إلى خطوة أخرى هي معالجة أزمة الحكم في إيران وعزل الملك (الموكل) من قبل العلماء (نواب الإمام المهدي) نتيجة لعصيانه ومخالفته لهم ، وتغيير طبيعة النظام الاستبدادي المطلق ، أو وضع دستور جديد يكفل للفقهاء الاشراف أو الهيمنة الكاملة على الدولة وسياساتها المختلفة. ولكن السيد الشيرازي لم يفعل أي شيء من ذلك .. لعدم إيمانه الكافي بنظرية :(ولاية الفقيه ) كأستاذه الشيخ مرتضى الانصاري الذي لم يكن يقول بها بقوة . و يبدو انه كان ينطلق في حركته من قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولم يكن يمتلك صورة واضحة عن الفكر السياسي الشيعي في (عصر الغيبة) فضلا عن الإيمان بنظرية :(ولاية الفقيه العامة) التي تجيز له الحكم بنفسه .(1/2)
وعلى أي حال ، فقد فتحت المواجهة بين العلماء والشعب الإيراني من جهة والملك القاجاري ناصر الدين شاه ( 1848م - 1896م) من جهة أخرى ، ملف شرعية الملكية المستبدة في إيران .
وقد انخرط علماء آخرون من المشاركين في حركة إسقاط التنباك ، في حركة جديدة متواصلة من اجل تطوير النظام السياسي الإيراني واصلاحه وبناء الديموقراطية وتحديد صلاحيات الملك المطلقة بمجلس شورى (برلمان) منتخب من الشعب ، وطالبوا ان يحكم الملك حكما دستوريا (مشروطا) بالبرلمان .
وقد قتل الشاه ناصر الدين بعد خمسة أعوام من سقوط الاتفاقية وذلك في سنة 1896 ، واستلم ابنه الشاه مظفر الدين الحكم بعد مقتله ، وواصل العلماء حركتهم الإصلاحية الديموقراطية ، وكان على رأسهم الشيخ فضل الله النوري والميرزا حسن الاشتياني والسيد عبد الحسين الشيرازي والشيخ كاظم الخراساني .
وبالرغم من الصراع العنيف الذي حدث بين مؤيدي (المشروطة) و(المستبد) ومؤيدي (مجلس الشورى الإسلامي) و (البرلمان الحر) فقد استطاع الجناح الديموقراطي الإسلامي بعد معركة طويلة ان ينتصر ويقيم أول مجلس برلماني دستوري في إيران سنة 1906م وقد جمع هذا الدستور بين الملكية والمرجعية والشعب .
لقد كانت الصيغة القديمة للنظام السياسي الشيعي تقوم على الاعتراف بشرعية الملوك (الشيعة) الذين يمتلكون أسباب القوة ، ومنحهم (إجازة عامة) من قبل الفقهاء (نواب الإمام المهدي) في مقابل الاعتراف بسلطة العلماء الدينية العليا . وعندما خرق (ناصر الدين شاه) أصول اللعبة ، وجد العلماء والمثقفون الفرصة مناسبة لوضع دستور جديد يعززون فيه من قبضة الشعب (علماء ومثقفون) على حركة الملوك ، من دون إلغاء تام لدورهم في الحياة.. وقد شكل ذلك تطورا في الفكر السياسي الشيعي الذي لم يكن قد وصل - شعبيا - بعد إلى مرحلة (ولاية الفقيه).(1/3)
كان الفكر السياسي الشيعي في هذه المرحلة واقعيا ومتطلعا نحو الأفضل في تعامله مع مسألة السلطة ، فبعد تخليه عن نظرية (الإمامة الإلهية) المثالية التي لم يكن لها وجود في الخارج ، ورفضه لوليدتها ولازمتها: نظرية (الانتظار للإمام الغائب) انطلق الفكر الشيعي الذي كان قد قبل بمبدأ قيام الدولة في (عصر الغيبة) منذ العهد الصفوي.. انطلق في هذه المرحلة ليطور نظرية السلطة والدولة ويُشرك العلماء ونواب الشعب في إدارة البلاد .
وقد عبر هذا الفكر عن نفسه بقلم أحد أبنائه وهو الشيخ محمد حسين النائيني (تلميذ الشيخ كاظم الخراساني) في كتابه:( تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الذي يعتبر قمة الفكر السياسي الشيعي في بداية القرن العشرين..
ينطلق الشيخ النائيني من النظرة التوحيدية للسلطة ، فيقول:· ان المالكية والقاهرية والفاعلية لما يشاء ، والسؤال وعدم المسئولية، من صفات الله تعالى ، فلماذا يستولي عليها السلاطين ويتصفوا بها؟ وينتهي إلى التساؤل:· لماذا لا نحدد السلطان والسلطة بالضرورة القصوى لخدمة المجتمع وتنفيذ الشريعة؟ لماذا يكون الحاكم حاكما مطلقا ومالكا لرقاب الناس وظالما وقهارا وآسرا( يفعل ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)؟.. ولماذا لا نقيد سلطة الحاكم ونشرطها بحدود؟ .
ثم يقدم النائيني مفهومين متباينين للسلطة يقوم الأول منهما بجميع درجاته على القوة والتعسف والقهر والتسخير والملك للأموال والناس وعدم المسئولية والاستعباد والألوهية. ويقوم الثاني على الولاية من اجل الخدمة ، وكالة عن الناس وباسمهم ، ويتسم بالأمانة والعدل والمسئولية ويقوم على الحق والحرية والقانون وحاكمية الله سبحانه وتعالى .
ويقول في الفصل الأول من كتابه :· ان مفهوم السلطة في الإسلام وسائر الشرائع والأديان وعند العقلاء والحكماء على الوجه الثاني ، وان تحوله إلى الوجه الأول (التعسفي) من بدع الظالمين والطغاة .(1/4)
ثم ينظر إلى الواقع فيقول:· ان الحاكم العادل المثالي لا يوجد وهو كالعنقاء وأعزّ من الكبريت الأحمر، وكذلك الأئمة المعصومين غير موجودين.. فالحكام البشر العاديون لا بد من تحديدهم ، وإذا كانت العصمة أو التقوى تحدد الحاكم وتمنعه من الطغيان والتجاوز والاعتداء فاننا يمكن ان نصل إلى هذه النتيجة بالقوانين المسددة التي تحدد الصلاحيات للحاكم ، وذلك عن طريق:
1 - الدستور ، الذي يحدد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكومين، وهو بمنزلة (الرسالة العملية) للدولة والمجتمع.
2 - ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة والمسئولية عبر مجلس شورى من العقلاء والخبراء والقانونيين والسياسيين ، وهو الذي يمنع الولاية من التحول إلى الملك والمالكية ، وهو مسئول امام الشعب.
وان حفظ شرف واستقلال أي مجتمع يعتمد على ممارسة الأمة لحاكميتها في حفظ النظام الداخلي والتربية العامة وإيصال كل حق إلى صاحبه ورعاية المصالح العامة والدفاع ضد تدخل الأجانب.
وقد حاول النائيني ان يبرر شرعية الديموقراطية لفئات عريضة من الشعب كانت تعتقد: · ان الالتزام برأي الأكثرية حرام وبدعة ، وان تدخل الرعية في أمر الإمامة اغتصاب لسلطة صاحب الزمان (الإمام المهدي) التي لا يحق لغير نوابه العامين (الفقهاء العدول) من العوام و ممثليهم التدخل فيها .فقال :· ان الديموقراطية جائزة أو واجبة : من باب مقدمة الواجب ، لأن الديموقراطية سبب للرفاه والتقدم والأمن . وكذلك من باب الأحكام الثانوية ، وان النواب خبراء في السياسة وينتدبون لتحديد القوانين الثانوية. ومن باب الأمور العرفية ، وان النواب ينضمون القوانين خارج دائرة الشرع . ومن باب الدفاع عن الوطن الإيراني .(1/5)
كما استدل بمقبولة عمر بن حنظلة على احترام رأي الأكثرية · المجمع عليها ، وقال: · ان اللجوء إلى السلطة الدنيوية (غير المشروعة وغير الدينية في عصر الغيبة) ضروري لحفظ استقلال البلاد وبقاياها من اجل حفظ الإسلام ، ولو بصورة مؤقتة .
وقال النائيني: · ان (مجلس الشورى) على نظرية السنة يعني:( أهل الحل والعقد) وعلى نظرية الشيعة ، حيث يعتبر الفقهاء نوابا للإمام المهدي الغائب ، يخضع لإشراف الفقهاء أو إشراف المأذونين من قبلهم .
وقال:· ان الشورى كانت موجودة حتى عند الأديان الأخرى والملحدين وعبدة الأوثان ، وضرب لذلك مثلا ببلقيس التي · قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون وفرعون وقومه الذين · تنازعوا أمرهم بينهم واسروا النجوى .
وقال في الفصل الثاني الذي كرسه لشرعية الدولة في (عصر الغيبة): · ان القدر المتيقن هو نيابة الفقهاء العامة في الأمور الحسبية التي يُقطع بعدم رضا الشارع إهمالها ، ومنها النظم العام وحفظ بيضة الإسلام ، حتى لو قلنا بعدم ثبوت (النيابة العامة) في جميع المناصب.. إذن فان ثبوت النيابة في (عصر الغيبة) في الوظائف المذكورة من قطعيات المذهب لأنها ابرز أمثلة الأمور الحسبية .
وقال: ·ان رأي الأكثرية من المرجحات لدى التعارض ، ويُستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ، وهو الحل الوحيد لحفظ النظام لدى اختلاف الآراء ، وأدلة لزومه نفس أدلة لزوم حفظ النظام ، وقد التزم الرسول الأكرم في موارد عديدة بآراء الأكثرية كما في اُحد والأحزاب ، والتزم الإمام علي بن أبى طالب في قضية التحكيم برأي الأكثرية، وقال: انها لم تكن ضلالة، بل سوء رأي ، ولأن الأكثر قالوا واتفقوا على ذلك فوافقت .(1/6)
وقال: · حيث نعجز عن الالتفاف حول الإمام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب) وحيث افتقد (نواب الإمام العامون) مقامهم ، ولا نقدر من إعادته إليهم ، فيجب علينا ان نعيد صورة الحكم من (المطلقة) التي هي غصب في غصب ، إلى ( المشروطة) حيث يتحدد الظلم بالقدر الممكن ، وان غصب السلطة من العلماء من قبل السلاطين لا يوجب التكليف بتحديد صلاحياتهم .
وضرب لذلك مثلا فقال:· لو غصب غاصب أموال وقف ، وأمكن لنا ان نحدده بهيئة ، بعد ان عجزنا عن رفع يده ، فان وضع تلك الهيئة المحافظة على ما أمكن من الأموال جائز بل واجب لدى جميع العقلاء ، وإذا كان الغاصب للسلطة قد غصب رداء الله (الكبرياء) ومنصب الإمام وحرية الناس ، فان تشكيل المجلس يحد من غصبه وظلمه ، ويبقى غصبه لمنصب الإمام ، وإذا تلبس ذلك بإذن من له الإذن يعتبر عملا شرعيا ، كالمتنجس بالعرض يصبح طاهرا بهذا الإذن .
ونفى في الفصل الثالث المحاذير المتوهمة في حالة تحديد سلطة الملوك بالدستور ومجلس الشورى ، فقال: · ان الحكومة منصب الإمام المعصوم والعادل.. ولأن الإنسان بطبعه مستبد ومحكوم بالشهوات ، ويحتمل في كل أحد ان يتجاوز الحدود الشرعية ، فلا بد ان نقيده بقوانين خارجية تقوم مقام الملكات النفسية ، وان الطريق للتخلص من الديكتاتورية والاستبداد ينحصر في (مجلس شورى) .
ورد في الفصل الرابع بعض مغالطات المعارضة (المستبدة) للحركة الديموقراطية فقال:· ان اصل الحكومة الإسلامية شوروية وحق من حقوق عامة الناس ، ولا يلزم ان يتصدى المجتهد بنفسه ، بل يكفي اذنه لإضفاء الشرعية ، وإذا لم يتمكن بعض العلماء أو كلهم من إقامة الأمر فلا يسقط بالمرة ، بل ينزل إلى مرتبة عدول المؤمنين، وان المجلس هو للاشراف على الضرائب التي يعطيها الناس فيرسلون وكلاء عنهم لمراقبة توزيعها ومحاسبة المسئولين .(1/7)
وشرح في الفصل الخامس شرائط صحة وشرعية تدخل النواب في السلطة وواجباتها ، فقال:· انها لا شيء سوى إذن المجتهد نافذ الحكومة واشتمال المجلس على واحد أو عدة مجتهدين عدول عالمين بالسياسة لتصحيح وتنفيذ الآراء أو هيئة من المجتهدين لمراقبة المجلس والأشراف عليه .
وأشار النائيني أخيرا إلى تقسيم السلطات ، فقال: · ان الإمام أمير المؤمنين يشير إليها في عهده إلى مالك الاشتر . وقال: · ان تطبيق الأحكام الأولية والثانوية يجوز بإذن الإمام المنصوب من الله أو من (نائبه العام) أو المأذون من قبل (النائب العام) .
و اسقط الشيخ النائيني من كتابه الفصل المتعلق بنيابة الفقهاء العدول في عصر الغيبة ، في إقامة الوظائف السياسية ورعاية أمور الدولة والفروع المترتبة على ذلك وتفاصيلها. وبالرغم من انه لم يبحث موضوع (الولاية العامة) للفقهاء في عصر الغيبة ، ولم يقل بها بصورة قوية في كتابه ، إلا ان استعانته بالعقل ومحاولته توسيع دائرة (النيابة العامة) بالتصدي للأمور الحسبية المهمة كحفظ النظام العام وحراسة بيضة الإسلام وما شابه ، تعتبر محاولة للخروج من نظرية (الانتظار) والقول بجواز (إقامة الدولة في عصر الغيبة) وهي النظرية التي كان يرفضها كثير من العلماء الامامية ، ويعتبرونها متناقضة مع صلاحيات الإمام المعصوم (الغائب).
ومع انه اعتبر الملوك غاصبين لمنصب الإمامة ، إلا انه عبر عن عجز الأمة عن الالتفاف حول الإمام المهدي المنتظر الغائب ، كما قال بأن الأئمة المعصومين غير موجودين ، وأكد ان اصل الحكومة الإسلامية شوروية وحق من حقوق عامة الناس ، مما يكشف عن شكه بنظرية (الإمامة الإلهية) وإيمانه بالشورى.(1/8)
وعلى أي حال فقد قامت بناء على تلك النظرية (الديموقراطية الإسلامية) في سنة 1323ه / 1905م حركة للمطالبة بالديموقراطية وتحديد صلاحيات السلطان القاجاري ، وانطلقت المظاهرات والاعتصامات والاضرابات خصوصا في العاصمة الإيرانية طهران ، بقيادة السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني ، إلى ان استطاعت ان تجبر الشاه مظفر الدين على إعلان الانتخابات وإنشاء (مجلس الشورى) بعد ذلك بسنة واحدة.
المشروطة ؟ أو المشروعة ؟
وكما أشرنا في الصفحات الماضية .. حدث بين العلماء الذين كانوا ينادون بالديموقراطية خلاف حول حدودها ، كما حدث خلاف بين عامة العلماء حول أساسها ، وكتب السيد عبد الحسين الشيرازي الذي اصبح نائبا في المجلس المنتخب ، كتابا حول (المشروطة المشروعة) وطرح فيه ضرورة ان يكون رئيس المجلس على الأقل (مجتهدا عادلا جامعا للشرائط) وقال:· ان ولاية الفقيه ضامن لتنفيذ الأحكام الإلهية في المجتمع ، وان الفقيه العادل نائب عن الإمام المعصوم وله خلافة عامة ، وانه خليفة الرسول . وكان يرى :· ان شرعية المجلس لا تتحقق إلا مع ولاية الفقيه ، حتى لا ينحرف بعيدا عن الإسلام وقد كتب في الفصل الرابع من كتابه (المشروطة المشروعة) بحثا تحت عنوان :(حاكم الشرع العدل منفذ الحدود الشرعية والسياسات الإلهية)مايلي :· ان ولاية تنفيذ الحدود الشرعية والسياسات الإلهية والأحكام التكليفية من كل جهة حق مسلم لحاكم الشرع العادل ، وليس لغيره .
وكان هناك من ينادي باستبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري ، كالسيد جمال الدين الاصفهاني الذي أعلن خلال الثورة ضد مظفر الدين سنة 1905م : ان نظام الحكم الأقرب للإسلام هو النظام الجمهوري ، وأيد ذلك بآيات من القرآن الكريم . (طلال مجذوب: إيران من الثورة الدستورية إلى الثورة الإسلامية ص 80)(1/9)
وفيما كانت الحركة الديموقراطية الإسلامية منتشية بانتصارها بإعلان الدستور وأجراء الانتخابات ، وتنتظر افتتاح المجلس توفي الشاه مظفر الدين ، فخلفه ولده محمد علي ، الذي استغل الحركة المضادة للإصلاح الدستوري ، التي كانت تزعم : ان الحرية ضد الدين ، والتي كان يقودها بعض علماء الدين الآخرين ، كالسيد كاظم اليزدي ، فألغى الدستور وعطل المجلس ، وقال: (ان افتتاح المجلس وتحقير الإسلام شيء واحد ) مما أثار غضب زعيم الحركة الديموقراطية آنذاك الشيخ كاظم الآخوند الخراساني ( توفي سنة 1330ه / 1911م) الذي كان يقطن في النجف حيث مقر الحوزة العلمية الشيعية ، ودفعه إلى إصدار بيان شديد ضد الشاه ، بالنيابة عن مجتهدي النجف وعلمائها الإعلام ، جاء فيه:· انك انت ومعك المجتهدون المرتزقة عندما تدعون مخالفة (المشروطية) للشرع ، إنما تتجاهلون الحقيقة الدينية التي تقتضي بأن تكون العدالة واجبة حتى في الأمور الجزئية ، ونحن بحسب إطلاعنا على البلاد التي تطبق فيها الدساتير ، نعلم انها تدار وفق قوانين عادلة ، ونحن نقول بكل صراحة: ليس في المشروطية أية نقطة تخالف الدين الإسلامي ، بل انها تتفق مع أحكام الدين وأوامر الأنبياء بخصوص العدالة ورفع الظلم عن الناس ، فاترك سند الشيطان وانشر بيانا آخر فيه الحرية للناس ، وإذا حصل تأخر منك عما نطلب فاننا سوف نحضر جميعا إلى إيران ونعلن الجهاد ضدك . ( حسن الاسدي: ثورة النجف ص 72)(1/10)
كما اصدر الشيخ كاظم الخراساني الذي كان يعتبر (المرجع الأعلى) للشيعة في ذلك الوقت ، بيانا إلى الشعب الإيراني حول تعطيل الحكومة للمجلس جاء فيه:· ان قوانين المجلس المذكور هي قوانين مقدسة ومحترمة واطاعتها فرض على جميع من في إيران ، وعليهم ان يقبلوا بها وينفذوها ، وعليه نكرر قولنا: ان الإقدام على مقاومة المجلس التشريعي المذكور يكون بمثابة الإقدام على مقاومة أحكام الدين الحنيف ، وان واجب المسلمين ان يقفوا حائلا دون أية حركة ضد المجلس . (المصدر ص 70)
وقال في بيان آخر:· ان الأمة اليوم متحدة الكلمة على وجوب افتتاح المجلس ، لأن هذا المجلس يساعد على محو الاستبداد وإزالة العادات الرذيلة ونشر القانون في البلاد ، والخلاصة: ان المسلمين ملزمون ان يتبعوا الأصول الجديدة في الحكم . (المصدر)
وقد فجر الآخوند الخراساني ثورة جديدة ضد الشاه محمد علي الذي رفض الانصياع للحركة الديموقراطية الإسلامية ، أدت في النهاية إلى خلعه عن العرش في جمادى الثانية من سنة 1327ه / 1909م . وإقامة مجلس الشورى في إيران . 20 (المصدر)
وقد مثل هذا المجلس ، والحركة الدستورية عموما ، تطورا في الفكر السياسي الشيعي ، قائما على نظرية (النيابة العامة) والإجازة المشروطة للملوك بالحكم ، من خلال مجلس الشورى والالتزام بالدستور ، بدلا من الصيغة القديمة التي كان الملوك يحصلون فيها على (الشرعية) من إجازة العلماء (نواب الإمام المهدي العامين) ويحكمون بصورة مطلقة .
وربما كان لجوء العلماء إلى هذه الصيغة التوفيقية بين العلماء والملوك ، لشعورهم بالعجز عن إسقاط النظام الملكي ، كما يفهم من كلام النائيني ، وربما كان أيضا لعدم تبلور نظرية (ولاية الفقيه) بعد ، إلى مرحلة حكم العلماء المباشر . ومن الملاحظ في هذه التجربة (الديموقراطي(1/11)
ة) إعطاء العلماء للشعب دورا كبيرا في التشريع والحكم من خلال (مجلس الشورى) وعدم حصر العملية بالفقهاء ، مع تأكيدهم على وجود عالم أو هيئة من العلماء للمحافظة على (شرعية) القوانين التي يصدرها المجلس .
وقد اصبح دستور 1906م أساسا لنظام الجمهورية الإسلامية الذي قام سنة 1979م ، واستبدل الملك برئيس الجمهورية ، وأعطى للفقيه (الولي) صلاحيات اكبر بكثير من ذلك ، استنادا إلى نظرية (ولاية الفقيه ) .(1/12)
المبحث السابع:
الجمهورية الإسلامية
وولاية الفقيه المطلقة
لم تصمد نظرية ( الحكم الملكي الدستوري) التي أقامها الفقهاء الشيعة في إيران طويلا ، فسرعان ما قامت الحرب العالمية الأولى واحتلت القوات الروسية أجزاء واسعة من إيران ، ممهدة الطريق امام الشاه رضا بهلوي الذي أطاح بحكم الشاه القاجاري احمد ، ونصب نفسه ملكا على إيران دون ان يأخذ أي إذن من الفقهاء المراجع ، بل قاد حملة شعواء ضد رجال الدين ، واصبح هو وابنه محمد رضا بهلوي وكيلين عن القوى الغربية ، وهذا ما دفع الفقهاء المراجع إلى مقاومتهما بشدة .
وفي سنة 1963 قاد الإمام الخميني انتفاضة ضد الشاه محمد رضا بهلوي ، انتهت بتسفير الإمام إلى العراق ..وهناك راح الإمام الخميني يلقي دروسه على طلبته ويطور نظرية سياسية جديدة تجمع بين نظرية (النيابة
العامة للفقهاء عن الإمام المهدي الغائب) و نظرية:(ولاية الفقيه) . وقد نقل الفكر السياسي الشيعي من مرحلة إجازة الفقهاء لللموك للحكم باسمهم ووكالة عنهم إلى مرحلة جديدة هي حكم الفقهاء المباشر وممارسة مهمات الإمامة بصورة كاملة . ومن المعروف ان تلك الدروس التي ألقاها الإمام الخميني عام 1969 شكلت القاعدة الفكرية التي قامت عليها الثورة الإسلامية العارمة التي قادها الإمام بعد ذلك بعشر سنين وانتهت بتشكيل (الجمهورية الإسلامية الإيرانية ). ولذا فمن المفيد جدا ان نستعرض بإيجاز أهم الأفكار التي وردت فيها حتى نلمس التطور الذي حدث فيها والذي تجاوز كل النظريات السياسية الشيعية السابقة .
الخميني ينقد نظرية الانتظار(1/1)
قد رفض الإمام الخميني في البداية نظرية (الانتظار للإمام المهدي ) التي كانت تهيمن على الفكر السياسي الشيعي حتى وقت قريب ، رفضا مطلقا ، واسقط بالأدلة العقلية الأحاديث التي كانت تعتبر · متواترة والتي كانت توصي بذلك ، ولم يعبأ بها ، وكتب يقول :· بديهي .. ان ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصة بعصر النبي (ص) بل الضرورة مستمرة.. واعتقاد: ان الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود يخالف ضروريات العقائد الإسلامية ، وبما ان تنفيذ الأحكام بعد الرسول (ص) والى الأبد من ضروريات الحياة ، لذا كان وجود حكومة فيها مزايا السلطة المنفذة المدبرة ضروريا ، إذ لولا ذلك لساد الهرج والمرج... فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل: ان ما كان ضروريا أيام الرسول (ص) وفي عهد الإمام أمير المؤمنين (ع) من وجود الحكومة لا يزال ضروريا إلى يومنا هذا.
ولتوضيح ذلك أتوجه إليكم بالسؤال التالي: قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي اكثر من ألف عام ، وقد تمر عليه ألوف السنين قبل ان تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر ، وفي طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس خلالها ما يشاءون؟.. ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام ؟ هل ينبغي ان يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كل شيء ؟(1/2)
ان الذهاب إلى هذا الرأي اسوء في نظري من الاعتقاد بان الإسلام منسوخ ، فلا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يقول: انه لا يجب الدفاع عن ثغور الإسلام والوطن ، أو انه يجوز الامتناع عن دفع الزكاة والخمس وغيرهما ، أو يقول بتعطيل القانون الجزائي في الإسلام وتجميد الأخذ بالقصاص والديات ، إذن فان كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ الإسلام ، ويدعو إلى تعطيل أحكامه وتجميدها ، وهو بالتالي ينكر شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف . وخاطب الإمام الخميني الملتزمين بنظرية (الانتظار) قائلا :· لا تقولوا ندع إقامة الحدود والدفاع عن الثغور وجمع حقوق الفقراء حتى ظهور الحجة (الإمام المهدي) فهلا تركتم الصلاة بانتظار الحجة؟! . 1
ضرورة الإمامة في عصر الغيبة
وقال أيضا:· ان ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (ع) سيما مع هذه السنين المتمادية ، ولعلها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين ، والعلم عنده تعالى . 2
وقال : · وما ذكرناه وان كان من واضحات العقل...ومع ذلك فقد دل الدليل الشرعي أيضا عليه ... وأية حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة) مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد؟ . 3(1/3)
واستشهد بقول السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها المعروفة :( والطاعة نظاما للملة والإمامة لماً من الفرقة) كدليل على لزوم بقاء الولاية والرياسة العامة ، وقال : · أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة ، وان لم تجعل لشخص خاص ، لكن يجب بحسب العقل والنقل ان تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنها مما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي,.. والعلة متحققة في زمن الغيبة ، ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها . 4
الفقهاء هم الولاة
وبعد إثبات الإمام الخميني للحاجة المستمرة إلى الإمامة في ( عصر الغيبة ) وعدم جواز تجميدها انتظارا للإمام المهدي ، عقلا ونقلا ، قال: · إذا كنا نعتقد ان الأحكام التي تخص بناء الحكومة الإسلامية لا تزال مستمرة ، وان الشريعة تنبذ الفوضى كان لزاما علينا تشكيل الحكومة الإسلامية ، وان العقل يحكم بضرورة ذلك... واليوم في عهد (الغيبة) لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة ، فما هو الرأي؟.. هل نترك أحكام الإسلام معطلة؟.. أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول: ان الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول: ان الإسلام قد أهمل تنظيم الدولة؟ ونحن نعلم ان عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها ، ويعني تخلفنا عن حقنا وعن أرضنا..
وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام حال غيبته إلا ان خصائص الحاكم الشرعي لا يزال يعتبر توفرها في أي شخص مؤهلا إياه ليحكم في الناس، وهذه الخصائص التي هي عبارة عن العلم بالقانون والعدالة موجودة في فقهائنا في هذا العصر . 5(1/4)
وقال:· بعدما علم بالضرورة من ان في الإسلام تشكيلات وحكومة بجميع شؤونها لم يبقَ شك في ان الفقيه لا يكون حصنا للإسلام كسور البلد له إلا ان يكون حافظا لجميع الشؤون من بسط العدالة وأجراء الحدود وسد الثغور واخذ الخراجات والماليات وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع ، وإلا فصرف الأحكام ليست بإسلام.. بل يمكن ان يقال: ان الإسلام هو الحكومة بشؤونها ، والأحكام قوانين الإسلام ، وهي شأن من شؤونها ، بل الأحكام مطلوبة بالعرض وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة ، فكون الفقيه حصنا للإسلام كحصن سور المدينة (حسبما يشير حديث نبوي إلى ذلك) لا معنى لها إلا كونه واليا له ما لرسول الله وللأئمة من الولاية على جميع الأمور السلطانية.. فكما لا تقوم الرعية إلا بالجنود ، فكذلك لا يقوم الإسلام إلا بالفقهاء الذين هم حصون الإسلام وقيام الإسلام هو إجراء جميع أحكامه ، ولا يمكن إلا بالوالي الذي هو حصن..فالفقهاء هم أمناء الرسل وحصون الإسلام لهذه الخصوصية وغيرها ، وهو عبارة أخرى عن الولاية المطلقة . 6
وقال:· فعليه، يرجع أمر الولاية إلى الفقيه العادل ، وهو الذي يصلح لولاية المسلمين إذ يجب ان يكون الوالي متصفا بالفقه والعدل . 7
وقال:· لا شك ان الفقهاء العدول هم القدر المتيقن ( من عدد من الاحتمالات حول من يحق له الحكم في عصر الغيبة) فلا بد من دخالة نظرهم ولزوم كون الحكومة بأذنهم ، ومع فقدهم أو عجزهم عن القيام بها يجب ذلك على المسلمين العدول ، ولا بد من استئذانهم الفقيه لو كان . 8(1/5)
وتحدث الإمام الخميني عن التشابه بين الفقيه والإمام المعصوم فقال:· للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة (ع) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة ، ولا يعقل الفرق ، لأن الوالي - أي شخص كان - هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والأخذ للخراج وسائر الماليات والتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين... ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي ويجب إطاعتهم..فولاية الفقيه - بعد تصور أطراف القضية - ليست أمرا نظريا يحتاج إلى برهان ، ومع ذلك دلت عليها بهذا المعنى الواسع روايات... . 9
واعتبر الإمام الخميني الفقهاء أوصياء للرسول (ص) من بعد الأئمة وفي حال غيابهم ، وقد كلفوا بجميع ما كلف الأئمة (ع) بالقيام به . 10
وتمسك بحديث الإمام الصادق :( اتقوا الحكومة ، فان الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي ( أو كنبي) أو وصي نبي ) وقال:· قد حصر الإمام (ع) القضاء بمن كان نبيا أو وصي نبي ، وبما ان الفقيه ليس نبيا فهو إذن وصي نبي ، وفي عصر الغيبة يكون امام المسلمين والقاضي بينهم بالقسط دون سواه . 11
وقال أيضا :· يظهر ان القضاء للإمام والرئيس العادل ، ولما ثبت كون القضاء للفقيه ثبت انه للرئيس والوصي ، فتدبر . 12
كما اعتبر الفقهاء خلفاء للرسول (ص) وتساءل: · لماذا يتوقف بعضنا في معنى جملة (اللهم ارحم خلفائي)؟ لماذا يظن هذا البعض: ان خلافة الرسول محدودة بشخص معين ؟ وبما ان الأئمة (ع) كانوا هم خلفاء الرسول فليس لغيرهم من العلماء ان يحكم الناس ويسوسهم. ان هذا الظن وهذا الموقف بعيد عن الإسلام لأنه انحراف في التفكير يبرأ الإسلام منه . 13
الأدلة النقلية(1/6)
واستدل الإمام الخميني على كون الفقهاء كالأئمة من أهل البيت (ع) بعدة أحاديث مثل الحديث الذي ينسب إلى ( الإمام المهدي) :( انا حجة الله وهم حجتي عليكم) وقال:· ان الواضح من مذهب الشيعة ان كون الإمام حجة الله تعالى عبارة أخرى عن منصبه الإلهي وولايته على الأمة بجميع شؤون الولاية ، لا كونه مرجعا للأحكام فقط ، وان المراد من (انا حجة الله وهم حجتي عليكم): ان ما هو لي من قبل الله تعالى لهم من قبلي ، ومعلوم ان هذا يرجع إلى جعل الهي له (ع) وجعل من قبله للفقهاء . 14
وقال:· يستفاد من قوله (ع) (في مقبولة عمر بن حنظلة):· فاني قد جعلته عليكم حاكما : انه (ع) قد جعل الفقيه حاكما فيما هو من شؤون القضاء ، وما هو من شؤون الولاية ، فالفقيه ولي الأمر في البابين وحاكم في القسمين ، بل لا يبعد ان يكون القضاء أعم من قضاء القاضي وأمر الوالي وحكمه ... وفي المقام لا يعقل هدم الأئمة اللاحقين (ع) نصب أبى عبد الله ، لأنه يرجع اما إلى نصب غير الفقهاء العدول وارجاء الأمر إليه أو إلى إرجاعهم إلى ولاة الجور وقضاته وهو ظاهر الفساد.. فمن نصبه الإمام منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر (الإمام المهدي المنتظر) (ع) . 15
وقال في (الحكومة الإسلامية):· إذن فالعلماء بموجب هذه الرواية (مقبولة عمر بن حنظلة) قد عُيّنوا من قبل الإمام (الصادق) للحكومة والقضاء بين الناس ، ومنصبهم لا يزال محفوظا لهم ، ولا نحتمل ان يكون الإمام الذي يلي الإمام الصادق قد عزل الفقهاء عن هذا المنصب . 16(1/7)
وتابع في كتاب (ولاية الفقيه من كتاب البيع ):· ثم ان مقتضى كون ( الفقهاء ورثة الأنبياء) ومنهم رسول الله (ص) وسائر المرسلين الذين لهم الولاية العامة على الخلق ، انتقال كل ما كان لهم إليهم إلا ما ثبت انه غير ممكن الانتقال ، ولا شبهة في ان الولاية قابلة الانتقال كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفا عن سلف ... وان المراد هي الولاية الجعلية كالسلطنة العرفية وسائر المناصب العقلائية كالخلافة التي جعلها الله تعالى لداود (ع) وفرّع عليها الحكم بالحق بين الناس ، وكنصب رسول الله عليا بأمر الله خليفة ووليا على الأمة ، ومن الضروري ان هذا أمر قابل للانتقال والتوريث . 17
واستنتج من كل ذلك قائلا:· فحينئذ إذا ثبت شيء للرسول ثبت للفقيه بالوراثة كوجوب الإطاعة ونحوها فلا شبهة من هذه الجهة... لكن كما ان الرسول الأعظم جعل الأئمة (ع) خلفاء ونصبهم للخلافة على الخلق أجمعين جعل الفقهاء خلفاء ونصبهم للخلافة الجزئية . 18
وقال:· فتحصل مما مرّ ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (ع) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطانا على الأمة ، ولا بد في الإخراج عن هذه الكلية في مورد من دلالة دال على اختصاصه بالإمام المعصوم... فانه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول بالأدلة المتقدمة . 19
الولاية الإلهية
وكان الإمام الخميني يؤمن نتيجة لتلك الروايات ان ولاية الفقيه ولاية دينية إلهية و يقول:· ان الله جعل الرسول (ص) وليا للمؤمنين جميعا ، ومن بعده كان الإمام وليا ، ونفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه ، وان الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية .. وينبغي للفقهاء ان يعملوا فرادى ومجتمعين من اجل إقامة حكومة شرعية ... وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة فالولاية لا تسقط لأن الفقهاء قد ولاهم الله .. وليس العجز المؤقت عن تشكيل الحكومة القوية المتكاملة يعني بأي وجه ان ننزوي ، بل التصدي واجب . 20(1/8)
وكان يحصر الحق في إقامة الدولة في (عصر الغيبة) في الفقهاء فقط ، ويقول:· الفقهاء العدول وحدهم المؤهلون لتنفيذ أحكام الإسلام واقرار نظمه وإقامة حدود الله وحراسة ثغور المسلمين ، وقد فوض إليهم الأنبياء جميع ما فوض إليهم ائتمنوهم على ما أؤتمنوا عليه . 21
حدود ولاية الفقيه
وبعد ان ثبت الإمام الخميني الولاية للفقيه بالنصب والجعل من الرسول والأئمة المعصومين ، انتقل ليتحدث عن حدود تلك الولاية فقال :· .. على ذلك يكون الفقيه في عصر الغيبة وليا للأمر ولجميع ما كان الإمام (ع) وليا له ... وان للفقيه جميع ما للإمام (ع) إلا إذا قام الدليل على ان الثابت له (ع) ليس من جهة ولايته وسلطنته ، بل لجهات شخصية تشريفا له أو دل الدليل على ان الشيء الفلاني وان كان من شؤون الحكومة والسلطنة لكن يختص بالإمام (ع) ولا يتعدى منه كما اشتهر ذلك في الجهاد غير الدفاع ، وان كان فيه بحث وتأمل . 22
وقال :· وليعلم : ان كل ما ورد ثبوته للإمام أو السلطان أو والي المسلمين أو ولي الأمر أو للرسول أو النبي أو ما يشابهها من العناوين يثبت بأدلة الولاية للفقيه .. ثم ان الأمور الحسبية - وهي التي علم بعدم رضا الشارع الأقدس بإهمالها - ان علم ان لها متصديا خاصا أو عاما فلا كلام ، وان ثبت انها كانت منوطة بنظر الإمام (ع) فهي ثابتة للفقيه بأدلة الولاية . ولا يخفى ان حفظ النظام وسد ثغور المسلمين وحفظ شبانهم من الانحراف عن الإسلام من أوضح الحسبيات ، ولا يمكن الوصول إليها إلا بتشكيل حكومة عادلة إسلامية . 23(1/9)
وقال في :(الحكومة الإسلامية) :· إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فانه يلي من أمر المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم ، ووجب على الناس ان يسمعوا له ويطيعوا ، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول (ص) واميرالمؤمنين (ع) على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة ...وقد فوض الله الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه إلى النبي (ص) واميرالمؤمنين (ع) من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات وتعيين الولاة والعمال وجباية الخراج وتعمير البلاد ، غاية الأمر ان تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل . 24
أزمة التزاحم بين الفقهاء
وبناء على نظرية :(الجعل الإلهي) ونصب الفقهاء من قبل الأئمة ولاة على الناس ، وحق جميع الفقهاء بالتصدي السياسي والقيام بشؤون الولاية .. ونظرا لامكان الوقوع في أزمة فيما إذا قام الفقهاء جميعا في وقت واحد بممارسة حقهم السياسي وصلاحيتهم في الولاية ، واحتمال تزاحمهم وتصادمهم ، يعقد الإمام الخميني فصلا خاصا في بحثه ، للخروج من أزمة التزاحم ، فيقول :· ان قوله (ص) : · العلماء ورثة الأنبياء منحل إلى جعل الوراثة والخلافة لكل فقيه فقيه .. بل ليس ذلك من باب الانحلال ، وإنما يستفاد من صيغة الجمع بدلالة وصفية . 25(1/10)
ويقول :· يمكن ان يقال : ان مقتضى إطلاق الخلافة والوراثة ان يكون لكل فقيه كل ما كان لرسول الله (ص) فان الظاهر من الأدلة : ان كل فقيه خليفة ووارث ، فمما ثبت له (ص) ان ليس لأحد مزاحمته تكليفا ووضعا سواء كان المزاحم فقيها وخليفة أم لا .. وهذا ينتقل إلى كل فقيه ، ولازمه : عدم جواز مزاحمة أحد له فقيها وخليفة كان أم لا ..وفي مقابل ذلك : ان لرسول الله (ص) ان يزاحم كل أحد خليفة كان أم لا ، وهذا أيضا قابل للانتقال والتوريث ، لكن هما معا غير ممكن التوريث للزوم التناقض. وتوريث المزاحمة أمر ينكره العقول ومخالف لطريقة العقلاء ، ولازم هذا الوجه : قيام الدليل الاجتهادي على عدم جواز المزاحمة وبطلان تصرف المزاحم وحرمته .. وان أحرزنا من الأدلة ان الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه ، لكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصديه نستصحب ولايته الثابتة قبل تصدي الأمر .. فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر لذلك . 26
الجمهورية الإسلامية(1/11)
ومن المعلوم ان الإمام الخميني نجح بعد عشر سنوات من تطويره لنظرية :(ولاية الفقيه) بما يؤهله لتولي دفة الحكم بنفسه ، أي في سنة 1979م من إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران ، على أساس تلك النظرية ، ولم يكن في البداية يمتلك صورة دستورية واضحة ومفصلة عن الحكومة ، فأوكل إلى مجلس من الخبراء المنتخبين من الشعب ومن بين صفوف الثورة الإسلامية ان يعد دستورا للبلاد ، وقام ذلك المجلس بعد دراسة وبحث ونقاش لمدة اشهر ، بوضع دستور جديد يقوم على نظرية :(ولاية الفقيه) ويشابه دستور 1906 ، ولكنه يستبدل وجود الملك برئيس للجمهورية ينتخب من الشعب ، ويعطي ل : (المرجع الأعلى الفقيه) منصب (الإمام : الولي الفقيه) كأعلى سلطة دستورية في البلاد ، ويحتم على (رئيس الجمهورية) ان يأخذ تزكية وموافقة من الإمام ، وإلا فلن يصبح شرعيا ولن يستطيع ممارسة مهماته ، وكان الدستور يتضمن بالاضافة إلى ذلك وجود (مجلس شورى) منتخب من الشعب ، ورئيس للوزارة معين من قبل رئيس الجمهورية ومؤيد من قبل المجلس ، ومجلس مصغر آخر يتألف من اثني عشر عضوا من الفقهاء والقضاة يشرف على سير أعمال (مجلس الشورى) ويراقب تطابق القوانين مع الإسلام والدستور ، ويعرف ب :( مجلس المحافظة على الدستور) . ولم يعطِ الدستور الإيراني الجمهوري الإسلامي الأول للإمام من الصلاحيات التنفيذية والتشريعية سوى الحق في تعيين قاضي القضاة ، وقيادة القوات المسلحة .
وكانت الحكومة الإيرانية برئيس جمهوريتها ورئيس وزرائها خارج إطار صلاحيات الإمام ، وكذلك العملية التشريعية في (مجلس الشورى) كانت بعيدة عنه .
وكاد مجلس الخبراء التأسيسي الأول في إحدى مراحل النقاش والتصويت ان يسحب من (الإمام ) منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة ويعطيها لرئيس الجمهورية .(1/12)
ولكن بالرغم من نجاح خط (ولاية الفقيه) في مجلس الخبراء ، في تعزيز صلاحيات (الإمام) إلا انها ظلت محدودة في مجال السيادة والقيادة ، وبعيدة عن مجال التنفيذ والتشريع ، حسب الدستور .
الولاية المطلقة
وبعد حوالي عشرة أعوام من تجربة الحكم في (الجمهورية الإسلامية في إيران ) تفجرت أزمة تشريعية سياسية نظرية ، وذلك برفض ( مجلس المحافظة على الدستور ) التصويت على قانون العمل الذي أعده (مجلس الشورى) وعدله ثماني مرات خلال ثماني سنين ، بحجة مخالفته للإسلام ، مما اضطر وزير العمل للاستنجاد بالإمام الخميني الذي كان يمثل أعلى سلطة في البلاد ، لكي يحسم المشكلة ، وأجاز الإمام للوزير تطبيق القانون الذي شرعه مجلس الشورى دون ان يأخذ الإجراءات الدستورية النهائية بتصويت (مجلس المحافظة على الدستور) عليه .(1/13)
وقد استفاد وزير العمل من سماح الإمام الخميني له بتطبيق ذلك القانون بالمبادرة إلى توسيع صلاحياته بتطبيق عدد من القوانين التي لم تنته إجراءاتها القانونية ، وهذا ما أثار حفيظة رئيس الجمهورية آنذاك السيد على الخامنائي ، الذي خطب في صلاة الجمعة في طهران بتاريخ 10 جمادى الأولى 1408 وأدان توسع وزير العمل بالاستفادة من إجازة الإمام الخميني له فامتعض الخميني من حديثه ووجه له رسالة شديدة عبر فيها عن إيمانه بالولاية المطلقة للفقيه ، التي لا تحدها حدود ، وجاء فيها:- · كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة ويظهر انكم لا تؤمنون ان الحكومة التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم (ص) مقدمة على جميع الأحكام الفرعية الإلهية . وان استشهادكم بقولي :· ان صلاحية الحكومة في إطار الأحكام الإلهية يخالف بصورة كلية ما قلته . ولو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب ان تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام (ص) وان تصبح دون معنى ..لا بد ان أوضح : ان الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة ، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج... ان باستطاعة الحاكم ان يعطل المساجد عند الضرورة ، وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع ان يعالجه بدون التخريب. وتستطيع الحكومة ان تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب ، إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام. وتستطيع ان تقف امام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام ، مادام كذلك. ان الحكومة تستطيع ان تمنع مؤقتا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك ان تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية . وما قيل حتى الآن ، وما قد يقال ناشيء من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية .(1/14)
وما قيل من انه قد أشيع عن إلغاء المزارعة والمضاربة مع صلاحيات الدولة الجديدة (التي أعطاها الإمام لوزير العمل ) .. أقول بصراحة : وليكن ذلك صحيحا فرضا ، انه من صلاحيات الحكومة ، وهناك أمور اكثر منها لا أريد ان أزعجكم بها . 27
وكانت هذه الرسالة تطورا كبيرا في نظرية :(ولاية الفقيه) باتجاه الشمولية والإطلاق ، وقفزة كبيرة في توسيع الولاية واطلاقها ، وهي تتحدث عن صلاحيات مشابهة لصلاحيات الرسول الأكرم والأئمة المعصومين ، للفقيه بحكم منصب الولاية والسلطان .
ويظهر من خلال حديث الإمام الخميني الآنف انه يجمع بين نظرية (النيابة العامة) و نظرية (ولاية الفقيه) ويطورهما بحيث تصبحان نظرية واحدة مطلقة .(1/15)
المبحث الثامن:
الديكتاتورية الدينية
المطلب الأول: نقد نظرية : (النيابة العامة )
ان الحديث عن (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي) في (الغيبة الكبرى ) هو فرع لثبوت (النيابة الخاصة) التي ادعاها (الوكلاء ) في فترة (الغيبة الصغرى) . وان القول بذلك يبتنى على القول بوجود وولادة (الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) ووجود غيبتين له ، وإذا لم نستطع التأكد من وجود هذا (الإمام ) فان تلك النظرية تتلاشى بالطبع من باب الأولى ، ومع ذلك فان من المفيد بحث أسس نظرية (النيابة العامة) ومعرفة كيفية نشوئها وتطورها ، وهل كانت معروفة لدى الشيعة الامامية في بداية (الغيبة الكبرى) التي يقال انها ابتدأت بعد وفاة (النائب الرابع : علي بن محمد الصيمري)؟. أم انها نظرية ظنية استنبطها بعض العلماء في وقت لاحق وطوروها عبر التاريخ ، ولم يكن لها وجود في القرن الرابع الهجري ؟..
لقد توفي (النائب الخاص الرابع : علي بن محمد الصيمري) سنة 329ه ولم يتحدث عنها ببنت شفة ، حيث يقول الطوسي : · ان الإمام المهدي اخبر السمري بقرب رحيله وأمره بعدم الوصية إلى أحد ووقوع الغيبة التامة وعندما سئل السمري عن الوصي بعده قال:· لله أمر هو بالغه وقضى . 1
ولو كان لنظرية (النيابة العامة) أي رصيد من الواقع لتحدث عنها (الإمام المهدي ) - على فرض وجوده - أو (النائب الرابع) بدلا من ان يترك الشيعة يتخبطون قرونا طويلة في ظلمات الحيرة .(1/1)
ومن هنا فلم يعرف الشيخ الصدوق نظرية النيابة العامة ، ولم يشر إليها أبدا بالرغم من روايته ل : ·توقيع إسحاق بن يعقوب عن العمري عن المهدي :( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله ). وذلك اما للشك بصحة · التوقيع المروي عن مجهول هو (إسحاق بن يعقوب) واما لعدم دلالته على (النيابة العامة ) خاصة وانه يتحدث عن الرجوع إلى الرواة في ظل (النيابة الخاصة) وفي أيام ( السفير الثاني : العمري) . وإذا كانت النيابة الخاصة المتصلة - حسب الفرض - بالإمام المهدي محدودة وغير سياسية ، فكيف يمكن ان يفهم من (التوقيع) معنى اكبر وأوسع منها ؟.
وربما كانت الحوادث الواقعة المقصودة في (التوقيع) تعني حوادث معهودة خارجية أحال التوقيع السائل للاستفسار عنها إلى رواة الأحاديث . وقد فهم بعض العلماء المتأخرين من هذه الجملة ضرورة الرجوع إلى الرواة (الفقهاء) القادرين على استنباط الأحكام (الحوادث الواقعة ) بمعنى المسائل المستجدة . ويبدو ان هذا المفهوم أيضا كان بعيدا عن افهام العلماء السابقين في العصر الاخباري الأول ، حيث كان الاجتهاد بمختلف أشكاله ممنوعا ومحرما لدى الامامية .
اما مقبولة عمر بن حتظلة ومشهورة أبى خديجة فبالرغم من ضعف سنديهما ، فان دلالتهما أيضا قاصرة عن إثبات (النيابة العامة) . وكل ما يمكن الاستفادة منهما هو ضرورة اختيار الشيعة للحكام (القضاة) العدول ممن روى شيئا من أحاديث أهل البيت ، وموافقة الإمام الصادق على اختيار الشيعة بتلك الصورة وامضائه .. وليس في ذلك أي جعل أو نصب أو تعيين من الإمام الصادق لكل فقيه أو راوٍ واعطاؤه (النيابة العامة) للحكم بدلا عنه . إذ لم يفهم أحد من الشيعة في عهد الإمام الصادق وفي بقية عهود الأئمة (ع) وفي فترة (الغيبة الصغرى) وفي القرون الأولى من (الغيبة الكبرى) مفهوم (النيابة العامة) منها .(1/2)
وان جميع الروايات تتحدث عن (الرواة) وليس عن (الفقهاء) بالمعنى الحديث للكلمة الذي ولد في القرن الخامس الهجري وهو (المجتهدين الأصوليين) فهل يمكن لأحد ان يقول : · ان كل من روى شيئا من أحاديث أهل البيت هو نائب عن الإمام المعصوم ومنصوب ومجعول ومعين من قبله على الناس ؟
وهكذا لم تتحدث الرسائل الثلاث التي يقال ان ( الإمام المهدي) قد أرسلها إلى الشيخ المفيد ، عن (النيابة العامة للفقهاء) وخلت من الإشارة إلى تفويضه أو تفويض الفقهاء بأي منصب قيادي في (عصر الغيبة الكبرى).
وبالرغم من ذلك فقد كان الشيخ المفيد أول من تحدث في (المقنعة) عن تفويض الأئمة للفقهاء إقامة الحدود في عصر الغيبة ، وتحدث عن (الإمارة الحقيقية عن صاحب الأمر) لمن تأمر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له .
وكان ذلك منه افتراضا اكثر منه قولا بيقين ، وقد انطلق في محاولته استنباط نظرية (النيابة العامة ) من الأحاديث السابقة (مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبى خديجة وتوقيع إسحاق بن يعقوب) التي تعطي الإذن لرواة أحاديث أهل البيت بممارسة القضاء من دون الحاجة إلى إذن خاص من الأئمة. 2
وتحدث السيد المرتضى والشيخ الطوسي وسلار عن فرضية تفويض الأئمة العام للفقهاء في مجال الحدود والقضاء . وكان أول من استخدم مصطلح (النيابة عن ولي الأمر عليه السلام) هو أبو الصلاح الحلبي ( توفي سنة 447) وقد حاول ان يسحب موضوع (النيابة) إلى أبواب الزكاة والفطرة والخمس والأنفال ، ولكنه لم يعزز محاولته بأي دليل .
وكرر القاضي ابن براج (توفي سنة 481) الآراء السابقة وأوصى بتسليم الخمس إلى الفقهاء لكي يحتفظوا به إلى خروج المهدي ، وقد التقط ابن حمزة هذا التطور لكي يتقدم خطوة إلى الإمام فيقول بتولي الفقيه لتقسيم سهم الإمام بدلا من الاحتفاظ به إلى ظهور المهدي ، دون ان يوجب ذلك أو يسنده إلى رواية معينة .(1/3)
وجاء المحقق الحلي ( توفي سنة 676) بعد ذلك لكي يطور نظرية (النيابة العامة) ويتحدث عن :· من له الحكم بحق النيابة . وهكذا تبعه العلامة الحلي والشهيد الأول والشيخ ابن فهد الحلي والسيد محمد جواد الحسيني العاملي ، والشهيد الثاني ، الذين تحدثوا عن نصب الفقيه الشرعي عموما من قبل الإمام الصادق ، لقوله في مقبولة عمر بن حتظلة :· فاني قد جعلته عليكم حاكما .
وقام المحقق الكركي ( توفي سنة 940ه ) بناء على القول بنظرية (النيابة العامة) بإعطاء (الشاه طهماسب بن اسماعيل الصفوي ) الشرعية بالحكم باسمه كنائب عام عن الإمام المهدي .
وقد أثار التطور السياسي الكبير الذي حدث في تاريخ الشيعة والذي نقلهم من مرحلة (التقية والانتظار) إلى مرحلة إقامة الدولة في (عصر الغيبة) بعدما ادعى (الشاه اسماعيل الصفوي) النيابة الخاصة عن الإمام المهدي .. أثار ذلك التطور جدلا واسعا في صفوف الفقهاء وفتح الباب واسعا امام القول بنظرية (النيابة العامة) وتعزيزها بقوة ، وتطويرها نحو حكم الفقهاء بصورة مباشرة على يدي النراقي في منتصف القرن الثالث عشر الهجري .
و قد استند النراقي في ذلك على أحاديث عامة وضعيفة اعترف هو بضعفها ، ولكنه · لم يجد ضررا في ذلك بعد انجبارها بعمل الأصحاب وانضمام بعضها ببعض وورود أكثرها في الكتب المعتبرة على حد قوله. 3
و دخل الشيخ رضا الهمداني ( توفي سنة 1310ه ) إلى نظرية (النيابة العامة) التي اسماها :(القائمقامية للفقيه عن الإمام المهدي) من باب القضاء و · حق القاضي بالقيام مقام كل من أمر بمعروف غير مقيد بمعروفيته بقدرة ذلك الشخص ، فعجز عن إقامته لغيبته أو قصوره ، ووجوب قيام الحاكم مقامه في أداء ما وجب عليه . 4(1/4)
واعتبر الهمداني (التوقيع) الذي يرويه إسحاق بن يعقوب عن العمري عن المهدي عمدة الأدلة في نظرية النصب ، واستفاد منه : ثبوت منصب الرئاسة والولاية للفقيه وكون الفقيه في زمان الغيبة بمنزلة الولاة المنصوبين من قبل السلاطين على رعاياهم في الرجوع إليه ، وإطاعته فيما شأنه الرجوع إلى الرئيس ... . 5
وذلك بالرغم من ضعف الدليل سندا ومتنا وعدم دلالته على اكثر من الرجوع إلى الرواة عند الحاجة لمعرفة الأحكام في الحوادث الواقعة .
و مع ان الإمام الخميني اعتمد في قوله بنظرية (ولاية الفقيه) على التوقيع المروي عن (الإمام المهدي): (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله) إلا انه اعتمد بصورة رئيسية على روايات عامة عن الرسول الأعظم (ص) مثل (الفقهاء ورثة الأنبياء و وحصون الأمة وخلفاء الرسول) وروايات خاصة عن الإمام الصادق (ع) مثل (اتقوا الحكومة فأنها لنبي أو وصي نبي) واستنتج من هذه الأحاديث العامة والخاصة معنى الوراثة والخلافة السياسية والولاية التامة للفقهاء كما كانت للرسول الأعظم (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) حسب النظرية الامامية ، وقال:· كما ان الرسول الأعظم جعل الأئمة (ع) خلفاء ونصبهم للخلافة على الخلق أجمعين ، جعل الفقهاء ونصبهم للخلافة الجزئية... وتحصل مما مر ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (ع) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطانا على الأمة . 6
و لذلك اعتبر الإمام الخميني الفقهاء اكثر من ( نواب للإمام المهدي الغائب ) وإنما أيضا : أوصياء للرسول (ص) من بعد الائمة ، وفي حال غيابهم ، وقد كلفوا بجميع ما كلف به الائمة بالقيام به . 7
واستخرج نظرية الجعل والنصب والتعيين للفقهاء من قبل الإمام الصادق (ع) من مقبولة عمر بن حنظلة:· فاني قد جعلته عليكم حاكما . 8(1/5)
واعتبر الإمام الخميني - بناء على ذلك - ولاية الفقهاء على الناس مجعولة من قبل الله كولاية الرسول والأئمة من أهل البيت ، وانها ولاية دينية إلهية . 9
ولكن الشيخ المنتظري ناقش الإمام الخميني في دلالة مقبولة عمر بن حنظلة والأحاديث الأخرى على النصب والجعل والتعيين ، وقال انها تدل على الانتخاب ولا يصح الاستدلال بها لإثبات الولاية المطلقة بالنصب . 10
وهذا مما يدل على ان نظرية (النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي ) أو (الخلافة والوصاية والقائمقامية) نظرية افتراضية ضعيفة لا يوجد عليها أدلة نقلية قوية وواضحة .
وكانت نظرية (النيابة العامة ) تقوم على أساس الإيمان بوجود الإمام المعصوم وهو (المهدي المنتظر) وحصر الخلافة الشرعية به ، وعدم جواز تصدي غير المعصوم لممارسة مهماته السياسية التي يشترط فيها العصمة ، وعدم معقولية النيابة الخاصة أو العامة في أمور (الإمامة) . ومن هنا كانت أبعاد نظرية (النيابة العامة) في البداية محدودة جدا بأداء بعض الأمور (الحسبية) التي لا ترقى إلى مستوى تأسيس الدولة في (عصر الغيبة) .
وكانت المشكلة الرئيسية التي حالت دون قول بعض الفقهاء (كالشيخ محمد حسنالنجفي صاحب الجواهر ) بنظرية (الولاية العامة) هي فلسفتهم عن سر (غيبة الإمام المهدي) واعتقادهم بعدم توفر الظروف الموضوعية للخروج ، ومن ثم اعتقادهم بعدم إمكانية إقامة الدولة في (عصر الغيبة) فضلا عن جوازها ، وذلك لوجود الخوف والإرهاب الذي يمنع الإمام من الظهور ، كما يقول النجفي (صاحب الجواهر) ، الذي قال بنظرية (النيابة العامة) بشكل محدود ، ولكنه لم يقل بنظرية (ولاية الفقيه العامة) بسبب إيمانه بعدم إمكانية تحقق ذلك · وإلا لظهرت دولة الحق .
وذلك إضافة إلى عدم قيام الأدلة العقلية لديهم بمقاومة أدلة نظرية (الإمامة الإلهية ) ووليدتها نظرية (الانتظار) .(1/6)
وربما كان هذا هو السبب في إحجام عدد من العلماء الذين قالوا بنظرية :(ولاية الفقيه العامة) كضرورة لا بد منها في (عصر الغيبة) ولو من باب الحسبة ، عن مد النظرية إلى بعض أبواب الفقه كالجهاد وصلاة الجمعة والحدود ، التي اشترطوا فيها إذن الإمام المعصوم (المهدي المنتظر ).
بينما كانت نظرية (ولاية الفقيه) تقوم على أساس منطق كلامي جديد يحتم قيام الدولة في عصر الغيبة كضرورة اجتماعية لا مفر منها ، ولا يلتزم بشرط توفر (العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية) في (الإمام المعاصر) ويكتفي بتوفر شرط (العلم والعدالة والتصدي والكفاءة الإدارية) .
المطلب الثاني : نقد نظرية (ولاية الفقيه)
وفي الحقيقة .. لم يدع أحد من أنصار ولاية الفقيه قوة سند تلك الروايات ، وإنما حاولوا تعضيدها بالعقل وعدم إمكانية بقاء الحكومة بلا والٍ ، وقالوا ان الفقيه هو القدر المتيقن المسموح به على قاعدة اختصاص الولاية بالله والرسول والأئمة الاثني عشر .
و قد قام النراقي في الاستدلال على ضرورة إقامة الدولة في عصر الغيبة بالأدلة العقلية ثم حصر الجواز في الفقهاء فقط ، بناء على تلك الأخبار الضعيفة ، والتي قد تعطي معنى النيابة والخلافة عن النبي الأعظم (ص) وليس الأئمة من أهل البيت ، كحديث :( اللهم ارحم خلفائي ) وحديث ( العلماء ورثة الأنبياء) وما شابه ، ولم يطرح (النيابة العامة عن الإمام المهدي ) بصراحة و بقوة . ولذلك استعان بالاطلاقات المستفادة من مثل قوله تعالى (اقطعوا) و (اجلدوا) واستدل بالإجماع المركب القاضي بعدم جواز ترك الحدود وإهمالها ومسئولية الأمة في تنفيذها على ثبوت الولاية للفقهاء وحصرها فيهم . 11
كما استعان ب (الضرورة ) و (الإجماع) و ( الأخبار المستفيضة) العامة لتكوين نظريته في (ولاية الفقهاء) . 12(1/7)
ونتيجة لضعف الأدلة النقلية وعجزها عن إثبات الولاية للفقيه بالنيابة العامة عن الإمام المهدي ، فقد حاول الشيخ حسن الفريد (توفي سنة 1417 ه ) ان يشيد نظرية (ولاية الفقيه) على أساس :(الحسبة) واعترف في ( رسالة في الخمس) بعدم استفادة نظرية الولاية من الكتاب والسنة ، بل من دليل الحسبة والضرورة . 13
واعتبر السيد البروجردي مقبولة عمر بن حنظلة · شاهدا على نظرية (النيابة العامة) بعد ان استدل عليها بالمنطق القياسي وقال:· ان الأئمة (ع) اما انهم لم ينصبوا أحدا للأمور العامة وأهملوها ، واما انهم نصبوا الفقيه لها ، لكن الأول باطل فثبت الثاني ، وهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية وحملية دلت على رفع المقدم فينتج وضع التالي وهو المطلوب . 14
وهكذا حاول السيد محمد رضا الكلبايكاني ان ينظّر لولاية الفقيه بالأدلة الفلسفية التي توجب إقامة (الإمامة ) في كل عصر ، وعدم جواز بقاء الأمة بدون قيادة . 15
ولم يطرح نظرية (نيابة الفقهاء العامة) وإنما طرح نظريته حول (ولاية الفقيه) بصورة مستقلة ، واعتمادا على الأدلة العقلية العامة التي توجب إقامة الدولة وتطبيق أحكام الدين ، والأدلة النقلية العامة التي تعتبر العلماء ورثة الأنبياء ، والأدلة المثبتة للأحكام مثل قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب . السارق والسارق فاقطعوا أيديهما . الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) بضميمة العلم بأن الشارع أراد تحققها في الخارج . 16
وكذلك فعل الإمام الخميني الذي نظر عقليا لوجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة . (17) وأكد في (الحكومة الإسلامية) : عدم وجود النص على شخص من ينوب عن الإمام المهدي حال غيبته. 18(1/8)
وقد رفض الإمام الخميني الأدلة · العقلية والنقلية التي قدمها ويقدمها علماء الكلام الاماميون السابقون الذين كانوا يشترطون العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الإمام ، و استخدم العقل في رفض نظرية الانتظار السلبية المخدرة التي تحرم إقامة الدولة في (عصر الغيبة) إلا للإمام المعصوم الغائب ، وتساءل:· هل تبقى أحكام الإسلام معطلة حتى قدوم الإمام المنتظر؟.. ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل ينبغي ان يخسر الإسلام من بعد (الغيبة الصغرى) كل شيء؟..
وضعّف عقليا الأحاديث · المتواترة و التي كان يجمع عليها الامامية في السابق ، والتي تقول:· ان كل راية ترفع قبل راية المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت يعبد من دون الله . وقد استخدم المقدمة الامامية الأولى في ( ضرورة وجود امام في الأرض ) لينطلق منها إلى إثبات (ضرورة الإمامة في هذا العصر) وقال:· ان مطلوبية النظام معلومة لا ينبغي لذي مسكة عقل إنكارها .
وعلى أي حال فقد كانت نظرية (ولاية الفقيه) التي تحصر الحق في ممارسة السلطة في (الفقهاء) هي الأخرى محل نقاش كبير بين العلماء . لأن تلك الروايات الخاصة والعامة التي اعتمدت عليها كانت هي الأخرى ، ولا تزال ، محل نقاش كبير في سندها ودلالتها ، مما يضعف الاستدلال على حصر حق الحكم في الفقهاء ، إذ ان مناط الفقه غير مناط الحكم والقدرة على إدارة البلاد ، نعم قد يستحسن ان يكون الحاكم فقيها ، ولكن لا علاقة للفقه بالحكومة ، إذ قد يستعين الحاكم بالفقهاء ويكوّن منهم مجلسا للشورى ، وربما يقال: ان الحاكم يجب ان يكون فقيها بما يحتاج إليه من أمور الإدارة والسياسة والاقتصاد ، ولا يجب ان يكون فقيها بمسائل الحلال والحرام الأخرى . وهناك أمور تتعلق بالقوة والأمانة ، كالأشراف على أموال اليتامى والمجانين ولا علاقة لها بالفقه والاجتهاد.(1/9)
وقد رفضها بعض العلماء المحققين كالشيخ مرتضى الانصاري ( 1216 - 1281) الذي ناقش في (المكاسب) أدلة القائلين بالولاية العامة ، حيث استعرض الروايات العامة التي يتشبثون بها ، وأنكر دلالتها على الموضوع ، وحدد دلالتها في موضوع الفتيا والقضاء فقط ، وشكك في صحتها ودلالتها وقال:· لكن الانصاف بعد ملاحظة سياقها (الروايات) أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية لا كونهم كالأنبياء أو الأئمة (ص) في كونهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ... وان إقامة الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام - إلا ما خرج بالدليل - دونه خرط القتاد . 19
وقد رفض السيد أبو القاسم الخوئي في (التنقيح في شرح العروة الوثقى / كتاب الاجتهاد والتقليد) نظرية ولاية الفقيه المبتنية على نظرية (النيابة العامة) وقال:· ان ما استدل به على الولاية المطلقة في (عصر الغيبة) غير قابل للاعتماد عليه ، ومن هنا قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلا في موردين هما الفتوى والقضاء.
وتفصيل الكلام في ذلك: ان ما يمكن الاستدلال به على الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط في (عصر الغيبة) أمور:
الأول: الروايات ، كالتوقيع المروي عن (كمال الدين) والشيخ (الطوسي) في كتاب (الغيبة) والطبرسي في (الاحتجاج): · واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله نظرا إلى ان المراد برواة حديثنا هو الفقهاء دون من ينقل الحديث فحسب . وقوله (ع) · مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه وقوله (ص) · الفقهاء أمناء الرسل وقوله (ص)· اللهم ارحم خلفائي - ثلاثا - قيل : يا رسول الله: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي وغيرها من الروايات .(1/10)
وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب: ان الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند والدلالة , نعم يستفاد من الأخبار المعتبرة: ان للفقيه ولاية في موردين هما: الفتوى والقضاء ، واما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند .
الثاني: ان الولاية المطلقة للفقهاء في (عصر الغيبة) إنما يستفاد من عموم التنزيل واطلاقه ، حيث لا كلام من أحد في ان الشارع قد جعل الفقيه الجامع للشرائط قاضيا وحاكما... واما كونه متمكنا من نصب القيّم والمتولي وغيرهما: اعني ثبوت الولاية له ، فهو أمر خارج عن مفهوم القضاء كلية... و لا دلالة لصحيحة (أبى خديجة) بوجه على ان له الولاية على نصب القيم والحكم بثبوت الهلال ونحوه... ودعوى: ان الولاية من شؤون القضاء عرفا ، ممنوعة بتاتا ، بل الصحيح: انهما أمران ، ويتعلق الجعل بكل منهما مستقلا.
الثالث: ان الأمور الراجعة إلى الولاية مما لا مناص من ان تتحقق في الخارج... ومعه لا مناص من ان ترجع الأمور إلى الفقيه الجامع للشرائط ، لأنه القدر المتيقن ممن يحتمل ان يكون له الولاية في تلك الأمور لعدم احتمال ان يرخص الشارع فيها لغير الفقيه ، كما لا يحتمل ان يهملها ، لأنها لا بد من ان تقع في الخارج ، فمع التمكن من القضية لا يحتمل الرجوع فيها إلى الغير... والمتحصل: ان للفقيه الولاية المطلقة في (عصر الغيبة) لأنه القدر المتيقن.
والجواب عن ذلك: ان الأمور المذكورة وان كانت حتمية التحقق في الخارج وهي المعبر عنها بالأمور الحسبية التي لا مناص من تحققها خارجا ، كما ان الفقيه هو القدر المتيقن ، كما مر ، إلا انه لا يستكشف بذلك: ان الفقيه له الولاية المطلقة في (عصر الغيبة) كالولاية الثابتة للنبي والأئمة عليهم السلام ، حتى يتمكن من التصرف في غير مورد الضرورة وعدم مساس الحاجة إلى وقوعها..(1/11)
فيستنتج بذلك: ان الفقيه هو القدر المتيقن في تلك التصرفات ، واما الولاية فلا ، ولو عبرنا بالولاية فهي ولاية جزئية تثبت في مورد خاص اعني الأمور الحسبية التي لا بد من تحققها في الخارج ، ومعناها : نفوذ تصرفاته فيها بنفسه أو بوكيله.
ومن هنا يظهر ان الفقيه ليس له الحكم بثبوت الهلال ولا نصب القيم أو المتولي من دون انعزالهما بموته ، لأن هذا كله من شؤون الولاية المطلقة ، وقد عرفت عدم ثبوتها بدليل ، وإنما الثابت ان له التصرف في الأمور التي لا بد من تحققها في الخارج . 20
ولم يبحث السيد الخوئي البديل عن سقوط نظرية ولاية الفقيه ، وقد سكت عن موضوع الولاية والحكم بصورة عامة ، ويبدو من كلامه انه لا يعتبر الولاية من الأمور الحسبية الضرورية التي لا بد من وقوعها في الخارج ، وإلا لكان قد أعطاها للفقيه ، بالرغم من انه لم يجد في تلك الروايات الخاصة والعامة من القوة سندا ودلالة للقول بولاية الفقيه .
وبناء على ذلك فقد فكك السيد الخوئي بين ضرورة تحقيق بعض الأمور الحسبية في الخارج ، وبين الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة كالولاية الثابتة للنبي والأئمة (ع) . وقال:· انها لم تثبت بدليل وانها مختصة بالنبي والأئمة . 21
إذن فان الفقيه ليس هو القدر المتيقن دائما في كل الأمور ، وبالتالي فلا يمكن ان نحصر الحق في الحكم به دون غيره من الأمناء العدول أو السياسيين الأذكياء .
وإضافة إلى ذلك يمكننا القول ان فهم معنى الولاية المطلقة للفقهاء ، من تلك الروايات الخاصة والعامة يتناقض مع نظرية (الإمامة الإلهية) التي تحصر الحق في الحكم في ( الأئمة المعصومين المعينيين من قبل الله) ، ولذلك لم يفهم أحد من العلماء الشيعة الامامية السابقين الذين رووا تلك الروايات معنى الولاية منها ، وآثروا الالتزام بنظرية الانتظار على استنباط معنى الولاية العامة منها.(1/12)
خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار : ان الفقه بمعنى الاجتهاد ، مفهوم حادث متأخر في الفكر الشيعي الامامي الذي كان يحرم الاجتهاد في القرون الأربعة الأولى ، ويعتبره من ملامح المذاهب السنية ، وهو ما يقول به الاخباريون (الاماميون الأوائل ) حتى اليوم.
كما ان إعطاء الفقيه العادل ، وهو بشر غير معصوم ومعرض للخطأ والانحراف ، صلاحيات الرسول الأعظم (ص) المطلقة وولايته العامة على النفوس والأموال ، والتطرف في ذلك إلى حد السماح للفقيه بتجميد القوانين الإسلامية الجزئية (الشريعة) - كما يقول الإمام الخميني والآذري القمي وبعض أنصار ولاية الفقيه في إيران - يعتبر محاولة لإلغاء الفوارق الضرورية بين النبي المعصوم المرتبط بالسماء وبين الفقيه الإنسان العادي المعرض للجهل والهوى والانحراف ، وهذا ما يتناقض تماما مع الفكر الامامي القديم الذي رفض مساواة أولي الأمر (الحكام العاديين) في وجوب الطاعة لهم كوجوب الطاعة لله والرسول ، وذلك خوفا من أمرهم بمعصية والوقوع في التناقض بين طاعتهم وطاعة الله.. ومن هنا ابتدع الفكر الامامي واشترط العصمة كشرط في (الإمام) - مطلق الإمام - ثم قال بوجوب النص ، وانحصار النص في أهل البيت وفي سلالة علي والحسين إلى يوم القيامة .
فإذا أعطينا الفقيه الصلاحيات المطلقة والواسعة التي كانت لرسول الله (ص) وأوجبنا على الناس طاعته ، وهو غير معصوم ، فماذا يبقى من الفرق بينه وبين الرسول؟.. ولماذا إذن أوجبنا العصمة والنص في الإمامة وخالفنا بقية المسلمين وشجبنا اختيار الصحابة لأبي بكر مع انه كان افقه من الفقهاء المعاصرين ؟(1/13)
مادام الفقيه إنسانا غير معصوم فانه معرض كغيره للهوى وحب الرئاسة والحسد والتجاوز والطغيان ، بل انه معرض اكثر من غيره للتحول إلى اخطر دكتاتور يجمع بيديه القوة والمال والدين ، وهو ما يدعونا إلى تحديد وتفكيك وتوزيع صلاحياته اكثر من غيره ، لا ان نجعله كالرسول أو · الأئمة المعصومين ، فانه عندئذ سيتحول إلى ظل الله في الأرض ، ويمارس هيمنة مطلقة على الأمة كما كان يفعل الباباوات في القرون الوسطى .
وهذا ما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عندما قال الإمام الخميني في رسالته إلى السيد علي الخامنائي :· ان الحكومة تستطيع ان تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأت انها مخالفة لمصالح البلد أو الإسلام ، وتستطيع ان تقف امام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام ، ما دام كذلك . ان الحكومة تستطيع ان تمنع وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك ان تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية ، وان باستطاعة الحاكم ان يعطل المساجد عند الضرورة ، وان يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع ان يعالجه بدون التخريب !
وقد يجوز كل ذلك فعلا عند المصلحة والضرورة .. ولكن المشكلة هي من يحدد المصلحة والضرورة؟ إذ ان كل حاكم يرى ان المصلحة تقف إلى جانبه وان الصواب هو ما يراه ، فإذا أعطيناه القدرة على تخريب المساجد فانه قد يخرب ويهدم المساجد المعارضة له ويعتبرها كمسجد ضرار ، وتبلغ المشكلة قمة الخطورة عندما نعطي للحاكم القدرة على إلغاء أية اتفاقية · شرعية يعقدها مع الأمة بحجة انه رأى بعد ذلك انها مخالفة لمصلحة البلد أو الإسلام ، دون ان نعطي الأمة الحق في تحديد تلك المصلحة أو ذلك التناقض مع الإسلام .(1/14)
وبالرغم من ان الإمام الخميني كان قد التزم مع الشعب الإيراني بالدستور الذي أعده مجلس الخبراء في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية ، وحدد فيه صلاحيات الإمام ، إلا انه ألغى الدستور عمليا وتجاوز صلاحياته ليتدخل في أعمال مجلس الشورى ومجلس المحافظة على الدستور ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ، وذلك انطلاقا من إيمانه بقدرة الفقيه الحاكم على إلغاء أية اتفاقية شرعية يعقدها مع الشعب ، إذا رأى بعد ذلك انها تتناقض مع مصلحة الأمة أو الإسلام ، وهو ما عبر عنه للسيد الخامنائي عند احتجاجه على بعض تلك التجاوزات .
ويعود جذر المشكلة إلى ان الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة ، وإنما هو · منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام المهدي أو الأئمة السابقين ، ولذلك فانه ليس بحاجة إلى اخذ رضا الأمة في أية مسألة ، وله الحق ان يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده ، وعلى الأمة ان تطيعه بلا مناقشة أو تردد ، وهو ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى ، ويجيز له و لأي فقيه ان يستولي على السلطة بالقوة أو الانقلاب العسكري أو يحتكرها بعد ذلك ويصادر الحريات والحقوق العامة ويلغي الأحزاب ويعطل مجلس الشورى ، أو يصدر قوانين جديدة تتعارض مع الدستور أو الشرع ، كما اصدر الإمام الخميني قانون (المحاكم الخاصة لرجال الدين) المعمول بها حتى الآن ، والمنافية للمساواة الإسلامية والقوانين الوضعية ، والتي تحكم بما تشاء على من تشاء كيفما تشاء .
ويستند الإمام الخميني في نظريته هذه في (الجعل والنصب والتعيين) على نظرية (النيابة العامة للفقهاء في عصر الغيبة عن الإمام المهدي) وهي نظرية مستنبطة حديثا في القرون الأخيرة ولم يكن لها وجود في القرون الإسلامية الأولى ، و لا يبقى لها أي أساس إذا لم نستطع إثبات ولادة ووجود الإمام المهدي (محمد بن الحسن العسكري) نفسه .(1/15)
وعلى أي حال فان الإمام الخميني الذي يؤمن بنظرية الجعل والنصب للفقهاء من قبل الإمام المهدي ، يقع في مشكلة عويصة هي مشكلة التزاحم بين الفقهاء والصراع فيما بينهم على ممارسة السلطة والولاية ، ويحاول حلها في كتاب (البيع) بصورة أو بأخرى . ولكنه لا يخرج منها بحل مرضٍ خصوصا وانه لا يرى أي دور للامة في تفضيل واحد من الفقهاء على الآخر ، أو حصر الحق بالولاية لمن تنتخبه الأمة ، كما يرى الشيخ المنتظري في كتاب ( دروس في ولاية الفقيه) .
كل هذا يجعلنا نقول : ان الجزء الأول من نظرية ( ولاية الفقيه) السياسية معقول جدا ، ولكن الجزء الثاني (النيابة العامة) الذي يبتني على أحاديث (نقلية) ضعيفة ، يبدو غير منطقي ولا معقول ، خاصة وانه يتسبب في إعطاء الولاية المطلقة العامة للفقهاء ، وتجريد الأمة منها .
المطلب الثالث : إلغاء الدور السياسي للامة
وقد كان لتطور نظرية (ولاية الفقيه) على قاعدة نظرية (النيابة العامة عن الإمام المهدي ) المرتكزة على نظرية (الإمامة الإلهية ) أثر كبير على طبيعة النظرية ونموها في جانب واحد هو جانب السلطة ، دون جانب الأمة ، حيث اصبح للفقيه من الصلاحيات ما للإمام (المعصوم) وما للنبي الأعظم (ص) واصبح الفقيه ( منصوبا) و (مجعولا ) و (معينا ) من قبل (الإمام المهدي) و (نائبا ) عنه ، كما كان (الإمام المعصوم) منصوبا ومجعولا من قبل الله تعالى ، وبالتالي فانه قد اصبح في وضع (مقدس) لا يحق للامة ان تعارضه أو تنتقده أو تعصي أوامره أو تخلع طاعته ، أو تنقض حكمه .(1/16)
ويذهب السيد كاظم اليزدي في (العروة الوثقى) ( المسألة 57 من كتاب الاجتهاد والتقليد) ، وجمع كبير من العلماء ، إلى عدم جواز قيام مجتهد بنقض حكم مجتهد آخر جامع للشرائط ، وذلك استنادا إلى مقبولة عمر بن حنظلة التي تعتبر الرد على الفقهاء استخفافا بحكم الله ، وردا على الأئمة من أهل البيت ، وتقول: ·ان الراد عليهم كالراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله . 22
ومن هنا فقد اتخذت فتاوى العلماء وآراؤهم الاجتهادية الظنية صبغة دينية مقدسة ، ووجب على عامة الناس غير المجتهدين · تقليد الفقهاء والطاعة لهم سواء في التشريع أو التنفيذ أو القضاء ، وحرمت عليهم مخالفتهم .
وبما ان (الأئمة المعصومين ) - حسب نظرية الإمامة الإلهية - معينون من قبل الله تعالى ، وان لا دور للامة في اختيارهم عبر الشورى ، ولا حق لها في مناقشة قراراتهم أو معارضتها ، وان الدور الوحيد المتصور للامة هو الطاعة والتسليم فقط ، فقد ذهب أنصار مدرسة (ولاية الفقيه المنصوب والمجعول والنائب عن ( الإمام المهدي ) إلى ضرورة طاعة الأمة وتسليمها للفقيه ، ولم يجدوا بعد ذلك أي حق للامة في ممارسة الشورى أو النقد أو المعارضة أو القدرة على خلع الفقيه العادل ، أو تحديد صلاحياته أو مدة رئاسته .
وقد ذهب الإمام الخميني في رسالته الشهيرة إلى رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنائي عام (1408ه / 1988م) إلى قدرة الفقيه الولي على فسخ الاتفاقيات الشرعية التي يعقدها مع الأمة ، من طرف واحد ، إذا رأى بعد ذلك ان الاتفاقية معارضة لمصلحة الإسلام أو مصلحة البلاد ، وأناط بالحاكم وليسبالأمة تحديد المصلحة العامة.(1/17)
وذهب الشيخ حسين علي المنتظري في :( دراسات في ولاية الفقيه) إلى :· ان الإمام والحاكم الإسلامي قائد ومرجع للشؤون السياسية والدينية معا .. وان المسئول والمكلف في الحكومة الإسلامية هو الإمام والحاكم ، وان السلطات الثلاث بمراتبها أياديه واعضاده ، وان طبع الموضوع يقتضي ان يكون انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده وباختياره لينتخب من يساعده في العمل بتكاليفه ومع انه استثنى من باب الأولوية انتخاب الأمة لأعضاء مجلس الشورى ، لأنه ادعى لاحترام القرارات المتخذة والتسليم في قبالها ، إلا انه أكد قدرة الإمام العادل (الفقيه) على تعيين أعضاء مجلس الشورى بنفسه إذا رأى عدم تهيؤ الأمة لانتخاب الأعضاء ، أو لم يكن لها رشد ووعي سياسي لانتخاب الرجال الصالحين ، أو كانت في معرض التهديدات والتطميعات واشتراء الآراء . 23
ولكن المنتظري عاد فاستثنى من ذلك صورة اشتراط الأمة على الإمام حين انتخابه كون انتخاب فريق الشورى بيد الأمة لا بيده . وهذا بالضبط ما فعله الإمام الخميني حين اقر الدستور وأسس الجمهورية الإسلامية ، ولكنه عاد فتحرر من العمل به بناء على (ولاية الفقيه المطلقة ) .
وقد كان للتطور التدريجي الطويل الذي امتد اكثر من ألف عام أثره أيضا على طبيعة نظرية (ولاية الفقيه) من حيث عدم التكامل والشمول في البحث ، واقتصار النظرية على الجانب الرئاسي وإهمال الدور السياسي للامة .(1/18)
وفي الحقيقة .. ان أساس المشكلة في هذه المسألة المهمة يعود إلى الدمج بين نظرية (النيابة العامة) المستنبطة من بعض الأدلة الروائية الضعيفة وبين نظرية (ولاية الفقيه) المعتمدة على العقل وعلى ضرورة تشكيل الحكومة في ( عصر الغيبة ) بعيدا عن شروط العصمة والنص الإلهي والسلالة العلوية الحسينية ، وان الخلط بين هاتين النظريتين ، أو تطوير نظرية (النيابة العامة ) إلى مستوى إقامة الدولة أدى إلى جعل الفقيه بمثابة الإمام المعصوم أو النبي الأعظم واعطائه كامل الصلاحيات المطلقة ، وإلغاء الفوارق بين المعصوم وغير المعصوم ، بالرغم من قابلية الأخير للجهل والخطأ والانحراف ، وهو ما يتناقض مع أساس الفلسفة الامامية القديمة حول اشتراط العصمة في الإمام .(1/19)
الخاتمة :
مستقبل الفكر السياسي الشيعي :
الشورى .. وولاية الأمة على نفسها
إذا القينا نظرة شاملة على مسيرة الفكر السياسي الشيعي خلال ألف عام ، منذ وفاة الإمام الحسن العسكري ، والقول بوجود ولد له في السر هو :( الإمام المهدي) الغائب المنتظر ، نجد ان هذا الفكر قال في القرون الأولى بنظرية :(التقية والانتظار) كلازمة من لوازم نظرية (الإمامة والغيبة) التي كانت تحرم إقامة الدولة أو الثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة (الإمام المعصوم المعين من قبل الله تعالى) وهو ما أدى إلى انسحاب الشيعة من المسرح السياسي والانعزال التام ..
ثم تراجع الفكر الامامي عن هذه النظرية تدريجيا وقال بنظرية :(النيابة العامة) التي طورها الفقهاء بعد ذلك بقرون إلى نظرية ( ولاية الفقيه) ، والتي تخلَّوا فيها عمليا عن النظرية (الامامية ) حيث أجازوا إقامة الدولة بدون اشتراط العصمة أو النص أو السلالة العلوية الحسينية في (الإمام المعاصر) وهو ما أدى إلى نهضة الشيعة في العصر الحديث ، وقيامهم بتأسيس (الجمهورية الإسلامية ) في إيران .(1/1)
وقد رفض أصحاب نظرية (النيابة العامة وولاية الفقيه) النصوص المثبطة التي جاء بها أصحاب نظرية (الانتظار) و التي كانت تحرم الثورة والخروج مع أي ثائر حتى لو كان من أهل البيت سوى ( الإمام المهدي المنتظر) . واستعانوا بالعقل في عملية التنظير لوجوب إقامة الدولة في (عصر الغيبة ) واستخدموا نفس أدلة وجوب الإمامة ، الفلسفية ، التي استخدمها الأولون ، في إثبات عدم جواز انتظار (الإمام المهدي الغائب) الذي قد تطول غيبته آلاف السنين ، كما قال الإمام الخميني . و ذلك خلافا للشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم من المتكلمين الذين كانوا يشترطون العصمة في الإمام ، ويقولون: · ان طريق معرفة الإمام هو النصب والنص من الله ، وان لا طريق للتعرف على الإمام إلا بقول النبي أو الإمام السابق أو المعاجز . ويرفضون : قيام الأمة بنصب الإمام واختياره عبر الشورى ، ويقولون: ليس يقوم عندنا مقام الإمام إلا الإمام .
ولكن تمحور النهضة الشيعية الحديثة حول نظرية (ولاية الفقيه) أو (المرجعية الدينية ) التي ترتكز على نظرية (النيابة العامة ) أدى إلى تضخم دور الفقهاء على حساب الأمة ، والابتعاد عن الشورى والديموقراطية . فبالرغم من قيادة الفقهاء في مطلع القرن العشرين للحركة الدستورية الديموقراطية في إيران ، وقيام الجمهورية الإسلامية على أساس الانتخابات العامة ، إلا ان الفقيه أو (المرجع الديني) ظل يتمتع بسلطات واسعة وصلاحيات مطلقة تمنحه الشرعية والقدرة على تجاوز رأي الأمة واستخدام القوة للوصول إلى السلطة ، أو تجاوز القوانين الشرعية الأساسية ، وظل مجلس الشورى مقيدا بمجلس أعلى من الفقهاء وعاجزا عن اتخاذ أي قرار لا يوافق عليه (الفقيه) . واتخذ نظام (المرجعية الدينية) شكلا فرديا مستبدا ومقدسا يتعالى فيه الفقيه · نائب الإمام عن الخضوع لإرادة الأمة أو استشارتها في عمليتي التشريع والتنفيذ .(1/2)
ويمكننا القول ان الفكر السياسي الشيعي الحديث وصل إلى (الشورى) ولم يصل إليها ، وذلك بسبب مخلفات القول بوجود (الإمام الثاني عشر ) وغيبته ، وما تسبب من افتراض (النيابة العامة ) عنه .
ولو كان الفكر السياسي الشيعي القديم (الامامي) يقبل بنظرية (الشورى) من قبل أو يؤمن بنظرية (ولاية الفقيه) لما كان بحاجة إلى افتراض وجود (الإمام المعصوم : محمد بن الحسن العسكري) بالرغم من عدم وجود أدلة علمية تثبت ذلك . ولما كان بحاجة بعد ذلك إلى القول بنظرية (التقية والانتظار) ثم افتراض (النيابة الواقعية) أو (النيابة العامة) لحل إشكالية تعطيل الحدود والجوانب الاقتصادية والسياسية وتحريم إقامة الدولة في (عصر الغيبة) . اما وقد آمن الفكر السياسي الشيعي المعاصر بنظرية (ولاية الفقيه ) فهو مطالب بإقامتها على أساس (الشورى) وحق الأمة في السيادة على نفسها وادارة شؤونها بنفسها . إذ ان إقامة نظرية (ولاية الفقيه) على أساس (النيابة العامة للإمام المهدي) يتناقض مع أساس نظرية (الغيبة) وفلسفة وجود (الإمام المعصوم) ، فضلا عن ضعف نظرية (لنيابة العامة) وعدم اعتمادها على أدلة كافية .
وكان من ألا جدر بعد إعادة النظر في أساس الفكر الامامي والتخلي عن شروط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في (الإمام) ، ان يعاد النظر في الفرضية (المهدوية) التي تفرعت عن نظرية (الإمامة الإلهية ) وحتمية وجود (الإمام المعصوم المعين من قبل الله ) . فلو اجزنا إمكانية إقامة الدولة بالفقيه العادل أو بالعادل من المؤمنين فانه لا تبقى أية حاجة إلى افتراض وجود (الإمام المعصوم) دون ان يتفاعل مع الأمة خلال اكثر من ألف عام .(1/3)
وإذا لم نقل بفرضية وجود الإمام الغائب ، فاننا لسنا بحاجة إلى افتراض (النيابة الخاصة أو العامة) .. ومن ثم فاننا لا نعطي الفقيه من الصلاحيات والسلطات اكثر من دوره الطبيعي الاستشاري ، ولا نجعل منه شخصية مقدسة في الفتوى والحكم كشخصية الرسول الأعظم محمد (ص) أو (الأئمة المعصومين)
لذا نعتقد ان من الضروري جدا ، في هذه المرحلة من تطور الفكر السياسي الشيعي ، بحث موضوع وجود وولادة (الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) واعادة النظر في الأدلة الفلسفية والنقلية والتاريخية التي تحدثت عن ذلك .. من اجل إعادة تصحيح الفكر السياسي الشيعي وبناء علاقات اكثر ديموقراطية بين الأمة والإمام .
وإذا تحررنا من نظرية (النيابة العامة) بعد وضوح ضعفها وعدم صحتها لعدم وجود (المنوب عنه : الإمام المهدي ) وعدم ثبوت ولادته ، فاننا يمكن ان نقيم أساس الدولة على قاعدة (الشورى) وولاية الأمة على نفسها ، بمعنى ان يكون الإمام منتخبا من الأمة ونابعا من إرادتها ونائبا عنها ومقيدا بالحدود التي ترسمها له وملتزما بالصلاحيات التي تعطيها له . وذلك لأن الأدلة العقلية تعطي للامة حق اختيار الحاكم ليحكم بالنيابة عنها ، كما تعطيها الحق في ان تهيمن على الإمام وتشرف عليه وتراقبه وتحاسبه وان تعطيه من الصلاحيات بقدر ما تشاء وحسبما تشاء ، وذلك لأن منبع السلطة في غياب النص الشرعي وعدم وجود الإمام المعين من قبل الله تعالى هي الأمة الإسلامية . حيث لا تعطي الأدلة العقلية الحاكم العادي (غير المعصوم) القابل للخطأ والصواب والانحراف والهدى ، من الصلاحيات المطلقة مثلما تعطي للرسول المرتبط بالله عبر الوحي ، ولا تساويه أبدا مع (الإمام المعصوم) .
ويمكن الاستدلال على كون الأمة هي منبع السلطة بما يلي:(1/4)
1 - القرآن الكريم الذي يقول:· وأمرهم شورى بينهم ، والذي يتوجه في خطابه من اجل تنفيذ الأحكام الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والجهاد والخمس والزكاة والصلاة وما إلى ذلك ، إلى الأمة الإسلامية ، ويلقي على عاتقها مسئولية تطبيق الدين ، ولما كانت الأمة بحاجة إلى رئيس وقائد أو امام ، لتنفيذ ذلك ، فأنها تنتخب رجلا عالما عادلا من بين صفوفها ، وتكلفه تنفيذ الواجبات العامة والقيام بمهام الإمامة الكبرى .
2 - الأحاديث الواردة عن الرسول الأعظم (ص) واهل البيت (ع) والتي تنص على الشورى ، وتأمر بانتخاب الإمام العادل الملتزم بتعاليم الدين ، كالحديث النبوي الذي يقول :· إذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها . (تحف العقول ص 36)
والحديث الذي يرويه الصدوق في :(عيون أخبار الرضا) عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن رسول الله (ص) انه قال:· من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه ، فان الله عز وجل قد إذن ذلك . (المصدر ج2 ص 62)
وقول الإمام علي (ع) في رسالة له إلى معاوية بن أبى سفيان :· ... الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل .. ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدءوا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة .( كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 182 والمجلسي: بحار الأنوار ج8 ص 555 من الطبع القديم)
وما في كتاب صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية على :· ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين >( المجلسي: بحار الأنوار ج44 ص 65 باب كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن المجتبى)(1/5)
3 - العقل ، الذي يحكم بالشورى كأفضل طريق لانتخاب الإمام في حالة عدم وجود النص والتعيين من قبل الله تعالى ، وهو ما يلتزم به العقلاء في كل مكان وفي مختلف الأديان والمذاهب اكثر مما يلتزمون بأسلوب الوراثة الملكية أو الحكومات العسكرية القائمة على القوة والإرهاب .
4 - الواقع ، الذي يثبت عدم وجود امام ظاهر معين من قبل الله لقيادة الأمة الإسلامية والشيعة منذ اكثر من ألف عام ، وعدم صحة نظرية (النيابة الخاصة أو العامة) القائمة على فرضية (وجود ولد للإمام الحسن العسكري) لم يظهر ليقوم بواجبات الإمامة منذ اكثر من ألف عام .
يقول الشيخ حسين علي المنتظري:· مع عدم التمكن من الإمام المعصوم فان الإمامة واحكامها لا تعطل .. بل تصل النوبة إلى الإمام المنتخب من قبل الأمة ويجب الإقدام على اختياره وانتخابه بشرائطه . (دراسات في ولاية الفقيه ج1 ص883 )
وكان الميرزا النائيني قد قال في :(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان اصل الحكومة الإسلامية شوروية ، وحق من حقوق عامة الناس ، و ان الحاكم العادل المثالي لا يوجد ، وهو كالعنقاء أو أعزّ من الكبريت الأحمر ، وكذلك الأئمة المعصومين غير موجودين... .
وإذا ثبت قانون الشورى كقاعدة وحيدة لشرعية الحكم في ظل غياب النص من الله وعدم صحة نظرية(النيابة العامة) فانه ينعكس على عدة مجالات ، ويؤدي إلى ما يلي:
1 - الشورى في التنفيذ ، وهذا يعني : ضرورة انتخاب الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ومبايعة الأمة له ، وضرورة موافقة الأغلبية المطلقة على قراراته وسياسته العامة ، وذلك بعرضها على مجلس الشورى أو التصويت عليها من قبل الشعب ، وذلك لأن انتخابه الابتدائي لايعني التسليم امام كل قرار يتخذه حتى إذا لم يحضَ برضا الأمة . ويعني ذلك أيضا: ضرورة تصويت مجلس الشورى على الهيئة التنفيذية (الوزارة ( التي ينتخبها الرئيس المنتخب لمساعدته في عملية التنفيذ .(1/6)
وهنا لا بد ان نستشهد بقول الشيخ النائيني في (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) :· ان رأي الأكثرية من المرجحات لدى التعارض ، ويستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة . وهو الحل الوحيد لحفظ النظام لدى اختلاف الآراء ، وأدلة لزومه نفس أدلة لزوم حفظ النظام ، وقد التزم الرسول الأكرم في موارد عديدة بآراء الأكثرية كما في أحد والأحزاب ، والتزم الإمام علي بن أبى طالب في قضية التحكيم برأي الأكثرية وقال:· انها لم تكن ضلالة بل سوء رأي ، ولأن الأكثر قالوا واتفقوا على ذلك فوافقت ... فالحكام البشر العاديون لا بد من تحديدهم ، وإذا كانت العصمة أو التقوى تحدد الحاكم وتمنعه من الطغيان والتجاوز والاعتداء فاننا يمكن ان نصل إلى هذه النتيجة بالقوانين المسددة التي تحدد الصلاحيات للحاكم ، وذلك عن طريق :
1 - الدستور الذي يحدد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكومين...
2 - ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة والمسئولية عبر مجلس شورى من العقلاء والخبراء والقانونيين والسياسيين ، وهو الذي يمنع الولاية من التحول إلى الملك والمالكية... .
ان طريقة الشورى تختلف عن عملية قيام الفقيه ( النائب العام المعين والمجعول من قبل الإمام المهدي) بتشكيل الحكومة الإسلامية ، بمجرد حصوله على القوة والأنصار ، حتى إذا لم تقبل به أكثرية الأمة . ويمتاز نظام الشورى عن نظام (النيابة العامة) في ان الحاكم الأعلى ( الإمام ) فيه ، غير مقدس ، وذلك بمعنى عدم اتخاذ الحاكم صفة دينية إلهية ، حتى لو كان مجتهدا عادلا ، وان قراراته غير مقدسة ، وان كانت محترمة في إطار الدستور ، وبعبارة أخرى : ان الحاكم في نظام الشورى يظل مدنيا وشعبيا ولا يرقى لكي يصبح ظل الله في الأرض .(1/7)
و بعد .. فان الأدلة العقلية لا تحتم ضرورة تبوؤ (الفقهاء) بالمعنى المصطلح عليه ، لمنصب القيادة العليا ، مع إمكانية تصدي عدول المؤمنين الأكفاء لهذا المنصب وخضوعهم لمجلس تشريعي (برلمان ) يعتمد التفقه في الدين ويراعي تطابق الأحكام والقوانين مع الشرع المقدس .
2 - الشورى في التشريع ، وهذا يعني : ضرورة انتخاب مجلس نواب من الأمة للقيام بمهمة تشريع الأحكام والقوانين الثانوية الجديدة التي لم ينص عليها الإسلام ، والقابلة للاجتهاد .
وتختلف عملية التشريع هذه ، عن عملية التشريع القائمة على نظرية (النيابة العامة) في ان عملية التشريع السابقة كانت تكتسي صفة الشرعية والقداسة والدين بمجرد قيام فقيه ما باستنباط حكم فقهي في قضية معينة ، بينما تعتبر (الشورى ) كل عمل فقهي خارج حدود الشرعية والقانونية الدستورية مجرد رأي شخصي لا تتوفر فيه صفة الإلزام إلا بعد عرضه على مجلس الشورى والتصويت عليه حسب الدستور .
3 - الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية .
ان نظرية (ولاية الفقيه) القائمة على نظرية (النيابة العامة) كانت تركز عامة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدي رجل واحد هو (الفقيه) باعتباره نائبا عن الإمام المهدي ، بينما تتيح نظرية (الشورى) للامة القيام إذا شاءت بالفصل بين السلطات ، وإعطاء الإمام أو الحاكم الأعلى مهمة القيادة والتنفيذ فقط ، وايكال عملية التشريع إلى مجلس من النواب المنتخبين من قبل الأمة ، وايكال مهمة القضاء إلى قضاة مختصين ومستقلين.
وفي هذه الحالة لا تشترط نظرية (الشورى) بأن يكون الحاكم الأعلى ( فقيها قانونيا ) ، كما كانت تفعل نظرية (النيابة العامة) وتكتفي باشتراط العلم والكفاءة الإدارية والسياسية والعدالة والأمانة ، وذلك لخضوع الحاكم إلى مجلس من النواب الذين يعتمدون التفقه في الشريعة الإسلامية.(1/8)
وهذه ليست صورة مبتكرة نقدمها عن الحكومة الإسلامية ، بل هي مصداق للحديث الشريف الذي يثني على الأمراء الذين يقفون على أبواب العلماء ويذم العلماء الذين يقفون على أبواب الأمراء ، والذي يفيد ضرورة خضوع السلطة التنفيذية (الأمراء) إلى السلطة التشريعية (العلماء) وينهى عن العكس .
والسؤال الآن هو : أين إذن موقع (الشورى) من نظرية (الإمامة الإلهية ) و لماذا رفض المتكلمون (الاماميون ) الإيمان بها ؟ .. ولماذا قالوا باشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في (الإمام) ؟ .. ومن أين جاؤا بأقوالهم تلك ؟.. هل اختلقوها ؟ أم اقتبسوها من أهل البيت (ع) ؟ .. وبالتالي فهل يشكل القول بنظرية (الشورى ) خروجا عن مذهب أهل البيت ؟ أم عودة إلى صفوفهم ؟
ان الإجابة عن هذه الأسئلة ، والبحث عن اصل نظرية الإمامة ومنشئها وموقف أهل البيت منها هو موضوع الجزء الأول من هذا الكتاب : (تطور الفكر السياسي الشيعي) وقد بحثنا فيه بالتفصيل كل تلك المواضيع ، واثبتنا التزام أهل البيت (ع) بمبدأ الشورى في الحكم والحياة ، وعدم تبنيهم لنظرية المتكلمين :( العصمة والنص وتوارث السلطة في سلالتهم ) .
و ختاما نقول : ان الفكر السياسي الشيعي لن يستطيع التقدم نحو الإمام وإرساء قواعد (الشورى) إلا بالسير على نهج الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام) ، ولن يستطيع تحقيق ذلك إلا بالتخلص من أوهام المتكلمين وفرضياتهم الخيالية التي ادخلوها في تراث أهل البيت ، وعلى رأسها فرضية ولادة ووجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) التي لم يقل بها أهل البيت (ع) ولم يعرفوها في حياتهم ، والتي تسببت في أبعاد الشيعة عن مسرح التاريخ قرونا طويلة من الزمن .
ونسأل الله ان يوفقنا ويهدينا إلى ما فيه الخير و الصواب ، انه سميع مجيب ، والحمد لله رب العالمين .
احمد الكاتب
1 رمضان المبارك / 1417 ه
10 كانون الثاني / 1997 م(1/9)