اللمع
في الرد على أهل الزيغ والبدع
تأليف
الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري
المتوفي سنة 324 هـ
وفي آخره
رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام للمصنف
الفهرس
المقدمة
ترجمة أبو الحسن الأشعري
[ خطبة الكتاب ]
الباب الأول باب الكلام في وجود الصانع وفاته
المسائل
[ ما الدليل على أن للخلق صانعاً ]
[ الباري لا يشبه المخلوقات ]
[ صانع الأشياء واحد ]
[ ما الدليل على جواز إعادة الخلق ]
[ إنكار أن يكون الله تعالى جسماً ]
[ الله تعالى عالم ]
[ إن الله سميع بصير ]
[ الله لم يزل عالماً ]
[ إن للباري علماً به علم ]
الباب الثاني باب الكلام في القرآن والإرادة
[ الله تعالى لم يزل متكلماً وكلام الله غير مخلوق ]
[ القادر منا على الكلام قد خلا من الكلام ]
الباب الثالث باب الكلام في الإرادة وأنها تعم سائر المحدثات
[ الله مريد لكل شيء ]
[ الزعم أنه لا يريد السفه إلا سفيه ]
الباب الرابع باب الكلام في الرؤية
[ رؤية الله تعالى باللإبصار جائزة ]
[ قوله تعالى : (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ )) ]
[ لو جاز لزاعم أن يرى القديم ] .
[ هل شاهدتم مرئياً إلا جوهراً أو عرضاً محدوداً ]
الباب الخامس باب الكلام في القدر
[ أكساب العباد مخلوقة لله تعالى ] .
[ إذا كان كسب الإنسان خلقاً ]
[ العبد بين النعمة والبلية ]
[ هل قضى الله المعاصي وقدرها ]
[ الرضا بقضاء الله وقدره ولو كفراً ]
[ خير الخير ]
[ هل الشر من الله تعالى ]
[ معنى قوله تعالى : (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )) .[ آل عمران : 78] ] .
[معنى قوله تعالى : (( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) ]
[ معنى قوله تعالى (( الذي أحسن كل شيء )) ]
[ معنى قوله تعالى : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً )) ](1/1)
[ القول لأهل القدر ]
[ قول الله تعالى : (( أن الله بريء من المشركين ورسوله )) ]
[ من ألقى ذلك في قلبه ]
[ تسمية القدرية ]
الباب السادس باب الكلام في الاستطاعة
[ الإنسان يستطيع باستطاعةٍ هي غيره ]
[ أليس قد كلف الله تعالى الكافرين الإيمان ]
[ من طبق امرأته وأعتق عبده]
[ قوله تعالى : (( وعلى الذين يطيقونه فدية )) ]
[ قوله تعالى : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً )) ]
[ معنى قوله تعالى : (( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم )) ]
[ قوله تعالى : (( فاتقوا الله ما استطعتم )) ]
[ قوله تعالى : (( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً )) ]
[ قوله تعالى : (( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ )) ]
[ قوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) )) ]
الباب السابع باب الكلام في التعديل والتجوير
[ هل يقدر الله على لطف لو فعله بالكفار لآمنوا ]
[ إن كان الله لم يفعل بهم ما يؤمنون ]
[ هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة ؟ ]
الباب الثامن باب الكلام في الإيمان
[ ما الإيمان بالله تعالى ]
[ هل الفاسق من أهل القبلة مؤمن ]
الباب التاسع باب الكلام في الخاص والعام والوعد والوعيد
[ قوله تعالى : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) ]
الباب العاشر باب الكلام في الإمامة
[ الدليل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ]
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة(1/2)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( العلماء أمناء الرسل )) (1)
قيل : من الات العلم شيخ فتاح ، أي لأقفال القلوب ، وهو الذي كلمت أهليته ، واشتهرت صيانته ، ومان له في العلوم الشرعية تمام الاطلاع ، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع ، يفيد التفهم والتعليم ، ويعمل الطالب بالتأديب ، يوضح لهالعبارة ، ويجلي له الإشارة ، ويجلو مرآة قلبه بلطائف المعارف الرواردة من فضل الله تعالى مقاله ، لأن فتح كل واحد ونوره على حسب متبوعه ونوره ، غير خاف أن المشيخة شأنها عظيم وأمرها عالٍ جسيم ، وقد ألف العلماء في بيان آدابها الرسائل العديدة .
والشيخ بفتح الشين المعجمة لغة : هو من استبان فيه الشيب .
وفي العرف العام : هو العاقل أو المحنك بالتجارب ، أو المرشد .
وفي العرف الخاص : هو الراسخ في علوم الشرع الثلاثة : الإيمان الذي هو مادة علم التوحيد ، والإسلام الذي هو مادة علم الفقه ، والإحسان الذي هو مادة علم المطلوب في علم السلوك والحقيقة .
إن الشيخ العلم المتبحر الرباني المربي المهذب المرشد طبيب شاف للأرواح بما علمه الله من فيضه الرحماني .
هكذا هي حال شيخنا الإمام الأشعري ، فللوهلة الأولى يبدو موقف الأشعري متناقضاً ، وفي الحقيقة هو موقف معتدل ودقيق .
إن مفهوم خالق آخر عدا الله ، عند الأشعري ، هو عبارة عن إشراك بالله ، وحد لقدرته الكاملة .
__________
(1) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ( 1 : 388) ، الشجري في الأمالي (1 : 68) ، المتقي الهندي في كنز العمال (28952) ، ابن عراق في تنزيه الشريعة ( 2 : 84) ، الفتني في تذكرة الموضوعات (24) ، العجلوني في كشف الخفا (132) ، السيوطي في اللآلئ المصنوعة (1 : 114) ، العراقي في المغني عن حمل الأسفار (1 : 68) ، ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (1506) ، ابن الجوزي في الموضوعات (1: 263) .(1/3)
لكنه مع هذا فهو يخالف أهل الحديث في دعواهم أن الإنسان لا يؤدي أي دور في عملية الفعل الخلقي ، إذ حاول في نظريته ((الكسب)) ، أو ((اكتساب الجزاء)) ، أو (( العقاب على العمل المجترح )) ، أن يجد مخرجاً من معضلة المسؤولية ، دون أن يضحي بقدرة الله المطلقة .
ذلك الإنسان من حيث هو محور الفعل (( المكتسب)) ، أو موضوعه ، يصبح مسؤلاً عنه ، بينما هو غير مسؤول قطعاً عن الفعل الإضطراري .
إن أهم ما في ((إصلاح)) الأشعري يكمن في استعداده للاستفادة من أسلوب المعتزلة الجدلي ، كذلك في التلطيف من حدة مواقف أهل الحديث ، وسائر خصوم العقليين .
يمتاز (( كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع )) للشيخ الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري بأسلوبه الفلسفي الجزل ، وتسلسله المنطقي ، وقوة حجته .
إن أبا حسن الأشعري في هذا الكتاب (( اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع )) يحاور المعتزلة حواراً هادئاً يفند فيه أفكارهم ، ويدحض نظرياتهم ، ويعريها من منهجيتها ، ومصداقيتها .
لذا يظهر المعتزلة في هذا الكتاب وكأنهم بحاجة إلى إعادة النظر في أفكارهم ومبادئهم ، ونظرياتهم .
يقع في هذا الباب عشرة أبواب :
تناول في الباب الأول الكلام في وجود الصانع وصفاته ، والباب الثاني الكلام في القرآن والإرادة ، والباب الثالث الكلام في الإرادة وأنها تعم سائر المحدثات ، والباب الرابع الكلام في الرؤية ، والباب الخامس الكلام في القدر ، والباب السادس الكلام في الاستطاعة ، والباب السابع الكلام في التعديل والتجوير ، والباب الثامن الكلام في الإيمان ، والباب التاسع الكلام في الخاص ، والعام ، والوعد ، والوعيد ، والباب العاشر الكلامفي الإمامة .
وقد ختم الكتاب برسالة في استحسان الخوض في علم الكلام وإسناد نقلة المتن ، وقول منكري البحث ، والنظر في أصول الدين . وأورد في آخره إجابات رد فيها على منكرين البحث ، والنظر في أصول الدين .(1/4)
أما ماقمت به من عمل في هذا الكتاب فهو ضبط النص ، وترتيب فقراته ، وعنونة فقراته .
كما قدمت له ، وترجمت لمؤلفه الإمام االشيخ أبي الحسن الأشعري ترجمة وافية ذكرت فيها نسبه ، ومولده ، ونشأته ، ووفاته ، وأرزاقه ، وأساتذته ، ومصنفاته العديدة .
محمد أمين الضناوي
أبو الحسن الأشعري (1) (2)
ترجمته
__________
(1) للاستزادة يراجع : طبقات الشافعية (2:245) ، المقريزي (2: 359 ) ، ابن خلكان في وفيان الأعيان ( 3 : 249 ) ، ابن كثير في البداية والنهاية (11 : 187 ) .(1/5)
أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري (1) ،
__________
(1) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهير بن الأشعر ، أبو موسى ، الأشعري ، من بني الأشعر من قحطان ، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين ، أحد الحكمين اللذين رضي بهما معاوية وعلي بعد حرب صفين ، ولد في زبيد باليمن سنة 1 ق . هـ ، قدم مكة عند ظهور الإسلام ، فأسلم ، وهاجر إلى أرض الحبشة ، ثم استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن ، ولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 هـ ، افتتح أصبهان والأهواز ، ولما ولي عثمان أقره عليها ، ثم عزله ، فانتقل إلى الكوفة ، فطلب أهلها من عثمان توليته عليهم ، فولاه ، فأقام بها إلى أن قتل عثمان ، فأقره علي ، ثم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو أهل الكوفة لينصروه ، فأمرهم أبو موسى بلاقعود في الفتنة ، فعزله علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص ، فارتد أبو موسى إلى الكوفة ، فتوفي سنة 44 هـ ، كان أحسن الصحابة صوتاً في التلاوة ، خفيف الجسم ، قصيراً ، وفي الحديث : (( سيد الفوارس أبو موسى )) . للاستزادة راجع : تهذيب الكمال ج2 / ص724 ، تهذيب التهذيب ج5 / ص326 ، تقريب التهذيب ج1 / ص441 ، خلاصة تهذيب الكمال ج2 / ص 89 ، الكاشف ج2 / ص119 ، تاريخ البخاري الكبير ج5 / ص22 ، الجرح والتعديل ج5 /ص138 ، الثقات ج3 /ص221 ، التجريد ج1 / ص330 ، الإصابة ج4/ص 211 ، الإستيعاب ج3 / ص 679 ، الوافي بالوفيات ج17 / ص 407 ، سير الأعلام ج2 / ص 380 ، صفة الصفوة ج1 / ص225 ، طبقات ابن سعد ج4 / ص79 ، غاية النهاية ج1 / ص 442 ، حلية الأولياء ج1 / ص 256 ..(1/6)
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة ، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية ، فهو بذلك مؤسس مذهب الأشاعرة ، كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين .
مولده ونشأته
ولد سنة 260 هجرية / 874 م في البصرة وتلقى مذهب المعتزلة ، وتقدم فيهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم وقد بلغ الأربعين من العمر .
قيل : ((إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظهر له في المنام موعزاً إليه : (( ارع أمتي )) ، فما كان من الأشعري إلا أن اعتلى منبر المسجد في البصرة وأعلن ارتداده وعزمه على التشهير بفضائح المعتزلة ومعايبهم )) (1)
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان : (( كان أبو الحسن الأشعري أولاً معتزلياً ، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بلابصرة يوم الجمعة ، و رقي كرسياً ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار ،و أن أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ، ومعايبهم )) (2) .
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان عن أبي بكر الصيرفي : (( كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم )) (3) .
وفاته
توفي ببغداد سنة 324هـ / 936م . ودفن بين الكرخ ، وباب البصرة . هذا ما ذكره ابن الهمذاني في (( ذيل تاريخ الطبري )) .
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان : ((ودفن في مشروع الزوايا في تربة إلى جانبها مسجد وبالقرب منه حمام ، وهو يسار المار من السوق إلى دجلة )) (4) .
أرزاقه
__________
(1) ماجد فخري ، تاريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 289 .
(2) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج3 / ص 250 .
(3) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج3 / ص250 .
(4) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج3 / ص 250 .(1/7)
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان عن ابن الخطيب : (( وكان يأكل من غلة ضعيفة وقفها جده بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى على عقبه ، وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً )) (1) .
أساتذته
أبو إسحاق المروزي
كان أبو الحسن الأشعري يجلس أيام الجمع في حلقة أبي إسحاق المروزي ، الفقيه الشافعي في جامع المنصور ببغداد ، ويتعلم منه ويتتلمذ عليه ، لكنه كان دائم إعمال الفكر والاجتهاد ، والتأويل .
الجبائي
درس أبو حسن الأشعري علم الكلام على يد الجبائي ، رئيس معتزلة البصرة .
للأشعري مناظرة مع الجبائي سأل فيها التلميذ أستاذه : ما حال ثلاثة إخوة في الحياة الآخرة ، مات أحدهم على الإيمان ، وثانيهم على الفسق ، وثالثهم قبل بلوغ سن الرشد .
يجيب الأستاذ : يلحق الأخ الصالح بالنعيم ، والفاسق بالجحيم ، والثالث بمنزلة بين المنزلتين .
فيسأل الأشعري ثانياً : ماذا لو أراد الأخ الثالث أن يلحق بأخيه الأول في النعيم ؟
فيجيب الجبائي : لا يؤذن له ، لأن أخاه الأول لحق بالنعيم بسبب طاعاته الكثيرة .
فيقول الأشعري : فإذا احتج الأخ الثالث أنه لو أبقاه الله لاختار حياة البر فماذا يحدث .
فيجيب الجبائي : يقول الباري : كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ، فراعيت مصلحتك وكفيتك عذاب الجحيم المقيم .
فيقول الأشعري : لو صاح الأخ الفاسق قائلاً : يا إله العالمين ، لقد علمت حالي أيضاً ، فلم راعيت مصلحته دون مصلحتي ؟ فبماذا يجيب ؟
عندها عجز الجبائي عن الإجابة عما عسى أن يكون رد الله على هذه الاحتجاجات .
مذهبه
علع هذه المناظرة السالفة الذكر ما دفع الأشعري إلى القول بأن من حق الله وحده أن يدبر شؤون البشر كما يشاء .
وأن من واجب (( العبد )) الإطاعة دون استفسار ، خلافاً لدعوى المعتزلة الذين شددوا على حرية العبد ومسؤوليته ، ووصفوه بأنه خالق لأفعاله .
مصنفاته
قيل : بلغت مصنافته حوالي الثلاثمائة كتاب ، منها :
__________
(1) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج3/ ص250 .(1/8)
- إمام الصديق .
- الرد على المجسمة .
- مقالات الإسلاميين . طبع في جزءين .
- الإبانة عن أصول الديانة . طبع .
- رسالة في الإيمان . مخطوطة .
- مقالات الملحدين .
- الرد على ابن الراوندي .
- خلق الأعمال .
- الأسماء والأحكام .
- استحسان الخوض في الكلام . طبع ، وهو عبارة عن رسالة .
[ خطبة الكتاب ]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله ذي الجود والثناء والمجد والسناء والعز والكبرياء أحمده على سوابغ النعماء وجزيل العطاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عنده اللقاء وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء .
أما بعد فإنك سألتني أن أصنف لك كتاباً مختصراً أبين فيه جملاً توضح الحق وتدمغ الباطل الناطق بالظلوف فرأيت إسعافك بذلك رحمك وأغدق عليك الله الخيرات وأعانك على الخبر بالمطلوبات .
الباب الأول
باب الكلام في وجود الصانع وفاته
مسألة
[ ما الدليل على أن للخلق صانعاً ](1/9)
إن سأل سائل فقال : ما الدليل على أن للخلق صانعاً صنعه ومدبراً دبره . قيل الدليل على ذلك أن الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً ودوماً . وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً ولا أن يخلق لنفسه جارحة ، يدل ذلك على أنه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز لأن ما قدر عليه في حال النقصان فهو في حال الكمال عليه أقدر وما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز . ورأيناه طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفنا على أنه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر .
مما يبين ذلك أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلاً مفتولاً ، ثم ثوباً منسوجاً بغير ناسج ولا صانع ولامدبر ، ومن اتخذ قطناً ثم انتظر أن يصير غزلاً مفتولاً ثم ثوباً منسوجاً بغير صانع ولا ناسج كان عن معقول خارجاً وفي الجهل والجاً . وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصراً مبنياً فانتظر أن يتحول الطين إلى حالة الآجر وينتضد بعضه على بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلاً .
وإذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة ثم لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة كان أولى أن يدل على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال .(1/10)
ولقد قال الله تعالى : (( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ (59) )) [ الواقعة 58 - 59 ] فما استطاعوا أن يقولوا بحجة أنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون . وقد قال الله تعالى منبهاً لخلقه على وحدانيته (( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (21) )) [ الذاريات : 21 ] يبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم .
فإن قالوا : فما يؤمنكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة . قيل لهم : لو كان ذلك ما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير ولا الانقلاب والتغيير لأن القيم لا يجوز انتقاله وتغيره وأن يجري عليه سمات الحدث لأن ما جرى ذلك عليه ولزمته الضعة لم ينفك من سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثاً مصنوعاً فبطل بذلك قد النطفة وغيرها من الأجسام .
مسألة
[ الباري لا يشبه المخلوقات ]
فإن قال قائل : لم زعمتم أن الباري سبحانه لا يشبه المخلوقات . قيل لأنه لو أشبهها لكان حكمه في الحدث حكمها ولو أشبهها لم يخل من أيشبهها من كل الجهات أو من بعضها فإن أشبهها من جميع الجهات كان محدثاً مثلها من جميع الجهات .
وإن أشبهها من بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديماً وقد قال الله تعالى : (( ليس كمثله شيء )) [ الشورى : 11 ] وقال تعالى : (( ولم يكن له كفواً أحد )) [ الإخلاص : 4 ] .
مسألة
[ صانع الأشياء واحد ]
فإن قال قائل : لم قلتم أن صانع الأشياء واحد . قيل له لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ولا بد أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما لأن أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً أو لا يتم مرادها أو يتم مراد أحدهما دون الآخر .(1/11)
ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً لأنه يستحيل أن يكون الجسم حياً ميتاً في حال واحدة وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً .
وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً .
فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد وقد قال تعالى : (( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا )) [ الأنبياء : 22 ] فهذا معنى احتجاجنا آنفاً .
مسألة
[ ما الدليل على جواز إعادة الخلق ]
فإن قال قائل : ما الدليل على جواز إعادة الخلق . قيل له الدليل على ذلك أن الله سبحانه خلقه أولاً لا على مثال سبق فإذا خلقه أولاً لم يعيبه أن يخلقه خلقاً آخر وقد قال عز وجل : (( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) )) [ يس : 78 - 79 ] . فجعل النشأة الأولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة لأنها في معناها ثم قال: (( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) )) [ يس: 80 ] فجعل ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على ندارته ورطوبته دليلاً على جواز خلقه الحياة في الرمة البالية والعظام النخرة وعلى قدرته على خلق مثله ، ثم قال : (( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم )) [ يس : 81 ] وهذا هو المعول عليه في الحجاج في جواز إعادة الخلق .(1/12)
وهذا هو الدليل أيضاً على صحة الحجاج ، والنظر لأن الله تعالى حكم في الشيء بحكم مثله ، وجعل سبيل النظير ومجراه مجرى نظيره ، وقد قال تعالى : (( الله يبدؤا الخلق ثم يعيده )) [ الروم : 11] ، وقوله تعالى : (( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه )) [ الروم : 27 ] يريد وهو هين عليه فيجعل الإبتداء كالإعادة .
فإن قال قائل : زيدوني وضوحاً في صحة النظر . قيل له قول الله مخبراً عن إبراهيم عليه السلام لما رأى الكوكب : (( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ (77) )) [ الأنعام : 76 - 77 ] فجمع عليه السلام القمر والكواكب في أنه لا يجوز أن يكون واحداً منهما إلهاً رباً لاجتماعهما في الأفول وهذا هو النظر الذي ينكره المنكرون وينحرف عنه المنحرفون .
مسألة
[ إنكار أن يكون الله تعالى جسماً ]
فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً ؟ قيل له : أنكرنا ذلك لأنه لا يخلو أن يكون القائل لذلك أراد ما أنكرتم أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً ، أو أن يكون أراد تسميته جسماً ، وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً كما يقال ذلك للأجسام فيما بيننا ، فهذا لا يجوز لأن المجتمع لا يكون شيئاً واحداً .
لأن أقل قليل الاجتماع لا يكون إلا بين شيئين لأن الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً وقد بينا آنفاً أن الله عز وجل شيء واحد فبطل بذلك أن يكون مجتمعاً . وإن أراد لم لا تسمونه جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً .
فالأسماء ليست إلينا ولا يجوز لنا أن نسمي الله تعالى باسم لم يسم به نفسه ولا سماه به رسوله ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه .
مسألة
[ الله تعالى عالم ](1/13)
فإن قال قائل : لم قلتم أن الله تعالى عالم ؟ قيل له : لأن الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة إلا من عالم وذلك أنه لا يجوز أن يحوك الديباج بالنقاوير ويصنع دقائق الصناعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه .
فلما رأينا الإنسان على ما فيه من اتساق الحكمة كالحياة التي ركبها الله فيه والسمع والبصر ومجاري الطعام والشراب وانقسامه فيه وما هو عليه من كماله وتمامه والفلك وما فيه من شمسه وقمره وكواكبه ومجاريها ، دل ذلك على أن الذي صنع ما ذكرناه لم يكن يصنعه إلا وهو عالم بكيفيته وكنهه .
ولو جاز أن تحدث الصنائع الحكمية لا من عالم لم ندر لعل جميع ما يحدث من حكم الحيوان وتدابيرهم وصنائعهم يحدث منهم وهم غير عالمين ، فلما استحال ذلك دل على أن الصنائع المحكمة لا تحدث إلا من عالم .
كذلك لا يجوز أن تحدث الصنائع إلا عمن قادر حي لأنه لو جاز حدوثها ممن ليس بقادر ولا حي لم ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى ، فلما استحال ذلك دلت الصنائع على أن الله تعالى حي قادر .
مسألة
[ إن الله سميع بصير ]
فإن قال قائل : لم قلتم أن الله سميع بصير ؟ قيل له : لأن الحي إذا لم يكن موصوفاً بآفة تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت فهو سميع بصير .
فلما كان الله تعالى حياً لا يجوز عليه الآفات من الصمم والعمى وغير ذلك إذا كانت الآفات تدل على حدوث من جازت عليه صح أنه سميع بصير .
مسألة
[ الله لم يزل عالماً ]
فإن قال أتقولون إن الله تعالى لم يزل عالماً قادراً سميعاً بصيراً . قيل له : كذلك نقول .
فإن قال : فما الدليل على ذلك ؟ قيل له : الدليل على ذلك أن الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد العلم ، من الجهل ، أو الشك ، أو الآفات .(1/14)
فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غير عالم لكان موصوفاً بضد العلم ( ولو كان موصوفاً بضد العلم ) من الجهل أو الشك والآفات ( فلو كان الباري تعالى لم يزل حياً غير عالم لكان موصوفاً بضد العلم ) .
لو كان للم يزل موصوفاً بضد العلم لاستحال أن يعلم لأن ضد العلم ، لو كان قديماً لاستحال أن يبطل وإذا استحال أن يبطل ذلك لم يجز أن يصنع الصنائع الحكمية فلما صنعها ودلت على أنه عالم صح وثبت أنه لم يزل عالماً إذ قد استحال أن يكون لم يزل بضد العلم موصوفاً .
وكذلك لو كان لم يزل حياً غير قادر لوجب أن يكون لم يزل عاجزاً موصوفاً بضد القدرة ولو كان عجزه قديماً لاستحال أن يقدر وأن تحدث الأفعال منه .
وكذلك لو كان لم يزل حياً غير سميع ولا بصير لكان لم يزل موصوفاً بضد السمع من الصمم والآفات ، وبضد البصر من العمى ، والآفات ، ومحال جواز الآفات على الباري لأنها من سمات الحدث ، فدل ما قلناه على أن الله تعالى لم يزل عالماً قادراً سميعاً بصيراً .
مسألة
[ إن للباري علماً به علم ]
فإن قال قائل لم قلتم إن للباري تعالى علماً به علم ؟ قيل له : لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم ، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا لم تدل على أن من ظهرت منه منا فهو عالم .
فلو دلت على أن الباري تعالى عالم قياساً على دلالتها أنا علماء ولم تدل على أن له علماً قياسياً على دلالتها على أن لنا علماً لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنا ولا تدل على أنا علماء . وإذا لم يجز هذا لم يجزه ما قاله هذا القائل .(1/15)
فإن قال : فما أنكرتم أن لا تدل الأفعال الحكمية على علم العالم منا كما دلت على أنه عالم لأنه ليس معنى العالم منا أن له علماً لأنه قد يعلم العالم من اعالماً من لا يعلم أن له علماً ؟ قيل له : إن جاز لك أن تزعم هذا جاز لغيرك أن يزعم أن الأفعال الحكمية تدل على أن لي علماً بها ولا تدل على أني عالم لأنه ليس معنى العالم أن له علماً لأنه قد يعلم الإنسان منا أن له علماً من لا يعلمه عالماً وأيضاً لا شيء .
وأيضاً هذه الدعوى عندي فاسدة وذلك أن معنى العالم عندي أن له علماً ومن لم يعلم لزيد علماً لم يعلمه عالماً .
فإن قال قائل : فما أنكرتم من أن يدل الفعل الحكمي على أن للإنسان علماً هو غيره كما قلتم أن يدل على علم ؟ قيل له : ليس إذا دل الفعل الحكمي على أن للإنسان علماً دل على أن غيره ، كما ليس إذا دل على أنه عالم دل على أنه متغاير على وجه من الوجوه .
وأيضاً فإن معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه ، فلما دلت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه استحال أن يكونا غيرين .
وأيضاً فلو جاز لزاعم أن يزعم أن الفعل الحكمي يدل على أن العلم علم ، ثم يعلم أنه لعالم بعد ذلك ، وإذا لم يجز هذا وتكافأ القولان ووجب أن تكون الدلالة على أن العالم عالم دلالة على العلم .
فإن قال قائل : من أنه إنما يدل الفعل الحكمي على علم العالم لأنه ممن يجوز أن يموت ويجهل .
قيل له : لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن الفعل الحكمي يدل على أن العالم عالم لأنه ممن يجوز أن يموت ويجهل .(1/16)
ومما يبطل قول من قال إن دلالة الفعل الحكمي على علم العالم منا دلالة على أنه غير العالم وأنه محدث أن العالم لعلم ما كان عالماً لا للغيرية ولا للحدث ، فوجب أن تكون الدلالة على أن العالم عالم دلالة على العلم . ولم يكن العلم علماً لأنه غير العالم ولا لأنه محدث لوجود غير ليس بعلم ، ومحدث ليس بعلم ، فلم يجب أن تكون الدلالة على أن العلم علم دلالة على أنه محدث أو أنه غير العالم .
وأيضاً فلو جاز لزاعم أن يزعم أن الدلالة على أن العلم علم دلالة على حدثه ، أو دلالة على أنه غير العالم لجاز لزاعم أن يزعم أن الدلالة على أن العالم عالم دلالة على حدثه وأنه متغاير في ذاته .
والدليل على أن لله تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن لله تعالى علماً .
وقد قال : الله جل ذكره : (( أنزله بعلمه )) [ النساء : 166 ] وقال (( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه )) [ فاطر : 11 ] فثبت العلم لنفسه وقال تعالى : (( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة )) [ فصلت : 15 ] فثبت القوة لنفسه .
ومما يدل على أن الله تعالى عالم بعلم أنه لا يخلو أن يكون الله عالماً بنفسه أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه . فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً لأن قائلاً لو قال : إن الله تعالى عالم ، بمعنى هو غيره ، لوجب عليه أن يكون ذلك المعنى علماً ، ويستحيل أن يكون العلم عالماً ، أو العالم علماً ، أو يكون الله تعالى بمعنى الصفات .
ألا ترى أن الطريق الذي به يعلن أن العالم علم أن العالم به علم لأن قدرة الإنسان التي لا يعلم بها لا يجوز أن تكون علماً ، فلما استحال أن يكون الباري تعالى علماً استحال أن يكون عالماً لنفسه ، فإذ استحال ذلك صح أنه عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون الباري سبحانه عالماً لا بنفسه ولا بمعنى يستحيل أن يكون هو نفسه .(1/17)
قيل له : لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا عالم لم يرجع به إلى نفسه ولا إلى معنى ولم يثبت به نفسه ولا معنى يستحيل أن يكون هو نفسه وإذا لم يجز هذا بطل ما قالوه .
وهذا الدليل يدل على إثبات صفات الله تعالى لذاته كلها من الحياة والقدرة والسمع والبصر وسائر صفات الذات .
الباب الثاني
باب الكلام في القرآن والإرادة
[ الله تعالى لم يزل متكلماً وكلام الله غير مخلوق ]
إن قال قائل : لم قلتم أن الله تعالى لم يزل متكلماً ، وأن كلام الله تعالى غير مخلوق ؟
قيل له : قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : (( إنما قولنا لشيءٍ إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل : 40 ] ، فلو كان القرآن مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له : كن ، والقرآن قوله ويستحيل أن يكون قوله مقولاً له ، لأن هذا يوجب قولاً ثانياً ، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثانٍ وهذا يقتضي مالا نهاية له من الأقوال ، وذلك فاسد وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقاً .
ولو جاز أن يقول لقوله لجاز أن يريد إرادته وذلك فاسد عندنا وعندهم إذا بطل هذا استحال أن يكون مخلوقاً .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون معنى قوله تعالى : (( أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل : 40 ] أي نكونه فيكون من غير أن نقول له في الحقسيقة ( ولا أن تقول له في الحقيقة ) شيئاً . قيل له : قال الله تعالى : (( إنما قولنا لشيءٍ إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل : 40 ] .
فلو جاز لقائل أن يقول : لم يكن الله تعالى قائلاً لشيء في الحقيقة كن وإنما المعنى أن يكونه فيكون ، لجاز لزاعم أن يزعم أن الله تعالى لا يريد شيئاً في الحقيقة وإنما معنى أردناه فعلناه من غير أن يكون إرادة في الحقيقة على وجه من الوجوه .
فإن قال قائل : إنه يكون معنى أن الله تعالى أراد الشيء أنه فعله وهو مريد له في الحقيقة بمعنى أنه فاعل له .(1/18)
قيل له : لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن الله عز وجل قائل للشيء في الحقيقة كن ويزعم أن معنى ذلك أن يكونه فيثبت لله تعالى قولاً في الحقيقة هو المقول له كما زعمتم أن لله تعالى إرادة في الحقيقة هي مراده ، ولو جاز لزاعم أن يزعم هذا ، لجاز لآخر أن يقول إن علم الله تعالى بالشيء هو فعله له .
فإن قال قائل : أليس قد قال الله تعالى : (( جدار يريد أن ينقض )) [الكهف : 77 ] ولا إرادة للجدار في الحقيقة وإنما قال يريد توسعاً ، والمعنى أن ينقض .
قيل له : نعم . فإن قال : فما أنكرتم أن يكون معنى (( أن نقول له كن )) [ النحل : 40 ] أي نكونه فيكون .
قيل له : الفرق بين ذلك أن الجماد يستحيل مع جماديته أن يكون مريداً ، والباري تعالى في الحقيقة لا يستحيل عليه أن يريد ، أو يقول فلذلك لم يكن قوله : (( أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل : 40 ] بمعنى نكونه .
وأيضاً فلو كان قوله (( ربكم قالوا خيراً )) [ النحل : 40 ] ليس معناه إثبات قول له ، وإنما معناه أن يكونه كما أن قوله : (( جدار يريد أن ينقض )) [ الكهف : 77 ] معتاه أن ينقض ، لجاز لزاعم أن يزعم أن قوله : (( أردناه)) فعلناه وهو في الحقيقة لا يريد فعله كما أن قوله (( جدار يريد أن ينقض )) [ الكهف : 77 ] معناه أن ينقض وهذا أولى في الحقيقة القياس . وإذا لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه .
ويقال لهم : إذا كان معنى أن الله تعالى أراد فعل الشيء أنه فعله ، ومعنى أراد حركة الشيء أنه حركه ، فما أنكرتم أن يكون الجماد في الحقيقة مريداً لحركة نفسه بمعنى أنه متحرك وأن لا يكون للباري تعالى على الجماد مزية في الإرادة وأن لا يكون له مزية على من وقع فعله ، وهو غير مريد له لأنه قد حصل له معنى فاعل كما حصل للباري تعالى معنى فاعل .(1/19)
فإن قال : فما معنى قوله تعالى : (( قالتا أتينا طآئعين (11) )) [ فصلت : 11 ] قيل له : معنى ذلك أنهما قالتا في الحقيقة : (( أتينا طآئعين (11) )) [ فصلت : 11 ] .
ومما يدل من القياس على أن الله تعالى لم يزل متكلماً أنه لو كان لم يزل غير متكلم وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام لكان موصوفاً من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة .
ولو كان لم يزل موصوفاً بضد الكلام لكان ضد الكلام قديماً. ولو كان ضد الكلام قديماً لاستحال أن يعدم وأن يتكلم الباري لأن القديم لا يجوز عدمه كما لا يجوز حدوثه فكان يجب أن لا يكون الباري تعالى قائلاً ولا آمراً ولا ناهياً على وجه من الوجوه .
وهذا فاسد عندنا وعندهم . وإذا فسد هذا صح وثبت أن الباري لم يزل متكلماً قائلاً .
فإن قال قائل : ولم زعمتم أنه لو كان لم يزل غير متكلم لكان موصوفاً بضد الكلام ؟
قيل له : لأن الحي إذا لم يكن موصوفاً بالكلام كان موصوفاً بضده كما أنه إذا لم يكن موصوفاً بالعلم كان موصوفاً بضده .
وذلك أن الحي فيما بيننا ذلك حكمه ولم تقم دلالة على حي يخلو من الكلام وأضداده في الغائب ، كما لم تقم دلالة على حي يخلو من العلم وأضداده حتى يكون لا موصوفاً بأنه عالم ولا بضد العلم .
فقد اجتمع الأمر فيها أنه مستحيل فيما بيننا حي غير عالم ولا موصوف بضد الكلام ، وأنه لم تقم على ذلك دلالة في الغائب .
فلو جاز أحد الأمرين وهو حي غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام لجاز الأمر الآخر وهو حي غير عالم ولا موصوف بضد العلم .
وأيضاً فإنه يستحيل فيما بيننا عالم يوصف بضد العلم مع علمه ، ومتكلم يوصف بضد الكلام مع كلامه ، فلما اجتمعا في الإحالة وجب أن يكون من جوز متكلماً في الغائب يوصف بضد الكلام مع كلامه كمن جوز عالماً في الغائب يوصف بضد العلم مع علمه .(1/20)
فذلك يجب أيضاً لما استحال فيما بيننا حي غير عالم ولا موصوف بضد العلم ، وجب أن يستحيل فيما بيننا حي غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام أن يستحيل ذلك في الغائب ووجب أن يكون من جوز أحد الأمرين في الغائب كمن جوز الأمر الآخر .
وهذا هو الدليل على أن الله تعالى لم يزل مريداً وذلك أن الحي إذا كان غير مريد لشيء أصلاً وجب أن يكون موصوفاً بضد من أضداد الإرادات من الآفات كالسهو والكراهة والإباء والآفات ، كما وجب أن يكون الحي إذا كان غير عالم بشيء أصلاً موصوفاً بضد من أضداد العلوم من الآفات كالجهل والسهو والغفلة ، أو الموت ، أو ما أشبه ذلك من الآفات .
فلما استحال أن يكون الباري تعالى لم يزل موصوفاً بضد الإرادة لأن هذا يوجب أن لا بربد شيئاً على وجه من الوجوه .
وذلك أن ضد الإرادة إذا كان البار يتعالى لم يزل موصوفاً به يوجب قدمه ومحال عدم القديم كما محال حدوث القديم فإذا استحال عدمه وجب أن لا يريد الباري شيئاً ويقصد فعله على وجه من الوجوه وذلك فاسد . وإذا فسد هذا صح وثبت أن الباري تعالى لم يزل مريداً .
فإن قال قائل : لم قلتم إذا كان من لم يزل غير متكلم ولا مريد وجب أن يكون موصوفاً بضد الإرداة والكلام إذا كان ممن لا يستحيل عليه الكلام والإرادة ، فما أنكرتم من أن من لم يزل غير فاعل وجب أن يكون موصوفاً بضد الفعل ، وأن يكون تاركاً فيما لم يزل ؟
قيل له : لا يجب ما قلته وذلك أن للكلام ضداً ليس بكلام ، وللإرادة ضد ليس بإرادة ، فوجب لو كان للباري تعالى حياً غير متكلم ، ولا مريد أن يكون موصوفاً بضد الكلام والإرادة .
وليس للفعل ضد ليس بفعل فيجب بنفي الفعل عن الفعل وجود ضده لأن الموجود إذا لم يكن محدثاً كان قديماً والقديم لا يضاد المحدثات .
فلما لم يكن للفعل ضد ليس بفعل لم يجب بنفي الفعل عن الله تعالى في أزله إثبات ضد .(1/21)
ولما كان للكلام ضد ليس بكلام وجب بنفي الكلام عن الله تعالى في أزله إثبات ذلك الضد لا محالة .
فإن قال : فيجب إذا كان القديم غير فاعل فيما لم يزل أن يكون عاجزاً أو تاركاً .
قيل له : فليس العجز مضاداً للفعل وذلك أنه ليس من جنس من أجناس الفعل من حركة وسكون وغيرهما من سائر الأعراض إلا وقد يجوز أن يخلقه الله مع العجز فعلمنا بذلك أن العجز لا يضاد الفعل لأن الأجسام ، والجواهر من أفعال الله تعالى ، فعلمنا أن العجز لا يضاد الفعل لأن عجزي لو ضاد فعلي للحركة لكان تضاد وقوع الحركة من ربي في جسمي .
ألا ترى أنه إذا استحال أن أفعل في علماً من الموت استحال أن يفعل ربي في من الموت علماً .
فلما لم يكن العجز مضاداً للفعل وإنما يضاد القدرة وكان الترك للشيء فعل ضده فكان الباري تعالى لم يزل غير فاعل لشيء على وجه من الوجوه لم يجب بنفي الفعل عنه في أزله عجز ولا ترك .
وأيضاً فإن الحي إذا كان غير متكلم ومريد وجب أن يكون موصوفاً بضد الإرادة والكلام وليس إذا كان غير فاعل لشيء وجب إثبات ضد هو عجز ، أو ترك إذا كان عجز الإنسان لا يضاد فعله فلم يجب بنفي الفعل عن الله تعالى في أزله إثبات ترك أو عجز كما وجب في نفي الكلام والإرادة عنه في أزله إثبات أضدادهما .
فإن قال : فيجب بنفي التفضل عنه فيما لم يزل أن يكون بخيلاً . قيل له : التفضل هو ما للمتفضل أن يتفضل به وله أن لا يتفضل به والبخل إنما يجب بمنع مستحق أستحق على من بخل والباري تعالى لا يجب عليه فعل شيء .
فإن قال : فيجب بنفي العدل عنه في أزله أن يكون جائزاً أو عاجزاً . قيل له : ليس يجب بنفي العدل ضد هو عجز أو جور لأنه ليس من جنس من أجناس العدل إلا ويجوز أن يفعله الله تعالى فينا مع العجز . فلم يجب بنفي العدل إثبات ضد هو عجز .(1/22)
ولم يجب أيضاً إثبات الجور لأن الإنسان قد لا يكون عادلاً إذا لم يكن منه عدل كسبه ، ولا فعله ولا يكون جائزاً فليس من نفينا عنه العدل أثبتنا له ضداً هو جور أو عجز إذا كنا قد ننفي ذلك عنا ولا نثبت ضداً هو عجز أو جور ، والحي منا ومن غيرنا إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضد العلم .
وأيضاً فقد لا يكون الإنسان عادلاً ولا يكون جائراً بجور من جنس العدل فليس يجب بنفي العدل ضد هو جور كما وجب في الكلام والإرادة ؛ لأن الإنسان قد يكون عادلاً بالكون في المكان إذا أمره الله تعالى أن يكون فيه ، ويكون في وقت آخر جائراً بالكون فيه إذا نهاه الله تعالى عن الكون فيه ، فيكون العدل من جنس الجور لأن الكون في المكان من جنس الكون فيه .
فإن قال : ما أنكرتم إذا لم يكن الباري تعالى محركاً في أزله أن يكون مسكناً .
قيل له : لا يخلو قولك إذا لم يكن محركاً أن يكون مسكناً يعني إذا كان لم يزل غير محرك لنفسه أن يكون مسكناً لها ، أو يعني إذا لم يكن محركاً لجسم كان مسكناً له . فإن عنيت إن لم يحرك نفسه كان مسكناً لها فهذا خطأ لأنه يستحيل أن يحرك نفسه . ونحن لم نقل إذا لم يتكلم من يستحيل كلامه كان موصوفاً بضد الكلام .
وإن عنيت إذا لم يكن محركاً فيما لم يزل لجسم كان مسكناً له فليس مع الله تعالى في قدمه أجسام فيجب إذا لم يحركها أن يسكنها .
ومالم يكن موجوداً يستحيل تحركه . فليس إذا لم يحرك ما تستحيل حركته وجب أن يسكنه .
مسألة
[ القادر منا على الكلام قد خلا من الكلام ]
فإن قال : القدر منا على الكلام في حال قدرته عليه قد خلا من الكلام وأضداده .
قيل له : فهذا ضرب من الخلاف لأن القادر منا على الكلام في حال قدرته عليه متكلم لا محالة وسندل على ذلك بعد هذا الموضوع من كتابنا .(1/23)
على أنا نقول له ما أنكرت أن يكون القادر على العلم قد خلا من العلم وأضداده ، فإن قال : القادر على العلم قد خلا من العلم وضده اللذين يقدر عليهما ولا يخلو من علم آخر أو ضده .
قيل له : فقل أن القادر على الكلام وضده قد يخلو منهما ولا يخلو من كلام آخر أو ضده لا يقدر عليهما .
ودليل آخر على أن الله تعالى لم يزل متكلماً أن الكلام لا يخلو أن يكون قديماً أو حديثاً .
فإن كان محدثاً لم يخل أن يحدثه الله في نفسه أو في غيره ، فيستحيل أن يحدثه في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث .
ويستحيل أن يحدثه قائماً بنفسه لأنه صفة والصفة لا تقوم بنفسها ويستحيل أن يحدثه في غيره لأنه لو أحدثه في غيره لوجب أن يشتق ذلك الجسم الذي فيه الكلام من أخص أوصاف الكلام اللازمة له لنفسه اسماً وللجملة التي المحل منها اسماً .
فإن كان أخص أوصاف الكلام أنه كلام وجب أن يكون ذلك الجسم متكلماً . وإن كان أخص أوصافه أنه أمر وجب أن يكون ذلك الجسم آمراً .
وكذلك إن كان أخص أوصافه أنه نهى وجب أن يكون ذلك الجسم ناهياً . فلما استحال أن يتكلم بكلام الله تعالى غيره ويأمر بأمره غيره وينهى بنهيه غيره استحال أن يحدث كلاماً في غيره فيكون به متكلماً .
وإذا فسدت الوجوه التي لا يخلو الكلام منها لو كان محدثاً صح أنه قديم وأن الله تعالى لم يزل به متكلماً .
فإن قال : أفليس قد يحدث الله تعالى في غيره فعلاً وتفضلاً ونعمة وإحساناً ورزقاً فيكون فاعلاً متفضلاً منعماً محسناً رازقاً فما أنكرتم أن يحدث في غيره كلام يكون به متكلماً ؟
قيل له : لو لزم هذا لزم أن يعلم ويقدر بعلم وقدرة يحدثهما في غيره كما يتفضل وينعم ويسن فيما يحدثه في غيره تفضلاً ونعمة وإحساناً ورزقاً كان ذلك الجسم موصوفاً بأخص أوصاف الفعل والتفضل والرزق والنعمة والإحسان لأنه إذا كان التفضل والنعمة والإحسان والفعل قوةً لا بد أن يكون ذلك الجسم قوياً .(1/24)
وكذلك إذا كان علماً أو حياةً أو إرادةً أو سمعاً أو بصراً فيجب إذا أحدث كلاماً في غيره أن يشتق ذلك الغير من أخص أوصاف الكلام .
فلما ام يجز ذلك بطل أن يكون الكلام مقيساً على ما قلتم من أن الله تعالى يحدث كلامه في غيره كما يحدث فعله وتفضله ونعمه وإحسانه في غير .
فإن قالوا : أفليس قد يحدث الله تعالى كتابه في غيره ولا يكون الشيء الذي قامت به الكتابة كاتباً ؟
قيل لهم : إن أحدث الله تعالى في غيره كتابة ضرورة كان ذلك الغير كاتباً باضطرار .
وكذلك إن كانت الكتابة كسباً كان ذلك الغير كاتباً باكتساب فيجب إذا أحدث الله تعالى كلامه في غيره أن يكون ذلك الغير متكلماً بكلام الله .
وهذا الديل على قدم الكلام هو الدليل على قدم الإرادة لله تعالى لأنها لو كانت محدثةً لكانت لا تخلو من أن يكون الله يحدثها في نفسه أو في غيره أو قائمة بنفسها .
فيستحيل أن يحدثها في نفسه لأنه ليس بمحل للحوادث . ويستحيل أن يحدثها ائمة بنفسها لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها كما لا يجوز أن يحدث علماً وقدرة قائمين بأنفسهما .
ويستحيل أن يحدثها في غيره لأن هذا يوجب أن يكون ذلك الغير مريداً بإرادة الله تعالى .
ففلما استحالت هذه الوجوه التي لا تخلو الإرادة منها لو كانت محدثة صح أنها قديمة وأن الله لم يزل مريداً بها .
الباب الثالث
باب الكلام في الإرادة وأنها تعم سائر المحدثات
[ الله مريد لكل شيء ]
فإن قال قائل : لم قلتم إن الله تعالى مريد لكل شيء يجوز أن يراد ؟ قيل له : قلنا ذلك لأن الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل كا يجوز أن يعلم على حقيقته .
وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن الله تعالى خالق كل شيء حادث ولا يجوز أن يخلق مالا يريده ، وقد قال الله تعالى : (( إن ربك فعال لما يريد (107) )) [ هود : 107 ] .(1/25)
وأيضاً فإنه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى مالا يريده ، لأنه لو كان في سلطان الله تعالى مالا يريده لوجب أحد أمرين :
إما إثبات سهو وغفلة ، وأو إثبات ضعف ، وعجز ، ووهن ، وتقصير عن بلوغ ما يريده .
فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه مالا يريده .
فإن قال : ولم زعمتم ذلك ؟ قيل له : زعمنا ذلك لأن المراد إذا وقع لم يلحق من وقع مراده ضعف ولا تقصير عن بلوغ ما يريده بوقع المراد فواجب أن يلحقه الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده إذا لم يقع مراده .
ألا ترى أن من وقع ما يعلمه لم يلحقه جهل ولا ضد من أضداد العلم بذلك الشيء إذا وقع وهو يعلمه فدل ذلك على أنه إذا لم يقع وهو لا يعلمه وجب جهله أو وصفه بضد من أضداد العلم .
وكذلك إذا كان ما يريده لم يجب سهوه ولا ضعفه ولا وهنه ولا تقصيره عن بلوغ ما يريده وإذا كان مالا يريده وجب سهوه أو ضعفه ووهنه وتقصيره عن بلوغ ما يريد .
وأيضاً إذا كان في كون مالا يريده من أفعاله - التي اجتمعنا على أنها أفعاله - وجوب السهو ، والغفلة ، والضعف ، والوهن ، والتقصير عن بلوغ ما يرده ؛ فكذلك يلزم في كون ما لا يريده من غيره ما يلزم في كون مالا يريده مما اتفقنا على أنه من أفعاله .
ألا ترى أنه إذا لزم من زعم أنه يكون من أفعال الله مالا يعلمه أن يصفه بالجهل أو بضد من أضداد العلم ؛ لزم مثل ذلك من زعم انه يكون من غيره مالا يعلمه ، وكذلك إذا لزم من زعم أن الله يخبر أنه يكون من فعله ما لا يكون التكذيب لله لزم من زعم أن الله تعالى يخبر أنه يكون من غيره مالا يكون التكذيب ؛ لا فرق في ذلك بين ما اتفقنا على أنه فعله ، وبين ما يكون من غيره .
وكذلك إذا لزم في كون مالا يريده الباري تعالى من فعله ضعف وتقصير عن بلوغ ما يريده أو سهو وغفلة لزم ذلك في كون مالا يريده من غيره .(1/26)
وأيضاً فقد دلت الدلالة على أن كل المحدثات مخلوقات لله تعالى . فإذا استحال أن يفعل الباري تعالى مالا يريده استحال أن يقع من غيره مالا يريده إذ كان ذلك أجمع أفعالاً لله تعالى .
وأيضاً فلو كان في العالم مالا يريده الله تعالى ، لكان ما يكره كونه ، ولو كان ما يكره كونه ، لكان من أبى كونه .
وهذا يوجب أن المعاصي كانت شاء الله أم أبى ، وهذا صفة الضعف المقهور وتعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً .
فإن قال قائل : خبرونا عن ملك من ملوك الدنيا لو مر برجل مقعد زمن أعمى فشتمه والملك لا يريد شتمه أتقولون أن الملك لحقه في ذلك ضعف ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده إذا أراد أن لا يشتمه فشتمه ؟
قيل له : أجل ، ولو لم يكن ما أراد الزمن من شتمه وكان ما أراده الملك من مدحه إياه كان ذلك أولى بزوال الضعف والوهن عنه على أن الملك إذا لم يرد شتم الأعمى المقعد له فقد ذكره شتمه إياه وأبى ذلك وقد كان شتمه شاء ذلك الملك أو أباه ، وهذا صفة الضعف والوهن . وأيضا فإن من إذا أراد منا أمراً كان ، وإذا لم يرد كونه لم يكن أولى بصفة الاقتدار ممن يريد كونه مالا يكون وأن لا يكون ما يكون ورب العالمين لا يوصف إلا بالوصف الذي هو أولى بصفة الاقتدار .
فإن قال قائل : من إذا أراد أمراً كان ، وإذا لم يرده لم يكن ؛ إنما يكون اقتداره بمن يتبعه ويعينه ويكون ضعفه لقلة أنصاره وأتباعه ، ورب العالمين لا يتكثر بأحد .
يقال لهم : فما أنكرتم إن كان هذا على تدعون أن يكون من أراد من فعله كون مالا يكون وأن لا يكون مالا يكون ، إنما يصح وصفه بالاقتدار لأنه ممن يتكثر بفعله ويجب اقتداره بمن ينصره ، وضعفه بمن يقعد عنه .
ويقال لهم : لم زعمتم أن من أراد منا كون ما يكون إنما يصح وصفه بالاقتدار لأنه ممن يقوى بكثرة من يتبعه ويضعف بكثرة من يقعد عنه ؟(1/27)
فإن قالوا : لأن هذا فيما بيننا . هكذا قيل ، وكذلك إنما يدل الفعل الحكمي على أن من ظهر منه عالم قادر لأنه ممن يعلم بعلم ويقدر بقدرة لأنا كذلك وجدنا فيما بيننا من دلت الأفعال الحكمية على أنه عالم قادر .
فما أنكرتم من أنه واجب على اعتلالكم أن (لا) تدل الأفعال الحكمية على أن الباري تعالى قادر عالم .
وكلك يعارضون بأن الأفعال الحكمية تدل على أن من ظهرت منه عالم قادر ، لأنه ممن له علم وقدرة من أجل أن ذلك فيما بيننا كذلك .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن لا يلحق الباري الضعف والوهن والقصير عن بلوغ ما يريده لأنه يقدر أن يلجئ عباده إلى ما أراد كونه منهم .
قيل له : إن الباري تعالى إنما أراد كون الإيمان منهم على أصلك بأن يقع ذلك منهم طوعاً يستحقون عليه الثواب ، وإذا ألجأهم إليه لم يكونوا عند طائعين ، ولا للثواب مستحقين .
فكما يجب بكون مالا يريده الضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده لو لم يوصف بلاقدرة على أن يلجئهم إلى ذلك ؛ وكذلك يجب له الضعف والوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده إذا أراد كونه على وجه لا يوصف بالقدرة على وقوعه على ذلك الوجه .
وأيضاً فإنه يلزم القدرية إذا كان من قدر أن يؤمن قدر أن يكفر ؛ أن لا يكون الباري تعالى موصوفاً بالقدرة على الأمر الذي لو فعله لكانوا مؤمنين لا محالة ، لأنهم يقدرون عندهم على أن (لا) يكفروا عند نزول الآيات الملجيات إلى الإيمان كما يقدرون أن يؤمنوا قبل ذلك ؛ ومن قدر على الكفر عند نزول الآية لم يؤمن وقوعه منه .
وأيضاً فلو كان يقع من الإنسان مالا يريده الباري سبحانه ، ولا يلحق الباري بذلك وهن ولا ضعف لأنه قادر أن يلجئهم إليه ، لجاز أن يقع من الباري سبحانه من أفعاله مالا يريده ولا يلحقه ضعف و تقصير عن بلوغ ما يريده لأنه قادر على إيقاعه وتكوينه .
فإن لم يجب هذا ولزم بكون ما لا يريده من فعله الضعف والوهن لزم ذلك في فعل عباده .(1/28)
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون كون مالا يريده الإنسان من فعله يوجب وقوع ذلك عن سهو أو ضعف ووهن ، وليس يلزم ذلك في كون مالا يريده من فعل غيره ، فوجب مثل ذلك في القديم أيضاً .
قيل له : ليس الأمر كما ظننت بل ، القصة فيما يكون من الإنسان ومن غيره واحدة ، وذلك أن الإنسان إذا كان من فعله مالا يريده فإما أن يكون ذلك عن سهو أو عن ضعف ووهن أو تقصير عن بلوغ ما يريده .
وكذلك القول فيما يكون من غيره لأنه إن لم يكن ذلك عن سهو فواجب أن يكون عن ضعف وتقصير عن بلوغ ما يريده ، وذلك أن العلة التي لها لزم الإنسان إذا كان عالماً بما وقع منه وهو غير مريد له الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده أن مراده لم يقع وأنه لم يرده ، لأنه لو كان ما يريده لم يلحقه ضعف ولا وهن فإذا لم يقع فإنما لحقه الوهن والتقصير عن بلوغ ما يريده من أجل أنه وقع منه وهو عالم به غير مريد له .
فإذا كانت العلة ما ذكرنا وجب أيضاً مثل ذلك فيما يقع من غيره وهو لا يريده ، لأنه إذا كانت العلة التي لها وجب أن يوصف الإنسان بضد العلم في وقوع ما يقع منه أنه وقع منه وهو لا يعلمه ، وكذلك قصة ما يقع من غيره وهو لا يعلمه إذ كانت العلة في ذلك واحدة ، وكذلك القول في الإرادة .
وأيضاً فإنه إذا كان من غيره مالا يريده فقد كرهه ، وإذا كره كونه فقد أباه ، وهذا يوجب أن الشيء كان شاء أم أبى ! وهذه صفة الضعف والوهن .
فإن قالوا : ما أنكرتم من أن الذي يجب في كون مالا يريده الباري تعالى من عباده أن يكون كارهاً لذلك فقط ؛ ولا يجب في ذلك ضعف ولا وهن قيل له : بل وقوع ذلك منهم وهو كاره له يوجب الضعف والوهن لا محالة ، لأنه إذا كان ما كره كونه ، كان ما أبى كونه وإذا كان ما أبى كونه ، فقد كان الشيء شاءه أم أباه !!
وهذا يوجب أن الشيء كان شاء الله تعالى ذلك أم أباه وهذا صفة الضعف .(1/29)
وأيضاً فإن المعتزلة : رجلان : أحدهما يقول : إن إرادة الله تعالى في أفعال عباده الأمر بها .
والآخر يقول : إرادته في أفعال عباده خلف غيير الأمر بها . فمن ذهب إلى أنها الأمر ، لزمه - إذا لم يكن الباري آمراً بأفعال الأطفال والمجانين - أن يكون كارهاً لها ، إذا كان يجب بنفي الإرادة لأفعال العباد الكراهة لها ، والله تعالى لا يكره إلا معصية كما لا ينهى إلا عن معصية ، وإذا لم يكن هذا عندهم هكذا أبطل ما قالوه .
وأيضاً فإذا كان يلزم فيما جاز الأمر به إذا لم يأمر به أن يقول له كارهاً ، لزم من كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وجاز عنده أن ينزل النهي عن المباح الذي ليس بطاعة أن يكون إذا لم يرد من الله تعالى الأمر به فقد كره ، وهذا يوجب أن كل مباح معصية .
ومن ذهب إلى القول الثاني وهو قول الجبائي : (( إن إرادة الله تعالى لأفعال عباده هي غير الأمر بها )) .
يقال له : إذا كان يجب بنفي الإرادة لأفعال عباده الكراهة ، فحدثنا هل أراد الله كون الأفعال التي ليست بمعاصٍ ولا طاعات ؟
فإن قال : نعم . قيل له : يلزمك أن تكون طاعة ، لأن الطاعة عندك إنما كانت طاعة للمطاع لأنه أرادها .
فإن قال : لم يردها . قيل له : فيلزمك أنه كاره لكونها ، وهذا يوجب أن تكون معصية لأن ما كرهه الله سبحانه فهو معصية ، كما أن ما نهى عنه فهو معصية عندكم .
ويقال لهم : إذا كان نفي الإرادة يوجب إثبات كراهة ، فيلزمكم - إذا كان الله تعالى لم يزل غير مريد لشيء بتة - أن يكون لم يزل كارهاً ، إذ كان نفي الإرادة يوجب إثبات كراهة .
مسألة
[ الزعم أنه لا يريد السفه إلا سفيه ]
ويقال : للمعتزلة لم زعمتم أنه لا يريد السفه إلا سفيه ؟ فإن قالوا : لأن مريد السفه منا سفيه .
يقال لهم : فكذلك من أراد منا ما يعلم أنه لا يكون ، أو يغلب عنده أنه لا يكون ، فهو ممتن فاقضوا بذلك على الله تعالى إذا زعمتم أنه أراد أن يكون ما علم أنه لا يكون .(1/30)
ويقال لهم : وكذلك أيضاً من خلى بين عبيده وإمائه يزني بعضهم ببعض وهو يراهم ، وهو لا يعجز عن التفريق بينهم مع كراهته الزناء على أصولكم ، وقد نهاهم قبل ذلك عن الزنا ، فهو سفيه ، فاقضوا بذلك على الله تعالى وإلا كنتم متناقضين .
فإن قالوا : لو جاز أن يريد السفه من ليس بسفيه لجاز أن يقول الكذب من ليس بكاذب يقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال : ولو جاز أن يريد ما علم أنه لا يكون من ليس بمتمن ويخلي بين عبيده وإمائه يزني بعضهم ببعض مع كراهته الزناء عندكم وقدرته على المنع والحيلولة من ليس بسفيه لجاز أن يقول : الكذب من ليس بكاذب ، وهذا ما لا يجدون فيه فرقاً .
ويقال لهم : كما أن مريد السفه منا سفيه فكذلك مريد الطاعة منا مطيع فاقضوا بذلك على الغائب .
ومما يبين أن الله تعالى مريد لكل شيء أن يجوز أن يراد قول الله تعالى : (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله )) [ الإنسان 30 ] فأخبر أنا لا نشاء إلا ما شاء أن نشاءه وقال تعالى (( ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً )) [ يونس : 99 ] وقال تعالى : (( ولو شئنا لأتنينا كل نفس هداها )) [ السجدة : 13 ] ، وقال : (( ولو شاء ربك ما فعلوه )) [ الأنعام : 112 ] ، وقال : (( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) )) [ الأنعام : 112 ] . فأخبر أنه لو لم يرد القتال لم يكن ، وإن ما أراد من ذلك فقد فعله .
فإن قالوا : معنى هذا (( ولو شاء الله ما اقتتلوا )) [ البقرة : 253 ] أي لو شاء أن يمنعهم من القتال لم يكن يقال لهم : ولم لا حملتم الآية على ظاهرها وقلتم : على أي وجه شاء أن لا يكون القتال لم يكن وكذلك المطالبة عليهم في قول الله تعالى : (( ولو شاء ربك لأمن من في الأرض جميعاً )) [ يونس : 99] . فإن قالوا : لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لكانوا مؤمنين .(1/31)
قيل لهم : أوليسوا مع الإلجاء قادرين أن يكفروا ، كما هم قادرن على أن يؤمنوا ، فكيف يجب بالإلجاء كون الإيمان منهم وهم قادرون ألا يكون منهم إيمان مع الإلجاء كما هم قادرون على الإيمان مع عدم الإلجاء ؟
فإن قالوا : ليس في كون ما لا يريده إيجاب ضعف كما ليس في كون ما لم يأمر به إيجاب ضعف .
قيل لهم : قد كانت أفعاله عندكم ولم يأمر بها ، ولا يلحقه ضعف ولو كانت ، وهو لا يريدها لحقه الضعف ، فكذلك كون ما لم يأمر به من غيره لا يوجب له ضعفاً ، وفي كون مالم يرده من غيره ما يدل على الضعف .
وأيضاً فإن مالم يأمر به ونهى عنه وأراد وقوعه فلذلك لم يلحقه الضعف .
الباب الرابع
باب الكلام في الرؤية
[ رؤية الله تعالى باللإبصار جائزة ]
إن قال قائل : لم قلتم إن رؤية الله تعالى بالإبصار جائزة من باب القياس ؟
قيل له : قلنا ذلك لأن ما لا يجوز أن يوصف به الباري تاعلى ويستحيل عليه فإنما لا يجوز لأن في تجويزه إثبات حدثه ، أو إثبات حدث معنى فيه ، أو تشبيه ، أو تجنيسه ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويره ، أو تظليمه ، أو تكذيبه .
وليس في جواز الرؤية إثبات حدثه لأن المرئي لم يكن مرئياً لأنه محدث ولو كان مرئياً لذلك للزمهم أن يرى كل محدث وذلك باطل عندهم .
على أن المرئي لو كان مرئياً لحدوثه لكان الرائي محدثاً للمرئي إذ كان مرئياً لحدوثه .
وليس في الرؤية إثبات حدوث معنى في المرئي لأن الألوان مرئيات ولا يجوز حدوث معنى فيها .
على أن المرئي لو كان مرئياً لحدوث معنى فيه لكان ذلك المعنى هو الرؤية ، وهذا يوجب أنا إذا رأينا الميت فقد حدثت فيه الرؤية وجامعت الرؤية الموت ، وإذا رأينا عين الأعمى حدثت في عينه رؤية فكانت الرؤية مجامعة للعمى فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه .(1/32)
وليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه للباري تعالى ، ولا تجنيسه ، ولا قلبه عن حقيقته لأنا نرى السواد ، والبياض فلا يتجانسان ولا يتشابهان بوقوع الرؤية عليهما ولا ينقلب السواد عن حقيقته إلى البياض بوقوع الرؤية عليه ولا البياض إلى السواد .
وليس في الرؤية تجويره ولا تظليمه ولا تكذيبه لأنا نرى الجائر والظالم والكاذب ونرى من ليس بجائر ولا ظالم ولا كاذب .
فلما لم يكن في إثبات الرئية شيء مما لا يجوز على الباري لم تكن الرؤية مستحيلة وإذا لم تكن مستحيلة كانت جائزة على الله .
فإن عارضونا : بأن اللمس والذوق والشم ليس فيه إثبات الحدوث ولا حدوث معنى في الباري تعالى .
قيل لهم : قد قال بعض أصحابنا : إن اللمس ضرب من ضروب المماسات ، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان ، واللهوات بالجسم الذي له الطعم ، وأن الشم هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له ، وأن المتماسين إنما يتماسان بحدوث مماسين فيهما ، وأن في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري .
ومن أصحابنا من يقول : لا يخلو القائل أن يكون أراد بذكره اللمس والذوق أن يحدث الله تعالى له إدراكاً في هذه الجوارح من غير أن يحدث فيه معنى ، أو يكون أراد حدوث معنى فيه .
فإن كان أراد حدوث معنى فيه فذلك مالا يجوز ، وإن كان أراد حدوث إدراك فينا فذلك جائز والأمر في التسمية إلى الله تعالى إن أمرنا أن نسميه لمساً وذوقاً وشماً سميناه ، وإن منعنا امتنعنا .
وأما السمع فلم يختلف أصحابنا فيه وجوزوا جميعاً وقالوا أنه جائز أن يسمعنا الباري تعالى نفسه متكلماً وقد أسمع موسى عليه السلام نفسه متكلماً .(1/33)
والدليل على أن الله تعالى يرى بالإبصار قوله تعالى : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) )) [ القيامة : 22 - 23 ] ولا يجوز أن يكون معنى قوله : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) )) [ القيامة : 22] معتبرة كقوله : (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) )) [ الغاشية : 88 ] لأن الآخرة ليست بدار اعتبار .
ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال : (( الله ولا ينظر )) [ آل عمران ] أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم لأن الباري لا يجوز أن يتعطف عليه .
ولا يجوز أن يعني منتظرة لأن النظر إذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هو انتظار كما إذا قرن النظر بذكر القلقب لم يكن معناه نظر العين ، لأن القائل إذا قال : (( انظر بقلبك في هذا الأمر )) كان معناه تظر القلب ، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلا نظر الوجه والنظر بالوجه هو نظر الرؤية التي تكون بالعين التي في الوجه .
فصح أن معنى قوله تعالى : (( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) )) [ القيامة : 23 ] رائية إذ لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر .
وإذا كان النظر لا يخلو من وجوه أربع وفسد منها ثلاثة أوجه صح الوجه الرابع وهو نظر رؤية العين التي في الوجه .
فإن قال قائل أليس قد قال الله تعالى : (( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) )) [ القيامة : 23 - 25 ] ، والظن لا يكون بالوجه ، وكذلك قوله : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) )) [ القيامة : 22 - 23 ] أراد نظر القلب .
قيل له : لا لأن الظن لا يكون بالوجه ، ولا يكون إلا بالقلب ، فلما قرن الظن بذكر الوجه كان معناه ظن القلب إذ لم يكن الظن إلا به .
فلو كان النظر لا يكون إلا بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب .(1/34)
فلو كان النظر لا يكون إلا بالقلب لوجب إذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به إلى القلب .
فلما كان النظر قد يكون بالوجه وبغيره وجب إذا قرنه بذكر الوجه أن يريد به نظر الوجه كما أنه إذا قرنه بذكر القلب وجب أن يريد به نظر القلب .
مسألة
[ قوله تعالى : (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ )) ]
فإن قالوا : فما معنى قوله تعالى : (( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ )) [ الأنعام : 103 ] . قيل لهم : في الدنيا دون الآخرة لأن القرآن لا يتناقض .
فلما قال في آية أخرى أنه تنظر إليه الأبصار علمنا أن الوقت الذي قال أنه لا تدركه الأبصار فيه غير الوقت الذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى : (( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) )) [ القيامة : 23 ] أي إلى ثواب ربها ناظرة ؟
قيل له : ثواب الله تعالى غيره ، ولا يجوز أن يعدل بالكلام عن الحقيقة إلى المجاز بغير حجة ولا دلالة .
ألا ترى أن الله تعالى لما قال : (( صلوا إلي واعبدوني )) لم يجز أن يوقل قائل عنة غيره ، ولو جاز لزاعم أن يقول قوله : (( لا تدركه )) [ الأنعام : 103 ] أراد به أنها لا تدرك غيره الأبصار لجاز لزاعم أن يزعم أن قوله صلوا إلي واعبدوني أراد به غيره فإذا فسد هذا فسد ما قاله .
فإن قال قائل : فإذا كان قوله : (( لا تدركه الأبصار )) [ الأنعام : 103 ] في وقت دون وقت فما أنكرت أن يكون قوله : (( لا تأخذه سنة ولا نوم )) [ البقرة : 255 ] في وقت دون وقت .
قيل له : الفرق بينهما أنه قال لنا في آية أنه لا تدركه الأبصار وقال في آية أخرى أن الوجوه تنظر إليه ، فاستعملنا الآيتين ، وقلنا : إن المعنى في ذلك أنها تنظر إليه في وقت ولا تدركه في وقت .
ولم يقل لنا في آية أن السنة والنوم يأخذانه وفي آية أخرى لا يأخذانه فيستعمل في وقتين .(1/35)
وأيضاً فإن النوم آفة تقوم بالنائم تزيل عنه العلم ، وليست الرؤية آفة تحل في المرئي فيجب منع الرؤية بمثل ما به وجب منع النوم .
مسألة
[ لو جاز لزاعم أن يرى القديم ] .
فإن قالوا : لو جاز أن يرى القديم سبحانه ، وليس كالمرئيات لجاز أن يلمس ، ويذاق ويشم ؛ وليس كالمذوقات ، ولا كالملموسات ولا كالمشمومات .
قيل لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال ولو جاز أن يكون القديم رائياً عالماً قادراً حياً لا كالرائين العلماء القادرين الأحياء لجاز أن يكون لامساً ذائقاً شاماً لا كالملامسين الذائقين الشامين ، فإن لم يجب هذا فما أنكرتم من أن لا يجب ما قلتموه .
مسألة
[ هل شاهدتم مرئياً إلا جوهراً أو عرضاً محدوداً ]
فإن قال قائل : فهل شاهدتم مرئياً إلا جوهراً أو عرضاً محدوداً أو حالاً في محدود ؟
قيل له : لا ولم يكن المرئي مرئياً لأنه محدود ، ولا لأنه حال في محدود ، ولا لأنه جوهر ولا لأنه عرض .
فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب كما لم يجب إذا لم نجد فاعلاً إلا جسماً ، ولا شيئاً إلا جوهراً ، أو عرضاً ، ولا عالماً قادراً حياً إلا بعلم ، وحياة وقدرة محدثة أن نقضي بذلك على الغائب .
إذ لم يكن الفاعل فاعلاً لأنه جسم ، ولا الشيء شيئاً لأنه جوهر ، أو عرض .
الباب الخامس
باب الكلام في القدر .
[ أكساب العباد مخلوقة لله تعالى ] .
إن قال قائل : لم زعمتم أن أكساب العباد مخلوقة لله تعالى ؟ قيل له : قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : (( والله خلقكم وما تعملون (96) )) [ الصافات : 96 ] .
وقال : (( جزاء بما كانوا يعملون (17) )) [ السجدة : 17 ] فلما كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم .
فإن قال : أفليس الله تعالى قال : (( قال أتعبدون ما تنحتون (95) )) [ الصافات : 95 ] ، وعنى الأصنام التي نحتوها فما أنكرتم أن يكون قوله : (( خلقكم وما تعملون (96) )) [ الصافات : 95 ] أراد الأصنام التي عملوها .(1/36)
قيل له : خطأ ما ظنته لأن الأصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله : (( قال أتعبدون ما تنحتون (95) )) [ الصافات : 95 ] إليها وليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فترجع بقوله : (( خلقكم وما تعلمون (96) )) [ الصافات : 96 ] إليها .
فإن قال قائل : أليس قد قال الله تعالى : (( تلقف ما يأفكون (117) )) [ الأعراف : 117 ] ، ولم يرد إفكهم فما أنكرت أن لا يرجع بقوله : (( خلقكم وما تعملون (96) )) [ الصافات : 96 ] إلى أعمالهم قيل له : الذي يأفكون هو الأمثلة التي خيلوا إلى الناس أنها حيات تسعى ، وإفكهم تخيلهم فأراد بقوله : (( يأفكون (117) )) [ الأعراف ] أي يخيلون إلى الناس أنها حيات تسعى ، وإفكهم هي إيهامهم الشيء على خلاف ما هو بسبيله ، فالأمثلة هي التي يأفكون ، ويخيلون إلى الناس أنها تسعى في الحقيقة وهي التي تلقفها العصا .
وليس يجوز أن يعملوا الخشب في الحقيقة فلم يجز أن يكون الله تعالى رجع بقوله : (( خلقكم وما تعملون (96) )) [ الصافات : 96 ] إليها ووجب أن يرجع إلى الأعمال كما رجع بقوله : (( جزاء بما كانوا يعملون (17) )) [ السجدة : 17 ] إلى الأعمال .
فلو جاز لزاعم أن يزعم أن قول الله تعالى : (( خلقكم وما تعملون (96) )) [ الصافات : 96 ] غير أعمالهم كما أن قوله : (( ما يأفكون (117) )) [ الأعراف : 117 ] إنما أراد به غير إفكهم فلما لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا .
والدليل من القياس على خلق أعمال الناس أنا وجدنا الكفر قبيحاً فاسداً باطلاً متناقضاً خلافاً لما خالف ووجدنا الإيمان حسناً متعباً مؤلماً .
ووجدنا الكافر يقصد ويجهد نفسه إلى أن يكون الكفر حسناً حقاً فيكون بخلاف قصده .
ووجدنا الإيمان لو شاء المؤمن أن لا يكون متعباً مؤلماً ولا مرمضاً لم يكن ذلك كائناً على حسب مشيئته وإرادته .(1/37)
وقد علمنا أن الفعل لا يحدث على حقيقته إلا من محدث أحدثه عليها لأنه لو جاز أن يحدث على حقيقته لا من محدث أحدثه على ما هو عليه لجاز أن يحدث الشيء فعلاً لا من محدث أحدثه فعلاً .
فلما لم يجز ذلك صح أنه لم يحدث على حقيقته إلا من محدث أحدثه على ما هو عليه وهو قاصد إلى ذلك لأنه لو جاز حدوث فعل على حقيقته لا من قاصد لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك كما أنه لو جاز حدوث فعل لا من فاعل لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك .
وإذا كان هذا هكذا فقد وجب أن يكون للكفر محدث أحدثه كفراً باطلاً قبيحاً وهو قاصد إلى ذلك ولن يجوز أن يكون المحدث له هو الكافر الذي يريد أن يكون الكفر حسناً صواباً حقاً فيكون على خلاف ذلك .
وكذلك للإيمان محدث أحدثه على حقيقته متعباً مؤلماً مرمضاً غير المؤمن الذي لو جهد أن يقع الإيمان خلاف ما وقع من إيلامه وإتعابه وإرماضه لم يكن له إلى ذلك سبيل .
وإذا لم يجز أن يكون المحدث للكفر على حقيقته الكافر ولا المحدث للإيمان على حقيقته المؤمن فقد وجب أن يكون محدث ذلك هو الله تعالى رب العالمين القاصد إلى ذلك لأنه لا يجوز أن يكون أحدث ذلك جسم من الأجسام لأن الأجسام لا يجوز أن تفعل في غيرها شيئاً .
فإن قال قائل : فلم لا دل وقوع الفعل الذي هو كسب على أنه لا فاعل له إلا الله كما دل على أنه لا خالق له إلا الله تعالى قيل له : كذلك نقول .
فإن قال : فلم لا ؟ دل على أنه لا قادر عليه إلا الله عز وجل . قيل له : لا فاعل له على حقيقته إلا الله تعالى ، ولا قادر عليه أن يكون على ما هو عليه من حقيقته أن يخترعه إلا الله تعالى .
فإن قال : فلم لا دل كونه كسباً على حقيقته على أنه لا مكتسب له في الحقيقة إلا الله ؟
قيل له : الأفعال لا بد لها من فاعل على حقيقتها ، لأن الفعل لا يستغني عن فاعل فإذا لم يكن فاعله على حقيقته الجسم وجب أن يكون الله تعالى هو الفاعل له على حقيقته .(1/38)
وليس لا بد للفعل من مكتسب يكتسبه على حقيقته كما لا بد من فاعل يفعله على حقيقته ، فيجب إذا كان الفعل كسباً كان الله تعالى هو المكتسب له على حقيقته .
ألا ترى أن حركة الاضطرار تدل على أن الله تعالى هو الفاعل لها على حقيقتها ولا تدل على أن المتحرك بها في الحقيقة هو الله تعالى إذا كانت حركة كما كان هو الفعال لها في الحقيقة ولا يجب أن يكون المتحرك المضطر إليها فاعلاً لها على حقيقتها إذا كان متحركاً بها على الحقيقة إذ كان معنى المتحرك أن الحركة حلته، ولم يكن جائزاً على ربنا تعالى .
وكذلك إذا كان الكسب دالاً على فاعل فعله على حقيقته لم يجب أن يدل على أن الفعال له على حقيقته هو المكتسب له ، ولا على أن المكتسب له على الحقيقة هو الفاعل له على حقيقته إذ كان المكتسب مكتسباً للشيء لأنه وقع بقدرة له عليه محدثه ، ولم يجز أن يكون رب العالمين قادراً على الشيء بقدرة محدثه فلم يجز أن يكون مكتسباً للكسب وإن كان فاعلاً في الحقيقة .
فإن قال : فهل اكتسب الإنسان الشيء على حقيقته كفراً باطلاً وإيماناً حسناً ؟ قيل له : هذا خطأ وإنما معنى (( اكتسب الكفر )) إنه كفر بقوة محدثه وكذلك قولنا : ( اكتسب الإيمان )) . إنمامعناه أنه آمن بقوة محدثه من غير أن يكون اكتسب الشيء على حقيقته ، بل الذي فعله على حقيقته هو رب العالمين .
والقول في الكذب ، وإن له فاعلاً يفعله على حقيقته ، وكاذباً به غير من فعله على حقيقته كالقول في فاعل الحركة على حقيقتها ، والمتحرك بها على الحقيقة غير من فعلها على حقيقتها وقد بينا ذلك آنفاً .
ودليل آخر من القياس على خلق أفعال الناس إن الدليل على خلق الله تعالى حركة الإضطرار قائم في خلقه حركة الاكتساب ، وذلك أن حركة الاضطرار إن كان الذي يدل على أن الله تعالى خلقها حدوثها فكذلك القصة في حركة الاكتساب .
وإن كان الذي يدل على خلقها حاجتها إلى مكان وزمان فكذلك قصة حركة الاكتساب .(1/39)
فلما كان كل دليل يستدل به على أن حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى يجب به القضاء على أن حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب خلق حركة الاضطرار .
فإن قال قائل : فيجب إذا كانت إحدى الحركتين ضرورة أن تكون الأخرى كذلك ، وإذا كانت إحداهما كسباً أن تكون الأخرى كذلك .
قيل له : لا يجب ذلك لافتراقهما في معنى الضرورة ، والاكتساب لأن الضرورة ما حمل عليه الشيء ، وأكره ، وجبر عليه ، ولو جهد في التخلص منه ، وأراد الخروج عنه ، واستفرغ في ذلك مجهوده لم يجد منه انكفافاً ولا إلى الخروج عنه سبيلاً .
فإذا كانت إحدى الحركتين بهذا الوصف الذي هو وصف الضرورة ، وهي حركة المرتعش من الفالج ، والمرتعد من الحمى كانت اضطراراً .
وإذا كانت الحركة الأخرى بخلاف هذا الوصف لم تكن اضطرارً لأن الإنسان في ذهابه ومجيئه وإقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج ، والمرتعد من الحمى يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علم اضطرار لا يجوز معه الشك .
فقد وجب إذا كان العجز في إحدى الحالتين إن القدرة التي هي ضده حادثة في الحال الأخرى لأن العجز لو كان في الحالين جميعاً لكان سبيل الإنسان فيهما سبيلاً واحدة .
فلما لم يكن هذا هكذا وكانت القدرة في إحدى الحركتين وجب أن تكون كسباً لأن حقيقة الكسب إن الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة لأفتراق الحالين في الحركتين ولأن إحداهما بمعنى الضرورة وجب أن تكون ضرورة ، ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسباً ودليل الخلق في حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحداً فلذلك وجب إذا كانت إحداهما خلقاً أن تكون الأخرى خلقاً .
ألا ترى أن افتراقهما في باب الضرورة والكسب لا يوجب افتراقهما في باب الحدث والكون بعد أن لم تكونا فكذلك لا يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق .(1/40)
ألا ترى أن الجسم لما لم يسبق المحدثات وجب حدوثه بدخوله في معنى الحدث ، وليس يجب إذا دخل في الحدث بمشاركة المحدثات في معنى الحدث إذا كان من المحدثات ما هو حركة أن يكون الجسم حركة ، وإذا كان منها ما هو جسم لا يجب أن تكون الحركة جسماً إذ لم يكونا يستويان في معنى جسم وحركة واستويا في معنى الحدوث .
فكذلك لما استوى الكسب والضرورة في معنى الخلق والحدث وجب إذا كان أحدهما خلقاً لله أن يكون الآخر كذلك فلذلك لم يوجب افتراقهما في باب الضرورة والكسب افتراقهما في الخلق .
فغن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون الذي دل على إن إحدى الحركتين مخلوقة لله تعالى هو أن حركة الاضطرار وقعت معجزاً عنها فإذا وقعت الأخرى مقدوراً عليها خرجت من أن تكون مخلوقة . قيل له : لو كان ما وقع مقدوراً غير اله تعالى خرج من أن يكون مخلوقاً لم يؤمن أن تكون حركات المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمى قد أقدر الله تعالى عليها بعض ملائكته يفعلها في المتحرك باضطرار إذ كان لا يستحيل عند مخالفينا أن يقدر القادر من المخلوقين على أن يفعل في غيره فبطلت دلالتها على أن الله تعالى فعلها على ما هي عليه .
وكذلك القول في حركات الأفلاك واجتماع أجزاء السماء وتأليفها ، وإذا كان هذا هكذا فقد بطلت دلالة هذه الأشياء على أن الله تعالى فعلها على ما هي عليه ، ولم يؤمن أن يكون لأجزاء السماء جامع غير الله سبحانه وللأفلاك محكم وللكواكب محرك غيره .
وإذا لم يجز ذلك فقد بطل ما قالوه من أن الشيء إذا كان مقدوراً لغير الله تعالى خرج من أن يكون لله تعالى مخلوقاً .
وأيضاً فليس العجز بأن يدل على أن الله تعالى خلق المعجوز عنه بأولى من أن تكون القدرة التي جعلها الله تعالى دلالة على أن الله خلق المقدور عليه لأن ما خلق الله القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر.
كما أن ما خلق فينا العلم به فهو به أعلم ، وما خلق فينا السمع له فهو له أسمع .(1/41)
فإذا استوى ذلك في قدرة الله تعالى وجب إذا أقدرنا الله تعالى على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق لها فينا كسباً لنا لأن ما قدر عليه أن يفعله فينا ، ولم يفعله فينا كسباً فقد ترك أن يفعله فينا كسباً .
وإذا ترك أن يكون كسباً لنا استحال أن نكون له مكتسبين . فدل على ما قلنا على أنا لا نكتسبه إلا وقد خلقه الله تعالى لنا كسباً .
مسألة
[ إذا كان كسب الإنسان خلقاً ]
فإن قال قائل : إذا كان كسب الإنسان خلقاً فما أنكرت أن يكون له خالقاً ؟ قيل له : لم أقل أن كسبي خلق لي فيلزمني أن أكون له خالقاً ، وإنما قلت خلق لغيري فكيف يلزمني إذا كان خلقاً لغيري أن أكون له خالقاً ، ولو كان كسبي إذا كان خلقاً لله تعالى كنت له خالقاً لكانت حركة المتحرك باضطرار إذا كانت خلقاً لله تعالى كان بها متحركاً .
فلما لم يجز ذلك أنه خلقها حركة لغيره لم يلزمنا ما قالوه لأن كسبنا خلق لغيرنا .
فإن قال : أفليس قد خلق الله تعالى جور العباد ؟ قيل له : خلقه جوراً لهم لا له ، فإن قال : فما أنكرتم أن يكون جائراً .
قيل له : لم يكن الجائر جائراً لأنه فعل الجور جوراً لغيره لا له لأنه لو كان جائراً لهذه العلة لم يكن في المخلوقين جائر .
فلما لم يكن الجائر جائراً لأنه فعل الجور جوراً لغيره لم يجب أن يكون الله بخلقه الجور جوراً لغيره لا له جائراً .
وأيضاً لو لزم ما قالوه لزم إذا فعل إرادة وشهوة وحركة لغيره لا له أن يكون مريداً مشتهياً متحركاً فلما لم يجب هذا لم يجب ما قالوه .
فإن قالوا : فقد يخلق الله تعالى حركة لا يكتسبها أحد ولا يكون متحركاً . قيل لهم : وكذلك لو خلق الله تعالى جوراً لا يكتسبه أحد لم يكن به جائراً وكان جوراً لمن خلقه جوراً له به يكون جائراً .(1/42)
فإن قالوا : فلم لا يقول قول غيره كما خلق جور غيره ؟ قيل لهم : لم نقل : إنه يجور بجور غيره ، فيلزمنا أن يقول بقول غيره ، وإنما قلنا : إنه يخلق جوراً لغيره لا له ، ولا يكون به جائراً .
فعروض هذا أن يخلق قولاً لغيره لا له ، ولا يكون به قائلاً ، وأيضاً فلو وجب هذا لوجب أن يقول الكذب من ليس بكاذب كما فعل الجور من ليس بجائر كما فعل الإرادة من ليس بمريد لها والحركة من ليس بمتحرك بها ، فإن لم يجب هذا لم يجب ما قالوه .
وأيضاً فقد دللنا على أن كلام اله تعالى من صفات ذاته في صدر كتابنا هذا فاستحال لذلك أن يكون بقول غيره قائلاً ، كما إذا كان العلم من صفات نفسه استحال أن يكون علم غيره علماً له وأن يكون رب العالمين عالماً بعلم محدث .
مسألة
[ العبد بين النعمة والبلية ]
فإن قال قائل : فهل يخلو العبد أن يكون بين نعمة يجب عليه شكرها أوبلية يجب عليه الصبر عليها ؟
قيل له : لا يخلو العبد من نعمة ، وبلية ، والبلايا منها ما يجب الصبر عليها كالمصائب من الأمراض والأسقام وفي الأموال ، والأولاد وما أشبه ذلك ومنها مالا يجب الصبر عليها كالكفر وسائر المعاصي .
مسألة
[ هل قضى الله المعاصي وقدرها ]
فإن قال قائل : فهل قضى الله تعالى المعاصي وقدرها . قيل له : نعم ، بأن خلقها ، وبأن كتبها ، وأخبر عن كونها كما قال : (( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب )) [ الإسراء : 4 ] .
يعني أخبرناهم وأعلمناهم ، وكما قال : (( إلا امرأته قدرناها من الغابرين )) [ النمل : 57 ] يريد كتبناها وأخبرنا أنها من الغابرين ، ولا نقول قضاها وقدرها بأن أمر بها .
فإن قال : أفقضاء الله تعالى حق ؟ قيل له : من قضاء الله تعالى الذي هو خلق ما هو حق كالطاعات ومالم ينه عنه .
ومن قضاء الله تعالى الذي هو خلق ما هو جور كالكفر ، والمعاصي لأن الخلق منه حق ومنه باطل .
وأما القضاء الذي هو أمر والقضاء الذي هو إعلام وإجبار وكتاب فحق لأنه غير المقضي .(1/43)
ومن أصحابنا من يجيب بأن يقول قضاء الله المعصية والكفر ، ويقول بلفظ المعصية ، والكفر هما باطلان ، ولا يقول بلفظ القضاء : إنه باطل لأن قول القائل : قضاء الله باطل كما يقول إذا رأى خشبة منكسرة بلفظ الخشبة هي منكسرة ، وهي مع ذلك حجة لله تعالى ، ولا يقول بلفظ الحجة : إنها منكسرة ، لأن هذا يوهم أن حجة الله تعالى لا حقيقة لها .
فكذلك أن الكفر باطل والكفر قضاء الله تعالى بمعنى أنه خلق الله ولا تقول قضاء الله باطل لأنه يوهم أن لا حقيقة لقضاء الله تعالى .
وهذا كما نقول الكافر مؤمن بالجبت والطاغوت ، ولا نقول : مؤمن ونسكت لما فيه من الإبهام .
ونقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لكافر بالجبت ، والطاغوت ، ولا نقول لكافر ونسكت لما في ذلك من الإبهام .
مسألة
[ الرضا بقضاء الله وقدره ولو كفراً ]
فإن قال قائل : أفترضون بقضاء الله وقدره الكفر ؟ قيل له : نرضى بأن قضى الله تعالى الكفر قبيحاً ، وقدراً فاسداً ، ولا نرضى بأن كان الكافر به كافراً لأن الله تعالى نهانا عن ذلك ، وليس إذا أطلقنا الرضى بلفظ القضاء وجب أن نطلقه بلفظ الكفر كما لا يجب إذا قلنا أن الخشبة حجة الله تعالى ، وأن الخشبة مكسورة أن نقول : حجة الله تعالى مكسورة لأن هذا يوهم حجة الله تعالى لا حقيقة لها .
فكذلك نطلق الرضى بلفظ القضاء والقدر ولا نطلقه بلفظ الكفر . هذا جواب أصحابنا الذي ذكرنا جوابهم آنفاً .
ومن أصحابنا من لا يجيب بأن نرضى بقضاء الله تعالى وقدره اللذين أمرنا أن نرضى بهما اتباعاً لأمره لأنه لا يتقدم بين يديه ولا يعترض عليه . وهذا كما نلاضى ببقاء النبيين عليهم السلام ونكره موتهم ونكره بقاء الشياطين وكل بقضاء رب العالمين .
مسألة
[ خير الخير ]
فإن قال قائل : فأيما خير الخير أو من الخير منه ؟ قيل له : من الخير منه متصلاً به فهو خير من الخير .(1/44)
فإن قال قائل : فأيما شر الشر ، أو من الشر منه ؟ قيل له : من كان الشر منه جائراً به فهو شر من الشر .
مسألة
[ هل الشر من الله تعالى ]
فإن قال قائل : أوتقولون : إن الشر من الله تعالى ؟ قيل له : من أصحابنا من يقول بأن الأشياء كلها من الله في الجملة ، ولا يطلق بلفظ الشر أنه من الله تعالى كما يقال : الأشياء كلها لله في الجملة ، ولا يقال على التفصيل : الزوجة والولد لله تعالى ، وكما نقول في الجملة : ما دون الله ضعيف ، ولا يقال : على التفصل دين الله ضعيف .
قال الشيخ : أبو الحسن رحمه الله فأما أنا فإني أقول : إن الشر من الله تعالى بأن خلقه شراً لغيره لا له .
مسألة
[ معنى قوله تعالى : ] .
فإن قال : فما معنى قوله : (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )) .[ آل عمران : 78] .
قيل له : معنى ذلك أنهم حرفوا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأوهموا السفيه منهم أنه من كتابهم . قال الله تعالى : (( وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )) [ آل عمران : 78 ] يعني أن الله تعالى أنزله قال الله تعالى : (( ويقولون هو من عند الله )) [ آل عمران : 78 ] أي لم أنزل عليهم ذلك كما يدعون .
مسألة
[معنى قوله تعالى : (( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) ]
فإن قال : فما معنى قوله تعالى : (( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) [ الملك : 3 ] ؟ قيل له : قال الله تعالى : (( لك لأجر غير ممنون (3) )) [ القلم : 3 ] واحدة فوق الأخرى (( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت )) [الملك : 3 ] يعني في السماوات لأنه قال : (( فارجع البصر )) [ الملك : 3 ] بعد ذكره السماوات (( هل ترى من فطور (3) )) [ الملك : 3 ] يعني من شقوق والكفر لا شقوق فيه .(1/45)
ثم قال : (( ثم ارجع البصر كرتين )) [ الملك : 4 ] يعني في السماوات والأرض (( ينقلب إليك البصر خاسئاً )) [ الملك : 4 ] يعني معيناً (( البصر خاسئاً )) [ الملك : 4 ] يعني مغلوباً .
ولم يذكر الله تعالى الكفر ، ولا أفعال العباد في هذه الآية فيكون للقدرية في ذلك حجة .
مسألة
[ معنى قوله تعالى (( الذي أحسن كل شيء )) ]
فإن قال قائل : فما معنى قول الله تعالى (( الذي أحسن كل شيء )) [ السجدة : 4 ] . قيل له : معنى ذلك أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ . فأخبر الله تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء .
مسألة
[ معنى قوله تعالى : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً )) ]
فإن قال : فما معنى قوله تعالى : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً )) [ ص : 27 ] قيل له : قال الله تعالى : (( ذلك ظن الذين كفروا )) [ ص : 27 ] فدل ذلك على أن المعنى فيها خلقها وما بينهما ، وأنا لا أثيب من أطاعني ، ولا أعاقب من عصاني وكفر بي ، لأن الكافرين ظنوا أنهم لا يعادون ، ولا لهم رجعة فيعاقبون .
فبين الله تعالى أنه ما خلق الخلق إلا ومصير بعضهم إلى ثواب ورجوع بعضهم إلى العقاب وأن الكافرين ظنوا ذلك لأنه بين أن ذلك باب الثواب والعقاب لأنه تعالى قال : (( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) )) [ ص : 28 ] فأخبر تعالى ظن المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه لا عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين .
قال الشيخ أبو الحسن : وقد يحتمل (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً )) [ ص : 27 ] أي لم أخلق ذلك أجمع باطلاً لأن الباطل بعض خلق الله تعالى .
ويحتمل ما خلقت ذلك باطلاً أي لم أجعله باطلاً إذ خلقتهما لأن الباطل حدث بعد أن خلقتهما .(1/46)
وقد قال الله تعالى : (( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام )) [ الفرقان : 59 ] فعموم هذا القول يدل على أنه خلق ما بينهما مما حدث من الخلق كالملائكة الذين كانوا بينهما وما خلقه بينهما من أعمال الحيوان في ذلك الوقت .
فلم قضوا بإحدى الآيتين على أن الله تعالى لم يخلق الباطل دون أن يقضوا بالآية الأخرى على أن الله خلق ما كان بينهما من فعل الملائكة وغيرهم في ذلك الوقت ؟
ويقال : إن قال قول الله تعالى في المشركين : (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )) [ آل عمران : 78 ] معناه لم يخلقه الله فلم لا تكون الطاعات مخلوقة له لأنها عندكم من عند الله تعالى .
وإن كان الكفر والمعاصي غير مخلوقة لله تعالى لأنها متفاوتة فلم لا تكون الطاعات مخلوقة له لأنها عندكم غير متفاوتة .
وإذا كان قوله سبحانه : (( الذي أحسن كل شيء )) [ السجدة : 7 ] على العموم في كل شيء خلقه الله تعالى فلم لا كان قوله تعالى : (( خالق كل شيء )) [ الزمر : 62 ] على العموم في كل شيء هو غيره .
فإن قال : فما معنى قوله : (( ما خلقنا السماوات و الأرض وما بينهما إلا بالحق )) [ الأحقاف :3 ] قيل له خلق الله ذلك فإن قال له : (( كن )) [ البقرة : 117 ] فالحق قوله بهما (( كونا )) فكانتا .
مسألة
[ القول لأهل القدر ]
ويقال لأهل القدر : أليس قول الله تعالى : (( بكل شيءٍ عليم (29) )) [ البقرة : 29 ] يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عالم .
فإذا قالوا : نعم . قيل لهم : فما أنكرتم أن يدل قوله تعالى : (( على كل شيء قدير (106) )) [ البقرة : 106 ] على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر ، وأن يدل قوله تعالى : (( خالق كل شيء )) [ الزمر : 62 ] على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعل خالق .
مسألة(1/47)
[ قول الله تعالى : (( أن الله بريء من المشركين ورسوله )) ]
إن سأل سائل : عن قول الله تعالى : (( أن الله بريء من المشركين ورسوله )) [ التوية : 3 ] . فالجواب أن الآية إنما نزلت في العهود التي كانت بين المشركين ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قال : (( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) )) [ التوبة 1 - 2] فأحلهم الله أربعة أشهر .
ثم قال : (( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) )) [ التوبة : 3 ] .
يقول وإعلام من ورسوله (( إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )) [ التوبة : 3 ] يعني من العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم إذا انقضت الأربعة الأشهر .
ثم استثنى قوماً من المشركين يقال : إنهم من بني كنانة فقال : (( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ )) [ التوبة : 7 ] إلى انقضاء مدتهم .
على أن الله تعالى ذكر المشركين ولم يقل لهم : (( من شركهم )) ، ولو كان قوله ((بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )) [ التوبة 3 ] يوجب أنه ما خلق شركهم للزم القدرية إذ قال : إنه (( ولي المؤمنين (68) )) [ آل عمران : 68 ] فقد خلق إيمانهم . فلما لم يكن هذا عندهم هكذا بطل ما قالوه .
مسألة
[ من ألقى ذلك في قلبه ](1/48)
فإن قال قائل : حدثونا عن توأمين كانا في برية فوقع بقلب أحدهما أن الله واحد من ألقى ذلك في قلبه قلنا له : الله تعالى .
فإن قال : أفحق ما ألقاه بقلبه . قيل له : نعم . فإن قال : أفصدقه فيما ألقاه بقلبه .
قيل : صدق الله تعالى لا يكون إلا كلامه ، وما وقع بقلب الإنسان ليس بكلام الله تعالى ، فيقال : إن الله تعالى صدقه فيه .
فإن قال : فإن الآخر وقع في قلبه أن الله ثالث ثلاثة من ألقى ذلك بقلبه . قيل له : الله تعالى .؟
فإن قال : أفباطل ما ألقاه بقلبه . قيل له : نعم . فإن قال : أفصدقه فيما ألقاه بقبه أم كذبه . قيل : خطأ أن يقال له : صدقه فيه ، لأن صدق الباري من صفات نفسه وهو كلامه .
وخطأ أن يقال : كذبه فيه لأن الكذب لا يجوز على الباري تعالى ، لأنه مستحيل أن يكذب ، وليس يجب إذا خلق كذباً لغيره وكذباً في قلب غيره أن يكون كاذباً كمالاً يجب إذا خلق قدرة في غيره وإرادة في غيره وحركة في غيره أن يكون بذلك قادراً مريداً متحركاً .
مسألة
[ تسمية القدرية ]
فإن قالوا : لم سميتمونا قدرية ؟ قيل لهم : لأنكم تزعمون في أكسابكم أنكم تقدرونها وتفعلونها مقدرة لكم دون خالقكم .
والقدري هو من ينسب ذلك لنفسه كما أن الصائغ هو من يعترف بأنه يصوغ دون من يزعم أن يصاغ له والنجار هو من يدعي أنه ينجر دون من يعترف بأنه ينجر له ولا ينجر شيئاً .
وكذلك القدري من يدعي أنه يفعل أفعاله مقدرة دون ربه ويزعم أن ربه لا يفعل من اكتسابه شيئاً .
فإن قال : يلزمكم أن تكونوا قدرية لأنكم تثبتون القدر . قيل لهم : نحن نثبت أن الله تعالى قدر أعمالنا وخلقها مقدرة لنا ولا نثبت ذلك لأنفسنا .
فمن أثبت القدر لله تعالى وزعم الأفعال مقدرة لربه لا يكون قدرياً كما أن من أثبت الصياغة والنجارة لغيره لا يكون صائغاً ولا نجاراً .
ولو كنا قدرية بقولنا أن الله فعل أفعالنا مقدرة لنا لكانوا قدرية بقولهم : إن الله تعالى فعل أفعاله كلها مقدرة له .(1/49)
ولو كنا بقولنا : إن الله قدر المعاصي قدرية لكانوا بقولهم : إن الله قدر الطاعات قدرية . فلما لم يكن كذلك بطل ما قالوه .
الباب السادس
باب الكلام في الاستطاعة
[ الإنسان يستطيع باستطاعةٍ هي غيره ]
فإن قال قائل : لم قلتم أن الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره ؟ قيل له : لأنه يكون تارة مستطيعاً وتارة عاجزاً كما يكون تارة عالماً وتارة غير عالم وتارة متحركاً ، وتارة غير متحرك ، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره ، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره لأنه لو كان مستطيعاً بنفسه ، أو بمعنى تستحيل مفارقته له لم يوجد إلا وهو مستطيع فلما وجد مرة مستطيعاً ومرة غير مستطيع صح وثبت أن استطاعته غيره .
فإن قال قائل : فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل ؟
قيل له : زعمنا ذلك من قبل أن الفعل لا يخلو أن يجون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها .
فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها فقد صح أنها مع الفعل للفعل ، وإن كان حادثاً بعدها ، وقد دلت الدلالة على أنها لا تبقى وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة .
ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العجز بعدها فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجزاً بقدرة معدومة لجاز أن يفعل بعد مائة سنة من حال حدوث القدرة ، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلها بقدرة عدمت من مائة سنة وهذا فاسد .
وأيضاً فلو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة ووقع الفعل بقدرة معدومة لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة وقد قلب الله النار برداً ، والقطع بحد سيف معدوم وقد قلب الله تعالى السيف قصباً ، والقطع بجارحة معدومة وذلك محال . فإذا استحال ذلك وجب أن الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها .
فإن قال : ولم زعمتم أن القدرة لا تبقى ؟ قيل له : لأنها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقي لنفسها أو لبقاء يقوم بها .(1/50)
فإن كانت تبقي لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وأن لا توجد إلا باقية وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها .
وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة فقد قامت الصفة بالصفة والعرض بالعرض وذلك فاسد .
فإن قال : فما أنكرتم أن تكون القدرة القدرة على الشيء قدرة عليه وعلى ضده . قيل له : لأن من شرط القدرة المحدثة أن يكون في وجودها وجود مقدورها .
لأن ذلك لو لم يكن من شرطها وجاز وجودها وقتاً ولا مقدور لجاز وجودها وقتين وأكثر من ذلك إذ لا فرق بين وقت ووقتين وأكثر .
ولو كان هذا هكذا لجاز وجودها الأبد وهو فاعل غير فاعل على وجه من الوجوه .
ألا ترى أنه لما لم يكن من شرط قدرة القديم أن في وجودها وجود مقدورها ، وجاز وجودها ولا فعل لم يستحل أن لا تزال موجودة ولا فعل على وجه من الوجوه فلما استحال أن تكون قدرة الإنسان الأبد موجودة ولا موجودة منه فعل لا أذ ولا ترك ولاطاعة ولا عصيان والأمر والنهي قائمان استحال ذلك وقتاً واحداً .
وإذا استحال وقتاً واحداً أن توجد القدرة ولا مقدور فقد وجب أن يكون من شرط قدرة الإنسان أن في وجودها وجود مقدورها ، فإذا كان ذلك كذلك استحال أن يقدر الإنسان على الشيء وضده لأنه لو قدر عليهما لوجب وجودهما وذلك محال .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن تكون قدرة واحدة على إرادتين وعلى حركتين أو على مثلين .
قيل له : إنا أنكرنا ذلك من قبل أن القدرة لا تكون قدرة إلا على ما يوجد معها في محلها ، فلو كانت قدرة واحدة على حركتين لم تخل أن تكون قدرة على حركتين أن توجدا معها في حال حدوثها أو على حركتين أن تكون واحدة بعد أخرى .
فإن كانت قدرة على حركتين أن تكونا معاً فقد وجدت حركتان في موضع واحد في وقت واحد .
ولو جاز هذا لجاز ارتفاع إحدى الحركتين إلى ضدها من السكون فيكون الجوهر متحركاً عن المكان ساكناً فيه وقت واحد وهذا محال .(1/51)
وإن كانت قدرة على حركتين أن توجد إحداهما بعد الأخرى فقد قام الدليل والبرهان على أن القدرة لا تبقى وهذا يوجب جواز وجود الفعل بقدرة معدومة وهذا مما قد بينا فساده .
ومما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل للفعل إن لم يخلق الله تعالى له استطاعة محال أن يكتسب شيئاً .
فلما استحال أن يكتسب الفعل إذا لم تكن استطاعة صح أن الكسب إنما يوجد لوجودها وفي ذلك إثبات وجودها مع الفعل للفعل .
فإن قالوا : أليس في عدم الجارحة عدم الفعل . قيل لهم : في عدم الجارحة عدم القدرة وفي عدم القدرة عدم الاكتساب لأنها إذا عدمت عدمت القدرة فلعدم القدرة ما استحال الكسب إذا عدمت الجارحة لا لعدم الجارحة .
ولو عدمت الجارحة ووجدت الفكرة لكان الاكتساب واقعاً ولو كان إنما استحال الاكتساب لعدم الجارحة لكان إذا وجدت وجد الكسب .
فلما كانت توجد ويقارنها العجز وتعدم القدرة فلا يكون كسب علم أن الاكتساب إنما لم يقع لعدم الاستطاعة لا لعدم الجارحة .
فغن قالوا : أفليس في عدم الحياة عدم الكسب ؟ قيل لهم : نعم ، لأن الحياة إذا عدمت عدمت القدرة ، فلعدم القدرة ما استحال الكسب لا لعدم الحياة .
ألا ترون أن الحياة تكون موجودة وثم عجز فلا يكون الإنسان مكتسباً فعلم أن الكسب لم يعدم لعدمها ، ولا يوجد لوجودها . والجواب في الحياة كالجواب في الجارحة .
فإن قالوا : إذا كان في عدم الإحسان للحياكة عدم الحياكة فلم لا يكون في وجود الإحسان لها وجودها ؟
قيل : إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها لا لعدم إحسانها ولو عدمت الحياة لعدم الإحسان لها لوجدت بوجود الإحسان لها .
فلما لم يكن ذلك كذلك وكان الإحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها .
ولو أجرى الله تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم الإحسان لها لوقعت الحياكة لا محالة .
فإن قالوا : فإذا كان في عدم التخلية والإطلاق عدم الفعل ففي وجودهما وجود الفعل .(1/52)
قيل لهم : كذلك نقول ، فإن قالوا : فإذا كان في عدم احتمال البنية للفعل عدم الفعل ، فلم لا يكون في وجود احتمال البنية للشيء وجوده ؟
قيل لهم : كذلك نقول لأن البنية لا تحتمل إلا ما يقوم بها ، وكلما تعارضونا به في هذه العلة ، فالجواب فيه كالجواب في الجارحة والحياة لأنه ليس عدم الكسب لعدمه .
ومما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل قول الخضر لموسى عليهما السلام : (( إنك لن تستطيع معي صبراً )) [ الكهف : 67 ].
فعلمنا أنه لما لم يصبر لم يكن للصبر مستطيعاً ؛ وفي هذا بيان أن ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل ، وأنها إذا كانت كان لا محالة .
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قال : (( ما كانوا يستطيعون السمع )) [ هود : 20 ]، وقال : (( وكانوا لا يستطيعون سمعاً (100) )) [ الكهف : 101 ] ، وقد أمروا أن يسمعوا الحق وكلفوه .
فدل ذلك على جواز تكليف ما لا يطاق وإن من لم يقبل الحق ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً .
فإن قالوا : ألا يستطيعون الاستقبال . قيل لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال : إنهم لا يستطيعون قبول الحق للاشتغال بتركه .
مسألة
[ أليس قد كلف الله تعالى الكافرين الإيمان ]
فإن قال قائل : أليس قد كلف الله تعالى الكافر الإيمان ؟ قلنا له : نعم . فإن قال : فيستطيع الإيمان .
قيل له : لو استطاعه لآمن ، فإن قال : فكلفه مالا يستطيع قيل له هذا كلام على أمرين .
إن أردت بقولك : إنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا ، وإن أردت أنه لا يستطيعه لتركه واشتغاله بضده فنعم .
فإن قال : ما أنكرتم أن يكون الله تعالى كلف الكافر ما يعجز عنه لتركه له . قيل له : العجز عن الشيء أنه يخرج عنه وعن ضده فلذلك استحال أن يعجز العاجز عن الشيء لتركه له .
فإن قال : ما أنكرت أن يكون القادر على الشيء قادراً على ضده كما كان العاجز عن الشيء عاجزاً عن ضده .(1/53)
قيل له : لو كانت القوة على الشيء قوة على ضده قياساً على العجز للزم أن يكون العون على الشيء عوناً على ضده قياساً على أن العجز عن الشيء عجز عن ضده .
وأيضاً فلو كانت القدرة على الشيء قدرة على ضده قياساً على العجز لأن العجز عن الشيء عجز عن ضده لوجب في القدرة ما وجب في العجز من أنه يتأتى بها الشيء وضده كما يتعذر بالعجز الشيء وضده ، ولكان العجز إذا وجد عدم الشيء وضده المعجوز عنهما مع وجود ه فلم يكن الإنسان مكتسباً لهما ، ولكن يلزم في القدرة مثله إذا وجدت ، وهي قدرة على الشيء وضده أن يوجد الشيء وضده معها ، لأنه يجب مع وجود الضدين مع وجودها بخلاف ما يحكم به في العجز لأن العجز يحكم فيه بعدم المعجوز عنه وضده مع وجوده .
فإن لم يجز هذا فقد بطلت العلة وانتقضت المعارضة ، ولم يجب أن تقاس القدرة على العجز إذ لم تكن علة تجمع بينهما ولم تكن القدرة من جنس العجز .
فإن قالوا : فيجوز أن يكلف الله تعالى الشيء مع عدم الجارحة ، ووجود العجز .
قيل لهم : لا لأن المأمور غنما يؤمر ليقبل ، أو ليترك ، ومع عدم الجارحة لا يوجد أخذ ولا ترك .
وكذلك العجز لا يوجد معه أخذ ولا ترك لأنه عجز عن الشيء وعن ضده ، وأيضاً فلو وجب إذا أمر الله تعالى الإنسان بالشيء مع عدم قدرته أن يأمر به مع عدم القدرة كلها لوجب إذا أمر الله تعالى الإنسان مع عدم بعض العلوم وهو العلم بالله تعالى وبأنه آمر أن يأمره بالفعل مع عدم العلوم كلها .
فإن لم يجب هذا لم يجب إذا أمر الإنسان مع عدم القدرة على ما أمره به أن يأمر مع عدم الجارحة التي إذا عدمت عدمت القدرة كلها ومع وجود العجز الذي لم تعدم القدرة بوجوده .
قال الشيخ أبو الحسن رجمه الله : وكل مسألة في تكليف ما لا يطاق من الأمر بالزكوة مع عدم المال ، وغير ذلك من المسائل ، فالجواب عنه كما أجبت به عن سؤالهم عن الأمر مع عدم الجارحة والتكليف مع وجود العجز .(1/54)
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يعدم الشيء وضده لوجود عجزين . قيل له : لأنه نهاية لما يعجز عنه الإنسان العاجز الذي لا قدرة فيه .
فلو كان العجز عن كل شيء غير العجز عن غيره لكان في الإنسان من الأعجاز مالا يتناهى وهذا محال .
وأيضاً فإن الموت هو أكبر الأعجاز لأنه يتعذر معه الأفعال كلها ، فلو كان العجز عن كل شيء غير العجز عن غيره لكن بعض الميتين إنما تعدم منه الأفعال لوجود أعجاز ، وهذا يوجب أن في الجزء الواحد عجزين وموتين ولو جاز هذا لجاز أن يرتفع أحدهما إلى حياة فيكون الجزء الواحد حياً ميتاً في حال معاً وهذا محال .
فلما استحال هذا علم أنه محال في قول من قال : إن العجز عن كل شيء غير العجز عن غيره وبالله التوفيق .
مسألة
[ من طبق امرأته وأعتق عبده]
فإن قال قائل : خبرونا عمن طلق امرأته وأعتق عبده متى استطاع طلاق امرأته وعتق عبده .
قيل له : استطاع عتق عبده في حال العتق ، واستطاع طلاق امرأته في حال الطلاق .
فإن قال : فاستطاع أن يطلق من ليست امرأته ، وأن يعتق من ليس عبده . قيل له : استطاع أن يطلق من ليست امرأته في حال الطلاق ، وقد كانت امرأته قبل ذلك ، وأن يعتق من ليس عبده في حال العتق ، وقد كان عبده قبل ذلك كما أنه طلق من ليست امرأته في حال الطلاق .
وقد كانت قبل ذلك امرأته ( وأعتق من ليس عبده في حال الهتق وقد كان عبده قبل ذلك).
وكذلك الجواب في إلقاء العصا والإنتقال من الشمس إلى الظل ، وعن كسر المكسور .
مسألة
[ قوله تعالى : (( وعلى الذين يطيقونه فدية )) ] .
فإن قال قائل : خبرونا عن قول الله تعالى : (( وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة : 184 ] . قيل له : يحتمل أن يكون يكون الله تعالى أراد الذين يطيقون الإطعام ويعجزون عن الصيام عليهم الفدية إذا أفطروا . ويحتمل أن يكون أراد الذين يطيقون الصيام أن تكلفوه وأرادوه على قول من رجع بالهاء إلى مذكور تقدم على الصيام .(1/55)
وقد قالت المعتزلة : لا يجوز أن يرجع بالهاء إلا إلى مذكور تقدم وهو الصيام . قيل لهم التأويل الذي تأولناه وهو تأويل بعض المتقدمين وليس النحويون حجة على الصحابة والتابعين .
على أن كثير من النحويين قد أجازوا أن لا يرجع بالهاء إلى مذكور تقدم .
ثم نكر على المعتزلة راجعين فنوقول لهم : حدثونا عن قول الله تعالى : (( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها )) [ الأعراف : 189 ] - يعني آدم وحوا - (( فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت )) [ الأعراف : 189 ] - يعني حوا - (( دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين (189) )) [ الأعرف : 189 - يريد آدم وحوا . وقوله تعالى (( فلما آتاهما )) [ الأعراف : 190 ] زعمت المعتزله أن الهاء والميم لم يرجه بهما إلى ما تقدم ذكره ، بل رجع بهما إلى المشركين من ولدهما فنقضوا قولهم : إن الهاء لا يرجه بها إلا إلى مذكور قد تقدم ذكره .
وقد قرأها بعض الصحابة : (( وعلى الذين يطيقونه فدية )) [ البقرة : 184 ] ، وكان تأويله أنهم يحملونه ، ولا يطيقونه .
مسألة
[ قوله تعالى : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً )) ]
وقد سألوا عن قول الله تعالى : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً )) [ آل عمران : 97 ] .
فالجواب : أن الله تعالى أراد المال وهو الزاد والراحلة ، ولم يرد استطاعة البدن التي في كونها كون مقدورها . وقيام الدلالة من القياس على أن الاستطاعة مع الفعل يصح تأويلنا ، ويبطل تأويل مخالفينا .
مسألة
[ معنى قوله تعالى : (( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم )) ]
إن قال قائل : ما معنى قول الله تعالى : (( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم )) [ التوبة : 42 ] .
هل يخلو أن يكونوا كانوا مستطيعين الخروج فلم يخرجوا ولو استطاعوا الخروج لم يخرجوا ؟(1/56)
فالجواب : أنهم عنوا بالاستطاعة الجدة والمال وحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا مال لهم ولا ظهر يحملون به مع نبي الله صلى الله عليه وسلم فأكذبهم الله في حلفهم لأنهم كانوا يجدون المال .
ولم تكن المناظرة بينهم وبين رسول الله في أن الاستطاعة مع الفعل ، أو قبله . وإنما كانت المجاراة بينهم ، وبينه في الجدة والظهر ، وهكذا ذكرأهل التفسير ونقلة الأخبار وحملة الآثار .
وإذا كان هذا هكذا فنحن لاننكر تقدم المال للفعل ، وإنما أنكرنا تقدم استطاعة البدن للفعل .
مسألة
[ قوله تعالى : (( فاتقوا الله ما استطعتم )) ] .
فإن سألوا عن قول الله تعالى : (( فاتقوا الله ما استطعتم )) [ التغابن : 16 ] ، فقد يحتمل أن يكون الله تعالى أراد : اتقوا الله ما كنتم مستطيعين ، فإن كانوا للتقوى مستطيعين كان عليهم أن يثقوا ، وإن كانوا لتركه مستطيعين فعليهم أن يتقوا لأن التقوى لا يلزمهم إلا أن يستطيعوه أو يستطيعوا تركه ، وقد يحتمل اتقوا الله فيما استطعتم .
مسألة
[ قوله تعالى : (( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً )) ] .
ومن سأل عن قوله تعالى : ((فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً )) [ المجادلة : 4 ) . فالجواب : أن من لم يستطع لعجز فعليه إطعام ستين مسكيناً .
[ قوله تعالى : (( لا يكلف الله نفساً إلا ما ءاتاها )) ]
ومن سأل عن قوله تعالى : (( لا يكلف الله نفساً إلا ما ءاتاها )) [ الطلاق : 7 ] فالمعنى أنه لا يكلف من النفقة إلا ما آتاها ، لأنه قال ذلك عقيب ذكر النفقة .
قال : (( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا )) [ الطلاق : 7 ] .
[ قوله تعالى : (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )) ] .(1/57)
ومن سأل عن قوله تعالى : (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )) [ البقرة : 286 ] . فالجواب عن ذلك : أن الله تعالى لا يكلفها ما يضيق عليها من إزالة الخواطر عن النفوس التي تدعو إلى الشر لأن الله تعالى قد تجاوز عن ذلك ووسع على المسلمين فيما تدعوهم نفوسهم إليه من المعصية إذا لم يرتكبوا ذلك بعد أن كان ذلك مضيقاً عليهم .
فمعنى (( لا يكلف نفساً إلا وسعها )) [ البقرة : 286 ] يعني إلا ما يطيقه عليها لأن ما أمر الله تعالى به عباده لا يضيق عليهم فعله ، ولا يعجزون عن الإتيان به .
وقد قال بعض أصحابنا : (( لا يكلف نفساً إلاوسعها )) [ البقرة : 286 ] يعني إلا ما يسعها ويحل لها .
[ قوله تعالى : (( وإني عليه لقوي أمين (39) )) ] .
ومن سأل عن قول الله تعالى مخبراً عن العفريت : (( وإني عليه لقوي أمين (39) )) [النمل : 39 ] .
فالجواب عن ذلك إن كان العفريت صادقاً فالمعنى في قوله : (( وإني عليه لقوي أمين )) [ النمل : 39 ] إن تكلفت ذلك وأردته .
وإن كان ممن إذا أراد ذلك أحدث الله تعالى لهالقدرة عليه لم يكن كاذباً .
وإن لم يقل هذا القول على هذا المعنى فهو كاذب وليس في قول العفاريت والشياطين حجة على دين رب العالمين .
[ زعم المعتزلة أن العفريت لم يكذبه سليمان ]
وزعمت المعتزلة أن العفريت لم يكذبه سليمان وهو نبي من أنبياء الله تعالى على قوله : ((أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ )) [ النمل : 39 ] ولا يجوز لأحد أن يكذب بين يدي نبي وهويعلم أنه إذا كذب رد الله عليه كذبه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال لنبيه (( إذا جاءك المنافقون )) [ المنافقون : 1 ] الآية ، فأخبر الله تعالى بكذبهم ، ومثل ذلك في القرآن كثير .
واحتجوا بذلك أن الاستطاعة قبل الفعل ، فبئس ما بالوا وظنوا بل سولت لهم أنفسهم الأباطيل .(1/58)
فالجواب : إنا نقول لمن احتج علينا بذلك أنه ليست تخلو هذه الآية التي حكاها الله تعالى عن العفريت أن يكون العفريت عنى بقوله : (( وإني عليه لقوي أمين (39) )) [ النمل : 39 ] إن استطعت ذلك وتكلفته وأردته أو يكون عنى بقوله : (( وإني عليه لقوي أمين (39) )) [ النمل : 39 ] إن شاء الله أو يكون عني بقوله إن قواني الله تعالى عليه .
ولو لم يعلم سليمان أن العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذبه ، ورد عليه قوله .
والدليل في ذلك قول الله تعالى : (( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97) )) [ الكهف : 97 ] .
وقد جاء في التفسير لا خلف بين أحد من الموحدين فيه أنهم في كل يوم يأملون أن يصبحوا وقد فتحوه ، ولا يقولون : إن شاء الله ، فإذا كان المقدر قالوا : إن شاء الله ، فأصبحوا وقد فتحوه فدل أن لا استطاعة لهم قبل الفعل إلا مع الفعل للفعل بإرادة الله تعالى ذلك .
[ قوله في صاحب يوسف ] .
وقول الله تعالى في صاحب يوسف : (( فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) )) [ يوسف : 42 ] .
أنسى الشيطان للناجي أن يذكر يوسف عند الملك فلم تكن للناجي استطاعة أن يذكر أمر يوسف للملك إذ كان قد وعد يوسف بأن يذكره عند ربه قبل خروجه من السجن .
وكان ذلك لتمام مراد الله تعالى بيوسف إلى الوقت المعلوم الذي رأى الملك فيه الرؤيا .
[ قوله لنبيه : (( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )) [ الكهف : 23 - 24] ، فأمر الله تعال نبيه بأن لا يقدم على فعل شيء يقع في نفسه لم ياب أن يستثني في قوله فأخبر الله تعالى نبيه أن لا يكون قولك هذا كائن قبل فعلك له إن أرادت أنا ذلك فسلم النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله تعالى .(1/59)
وقول موسى : (( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) )) [ يونس : 88 ] فلم يقدروا إذا رأوا العذاب الملجئ لهم إلى الإيمان أن يؤمنوا ، ولو استطاعوا ذلك لآمنوا عند معاينتهم لأول العذاب النازل بهم .
ومثل ذلك في كتاب الله تعالى كثير ، وفيما دللنا به كفاية ومثله قوله تعالى (( إلا قوم يونس لما ءامنوا )) [ يونس : 98 ] .
مسألة
[ قوله تعالى : (( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ )) ]
ومن سأل عن قول ابنة شعيب لأبيها : (( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) )) [ القصص : 26 ] فزعم الجبائي إن معنى هذا الآية أنها أخبرت عنه أنه قوي على ما يحتاج إليه أبوها من الأعمال ، واستدل فيما زعم بذلك على أن الاستطاعة قبل الفعل .
فما أعجزه من أي طريق استدل بهذه الآية على هذا الفصل ، وذلك أنها لم تعرف موسى من قبل قلعه للحجر الذي قلعه ونزعه بالدلو الذي نزع ، وإنما لما عاينت من شدته وقوته وأمانته .
وذلك أنها لما رجعت إليه في المرة الثانية فقالت له : (( إن أبي يدعوك )) [ القصص : 25 ] . قال لها : (( امشي خلفي واهديني الطريق )) ، ففعلت ذلك ، فكانت الريح تصفها له فأدركت موسى عليه السلام الخشية فقال لها : (( امشي خلفي وعرفيني الطريق بلسانك يمنة ويسرة وتلقاءه )) ، ففعلت ذلك .
فلما جاءت إلىأبيها وقالت له : (( إنه قوي أمين )) فرد عليها رداً شديداً وقال لها : (( يا ابنتي أما قوه فقد علمت بها لما رأيت منه فبم عرفت أمانته )) ، فأخبرته بما رأته منه .
فكيف علمت أنه كان مستطيعاً لما قبل الفعل وإنما ظهر لها ذلك منه بعد فعله إياه .
فصح عندنا وصحت الحجة على من خالفنا أن ينبغي أن تكون استطاعته لذلك مع نفس فعله له .(1/60)
والدليل على ذلك من القياس أنا لو رأينا رجلاً في الحال قائماً يصلي لما كنا نعلم استطاعته متى حدثت له إلا أنا نعلم من نفس الفعل ظهرت منه للفعل وهي الصلاة التي كان يفعلها .
وحجتنا على من خالفنا في كل ما يورده من المسائل في باب الاستطاعة كما رسمنا فيما بينا وشرحنا وبالله التوفيق .
مسألة
[ قوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) )) ]
ومن سأل عن قول الله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) )) [ الذاريات : 56 ] . قيل له : المعنى في ذلك أنه أراد بعض الجن والإنس وهم العابدون لله منهم لأن الله تعالى قال في موضع آخر : (( ولد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس )) [ الأعراف : 179 ] ، والقرآن لا يتناقض ، فوجب أن يكون الله تعالى خلق لجهنم كثيراً بالآية التي تلوناها ، وأنه خلق بعضهم للعبادة بقوله : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) )) [ الذاريات : 56 ] والذين خلقهم لعبادته هم الذين أراد هو أن يعبدوه وعاقبتهم عبادته .
[ قوله تعالى : (( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ .... )) ] .
ومن سأل عن قوله تعالى : (( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )) [ المائدة : 103 ] فالمعنى : أني لم أفرض عليهم ذلك ولم آمرهم به .
ولكنهم كذبوا علي ، وافتروا الكذب في قولهم : إني أمرتهم به .
والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله للملائكة : (( أنبئوني بأسماء هؤلاء )) [ البقرة : 13 ] يعني أسماء الخلق وهم لا يعلمون ذلك ، ولا يقدرون عليه .
وأيضاً فقد أخبر أنهم (( ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) )) [ القلم : 42 ] ، فإذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة ما لا يطيقون جاز ذلك في الدنيا .(1/61)
وقد أمر الله تعالى بالعدل ، وقد قال : (( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )) لأ التساء : 129 ] .
[ قوله تعالى : (( وما الله يريد ظلماً للعباد )) ] .
ومن سأل عن قوله تعالى : (( وما يتذكر إلا من ينيب (13) )) ، و (( وما الله يريد ظلماً للعالمين (108) )) [ آل عمران : 108 ] .
فالمعنى في ذلك : أنه لم يرد أن يظلمهم ، وإن كان أراد أن يتظالموا .
[ قوله تعالى : (( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا )) ] .
ومن سأل عن قوله تعالى : (( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا )) [ الأنعام : 148 ] إلى قوله : (( ولا حرمنا من شيء كذلك )) [ الأنعام : 148 ] .
فالجواب : أنهم قالوا ذلك على طريق الاستهزاء ولم يقولوه على جهة الاعتقاد .
فأكذبهم في قولهم الذي لم يكونوا له معتقدين كما أكذب المنافقين في قولهم : (( نشهد إنك لرسول الله )) [ المنافقون : 1 ] على طريق الاستهزاء .
فقال الله تعالى : (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) )) [ المنافقون : 1] .
[ قوله تعال : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) ]
ومن سأل عن قوله تعالى : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) [ البقرة : 185 ] .
فالجواب أنه أراد أن لا يكونوا بالصيام في السفر ، والمرض حرجين ، ولا آثمين ، ولا أن يكونوا في عسر من إفطارهم .
الباب السابع
باب الكلام في التعديل والتجوير
[ هل يقدر الله على لطف لو فعله بالكفار لآمنوا ](1/62)
فإن قال قائل : هل يقدر الله على لطف لو فعله بالكفار لآمنوا . قيل لهم : نعم ، والدليل على ذلك أنه يقدر أن يفعل بالمؤمنين وبعباده ما لو فعله بهم لبغوا في الأرض قال الله تعالى : (( ولو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض )) [ الشورى : 27 ] ، وقال : (( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة )) [ الزخرف : 33 ] - يعني على الكفر (( لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) )) .
فلما اكن الله تعالى قادراً على أن يفعل بالخلق مالو فعله بهم لكفروا كان قادراً على أن يفعل بهم ما لو فعله بهم لآمنوا .
وأيضاً ، فقد دللنا على أن في كون الاستطاعة كون الفعل ، فإذا كان قادراً على إقدارهم على الإيمان فهو قادر على أن يفعل مالو فعله بهم لآمنوا .
فإن قال : فإذا لم يفعل بالكفار ما يؤمنون عنده فقد بخل عليهم . قيل له : البخل أن لا يفعل الفاعل ما يجب عليه فعله ، فأما ما كان تفضلاً فللمتفضل أن يتفضل به وله أن لا يتفضل به ، وما كان تفضلاً لم يلحق البخل في أن لا يفعله الفاعل .
فإن قال : فإذا لم يفعل الله بهم ما يؤمنون عنده فهل أراد سففهم وكفرهم قيل له نعم وقد أوضحنا ذلك فيما سلف من كلامنا .
مسألة
[ إن كان الله لم يفعل بهم ما يؤمنون ]
ثم يقال لهم : إن كان الله تعالى إذا لم يفعل بهم ما يؤمنون عنده يجب أن يريد فسادهم ، فما أنكرتم من أنه إذا خلقهم - وهو يعلم أنهم يكفرون - فقد أراد كفرهم ، فإن قالوا : مريد السفه سفيه .
قيل لهم : أليس خالق من يعلم أنه يكفر لا يكون سفيهاً بخلقه ، ولا يكون خلقه إياه سفهاً ، فما أنكرتم أن يكون الخالق إذا أراد سفههم لم يكن سفيهاً ، وقد تكلمنا في هذه المسألة قبل هذا الموضع .
مسألة
[ هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة ؟ ](1/63)
فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة ؟ قيل له : لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ، وكذلك كل ما يفعله على جرم متناهٍ بعقاب لا يتناهى ، وتسخير الحيوان بعضهم لبعض ، والإنعام على بعضهم دون بعض ، وخلقه إياهم مع علمه بأنهم يكفرون كل ذلك عدل منه .
ولا يقبح من الله لو ابتداهم بالعذاب الأليم وأدامه ، ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ، ويدخل الكافرين الجنان ، وإنما نقول : إنه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا : أنه يعاقبل الكافرين ، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره .
والدليل على أن كل ما فعله فله فعله أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ، ولا زاجر ، ولا حاظر ، ولا من رسم له الرسوم ، وحد له الحدود .
فإن كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء ؛ إذ كان الشيء إنما يقبح منا لأنا تجاوزنا ما حد ورسم لنا ، وآتينا مالم نملك إتيانه .
فلما لم يكن الباري مملكاً ، ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء .
فإن قال : فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه . قيل له : أجل ، ولو حسنه لكان حسناً ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض .
فإن قالوا : فجوزوا عليه أن يكذب كما جوزتم أن يأمر بالكذب . قيل لهم : ليس كل ما جاز أن يأمر به جاز أن يوصف به .
ألا ترون أنه قد أمرنا أن نصلي ، ونخضع ، ونتحرك ، ولا يجوز عليه أن يصلي ، ويخضع ، ويتحرك لأن ذلك مستحيل عليه ، وكذلك لا يجوز عليه الكذب ليس لقبحه ، ولكن لأنه يستحيل عليه الكذب ، ولا يجوز أن يوصف بالقدرة على أن يكذبكما لا يجوز وصفه بالقدرة على أن يتحرك ويجهل .
ولو جاز لزاعم أن يزعم أنه يوصف الباري بالقدرة على أن يكذب ، ولا يوصف بالقدرة على أن يجهل ، ولا يأتي بين ذلك بفرقان لجاز لقالب أن يقلب القصة ، فزعم أن الباري يوصف بالقدرة على أن يجهل ، ولا يوصف بلاقدرة على أن يكذب . فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه .(1/64)
فإن قال قائل : إذا أمر الله تعالى أن نصلي فصلاتنا هي حركاتنا التي نتحرك بها إذا صلينا ، والمتحرك متحرك لحلول الحركة فيه ، والشاتم ، والكاذب إنما كان شاتماً كاذباً لأنه فعل الشتم ، والكذب لا لأن ذلك حل فيه .
يقال له : إن كانت العلة التي لها ألزمنا أن نجوز أن يكذب الباري - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - أنه أمر به ، فيجب في كل شيء أمر به أن يجوز وصفه به ، فإذا أمر أن تحل في أنفسنا حركات نتحرك بها ، وصلاة نصلي بها لزم أن يجوز أن تحل في نفسه حركات يتحرك بها ، وصلاة يصلي بها اللهم إلا أن يقولوا : إذا جاز أن يأمر الباري غيره أن يكذب ، فلم لا يجوز أن يفعل كذباً يكون به غيره كاذباً ؟ كما إذا أمر غيره أن يصلي جاز أن يفعل لغيره صلاة كان غيره بها مصلياً . فإن سألونا عن هذا السؤال على هذا الوجه فهذا مالا ينكر .
على أنه إن كان المصلي مصلياً لحلول الصلاة فيه ، كما أن المتحرك كان متحركاً لحلول الحركة فيه ، فواجب أن يكون كل جزء من الإنسان إذا حليته الصلاة مصلياً ، كما كان كل جزء منه إذا حلته الحركة متحركاً .
ويقال لهمك : الصلاة في اللغة هي الدعاء ، فإن كان المصلي مصلياً لحلول الصلاة فيه ، فيجب أن يكون داعياً لحلول الدعاء فيه ، وهذا فاسد عندهم .
ثم يقال لهم : إذا جاز أن يفعل الباري تعالى صلاة لغيره ويكون بها مصلياً ، فلم لا يجوز أن يفعل لغيره إرادة يكون بها مريداً وكلاماً يكون به متكلماً ؟
فإن قالوا : المتكلم المريد متكلم مريد لأنه فعل الكلام ، والإرادة . قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون المصلي مصلياً لأنه فعل الصلاة فيه ، والمتحرك متحركاً لأنه فعل الحركة فيه .
فإن قال قائل : قد يتحرك منا من لا يفعل الحركة . قيل له : وقد يريد ويتكلم منا من لا يفعل إرادة ، ولا كلاماًَ كالعاشق الذي يحب معشوقته محبة لا يمكنه الانصراف عنها وكالذي يتكلم وهو نائم ، أو في حال صرعه كلاماً لا يمكنه الانصراف عنه .(1/65)
فإن قال : ليست محبة العاشق محبة في الحقيقة ، ولا إرادته إرادة في الحقيقة . قيل له : وليس كلام المصروع ، والنائم كلاماً في الحقيقة ، ولا كلام اليقظان كلاماً في الحقيقة ، ولا إرادة العاشق إرادة في الحقيقة ، وهذا مالا يعجز عنه أحد .
ثم يقال لهم : إن كان المصلي مصلياً لحلول الصلاة فيه ، أفليس الخاضع خاضعاً عندكم لحلول الخضوع فيه لأن الخضوع يكون في القلب ، والإنسان بكماله خاضع ؟
فإن ادعوا أن القلب خاضع خاشع ألزمناهم أن يكون اللسان متكلماً في الحقيقة ، والقلب مريداً في الحقيقة .
وإن قالوا : الخلضع لم يكن خاضعاً لحلول الخضوع فيه . قيل لهم : فإذا أمرنا الله تعالى أن نخضع فيجب على قياسكم أن يخضع هو .
فإن قالوا : لا ، ولكنه يفعل خضوعاً لغيره . قيل لهم : وكذلك إن أمرنا بالكذب فجائز أن يفعل كذباً لغيره .
فإن قالوا : الكاذب كاذب لأنه فعل الكذب . قيل لهم : مثل ذلك في الخاضع .
فإن قالوا : لم يكن الخاضع خاضعاً لحلول الخضوع فيه ، ولا لأنه فعله . قيل لهم : ذلك في الكاذب ، ثم يقال لهم : إذا أمرنا الله أن نتحرك أفليس جائزاً أن يجعلنا متحركين .
فإن قالوا : نعم . قيل لهم : فكذلك لو أمرنا بالكذب لجاز أن يجعلنا كاذبين .
ثم يقال لهم : خبرونا أليس زعمتم أن الصلاة إذا كانت ، كانت حركات ، وكان المتحرك متحركاً لحلول الحركة فيه ، والمصلي مصلياً لحلول الصلاة فيه ؟
فإن قالوا : نعم . قيل لهم : فيجب إذا أطاع الإنسان بفعل حركة أمره الله تعالى بها أن يكون طائعاً لأن الطاعة حلته كما أنه متحرك لحلول الحركة فيه .
فإن قالوا : نعم . قيل لهم : فبعض الإنسان طائع وبعضه عاصٍ إذا حاته المعصية ، ولا بد من نعم ، ثم يقال لهم : فما أنكرتم أن يكون بعض الإنسان متكلماً ، وهو اللسان وبعضه عالم مريد ، وهو القلب .(1/66)
فإن قالوا : الحركة إذا كانت كانت طاعة ، فالمتحرك كان متحركاً لحلول الحركة فيه ، وليس الطائع طائعاً لحلول الطاعة فيه ، بل هو طائع لأنه يفعل الطاعة .
قيل لهم : ما أنكرتم ، وإن كانت الحركات صلاة ، وكان المتحرك متحركاً لحلول الحركة فيه فالمصلي مصلٍ لأنه فعل الصلاة لا لأنها حلته .
فإن أجابو : إلى ذلك . قيل لهم : فإذا أمرنا أن نصلي ، ولم يجز أن يصلي هو فليلزم لو أمرنا الله أن نكذب أن لا يجوز أن يكذب هو ، بل يجوز أن يفعل لنا كذباً ، كما جاز أن يفعل لنا صلاة ، ولم يجز أن يصلي هو قفل في الكذب هذا القول .
ثم يقال لهم : إذا أمرنا أن نتحرك جعل لنا حركات نتحرك بها فكذلك لو أمرنا بالكذب لم يستحيل أن يفعل لنا كذباً نكذب به .
الباب الثامن
باب الكلام في الإيمان
[ ما الإيمان بالله تعالى ]
إن قال قائل : ما الإيمان عندم بالله تعالى ؟ قيل له : هو التصديق بالله ، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة التي نزل بها القرآن .
قال الله تعالى : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه )) [ إبراهيم : 4 ] ، وقال تعالى : (( بلسان عربي مبين (195) )) [ الشعراء : 195 ] .
فلما كانت الإيمان في اللغة التي أنزل الله تعالى بها القرآن هو التصديق ، وقال الله تعالى : (( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17) )) [ يوسف : 17 ] أي بمصدق لنا .
وقالوا جميعاً : (( فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة )) يريدون يصدق بذلك ، فوجب أن يكون الإيمان هو ما كان عند أهل اللغة إيماناً وهو التصديق .
[ هل الفاسق من أهل القبلة مؤمن ]
فإن قال قائل : فحدثونا عن الفاسق من أهل القبلة أمؤمن هو . قيل له : نعم ، مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه وكبيرته .
وقد أجمع أهل اللغة إن من كان منه ضرب فهو ضارب ، ومن كان منه قتل فهو قاتل ، ومن كان منه كفر فهو كافر ، ومن كان منه فسق فهو فاسق ، ومن كان منه تصديق فهو مصدق . وكذلك من كان فيه إيمان فهو مؤمن .(1/67)
ولو كان الفاسق لا مؤمناً ، ولا كافراً لم يكن منه كفر ، ولا أيمان ولكان لاموحداً ، ولا ملحداً ، ولا ولياً ، ولا عدواً فلما ساتحال ذلك استحال أن يكون الفاسق لا مؤمناً ، ولا كافراً كما قالت المعتزلة .
وأيضاً فإذا كان الفاسق مؤمناً قبل فسقه بتوحيده فحدوث الزنا بعد التوحيد لا يبطل إسم الإيمان الذي لم يفارقه .
وأيضاً فقد كان الناس قبل حدوث واصل بن عطاء رئيس المعتزلة على مقالتين :
منهم : خوارج يكفرون مرتكبي الكبائر .
ومنهم : أهل استقامة ، يقولون : هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته .
ولم يقل منهم قائل : إنه ليس بمؤمن ، ولا كافر قبل حدوث واصل بن عطاء . حين اعتزل واصل الأمة ، وخرج عن قولها فسمي معتزلياً بمخالفته الإجماع ؛ فبعدم الإجماع على قوله - واتفق المسلمون عليه من أن العاصي من أهل الصلاة لا يخلو من أن يكون مؤمناً ، أو كافراً - يقتضي على بطلان قوله .
وأيضاً فلو جاز لقائل أن يقول : إن من معه إيمان ، وآتى كبيرة فليس مؤمناً ، ولا كافراً لجاز لقائل أن يقول : بل هو مؤمن بإيمانه ، ولا يقال فاسق بفسقه .
فإن قال هذا القول مستحيلاً لأنه لا يجوز فسق لا لفاسق كان قولهم مستحيلاً لأنه لا يجوز إيمان لا لمؤمن .
الباب التاسع
باب الكلام في الخاص والعام والوعد والوعيد
[ قوله تعالى : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) ]
إن قال قائل : خبرونا عن قول الله تعالى : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) [ الانفطار : 13 ] ، وعن قوله : (( ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً )) [ النساء : 30 ] ، وقوله تعالى : (( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً (10) )) [ النساء : 10 ] .(1/68)
فالجواب عن ذلك : أن قوله (( ومن يفعل ذلك عدواناً )) [ النساء : 3 ] يحتمل أن يقع على جميع من يفعل ذلك ، ويحتمل أن يقع على بعض لأن لفظ (( من )) يقع في اللغة مرة على الكل ، ومرة على البعض ، فلما كانت صورة اللفظ ترد مرة ، ويراد بها البعض وترد أخرى ، ويرادبها الكل لم يجز أن يقطع على الكل بصورتها كما لا يقطع على البعض بصورتها .
وكذلك لا يقضي بقوله : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) ، و (( الذين يأكلون )) [ النساء : 10 ] على بعض ولا على كل إذا كان يقع لك تارة على الكل ، وتارة على البعض .
ولو جاز لزاعم أن يزعم : أن الصورة إنما هي للكل حتى تأتي دلالة البعض لم يكن هذا لزاعم بزعمه هذا أولى ممن قال : صورة هذا القول يوجب القضاء على البعض إلى أن تقوم دلالة الكل .
فلما تكافأ القائلان في قولهما وجب أن يكون القولان جميعاً ملغيين .
وقد قال زهير : [ الطويل ]
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسمٍ
وليس كل من لا يصانع كذلك وقال : [ الطويل ] :
ومن لا يظلم الناس يظلم .
وليس كل من لا يظلم الناس يظلم . ويقول القائل : (( جاءني من أحببت )) ، وإنما يعني واحداً .
ويقول : (( جاءني التجار )) ، وإن لم يكن الكل جاءه ، و (( جاءني جيراني )) ، وإن لم يأته جميعهم .
ويقول القائل : (( لعنني الفجار بما كرهت )) ، ولا يعني جميعهم ، فلما كانت هذه الألفاظ ترد مرة يراد بها الكل وترد أخرى يراد بها البعض لم يجز أن يقضي على الكل دون البعض ، ولا على البعض دون الكل إلا بدلالة .(1/69)
وأيضاً فلو وجب القضاء بصورة هذه الآيات أن يقضي على عذاب كل فاجر ، وآكل أموال اليتامى ظلماً ، وآكل أموال الناس بالباطل ، لوجب أن يقضي على أن كل الموحدين من أهل الصلاة في الجنة بظاهر قوله تعالى : (( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزعٍ يومئذٍ ءامنون (89) )) [ النمل : 89 ] وبظاهر قوله : (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون (169) )) [ آل عمران : 169 ] على أن كل مقتول في سبيل الله في الجنان يرزق فيها . وبظاهر قوله تعالى : (( إن الله يغفر الذنوب جميعاً )) [ الزمر : 53 ] على كل ذنب أنه مغفور إلا ذنباً وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجمع المسلمون أنه لا يغفر ، وهو الشرك والكفر .
وليس قول من قال : إن الآيات ( عامة ) في الوعيد عامة ، والآيات الأخر خاصة أولى من قول قالب قلب القصة ، وجعل آيات الوعيد خاصة ، والآيات الأخر عامة .
وأيضاً فلو وجب أن يقضي بظواهر الآيات على ان كل فاجر وآكل أموال اليتامى ظلماً في نار جهنم لجاز أن يقضي بقول الله تعالى : (( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )) [ الملك : 8-9 ] مكذباً إن النار لا يدخلها إلا كافر وبظاهر قوله تعالى : (( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) )) [ الليل : 14 -16 ] إن كل من يصلى النار كذلك .
وبظاهر قول الله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون (44) )) [ المائدة : 44 ] أنه لا يترك الحكم بما أنزل الله إلا فاسق .(1/70)
فلما لم يلزم أن لا يدخل النار إلا كافر بهذه الآيات لم يلزم أن يكون كل فاجر في جهنم ، وكل آكل أموال اليتامى ظلماً ، وكل من يأكل أموال الناس بالباطل في النار للآيات التي تلوناها .
والجواب عن كل آية يعتلون بها في الوعيد ، كالجواب عن هذه الآيات .
[ قوله تعالى : (( ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً )) ]
وقوله : (( ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً )) [ النساء : 30 ] يحتمل من يفعل ذلك مستحلاً ويحتمل الجميع .
[ قوله تعالى : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) ]
وقوله : (( وإن الفجار لفي جحيم (14) )) [ الانفطار : 14 ] يحتمل البعض منهم وهم الكفار ويحتمل الجميع ، وكذلك الجواب عن كل آية في الوعيد .
ويلزم المعتزلة أن يكون جميع أهل الشمال كافرين بظاهر قول الله تعالى : (( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) )) [ الواقعة : 41 - 47 ] .
وبقوله : (( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) )) [ الحاقة : 25 ] إلى قوله تعالى : (( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) )) [ الحاقة : 33 - 34 ] .
الباب العاشر
باب الكلام في الإمامة
[ الدليل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ]
فإن قال قائل : ما الدليل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه . قيل له : الدلالة على ذلك أنا وجدنا الناس على ثلاثة أصناف :(1/71)
قائلين : يقولون بإمامة علي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقائلين : يقولون بإمامة العباس رضي الله عنه ، وقائلين : يقولون بإمامة أبي بكر رضي الله عنه .
ورأينا علياً ، والعباس قد بايعاه وأنقادا لأمره في كافة المسلمين ، وإن كان قد توقف عن البيعة متوقفون وقتاً ما فقد أطبقوا على البيعة له والانقياد لإمامته والكون تحت رايته واتباع أمره ، وقالوا له : (( يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم )) ، ولا يجوز أن يجمع الأمة على خطأ .
ولا يجوز لمدع أن يدعي أن باطن علي والعباس بخلاف ما أظهراه ، ولو جاز ذلك لم يجز لنا أن نقضي على صحة إجماع من الأمة على شيء لأنا لا نأمن أن يكون باطن بعض الأمة خلاف ظاهرهم .
فلما كان بما يظهر من الأمة من الاتفاق قد يعلم به الإجامع ، ولا يلتفت إلى عوى من ادعى الباطن ، وكان مدعي ذلك كقائل يقول من الخوارج : من يقول أن باطن علي بخلاف ظاهره ؟
فلما كان في هذا إبطال الإجماع وجب القضاء على إمامة أبي بكر بعقد من عقدها له من المسلمين ، وبيعة من بايعه من المهاجرين ، والأنصار ، وإجماع المسلمين عليه في وقته لا سيما وعلي والعباس عاقدان له البيعة على أنفسهما و مقران له بالإمامة ، وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كانت الإمامة لا تخرج عن هؤلاء الثلاثة بإجماع ، وقد بايعاه في كافة المسلمين وجب أن يكون إماماً مفترض الطاعة .
وقد نطق القآن بإمامة الصديق ، ودل على إمامة الفاروق ، وذلك أن الله تعالى قال في سورة براءة للقاعدين عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم والمتخلفين عن الجهاد معه : (( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) )) [التوبة : 83 ].(1/72)
وقال في سورة أخرى : (( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ )) [ الفتح : 15 ] - يعني قوله : (( لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً )) [ التوبة : 83 ] ، ثم قال : (( كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) )) [ الفتح : 15 ] .
وقد علمنا أن الداعي لهم غير النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه قال لنبيه ((فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً )) [ التوبة : 83 ] .
وقال في سورة الفتح (( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ )) [ الفتح : 15 ] ، فمنعهم الله تعالى عن الخروج مع نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه . فوجب أن الداعي الذي أمروا باتباعه داعٍ يدعوهم بعد الرسول .
وقد قال الناس قولين : قال بعضهم : هم فارس والروم ، وقال آخرون : هم أهل اليمامة .
وأبو بكر قاتل الروم ، وأهل اليمامة ، وقوتلن فارس في أيامه ، وظهر بهم من بعده .
فإن كانوا أهل اليمامة ، أو الروم فقد قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وفي ذلك إيجاب إمامته .
وإن كانوا فارس فقد قوتلوا في أيامه ، وفرغ منهم من بعده فقد وجبت إمامة عمر .
وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر رضي الله عنهما لأن أبا بكر عقدها له .
وإن كان المعنى من قاتل فارس وفرغ منهم ، فإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر لأنه هو العاقد لإمامته .
فدل ما قلناه من القرآن على إمامة الصديق والفاروق . وإذا وجبت إمامة أبي بكر بالدلالات التي ذكرناها بظاهر القرآن وبإجماع المسلمين في وقته عليها فسد قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة غيره لأنه لا تجوز إمامة من نص الرسول على إمامة غيره .(1/73)
وهذا يقضي على بطلان قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم نصب علياً بعده إمامًا .
ومما يبطل قول من قال بالنص على أبي بكر أن أبا بكر قال لعمر : (( ابسط يدك أبايعك )) يوم السقيفة .
فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته لم يجز أن يقول : (( ابسط يدك أبايعك )) .
وقد قلنا في الأبواب التي تكلمنا عليها قولاً وجيزاً .
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله وسلم .(1/74)