السنة النبوية
في مواجهة التحديات
والشبهات المعاصرة
للدكتور
أيمن محمود مهدي
أستاذ الحديث وعلومه المساعد
ورئيس قسم الحديث
بكلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بطنطا
الطبعة الأولى
1426هـ - 2005م
مقدمة
الحمد لله رب العالمين رضي لنا الإسلام ديناً ، والقرآن دستوراً ، ومحمداً - صلى الله عليه وسلم - نبياً وهادياً ورسولاً ، أرسله ربه بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، على فترةٍ من الرسل ، وانتشارٍ للكفر والضلالة ، فدعا الناس إلى عبادة الله وحده ، وبيَّن للناس ما نُزِّل إليهم ، وأوضح شرائع الله بقوله وفعله ، حتى كمل للناس دينهم ، وتمت عليهم نعمة الله ، ورضي لهم الإسلام ديناً دائماً ثابتاً ، لا ينطفئ نوره ، ولا تبيد معالمه ، ولا تندثر شرائعه حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وبعد ،،
فالسنة النبوية المطهرة المتمثلة في : أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله ، وتقريراته ، وصفاته تمثل بجملتها النموذج الأمثل الذي يجب أن يحرص المسلم على الوصول إليه والاهتداء بنوره .
ولذلك أمرنا الله عز وجل بالإقتداء برسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - في كل مجالات الحياة فقال :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (1) .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى من نفسه المثل الأعلى في كل شيء ، فهو النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى ، وهو القائد الذي لا يُشقُّ له غبار ، وهو المعلم الذي لا مثيل له ، وهو الشيخ الذي لا نظير له ، وهو الأب والزوج والصديق الذي استوى على قلوب أتباعه بحسن خلقه ، وشرف أصله ، فلا ينطق إلا حقاً ، ولا يتكلم إلا صدقاً ، طهَّر الله قلبه ولسانه من الوهم والخطأ .
__________
(1) - الأحزاب 21 .(1/1)
ولذلك كانت السنة النبوية المطهرة هي المرجع الثاني للأحكام الشرعية فبها مع القرآن يعرف المسلم أحكام دينه ، ويميز بين الحلال والحرام ، والحق والباطل ، والهدى والضلال .
فهي نور حياة المسلم ، وشمس نهاره ، وقمر ليله ، بها يهتدي الضال ، وينكشف الطريق أمام الحيران ، ويعرف المسلم طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، فسعادة المسلم في الدنيا ، ونجاته في الآخرة موقوفة على طاعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد أدرك أعداء الإسلام قديماً وحديثاً أهمية السنة النبوية ، ومكانتها من الإسلام ، ودورها في بناء الأمة ، وتثبيت أركانها ، وبناء أفرادها فحاولوا منذ القِدَم إيقاف هذا السيل النوراني ، والفيض الرباني فوضعوا في طريقها الشبهات لنفي حجتها ، واجتثاث قدسيتها من القلوب ، وقطع صلة المسلم بها .
ولكن نور الحق كان مبهراً فأخذ بعيون الأعداء قبل الأتباع ، وسيل الحق كان جارفاً فاقتلع شبهاتهم من القواعد ، وتوطد بناء الإسلام ، وعلا صرحه ، وارتفع بنيانه ، وساد المسلمون العالم ، وعلت كلمتهم ، وارتفعت رايتهم ، وأقبل الناس على الإسلام يدخلون فيه أفواجاً .
ولكن أعداء الإسلام لم يهدأ لهم بال ، ولم يغمض لهم جفن فدبروا المؤامرات ، ونشروا الشبهات ، فلما ضعفت قوة المسلمين العلمية ، وتهدَّمت أركان خلافتهم ، وسقطت بلادهم في أيدي المستعمرين خافوا سطوة الإسلام وقوته إذا استيقظ ، لأنهم يعلمون أن سر قوة هذه الأمة هو دينها ، هو الذي أحياها من موات ، وجعل لها ذكراً بعد أن كانت خاملة لا يعبأ بها أحد ، فَكَرُّوا على الإسلام يُحاولون إضعاف سلطانه في نفوس أبنائه ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ، وظنوا أن الفرصة مواتية لاجتثاث قواعد الإسلام فأحيوا من الشبهات ما أماته علماء الإسلام الأُوَل ، وأضافوا إليها شبهاتٍ أخرى ليعزلوا الدين عن الحياة ، ويخرجوه من حلبة الصراع فينفردوا بشعوب بلا دين .(1/2)
ومن الصروح الشامخة التي حاول أعداء الأمة إَضعافها : صرح السنة الشامخ ، وبناءها الوطيد ، وقصرها المشيد ، ونسي هؤلاء الأعداء أن الإسلام وإن ضعف أبناؤه صرح شامخ ، وبناء عالٍ ، قواعده وأركانه ثابتة ، أصلها في الأرض وفرعها في السماء ، ولا تزيده ضربات الأعداء إلا قوة ، ولا شبهاتهم إلا وضوحا وجلاءً .
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود
ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ولا يكسب أعداؤه إلا الخيبة والخسران .
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (1) .
وسأعرض في هذا البحث المتواضع : بعض التحديات التي تواجه السنة في هذا العصر ليس خوفاً على الإسلام ولا خشية من ضياع السنة ، ولكن ليعلم المسلمون ما يُدبَّر لهم بليل ، وحتى لا يكونوا أسلحة في أيدي أعدائهم فيطعنون السنة من الخلف ، ويسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون ، ويفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون ، وحتى يزداد المسلمون ثقةً في السنة المطهرة ، وفي علمائهم العظام .
وسأعرض بعض الشبهات المعاصرة التي أثارها أعداء الإسلام وتبعهم بعض المسلمين ورددوها بلا وعي ليتَّضِح للمسلم بجلاء عظمة دينه ، وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة وفصلين وخاتمة .
ذكرت في المقدمة مكانة السنة النبوية ، وجهود أعداء الإسلام المتواصلة من أجل إضعاف صلة المسلمين بها ، ثم ذكرت فيها خطة هذا البحث .
أما الفصل الأول فقد جاء بعنوان : السنة النبوية في مواجهة التحديات المعاصرة .
وقد ذكرت فيه تمهيداً يشتمل على : بيان أهمية السنة ، ومكانتها ، وحجيتها ، ثم ذكرت أبرز التحديات التي تتعرض لها السنة ، وقد جاءت في ثمانية نقاط :
الأولى : دعوى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن .
الثانية : الطعن والتجريح في كتب السنة .
__________
(1) - التوبة : 32 .(1/3)
الثالثة : الطعن والتجريح في الصحابة ورواة الحديث .
الرابعة : انتشار الأحاديث الموضوعة .
الخامسة : التسرع في الحكم على الأحاديث دون استكمال الأدوات اللازمة لذلك .
السادسة : محاولة تطويع السنة للعقل .
السابعة : تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .
الثامنة : سوء استخدام الحاسب الآلي " الكمبيوتر " .
قمت بعرضها ثم بيان الطرق الصحيحة لمواجهتها .
أما الفصل الثاني فقد جاء بعنوان : السنة النبوية في مواجهة الشبهات المعاصرة .
وقد اشتمل هذا الفصل على : تمهيد بينت فيه أسباب ظهور الشبهات عموما ، وكيفية التعامل معها .
ثم عرضت شبهتين كنماذج للشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام .
أعرض الشبهة ثم أرد عليها بما يكشف زيفها وبطلانها .
ثم أنهيت البحث بخاتمة ذكرت فيها : أبرز الأمور التي أحببت أن ألفت النظر إليها وأؤكد عليها .
ثم ذكرت المراجع والمصادر التي استفدت منها في هذا البحث .
والله أسال أن يتقبل مني هذا العمل ، وأن يجعله خالصا لوجهه ، وأن يحشرني يوم القيامة في صحبة المدافعين عن السنة ، والرافعين لرايتها ، وأن يغفر لي ما فيه من خطا أو تقصير ، فحسبي أني اجتهدت وسعي ، والله الموفق لما يحب ويرضى .
الفصل الأول
السنة النبوية في مواجهة التحديات
تمهيد : أهمية السنة ومكانتها وحجيتها
السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم فالقرآن هو الدستور الذي يشتمل على القواعد والأصول ، والسنة هي البيان النظري ، والتطبيق العملي للقرآن ، وهي تشرع أيضاً كما يشرع القرآن ، وقد أمر الله باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - وطاعة أوامره فقال :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (1) .
وجعل الله طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من طاعته فقال :
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) .
__________
(1) - النساء : 59 .
(2) - النساء : 80 .(1/4)
وقال تعالى :
{ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1) .
وقد حذَّر الله من مخالفته - صلى الله عليه وسلم - وتوعَّد مخالفيه بالفتنة والعذاب الأليم فقال :
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2) .
وجعل الله شرط الإيمان به طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الرضا والتسليم فقال :
{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (3) .
قال ابن القيم : أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضائه وحكمه ، ولم يكتف أيضاً منهم بذلك حتى يسلموا تسليماً ، وينقادوا انقياداً (4) .
فالقرآن والسنة قرينان لا ينفكان ، وصنوان لا يفترقان ، ولا يكتمل التشريع إلا بهما ، فالسنة النبوية هي شارحة القرآن ، ومبينة أحكامه ، وموضحة معانيه ، ومفسرة مبهمه ، فهي من القرآن بمنزلة الشرح له : تفصل مقاصده ، وتتمم أحكامه ، وتوضح غامضه ، وتقرب معانيه إلى الأذهان ، كما أن الله عز وجل أعطى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حق التشريع أيضاً ، وجعل له طاعة مستقلة فقال :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (5) .
__________
(1) - الحشر : 7 .
(2) - النور : 63 .
(3) - النساء : 65 .
(4) - أعلام الموقعين 1/ 51.
(5) - النساء : 59 .(1/5)
فإن كان القرآن الكريم قد حوى أصول الدين وقواعد الأحكام العامة ، ونص على بعضها صراحةً ، فقد ترك بيان بعضها الآخر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما دام الله قد أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس أحكام دينهم ، وأوجب عليهم اتباعه كان بيانه للأحكام بياناً للقرآن ، ومن هنا كانت أحكام الشريعة من كتاب وسنة ، وما يلحق بهما ويتفرع عنهما من إجماع وقياس أحكاماً من كتاب الله تعالى ، إما نصاً وإما دلالةً ، فلا منافاةً بين حجية السنة وبين أن القرآن جاء تبياناً لكل شيء .
قال الإمام الشافعي : فليس تنزل بأحد من دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، قال الله تبارك وتعالى :
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (1) .
وقال : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (2) .
وقال : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (3) .
والبيان اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول متشعبة الفروع ، فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به من وجوه :
1- فمنها : ما أبانه لخلقه نصاً مثل : جمل فرائضه في أن عليهم صلاة ، وزكاة ، وصوماً ، وحجاً ، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونصِّ تحريم الزنا ، والخمر ، وأكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء مع غير ذلك مما تبين نصا .
2- ومنها : ما أحكم فرضه في كتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - مثل : عدد الصلاة ، والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه .
__________
(1) - إبراهيم : 1 .
(2) - النحل : 44
(3) - النحل : 89(1/6)
3- ومنها : ما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس لله فيه نص حكم ، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والانتهاء إلى حكمه ، فمن قّبِل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبفرض الله قَبِل .
4- ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه ، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم (1) .
ثم قال : فكل من قبل عن الله تعالى فرائضه في كتابه قّبِل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننه بفرض الله طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على خلقه ، وأن ينتهوا إلى حكمه ، ومن قّبِل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قّبِل ، لما افترض الله من طاعته ، فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبول لكل واحد منهما عن الله ، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبلت بها عنهما (2) .
وقصارى القول : أن إنكار حجية السنة والادعاء بأن الإسلام هو القرآن وحده لا يقول به مسلم عاقل يعرف دين الله وأحكام شريعته تمام المعرفة .
وهو كلام يصادم الواقع ، فإن أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسنة ، وما في القرآن من أحكام إنما هي أحكام مجملة وقواعد كلية في الغالب ، وإلا فأين نجد في القرآن أن الصلوات خمسة ، وأين نجد ركعات الصلاة ، ومقادير الزكاة ، وتفاصيل شرائع الحج ، وسائر أحكام المعاملات والعبادات ؟
__________
(1) - الرسالة ص 20 - 22
(2) - الرسالة ص 33 .(1/7)
قال ابن حزم : ونسأل صاحب هذا القول الفاسد : في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات ، وأن المغرب ثلاث ركعات ، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا ، وصفة القراءة والسلام ، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة ، والغنم والإبل والبقر ، ومقدار الأعداد المأخوذة منها الزكاة ، ومقدار الزكاة المأخوذة ، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة ، وصفة الصلاة بها ، وبمزدلفة ، ورمي الجمار ، وصفة الإحرام ، وما يجتنب فيه ، وقطع السارق ، وصفة الرضاع المحرم ... وسائر أنواع الفقه ، وإن ما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها ، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك : النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيره ، فلابد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ، ولو أن امرءًا قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة ، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل ، وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسمه صلاة ، ولا حد للأكثر في ذلك ، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال ، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم ، ولو أن امرءًا لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقاً بإجماع الأمة ، فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل (1) .
ولقد علم المسلمون هذه الحقائق فنزلت السنة من قلوبهم منزلة القرآن فما حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد حرمه الله ، وما أحله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أحله الله لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن ربه ، ومظهر لأحكامه .
__________
(1) - الإحكام لابن حزم 2 / 79 - 80 .(1/8)
وظل المسلمون على هذا الفهم قروناً طويلة ، وأزماناً مديدة فإذا ظهر من يخالفه ويعارضه لم يلبث إلا قليلاً حتى يعلم الحق وينقاد له أو يطويه الزمن وتنقرض شبهته .
وجاء العصر الحديث وقد ضعف المسلمون وذهبت ريحهم ، وضاعت هيبتهم فبدأ أعداء الإسلام يثيرون الشبه ، ويحيون ما قضى عليه علماء المسلمين من ضلالات رغبةً منهم في تشكيك المسلمين بدينهم أولا ، ولينشغلوا بالرد على مخالفيهم ثانيا ، فلا يجدون فرصةً لنشر دينهم وإيصال تعاليمه إلى العالم أجمع كما أمرهم ربهم .
وساعدهم على ذلك ضعف المسلمين المادي ، وإحساسهم بالنقص تجاه أعدائهم ، مع جهل كثيرٍ من المسلمين بدينهم ، وتقاعس بعض العلماء والحكام عن القيام بدورهم في حماية الدين ، وحياطته ، ودفع الشبهات عنه .
وأخذ بعض المسلمين يردد شبهات المستشرقين بجهل حيناً وبعلم حيناً ، إما رغبة في المخالفة وحرصاً على الشهرة التي تنشأ من مخالفة معتقدات الناس وثوابتهم ، أو ادعاءً للحرية ونبذاً لما تعارف عليه الناس ، فأصبحوا أبواقاً للمستشرقين يلوكون ما مضغه غيرهم وينشرون أفكارهم .
فأصبح الإسلام يحارَب في معسكرين وأصبحت السنة في مواجهة خصمين :
خصم خارجي قوي يلبس لبوس العلماء ويدعي الحياد وهو لا يرقب في المسلمين إلاً ولا ذمة ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويؤولون النصوص لتناسب ادعاءاتهم .
وخصم داخلي يلبس لبوس الحرص على الإسلام وتنقيته والدفاع عنه ، ويحمل معاول الهدم ، وأسلحة الطعن ، ويوهم الآخرين أنها آلات بناء وتنوير وإصلاح .
ولذلك عظُم الخطب وادلهمَّ الأمر ، واحتاج العلماء المحققون والأئمة المجتهدون أن يوضحوا من الحقائق ما كان ينبغي أن يكون أوضح من الشمس في رابعة النهار .
فأظهروا أهمية السنة ، وحجيتها ، ومكانتها من مصادر التشريع في الإسلام ، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها ، وأن لها قواعد حاكمة ، وضوابط مقرَّرة لا ينبغي الغفلة عنها .(1/9)
وأن الشبهات إنما تدخل على البعض بسببين :
الأول : الأحاديث الموضوعة التي شاعت وذاعت في أوساط المسلمين فأفسدت أذواقهم وهدمت ثوابت الإسلام في نفوسهم واتخذها أعداء الإسلام مرتكزاً لشبهاتهم .
الثاني : سوء فهم النصوص الصحيحة ، وتفسيرها على غير مايحتمله نصها .
وسأحاول عرض بعض التحديات والشبهات التي تواجه السنة ، وبعضها قديم أحياه أعداء السنة ، وبعضها حديث أفرزه ضعف المسلمين ، وجهل كثير من أتباعه بحقائقه ، وانسياقهم وراء أعداء الإسلام وانخداعهم بهم .
ومن الملاحظ أن هؤلاء الذين ينخدعون من المسلمين ويرددون شبهات المستشرقين من أعداء السنة إنما أوقعهم في الفخ الذي نصبه لهم هؤلاء أحد هذه الأمور غالباً :
1- إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامي وعدم اطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية .
2- وإما انخداعهم بالأسلوب العلمي المزعوم الذي يدعيه أعداء الإسلام .
3- وإما رغبتهم في الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكري من ربقة التقليد كما يدعونه .
4- وإما وقوعهم تحت تأثير أهواء أو انحرافات فكرية لا يجدون مجالاً للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المستشرقين (1) .
5- وإما إنه نتيجة طبيعية للانهزام النفسي ، والإحساس بالنقص أمام الحضارة الغربية مع الخواء الروحي ، والجهل الشرعي فيجتمع من ذلك رغبة في تجديد الدين بحيث تتوافق تشريعاته وأحكامه مع الحضارة الغربية والأفكار المعاصرة .
وقد تعرضت السنة المطهرة خاصةً في هذه الأيام لسيل من الشبهات يلزم كشفها وتوضيحها ، وأصبحت تواجه تحديات كثيرة ينبغي على علماء الإسلام أن يصدوها ويعالجوها قبل أن ينتشر شرها ويستفحل أمرها .
وهذه بعض التحديات التي تواجه السنة المطهرة :
1- دعوى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن
__________
(1) - راجع : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي ص 4 ، 5 .(1/10)
ظهر قديما من ينادي بترك السنة والاكتفاء بالقرآن الكريم ، ويعللون ذلك بتأخر تدوين السنة ، واشتمالها على المقبول و المردود ، والقرآن الكريم متواتر من حيث النقل والتدوين سالم من الحذف والزيادة وقد تكفل الله بحفظه فقال :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1) ، ولم يتعهد بحفظ السنة فانتشر فيها الضعيف والموضوع وقد جعل الله القرآن حاوياً لكل شيء فقال :
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (2) فَلِمَ الحاجة للسنة إذاً ؟ .
وبداية نقول إنها هذه الشبهة قديمة تعرَّض لها الصحابة الكرام وقاموا بالرد عليها فضعفت وانهارت ، ثم جاء من يُعيد إٍثارتها وإحياءها في هذا العصر .
فقد جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فسأله عن شيء فحدَّثه فقال له الرجل : حدِّثوا عن كتاب الله ولا تحدِّثوا عن غيره فقال له حذيفة : إنك رجل أحمق أتجد في كتاب الله تعالى صلاة الظهر أربعاً لا يُجهر فيها ؟ ثم عدَّد عليه فرائض الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال له : أتجد هذا في كتاب الله مفسراً ؟ إن كتاب الله قد أبهم وإن السنة تفسر ذلك (3) .
وقد عرف أصحاب هذه الشبهة - قديماً- الحق فلزموه وظهر لهم الرشد فاتبعوه ، لأن سبب ظهورها عندهم كان ناشئاً من سوء الفهم ، فلما وضحت أمامهم الحقائق عادوا إلى صوابهم وتمسكوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم .
روى الحاكم في المستدرك أن الرجل قال لحذيفة بعد أن سمع منه هذا الكلام : أحييتني أحياك الله .
__________
(1) - الحجر : 9 .
(2) - الأنعام : 38 .
(3) - مصنف عبد الرازق 11 / 255 رقم 20474 ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 485 رقم 1317 ، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1 / 76 ، وإسناده ضعيف .(1/11)
قال الحسن البصري : فما مات ذلك الرجل حتى بات من فقهاء المسلمين (1) .
ونظراً لخطورة هذه الشبهة وأثرها السيئ على المسلمين فقد تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهورها وصفة القائلين بها وعلَّمنا كيف نرد عليهم ففي حديث المقدام بن معدي كرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته - أي فراشه وسريره الوثير - فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله " (2) .
وفي رواية أخرى للحديث قال " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (3) . فقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث صفة القائلين بهذا القول : بأنهم أصحاب الترف والدعة ، المتكبرين المتجبرين ، القليلي الاهتمام بالدين ، الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله ، فمن ادعى التمسك بالقرآن وترك السنة تحير وضل (4) .
__________
(1) - الحاكم في المستدرك 1 / 192 رقم 372 ، والطبراني في المعجم الكبير 18 / 165 ، ومفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص 182 ، وإسناده صحيح .
(2) - الترمذي كتاب العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 4 /302 رقم 2672 وقال الترمذي : حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وابن ماجة في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتغليظ على من عارضه 1 / 6 رقم 12 ، والدارمي في سننه في المقدمة باب السنة قاضية على كتاب الله 1 / 153 رقم 586 .
(3) - أبو داود في سننه كتاب السنة باب في لزوم السنة 4 / 199 رقم 4604 ، وأحمد في مسنده 13 / 291 رقم 17108 ، وإسناده صحيح .
(4) - راجع : معالم السنن للخطابي 7 / 8 .(1/12)
فهذا الحديث صريح في إثبات حجية السنة ، واستقلالها بتشريع بعض الأحكام ، وأن للنبي - صلى الله عليه وسلم - حق التحليل والتحريم كالقرآن تماما .
وقد أسهب الإمام ابن القيم في ذكر الأحكام التي استقلت السنة بإثباتها وقال : أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها (1) .
وقال الشوكاني : اعلم أنه قد اتفق من يُعتدُّ به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام ، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام ... والحاصل أن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظَّ له في دين الإسلام (2) .
ورغم وضوح هذه الأدلة وإجماع المسلمين على الاحتجاج بالسنة وجدنا من ينادي بإهمال السنة والاكتفاء بالقرآن .
وهذه وسيلة ماكرة لترك الإسلام كله لأن المسلمين لو تركوا السنة لضاع الإسلام ، ولذهبت شريعته وضل أتباعه .
قال أيوب السختياني : إذا حدثت الرجل بسنة فقال : دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال (3) .
وما أكثر الضُّلال في هذا العصر الذين يتمسكون بالباطل ويهملون الحق فيفهمون القرآن بأهوائهم ويتركون الاسترشاد بأنوار السنة فيضلون ضلالاً بعيدا .
وقد تواترت أقوال الصحابة ومن بعدهم من علماء المسلمين على أن الأخذ بالسنة من أصول الإسلام وقواعده ، وعلى أن من أنكرها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .
وأما دعواهم أن السنة لم تُكتب إلا في وقتٍ متأخر فهذه القضية تحتاج إلى توضيح : فإذا كان المراد بكتابة السنة تدوينها في مصنفاتٍ خاصة يتداولها طلبة العلم فهذا حق .
__________
(1) - راجع : إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2 / 287 - 290 .
(2) - إرشاد الفحول للشوكاني 1 / 156 - 158 .
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد 7 / 184 ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم 1 / 65 .(1/13)
أما إذا أريد مطلق الكتابة فهذا خطأ صريح فمن الثابت يقيناً أن بعض الصحابة كتبوا الأحاديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبإذنٍ صريحٍ منه ، فكانت لهم صحفٌ خاصة يدونون فيها ما يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عمرو ، وعلي ابن أبي طالب وغيرهم .
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يكتبوا لمن لا يحسن الكتابة من أصحابه فأمرهم أن يكتبوا لأبي شاة .
غير أن الملاحظ على الكتابة في هذا العصر أنها كانت كتابة فردية ، فمن أراد أن يكتب لنفسه كتب ، ومن اكتفى بحفظه ترك الكتابة .
وظل الأمر على هذا الحال حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فأمر بتدوين السنة تدويناً رسميا بمعنى : أن يقوم العلماء بجمع الأحاديث وتصنيفها في كتبٍ خاصة ونشرها بين طلبة العلم ، وقد كان جمع هذه الأحاديث قائماً على رافدين رئيسين :
الأول : الصحف التي دونها بعض الصحابة وكبار التابعين لأنفسهم .
الثاني : الأحاديث التي يحفظها الصحابة والتابعون في صدورهم ، وقد كان تميز العرب بالحفظ مشهور معروف .
فنشط العلماء لتدوين السنة ، وبدأت المصنفات الحديثية في الظهور ، وتعددت مناهج العلماء في التأليف مابين : مسانيد ، وجوامع ، وسنن ، ومصنفات وغيرها حتى دونت السنة بأكملها .
ولم يفت المسلمين من حياة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - شاردة ولا واردة ، بل نقلوا أقواله وأفعاله ، وكل ما يتعلق بشخصه الكريم .
فالذي تأخر نسبيا هو : التدوين الرسمي للسنة ، أما تدوين الأحاديث وكتابتها بالشكل الفردي فقد ظهر منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما دعواهم أن الله حفظ القرآن ولم يحفظ السنة فأصبحت مرتعاً للوضاعين والكذابين وأصبحنا لا نثق في الأحاديث ولا نستطيع التمييز بين صحيحها وباطلها فهذه شبهة باطلة لأن السنة من الكتاب بمنزلة الجزء من الكل والشرح من الأصل ، والتفسير من النص .(1/14)
ولقد تعهد الله بحفظ كتابه ، وحفظ الكتاب يستلزم حفظ السنة المبينة له ، فالسنة محفوظة بجملتها بحفظ الله تعالى لها فلا يُعقل أن يُحفظ المُبيَّن ويترك المُبَيِّن ، وإلا فلا معنى لحفظ المُبَيَّن حينئذ .
وليس معنى هذا أن الله حفظ السنة بحروفها وألفاظها كما حفظ القرآن ولكن حفظ أحكامها من الضياع ، ومعانيها من التحريف والتأويل ، والتشبيه والمسخ ، ومن الزيادة أو النقصان ، أو التغيير والتبديل .
وليس معنى الحفظ ألا تتعرض السنة لمحاولات التغيير والوضع وغيرها ولكن الحفظ معناه : أن يحدث ذلك كله ثم يحفظها الله تبارك وتعالى .
بل إن قيمة الحفظ لا تتجلى إلا مع هذه المحاولات التي تبوء بالفشل والخسران ، مثل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (1) فإن العصمة لا تظهر قيمتها إلا مع محاولات قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تُرَدُّ على أعقابها مدحورة ، وحينئذٍ تظهر عصمة الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .
والناظر في التاريخ العلمي للمسلمين يجد صدق ذلك ، فقد أيَّد الله الإسلام في كل عصر بعلماء جهابذه ، رزقهم حفظاً وعلماً وفهماً ، ويسَّر لهم وضع الضوابط والقواعد التي تكفل الحفظ للسنة من الزيادة والنقص ، فوضعوا علم الرجال ، وعلم مصطلح الحديث ، فوزنوا به المنقول ، فأثبتوا الصحيح الجيد وأبانوا زيف الفاسد الردئ .
فأصبحنا نستطيع من خلال تطبيق هذه القواعد : التمييز بين المقبول والمردود ، وأكثر المصائب تأتي من الجهل بهذه القواعد بحيث يلتبس المقبول بالمردود ، وينسب للإسلام ما ليس منه .
أما دعواهم أن الله وضع في القرآن كل ما يحتاج إليه المسلم فلم الحاجة إلى السنة ؟ .
فهذه كلمة حق يراد بها باطل لأن المقصود بقول الله تعالى :
{
__________
(1) - المائدة : 67 .(1/15)
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (1) هو : اللوح المحفوظ ، وعلى فرض أن المقصود بالكتاب القرآن فمقصود الله تعالى : أن الله وضع في القرآن الأصول والقواعد التي يحتاج إليها المسلم ، وأن الله أحال المسلم في معرفة التفاصيل على السنة فاتباع السنة هو اتباع للقرآن ، ودعوى نبذ السنة هي دعوى خبيثة تبغي نبذ السنة والقرآن معا .
فالتشكيك في السنة هدفه الأكبر هو : إبطال العمل بالقرآن الكريم ، وجعله كتاباً غير قابل للتطبيق وغير مفهوم ، والاكتفاء بالتبرك به ، وتزيين الحوائط بآياته .
وبذلك ينجح أعداء الإسلام في تنحيته عن حياة الناس فيشقى المسلمون في الدنيا والآخرة ، ويفقدوا أفضل ما عندهم ، وتنقطع صلتهم بالسماء ، ويصيروا عبيدا للحضارة الغربية يتسولون منها الأفكار والنظم والمبادئ .
وما أشبه ذلك بمن كان في يده ضوء باهر ينير له الطريق ، ويكشف له مخاطره فأطفأه عمداً ، ثم أصبح في ظلام دامس فلا يستبين له الطريق ، ولا تتضح له مخاطره ، وأصبح يتسول من أعدائه ضوءاً فخذلوه وتخلوا عنه فسقط في الهاوية .
فنور المسلمين هو : القرآن والسنة ، ولن يسعدوا في الدنيا والآخرة إلا إذا ساروا على هداهم وتحاكموا إليهم في كل شيء .
2- الطعن والتجريح في كتب السنة
كان من فضل الله تعالى على المسلمين أنه اختار لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب أمناء ، وعلماء نبهاء ، آمنوا بدعوته ، وفادوه بأنفسهم وأرواحهم ، وبذلوا في حفظ سنته النفس والنفيس ، فحفظوا أحاديثه وضبطوها ووعوها ، وبلغوها كما سمعوها ، فلم تفتهم شاردة ولا واردة ، فإذا سمعت الحديث منهم فكأنك تسمعه من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تبعهم جماعة من نجوم الهدى ، ومصابيح الظلم ، فحفظوا الأحاديث ودونوها في الكتب وفق مناهج علمية دقيقة ، وقد تمثلت في هذه الكتب أمانة النقل ودقة المنهج .
__________
(1) - الأنعام : 38 .(1/16)
ووضعوا القواعد التي تضبط ذلك فصنفوا في الأحاديث وفي رواتها ما كفل حفظ السنة وسلامتها من الزيادة والنقص ، ولكن أعداء الإسلام حاولوا الطعن في هذه الكتب ، وزعموا أنها دونت في وقت متأخر ، وأن قواعد المصطلح لم تنشأ إلا بعد تدوين الأحاديث رغبة منهم في قطع صلة الأمة بميراث نبيها - صلى الله عليه وسلم - مما يؤدي إلى إهمال السنة .
ونسي هؤلاء أن الصحابة الكرام كانوا آيةً في الحفظ والفهم ، وأن بعضهم كان يكتب الأحاديث في كتب خاصة به ، وأن قواعد المصطلح كانت تطبق وإن تأخر تدوينها ، فتأخر تدوين القواعد لا يعني تأخر التعرف عليها .
ومن الخطأ أن يُقال : إن العلم يبدأ عند بداية تدوينه ، ولو صح ذلك لقلنا إن الشعراء الجاهليين وشعراء صدر الإسلام لم يلتزموا قواعد العروض لأنها طهرت على يد : الخليل بن أحمد الفراهيدي .
وأن العرب لم تكن تراعي قواعد اللغة العربية لأن أول من دونها هو : أبو الأسود الدؤلي في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
فتأخر التدوين لا يعني تأخر ظهور العلم ، فرب علم تطبق قواعده وتراعى قوانينه قبل أن يدون بمئات السنين .
ثم إن دعواهم أن السنة تأخر تدوينها ولم تُكتب إلا بعد ظهور الفتن والجماعات حقٌ يُراد به باطل لأنه إن كان المراد من التدوين : مجرد الكتابة فهذا خطأ لأن الثابت أن بعض الصحابة وكثير من التابعين كانوا يكتبون السنة في صحفٍ خاصة بهم ومن راجع كتاب : " السنة قبل التدوين " لمحمد عجاج الخطيب أدرك صدق ذلك .
وإن كان المراد بالتدوين : الجمع والتصنيف فهذا حق فالأحاديث كانت محفوظة في الصدور مكتوبة في السطور متفرقة عند الرواة والعلماء ، فكان الشيخ المصنف يجمع ما عندهم ويدونه في كتاب واحد وفق شروطه وقواعده .(1/17)
وقد ارتضى علماء الأمة منهج الإمامين : البخاري ومسلم في جمع الأحاديث ، وحكموا لأحاديث كتابيهما بالصحة بعد سبرها وتتبعها وتطبيق القواعد عليها ، وليس محاباة أو هوى ، ولذلك كانت أحاديثهما من حيث الجملة من ثوابت الأمة ليس لأنهما من تصنيف البخاري ومسلم ولكن لأن علماء الأمة تلقوها بالرضا والقبول بعد دراستها وتطبيق القواعد عليها .
فجاء من يطعن في أحاديثهما ويتهمهما برواية الضعيف والموضوع دون سند علمي أو حجة أو برهان لتفقد الأمة ثقتها في هذه الكتب فتضطرب عندها المفاهيم وتختل عندها الموازين .
ونحن بدايةً لا نقدس أحداً ولا نثبت عصمة لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولكننا نجزم أن جميع أحاديث الصحيحين صحيحة ، وذلك لقبول علماء الأمة لها ، وموافقتهم للشيخين على تصحيحها ، فهذا هو الأصل الذي يتحرك منه المسلم ، ومن أراد هدمه أو التشكيك في بعض أحاديثهما فالواجب عليه أن يأتي بحجته ويجمع أدلته ثم يعرض ذلك على أهل الذكر وحينئذٍ ينكشف الحق ويزهق الباطل .
أما مطلق التشكيك في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة بلا دليل على ذلك فهذه معاول تهدم ولا تبني ، وتفسد ولا تصلح ، وتجعلنا نشتمُّ من كلام المشككين رائحة الكفر والإلحاد { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } (1) .
ولذلك كان من المهم جداً أن يقوم العلماء بكتابة تاريخ علماء السنة ومناهجهم في كتبهم وطرق الاستفادة منها بأسلوب يناسب روح العصر لنربط بين حاضر الأمة وماضيها .
وحتى يتعرف المسلم المعاصر على الجهود التي بذلها علماء الإسلام من أجل جمع السنة وصيانتها ، وليعلم يقيناً أنهم وضعوا من القواعد والضوابط ما يضمن سلامة السنة ونقاءها ، وأنهم التزموا بتطبيق هذه القواعد حتى غدونا الآن نستطيع التمييز بين المقبول من الرواة والروايات والمردود منها .
__________
(1) - آل عمران : 118 .(1/18)
3- الطعن والتجريح في الصحابة ورواة الحديث
أدرك أعداء الإسلام مكانة السنة وقيمتها ومنزلتها عند المسلمين فأرادوا هدمها وإبطالها واتخذوا لذلك وسائل متعددة .
من أخطر هذه الوسائل : الطعن في الصحابة ورواة الحديث لأنهم إذا شككوا في الناقلة أفسدوا المنقول ، وكانوا أذكياء في أسلوبهم ، فبدأوا يصورون الصحابة بصورة أصحاب المصالح ، المتصارعين على الدنيا ، الراغبين في نيل الحكم والملك ، واخترعوا لذلك أحاديث ومواقف تسيء إلى الصحابة وتفقد الثقة بهم فإذا فقد المسلم الثقة في الصحابة فكيف يقبل الأحاديث وهم رواتها ؟ .
ولكن علماء الحديث تنبهوا لهذا الخطر وهبوا يؤرِّخون للصحابة ويذكرون حسن بلائهم وحبهم للإسلام ، وبينوا أن الصحابة هم أفضل أجيال الأمة وأطهرها وأشرفها على الإطلاق ، وهم الجيل الذي تلقّى الوحي من الله وتربى على مائدة النبوة علماً وعملاً فكانوا مُثُلاً عُليا ونماذج فريدة لنور الإسلام وهديه ، فسيرتهم تملأ القلوب يقيناً ، وتُحفّز الهمم لفهم الإسلام والعمل به والتضحية في سبيله بكل رخيصِ وغال .
اختارهم الله لصحبة نبيه فحملوا الأمانة وبلّغوا الرسالة ، وصدق فيهم قول عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه (1) .
__________
(1) - أحمد في مسنده ( 4 / 505) رقم ( 3600 ) ، والطبراني في المعجم الكبير ( 9 / 112 ) رقم ( 8582 ) وقال الهيثمي : رجاله موثقون مجمع الزوائد ( 8 / 253 ) .(1/19)
وقال أيضاً في شأن الصحابة الأطهار : أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمة : أبرّها قلوبًا ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ٍحسنها حالاً ، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم (1) .
وقد اتفق أهل السنة وجمهور الأمة سلفاً وخلفاً على أن الصحابة جميعاً عدول .
والعدالة الثابتة للصحابة تعني : أن روايتهم مقبولة من غير بحثٍ أو سؤال ، ويستوي في هذا الحكم : الكبير منهم والصغير ، المشهور وغير المشهور ، من لابس الفتن منهم ومن لم يلابسها ، من طالت مجالسته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو قصرت ، من روى عنه ومن لم يرو عنه ، من غزا معه ومن لم يغز معه ، من رآه رؤية ولم يجالسه ومن لم يره لعارضٍ كالعمى .
قال الذهبي : فأما الصحابة فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى ، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل ، وبه ندين لله تعالى (2) .
وقال ابن كثير : والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة (3) .
وقد استدلوا على تعديل الصحابة بأدلةٍ عديدة منها :
(1) استدلالهم بالقرآن الكريم
حيث مدح الله تعالى الصحابة ، وأثنى عليهم ، وبيّن فضلهم ومكانتهم في آياتٍ كثيرة من كتابه ، من هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر :
1- قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (4) .
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله ( 2 / 97 ) ، وجامع الأصول ( 1 / 292 ) .
(2) - الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للذهبي ص ( 4 ) .
(3) - الباعث الحثيث ص ( 154 ) .
(4) - سورة البقرة : ( 143 ) .(1/20)
فهذا خطابٌ من الله عز وجل للموجودين وقت نزول القرآن نصاً وخطابٌ لمن يأتي بعدهم إلحاقاً وتبعاً .
قال السيوطي : وسطاً أي عدولاً (1) .
2- قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (2) حيث خصَّها بعض المفسرين بالصحابة ، وقال جمهور المفسرين إنها نزلت فيهم مباشرة ، وفي الأمة من بعدهم وهم خيرها فهم على القولين خير أمة أخرجت للناس .
3- قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (3) ، فهذه الآية تدل على أن الله تعالى رضي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابقين منهم واللاحقين ، وهو سبحانه لا يرضى إلا عن عدل .
4- قوله تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (4) .
__________
(1) - تدريب الراوي ( 2 / 214 ) .
(2) - سورة آل عمران : ( 110 ) .
(3) - سورة التوبة : ( 100 ) .
(4) - سورة الفتح : ( 29 ) .(1/21)
5- قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (1) .
6- قوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (2) .
7- قوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (3) .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل الصحابة وتعديل الله لهم .
قال الخطيب البغدادي : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، فمن ذلك - وذكر بعض الآيات السابقة - ثم قال : وآياتٌ كثيرة يطول ذكرها ، وكلها تقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحدٍ من الخلق (4) .
(2) استدلالهم بالسنة النبوية المطهرة
استدل أهل السنة لصحة مذهبهم بأحاديث كثيرة صريحة من السنة الثابتة من هذه الأحاديث :
أ- حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ... الحديث (5) ، والخيرية لا تكون إلا للعدول .
__________
(1) - سورة الفتح : ( 18 ) .
(2) - سورة الحديد : ( 10 ) .
(3) - سورة الحشر : ( 8 ) .
(4) - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ( 1 / 46 ) ، وراجع كتاب : النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب للإمام محمد بن عبد الواحد ضياء الدين المقدسي .
(5) - سبق تخريجه .(1/22)
ب- حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه " (1) .
ج- حديث عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهَ اللهَ في أصحابي ، اللهَ اللهَ في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " (2) .
د- حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين " (3) .
ه- حديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنتم توفّون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله - عز وجل - " (4) .
__________
(1) - البخاري كتاب المناقب باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت متخذاً خليلا ( 7 / 25 ) رقم ( 3673 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة ( 4 / 1967) رقم ( 2541 ) .
(2) - الترمذي كتاب المناقب باب فيمن سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 5 / 463 ) رقم ( 3888 ) وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأحمد في مسنده ( 13 / 159) رقم ( 16747 ) ، وإسناده حسن .
(3) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه البزار ورجاله ثقات وبعضهم مختلف فيه مجمع الزوائد ( 10 / 16) .
(4) - الترمذي كتاب تفسير القرآن باب سورة آل عمران ( 5 / 7 ) رقم ( 3012 ) ، وأحمد في مسنده ( 15/105 ) رقم ( 19912 ) ، والحاكم في المستدرك ( 4 / 84 ) رقم ( 6987 ) وصححه ووافقه الذهبي .(1/23)
و- حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " النجوم أمنةٌ للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " (1) .
ز- قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه (2) .
ح- قال ابن عمر - رضي الله عنه - : لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقام أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدكم عمره (3) .
(3) استدلالهم بالإجماع
أجمع علماء الأمة سلفاً وخلفاً على عدالة الصحابة ورفعة مكانتهم :
قال ابن عبد البر : قد كُفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول (4) .
وقال الخطيب البغدادي : هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يُعتدّ بقوله
من الفقهاء (5) .
ونقل محمد بن الوزير اليماني ، والإمام الصنعاني الإجماع على عدالتهم عن أهل السنة ، وعن الزيدية ، وعن المعتزلة أيضاً (6) .
__________
(1) - مسلم كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمان لأصحابه ( 4 / 1961) رقم ( 2531 ) .
(2) - سبق تخريجه .
(3) - ابن ماجة في المقدمة باب فضل أهل بدر ( 1 / 57 ) رقم ( 162 ) .
(4) - الاستيعاب ( 1 / 8 ) .
(5) - الكفاية ص ( 49 ) .
(6) - توضيح الأفكار ( 2 / 469 ) .(1/24)
وقال ابن الصلاح : ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتدّ بهم في الإجماع إحساناً للظن بهم ، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة (1) .
(4) استدلالهم بالعقل
ثبت يقيناً أن الإسلام حق ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق ، وأن رسالته عالمية للإنس والجن ولجميع الأجيال حتى يوم القيامة ، وقد أدّى ذلك إلينا الصحابة الكرام فهم الشهود المبلّغون رسالة الإسلام ووحي السماء .
فلو فرضنا فسق الشهود ورددنا شهادتهم لرددنا الكتاب والسنة ، ولو توقّفنا في روايتهم لما وصل الإسلام إلينا ولانحصرت الشريعة في جيلهم ، ولما انتقلت إلى الأجيال المتعاقبة بعدهم ، وهذا باطلٌ فما أدى إليه أشد بطلاناً .
قال أبو زرعة الرازي : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدّى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم الزنادقة (2) .
وقال إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشريعة فلو ثبت توقّفٌ في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره - صلى الله عليه وسلم - ولما استرسلت سائر الأعصار (3) .
(5) استدلالهم بالواقع
__________
(1) - علوم الحديث ص ( 365 ) .
(2) - الكفاية ص ( 97 ) ، والإصابة ( 1 / 11 ) .
(3) - تدريب الراوي ( 2 / 214 ) .(1/25)
الواقع يفيد أن الصحابة أطهر الناس قلوباً ، وأزكاهم أفئدة ، آمنوا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجروا في سبيله ، وتركوا الأموال والأوطان ، واسترخصوا كل غالٍ ونفيسٍ في سبيله ، رمتهم الدنيا عن قوسٍ واحدة فما لانت لهم قناة ، ولا زلّت لهم قدم كانوا كالشُمّ الرواسي لا تزعزعه الأعاصير ، ولا تحركه الرياح مع قوةٍ في اليقين ، وصدقٍ في الإيمان .
قال الخطيب البغدادي : على أنه لو لم يرد من الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فيهم شيئ لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنُصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم ، والاعتقاد بنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدِّلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين ، هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يُعتدّ بقوله من الفقهاء (1) .
وبهذا ثبتت عدالة الصحابة بالأدلة القطعية النقلية والعقلية مما لا يدع للشك أو التردد مجالاً في ثبوت هذه الخصوصية الفاضلة لأحدٍ منهم رضي الله عنهم أجمعين .
وبعد ثبوت عدالة الصحابة بأدلة العقل والنقل : فقد حذَّر العلماء من القدح فيهم ، أو سب أحدهم ، أو الانتقاص من أقدارهم ، ووصفوا من صدر منه ذلك : بالمروق والزندقة .
قال أبو زرعة الرازي : إذا رأيت الرجل ينتقد أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدَّى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم الزنادقة (2) .
__________
(1) - الكفاية ص ( 49 ) .
(2) - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 97 ، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1 / 11 .(1/26)
وقد اتّهم العلماء من طعن في الصحابة بالطعن في الرسالة ، ولذلك حينما سُئل الإمام النسائي عن معاوية بن أبى سفيان قال : إنما الإسلام كدارٍ لها باب فباب الإسلام : الصحابة ، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام ، كمن نقر الباب - أي نقبه - إنما يريد دخول الدار ، قال : فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة (1) .
ولما سأل الخليفة المهدي عبد الله بن مصعب فقال له : ما تقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال له : زنادقة . فقال المهدي : ما سمعت أحداً قال هذا قبلك ، فقال له عبد الله بن مصعب بحكمة العالم وذكاء الفقيه : هم قومٌ أرادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقصٍ فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فتنقَّصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء ، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء فكأنهم قالوا : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصحبه صحابة السوء ، وما أقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء . فقال المهدي : ما أراه إلا كما قلت (2) .
وما ذكره هؤلاء استنباطاً وفهماً لواقع حال المخالفين صرَّح به أحد زعماء الزنادقة .
قال أبو داود السجستاني : لمَّا جاء الرشيد بشاكر رأس الزنادقة ليضرب عنقه قال : أخبرني لم تعلِّمون المتعلم منكم أول ما تعلمونه الرفض - أي : الطعن في الصحابة - والقدر ؟ قال : أما قولنا بالرفض فإنَّا نريد الطعن على الناقلة فإذا بطلت الناقلة أوشك أن نُبطل المنقول ، وأما قولنا بالقدر فإنا نريد أن نجوِّز إخراج بعض أفعال العباد لإثبات قدر الله فإذا جاز أن يخرج البعض جاز أن يخرج الكل (3) .
فسبُّ الصحابة أو انتقاص بعضهم طريق الزنادقة لهدم الإسلام .
وللصحابي فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأويل مندوحة .
__________
(1) - تهذيب الكمال ( 10 / 174 ) .
(2) - تاريخ بغداد ( 1 / 339 ) .
(3) - تاريخ بغداد ( 4 / 308 ) .(1/27)
قال ابن تيميه : من المعلوم بالضرورة لمن تدبَّر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف : أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة - القرن الأول ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه ، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من : علمٍ ، وعملٍ ، وإيمانٍ ، وعقلٍ ، وبيانٍ ، وعبادةٍ وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل ، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضلَّه الله على علمٍ .
وما أحسن ما قال الإمام الشافعي : هم فوقنا في كل علم ، وعقل ، ودين ، وفضل ، وكل سبب يُنال به علم ، أو يُدرك به هدى ، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (1) .
وقال أيضاً : من لعن أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم كمعاوية ، وعمرو بن العاص ، أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة ، أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة ، والزبير ، وعثمان ، وعليّ ، وأبي بكر ، وعمر ، وعائشة فانه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين .
وتنازعوا هل يُعاقب بالقتل أو ما دون القتل ؟
وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه " (2) .
واللعنة أعظم من السب وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لعن المؤمن كقتله " (3) .
__________
(1) - نقض المنطق ص ( 129 ، 130 ) .
(2) - سبق تخريجه .
(3) - البخاري كتاب الأدب باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ( 10 / 531 ) رقم ( 6105 ) ، ومسلم كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ( 1 / 104 ) رقم ( 110 ) .(1/28)
وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - خيار المؤمنين كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " ، وكل من رآه وآمن به فله من الصحبة بقدر ذلك (1) .
ومبحث معرفة الصحابة من المباحث الهامة التي عُني علماء الحديث وصيارفته ببحثها ودراستها ، ووضعوا في ذلك مؤلفات كثيرة دافعوا فيها عن الصحابة وأظهروا علو قدرهم ، ورفعة منزلتهم ، وأبطلوا الشبه الملصقة بهم ، وأنهم كلهم عدول بتعديل الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهم ، فهم حملة الشريعة ونقلتها ، وهم خير القرون وأفضلها .
قال ابن عبد البر : وما أظن أهل دينٍ من الأديان إلا وعلماؤهم معتنون بمعرفة أصحاب أنبيائهم لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته (2) .
فوضعوا في ذلك مصنفاتٍ عديدة قديماً وحديثاً ما بين مطوَّل ومختصر وسأذكر لك أهم هذه المصنفات وأشهرها وأكثرها فائدة :
ومن أشهر الكتب المطبوعة في هذا الموضوع :
أ- كتاب : " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " للإمام الحافظ : أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري (ت 463 هـ) ، قصد فيه ابن عبد البر إلى جمع ما تفرق في كتب الصحابة المدوَّنة من قبله ، وذكر منها في مقدمته خمسة عشر مرجعاً وأشار في كتابه إلى مراجع أخرى كثيرة لم يذكرها ، واقتصر في جمعه ذلك على : النكت التي هي البغية من المعرفة بهم فلذلك سمى كتابه : " الاستيعاب " ، ورتبه على حروف المعجم ، وانتقد عليه العلماء أمران :
الأول : أنه فاته جمعٌ كثيرٌ من الصحابة فإن غاية ما جمعه يبلغ أربعة آلاف ترجمة ومائتا ترجمة وخمساً وعشرين ترجمة (4225) لصحابي وصحابية ، الثاني : عابوا عليه أيضاً أنه شانه بذكر ما شجر بين الصحابة ، وحكاياته فيه عن الإخباريين لأن الغالب عليهم الإكثار والتخليط فيما يروونه ، وقد اختصره : محمد بن يعقوب الخليلي في كتاب سماه : " إعلام الصحابة بأعلام الصحابة " .
__________
(1) - الحديث والمحدثون ص ( 151 ) .
(2) - الاستيعاب ( 1 / 8 ، 9 ) .(1/29)
ب- وكتاب : " أسد الغابة في معرفة الصحابة " للإمام المحدث : عز الدين علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 635 هـ) جمع في كتابه هذا بين الكتب التي هي غاية ما انتهى إليه الجمع في الصحابة حتى عهده فاجتمع له خمس مجلداتٍ جمعت من الصحابة سبعة آلاف وخمسمائة وأربع وخمسون ترجمة (7554) ، وعني بترتيبه على الأحرف ترتيباً أدق من كتاب الاستيعاب فجاء كتاباً عظيماً حافلاً .
قال ابن حجر : إلا أنه تبع من قبله فخلط من ليس صحابياً بهم وأغفل كثيراً من التنبيه على كثيرٍ من الأوهام الواقعة في كتبهم (1) .
قال السخاوي : ولكنه مع ضبطه وتحقيقه لأشياء حسنة لم يستوعب ولم يُهذَّب ، ومع ذلك فعليه المعول لمن جاء بعده حتى إن كلاً من النووي والكاشغري اختصره .
وقد اختصره أيضاً الحافظ الذهبي في كتابٍ لطيفٍ سماه : " تجريد أسماء الصحابة " وبيَّن من ذُكِر غلطاً ومن لا تصح صحبته ولم يستوعب ذلك .
ج- وكتاب : " الإصابة في تمييز الصحابة " للإمام الحافظ : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) جمع في كتابه هذا : ما كتبه السابقون وأعاد النظر في مراجع الصحابة الأولى من كتب السنة وتاريخ الرواة والسير والمغازي فاستخرج منها أسماء صحابةٍ فاتت غيره .
وقد رتَّب الكتاب على حروف الهجاء وقسَّم الصحابة تحت كل حرفٍ إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : من وردت صحبته بطريق الرواية عنه ، أو عن غيره سواءً كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريقٍ كان .
القسم الثاني : من ذُكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة من النساء والرجال ممن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو دون سن التمييز .
__________
(1) - الإصابة ( 1 / 4 ) .(1/30)
القسم الثالث : من ذُكر في كتب الصحابة من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، ولم يرد في خبرٍ قط أنهم اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رأوه سواءً أسلموا في حياته أم لا .
القسم الرابع : من ذُكر في كتب الصحابة على سبيل الوهم والغلط ، وبيان ذلك البيان الظاهر الذي يعوّل عليه على طرائق أهل الحديث ، ولم يذكر فيه إلا ما كان الوهم فيه بيِّناً ، وأما مع احتمال عدم الوهم فلا إلا إذا كان ذلك الاحتمال يغلب على الظن بطلانه .
قال ابن حجر : وهذا القسم الرابع لا أعلم من سبقني إليه ولا من حام طائر فكره عليه ، وهو الضالة المطلوبة في هذا الباب الزاهر ، وزبدة ما يمخضه من هذا الفن اللبيب الماهر(1) .
وقد ذكر رحمه الله : أنه مكث في تأليفه نحو الأربعين سنة ، وكانت الكتابة فيه بالتراخي ، وأنه كتبه في المسوَّدات ثلاث مرات .
وجملة ما فيه من الصحابة : إثنا عشر الفاً ومائتان وتسعة وسبعون صحابياً ( 12279 ) ، تسعة آلاف وأربعمائة وسبعة وسبعون صحابياً ( 9477 ) ذكروا بأسمائهم ، وألفٌ ومائتين وثمانية وستون صحابياً ( 1268 ) ذكروا بكناهم ، وألفٌ وخمسمائة واثنتين وخمسين ( 1552 ) ترجمة للصحابيات ، ويعدُّ كتاب " الإصابة " أجمع ما صُنِّف في هذا الباب ، وهو أعظمها نفعاً ، وأكثرها فائدةً ، وقد لخَّصه الإمام : السيوطي فى كتاب سماه : " عين الإصابة " .
__________
(1) - الإصابة ( 1 / 157 ) .(1/31)
د- كتاب : " حياة الصحابة " للعلامة الداعية المحدث : محمد يوسف الكاندهلوي ( ت 1383 هـ ) وهو كتابٌ بديعٌ جداً في هذا الفن ، تناول فيه مؤلفه سيرة الصحابة من حيث كونهم أمثلةً عُليا في تطبيق هذا الدين ، ومن حيث كونهم قدوةً تقتدى في العلم والعمل والتقوى والورع ، فجمع فيه أخبارهم مرتبةً على الأبواب لا الأسماء مثل : باب الهجرة ثم يذكر فيه من هاجر من الصحابة ومواقفهم في الهجرة ، وباب الجهاد ويذكر فيه نماذج من جهاد الصحابة الأطهار وهكذا .
والكتاب مفيدٌ في معرفة الأبواب لا معرفة تراجم الأصحاب ، فهو مفيدٌ في مجال الدعوة أكثر من إفادته في مجال الترجمة لأنه يجمع الأشباه والنظائر في مكانٍ واحد مما يجعل له أهميةً كبرى للداعية الناجح .
ومن هنا ندرك أن العلماء قديماً وحديثا عرفوا للصحابة الكرام قدرهم ومكانتهم ، وذبوا الشبه عنهم ، ووقفوا سداً منيعاً أمام كل من يبغي الانتقاص منهم ، أو الطعن فيهم .
فلما طاشت السهام التي وجهها أعداء الإسلام للصحابة الكرام ، وانكشفت مؤامرتهم فكروا في اتجاه جديد وهو : الاكتفاء بالطعن في بعض الصحابة والتابعين فاختاروا من الصحابة : أبا هريرة ، وهو اختيار ماكر وكان لا ختيارهم له عدة أسباب منها :
أ- كثرة الأحاديث التي رواها رغم تأخر إسلامه .
ب- لأن تجريح أبي هريرة تجريحٌ لما رواه من أحاديث ، ومؤدٍ لرفع الثقة عن كل مروياته .
ج- عَجَز أعداء الإسلام عن الطعن في القرآن الكريم لحفظ الله - عز وجل - له فاتجهوا للطعن في السنة تارةً بإنكارها ، وتارةً بتجريح رواتها للوصول إلى عدم الثقة فيها تمهيداً لإهمالها لأن الطعن في الناقلة طعن في المنقول .(1/32)
وقد فطن علماء الإسلام قديماً وحديثاً لمغزى هذا الطعون فقاموا بمناقشة هذه الشبهات ، وردوها بالحجة والبرهان ، وبيَّنوا فساد طوية من أثارها فأزالوها من القواعد ، واجتثّوها من الأصول ، وهدموا أركانها ، ونجا أبو هريرة من تلك الأعاصير الهوجاء التي عصفت حوله ، ومن تلك الأمواج المتراكمة التي تلاطمت على قدميه ، وبقي صامداً أمامها ، فانهار ما ادّعاه أعداؤه أمام هذا الصرح الشامخ ، والقصر المشيد الذي يحمي عدالته ، ويصونها من سهام الحاقدين .
وتحطمت سهامهم الواهية على الحصن المنيع الذي بناه بصدقه وأمانته وإخلاصه واستقامته فبقي أحد أعلام السنة الكبار ، وراوية الإسلام الأول بلا منازع ، يحترمه الجمهور ، ويحبونه ، ويقدرونه ، ويعرفون مكانته ، وفضله ، ومنزلته في الإسلام .
وقد وضع الله حبه في قلب كل مؤمن لحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له ، ولدعائه له بذلك .(1/33)
قال أبو هريرة : والله ما خلق الله مؤمناً يسمع بي إلا أحبني ، فقيل له وما علمك بذلك ؟ فقال : إن أمي كانت مشركة ، وكنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى عليّ ، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فأخبرته وسألته أن يدعو لها فقال : " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو أبشرها فأتيت فإذا الباب مُجافٍ ، وسمعت خضخضة الماء ، وسمعت حسي فقالت : كما أنت ، ثم فتحت ، وقد لبست درعها ، وعجِلت عن خمارها فقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله ، قال : فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن فأخبرته وقلت : ادع الله أن يحبِّبني وأمي إلى عباده المؤمنين ، فقال : " اللهم حبب عبيدك هذا وأمّه إلى عبادك المؤمنين - صلى الله عليه وسلم - وحببهم إليهما " (1) .
وقد أثار بعض أعداء الإسلام وأعداء السنة قديماً وحديثاً بعض الشبهات حول أبي هريرة رغبةً في توهين مروياته ، ونزع الثقة عنها ، وقد تولَّى إثارة هذه الشبهات قديماً : بعض أئمة المعتزلة كالنظام ، وبشر المريسي ، والبلخي وتابعهم في هذا العصر : بعض المستشرقين خاصة : جولد تسيهر ، وشبرنجر وغيرهما .
وأغرب من هذا أن بعض مدّعي الإسلام والعلم قد أرادوا تشويه صورة أبي هريرة بإلصاق التهم به ، وسلب الفضائل عنه ، ومن أمثلة هؤلاء :
عبد الحسين شرف الدين العاملي الذي ألّف كتاباً تحت عنوان : " أبو هريرة " وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندى لها جبين العلم ، وتُشوِّه الحق وتجرحه ، وتقلب الحقائق ، وتبدلها حتى انتهى إلى تكفير سيدنا أبي هريرة ، وقد حمله على هذا عاملان :
أولهما : هواه .
__________
(1) - مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي هريرة ( 4 / 1938 ) رقم ( 2491 ) .(1/34)
وثانيهما : تأويلاته الباطلة التي لا تتماشى مع الحق ، وتصادم حقائق التاريخ .
وقد استقى من هذا الكتاب ونسج على منواله أيضاً المدعو : محمود أبو رية صاحب كتاب : " أضواء على السنة المحمدية " فكان أشد على أبي هريرة من سابقيه ، وأجرأ عليه منهم ، فاستجاز لنفسه قلب الحقائق ، وتشويه التاريخ ، وتحريف النصوص ، واجتزاء الجمل بما يناسب هواه ، فجانب الصواب ، وخان قواعد العلم .
وسار على دربهم : الأستاذ أحمد أمين في كتابه : " فجر الإسلام " فوجّه المطاعن نحو أبي هريرة ، وحرّف بعض الحقائق في تاريخه ، وشكك في صدقه ، وزعم شك الصحابة فيه .
ولكن الله - عز وجل - قيَّض لدينه من يحميه ، ويدافع عنه ، ويذُبُّ عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ويُدافع عن أصحابه خير القرون ، فانبرى علماء المسلمين قديماً وحديثاً للدفاع عن أبي هريرة ورد الشبهات المثارة حوله ، فتعددت الكتب التي تولَّت الدفاع عن أبي هريرة ، وتبرئة ساحته مما حاول أعداء الإسلام عموما ، والسنة خصوصاً إلحاقها به .
ومن أفضل ما كُتب في الدفاع عن أبي هريرة قديماً : ما كتبه ابن قتيبة في كتابه القيّم : " تأويل مختلف الحديث " ، وما كتبه الدارمي في كتابه : " رد الدارمي على بشر المريسي " .
ومن أفضل ما كتب المعاصرون في ذلك وأجمعه وأروعه وأفضله عبارةً وأقواه دلالةً وحجةً ما كتبه الدكتور مصطفى السباعي في كتابه القيم المفيد : " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " حيث فنّد فيه شبهات المستشرقين ، وبيَّن دواعيهم على ذلك ، كما ردّ على أحمد أمين في كتابه : " فجر الإسلام " وعلى أبي رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " .
وكذلك كتب الشيخ : محمد عبد الرازق حمزة كتابه : " ظلمات أبي رية " وكتب الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني كتابه : " الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة " .(1/35)
وكذلك كتب الدكتور محمد عجاج الخطيب كتاباً قيماً في هذا الباب أسماه : " أبو هريرة راوية الإسلام " دافع فيه عنه ، ورد الشبهات الواردة عليه وصان مكانة أبي هريرة من الطعن أو التعريض .
وقد فطن علماء الإسلام قديما ًوحديثاً إلى سوء مقصد الطاعنين في أبي هريرة وأن المراد بالطعن هي السنة النبوية .
وأنا ضاربٌ لك مثالين أحدهما على لسان القدماء ، وثانيهما على لسان المحدثين :
الأول : حكى الحاكم في المستدرك كلام شيخ شيوخه إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ( ت 311هـ ) في الرد على من تكلم في أبي هريرة فكأنما هو يرد على الطاعنين فيه من أهل عصرنا فقال :
وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار : إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم - الذي هو كفر - فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويهاً على الرعاع والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة .
وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام ، إذا سمع أخبار أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم - الذي هو ضلال - لم يجد حيلةً في دفع أخباره بحجةٍ وبرهان ، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة .
أو قَدَري اعتزل الإسلام وأهله، وكفّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدّرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجد حجة تؤيد صحة مقالته التي هي كفرٌ وشرك كانت حجته عند نفسه : أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها .(1/36)
أو جاهلٌ يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه واختاره تقليداً بلا حجة ولا برهان تكلم في أبي هريرة ، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ، ويحتج بأخباره على مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه .
وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها (1) .
الثاني : قال الشيخ أحمد شاكر : وقد لهج أعداء الإسلام في عصرنا وشغفوا بالطعن في أبي هريرة وتشكيك الناس في صدقه وفي روايته ، وما إلى ذلك أرادوا ، وإنما أرادوا أن يصلوا - زعموا - إلى تشكيك الناس في الإسلام تبعاً لسادتهم المبشرين ، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن أو الأخذ بما صح من الحديث - في رأيهم - وما صح من الحديث في رأيهم إلا ما وافق أهواءهم وما يتبعون من شعائر أوربا وشرائعها .
ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ في اللغة التي نزل بها القرآن ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون .
وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب ولهم في ذلك سلفٌ من أهل الأهواء قديماً ، والإسلام يسير في طريقه قُدُُماً وهم يصيحون ما شاءوا ولا يكاد الإسلام يسمعهم بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم وإما يدمرهم تدميراً .
ومن عجبٍ أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون بفرقٍ واحدٍ فقط : أن أولئك الأقدمين زائغين كانوا أم ملحدين كانوا علماء مطّلعين ، أكثرهم ممن أضله الله على علم ، أما هؤلاء المعاصرون فليس إلا الجهل والجرأة وامتضاغ ألفاظٍ لا يحسنونها يقلّدون في الكفر ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم (2) .
__________
(1) - مستدرك الحاكم ( 3 / 587 ) .
(2) - مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر ( 6 / 522 ) .(1/37)
هذه كلمة حقٍ في أبي هريرة ، وهذا ما ذهب إليه أئمة الهدى ، وأعلام الدين ، وكبار فقهاء الإسلام ومفكريه ، وبيدهم الحجة ، وبألسنتهم المنطق ، ومعهم التاريخ الصحيح ، ووسيلتهم البحث العلمي الهادئ الرصين .
وجنى أعداء السنة الخيبة والخسارة ، وانكشفت للأمة مآثر أبي هريرة فظهر فضله ، وعلت مكانته ، وازداد المسلمون حباً له وتمسكاً برواياته .
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... ** ... أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ** ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وأكثر الشبه التي تثار حول أبي هريرة هي التي تثار حول كثرة روايته للحديث ، وقد أبدى بعض الصحابة ومن بعدهم عجبهم من قوة حفظ أبي هريرة وكثرة روايته للحديث مع تأخر إسلامه عن كثيرٍ من الصحابة فأبدى لهم أبو هريرة سبب ذلك فازدادوا قناعةً بعلمه وحفظه .
وأقبلوا عليه يتتلمذون على يديه ويروون الحديث عنه حتى بلغ عدد من أخذ العلم عنه أكثر من ثمانمائة كما قال الإمام البخاري رحمه الله .
ثم جاء بعض المستشرقين ، ومن سار في ركابهم ، ونسج على منوالهم يحاولون التشكيك في كثرة أحاديثه ، وسعة مروياته ، ولو أنصف هؤلاء وهم الذين يدّعون العلم والتقدم ، وعلى ضوء معرفة علم النفس والاجتماع لما وجدوا في ذلك غرابةً ولا بُعداً ، فلكل أمةٍ ميزة تمتاز بها على غيرها ، والميزة التي تفرد بها العرب هي : قوة الحفظ مع سرعته ، وفي الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم إلى عصرنا هذا من كان آيةً عجباً في سرعة الحفظ وقوة الذاكرة ، ويكفي أن تعلم : أن أحمد بن حنبل كان يحفظ ستمائة ألف حديث ، وأن البخاري كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث بأسانيدها ، وأن أبا زرعة الرازي كان يحفظ سبعمائة ألف حديث ، والإمام الشافعي كان لا يقع بصره على شيء إلا حفظه ، وكذا الإمام الشعبي القائل : ما كتبت سوداء في بيضاء قط ، وما سمعت شيئاً ونسيته قط .(1/38)
وبالإضافة إلى ذلك فقد اجتمعت لأبي هريرة عدة عوامل وأسباب أدت إلى كثرة أحاديثه وسعة مروياته من أهمها :
1- ملازمته التامة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وانقطاعه إليه ، وتفرغه الكامل لسماع أحاديثه ، ولذلك ردّ على من زعم أنه أكثر من رواية الحديث فقال له : إنكم تقولون إن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون : ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله ؟ وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم ، وكنت امرأً مسكيناً من مساكين الصفة ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون (1) .
ولذلك حينما دعته السيدة عائشة وقالت له : يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل سمعت إلا ما سمعنا ، وهل رأيت إلا ما رأينا ؟ وفي رواية أنها قالت له : أكثرت يا أبا هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو هريرة : يا أُمّاه إنه كان يشغلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرآة ، والمكحلة ، والتصنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء .
وفي رواية عنه قال : إي والله يا أماه ما كانت تشغلني عنه المرآة ، ولا المُكْحُلة ، ولا الدهن قالت : لعله (2) .
وهذا من إنصاف السيدة عائشة رضي الله عنها ورجوعها للحق .
__________
(1) البخاري كتاب البيوع باب ما جاء في قول الله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( 4 / 366 ) رقم ( 2047 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي هريرة ( 4 / 1939 ) رقم ( 2492 ) .
(2) الحاكم في المستدرك ( 3 / 582 ) رقم ( 6160 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وسير أعلام النبلاء ( 2 / 604 ) .(1/39)
وحينما جاء رجلٌ إلى طلحة بن عبيد الله أحد السابقين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة وقال له : يا أبا محمد : أرأيت هذا اليماني - يعني أبا هريرة - أهو أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم ؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم أم هو يقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل ؟ فقال طلحة : أمَّا أن يكون سمع ما لم نسمع فلا أشك سأحدثك عن ذلك :
إنا كنا أهل بيوتات وغنمٍ وعمل كنا نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار وكان مسكيناً ضيفاً على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده مع يده فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع ، ولا تجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل (1) .
وكذلك قيل لابن عمر: هل تنكر مما يحدث به أبو هريرة شيئاً ؟ فقال : لا ولكنه اجترأ وجبنا ، فقال أبو هريرة : فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا (2) .
2- حرصه الشديد على جمع الحديث وحفظه ، وعنايته به ، ورغبته التامة في تحصيل العلم حتى نالته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينسى شيئاً سمعه منه ، فبزّ أقرانه في كثرة الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع تأخر إسلامه .
ولقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حينما سأله أبو هريرة عن أسعد الناس بشفاعته ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " (3) .
__________
(1) الحاكم في المستدرك ( 3 / 585 ) رقم ( 6172 ) وصححه ووافقه الذهبي .
(2) الحاكم في المستدرك ( 3 / 583 ) رقم ( 6165 ) ، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الوضوء باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر ( 2 / 167 ) رقم ( 1120 ) .
(3) البخاري كتاب العلم باب الحرص على الحديث ( 1 / 233 ) رقم ( 99 ) .(1/40)
ويُضاف لذلك جِدُّه واجتهاده في حفظ الحديث .. يقول أبو هريرة : جزّأت الليل ثلاثة أجزاء ثلثاً اصلي ، وثلثاً أنام ، وثلثاً أذاكر فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ويحكي عن نفسه في هذه الفترة قائلاً :
صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين ، ما كنت سنواتٍ قط أعقل مني ، ولا أحبّ إليّ أن أعي ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهن .
3- دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له : بقوة الحفظ ، وعدم النسيان ، فقد كان سيئ الحفظ حين أسلم فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً له : يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً أنساه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابسط رداءك " ، قال : فغرف بيده ثم قال : " ضمه " فضممته فما نسيت شيئاً بعد (2) .
... وما أجمل تعليق الذهبي على هذا الحديث حين قال : كان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة .
... وقد سبق حديث زيد بن ثابت حينما دعا أبو هريرة أن يرزقه الله علماً لا يُنسى فأمّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دعائه ، وقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
... وقد اختبر مروان بن الحكم حفظه فوجده لا يزيد حرفاً ولا ينقص .
4- أدرك أبو هريرة كبار الصحابة فاجتهد في جمع ما عندهم من حديث ، وأخذ عنهم الشيء الكثير ، فتكامل علمه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزادت أحاديثه التي رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا في شيوخه عدداً من الصحابة .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2 / 264 ) .
(2) البخاري كتاب العلم باب حفظ العلم ( 1 / 258 ) رقم ( 118 ) .(1/41)
5- طول عمره واحتياج الناس إلى علمه - صلى الله عليه وسلم - ، فقد عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعةً وأربعين عاماً ينشر الحديث ويبثه بين الناس مما جعله قبلة طلاب العلم ومحطَّ رحالهم يفتيهم ويعلمهم ويحدثهم حتى أخذ عنه العلم خلق كثير . قال البخاري : روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل وأكثر من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وغيرهم .
6- ونضيف إلى ذلك أن السنوات الثلاث التي صاحب فيها أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ذات شأنٍ عظيم وجرت فيها أحداثٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ وتشريعيةٌ هامة حيث تفرّغ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للدعوة والتوجيه ، والتعليم والإرشاد ، وإرسال الرسل في الآفاق لتبليغ رسالته بعد أن هادن قريشاً ووفدت إليه القبائل تبايع على الإسلام وتسأل عنه ، وأبو هريرة حاضرٌ في ذلك يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويعي بقلبه ويجمع ويحفظ .
... ولا شك أن أبا بكر ، وعمر ، وابن مسعود وغيرهم من كبار الصحابة ممن تقدم إسلامهم وطالت صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أعلم من أبي هريرة وأفقه ، ولكن أعمارهم لم تطل ، ولم يحتج كثيرٌ من معاصريهم إلى علمهم لأنهم عاشوا بين الصحابة الذين شهدوا نزول الوحي وسمعوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن بهم كثير حاجةٍ إلى السؤال .
... كما أن كثيراً من كبار الصحابة اهتموا بأمور الدولة وسياسة الحكم وتولي الولايات والانشغال بالفتوحات بينما انصرف أبو هريرة إلى العلم والتعليم واعتزل السياسة .(1/42)
... وأبو هريرة وأضرابه كابن عمر ، وابن عباس ، وأنس على قلة المدة التي صاحبوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى صغر سنهم طالت أعمارهم ، وسمعوا الحديث ، وجمعوه من كبار الصحابة ، ومات أكثر الصحابة في حياتهم ، وصاروا في عصرهم أئمة يُقتدى بهم وتصدُّوا للتحديث والإفتاء فحدَّثوا ، وعلَّموا ، وأفتوا ، ورحل إليهم طلاب العلم من كل مكان ، ورُزقوا القبول ، فنقل التابعون أحاديثهم ، وتناقلتها الأجيال من بعدهم حتى وصل إلينا هذا الكم الهائل من أحاديثهم .
ولم يكتف أعداء اللإسلام بالطعن في أبي هرية فقط أو الصحابة فقط وإنما طالت سهامهم الآثمة وشبهاتهم الباطلة أعلام السنة من التابعين كالزهري فاتهموه بالنفاق ووضع الحديث (1) ، وحاولوا الطعن أيضاً في كبار علماء السنة كالأئمة الأربعة ، والسفيانين ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأصحاب الكتب الستة وغيرهم ، وصوروهم على أنهم زوامل كتب ينقلون ولا يفهمون ، يخترعون ما يوافق أهواءهم ، ويناسب مجتمعاتهم ، ولا يتورعون من نسبة الكذب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال حسين أحمد أمين : لقد كان الناس في الماضي إذا أرادوا تطوير حكم من أحكام الشريعة على ضوء الأحوال المستجدة للمجتمع الإسلامي يخترعون الأحاديث ثم ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) - راجع : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي ص 213 .
(2) - جريدة المصور القاهرية بتاريخ 9 / 12 / 1983 .(1/43)
وهذا يُفقد الأمة ثقتها بتراثها وعلمائها ، وهذا جهل فاضح ، ومغالطة مكشوفة فقد وضع العلماء من القواعد والأصول الدقيقة ما استطاعوا بواسطته أن يميزوا بين المردود والمقبول ، وهذه كتبهم وقواعدهم شاهدة بذلك ، وما أحوج الأمة إلى مراجعة هذا التراث الضخم ، والكنز الثمين من علوم الحديث ، ومن تراجم رجاله ، ولذلك فالواجب على العلماء أن يكتبوا للناشئة سيرة هؤلاء العلماء ومآثرهم ، وكيف احتاطوا في نقل الأخبار ، وكيف جمعوا الأحاديث ودونوها ، وضحوا من أجل ذلك بالغالي والنفيس .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... ** ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فحينئذ تنكشف الحقيقة ويظهر الصبح لذى عينين ويعلم المسلم أن الله قيَّض لدينيه علماءاً عظاماً ، اختارهم الله عز وجل على عينه ، واصطنعهم لحفظ السنة ونقلها إلى الأجيال ، فيفخر بهم ويعتز ، ويزداد ثقة بدينه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (1) .
4- انتشار الأحاديث الموضوعة
حاول أعداء الإسلام منذ بداياته الأولى القضاء المبرم عليه ، فاتجهوا لمحاولة القضاء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذاته ، فعصمه الله منهم ، ونجاه من كيدهم فحاولوا القضاء على الإسلام عسكرياً وسياسياً فازدادوا فشلاً وخيبة ، ففكروا في القضاء على الإسلام من داخله ، وهدم بنيانه الشامخ بأيديهم وأيدي يعض الجهال من المسلمين ، فاتجهوا لوضع الأحاديث ثم إثارة الشبه على الإسلام ليحجم غير المسلمين عن الدخول فيه ، وليفقد المسلمون الثقة بدينهم .
__________
(1) - الأنفال : 42 .(1/44)
قال ابن الأثير : لما بعث الله تعالى سيد الأولين والآخرين محمداً - صلى الله عليه وسلم - عَظُم ذلك على اليهود والنصارى ، والروم والفرس ، وقريش وسائر العرب لأنه سفَّه أحلامهم ، وعاب أديانهم وآلهتهم ، وفرَّق جمعهم ، فاجتمعوا يداً واحدة عليه فكفاه الله كيدهم ، ونصره عليهم ، فأسلم منهم من هداه الله تعالى ، فلما قُبض - صلى الله عليه وسلم - نجم النفاق ، وارتدت بعض العرب ، وظنوا أن الصحابة يضعفون بعده فجاهد أبو بكر حتى رد الردة ، وأذل الكفر ، ووطَّأ جزيرة العرب وفارس والروم ، فلما حضرته الوفاة ظنوا انه بموته ينقض الإسلام فاستخلف عمر بن الخطاب فأذل فارس والروم، وغلب على ممالكها فدس عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ظناً منهم أنه - بقتله - ينطفئ نور الإسلام فولي بعده عثمان بن عفان فزاد في الفتوح ، واتسعت مملكة الإسلام فلما قتل ولي بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقام بالأمر أحسن قيام فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم ... الخ (1) .
__________
(1) - الكامل لابن الأثير 6 / 125 - 126 .(1/45)
وللأسف الشديد ونظراً لجهل جمهور عريض من الدعاة بقواعد علوم الحديث ، وتقاعس كثير من الحكام عن القيام بواجبهم في هذا الأمر فقد انتشرت الأحاديث الموضوعة على الألسنة كانتشار النار في الهشيم ، حتى كاد الخرق يتسع على الراقع ، حتى إنك غدوت لا تكاد تسمع خطبة من داعية ، أو درسا من خطيب تخلو من الحديث الموضوع وشديد الضعف الذي لا يُحتجُّ بمثله يستشهدون بها ويستدلون بها ، وقد ترتب على هذا أن اتُّهم الإسلام بما هو برئ منه ، وأُلصق به ما هو مخالف لقواعده وأصوله من التناقض ، ومخالفة المعقول ، ومناقضة حقائق التاريخ مع أن علماء الحديث نصوا كما قال ابن الجوزي : ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع (1) .
وفي شيوع هذه الأحاديث وانتشارها ضرر جسيم ، وخطر عظيم بجوانب كثيرة من الإسلام ، وأكثر الشبه الواردة على السنة مبنية على الحديث الموضوع ، أو الفهم السقيم للحديث الصحيح .
وقد قام علماء الإسلام بجهودٍ ضخمة للوقوف أمام موجة الوضع في الحديث ، وطاردوها حتى كشفوها وميزوها ، فوضعوا قواعد لقبول الحديث ، وأسسوا علم الحديث بفروعه المختلفة ، فاشترطوا الإسناد لمعرفة الرواة وعدالتهم ، وميزوا بين من تقبل روايته ومن ترد ، وقسموا الحديث وما يزوا بين درجاته ومراتبه ، ووضعوا قواعد وأمارات يُعرف بها الحديث الموضوع ، وصنفوا كثيراً من الكتب التي تبين الموضوع وتحذر منه ، حتى أصبح من الثابت يقيناً أن التاريخ لم يسجل لأمة من الأمم جهوداً في حفظ تراث نبيها كما سجل لهذه الأمة الخاتمة .
ووجود بعض الأحاديث الموضوعة لا يكون سبباً في إهمال جميع الأحاديث ، بل الواجب كشفها ، وردها ، وبيان وضعها ، ولذلك وحتى نستطيع القضاء على هذه المشكلة يجب أن نفعل الآتي :
__________
(1) - تدريب الراوي 1 / 277 .(1/46)
1- أن يلتزم الدعاة بدراسة القواعد الأساسية لعلم الحديث بحيث يستطيعون معرفة شروط قبول الحديث وشروط رده .
2- نشر الكتب التي تحذر من الأحاديث الموضوعة وتذكرها ، ومن أشهر وأهم هذه الكتب كتاب : " الموضوعات " لابن الجوزي ، وكتاب : " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " للسيوطي ، وكتاب : " تنزيه الشريعة المرفوعة من الأخبار الشنيعة الموضوعة " لابن عراق ، وكتاب : " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للشوكاني وغيرها .
3- نشر المؤلفات التي صُنِّفت في الحكم على الأحاديث المشهورة على الألسنة وبيان حالتها من حيث القبول والرد ، ومن أهم هذه الكتب كتاب : " المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة " للسخاوي ، وكتاب : " كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس " لإسماعيل العجلوني .
ونظراً لأن كثيراً من الكتاب والدعاة ليسوا متخصصين في علم الحديث فينقلون الأحاديث محذوفة الأسانيد فيروج وينتشر الموضوع ، ويتلقاه القارئ أو السامع بالتصديق والقبول حتى راجت بعض الكتب وهي محشوة بالموضوعات خاصة في موضوعات الوعظ والرقائق فيغترف منها الخطباء وينقلون للناس الأكاذيب والمبالغات التي تشبع نهم العوام .
وتزداد خطورة هذا الأمر إذا علمنا أن انتشار هذه الأحاديث ليست قاصرة على كتب الوعظ والرقائق بل وجدنا بعض كتب السنة والتفسير والفقه تجمع الأحاديث الموضوعة بجوار الأحاديث المقبولة .
وقد قام العلماء بجهودٍ ضخمة من أجل تنقية هذه الكتب من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة فقاموا بتخريج أحاديثها والحكم عليها ، ومن أهم هذه الكتب كتاب : " نصب الراية لأحاديث الهداية " للإمام الزيلعي وهو في الفقه الحنفي ، وكتاب : " تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " للحافظ ابن حجر وهو في الفقه الشافعي ، وكتاب : " إرواء الغليل في تخريج منار السبيل " للألباني وهو في الفقه الحنبلي .(1/47)
ولم تقتصر جهود العلماء على تخريج أحاديث كتب الفقه فقد وضعوا تخريجاً على الكتب المشهورة في التصوف مثل كتاب : " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي فقد خرج أحاديثه الحافظ العراقي في كتابه : " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من أخبار " والكتب المشهورة في التفسير مثل كتاب : " الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل " للزمخشري فقد خرج أحاديثه الحافظ ابن حجر في كتاب سماه : " الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " .
ولذلك كان من الواجب على المتحدث في شئون الإسلام ومن يرغب في الاستفادة من هذه الكتب أن يقرأها محققة الأحاديث ليعتمد على المقبول ويحتج به ويرفض المكذوب الموضوع .
وحاصل هذا الأمر أن الصحابة الكرام والمحدثون من بعدهم أخذوا على عاتقهم تقديم السنة إلى الناس نقية سليمة خالية من الوضع والكذب ولم تكن هذه المهمة يسيرة هينة بل خاض المحدثون في أثناءها غمار حرب فكرية ونفسية حاول فيها أعداء الإسلام بكل جهودهم أن يُشوِّشوا على الإسلام ، ويدلسوا على أهله فقدموا أفكاراً خبيثة متنكرة في صورة أحاديث يختلقونها ويحاولون ترويجها بين المسلمين فخُدع بها بعض الرواة .
أما علماء الحديث الراسخون فيه فقد وقفوا لها بالمرصاد ، وصمدوا أمام سيلها الجارف ، وزيفها الخادع ، وأسفر صمودهم عن أدق منهج وأحكمه في نقد الروايات وتمحيصها ، والتمييز بين غثها وسمينها ، واستحدثوا لأجل ذلك من العلوم والقواعد ما يضمن سلامة السنة من الزيادة والتحريف ، وجاءوا بالعجب العجاب في حفظ السنة المطهرة ، وأسسوا لكشف الوضع والوضاعين ركائز ثابتة من العلم أقاموها على منهج علمي سديد يُمكِّن كل عالم ومتعلم من معرفة الحديث الصحيح من الموضوع ، ويُعرِّفه الكاذب من الصادق ، والمصيب من المخطئ ، والضابط من المهمل .(1/48)
وخدموا السنة النبوية الشريفة خدمة لم يُخدم بِها علم من العلوم حتى قيل : العلوم ثلاثة : علم نَضِج وما احترق ، وهو علم النحو وأصول الفقه ، وعلم ما نضج ولا احترق ، وهو علم البيان والتفسير ، وعلم نضج واحترق ، وهو علم الحديث .
والمراد بالنضج والاحتراق هنا : أن المحدثين وضعوا كتباً في تراجم الرجال ، وحصروا الثقات والضعفاء ، وأحصوا شيوخهم وتلاميذهم ، والبلدان التي دخلوها ، والأحاديث التي رووها ، وأقوال النقاد فيهم ، ووضعوا القواعد التي تميز بين المقبول والمردود ، واستوفوا كل شاردة وواردة في شأن نقلة الحديث حتى أربوا على الغاية ، ولذلك قالوا : علم الحديث علم نضج واحترق ، فتوطدت دعائم السنة واستقام أمر الشريعة .
5- التسرع في الحكم على الأحاديث دون استكمال الأدوات اللازمة لذلك
الحكم على الحديث بالقبول والرد هو ثمرة علم المصطلح ، وهى ثمرة بعيدة المنال صعبة الالتقاط إلا على من درس هذا العلم وتبحر في معرفة قواعده ، وقد وضع العلماء علوماً متعددة تُوصِّل بجملتها إلى نيل هذه الثمرة فاشترطوا معرفة القواعد المتعلقة بالإسناد والمتن ، كما اشترطوا حصول معرفة وملكة تتولَّد عند العالم من كثرة النظر في الأحاديث .
وعندما تجرَّأ البعض في الحكم على الأحاديث دون دراسة هذه العلوم أفتى ابن الصلاح بانسداد هذا الباب ، وعدم جواز التصحيح والتضعيف ، وأن الواجب على العلماء أن يقبلوا أحكام السلف المتقدمين وأن يتابعوهم في ذلك (1) .
وأرى أن هذا الرأي تولَّد عند ابن الصلاح خشية أن يتجرا على الحكم علي الحديث من لا يصلح لذلك فأفتى بالأحوط .
ولذلك خالفه علماء عصره ومن لحقهم من العلماء ، وأفتوا بجواز الحكم على الحديث إذا استكمل العالم الأدوات اللازمة لذلك ، ثم حذَّروا من الحكم على الأحاديث بغير علم ، وبيَّنوا أن في ذلك إفساد الدين والدنيا .
__________
(1) - راجع : علوم الحديث لابن الصلاح ص 16 ، 17 .(1/49)
ولكن فتوى ابن الصلاح كانت بمثابة ضوء أحمر وتحذير للمتسرعين في الحكم على الحديث يُلزمهم بضرورة تطبيق القواعد عند الحكم على الأحاديث لأن الدين يترتب عليها .
ثم جاء هذا العصر الذي شهد صحوةً مباركة وعودةً حميدة إلى الإسلام فأقبل كثير من الشباب يدرسون علم الحديث في كتب ومختصرات ومحاضرات ودروس ثم ظن بعضهم وقد قرأ بعض الكتب وحفظ بعض القواعد والمتون واستمع لبعض المحاضرات والدروس أنه يستطيع بذلك أن يحكم على الحديث ، ويميز بين المردود والمقبول دون الحاجة لأحكام العلماء السابقين على الحديث وقد ترتبت على ذلك مفاسد كثيرة منها :
1- مخالفة الأئمة السابقين في أحكامهم على الحديث دون دراسة متأنية ومستوعبة للموضوع فقد يُحسِّن الإمام الحديث بطرقه فيحكم عليه عالم عصرنا لِلَّهِ بالضعف لأنه لم يقف على بقية الطرق ، وليست الخطورة في مخالفة الأئمة بقدر ما هي في الحكم على الحديث دون دراسة مستوعبة للموضوع وجمعٍ لطرقه .
2- أصبح العمدة في الحكم على الحديث هو حال رواته فإذا كانوا ثقاتاً صححوا الحديث دون النظر إلى شذوذ أو علة .
3- أصبحنا نجد من يطالب بالفقه الموحد المتفق عليه أصولاً وفروعاً لأن الأحاديث قد جُمعت فنستطيع أن نحكم عليها ونحتج بالمقبول ونهمل المردود ، وقد نسي هؤلاء أن العلماء قد يختلفون في الحكم على الحديث فيصححه بعضهم ويقول بمضمونه ، ويضعفه بعضهم ويفتي بخلافه نظراً لاختلافهم في تمكنه من شروط الصحة من عدمها بل قد يصح الحديث ويفتي بعض العلماء بخلافه لعلة في سنده أو متنه أو لأنه منسوخ أو نحو ذلك ، ولذلك وجدنا الإمام الترمذي وغيره يقولون : حديث صحيح والعمل على خلافه ، فالأمر ليس سهلاً بل يحتاج إلى دراسة ومعرفة وورع .(1/50)
4- سوء الأدب مع العلماء السابقين فيتهمونهم بالجهل أو التقصير لأنهم صححوا ما ينبغي أن يُضعَّف من وجهة نظرهم ، وللعلماء أساليب وطرق في الحكم على الحديث قد تخفى على قليل العلم فيحكم بخلافهم بل قد يتطاول عليهم وينكر علمهم ومعرفتهم .
ولذلك يجب تربية طلاب العلم على أن الحكم على الحديث أمر خطير جداً لأنه يترتب عليه التحليل والتحريم ، والحظر والإباحة وأنه لا يتأهل لذلك إلا العلماء الكبار الذين تبحروا في دراسة علم الحديث رواية ودراية مع الأخذ بقسط وافر من علوم القرآن ، وأصول الفقه و، علم اللغة بحيث تتكون عندهم ومن كثرة مذاكرتهم للحديث مَلَكَة تجعلهم يفرقون بين الكلام الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - والكلام الصادر من غيره ، فإذا كنت من أهل هذا الشأن فأنت فارس هذا الميدان وإلا فدع عنك الخلط والخبط ، وأعط القوس باريها ، ولا تتعن فيما لا تعرف .
5- رد الأحاديث الصحيحة الثابتة بالوهم والهوى أو بإيراد شبهات واهية حول مضمونها دون بحث ودراسة وروية في الموضوع ومن أمثلة ذلك :
أ- رد الأحاديث بزعم مخالفتها للقرآن دون أن يكون لذلك أساس صحيح كمن رد أحاديث الشفاعة المستفيضة في حق أهل الكبائر بدعوى معارضتها للآيات القرآنية التي نفت الشفاعة ، والقرآن مقدم على السنة ولو تريَّث هذا القائل ودرس الموضوع من جميع جوانبه وطالع أقوال العلماء الراسخين في هذا الأمر لعلم أن المحل مختلف .(1/51)
فالشفاعة التي نفاها القرآن هي : الشفاعة الشركية التي كان يدعيها المشركون لآلهتهم وهي شفاعة ملزمة لله عز وجل وتكون سبباً في نجاة المشركين من النار أما الشفاعة التي أثبتتها السنة فلا تكون إلا لأهل التوحيد ، ولا تكون إلا بإذن من الله عز وجل ، فالقرآن إذاً لم ينف مطلق الشفاعة ، كما زعم من زعم ، بل نفى الشفاعة التي ادَّعاها المشركون والمحرفون ، والتي كانت من أسباب فساد كثير من أتباع الديانات ، الذين يقترفون الموبقات ، متَّكلين على أن شفعاءهم ووسطاءهم سيرفعون عنهم العقوبة ، كما يفعل الملوك الظلمة ، وحكام الجور في الدنيا .
ومن هؤلاء المتسرعين المفرطين من سارع برد أحاديث الفتن والملاحم ، وجميع الأحاديث التي نبئت بالمستقبل رغم صحتها بدعوى مخالفتها للقرآن في قول الله تعالى: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (1) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب فكل الأحاديث التي نبئت بالغيب موضوعة مكذوبة - بزعمهم - وإن كانت في الصحيحين .
ولو تريث هذا المدعي لعلم أن الغيب بجملته لا يعلمه إلا الله ، ولكنه سبحانه وتعالى قد يُطلع بعض خلقه على بعضه قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) } (2) .
__________
(1) - النمل : 65 .
(2) - الجن 26 ، 27 .(1/52)
ب- ومن المتعجِّلين من رد الأحاديث بزعم مخالفتها للثوابت العلمية أو القواطع العقلية فإذا بحثت الأمر وجدت ما يدعى أنها ثوابت وقواطع أموراً نظرية قابلة للمناقشة والأخذ والرد ، ومن أجل هذا ألَّف الإمام أبو محمد ابن قتيبة ( ت 267هـ ) كتابه المعروف : " تأويل مختلف الحديث " رداً على الزوابع التي أثارها المعتزلة حول بعض الأحاديث التي زعموا أنها معارضة للقرآن ، أو للعقل ، أو يكذِّبها العيان أو تناقضها أحاديث أخرى .
وجاء بعده محدث الحنفية الإمام : أبو جعفر الطحاوي ( ت 321 هـ ) فألَّف كتابه القيم : " مشكل الآثار " في أربعة مجلدات ، محاولا أن يجد لهذه الأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض تأويلا مقبولا ، ووجها معقولا .
ولذلك ينبغي التدقيق البالغ في فهم الحديث إذا صح ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والحذر كل الحذر من رده بمجرد استبعادات عقلية قد يكون الخطأ كامناً في ذاتها .
ج- رد الأحاديث الصحيحة الثابتة بدعوى مخالفتها لأحاديث أخرى فإذا درست الأحاديث التي ادعوا تعارضها وجدت أنه يمكن الجمع بينها أو أن الأحاديث التي ذكروها ضعيفة أو موضوعة ، والموضوع لا يعارض الصحيح كمن زعم رد حديث : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (1) بحديث : " خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء "يعني عائشة وهو حديث باطل بإجماع أهل الحديث " (2) .
__________
(1) - البخاري كتاب المغازي باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر 7 / 732 رقم 4425 .
(2) - راجع : المقاصد الحسنة للسخاوي ص 198 رقم 432 ، وكشف الخفاء 1 / 332 ، 333 رقم 1196 ، والفوائد المجموعة ص 399 ، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص 116 ، 117 رقم 438 ، 439 .(1/53)
د- ومنهم من رد الأحاديث الصحيحة بدعوى أنها كانت تعالج حالة طارئة أو ظروفاً خاصة موضعية مؤقتة فإذا تغيَرت الظروف تغيرت الأحكام تبعاً لها ، وهذا مزلق خطير تزل فيه أقدام ، وتضل فيه أفهام ، فالأصل في النصوص : العموم والثبات إلا إذا جاء دليل يبين خصوصيتها ، ولذلك كان من قواعد الأصوليين: " العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب " .
وحاصل الأمر : أن تصحيح الضعيف والموضوع ، أو رد الصحيح والحسن مزلق خطير يؤدي إلى فساد الدين ، وضياع أحكامه ، واختلاط مفاهيمه ولذلك كان الواجب على من يتعرض لمناقشة الأحاديث أن يتحرى ويتثبت قبل أن يحكم على الأحاديث ، ولابد من الرجوع لأئمة هذا الشأن ولاسيما المحققين منهم ، وجمع طرق الحديث ، والتجرد من الهوى والتعصب ، وطلب الهداية والتوفيق من الله عز وجل .
وللعلماء طرق معروفة في تمييز الثابت من المكذوب ، وهي نقد السند والمتن معاً ، فما ثبت بعد البحث والدراسة صحة سنده ومتنه حكمنا بصحته ، وما لا فلا .
هذا ما فعله أئمة هذا الشأن حين واجهتهم تلك الكثرة الهائلة من الأحاديث المكذوبة ، فميزوا بين المقبول والمردود وفق القواعد والضوابط التي وضعوها لذلك .
6- محاولة تطويع السنة للعقل
نادت المعتزلة قديماً بعرض الأحاديث على العقل ، وقبول ما يوافقه ورد ما يرفضه فجعلوا العقل البشري حاكماً على السنة ، ثم جاء من تابعهم في هذا العصر ، وشكك في الأحاديث التي رواها الثقات بزعم مخالفتها للعقل وهؤلاء يطالبون باستبدال قواعد المحدثين في قبول الحديث ورده بعرضه على العقل الصريح فما وافقه قُبل وما خالفه رُفض .
وقد نادى كثير من المستشرقين بهذا الأمر ، وتابعهم عليه بعض المسلمين كالأستاذ : أحمد أمين ، والمدعو : أبو رية وغيرهما .(1/54)
وهذه الدعوة تبدو مقبولة لدى كثير من المثقفين ، والذين لم يدرسوا علوم الشريعة بعمق ، ولكنها عند التدقيق العلمي لا تعني شيئاً ، ولا تنتج منهجاً جديداً في علوم الشريعة ، وإنما تنتج الفوضى في قبول الأحاديث ورفضها .
وشبهتهم باطلة ، وحجتهم داحضة لأننا لو سلمنا لهم بذلك فأي عقل هذا الذي تُعرض عليه الأحاديث ؟
والعقل الذي يريدون أن يتحاكموا إليه يختلفون في تحديده ، فأي عقلٍ يريدون أن يُحَكِّمُوه ويعطوه من السلطة أكثر مما أعطاه علماؤنا في قواعدهم الدقيقة ؟
فليس عندنا عقل واحد نقيس به الأمور ، فالعقول متفاوتة في فهمها للأمور وإدراكها للأشياء ، والمقاييس مختلفة ، والمواهب متباينة ، فما لا يعقله فلان ولا يفهمه قد يراه آخر معقولاً مفهوماً ، كما أن ما يخفى على الناس في بعض العصور حكمته وسر تشريعه قد يتجلى لهم في عصر آخر مقبول الحكمة واضح المعنى حين تتقدم العلوم وتنكشف أسرار الحياة .
ففتح الباب في نقد المتن بناءً على حُكم العقل الذي لا نعرف له ضابطاً ، والسير في ذلك بخطى واسعة على حسب رأي الناقد وهواه الناشئ في الغالب عن قلة إطلاع ، أو قصر نظر ، أو غفلة عن حقائق أخرى .
إن فتح الباب عن مصراعيه لمثل هؤلاء الناقدين سيؤدي حتماً إلى فوضى لا يعلم إلا الله منتهاها ، وإلى أن تكون السنة الصحيحة غير مستقرة البنيان ولا ثابتة الدعائم ، ففلان ينفي هذا الحديث لأن عقله لا يستسيغه ، وفلان يثبته ، وفلان يتوقف فيه ، وذلك أمر طبيعي لأن العقول مختلفة في الحكم والرأي والثقافة والعمق ؛ فكيف يجوز هذا ؟!
والعقول تختلف فيما بينها فما هو العقل الكامل الذي يريدون تحكيمه ؟ أهو عقل العوام أم عقل الفلاسفة أم عقل الأطباء أم عقل الساسة والحكام ؟
والعقل قد يرفض شيئاً لغرابته ثم يُقِرُّ به بعد ذلك ، وكم من أحلامٍ وخيالات رفضها العقل قديماً فأصبحت الآن حقائق واقعة .(1/55)
وليس في الإسلام ما يحكم العقل باستحالته ، ولكن فيه ما يستغربه العقل خاصة في أمور الغيب ، فالواجب على العقل المخلوق أن يعرف قدره ، ولا يتجاوز حدوده ، ولا يتطاول على خالقه وربه فإذا ثبت النص فقد صدق الله وإن لم يستطع العقل فهم مدلوله فهذه هي العبودية حقاً .
ولابد من التفريق بين المستحيل والمستغرب فإن رد المستغرب وتكذيبه تهور طائش ينشأ من اغترار الإنسان بعقله فإن كثيراً من الأمور التي كانت غامضة أصبحت اليوم واضحة ، وما كان في الأمس حقيقة ربما أصبح اليوم خرافة (1) .
والعقل ليس معصوما في أفكاره ومعارفه ولكن الوحي الثابت هو المعصوم ، والواجب على المسلم هو التسليم له ، والانقياد لأحكامه ، وإن بدا غريباً في بعض الأشياء .
والمطالع لكتب أئمة الحديث يعلم يقيناً أن أئمة الحديث ، وفقهاء المسلمين لم يعطلوا عقولهم عند الحكم على الحديث ، وإنما أوقفوها عند الحد الذي يجب أن تقف عنده تأدُّباً مع الله ، فلا ترقى العقول لمناهضة الوحي ، وإنما واجبها محاولة الفهم ثم التسليم والانقياد .
وقد وضع أئمة النقد من علماء الحديث علامات لمعرفة الحديث الموضوع منها : أن يكون متنه مخالفاً لبدائه العقول ، أو للمقطوع به من الدين أو التاريخ أو الطب أو غير ذلك .
وبهذه الطريقة رفضوا أحاديث كثيرة وحكموا عليها بالوضع .
وما أحسن ماقال ابن الجوزي : ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع (2) .
__________
(1) راجع : السنة ومكانتها في التشريع ص 39 .
(2) تدريب الراوي 1 / 277 .(1/56)
والأحاديث التي صححها علماؤنا رحمهم الله ليس فيها ما يرفضه العقل أو يحيله لأنها إما أن تتعلق بأمور العقيدة , وهذه يجب أن تتفق مع القرآن , ونحن نقطع بأنه ليس في القرآن شيء يحكم العقل بفساده أو بطلانه أو إستحالته , وإما أن تتعلق بالاحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وآداب غيرها , وليس في حديث من هذه الأحاديث التي صححها علماؤنا ما يرفضه العقل أو يحكم باستحالته ، وإما أن تكون أخبارا عن الأمم الماضية ، أو أخبارا عن عالم الغيب مما لا يقع تحت النظر كشؤون السموات والحشر والجنة والنار , وهذه ليس فيها ما يحكم العقل ببطلانه , وقد يكون فيها ما لا يدركه العقل فيستغربه .
فإذا جاءت هذه الأحاديث من طريق ثابت يفيد القطع فيجب اعتقادها , وإن جاءت عن طريق يفيد غلبة الظن فليس من شأن المسلم أن يبادر بتكذيبها .
وبهذا نرى أن فريقا كبيراً من الناس لا يفرقون بين ما يرفضه العقل وبين ما يستغربه , فيساوون بينهما في سرعة الإنكار والتكذيب , مع أن حكم العقل فيما يرفضه ناشئ من استحالته , وحكم العقل فيما يستغربه ناشئ من عدم القدرة على تصوره ، وفرق كبير بين ما يستحيل وبين ما لا يدرك .
على أننا نرى من الاستقراء التاريخي , وتتبع التطور العلمي والفكري أن كثيرا مما كان غامضا على العقول بالأمس أصبح اليوم مفهوماً واضحاً بل إن كثيرا مما كان يُعتبر حقيقة من الحقائق أصبح اليوم خرافة من الخرافات ، وما كان مستحيلا بالأمس أصبح اليوم واقعا ، ولو أن إنساناً عاش في القرون الوسطى فكر فيما وصل إليه الإنسان الآن لعُدَّ من المجانين .(1/57)
والذين ينادون بتحكيم العقل في صحة الحديث أو كذبه لا نراهم يفرقون بين المستحيل وبين المستغرب فيبادرون إلى تكذيب كل ما يبدو غريبا في عقولهم , وهذا تهور طائش ناتج من إغترارهم بعقولهم من جهة , ومن إغترارهم بسلطان العقل ومدى صحة حكمه فيما لا يقع تحت سلطانه من جهة أخرى (1) .
ومن أمثلة ما أنكره البعض لادعاء مخالفته للعقل :
حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة " (2) .
فقد استغرب أبو رية في كتابه : " أضواء على السنة المحمدية " هذا الحديث بل وادعى ضمنًا كذبه ، ولنا أن نسأل ما وجه الغرابة في هذا الحديث ؟ ألأنه ذكر أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ؟ أليست الجنة من أمور الغيب ؟ هل استطاع أن يعرف ما فيها ؟ ونحن لا نعرف عنها إلا ما عرفنا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إياه ؟ أليس في عالم الشهادة ما استطاع العلم أن يكشف من عظمته واتساعه ما لا يكاد يتصوره العقل ؟ ألا يحدثنا علماء الفلك الآن عن كبر حجم الشمس بالنسبة إلى أرضنا أكثر من مليون مرة ؟ والشمس إحدى ملايين الشموس التي تكبر شمسنا هذه بملايين المرات ، ألا يحدثنا هؤلاء العلماء عن شموس كثيرة في هذا الفضاء الرحب لم يصل إلى الأرض نورها حتى الآن منذ مليون أو أكثر من السنوات الضوئية ؟ أيصدق العقل مثل هذه الأمور العلمية التي يكشف عنها العلماء في هذا العصر ؟ ولولا أنها مما يذيعه أولئك العلماء ويثبتونه بالأدلة ما أمكن للعقل أن يصدق بها .
__________
(1) راجع : السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 35 , 36 .
(2) - مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها 4 / 481 رقم 2826 .(1/58)
فكيف يصدق البعض أن يعرف العلماء سعة هذا الكون العجيب إلى حد لا يصل إليه خيال أكبر عقل إنساني على وجه الأرض ؟ ثم لا يصدق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتصل بوحي السماء والذي يستمد علمه من علم الله من خالق هذا الكون العجيب - يقول إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة؟
وما هي هذه السنون المائة بجانب هذه الملايين من السنين الضوئية ؟
ليست المشكلة مع أبي رية وأمثاله مشكلة استعمال العقل أو تركه ، ولا هي مشكلة تأليه العقل المخلوق ، أو عبوديته للخالق ؟ إن هؤلاء الأحرار ، العباقرة في الشريعة يريدون أن يؤلهوا عقولهم معها ، ويتخلوا عن عقولهم مع غيرها ؟
وخذ لذلك مثالاً آخر مما استغربه عقل البعض ولم يستطع استيعابه :
حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ، وسقطهم ؟ قال الله تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط فهنالك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض " (1) .
ونحن لا ندري ما وجه استنكار هذا الحديث ؟
فهل وجه الإنكار في هذا الحديث أن الله عز وجل يضع رجله في النار ؟ فقد جاء في القرآن إثبات اليد ، والوجه ، والعين وغير ذلك لله تعالى ، ومذاهب العلماء معروفة في مثل هذه الألفاظ .
__________
(1) - البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى : وتقول هل من مزيد 8 / 460 رقم 4850 ، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4 / 492 رقم 2846 .(1/59)
فالسلف يقولون بها من غير تأويل مع تنزيه الله عن مشابهته للبشر ، والخلف يذهبون إلى تأويلها مع تنزيه الله عن مشابهته للبشر ، وهو المبدأ الذي يسلم به الجميع ، وما يقال في القرآن يقال مثله في الحديث .
وإن كان الاستنكار لتكلم الجنة والنار فقد جاء في القرآن أن الله تعالى قال للسموات والأرض : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا tûüدèح !$sغ } (1) .
وفي القرآن الكريم أيضاً : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } (2) .
وبالجملة فإن تحكيم العقل في مسألة الألوهية وصفاتها من سخافة العقل نفسه ، ولا تؤدي عند هؤلاء المغترين بعقولهم إلا إلى الإلحاد غالباً .
فخير للعقل أن يفكر فيما يستطيع التفكير فيه ، من أن يحاول التفكير في أمور الغيب التي لا يعلمها إلا خالق العقل .
وإذا كان العقل لا يزال عاجزاً عن معرفة سر الحياة في الإنسان نفسه فكيف يستطيع أن يعلم حقيقة خالق هذا الكون كله ؟ أترى تستطيع النملة التي تدب في سفح جبال الهملايا أن تحيط بارتفاع هذه الجبال وسعتها وقطرها ؟ .
وصدق الشاعر أحمد الصافي النجفي حين قال :
يعترض العقل على خالقٍ ... *** ... من بعض مخلوقاته العقل
... ... ...
7- تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
__________
(1) - فصلت : 11 .
(2) - ق : 30(1/60)
من الأخطار التي قد تتعرض لها السنة بأيدي أبناء الإسلام ما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجوده حينما قال : " يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين " (1) .
فقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أن من وظيفة علماء الأمة ومهمتهم : الدفاع عن السنة ، وحمايتها من الغالين ، والمبطلين ، والجاهلين .
وهذه معاول هدم ثلاثة تعرضت لها السنة قديماً وحديثاً فشوهت صورتها ، وعكرت بهائها وضيائها .
أول هذه المعاول هو : الغلو والتشدد والتنطع الذي هلك به من كان قبلنا من أهل الكتاب والذي يخالف روح الإسلام المبني علي التيسير والسماحة قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2) .
فتتحول النصوص إلى آلات تعذيب ، وأدوات إرهاق وتعب وإعنات ، مع أن الإسلام دين رحمة وسماحة ولكنها بعض النفوس المريضة التي تحب الشدائد وتكره الرخص ، وتفتي بالأحوط ، وتدع الأيسر ، وتؤول النصوص لتوافق طبيعتها القاسية فتشوه صورة السنة وتخالف روح الإسلام ومضمونه .
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر 1 / 59 رقم 215 ، والطبراني في مسند الشاميين 1 / 344 رقم 599 ، والديلمي في مسند الفردوس 5 / 537 رقم 9012 ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 17 ، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 1/128 وذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1 / 163 ، 164 وقواه لتعدد طرقه ، وكذلك العلامة ابن الوزير الذي استظهر صحته أو حسنه لكثرة طرقه مع ما نقل من تصحيح الإمام أحمد والحافظ ابن عبد البر له مع سعة إطلاعهم وأمانتهم ، وهذا يقتضي التمسك بهم . انظر : الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1 / 21 - 23 ، طبعة دار المعرفة - بيروت .
(2) - البقرة : 185 .(1/61)
فالغلو في العقيدة ، أو العبادة ، أو السلوك يخالف روح الإسلام ، ويصطدم مع مقاصده الرئيسة ، ويتنافى مع الوسطية التي تميز بها هذا الدين ، والسماحة التي وصفت بها هذه الملة الحنيفية ، واليسر الذي اتسمت به التكاليف في هذه الشريعة .
والتيسير يتناسب مع روح الشريعة الإسلامية السمحة ، وواقعيتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان ، فهو مطلوب شرعاً في ذاته ، وليس مجرد استجابة لضغط الواقع ، أو تناغماً مع روح العصر كما قد يتصور بعض الناس ، فالشريعة الإسلامية مبناها على اليسر لا على العسر ، وتعليمها للناس مبني على التيسير لا على التعسير ، والدعوة إليها قائمة على التبشير لا على التنفير .
أما ابتناء الشريعة على اليسر فهو واضح غاية الوضوح من خلال آيات القرآن ، فمن ذلك قوله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (1) فلا يكلف الله الناس إلا بما يطيقون ، ولا يكلفهم إلا بما يستطيعون ، وإذا كان الأمر شاقاً وُجِد التيسير، ومن قواعد الأصوليين : " المشقة تجلب التيسير ".
ومن يتتبع رخص الإسلام في إباحة التيمم عند فقد الماء ، فإن عجز فالصلاة فاقد الطهورين ، وقصر الصلاة وجمعها في السفر ، والصلاة قاعداً أو نائماً عند عدم القدرة على القيام ، وإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض ، والتخفيف عن الحاج ظاهر واضح ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سُئل عن شيء فُعل قبل شيء قال : " افعل ولا حرج " (2) ، يعلم يقيناً أن قواعد الإسلام مبنية على التيسير والتخفيف وليس التعسير والتشديد .
قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (3) .
__________
(1) البقرة : 286 .
(2) البخاري كتاب العلم باب الفتيا وهو واقف على الدابة 1 / 217 رقم 83 ، ومسلم كتاب الحج باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي 2 / 948 رقم 1306 .
(3) سورة البقرة ( 185 ) .(1/62)
فهذه القاعدة الكبرى في تكاليف عقيدة الإسلام كلها ، فهي ميسرة لا عسر فيها ، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد ، سماحة تؤدى معها كل التكاليف ، وكل الفرائض ، وكل أنشطة الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء مع الشعور الدائم برحمة الله تعالى ، وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين (1) .
ويقول تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) } (2) .
وينفي الحرج عن الدين نفياً عاماً بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (3) ، وحسبنا هذه الآية العامة المطلقة يخاطب الله بها رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - فيقول له : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً ڑ ْüدJn="yèù=دj9 } (4) .
واقتباساً منها جاء قوله عليه الصلاة والسلام : " يا أيها الناس إنما أنا
رحمة مهداة " (5) .
وعلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ذلك وربَّاهم عليه ، فحين هموا بالأعرابي الذي بال في المسجد قال لهم : " لا تزرموه - أي لا تقطعوا عليه بولته - وصُبُّوا
عليه ذَنوباً من ماء فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين " (6) .
__________
(1) في ظلال القرآن ( 1 / 172 ) .
(2) سورة النساء ( 28 ) .
(3) سورة الحج ( 78 ) .
(4) سورة الأنبياء ( 107 ) .
(5) رواه الحاكم في المستدرك ( 1 / 91 ) رقم 100 ، وصححه ووافقه الذهبي ، والدارمي في المقدمة باب كيف كان أول شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 1 / 21 ) رقم 15 .
(6) البخاري كتاب الأدب باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يسروا ولا تعسروا ، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس ( 10 / 541 ) رقم 6128 .(1/63)
ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن زودهما بوصية جامعة مختصرة قال فيها : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا " (1) .
فهذه هي شريعة الإسلام : تيسير لا تعسير فيه ، وتبشير لا تنفير معه وتطاوع لا اختلاف فيه ، وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ قاله تعليماً للأمة كلها فيما رواه عنه أنس قال : " يسروا ولا تعسروا ، بشروا ولا تنفروا " (2) .
فأين هذه المعاني من بعض الذين يبحثون عن كل صعب وعسير ليقدموه للناس على أنه الإسلام ، وساحة الإسلام بريئة منه ، والغالب أن هذا العسر الصادر من بعض من يدعي العلم إنما هو سلوك صادر من النفس الأمارة بالسوء قال تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (3) .
وهو استدراج من الشيطان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا : " أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " (4) ولذلك كانت العصمة من ذلك هي : الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صغير الأمر وكبيره ، فما خُيِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه .
__________
(1) البخاري كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب ( 6 / 188 ) رقم 3038 ، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير ( 3 / 1359 ) رقم 1733 .
(2) البخاري كتاب الأدب باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا ( 10 / 541 ) رقم 6125 ، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير ( 3 / 1359 ) رقم 1734 .
(3) سورة المؤمنون ( 71 ) .
(4) البيهقي في السنن الكبرى ( 3 / 18 ) رقم 4520 ، ومسند الشهاب للقضاعي ( 2/ 184 ) رقم 1147 ، والزهد لابن المبارك ( 1 / 451 ) رقم 1178 .(1/64)
من ذلك كله نستخلص قاعدة هامة : هي وجوب الوقوف عند حد الشارع من عزيمة ورخصة ، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له .
والمجتمع الإسلامي الأول كانت الصفة المميزة له هذا التيسير على الناس حتى أصبح سلوكهم في العبادات والمعاملات ميسراً .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كان تاجر يُداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه " (1) .
وكانوا يلومون على المشددين ويلفتون أنظارهم إلى سماحة الإسلام ويسره فعن أبي موسى الأشعري أنه كان يشدد في البول ويقول : إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه .
فقال حذيفة : ليته أمسك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائماً (2) .
فأنت ترى قول حذيفة رضوان الله عليه : ليته أمسك حين شعر بشدة أبي موسى وقال : إن الأمر ليس هكذا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً .
وفي رواية الإسماعيلي قال حذيفة : لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد ، واحتج حذيفة بهذا الحديث لأن البائل عن قيام قد يتعرض للرشاش ولم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الاحتمال فدل على أن التشديد مخالفة للسنة .
وثاني هذه المعاول هي محاولة أهل الباطل والهوى أن يدخلوا علي الإسلام ما ليس منه من نافذة السنة المطهرة عن طريق الدس والافتراء ، ولكن حفاظ الأمة سدوا عليهم هذه الأبواب ، ووضعوا شروطاً دقيقة لقبول الحديث فميزوا بين الأصيل والدخيل ، وبين الحق والباطل .
__________
(1) البخاري كتاب البيوع باب من أنظر معسراً ( 4 / 361 ) رقم 2978 ، ومسلم كتاب المساقاة باب فضل إنظار المعسر ( 3 / 1196 ) رقم 1562 .
(2) البخاري كتاب الوضوء باب البول عند سباطة قوم ( 1 / 394 ) رقم 226 ، ومسلم كتاب الطهارة باب المسح على الخفين ( 1 / 228 ) رقم 273 .(1/65)
فلم يقبلوا حديثاً بغير سند ، ولم يقبلوا سنداً دون أن يعرفوا رواته واحدا واحدًا ، فيعرفون عين الراوي وحاله ، من مولده إلى وفاته ، ومَن شيوخه ، ومَن تلاميذه ، ومَن رفاقه ، وما مدى أمانته وتقواه ، وما مدى حفظه وضبطه ، وما مدى موافقته للثقات المشاهير ، أو انفراده بالغرائب ؟ .
ولهذا قال محمد بن سيرين : الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء (1) .
وقال أيضاً : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل الحديث فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (2) .
وقال سفيان الثوري : الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل .
وقال الإمام الزهري : من أراد الحديث بغير إسناد كان كم أراد أن يرتقي السطح بلا سلم .
فشرطوا لقبول الحديث أن يكون متصل السند من أوله إلى آخره بالرواة العدول الضابطين من غير فجوة ظاهرة أو خفية ، مع ضرورة السلامة من الشذوذ والعلل القادحة ، فميزوا المقبول من المردود ، والصحيح من السقيم .
ومعول الهدم الثالث هو : سوء تأويل النصوص الثابتة فيتقدم ما حقه التأخير أو يتأخر ما حقه التقديم ، ويخرج من أحكام الإسلام ما هو من صلبه ويضاف إليه ما ليس منه .
ومعظم الفرق الضالة والأفكار المنحرفة عن الإسلام آفتها سوء تأويل النصوص .
__________
(1) - مقدمة صحيح مسلم ص 14 .
(2) - مقدمة صحيح مسلم ص 15 .(1/66)
قال ابن القيم في كتاب الروح : ينبغي أن يُفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مراده من غير غلو ولا تقصير ، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله ، بل سوء الفهم عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ، ولاسيما إن أضيف إليه سوء القصد ، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده ، وسوء القصد من التابع ، فيا محنة الدين وأهله والله المستعان .
وهل أوقع القدرية ، والمرجئة ، والخوارج ، والمعتزلة ، والجهمية ، والروافض ، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام ، والذي فهمه الصحابة رضي الله تعالي عنهم ومن تبعهم عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فمهجور لا يُلتفت إليه ، ولا يرفع هؤلاء به رأساً .
حتى قال : حتى إنك لتمر علي الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مراده كما ينبغي في موضع واحد ، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه علي ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علي ما اعتقده وانتحله وقلّد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئاً ، فدعه وما اختاره لنفسه ، وولّه ما تولي ، واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاه به .
وقد يصل سوء الفهم بصاحبه أن يرد الأحاديث الصحيحة زاعماً مخالفتها لآيات القرآن وقواعد الدين ، وقد ضربنا أمثلة لذلك ونزيد الأمور وضوحاً فنقول :(1/67)
قرأ بعضهم حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " (1) ففهم أن المراد بالتجديد هو : تغيير الدين فقال : الدين لا يتغير ، والحديث موضوع مكذوب وإن صححه علماء الحديث .
ولو أنصف هذا القائل لعلم أن المراد بالتجديد هو : تجديد فهم الإسلام والعمل به ، والعودة إلي منابعه الأولى ، وصورته الأصلية التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ بعضهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا ربه قائلاً : " اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين " (2) .
ففهم أن المراد بالمسكنة : الفقر وشدة الحاجة ، وهذا مناف لاستعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر وبناءً على هذا الفهم : فالحديث موضوع .
ولو أنصف هذا القائل ، وتروَّى في دراسة الموضوع ، وطالع كلام العلماء علي الحديث لعلم أن المراد بالمسكنة : التواضع ، وهو من أخلاق الإسلام التي يحرص المسلم على التخلق بها .
__________
(1) - أبو داود كتاب الملاحم باب ما يُذكر في قرن المائة 4 / 106 رقم 4291 ، والحاكم في المستدرك 4 / 568 رقم 8593 وصححه ، والطبراني في المعجم الأوسط 6 / 324 رقم 6527 ، وقال الحافظ العراقي وغيره : سنده صحيح ، ورمز السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته .
(2) - الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم 4 / 157 رقم 2359 وقال : هذا حديث غريب ، الأحاديث المختارة للضياء المقدسي 8 / 270 ، والبيهقي في السنن الكبرى 7 / 12 رقم 12930 والحديث صححه : الحاكم ، وعدّه ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال السيوطي : قال الحافظ صلاح الدين بن العلاء : الحديث ضعيف السند ولكن لا يحكم عليه بالوضع ، وقال الحافظ بن حجر : قد حسنه الترمذي لأن له شاهداً .(1/68)
قال ابن الأثير : أراد به التواضع والإخبات ، وألا يكون من الجبارين المستكبرين (1) .
قال الشيخ الغزالي : وأكثر الظلم الذي وقع على السنة أصابها من أن حديثاً من الأحاديث قُدِّر له أن يعمل في نطاق معين فجاء بعض القاصرين وحرّفه عن موضعه بالتعميم والإطلاق (2) .
وهذا كلام جيد ولكن تحديد نطاق عمل الحديث لا يحدده أصحاب الأهواء قليلي العلم والمعرفة ، وإنما يحدده علماء السنة ، الراسخون في العلم وفق علوم الإسلام ومعارفه حتى لا نهمل الأحاديث أو نسيء فهمها .
8- سوء استخدام الحاسب الآلي ( الكمبيوتر )
انتشر في السنوات الأخيرة استخدام الحاسب الآلي والاعتماد عليه في كثير من مجالات الحياة ، وهو تطور محمود للحضارة الحديثة ، فقامت كثير من الشركات بوضع كتب السنة ، وشروحها ، والكتب المؤلفة في مجال السنة علي أقراص خاصة بذلك ، فأصبح من السهل أن تقتني عشرات بل مئات الكتب بمجرد اقتنائك لأحد هذه الأقراص مع إمكانية تخريج النصوص ، والوقوف على أماكنها داخل هذه الكتب .
ولا شك أن في هذا خيراً كثيراً ، وفوائد عديدة ، وخدمات جليلة للعلم وأهله ، ولكن المبالغة في استخدام الحاسب الآلي ، والاعتماد الكامل عليه في الأمور المتعلقة بالسنة قد يترتب عليه من الضرر ما ينبغي أن نحذر منه من أخطر هذه الأضرار :
__________
(1) - النهاية في غريب الحديث 2 / 346 .
(2) - ليس من الإسلام ص 43 .(1/69)
1) إهمال الكتب وعدم اقتنائها والاكتفاء بوجودها علي الحاسب الآلي فأصبحت تجد طالب العلم بدلاً من حرصه على اقتناء الكتب يحرص علي اقتناء أقراص الحاسب التي تحوي مئات الكتب خاصة مع غلاء أسعار الكتب ورخص أسعار هذه الأقراص ، وبهذه الطريقة يُحرم الإنسان من خير كثير ، فقديماً كان الصحابة يتحرجون من كتابة الأحاديث خشية أن يعتمد المسلم علي الكتابة ويهمل الحفظ اعتماداً علي وجود الأحاديث في الكتب وإمكانية الرجوع إليها وقت الحاجة ، وقد وقع الذي ظنوه فازداد الاعتماد علي الكتب والاهتمام بالتدوين وقلَّت العناية بالحفظ ثم بدأ الاعتماد علي الكتب يقل أيضاً اعتماداً علي وجودها علي الحاسوب ، وهذا الأمر مرشح للاستفحال والزيادة بحيث يخشى إهمال الكتب تماماً والاعتماد علي وجودها علي الحاسوب مما يحرم المسلم من خير كثير يحصل عليه عند مطالعة الكتب .
2) اعتماد كثير من طلبة العلم في نقل المعلومات وتوثيقها علي الحاسوب فقط ، وقد ساعد هذا طلبة العلم في الحصول علي المعلومات في أماكنها وبسرعة فائقة ، ولكن هذه الطريقة تحرم طالب العلم من الرجوع إلي الكتاب فيعرف موضوعه وأبوابه ، ولعله يقف أثناء بحثه بداخله علي معلومة يستفيدها ، أو حكمة يلتقطها ، وقد يعجبه الكتاب فيقرأه كله .
3) أضف إلي هذا أن كثيراً من الشركات العاملة في هذا المجال لا يهمها إلا الربح المادي ، وتنقصها الأمانة العلمية فقد يختصرون الكتاب أو يحذفون بعض الجمل منه دون إشارة إلي ذلك ، وقد يحذفون أقوال المحققين وفيها خير كثير ، وكم من معلومة أو حديث أنكر طالب العلم وجوده في كتاب معين اعتماداً علي الحاسوب وهو موجود في الكتاب .
وهذا لا يعني عدم الاستفادة من الحاسوب فهذا ضرب من التخلف لا نرضاه ولكننا يجب أن نستفيد منه خاصة إذا كنا في مجال البحث العلمي ، بشرط أن لا يؤدي الاعتماد عليه إلى الاستغناء عن الكتب ، أو الاعتماد الكامل عليه في توثيق المعلومة .(1/70)
كما أننا ننصح الشركات العاملة في هذا المجال بمراعاة الأمانة العلمية ، وإثبات المنهج الذي تتبعه في نقل الكتب ، والاستفادة من أهل الذكر في هذا المجال .
كما نوصي علماء السنة و أهل الحديث بضرورة الاستفادة من هذا التطور العلمي الهائل الذي كفله الحاسوب لأنه يوفر كثيراً من الجهد والوقت مع مراعاة الضوابط التي أشرنا إليها .
الفصل الثاني
السنة في مواجهة الشبهات
تمهيد
الإسلام بصورته الأخيرة التي جاء بها خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الدين الكامل الذي ارتضاه الله لعباده وأتمَّ عليهم به نعمته وقال لهم : { t الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) .
وقد قيَّض الله لهذا الدين عوامل عدة تضمن بقاءه وخلوده من أهم هذه العوامل :
__________
(1) المائدة : 3 .(1/71)
1) أن الله جعل معجزته خالدة باقية ، وجعلها وحياً أوحاه الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت معجزات الأنبياء قبله حسية فأراد الله أن تكون معجزة آخر أنبيائه وحياً خالداً تحدى الله خلقه جميعاً أن يأتوا بمثله وقال لهم : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } (1) فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل أصغر سورة منه فقال لهم : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) } (2) فعجزوا ، وانقرضت معجزات الأنبياء بانقراض أعصارهم ، ولم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرة دائمة ومتجددة إلى قيام الساعة فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه ما يدل على أنه كتاب الله ووحيه وهداه ، ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً " (3) .
وكان الله سبحانه وتعالى يستحفظ الأمم السابقة كتبهم المقدسة
{ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } (4) فكانوا يبدلون ، ويغيرون ، ويحرفون فأراد الله عز وجل أن يضمن للأجيال المتعاقبة من خلقه بقاء هذا الدين خالياً من التحريف والتشويه فتولى حفظ القرآن الكريم قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } (5) .
__________
(1) الإسراء : 88 .
(2) البقرة : 23 .
(3) البخاري كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحى وأول ما نزل 8 / 618 رقم 4981 ، ومسلم كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس 1 / 134 رقم 152 .
(4) المائدة : 44 .
(5) الحجر : 9 .(1/72)
ثم تولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مهمة بيان وتوضيح معانيه للمسلمين { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1) .
فالقرآن الذي نزل به جبريل الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - هو نفس القرآن الذي بين أيدينا بكلماته وحروفه ، ولا تزال كلمة السماء صافية نقية يخاطب الله بها عباده ويضمنها شرعه وهداه .
2) كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة ، ويأتيهم بشرع محدود يناسب بيئتهم وطبيعتهم فبعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (2) وجعله المثل الأعلى والقدوة الحسنة لكل مسلم .
ولذلك فقد امتدت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - طولاً وعرضاً وعمقاً حتى غدت حياته شاملة لكل النواحي الإنسانية ، والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث إنه فرد مستقل بذاته ، أو من حيث إنه عضو فعال في المجتمع .
فما من حالة يمر بها مسلم إلا وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يشبهها وشرع فيها ما يناسبها ، ولذلك قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (3) .
__________
(1) النحل : 16
(2) الفرقان :1 .
(3) الأحزاب : 21 .(1/73)
فهو النموذج الكامل ، والمثل الأعلى لكل إنسان فحياته - صلى الله عليه وسلم - تقدم لنا نماذج سامية للشاب المستقيم في سلوكه ، الأمين مع قومه وأصحابه ، كما تقدم لنا النموذج الرائع للداعية الراشد الذي يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والذي يبذل منتهى طاقته في سبيل إبلاغ رسالته ، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة ، وللزوج المثالي في حسن معاشرته ، وللأب الفاضل في حنو عاطفته ، وللقائد الحربي الماهر ، وللسياسي المحنك ، وللمسلم الجامع في دقة واعتدال بين واجب التعبد والتبتل لربه والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه ، علَّمنا كيف نحرص على مرضاة الله ولا ننسى نصيبنا من الدنيا ، كان مثلاً أعلى في أبوته وبنوته ، وزواجه وطلاقه ، وجوعه وشبعه ، وحزنه وفرحه ، وفقره وغناه ، وانتصاراته وهزائمه كان مثلاً أعلى في تعامله مع أصدقائه ، وأعدائه ، وزوجاته ، وبناته ، حاز الشرف كله ، وجمع الكمال البشري من جميع أطرافه ولذلك قال الله عنه : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (1) .
فمن أراد أن يعيش مع البشرية في قمتها السامقة وأفقها العالي فلن يجدها إلا عند محمد - صلى الله عليه وسلم - .
كان لا يتكلم إلا حقاً ، قال عنه خالقه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } (2) .
__________
(1) القلم : 4 .
(2) النجم : 3 ، 4 .(1/74)
وقال هو عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق " (1) ، وكان لا ينطق إلا صدقا ، كان لا يرضى لنفسه إلا بمعالي الأمور ويكره سفسافها ، ولا يقبل أن يكون أحد أحسن جواباً منه ، ولذلك كانت سنته هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى ، وكانت سيرته هي المثل الأعلى للإنسان الكامل والنبي المعصوم ، في سنته حل لكل مشكلة ، وإجابة على كل سؤال .
3) قيَّض الله لهذا الدين علماء صدق نفوا عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، وكانوا أوفياء لدعوتهم ، أمناء على سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً بالصحابة الكرام الذين اختارهم الله لصحبة نبيه فحملوا الأمانة ، وبلَّغوا الرسالة ، وصدق فيهم قول عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه - صلى الله عليه وسلم - يقاتلون عن دينه (2) .
__________
(1) أبو داود كتاب العلم باب في كتاب العلم 3 / 317 رقم 3646 ، وأحمد في المسند 6 / 68 رقم 6510 ، وقال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح .
(2) أحمد في مسنده 3 / 505 رقم 3600 ، وقال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح ، والطبراني في المعجم الكبير 9 / 112 رقم 8582 ، وقال الهيثمي : رجاله موثقون مجمع الزوائد 8 / 253 .(1/75)
وقال عنهم أيضاً : أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم (1) .
فضربوا أروع الأمثلة في حمل الإسلام ، والدفاع عنه ، والتضحية من أجله بالغالي والرخيص فخلَّد الله ذكرهم ، وأثنى عليهم في كتابه .
قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } (2) .
وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3) .
ولذلك صدق بعض الأصوليين في قوله : لو لم تكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة إلا أصحابه لكفت في إثبات نبوته (4) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2 / 97 ، جامع الأصول لابن الأثير 1 / 292 .
(2) التوبة : 100 .
(3) الحشر 8 ، 9 .
(4) الفروق للقرافي 4 / 170 .(1/76)
فكانوا مُثُلاً عليا في صدق الاقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، ونقل كل ما يتعلق به من أقوال ، وأفعال ، وتقريرات ، وصفات .
نقلوا أحواله وأعماله حتى ما تركوا شاردة ولا واردة إلا وبلَّغوها لمن بعدهم ، جعلهم الله أداة حفظ السنة النبوية فإن ضمان الله بحفظ القرآن يستلزم حفظ ما يُبيِّنه ، ثم أخذ التابعون الأمر بقوة ، ونشروا النور في جنبات الكون وأشاعوا دعوة الإسلام في أركانه ، وفتحوا المعمورة باسم الإسلام فتوطد البناء واستحكم الصرح ، وأشرقت الأرض بنور ربها .
اجتثوا الباطل من جذوره ، وحكموا الدنيا باسم الإسلام ، ورفعوا راية القرآن عالية خفاقة .
وهذا لا يعني بالطبع أن هذه القرون كانت قرون خير محض بل المراد : أن خيرها كان أغلب من شرها ، وحقها أكثر من باطلها ، وعدلها أغلب من ظلمها .
ولكن الله عز وجل شاءت إرادته أن تستمر المواجهة بين الحق والباطل ما دامت السماوات والأرض ، وما بقى الليل والنهار ، فقد يضعف صوت الباطل ولكنه لا يموت ، وقد تكسر رايته ولكنها لا تباد ، فبدأ أعداء الإسلام يكيدون له ، ويخططون لتدميره بأيديهم وأيدي بعض أبنائه ، فقُتل الخليفة المظلوم عثمان بن عفان ، وأطلَّت الفتن برأسها ، ثم ظهرت الفرق السياسية والصراعات المذهبية ، ولكن الحق أبلج فاستعصى نوره على الإطفاء ، وقيَّض الله لهذا الدين علماء صدق ردوا الأفاعي إلى جحورها ، وأخرسوا ألسنة الباطل فردوا الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام ، وكشفوا عوار باطلهم ، وضعف منطقهم ، ودحضوا حججهم فأقبل الناس على الإسلام يدخلونه أفواجاً بعد أن تبين الصبح لكل ذي عينين .(1/77)
ولكن الأيام دُوَل ، والحرب سجال فدالت الأيام على المسلمين لضعف تمسكهم بدينهم فسقط حصنهم السياسي ، وذهبت ريحهم ، وضاعت هيبتهم ، أحبوا الدنيا وكرهوا الموت فنزع الله المهابة من قلوب أعدائهم وقذف في قلوبهم الوهن ، فتجرأ أعداء الإسلام عليه ، واعتبروه سبب كل شر في الكون ، وأصل كل فساد وكالوا التهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، ونفثوا سمومهم ووجهوها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تارة ولأصحابه تارة أخرى ، للقرآن تارة ، وللسنة تارة أخرى ، وقد ساعدهم على ذلك : ضعف المسلمين السياسي ، والعسكري ، والثقافي ، وجهل الكثيرين منهم بأحكام الشريعة ، ومبادئ الإسلام ، وسيرة نبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - مع خواء في الروح وإحساس بالضعف والهوان ، وجهل بقيمة هذا الدين ، وجهل بما يدبره أعداء الإسلام لهم من مكائد وشبهات ، وما يحيكونه من مؤامرات ليصدوا عن سبيل الله .
فانهالت الشبهات على الإسلام ، ونشأ جيش من المستشرقين الذين يقومون بدراسة الإسلام للطعن فيه ، وإيراد الشبهات عليه ، فوجهوا شبهاتهم نحو القرآن تارة ، ونحو السنة تارة أخرى رغبة منهم في تحطيم مقدسات المسلمين ، ونزع الثقة بها .
وقد عظُم الخطب وادلهم الأمر حينما روَّج المستشرقون هذه الشبهات في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ، ونتيجة الأسباب التي ذكرناها من جهل بأحكام الشرع ، وانهزام روحي صدََّقها بعض المسلمين بل قام بعضهم بالترويج لها بعد نسبتها إلى المستشرقين تارة ، أو بادعاء أنها من بنيات أفكارهم تارة أخرى ، ثم ترتب على هذه الشبهات المطالبة بتنقية التراث الإسلامي - خاصة البخاري ومسلم اللذين تلقتهما الأمة بالقبول - من هذه الأباطيل بزعمهم ومراجعة التراث الإسلامي كله وفق ما ترتضيه الحضارة الغربية المعاصرة .(1/78)
ولهذا وجب على علماء المسلمين أن يتصدوا لهذا السيل من الشبهات لبيان زيفها ، وهدم أركانها ليظهر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً .
وهذه الشبهات تقوم في أساسها على أحد أمرين :
الأول : روايات باطلة ، وأحاديث مكذوبة تناقض المعقول ، أو تخالف الأصول ، ولهذه الشبهات وضع العلماء علم : مصطلح الحديث الذي يميزون بقواعده بين المقبول والمردود ، ويكفي للرد على هذا النوع من الشبهات بيان أنها موضوعة باطلة ، ولكن أصحاب الشبهة يتخيلون صحتها ثم يحاولون إثبات بطلانها رغبة منهم في نزع ثقة الناشئة بالإسلام ، وليترسخ في أذهانهم أن الإسلام يحتوي على حق وباطل ، وصحيح وخطأ ، فتضطرب الموازين ، وتختل المعايير ، ويفقد المسلم ثقته بدينه ، وقد كان يكفي لمواجهة أمثال هذه الشبهات ردها إلى الراسخين في العلم قال تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1) .
وقال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) } (2). ولكن الذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة .
نسب بعضهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفا " ثم ذكر أن هذا الحديث يدل على جهل قائله بالحقائق الجغرافية .
ولو أنصف هذا القائل وردَّ العلم إلى أهله لعلم أن هذا الذي يزعم أنه حديث هو مكذوب مختلق فهو بلغة المحدثين باطل موضوع .
ونسب بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن النساء : " شاوروهن وخالفوهن " ثم قال : وهذا احتقار للمرأة وظلم لها واستهانة بعقلها .
__________
(1) النساء : 83 .
(2) الأنبياء : 7 .(1/79)
ونسي هذا الكاتب أن يسأل عن صحة نسبة هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو فعل لأخبره أهل العلم أنه حديث باطل موضوع لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا ، ولا فعلا ، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحترم المرأة ، ويقدرها ، ويستشيرها ، ولو شئت أن أورد لك عشرات الشبه التي بناها أصحابها على أحاديث موضوعة لفعلت ولكن في التمثيل غنى عن التفصيل .
الثاني : سوء فهم للنصوص الصحيحة الثابتة من القرآن والسنة لعدم أهليتهم لفهمها واستيعابها ، فيعيبون الإسلام والعيب فيهم ، قلوبهم مريضة ، وأنظارهم كليلة ، وأفهامهم سقيمة ، فهم كالذباب لا يقعون إلا على النتن فيخطفون العلم خطفاً ، ولو كانت عندهم أفهام العلماء لميزوا بين الحق والباطل ولوضعوا الأمور في نصابها ، ولأعطو القوس باريها .
فالتعامل مع النصوص الشرعية يحتاج حتماً إلى معرفة باللغة العربية وأساليب العرب في كلامها ، ويحتاج إلى جمع النصوص المتعددة الواردة في الموضوع الواحد وفهم الموضوع في ضوئها جميعاً ، مع معرفة تامة بمقاصد الشريعة وإن لم تتوفر هذه الأمور
فدع عنك الكتابة لست منها ... ... وإن سودت وجهك بالمداد
زعم بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم أكل الثوم تحريماً قاطعاً مع أن العلم الحديث أثبت أن في الثوم فوائد غذائية وطبية كثيرة .
وهذا فهم سقيم ، وجهل بالأحكام الشرعية ، وكذب مفضوح يدل على جهل قائله ، فأكل الثوم والبصل والفجل جائز ، ولكن على آكلها ألا يؤذي المجتمع برائحة فمه ، ويستطيع أن يبتعد عن غيره ، ويقوم بأي عمل فردي , وتسقط عنه صلاة الجماعة في المسجد .
بل قال العلماء : إن الأبخر تسقط عنه صلاة الجماعة رحمة بالآخرين ، وهذا يدل على عظمة الإسلام ، وحرصه على النظافة والطهارة ، واحترامه لحق المجتمع ، وتقديمه على حق الأفراد ، ومن عجب أن تتحول المحامد مساوئ ، والفضائل عيوباً .(1/80)
وذكر بعضهم حديث : " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " (1) وكذبه قائلاً : الحمى ليست من فيح جهنم بل هي من فيح الأرض ، وما فيها من قاذورات تساعد على تولد الجراثيم .
وهذا فهم عجيب يدل على جهل فاضح بلغة العرب ، وأساليبها في الكلام فالحديث صحيح ، وما قاله ليس ردا على الحديث ، فإن الحمى مهما كان سببها ترفع درجة الحرارة ، وتكاد تصدع الرأس بآلامها ، فإذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها من فيح جهنم على سبيل التشبيه ، وأوصى أن تخفض درجة الحرارة بالمبردات ، فهو محق .
وسأورد لك بعض الشبهات التي يتبين لك من خلال معرفتها ودراسة الرد عليها كم هي خليط من أحاديث موضوعة ، وأفهام خاطئة ، ونيات فاسدة مع جهل بأحكام الشرع لتزداد ثقة بدينك وقناعة بالقرآن والسنة النبوية المطهرة { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (2) .
والله يهدينا إلى سواء السبيل .
شبهة تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -
1) عرض الشبهة والرد عليها
تكلم المستشرقون وأعداء الإسلام كثيراً حول تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهوانية ، والحرص على المتعة ، وجموح العاطفة ، والغرق في اللذة الجسدية ، وأفاض في هذا الموضوع كثيرون من خصوم الإسلام .
فتصدى لهذه الشبهة كثير من علماء الإسلام قديماً وحديثاً ، فأظهروا الحق ، وكشفوا الباطل ، وكثرت الكتب والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع حتى أصبح من المسلّم به في كثير من الأوساط العلمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع بين هذا العدد من النساء إلا لحِكَم بالغة ، وأهداف سامية كلها تنصبُّ في مصلحة دعوته ، ونشر رسالته .
__________
(1) البخاري كتاب الطب باب الحمى من فيح جهنم 10 / 184 رقم 5723 ، ومسلم كتاب السلام باب لكل داء دواء واستحباب التداوي 4 / 1731 رقم 2209 .
(2) المدثر : 31 .(1/81)
ويكفي في الرد على هؤلاء أن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة خديجة وعمره خمس وعشرون سنة ، وكانت تكبره بخمس عشرة سنه ، وقضى معها زهرة شبابه ، وربيع عمره ، ولم يتزوج غيرها حتى توفيت بعد خمس وعشرين سنة ، وبعد أن جاوز الخمسين من عمره ، وقد نزلت عليه الرسالة ، وشغلته الأحداث الجسام ، ولو كان من الراغبين في المتعة لكان شبابه أجدر بذلك من شيخوخته ، وفراغه أجدر بذلك من شغله ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بعد السيدة خديجة إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره فأي شهوة ومتعة يبحث عنها الإنسان في هذا السن ؟ .
أضف إلى ذلك أن البحث عن المتعة يستلزم أن يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أبكاراً جميلات ، ولكن الواقع يشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معنياً بالسن أو الجمال بقدر اعتنائه بالمصلحة التي تعود على دعوته ، والقدوة التى يقدمها لأصحابه من وراء زواجه .
ويكفي أن تعلم في هذا السياق أن أول امرأة تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد السيدة خديجة هي السيدة : سودة بنت زمعة التي مات زوجها بعد عودتها من الهجرة إلى الحبشة ، ولم يكن لها مأوى بعد موته إلا أن تعود إلى أهلها فيُكرهونها عل الردة ، وكانت متقدمة جداً في السن حيث كانت تبلغ السبعين من عمرها مع خلو يدها من المال ، وليست من ذوات الجاه ، وليس معها من الجمال ما يغري الرجال بتزوجها ، أمثل هذه يتزوجها راغب في متعة حريص على لذة ؟ أم يتزوجها نبي ليمنحها شرفاً بزواجه منها ، ويرد الاعتبار لنساء مسلمات مات أزواجهن وليس لهن من يقوم بحمايتهن والإنفاق عليهن ليقتدي به أصحابه فينقذوا نساء الشهداء من قسوة الترمل ، وعدم وجود العائل .
فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب من نفسه المثل والقدوة فتزوج السيدة سودة ، والسيدة حفصة ، والسيدة أم سلمة لمثل هذا الغرض .(1/82)
وكان من أهداف زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا : تأليف قلوب أصحابه ، وتوثيق الارتباط بكبارهم ، وتأليف قلوب العرب ، والتقرب إليهم ، ولذلك تزوج السيدة : عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر كما زوج ابنتيه : رقية ، وأم كلثوم لعثمان بن عفان ، وزوج ابنته فاطمة لعلى بن أبى طالب رضي الله عنهم جميعا فجمع لأصحابه هؤلاء بين أخوة الدين والمصاهرة ، وقد صار هؤلاء الأربعة خلفاؤه بعد وفاته .
وتزوج من العرب السيدة : جويرية بنت الحارث بعد أن هُزم قومها في بني المصطلق وأُخذوا أسرى فلما علم الصحابة الكرام بزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - منها أعتقوا سباياهم وهم يهتفون : أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية ، وكان هذا الزواج سبباً في دخول الإسلام في قلب والدها زعيم قومه وبقية قومها فدخلوا في الإسلام أفوجاً مقدِّرين لحسن صنيع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهم ، وخيَّرها أبوها بين العودة إليه والبقاء زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت البقاء عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ألا ترى معي أن الزواج فعل ما لم تستطع السيوف فعله ، وحقق نصراً مؤزراً لا في أرض المعركة ولكن في القلوب والوجدان .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر : ومن مرسل أبي قلابة قال : سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - جويرية - يعني تزوجها - فجاء أبوها فقال : إن بنتي لا يسبى مثلها فخلي سبيلها فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت ؟ " قال : بلى فأتاها أبوها فذكر لها ذلك فقالت : اخترت الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن حجر : وسنده صحيح انظر : الإصابة 8 / 74 .(1/83)
وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً السيدة : صفية بنت حيى بن أخطب ، وأبوها زعيم يهود بنى النضير حيي بن أخطب ، وزوجها : كنانة بن الربيع صاحب أمنع حصون خيبر ، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بني قريظة وقَتلِ أبوها وزوجها ، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أن يردها إلى أهلها أو يعتقها ويتزوجها فاختارت البقاء عنده - صلى الله عليه وسلم - على الرجوع إلى أهلها وذويها ، فأراد أن يضرب المثل لأصحابه وأمته في بلوغه حد الكمال الإسلامي في معاملة الأعداء الذين ذلوا بعد عز ، وهانوا بعد منعة ومجد لتتعلم أمته كيف تعامل المستضعفين الذين سقطوا من علياء ماضيهم إلى حضيض حاضرهم ليستلَّوا بتلك المعاملة سخائم القلوب وبغضاء النفوس فلا يسع خصوم الإسلام إلا الإذعان لسلطانه والانقياد القلبي والوجداني له .
ولنفس السبب تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا : السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ابنة زعيم مكة وقائد جيوشها لحرب الإسلام بعد أن تنصَّر زوجها بعد هجرتهما إلى أرض الحبشة وعاداها أهلها لإسلامها فصارت غريبة ووحيدة فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - جبراً لخاطرها ، وتشريفاً لها ، وحتى يصل بينه وبين أبي سفيان بآصرة النسب عسى أن يهديه الله للإسلام ، ويُرضي ذلك كبريائه .
فهل يمكن أن نتجاهل أثر هذا الزواج في بذر بذور الألفة في قلب أبي سفيان وعشيرته عسى أن تؤتي هذه البذرة ثمارها بعد حين .
وكذلك تزوج السيدة ميمونة بنت الحارث بعد عمرة القضاء تأليفاً لقريش وهي شقيقة زوجتي العباس والحمزة عمي النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/84)
وكان من دوافع النبي - صلى الله عليه وسلم - للزواج أيضاً : إحداث تشريع جديد ، أوإبطال بدع الجاهلية التي ورثتها من عصور الكفر والإلحاد والتي ما أنزل الله بها من سلطان ، اتضح هذا بأجلى معانيه في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة : زينب بنت جحش حيث كانت قبله تحت زيد بن حارثة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنَّاه قبل أن يُحرِّم الله التبني فلما طلقها زيد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلاقها هدماً لتقاليد الجاهلية التي كانت تقضي :
بأن المرأة القرشية لا تتزوج مولى من الموالي احتراماً لفروق الطبقات فإذا تزوجته هانت فإن طلقها بعد ذلك ازدادت هواناً فلم يتزوجها شريف بعد ذلك .
أضف إلى ذلك أن زوجة الابن بالتبني كانت تحرُم على أبيه بالتبني كما تحرم زوجة الابن من الصلب .
فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُغيَّر هذه الأعراف والتقاليد ويقضي على عادات الجاهلية بوحي من ربه فزوج زيداً وهو المولى من زينب بنت جحش الهاشمية ابنة عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طلَّقها زيد وزوَّج الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إياها فأبطل عادات الجاهلية وضرب لأتباعه من نفسه المثل والقدوة ، ورفع قدر السيدة زينب وأعاد إليها مكانتها بين أترابها ، وردَّ لها اعتبارها ، وبيَّن أن طلاقها من زيد لم يترتب عليه مهانتها وذلها بدليل زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - منها وهو أشرف الخلق جميعا .
فهل كان في هذا الزواج ما يشين صاحبه أو يُخِلُّ بنبوته .
إن مجمداً - صلى الله عليه وسلم - كان وما زال هو المثل الأعلى والنموذج الكامل في كل شيء .
وأنقل لك عبارة رجل مسيحي درس الموضوع فقاده الإنصاف إلى قول الحق وهو الأستاذ نظمي لوقا قال :(1/85)
هؤلاء زوجاته - صلى الله عليه وسلم - اللواتي بنى بهن ، وجمع بينهن ، ولم تكن واحدة منهن هدف اشتهاء كما يزعمون ، وما من واحد منهن إلا كان زواجه بها أدخل في باب الرحمة ، وإقالة العثار ، والمواساة الكريمة ، أو لكسب مودة القبائل , وتأليف قلوبها بالمصاهرة وهي بعد حديثه عهد بالدين الجديد (1) .
2) شبهة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة وهي طفلة
أولاً : عرض الشبهة
وبعد انهيار شبهة تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضوح كذبها ومخالفتها للواقع اتجه خصوم الإسلام وأعدائه - كعادتهم في كل عصر - إلى محاولة استخراج شبهات جديدة ليصدوا عن سبيل الله .
فظنوا أنهم وجدوا بغيتهم ووقعوا على ضالتهم حينما قرأوا في مصادر الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على السيدة عائشة وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، ومات عنها وهي ابنة ثمانية عشر سنة ، وكان عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تجاوز الخمسين فأطلقوا لأقلامهم العنان وقالوا :
إن هذا الزواج انتهاك لحرمة الطفولة ، وقتل لبراءتها ، واستجابة للوحشية الجنسية ، وعبث واضح من رجل كبير بطفلة صغيرة لا تعرف شيئاً من مآرب الرجال .
وصوروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بصورة الشيخ الكبير المتصابي ، المتهافت على النساء الحريص على فض الأبكار ، والتمتع بالبنات الصغار حتى زعم بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابته عقدة حينما تزوج من السيدة خديجة التي كانت تكبره سناً فكان رد فعله أن بالغ في زواجه التالي فكانت زوجته تصغره بسنوات كثيرة ، فهو قد سئم النساء العجائز فأراد أن يتذوق البنات الصغيرات ، وسموا هذا الزواج : ( الجمع الغريب ) بين الشيخ الكبير والطفلة الصغيرة الغريرة .
__________
(1) راجع كتاب وامحمداه ص 145 وكتاب عبقرية محمد للعقاد وص 204 .(1/86)
واستعانوا لتقبيح هذا الزواج في نفوس الناشئة بالواقع المعاصر ، والقوانين التي رفعت سن الزواج للبنت إلى ست عشرة سنة ، وعدوا زواج البنت في سن دون ذلك انتهاك لحرمة الطفولة ، وظلم صادر لها ، وموجَّهٌ لبراءتها ، وأنه لو قام رجل الآن جاوز الخمسين من عمره بالزواج من طفلة عمرها تسع سنوات لكان ذلك الزواج منتقداً مستهجناً في جميع الأوساط يُعاب فاعله ويُذم عليه ، فما بالك إذا كان فاعل ذلك نبي يطلب من أتباعه الاقتداء به فكيف يستجيز محمد - صلى الله عليه وسلم - لنفسه فعل هذا الأمر ؟
وقد ضاعف أصحاب هذه الشبهة حملاتهم وظنوا أنهم وقعوا على صيد ثمين ، وشبهة تهدم الإسلام من قواعده لأنهم إذا أفقدوا المسلمين ثقتهم بنبيهم ضاع كل شيء فأمطروا شبكة الاتصالات العالمية ( الإنترنت ) بمقالات تتضمن هذه الشبهة وتعيد فيها وتزيد وتعرضها وكأنها القاصمة التي لا إجابة عليها .
وصوروا علماء الإسلام بأنهم عاجزون عن الرد ، وقد ساعدهم على ذلك إنكار بعضهم لهذا الأمر دون بحث وروية مع ثبوته في مصادر الإسلام الصحيحة .
ثم تقدموا بشبهتهم خطوة أخرى فتركوا ساحة الأقلام والأوراق والكتابة واتجهوا نحو وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية ، وهي وسيلة أشد خطراً ، وأعظم تأثيراً ، وجمهورها أكثر بكثير من جمهور القراء .
فقام القسيس ( جيري فاينز ) التابع للكنسية المعمدانية الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية بمهاجمة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على شاشة التلفاز ، وقام بعقد مقارنة بينه وبين السيد المسيح عليه السلام الذي لم يتزوج مطلقاً ثم قال ما معناه :
إن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - تزوج من تسع نساء ، آخرهن طفلة عمرها تسع سنوات هي : السيدة عائشة بنت أبي بكر .(1/87)
ثم استضاف أحد البرامج الشهيرة الذي يقدم على شاشة التليفزيون الأمريكي وهو برنامج ( كروس فاير ) أمريكي مسلم ، وأحد أهم المسئولين في المنظمة العربية لمحاربة التمييز العنصري واسمه ( حسين إبيش ) وعرض عليه مقدم البرنامج كلام القسيس ( جيري فاينز ) فنفى السيد حسين هذا الكلام بشدة وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج عائشة وهي طفلة بل كانت شابة .
وكان يوجد قسيس آخر يشارك في نفس البرنامج فوجه إلى السيد حسين إبيش سؤالاً مفاده : لماذا تزوج النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - تسع نساء بينهن طفلة عمرها تسع سنوات فنفى السيد حسين إبيش ذلك فطلب منه القسيس أن يراجع مصادر الإسلام ويقرأ تاريخ المسلمين ثم أعطاه قائمة بأسماء عدة مواقع إسلامية على الانترنت يمكنه العودة إليها للتحقق من عدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن بينهن طفلة عمرها تسع سنوات .
فكان النفي هو الطريق السهل الذي لجأ إليه بعض المسلمين دون أن يحملوا أنفسهم عناء مراجعة هذا الأمر في مصادره الأصلية أو سؤال أهل الذكر عنه .
ومن الجدير بالذكر أن نقول : إن نفي هذه الحقيقة الثابتة - كما سنرى - في لقاء تليفزيوني يشاهده الملايين أو على صفحات جريدة لا يخدم الإسلام بل يسيئ إليه أعظم إساءة لأن المشاهد أو القارئ ليس غبياً ساذجاً بل سيحاول التأكد منها وبأقل قدر من المجهود سيتأكد من ثبوتها ، وعندها سيقوم برفض الإسلام ، وفهم النص بطريقة تتوافق مع ما ذهب إليه هذا القس وأمثاله رغم أن الحقيقة - كما سنرى - ليس فيها ما يستوجب الخجل فيلزم النفي بل إننا كمسلمين نفخر بكل أقوال وأفعال نبينا - صلى الله عليه وسلم - بل ونعرضها على العالم كله في إطارها المكاني والزماني .
ثانياً : كيف واجه المسلمون هذه الشبهة ؟(1/88)
عرض خصوم الإسلام هذه الشبهة وعملوا على إذاعتها وترويجها لصد غير المسلمين عن الدخول في الإسلام ، ولزعزعة ثقة المسلمين بنبيهم ودينهم فانقسم المسلمون من شبهتهم إلى قسمين :
القسم الأول : أنكر الشبهة من أساسها ونفى أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، ولم يحمل نفسه عناء البحث والدراسة المتأنية لهذا الموضوع ، وقد مثَّل هذا الفريق كثير من غير المتخصصين بل وعُرضت هذه القضية على بعض العلماء الذين يتحدثون باسم الدين على الفضائيات فأنكرها بل وبالغ بعضهم في إنكارها حتى قال : أتحدى أي إنسان أن يثبت هذا الأمر ، فيالله قد وصلنا إلى عصر تُنكر فيه الأحاديث الثابتة في الصحيحين ويُتبجَّح بهذا الإنكار .
ونفي الشبهة يُغني عن الرد عليها ومحاولة فهم أسباب هذا الزواج .
وقد اتجه كثير من المتعجلين أو غير المتخصصين لنفي هذا الأمر بل إن بعضهم حاول أن يثبت عقلاً أن السيدة عائشة عندما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكبر من هذا .
يقول الدكتور إبراهيم شعوط : إن كتب السيرة التي قدرت للسيدة عائشة تلك السن الصغيرة عند زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها روت - بجانب هذا التقدير - أمراً أجمع الرواة على وقوعه وهو : أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل خطبتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل آخر هو : جبير بن المطعم بن عدي الذي ظل على دين قومه إلى السنة العاشرة للهجرة .(1/89)
فمتى خطبها ؟ وأبو بكر مسلم وآل بيته مسلمون ، لأن مصاهرة غير المسلمين تمنعها الخصومة الشديدة ، والصراع العنيف بين المشركين والمسلمين فالغالب - بل المحتم - إذن أن تكون هذه الخطبة قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي قبل ثلاثة عشر عاماً قضاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة فإذا بنى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العام الثاني للهجرة تكون سنها - إذ ذاك - قد تجاوزت الرابعة عشرة ، وهذا على فرض أن المطعم بن عدي خطبها لابنه في مولدها ، وهذا بعيد كل البعد أن تُخطب البنت في يوم مولدها (1) .
وهذه صورة من صور المنكرين أصلاً لزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة وهي بنت تسع سنين وأعلق على هذا الكلام قبل أن أرد على الشبهة فأقول :
أولاً : يذكر الدكتور إبراهيم شعوط أن الكتب التي روت زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة في هذه السن الصغيرة هي كتب السيرة ولم يذكر لنا أي هذه الكتب يعني ؟ أيقصد سيرة ابن هشام وما شابهها من كتب السيرة ، أم يقصد كتب التاريخ كتاريخ الأمم والملوك للطبري ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ، والبداية والنهاية لابن كثير أم ماذا يعني ؟ ولو تمهل صاحبنا وبحث عن مصدر هذه الأحاديث لعلم أن من رواتها - كما سترى - البخاري ومسلم في صحيحيهما وهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم فليست كتب السيرة وحدها هي التي حددت هذا السن بل أصح كتب الحديث أيضا .
ثم ينقل الدكتور إبراهيم الحديث من الكامل لابن الأثير فيتوهم القارئ أن هذه القصة واردة في كتب السيرة والتاريخ فقط ، وهي تنقل كثيرا من الأخبار المكذوبة فيعتقد أن هذه القصة غير ثابتة ويمكن إنكارها .
__________
(1) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ للدكتور إبراهيم على شعوط ص 81 ، 82 .(1/90)
ثانياً : أن عدم معقولية خطبة جبير بن مطعم لها بعد إسلام أبي بكر غير معقولة لأن الإسلام لم يكن حرم بعد على النساء المسلمات نكاح المشركين ، وفي بدايات الإسلام لم تكن الخصومة بين الإسلام وعُبَّاد الأوثان عنيفة بل مرت الدعوى بثلاث سنين كانت الدعوة فيهم سرية ، ثم جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فلم يكونوا في البداية يأبهون بها فلما كثر أتباعها بدأوا يحاربونها ويخاصمونها .
أضف إلى هذا أن المطعم بن عدي لم يكن من الذين يجاهرون بعداوة الإسلام بل موقفه من الإسلام أقرب إلى الحياد ، ويكفي أن تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما عاد من الطائف دخل مكة في حمايته وحراسته حتى قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر : " لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى - يعنى أسرى بدر - لتركتهم له " (1) .
فلم تكن عداوة العقيدة بين أبي بكر والمطعم تحول بين أن يخطب المطعم عائشة لابنه جبير فلما اشتدت العداوة بين المسلمين والمشركين وظهرت خطورة المسلمين على مكانة أسياد مكة مال المطعم إلى معسكر قومه ، والدليل على ذلك رفضه أن يتزوج ابنه جبير من عائشة بعد ذلك .
ويكفي أن تعلم في هذا الإطار أن ابنى أبي لهب عتبة ومعتب ألد خصوم الإسلام كانا عاقدين على ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - : رقية وأم كلثوم ، وظل الأمر على ذلك فترة حتى بعد الإسلام ، ثم أراد أبو لهب أن يشغل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر بناته فأمر ولديه بطلاقهما نكاية في أبيهما - صلى الله عليه وسلم - .
وكانت ابنته - صلى الله عليه وسلم - الثالثة : زينب تحت أبي العاص بن الربيع والذي تأخر إسلامه إلى ما بعد غزوة بدر .
__________
(1) البخاري كتاب فرض الخمس باب ما من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأسارى من غير أن يخمس 6 / 280 رقم 3139 .(1/91)
وتحريم زواج المرأة المسلمة بالرجل المشرك لم يكن مقرراً حينئذ ، وإنما نزل هذا الحكم بعد فتح المسلمين لمكة سنة 8 هـ .
فليس هناك ما يمنع عقلاً وواقعاً أن يكون المطعم خطب عائشة لابنه جبير وهو على كفره وأبو بكر مسلم .
ثالثا : يقدر الدكتور شعوط سن السيدة عائشة عندما بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها بأربعة عشر عاما على الأقل هذا على فرض أن المطعم خطبها لابنه جبير عام ولادتها ثم يستبعد هذا فهو أولا لم يحدد لنا سن السيدة عائشة عند زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها بل اكتفى بمجرد نفي الشائع المشهور ، والغريب أن الدكتور شعوط لم يكلف نفسه جمع النصوص الواردة في هذا الموضوع لتتكشف له الحقيقة ، وسترى من خلال النصوص الثابتة الصحيحة أن ما ظنه بعيدا هو عين الحقيقة .
وهكذا نحى البعض إلى الإنكار والنفي إما استبعاداً لهذا الأمر واستنكاراً ورفضاً له ، وإما جهلاً بثبوت الروايات التي تحدد سن السيدة عائشة عند عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها وبنائه بها ، وإما تسرعاً وتعجلاً وتساهلاً دون دراسة كافية للموضوع .
القسم الثاني : اعترف بزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جاوز الخمسين من عمره بالسيدة عائشة وهي بنت ست سنين وبنائه بها وهي بنت تسع سنين وفهم القضية في إطارها الزماني والمكاني فلم يجد فيها ما يُعاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ينتقد عليه ولذلك تجد كتب المتقدمين من العلماء خالية من الإشارة إلى هذه الشبهة والرد عليها بل إنها تعرض زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة باعتبارها حقيقة ثابتة يقرها العقل والعرف والشرع لأنها ثابتة بالنصوص الواضحة الصريحة .
ثالثاً : الرد على هذه الشبهة
قبل الرد على هذه الشبهة وبيان بطلانها وتهافتها أحب أن أضع بين يديك هذه الحقيقة الثابتة :(1/92)
عَقْدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على السيدة عائشة وهى بنت ست سنين ، وبنائه بها وهي بنت تسع سنين حقيقة ثابتة لا يجوز لمسلم أن يُنكرها أو يرفضها لسببين :
الأول : أنها واردة في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهو : صحيح الإمام البخاري ، وصحيح الإمام مسلم وواردة في كثير من الكتب الحديثية .
وثابتة أيضاً في كثير من كتب السيرة والتاريخ بأسانيد صحيحة .
الثاني : أن علماء هذه الأمة قديماً وحديثاً تلقوا هذه الأحاديث بالقبول ، ولم نسمع أو نقرأ لأحدٍ من علماء الأمة المعتبرين أنه أنكر هذه الأحاديث أو شكك في ثبوتها أو حاول تأويلها بحيث يُفهم منها أن السيدة عائشة كانت في سن يسمح لها بالزواج بما ينسجم ويتماشى مع سن العروسين في عصرنا هذا .
وقبل أن أرد على هذه الشبهة سأورد لك بعض الأحاديث التي تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين .
الحديث الأول : عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين ، فقدمنا المدينة ، فنزلنا في بني الحارث بن خزرج ، فوعكت ، فتمزق شعري فوفى جميمة ، فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي ، فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ، ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن : على الخير والبركة وعلى خير طائر ، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين (1) .
__________
(1) البخاري كتاب المناقب باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها 7/264 رقم 3894، ومسلم كتاب النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة 2/1038 رقم 1422.(1/93)
الحديث الثاني : عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين ، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين (1) .
الحديث الثالث : عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسبع سنين (2) ، ودخل علىّ لتسع سنين (3) .
الحديث الرابع : عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود قال : قالت عائشة : تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتسع سنين ، وصحبته تسعاً (4) .
الحديث الخامس : عن عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت سبع سنين ، وزُفت إليه وهي بنت تسع سنين ولعبها معها ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة (5) .
الحديث السادس : عن عروة بن الزبير قال : توفيت خديجة قبل مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريباً من ذلك ، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين (6) .
__________
(1) مسلم كتاب النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة 2 / 1039 رقم 1422 .
(2) جاء في بعض الروايات : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها وعندها ست سنين ، وفي بعض الروايات : سبع سنين ، ويجمع بينهما بأنها كانت أكملت السنة السادسة ، ودخلت في السنة السابعة ، والعرب تجبر الكسر . الإصابة 8/232 .
(3) مسلم كتاب النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة 2 / 1039 رقم 1422 .
(4) النسائي كتاب النكاح باب إنكاح الرجل ابنته الصغيرة 6 / 82 وإسناده صحيح .
(5) مسلم كتاب النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة 2 / 1039 رقم 1422 .
(6) البخاري كتاب المناقب باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وقدومه المدينة وبنائه بها 7 / 264 رقم 3896 .(1/94)
الحديث السابع : عن الأسود عن عائشة قالت : تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة (1) .
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها كثير تدل بوضوح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة عائشة وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، وتوفى عنها وعمرها ثمان عشرة سنة ، وهذه الأحاديث من رواية : عروة بن الزبير ، وعامر بن عبد الله بن مسعود ، والأسود بن يزيد بن قيس عن عائشة صاحبة القصة .
وسأورد لك أحاديث أخرى تدل بوضوح أيضاً على أن السيدة عائشة حينما بنى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولسنوات بعدها كانت جارية حديثة السن .
الحديث الأول : في حديث الإفك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة عن السيدة عائشة فقالت له : إن رأيتُ عليها أمراً أغمصه (2) أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (3) فتأكله (4) .
الحديث الثاني : في رواية طويلة لحديث الإفك تقول السيدة عائشة : فأقبل الذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفاقاً لم يثقلن ، ولم يغشهن اللحم ، وإنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن .
وفيه أيضاً تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ شيئاً من القرآن (5) .
__________
(1) مسلم كتاب النكاح باب تزويج الأب البكر الصغيرة 2 / 1039 رقم 1422 .
(2) أغمص أي : أعيب 3 / 347 .
(3) الداجن هي : الحيوانات والطيور التي تربى بالبيت النهاية 2 / 96 .
(4) البخاري كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضاً 5 / 319 رقم 2661 ، ومسلم كتاب التوبة باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف 4 / 2129 رقم 2770 .
(5) التخريج السابق .(1/95)
الحديث الثالث : عن عائشة قالت : كان الحبش يلعبون بجرابهم فيسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو (1) .
الحديث الرابع : في حديث الحج تقول السيدة عائشة : قلت يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة قالت : فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله قالت : فإني لأذكر وأنا جارية حديثة السن أنعس فيصيب وجهي مؤخرة الرحل (2) .
وقد ولدت السيدة عائشة بعد البعثة بخمس سنين (3) .
فقد قالت عن نفسها : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين (4) ، وهذا يدل على تأخر ولادتها .
وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها في العام الحادي عشر من البعثة وعمرها ست سنين وبضع شهور فجبرت الكسر أحياناً لصالح الزيادة فقالت سبع سنين ، وجبرته أحياناً لصالح النقص فقالت : ست سنين .
وبنى بها في المدينة في العام الثاني للهجرة وهي بنت تسع سنين ، وكان ذلك بعد وفاة السيدة خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - الأولى بنحو ثلاث سنين .
تقول السيدة عائشة : ما غرت على أمراةٍٍ ما غرت على خديجة ، من كثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها ، قالت : وتزوجني بعدها بثلاث سنين (5) .
__________
(1) البخاري كتاب النكاح باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة 9 / 248 رقم 5236 ، ومسلم كتاب صلاة العيدين باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد 2 / 609 رقم 892 .
(2) مسلم كتاب الحج باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الجمع والتمتع والقران 2 / 874 رقم 1211 .
(3) الإصابة 8 / 232 .
(4) البخاري كتاب الصلاة باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس 1 / 671 رقم 476 .
(5) البخاري كتاب المناقب باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها 7 / 166 رقم 3817 .(1/96)
ومما يؤكد هذا : أن السيدة عائشة توفيت سنة سبع وخمسين ، وقيل ثمان وخمسين .
قال الإمام الذهبي وغيره : ومدة عمرها ثلاث وستون سنة (1) .
فإذا كانت ولادتها بعد البعثة بخمس سنين تكون قد عاشت ثمان سنوات قبل الهجرة ، وبنى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام الثاني للهجرة وعمرها تسع سنين ، وعاشت معه تسع سنوات أخرى ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمرها ثمان عشرة سنة ، وعاشت بعده سبعاً وأربعين سنة لأنها توفيت سنة سبع وخمسين أو ثمان وخمسين فيكون عمرها حين توفيت : ثلاث وستون سنة كما قال العلماء .
قال ابن حجر : ماتت سنة ثمانٍ وخمسين عند الأكثر ، وقيل سنة سبع (2) فإذا عرفنا هذه الأدلة واطَّلعنا على هذه الأحاديث أدركنا بيقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على السيدة عائشة وعمرها ست سنين وبضع شهور فكانت تقول أحياناً : ست سنين ، وأحياناً تقول : سبع سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين .
وقد حددت السيدة عائشة تاريخ زواجها بدقة فقالت : تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين ، وأنا ابنة ست سنين ، وهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، وأعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة ، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين (3) .
وتوفي عنها بعد تسع سنوات ، وعمرها ثمانية عشرة سنة ، ولهذا وجدنا جميع العلماء يقرون بهذا ولم نجد من ينكره أو يرفضه أو حتى يستغربه .
قال الإمام الزهري : ملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقدة عائشة وهي ابنة ست سنين وجمعها وهي ابنة تسع سنين ، وتوفى عنها وهي ابنة ثماني عشرة (4) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1 / 193 .
(2) الإصابة 8/235 .
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/64 .
(4) الطبقات الكبرى 8/67 .(1/97)
قال ابن حجر : ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت ست وقيل سبع ، ويجمع بينهما بأنها كانت أكملت السادسة ودخلت في السابعة ودخل بها وهي بنت تسع (1) .
فهذه الأدلة الظاهرة الواضحة والصحيحة تؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة عائشة في هذا السن .
فهذا الأمر ثابت يقيناً بالأدلة النقلية الصحيحة ، والأحاديث التي اتفق على روايتها الإمامان : البخاري ، ومسلم وغيرهما ، وتلقاها علماء الأمة بالقبول ، وإنكارها نوع من التخبط المرذول الذي يرفضه الدين والعقل .
أما معرفة أسباب هذا الزواج وكيف يقبله العقل المعاصر وكيف يستوعب هذا الجمع الذي أسموه غريباً بين هذا الشيخ وهذه الطفلة ؟ فهذا موضوع آخر .
ولمحاولة فهم أسباب هذا الزواج وملابساته سأضع بين يديك هذه الأمور التى تحيل هذه الشبهة ركاماً وتدعها قاعاً صفصفاً :
الأمر الأول : أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جاوز الخمسين من عمره - بالسيدة عائشة - وهي بنت تسع سنين - لم يكن شيئاً عجيباً أو مستغرباً في هذه البيئة العربية بل كان أمراً مألوفاً طبيعياً متعارفاً عليه بينهم فلم تكن السيدة عائشة هي أول امرأة تُزفُّ في تلك البيئة إلى رجل في سن أبيها بل ولن تكون آخرهن فقد وُجدت نماذج كثيرة في ذلك العصر وقبله وبعده تؤكد أن هذا الزواج لم يكن مستهجناً ولا مرفوضاً .
وسأورد لك بعض هذه الأمثلة لتتأكد من هذا الأمر :
__________
(1) الإصابة 8/232 .(1/98)
المثال الأول : حينما ذهب عبد المطلب بن هاشم جد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني زهرة ليخطب لابنه عبد الله السيدة آمنة بنت وهب خطب لنفسه أيضاً هالة بنت أهيب وكانت في سن آمنة فتزوج عبد المطلب وابنه في مجلس واحد (1) .
المثال الثاني : حينما استشهد سيدنا : خنيس بن حذافة في غزوة أحد ترملت زوجته السيدة : حفصة بنت عمر ، وكان عمرها : ثمان عشرة سنة فعرض سيدنا عمر على سيدنا عثمان بن عفان(2) - وقد جاوز الخمسين من عمره - أن يتزوجها ثم عرضها على سيدنا أبي بكر(3) ، وكان أكبر سناً من عثمان ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك .
فلو لم يكن هذا الأمر مألوفاً عند العرب ما عرض سيدنا عمر على عثمان وأبي بكر الزواج من ابنته التي لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها .
المثال الثالث : تزوج سيدنا عمر بن الخطاب في خلافته من : أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهو في سن أبيها بل في سن جدها ، ولم يلق هذا الزواج اعتراضاً من أحد (4) بل وجد الترحيب والرضا والقبول .
__________
(1) راجع : مستدرك الحاكم 2 / 656 رقم 4176 ، والطبراني في المعجم الكبير 3 /137 رقم 2917 ، والطبقات الكبرى لابن سعد 1 / 285 ، والاستيعاب لابن عبد البر 1 / 28 .
(2) ولد سيدنا عثمان بعد عام الفيل بست سنين وعرض عليه عمر الزواج بحفصة في العام الثالث للهجرة فيكون عمره حينئذ خمسون سنة .
(3) توفي سيدنا أبو بكر سنة ثلاث عشرة من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وعرض عليه عمر الزواج بحفصة في العام الثالث للهجرة فيكون عمره حينئذ ثلاث وخمسون سنة .
(4) راجع : الطبقات الكبرى 8 / 464 ، والاستيعاب 4 / 1955 .(1/99)
قال الحافظ ابن سعد : تزوجها عمر بن الخطاب وهي جارية لم تبلغ (1) وإنما حمل سيدنا عمر وقد جاوز الخمسين من عمره أن يتزوج بالسيدة أم كلثوم وهي في سن أحفاده ما سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسبي " (2) .
ولذلك كان سعيداً جداً حينما تزوجها حتى إنه أتى المهاجرين فقال لهم : ألا تهنئوني فقالوا : بمن يا أمير المؤمنين فقال : بأم كلثوم بنت علي وابنة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل نسب وسبب ... الحديث فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسب وسبب (3) .
المثال الرابع : إننا لا نكون مغالين إذا قلنا إن الجزيرة العربية قد عرفت أمثلة كثيرة لهذا الزواج بل وعرفه الناس جميعاً عرباً وعجماً في هذا الزمن وسأذكر لك المثال الرابع الذي يؤكد هذا ويوثقه وهو في هذه المرة ليس زواجاً بين مُسْلِمَيْن ولا عَرَبيين وإنما هو زواج كاد أن يتم قبل زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة عائشة بمئات السنين وفي بيئة يهودية .
ذكرت الموسوعة الكاثوليكية : أن يوسف النجار حينما أراد أن يتزوج من السيدة مريم العذراء قبل أن تلد السيد المسيح كان عمرها ما بين اثنى عشر إلى أربعة عشر عام بينما كان عمره تسعون سنة ، يعني أنه كان أكبر منها بحوالي سبع وسبعين سنة ، والموسوعة الكاثوليكية تصرح بذلك .
__________
(1) الطبقات الكبرى 8 / 463 .
(2) الحاكم في المستدرك 3 / 153 رقم 4684 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الذهبي : منقطع ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 1 / 198 رقم 102 وقال : إسناده حسن ، والطبراني في المعجم الأوسط 5 / 367 رقم 5606 ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح إلا الحسن بن سهل وهو ثقة مجمع الزوائد 9 / 173 .
(3) التخريج السابق .(1/100)
فهل يحق للنصارى بعد هذا أن يعترضوا على زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة بعد أن يقرأوا ويعرفوا هذا الأمر الموجود في كتبهم .
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العرف حينئذ كان يسمح بذلك ولا ينكره .
وقد يسمح العرف في بعض الأزمان أو في بعض الأماكن والبلدان أن يتزوج الرجل الكبير السن من البنت الصغيرة برضا واتفاق ولا يترتب على هذا الزواج ضرر بالمرأة .
فالإسلام حينئذ يبيح ذلك ويقره لأن الإسلام يعتبر العرف والعادات من مصادر التشريع ما لم تصطدم بنص .
ولذلك قال الفقهاء : " العادة محكمة " ، ومعنى هذه القاعدة : أن أعراف الناس وعاداتهم فيما ليس فيه نص شرعي تعتبر عند الفقهاء مرجعاً للأحكام الشرعية ، ومن ثم جاءت قاعدتهم الثانية : " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " ومعنى هذه القاعدة : أن للعرف والعادة قوة النص الشرعي فيما لا نص فيه .
ولذلك قالوا أيضاً : " المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً " .
ولذلك احترمت الشريعة الإسلامية عادات الشعوب وتقاليدها التي لا تصطدم بالنصوص الشرعية ولا تتعارض مع المقاصد العامة للشريعة .
فإذا نظرنا إلى هذا الزواج وفق البيئة والزمن الذي تم فيه نجد أنه كان زواجاً طبيعياً مألوفا .
تقول السيدة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) :
أَوَ يُنكرون أن يكون زواج بين صبية في سنها وبين رجل اكتهل وبلغ الثالثة والخمسين ، وأي عجب في مثل هذا ، وما كانت أول صبية تزف في تلك البيئة إلى رجل في سن أبيها ولن تكون كذلك أخراهن ؟ لقد تزوج عبد المطلب الشيخ من هالة بنت عم آمنة في اليوم الذي تزوج فيه عبد الله أصغر أبنائه من ترب هالة آمنة بنت وهب ، وسيتزوج عمر بن الخطاب من بنت علي بن أبي طالب وهو في سن فوق سن أبيها ، ويعرض عمر على أبي بكر أن يتزوج ابنته الشابة حفصة وبينهما من فارق السن مثل الذي بين الرسول وعائشة .(1/101)
لكن نفراً من المستشرقين يأتون بعد نحو ألف وثلاثمائة عام من ذلك الزواج فيهدرون فروق العصر والبيئة ويطيلون القول فيما وصفوه بأنه : " الجمع الغريب بين الزوج الكهل والطفلة الغريرة العذراء " ، ويقيسون بعين الهوى زواجاً عُقد في مكة قبل الهجرة بما يحدث اليوم في الغرب المتحضر حيث لا تتزوج الفتاة عادة قبل سن الخامسة والعشرين ، وهي سن تعتبر حتى وقتنا جد متأخرة في الجزيرة العربية بل في ريف مصر وأكثر مناطق الشرق وهو ما أدركه مستشرق منصف زار الجزيرة وعاد يقول :
كانت عائشة على صغر سنها نامية ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب والذي يسبب لهن الهرم في أواخر السنين التي تعقب العشرين ... ولكن هذا الزواج شغل بعض المؤرخين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ... نظروا إليه من وجهة نظر المجتمع العصري الذي يعيشون فيه فلم يقدروا أن زواجاً مثل ذاك كان ولا يزال عادة أسيوية ولم يفكروا في أن هذه العادة لا زالت قائمة في شرق أوربا وكانت طبيعية في أسبانيا والبرتغال إلى سنين قليلة وأنها ليست غير عادية اليوم في بعض المناطق الجبلية البعيدة بالولايات المتحدة (1) .
ويقول كاتب نصراني هو الأستاذ : نظمي لوقا :
__________
(1) نقلاً عن كتاب : الرسول للمستشرق بودلي ص 129 من الترجمة العربية لفرج والسحار ، وهذا النقل موجود في كتاب : سيدات بيت النبوة لعائشة عبد الرحمن ص 257 ، 258 .(1/102)
القصة بهذا العرض تفتح أبواب النقص وتثير الشبهات عند من يتصيدون مواطن الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينتهزون الفرص للحط من قدره بما يكتبون ويتحدثون ، إن مجرد ذكر زواج رجل - أي رجل - بطفلة في سن ست سنوات يثير عاصفة السخط والاشمئزاز من هذا الرجل لكن إذا تُرك أمر السن هذا من غير ذكر وصار الأمر للعرف والعادة وتقدير مقتضيات البيئة فمن السهل أن توجد المبررات التي لا تثير لوماً ولا تفتح باب الشكوك والشبهات ومن التجني في الأحكام أن يوزن الحدث منفصلاً عن زمانه ومكانه وظروف بيئته (1) .
الأمر الثاني : كانت قريش تعادي الإسلام وتحاربه بالسلاح تارة ، وبإثارة الشبهات حوله تارة أخرى ، وكانت تتربص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الدوائر لتأليب الناس عليه وكانت تنتظر له هفوة أو زلة يأخذونها عليه ، ويشوهون بها سمعته ، ويلطخون بها سيرته ليصرفوا الناس عن دعوته ، ولو كان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة منكراً أو مرفوضاً من أهل هذا العصر لما تركه كفار مكة يمر بسلام خاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بالسيدة عائشة عقب رجوعه من بدر بعد أن نصره الله على المشركين في أول مواجهة مسلحة بينهما ، بل إننا نجد على العكس من ذلك أن قريشاً علمت بنبأ هذا الزواج فلم تدهش ولم تعترض بل اعتبرته زواجاً طبيعياً ومصاهرة عادية بين صديقين جمع بينهما دين واحد ، واستقبلت نبأ هذا الزواج كما تستقبل غيره من الأنباء ، ولم يبلغنا أن أحداً منهم اعترض على هذا الزواج أو استغرب أو حتى تساءل عنه وتعجب منه وهذا من أوضح الأدلة على أن هذا الزواج كان طبيعياً بل ومتوقعاً .
__________
(1) وامحمده ص 172 .(1/103)
تقول عائشة عبد الرحمن : ولم تدهش مكة حين أُعلن نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين وأوفى صديقين بل استقبلته كما تستقبل أمراً طبيعياً مألوفاً ومتوقعاً ولم يجد فيها أي رجل من أعداء الإسلام أنفسهم موضعاً لمقال بل لم يدر بخلد واحد من خصومه الألداء أن يتخذ من زواج محمد - صلى الله عليه وسلم - بعائشة مطعناً أو منفذاً للتجريح والاتهام وهم الذين لم يتركوا سبيلاً للطعن عليه إلا سلكوه ولو كان بهتاناً وزوراً وافتراءً (1) .
إن قريشاً كانت أعقل بكثير من أناس يقلبون المحامد مذام والحسنات سيئات ينظرون إلى الأمور فيغفلون عن حسنها ، وتخيل إليهم أوهامهم الفاسدة أنها في منتهى القبح ، ولو صدقوا مع أنفسهم وأنصفوا عقولهم من أهوائهم وتخلوا عن رغباتهم الفاسدة في النيل من الإسلام وتشويه صورة نبيه لرأوا في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين صورة من كمال النبوة وجلال الإنسانية والسمو البشري في أعلى درجاته .
إن مشكلة هؤلاء المستشرقين ومن دار في فلكهم أنهم كالذباب يبحثون عن القبيح فإذا لم يجدوا قبحا واقعاً تخيلوه وهما ، ويظلون يعيدون الأمر ويرددونه حتى يحسبون أنهم على شيء ، وأظهر دليل على ذلك : كلامهم على زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة خاصة وغيرها من النساء عامة فلقد صورت لهم خيالاتهم المريضة أن محمداً رجل يبحث عن الشهوة ويلتمس المتعة واستدلوا على ذلك بتعدد زوجاته .
مع أن الدارس لحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك بوضوح أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لمصالح حقيقية ترتبط بدعوته ورسالته ، وكان أبعد ما يكون عن الهوى والشهوة ، ولذلك لم يعترض عليه أحد من أعداءه المعاصرين لأنهم وجدوا في زواجه سمو الخلق والبحث عن مرضاة الله وحده ، ولم ترفع هذه الأصوات المنكرة إلا حديثاً .
__________
(1) تراجم سيدات بينت النبوة ص 256 .(1/104)
وإنما يرجع السبب في ذلك إلى أن أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين عاصروه وعاشروه ورأوه شاباً عزباً حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره دون أن يقع فيما وقع فيه غيره من أترابه مما كان المجتمع يسمح به بل وييسر أسبابه رأوه شاباً عفيف النفس متين الخلق طاهر الذيل لم تعرف له كبوة .
ثم تزوج السيدة خديجة وكانت أكبر منه سناً حيث كانت تبلغ الأربعين من عمرها ، وقضى معها زهرة شبابه ، وظلت زوجته الوحيدة لأكثر من خمس وعشرين سنة لم يعرف امرأة غيرها ، ولم يفكر في الزواج بغيرها ، فلما لحقت بربها كان قد جاوز الخمسين من عمره ، ولو كان للشهوة والهوى سلطان على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تخذ من الزوجات من شاء قبل النبوة وهو في أوج شبابه وعنفوان قوته خاصة وأنه لا يوجد شرع يحول بينه وبين بغيته ، ولا عرف أو عادة تمنعه من قضاء مآربه وتمتعه بلذائذ الحياة ومتع الدنيا ، وقد كان مرغوباً فيه تتمناه كل امرأة من قريش لكمال أخلاقه ، وجمال أوصافه ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة خديجة وحدها وعاش معها أكثر من ربع قرن ولم يتزوج معها غيرها مع أنه كان قبل بعثته فارغ البال قليل الأعباء والهموم ، فلو كان مشغولاً بالنساء والاستمتاع بهن لفعل ذلك أيام شبابه وفراغه ، والعرب كانت تعرف التعدد ولم يكن منكراً في أعرافهم حتى إن منهم من كان يجمع بين عشر نساء وأكثر غير ما ملكت يمينه دون أن ينكر عليه أحد ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك اكنفى بالسيدة خديجة وحدها .
ولو لم يكن هناك دليل على أن التعدد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لمصلحة شرعية وحكم إنسانية دون أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التعدد رغبة ذاتية إلا هذا الأمر لكان كالشمس في رابعة النهار ، ولكن قلوباً أمرضها الهوى وأسقمها الحقد والكيد للإسلام رأت في ذلك هوى جامح ورغبة عارمة ، ألا شاهت وجوههم .(1/105)
ومع ذلك نتنزل معهم في الجدل فنقول :
هب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج مع خديجة غيرها لأسباب خارجة عن إرادته فهذه خديجة قد توفيت فليبحث لنفسه إذن عن الأبكار الجميلات .
ولكن الواقع ينقض ذلك ويكذبه فقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة السيدة خديجة من السيدة سودة بنت زمعة وهي في السبعين من عمرها ولم يكن عندها من المال أو الجمال ما يرغب أحد في الزواج منها لأجله بل كانت امرأة كبيرة السن معدومة المال قليلة الحظ من الجمال وإنما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - جبراً لخاطرها وإيناساً لوحشتها بعد وفاة زوجها وبقائها بلا عائل أو كفيل ، وحتى يقتدي به أصحابه فيتزوجون من أرامل الشهداء حتى لا نفقد امرأة الشهيد زوجها وتتحمل عناء تربية الأولاد وحدها .
ثم تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها عائشة وهي في سن لا يرضي أشواق أو نزعات العابثين ، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الزواج أن يوثق صلته بصديقه وصاحبه ، ولو تأملنا ظروف وملابسات زواجه لازددنا ثقة ويقيناً بخلو أسباب هذا الزواج من الشهوة والهوى والرغبة في المتعة ، وإنما أراد تكريم أصحابه ، أو جبر خواطرهم ، أو تأكيد حكم شرعي أو غير ذلك .
فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب هوى ، وباحث عن لذة ، وراغب في متعة لتزوج غير هؤلاء ، ولما سكت أعداؤه عن ذلك بل لاتهموه بذلك ، ولكننا نجد أنهم تلقوا أخبار زواجه كالأخبار العادية ولم يجدوا فيها ما يطعن في نبوته أو يخل بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - .
الأمر الثالث : قال الفقهاء : الأب لا يزوج ابنته حتى تبلغ ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر الزواج وهي كارهة ، وهذا يدل على احترام الإسلام للمرأة واعتباره رأيها في أمر زواجها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على السيدة عائشة قبل سن البلوغ فهل خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - الأفضل في هذا ؟(1/106)
يقول الإمام النووي : هذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة لأن مرادهم أن لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة فيستحب تحصيل ذلك الزواج لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها (1) .
أما وقت الزفاف فإن اتفق الولي مع الزوج على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به وإن اختلفا فالحد في ذلك أن تطيق المرأة الجماع ، ويختلف ذلك باختلاف النساء ، ولا ينضبط بسن معين ، ألا ترى أن نضج الفتاه في المناطق الحارة مبكر جداً فقد تبلغ في الثامنة وقد يتأخر نضوج الفتاه في المناطق شديدة البرودة حتى تصل إلى الواحدة والعشرين .
فهل كانت عائشة في التاسعة من عمرها ناضجة بالغة تصلح للزواج أم لا ؟
قال الداودي : كانت عائشة قد شبت شباباً حساناً (2) .
وتحكي السيدة عائشة عن نفسها فتقول . أرادت أمي أن تسمنني لدخولي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أُقبل عليها بشيء مما تريد حتى أطعمتني القثاء بالرطب فسمنت عليه كأحسن السمن (3) .
فهذه السيدة أم رومان تطعم ابنتها وتهيئها ليوم زفافها حتى سمنت السيدة عائشة وأصبحت أنثى تملأ العين وتطيق الزواج .
ومما يؤكد أن عائشة كانت تطيق الزواج أنها حينما هاجرت إلى المدينة واستقر بهم المقام فيها قال أبو بكر الصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يمنعك أن تبنى بأهلك ؟ تقول السيدة عائشة فبنى بي (4) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 9 / 206 .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 9 / 206 .
(3) أبو داود كتاب الطب باب في السمنة 4 / 14 رقم 3903 ، والحاكم في المستدرك 2 / 202 رقم 2756 وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى 7 / 254 رقم 14247 .
(4) مستدرك الحاكم 4 / 6 رقم 6716 ، والطبقات الكبرى لابن سعد 8 / 63 .(1/107)
فلو لم تكن عائشة تُطيق الزواج لما عرض أبو بكر - وهو الأب الرحيم الذي يشفق على ابنته ويحرص على مصلحتها - على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى بها . بل إنه يُفهم من كلام سيدنا أبي بكر أنه يستعجل البناء بابنته حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه أبو بكر البناء بابنته أخبره أن الذي يمنعه من ذلك أن صداقها ليس جاهزاً معه فأعطاه أبو بكر - على سبيل السلف - اثنى عشر أوقية ونشاً فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة وبنى بها (1) .
الأمر الرابع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أخبر أبا بكر برغبته في الزواج من السيدة عائشة لم يكن أول المتقدمين لخطبتها بل خطبها قبله : جبير بن مطعم بن عدي ، وكان كافراً (2) .
ففي حديث خوله بنت حكيم حينما أخبرت أبا بكر وأم رومان برغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزواج من عائشة قال لها أبو بكر : انتظري ، ثم تركها وخرج ، فقالت لها أم رومان : إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه فوالله ما وعد موعداً قط فأخلفه - تعني أبا بكر - فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى فقالت : يا ابن أبي قحافة لعلك مُصبٍ صاحبنا - أي مدخله في دينك الذي أنت عليه - إن تزوج إليك قال أبو بكر للمطعم بن عدي : أقول هذه تقول ؟ قال : إنها تقول ذلك (3) فخرج من عنده وقد أذهب الله عز وجل ما كان في نفسه من عدته التي وعده .
__________
(1) مستدرك الحاكم 4 / 6 رقم 6716 ، والطبقات الكبرى لابن سعد 8 / 63 ، وهو جزء من الحديث السابق .
(2) كان ذلك قبل أن يحرم الله زواج المسلمة من غير المسلم .
(3) أراد المطعم بذلك التنصل من خطبة عائشة لابنه وفهم أبو بكر ذلك .(1/108)
وروى ابن سعد في طبقاته بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر الصديق فقال أبو بكر: يا رسول الله إني كنت أعطيتها مطعماً لابنه جبير فدعني حتى أسلها منهم فاستسلها منهم فطلقها - أي فارقها - فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وفي رواية عن ابن عباس قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر الصديق عائشة فقال أبو بكر : يا رسول الله لقد كنت وعدت بها أو ذكرتها لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لابنه جبير فدعني أسلها منهم ففعل ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت بكراً (2) .
ومعنى هذه الروايات أن أم المؤمنين عائشة كان يتقدم لها الخطاب قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانت مخطوبة فعلاً لجبير بن مطعم فلا غرابة إذاً أن يخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يتركها جبير .
ولذلك لم ينكر أحد على النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبته لعائشة ثم بنائه بها بعد ذلك .
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8 / 59 ، وإسناده صحيح ورجاله ثقات .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8 / 58 ، وإسناده ضعيف.(1/109)
الأمر الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب أن يتزوج من عائشة إلا بعد أن رشحتها له السيدة خوله بنت حكيم زوجة الصحابي الجليل : عثمان بن مطعون ولولا أنها رأت أن عائشة تصلح للزواج ما رشحتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإليك هذه القصة كما يرويها أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ويحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب بن أبي بلتعة قالا : لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مطعون فقالت : يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال : " من ؟ " قالت : إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً قال : " فمن البكر ؟ " قالت : ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك : عائشة بنت أبي بكر قال : " ومن الثيب ؟ " قالت : سودة ابنة زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال : " فاذهبي فاذكريهما عليَّ " فدخلت بيت أبي بكر فقالت : يا أم رومان ماذا أدخل الله عز وجل عليكم من الخير والبركة قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة ... الحديث (1) .
فبعد أن توفيت السيدة خديجة تبرعت إحدى النساء المسلمات أن تعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج فلما أبدى رغبته في ذلك عرضت عليه : السيدة عائشة ، والسيدة سودة ورأت أنهما تصلحان للزواج من النبي - صلى الله عليه وسلم - فوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - على الزواج بالاثنتين بحيث يدخل بالسيدة سودة لتأهلها لذلك ويؤخر البناء بالسيدة عائشة حتى تصلح للبناء .
فهو زواج طبيعي يقبله المجتمع ، وتقره الأعراف .
الأمر السادس : تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة لأسباب كثيرة كل سبب منها يصلح وحده ليكون دافعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - للزواج من عائشة ومن أهم هذه الأسباب :
__________
(1) أحمد في مسنده 18 / 47 رقم 25645 وإسناده صحيح ورجاله ثقات .(1/110)
أ- كان أبو بكر الصديق أحب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وأقربهم إليه ، وأمنُّ الناس عليه في دعوته ، وأول من آمن به من الرجال ، وأنفق أمواله في سبيل الله غير مرة .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر " (1) .
وقال : " لو كنت متخذاً خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً " (2) .
فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج ابنته توكيداً للصلة التي بينهما ، وإكراماً له لتجتمع لأبي بكر أخوته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومصاهرته له ، فيجمع بين رباط الأخوة الوثيق ، ورباط المصاهرة أيضاً فيتعلق منه يسبب ونسب في الدنيا والآخرة .
ب- ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرس في عائشة ذكاءً وفهماً من خلال زياراته المتكررة إلى بيت أبي بكر فأراد أن يضمها إليه وينقلها بالزواج إلى بيته لتنقل للمسلمين سنته وتوقفهم على أحواله لأن الإنسان حينما يكون صغير السن خالي البال من المشاكل والمشاغل يكون أشد استعداداً لتلقي العلم وحفظة واستيعابه وفهمه ، وقد صدقت فراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عائشة فحملت عنه علماً كثيراً ، ونقلت عنه خيراً وفيراً .
__________
(1) الترمذي كتاب المناقب باب مناقب أبي بكر الصديق 5 / 374 رقم 3681 وقال : حديث حسن ، وأحمد في مسنده 8 / 420 رقم 8776 .
(2) البخاري كتاب الصلاة باب الخوخة والممر في المسجد 1 / 665 رقم 466 ، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1 / 377 رقم 532 .(1/111)
قال الإمام الزهري : لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل (1) .
فهي من أكثر الناس علماً ، وأكثرهم رواية للحديث ، وأفقه نساء الأمة على الإطلاق .
قال الإمام الذهبي : لا أعلم في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها (2) .
ولقد طال عمر السيدة عائشة ، وظلت بعده حوالي سبع وأربعين سنة تعلم العلم وتنشر الحديث حتى بلغت جملة الأحاديث التي روتها ألفين ومائتين وعشرة (2210) أحاديث ، وعُدَّت لذلك أحد المكثرين من رواية الحديث .
جـ- كل النساء اللاتي تزوج بهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثيبات والبكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي : السيدة عائشة ، تقول رضي الله عنها :
تزوجت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكراً ، وما تزوج بكراً غيري (3) .
وقالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذات مرة : أرأيت لو أنك نزلت وادياً فيه شجرة قد أُكل منها ووجدت شجرة لم يؤكل منها فأيهما كنت ترتع بعيرك ؟ قال : " الشجرة التي لم يؤكل منها " قالت فأنا هي .
تعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها (4) .
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير 23 / 184 ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات مجمع الزوائد 9 / 243 قلت : الموقوف على الزهري أصح وأثبت وهو الذي اعتمده ابن كثير في البداية والنهاية 8 / 88 ، والذهبي في سير الأعلام 2 / 185 ، وابن حجر في الإصابة 8 / 233 .
(2) سير أعلام النبلاء 3 / 104 .
(3) الطبراني في المعجم الكبير 23 / 30 ، وأبو حنيفة في مسنده 1 / 116 ، وأبو يعلى في مسنده 8 / 90 رقم 4626 ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجال أحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح مجمع الزوائد 9 / 241 .
(4) البخاري كتاب النكاح باب نكاح الأبكار 9 / 23 رقم 5077 .(1/112)
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو لم يتزوج بكراً وكانت نساؤه كلهن ثيبات لظن البعض أفضلية نكاح الثيبات وترك نكاح الأبكار ، أو لظن البعض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحسن معاشرة الثيبات لنضج عقولهن ولا يحسن معاشرة الأبكار والتعامل معهن ، فأراد الله عز وجل لنبيه أن يتزوج ثيبات وأبكار .
فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفسه أروع الأمثلة في التعامل معٍ النساء ، ثيبات كن أو أبكاراً ، وبلغت عظمة أخلاقه وسموها في معاملته للمرأة الكبيرة السن ، وللجارية الحديثة السن .
ولقد لاحظت السيدة عائشة هذا الأمر ولفتت الأنظار إليه فقالت :
كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو (1).
وقالت رضي الله عنها : كنت ألعب بالبنات - تعني اللعب - فيجيئ صواحبي فينقمعن (2) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلن عَلىّ ، وكان يُسَرِّ بُهُن (3) إليَّ فيلعبن معي (4) .
فانظر إلى رحمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنصافه ، يقدر سن السيدة عائشة فيرسل صواحبها إليها يلعبن معها .
وتحكي عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرها وقال : مِزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " دعهما " تقول السيدة عائشة : فلما غفل غمزتُهما فخرجتا .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أي تغيبن ودخلن في بيت أو من وراء ستر النهاية 4 / 95 .
(3) أي : يبعثهن ويرسلهن إلي النهاية 2 / 321 .
(4) البخاري كتاب الأدب باب الانبساط إلى الناس 10 / 543 رقم 6130 .(1/113)
وقالت : كان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدَّرَق والحِراب ، فإما سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما قال : " تشتهين تنظرين ؟ " فقلت : نعم . فأقامني وراءه ، خدِّي على خدِّه وهو يقول : " دونَكم يل بني أرفِدة " حتى إذا ملِلت قال : " حسبك ؟ " قلت : نعم قال : " فاذهبي " (1) .
وتحكي رضي الله عنها كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدر سنها ، ويعاملها بما يناسب عقلها فتقول : خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن فقال للناس : " تقدموا " فتقدموا ثم قال لي : " تعالي حتى أسابقك " فسابقته فسبقته ، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس : " تقدموا " فتقدموا ثم قال : " تعالي أسابقك " فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول : " هذه بتلك " (2) .
وهذه أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - والتي تدل على كمال رحمته وحسن معاشرته لأهل بيته على اختلاف حاجاتهم وطباعهم مما يجعله مثلاً أعلى لكل زوج في كل وقت وفي كل مناسبة .
والملاحظة العامة التي تلفت النظر في أمر زوجاته - صلى الله عليه وسلم - أن منهم البكر الصغيرة كعائشة ، والمسنة العجوز كسودة ، والشابة كحفصة وزينب ، وأن منهن ابنة صديقه الحميم كعائشة وحفصة ، وابنة عدوه اللدود كأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم كفار أهل مكة حينما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصفية بنت حيى ابن أخطب ابنة زعيم اليهود .
ومنهن من كانت تشتغل برعاية أبنائها بعد وفاة زوجها كأم سلمة ، ومنهن العقيم التي لا تلد كميمونة بنت الحارث وغيرها .
__________
(1) البخاري كتاب العيدين باب الحراب والدرق يوم العيد 2 / 510 رقم 949 ، 950 .
(2) أبو داود كتاب الجهاد باب في السبق على الرجل 3 / 30 رقم 2576 ، وأحمد في مسنده 18 / 177 رقم 26155 ، وابن حبان في صحيحه 10 / 545 رقم 4691 وإسناده صحيح ورجاله ثقات .(1/114)
وكن جميعاً نماذج متفردة في كثرة الصلاة والصيام والصدقة والخشية من الله فكن نماذج متنوعة لأفراد الإنسانية قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال التعامل معهن تشريعاً فريداً للمسلمين في كيفية التعامل مع كل نموذج من هذه النماذج البشرية وقرر لنا سنة وطريقة فيها سعادة الأفراد واستقرار البيوت وطهارة المجتمعات .
جـ - أضف إلى هذه الأسباب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بزواجه من السيدة عائشة أن يوضح حكماً شرعياً وهو : أن المؤاخاة - وهو نظام قديم كان موجوداً عند العرب قبل الإسلام يشبه نظام التبني - لا تأخذ أحكام مؤاخاة الرحم فيحرم بها ما يحرم بين إخوة الأرحام ، وهو التشريع الذي أنزله الله بقوله :
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } (1) .
ولذلك قال بعض العلماء : إن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة كان كزواجه من السيدة زينب بنت جحش لإيضاح حكم شرعي وبأمر إلهي .
فالزواج من السيدة عائشة كان لبيان أن أخوة العقيدة لا تحرم ما تحرمه أخوة النسب ، والزواج من السيدة زينب كان لبيان أن الابن المتبنى لا يكون كالابن الصلبي في تحريم الزواج بحليلته .
ولذلك حينما ذهبت السيدة خوله تخطيب عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها أبو بكر : وهل تصلح له ؟ إنما هي ابنة أخيه تقول السيدة خولة : فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال : " ارجعي إليه فقولي له : أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام ، وابنتك تصلح لي " (2) .
__________
(1) الأنفال : 75 .
(2) احمد في مسنده 18 / 47 رقم 2564 وإسناده صحيح .(1/115)
وقد بلغ من أحساس أبي بكر بهذا المعنى أنه حينما قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إنما أنا أخوك فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال " (1) .
قال ابن حجر : معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين (2) .
الأمر السابع : مشكلة غير المسلمين أنهم يتعاملون في الأمور التي تتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه بشر عادي يخطئ ويصيب ، ولذلك فإنهم ينظرون إلى أقواله بريبة وشك فتراهم يذكرون الشبهة فيقوم علماء المسلمين بالرد عليها ، ويذكرون الاعتراض فيقوم علماء الإسلام بكشف الحق وإظهاره فيعاودون طرح الشبه فلا تنتهي شبهاتهم ولا تطمئن قلوبهم بالإيمان ، ولا شك أن هذه الشبهات والرد عليها ساهم في كشف جوانب العظمة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأظهر صوراً من تفرد التشريع الإسلامي واعتداله وواقعيته .
ولكن طريق الرد على الشبه لا يكون أبداً طريقاً لعرض الإسلام على الآخرين لأن القضية الأساسية التي يجب أن نركز عليها في دعوة غير المسلمين هي : بيان حقيقة الألوهية ، وصفات الإله الحق الذي يجب أن نعبده ثم تحديد شخص الرسول الذي كلفنا هذا الإله وأمرنا بإتباعه فإذا اتفقنا على وحدانية الله ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا مجال لشبهة ولا محل للاعتراض لأننا إذا آمنا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا معناه أنه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (3) .
__________
(1) البخاري كتاب النكاح باب تزويج الصغار من الكبار 9 / 26 رقم 81 ، 5 .
(2) فتح الباري 9 / 27 .
(3) النجم : 3 ، 4 .(1/116)
فهذا معناه أن أقواله وحي ، وأفعاله وحي فهو معصوم من الخطأ ، ولذلك أوجب الله علينا الإقتداء به في كل شيء فإذا نشأ لبسٌ ما نتيجة عدم الفهم الصحيح لبعض النصوص ، أو عدم استحضارها قام العلماء بالتوضيح والكشف فيزداد الذين آمنوا إيمانا .
ولذلك يجب أن لا ننساق وراء هذه الشبهات والرد عليها ، وننسى أن أصل الدعوة تكون إلى الإيمان بالله وحده والإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك حينما أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن قال له : " إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ... الحديث " (1) .
والذي دعاني إلى الرد على هذه الشبهة لم يكن صدورها من غير المسلمين فقط فالشيء من معدنه لا يُستغرب ، وإنما اقتناع بعض المسلمين بها وترديدهم لها دون وعي ، فأحببت أن أكشف الحقيقة للمسلمين لأنهم هم الذين ينتفعون بأنوار الحق ويهتدون به قال تعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) } (2) .
أما غير المسلمين فلو اقتنعوا بهذا الرد فسيقومون بالبحث عن شبهة جديدة ليشغلوا المسلمين بالرد عليها عن عرض أصول الإسلام عليهم .
ولذلك فرغم أن الرد على هذه الشبهة بالنسبة للمسلمين أوضح من الشمس في رابعة النهار ولكني أحببت أن استخدم أدلة العقل أولاً ثم أزيد الأمر وضوحاً والقلوب اطمئناناً بأن هذا الزواج هو أمر من الله تعالى ولا يسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينفذ مراد الله عز وجل .
__________
(1) البخاري كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 3 / 307 رقم 1395 ، ومسلم كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1 / 50 رقم 19 .
(2) البقرة : 2 .(1/117)
فزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة لم يكن أصلاً باختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بسبب عرض السيدة خوله زواجها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط ، ولكن السبب الحقيقي لهذا الزواج أن الله عز وجل أراده فقدر له أسبابه وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - به في الرؤيا ، ورؤيا الأنبياء وحي .
فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : " أُريتك في المنام مرتين ، إذا رجل يحملك في سرقة من حرير فيقول : هذه امرأتك فأكشفها فإذا هي أتت ، فأقول : إن يك هذا من عند الله يمضه " (1) .
فهذا الحديث وحده كان يكفي ليقتنع المسلمون أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة تم بأمر من الله عز وجل ولذلك كان هذا الزواج من أكثر زيجات النبي - صلى الله عليه وسلم - إفادة للأمة ورحمة بها ومنفعة لها .
وبعد ...
فقد تبين لك بوضوح أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة كان أمراً طبيعياً تقره أعراف العرب وتقاليدها ، ويعترف به العقل ، وقد أمر به الشرع .
وقد استفاد به المسلمون وعمت بركته أجيال الأمة كلها ، ولذلك فإني أحب أن أوقفك في نهاية البحث على ترجمة مختصرة للسيدة عائشة لتدرك منها من هي أم المؤمنين عائشة ؟ ولماذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالزواج منها ؟ وكيف استفادت من زواجها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي صغيرة ؟ وكيف أفادت الأمة وحفظت لها علماً كثيراً ؟
عائشة أم المؤمنين (2)
اسمها ، ونسبها ، ولقبها ، وكنيتها
__________
(1) البخاري كتاب النكاح باب النظر إلى المرأة قبل التزويج 9 / 86 رقم 5125 ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عائشة 4 / 1889 رقم 2438 .
(2) راجع : طبقات ابن سعد ( 8 / 58 ) ، وحلية الأولياء ( 2 / 43 ) ، والاستيعاب ( 4 / 1881 ) ، وأسد الغابة ( 7 / 188 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 2 / 135 ) ، والإصابة ( 8 / 231 ) .(1/118)
هي الصحابية الجليلة الصدِّيقة بنت الصديق : عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن عمرو ، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحبيبة حبيب الله ، القرشية ، التيمية ، أم عبد الله المكية ، أم المؤمنين، زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة ، وأفقه نساء الأمة علي الإطلاق .
وأمها : أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية الصحابية الجليلة .
كانت عائشة تكنى أم عبد الله قيل : لأنها ولدت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولداً فمات طفلاً ، أو لسقطٍ نزل منها ولم يثبت شيءٌ من ذلك .
والصحيح أنها كنيت بابن أختها أسماء : عبد الله بن الزبير ، أو لأن العرب كانت تكنى من غير أن يكون لها ولد ، وكان ذلك مشهوراً ذائعاً بينهم .
مولدها ، ونشأتها ، وإسلامها
... ولدت عائشة رضي الله عنها لأبوين مسلمين بعد المبعث بأربع سنين ، ونشأت وتربت على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة منذ صباها .
تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهي بنت تسع سنين في شوال من السنة الثانية للهجرة عقب رجوعه من غزوة بدر .(1/119)
حكت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قصة زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها فقالت : لما توفيت خديجة قلت : أي رسول الله ألا تتزوج ؟ قال : " من ؟ " قلت : إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً قال : " فمن البكر ؟ " قالت خولة : بنت أحب خلق الله إليك : عائشة بنت أبي بكر قال : " ومن الثيب ؟ " قالت خوله : سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك قال : " فاذهبي فاذكريهما عليّ " فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان فقالت : ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة فقالت : وددت انتظري أبا بكر فجاء فذكرت له فقال : وهل تصلح له وهي بنت أخيه ؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي " فجاء فأنكحه ، وهي يومئذ بنت ست سنين ، وبنى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت تسع سنين ، وعاشت معه تسع سنوات ، ثم قبض عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة (1) .
ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها فأنزل براءتها في عشر آياتٍ من القرآن تتلى على تعاقب الزمان .
خرجت يوم الجمل بعد مقتل عثمان طالبةً بدمه وبإعادة الأمر شورى بين المسلمين ، ثم إنها ندمت على خروجها ذلك ندامةً كبيرة ، وكانت كلما ذكرته بكت حتى تبل خمارها .
اجتهادها في العبادة
... كانت رضي الله عنها تصوم النهار ، وتقوم الليل ، وكانت كريمة ، وقوراً يحترمها ويجلِّها كل من يلقاها ، وكانت تخشى الله ولا تخاف فيه لومة لائم .
قال القاسم بن محمد : كانت عائشة رضي الله عنها تصوم الدهر(2) .
وعنه في روايةٍ أخرى قال : كانت تسرد الصوم (3) .
__________
(1) أحمد في مسنده 18 / 47 رقم 25645 ، وإسناده صحيح ورجاله ثقات .
(2) طبقات ابن سعد ( 8 / 68 ) .
(3) طبقات ابن سعد ( 8 / 75 ) .(1/120)
يعني : أنها كانت تصوم السنة كلها عدا الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين وأيام التشريق وأيام الحيض ، أو أنها كانت تصوم معظم أيام السنة .
وكانت شديدة الخشية لله - عز وجل - ، وكانت تقول : ليتني كنت ورقةً من هذه الشجرة (1) .
وكانت تقول : وددت أني كنت نسياً منسياً (2) .
وندمت ندامةً شديدةً على خروجها يوم الجمل وكانت إذا قرأت : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } (3) بكت حتى تبل خمارها (4) .
وكانت رضي الله عنها كريمة سخية كثيرة الإحسان إلى الفقراء والمساكين طويلة اليد بالصدقة .
قالت خادمتها أم درة : أُتيت عائشة بمائة ألفٍ ففرّقتها وهي يومئذٍ صائمة فقلت لها : أما استطعتِ فيما أنفقتِ أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه ؟ قالت : لو كنت أذكرتني لفعلت (5) .
قال الذهبي : كانت أم المؤمنين من أكرم أهل زمانها ، ولها في السخاء أخبار(6) .
شيوخها ومن روى عنها
روت عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً كثيراً طيبا ، وهي أكثر نساء الأمة على الإطلاق روايةً للحديث ، وروت عن : أبيها وعن عمر بن الخطاب ، وسعد ابن أبي وقاص ، وأسيد بن حضير ، وحمزة بن عمرو الأسلمي ، وجدامة بنت وهب ، وفاطمة الزهراء وغيرهم .
وروى عنها خلقٌ كثيرٌ من الصحابة والتابعين فممن روى عنها من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأبو هريرة ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، والسائب بن يزيد ، وزيد بن خالد وغيرهم .
__________
(1) طبقات ابن سعد 8 / 74 ) .
(2) البخاري كتاب التفسير باب تفسير سورة النور ( 8 / 306 ) رقم ( 4750 ) .
(3) سورة الأحزاب : ( 33 ) .
(4) طبقات ابن سعد ( 8 / 81 ) .
(5) المستدرك ( 4 / 13 ) ، وحلية الأولياء ( 2 / 47 ) .
(6) سير الأعلام ( 2 / 198 ) .(1/121)
وروى عنها من كبار التابعين : سعيد بن المسيب ، ومسروق ، ومكحول ، وأبو وائل ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعلقمة بن قيس ، والأسود بن يزيد ، والحسن البصري ، وزر بن حبيش ، وطاووس ، وسليمان بن يسار ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، ومجاهد ، وعائشة بنت طلحة ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، ومعاذة العدوية ، وأم كلثوم التيمية ، وحفصة بنت عبد الرحمن وخلقٌ كثيرٌ سواهم .
عدد الأحاديث التي روتها
تُعدُّ عائشة رضي الله عنها من المكثرين لرواية الحديث ، ويأتي ترتيبها رابع الصحابة من حيث كثرة المرويات .
فقد بلغ مجموع الأحاديث التي روتها ( 2210 ) ألفان ومائتان وعشرة أحاديث ، أخرج لها الشيخان ( 316 ) ثلاثمائة وستة عشر حديثاً ، اتفقا منها على رواية ( 194 ) مائة وأربعة وتسعين حديثاً ، وانفرد البخاري برواية ( 54 ) أربعة وخمسين حديثاً ، وانفرد مسلم برواية ( 68 ) ثمانية وستين حديثاً وأحاديثها في الكتب الستة ، وسائر كتب السنن والمسانيد .
أسباب كثرة أحاديثها
تعد كثرة مرويات السيدة عائشة شيئاً طبيعياً وذلك لعدة عوامل :
1- أنها كانت ذكيةٌ فطنةٌ تطلب العلم وتحرص على السؤال مع ما رزقها الله من قوة الحفظ .
2- أنها تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر ، واختلطت به ، وكانت تسأله عما خفي عنها ، وعما أُشكل فهمه عليها ، فعرفت كثيراً من أحكام الإسلام ، ويُرجع إليها الفضل الكبير في نقل كثيرٍ مما يتعلق بأمور النساء .
3- أنها تلقت الحديث عن كبار الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وجمعت ما عندهم إلي ما عندها فجمعت أحاديث كثيرة .(1/122)
4- طول عمرها ، واحتياج النساء إليها ، فكان يدخل عليها طلاب العلم فتحدثهم من وراء حجاب ، ويسألونها فتجيبهم، ويعرضون عليها ما يختلفون فيه من أحاديث خاصةً ما يتعلق منها بأمور النساء ، وهي عاقلة حافظة فتجيب وتصحح وتستدرك حتى جمع الإمام الزركشي كتاباً في جمع استدراكاتها على الصحابة أسماه : " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " .
مكانتها من العلم والفتوى
كانت عائشة رضي الله عنها كثيرة العلم ، فصيحة اللسان ، ثابتة الجنان بلغ علمها وفقهها مبلغاً عظيماً حتى احتاج الصحابة والتابعون إليها .
قال أبو موسى الأشعري : ما أُشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علما (1) .
وقال عروة بن الزبير : ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ، ولا بطبٍ ، ولا بشعرٍ من عائشة .
وقال عروة أيضاً قال : لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآيةٍ أنزلت ، ولا بفريضة ، ولا بسنة ، ولا بشعرٍ ، ولا أروى له ، ولا بيومٍ من أيام العرب ، ولا بنسبٍ ، ولا بكذا ، ولا بقضاءٍ ، ولا طبٍ منها ، فقلت لها : يا خالة الطب من أين عُلِّمْتِه ؟ فقالت : كنت أمرضُ فيُنعت لي الشيء ، ويمرض المريض فينُعت له ، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعضٍ فأحفظه (2) .
وقال مسروق : لقد رأيت أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض (3) .
وقال الزهري : لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم
__________
(1) الترمذي كتاب المناقب باب فضل عائشة ( 5 / 471 ) رقم ( 3909 ) وقال : حديث حسن صحيح غريب .
(2) حلية الأولياء ( 2 / 49 ) ، وسير الأعلام ( 2 / 183 ) .
(3) المستدرك ( 4 / 12 ) رقم ( 6736 ) ، والدارمي كتاب الفرائض باب في تعليم الفرائض( 2 / 442 ) رقم ( 2859 ) ، والطبراني في المعجم الكبير ( 23 / 181 ) وقال الهيثمي : إسناده حسن مجمع الزوائد ( 9 / 242 ) .(1/123)
جميع النساء لكان علم عائشة أفضل (1) .
وقال عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة (2) .
وقال الذهبي : لا أعلم في أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بل ولا في النساء مطلقاً امرأةً أعلم منها (3) .
وقد عدّها ابن حزم أحد السبعة المكثرين من الفتوى من الصحابة الذين يُمكن أن يُجمع من فتوى كل واحدٍ منهم سفرٌ ضخم .
قال ابن كثير : وقد تفرَّدت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها ، وانفردت باختياراتٍ أيضاً ، وروت أخباراً بخلافها بنوعٍ من التأويل ، وقد جمع ذلك غير واحدٍ من الأئمة (4) .
وقد كانت رضي الله عنها مع علمها وفقهها فصيحةٌ بليغة ، لسانها أحدُّ من السيف ، ونثرها أبلغ من الشعر .
قال الأحنف : سمعت خطبة أبي بكرٍ ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والخلفاء بعدهم فما سمعت الكلام من فم مخلوقٍ أفخم ، ولا أحسن منه من في عائشة (5) .
وقال موسى بن طلحة : ما رأيت أحداً أفصح من عائشة .
مناقبها
وردت في فضل عائشة ومنزلتها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكانتها عند الصحابة ومن بعدهم أقوال كثيرة منها :
1- أنها كانت أحب النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير ( 23 / 184) وقال الهيثمي : رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات مجمع الزوائد ( 9 / 243 ) قلت : الموقوف على الزهري أصح وأثبت وهو الذي اعتمده ابن كثير في البداية والنهاية ( 8 / 88 ) ، والذهبي في سير الأعلام (2 / 185 ) وابن حجر في الإصابة ( 8 / 233 ) .
(2) البداية والنهاية ( 8 / 88 ) .
(3) سير أعلام النبلاء ( 3 / 140 ) .
(4) البداية والنهاية ( 8 / 89 ) .
(5) المستدرك للحاكم ( 4 / 12 ) رقم ( 6735 ) .(1/124)
فعن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : "عائشة " قال : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " (1) .
وكان حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها أمراً شائعاً مستفيضاً :
قالت أم سلمة : والله لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أباها (2) .
2- كانت عائشة فاضلةً كاملةً فعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (3) .
3- وعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عائشة هذا جبريل وهو يقرأ عليكِ السلام " قالت : وعليه السلام ورحمة الله ، ترى ما لا نرى يا رسول الله (4) .
4- من الثابت أن الله - عز وجل - قد اختارها ورضيها زوجةً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة فجاءه الملك بصورتها في خرقة حرير خضراء وقال له : هذه
زوجتك في الدنيا والآخرة (5) .
__________
(1) البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب لو كنت متخذاً خليلاً ( 7 / 22 ) رقم ( 3662 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر ( 4 / 1586 ) رقم ( 2384 ) .
(2) المستدرك للحاكم ( 4 / 15 ) رقم ( 6746 ) وصححه على شرط الشيخين .
(3) البخاري كتاب الفضائل باب فضل عائشة ( 7 /133 ) رقم ( 3769 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة ( 4 /1895 ) رقم ( 446 ) .
(4) البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب فضل عائشة ( 7 / 133 ) رقم ( 3768 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عائشة ( 4 / 1895 ) رقم ( 2447 ) .
(5) الترمذي كتاب المناقب باب فضل عائشة ( 5 / 470 ) رقم ( 3906 ) وقال : حديث حسن ، وابن حبان في صحيحه ( 16 / 6 ) رقم ( 7094 ) .(1/125)
وعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أُريتك في المنام ثلاث ليالٍ جاء بك الملك في سرقةٍ من حرير فيقول : هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه فأقول : إن يك هذا من عند الله يمضه " (1) .
وعن عائشة قالت : قلت يا رسول الله : مَنْ مِنْ أزواجك في الجنة ؟ قال : " أما إنك منهن " قالت : فخيل إليّ أن ذلك لأنه لم يتزوج بكراً غيري (2) .
ومن النظر في مجموع أحاديث فضائلها نجد أنها رضي الله عنها أُعطيت خلالاً لم تحظ بهن امرأةٌ أخرى منها :
1) أنها البكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
2) وأتاه الملك بصورتها في كفه لينظر إليها .
3) وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست سنين ، وبنى بها وهى بنت تسع سنين .
4) وكانت أحب النساء إلى قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
5) ورأت جبريل ، وأقرأها السلام .
6) ولم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةً أبواها مهاجران غيرها .
7) وأنزل الله براءتها من السماء في عشر آياتٍ من القرآن ، ووعدها مغفرةً ورزقاً كريما .
8) وكان الوحي ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي معه في لحافٍ واحد .
9) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل معها في إناءٍ واحد .
10) وكان يصلي وهى معترضةٌ بين يديه .
11) وكانت ابنة خليفته وصديقه ، وأحب الرجال إلى قلبه .
12) ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وريقها في فمه ، وقُبض بين سحرها ونحرها ، وفي ليلتها ، ودفن في حجرتها .
ومناقبها وفضائلها رضي الله عنها كثيرةٌ جدا .
وفاتها
__________
(1) البخاري كتاب النكاح باب النظر إلى المرأة قبل التزويج ( 9 / 86 ) رقم ( 5125 ) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عائشة ( 4 / 1889 ) رقم ( 2438 ) .
(2) المستدرك للحاكم ( 4 / 14 ) رقم ( 6743 ) وصححه ووافقه الذهبي .(1/126)
توفيت رضي الله عنها سنة : سبعٍ وخمسين ، وقيل سنة : ثمانٍ وخمسين في شهر رمضان ، ودفنت بالبقيع ، وصلى عليها أبو هريرة ، وكان عمرها سبعٌ وستون سنة .
خاتمة
وفي ختام هذا البحث أحب أن أؤكد على عدة أمور :
1) السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع ، وأن الله أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما أمر بطاعته .
2) أن القائلين بإهمال السنة أو تقليص دورها في حياة المسلم يهدفون إلي القضاء التام على الإسلام .
3) أن السنة النبوية تعرضت قديماً وحديثاً لسيل من الشبهات رغبة من أعداء الإسلام في القضاء عليها أو إضعاف الثقة بها .
4) أن الواجب علي العلماء والحكام أن يتكاتفوا ويكونوا في خندق واحد من أجل صيانة السنة وحمايتها والدفاع عنها .
5) أهمية وضع تراجم خاصة بعلماء السنة خاصة أصحاب الكتب الستة تبين مكانتهم ودورهم في الحفاظ علي السنة مع الإشارة إلي كتبهم ، ومناهجهم فيها ، وكيفية الاستفادة منها .
6) نشر الكتب التي تجمع الأحاديث الموضوعة خاصةً ما كان منها مشهوراً علي الألسنة ، والتحذير منها ، ومن خطورة تداولها علي ألسنة الدعاة .
7) حاجة المكتبة الإسلامية إلي كتب تشرح الأحاديث بأسلوب يناسب روح العصر فتجلي الحقائق ، وتوضح الغوامض ، وتصحح المفاهيم ، وترد علي الشبهات والأباطيل .
8) أن الإسلام هو دين الله الخاتم ، وشريعته التي رضيها لعباده فالواجب على أتباعه دعوة الناس إاليه ، ورد الشبه التي تثار حوله .
وبعد فهذا هو جهدي القاصر لضعفي وقلة بضاعتي ، وحسبي أني أحب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجائي أن أُعد من المدافعين عنها ، وأُحشر يوم القيامة مع صاحبها .
فإن وقع خطأ أو تقصير فمني ومن الشيطان ، وإن وقع مني غير ذلك فهو فضل من الله ورحمة .
المصادر والمراجع
1) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ للدكتور إبراهيم شعوط ، طبعة المكتب الإسلامي ، الخامسة 1403 هـ .(1/127)
2) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ، تحقيق أحمد عبد الوهاب فتيح ، طبعة دار الحديث 1414 هـ .
3) الأحاديث المختارة لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الضياء المقدسي ، تحقيق عبد الملك دهيش ، نشر مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة ، الأولي 1410هـ .
4) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد بن علي الشوكاني ، طبعة مطبعة السعادة سنة 1327 هـ .
5) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ، تحقيق علي محمد البجاوي ، طبعة دار الجيل ، الأولى 1412 هـ .
6) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبرى للملا علي القاري ، تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1405 هـ .
7) الإصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1996 م .
8) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزيه ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، طبعة المكتبة العصرية صيدا بيروت 1407هـ .
9) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لأبي بكر جلال الدين عبد الرحمن بن علي السيوطي ، تحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف ، طبعة دار الكتب الحديثة 1385 هـ .
10) تراجم سيدات بيت النبوة للدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ ، طبعة دار الريان ، الأولى 1407 هـ .
11) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ليوسف بن عبد الله بن عبد البر ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب سنة 1387 هـ .
12) جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ، طبعة دار الفكر ، الثانية 1403 هـ .
13) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، تحقيق مسعد السعدني ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت ، الأولى 1421 هـ .(1/128)
14) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ، تحقيق محمود الطحان ، طبعة مكتبة المعارف بالرياض 1403 هـ .
15) الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أبي حاتم الرازي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند ، الأولى 1271 هـ .
16) جريدة المصور القاهرية العدد الصادر بتاريخ 9/12/1983 .
17) سنن ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار إحياء الكتب العربية .
18) سنن أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، طبعة دار الحديث ، نشر دار الريان للتراث سنة 1988 م .
19) سنن الترمذي محمد بن عيسي بن سورة ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وأحمد شاكر ، طبعة دار الفكر 1414 هـ .
20) سنن الدارمي عبد الله بن بَهرام الدارمي ، تحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي ، نشر دار الريان للتراث ، ودار الكتاب العربي الأولى 1987 م .
21) السنن الكبرى للبيهقي ، تحقيق محمد عبد القادر عطا ، طبعة مكتبة دار الباز بمكة المكرمة 1414 هـ .
22) سنن النسائي الصغرى ( المجتبي ) أحمد بن شعيب ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ، الثانية 1406 هـ .
23) السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب ، طبعة دار الفكر ، السابعة 1421 هـ .
24) السنة ومكاتنها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي ، طبعة المكتب الإسلامي بيروت ، الرابعة 1405 هـ .
25) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الحادية عشرة 1417 هـ .
26) صحيح البخاري محمد بن إسماعيل البخاري ، تحقيق مصطفي ديب البغا ، طبعة دار ابن كثير ، الثالثة 1407 هـ .
27) صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري ، طبعة دار الحديث 1412 هـ .
28) الطبقات الكبري لابن سعد ، طبعة دار صادر بيروت .
29) عبقرية محمد لعباس محمود العقاد ، طبعة المكتبة العصرية بيروت .(1/129)
30) علوم الحديث المشهورة بمقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ، تحقيق نور الدين عتر ، طبعة دار الفكر المعاصر ببيروت ودار الفكر بدمشق .
31) فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ، تحقيق محب الدين الخطيب ، طبعة المكتبة السلفية الثالثة 1407 هـ .
32) الفقيه والمتفقة للخطيب البغدادي ، طبعة مطابع القصيم بالرياض 1389 هـ .
33) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة لمحمد بن علي الشوكاني ، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني ، طبعة دار الكتب العلمية .
1) في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب طبعة دار الشروق الطبعة الأولى 1972 م .
34) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولي 1983م .
35) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث علي ألسنة الناس لإسماعيل بن محمد العجلوني ، طبعة دار الكتب العلمية 1418 هـ .
36) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند 1357 هـ .
37) كيف نتعامل مع السنة مَعالم وضوابط للدكتور يوسف القرضاوي ، طبعة دار الوفاء للطباعة والنشر ، الثالثة 1411 هـ .
38) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية ببيروت ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب ، الرابعة 1417 هـ .
39) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي ، طبعة دار الريان ودار الكتاب العربي 1407 هـ .
40) المدخل لدراسة السنة النبوية للدكتور يوسف القرضاوي ، طبعة مكتبة وهبة ، الثالثة 1412هـ .
41) المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير للدكتور يوسف القرضاوي ، طبعة مكتبة وهبه .
42) المستدرك علي الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، تحقيق مصطفي عبد القادر عطا ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1990 م .(1/130)
43) مسند أبي حنيفة لأبي نعيم الأصبهاني ، تحقيق نظر محمد الفاريابي ، طبعة مكتبة الكوثر ، الأولى 1415 هـ .
44) مسند أبي يعلى الموصلي ، تحقيق حسين سليم أسد ، طبعة دار المأمون للتراث ، الأولى 1404 هـ .
45) مسند أحمد بن حنبل ، تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين ، طبعة دار الحديث ، الأولى 1995م .
46) مسند الشاميين للطبراني ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الأولى 1405 هـ .
47) مسند الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع شيرويه الديلمي ، تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول، طبعة دار الكتب العلمية 1406 هـ .
48) المصنف لعبد الرازق بن همام الصنعاني ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، نشر المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية 1390 هـ .
49) معالم السنة للخطابي ، طبعة المطبعة العلمية بحلب 1351 هـ .
50) المعجم الأوسط لسليمان بن أحمد الطبراني ، نشر دار الحرمين القاهرة 1415 هـ .
51) المعجم الكبير للطبراني ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، طبعة مكتبة العلوم والحكم بالموصل، الثانية 1404 هـ .
52) معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند 1401 هـ .
53) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ، تحقيق عبد الرحمن فاخوري ، طبعة دار السلام ، الثانية 1410 هـ .
54) المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة للسخاوي ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، الأولى 1399 هـ .
1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت ، الأولى 1418 هـ .
الفهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة ........................................................... ... 1
الفصل الأول : السنة النبوية في مواجهة التحديات .................... ... 6
تمهيد : أهمية السنة ومكانتها وحجيتها ............................ ... 6(1/131)
دعوى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن ................................ ... 14
الطعن والتجريح في كتب السنة .................................... ... 21
الطعن والتجريح في الصحابة ورواة الحديث ..................... ... 24
انتشار الأحاديث الموضوعة ..................................... ... 51
التسرع في الحكم على الحديث ................................... ... 56
محاولة تطويع السنة للعقل ....................................... ... 62
تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ............... ... 69
سوء استخدام الحاسب الآلي ...................................... ... 78
الفصل الثاني : السنة النبوية في مواجهة الشبهات .................... ... 80
تمهيد ............................................................ ... 80
شبهة تعدد زوجات النبي ......................................... ... 91
عرض الشبهة والرد ............................................. ... 91
شبهة زواج النبي من السيدة عائشة وهي طفلة .................... ... 96
أولا : عرض الشبهة ............................................ ... 96
ثانيا : كيف واجه المسلمون هذه الشبهة .......................... ... 99
ثالثاً : الرد على هذه الشبهة ...................................... ... 103
وبعد ............................................................. ... 131
ترجمة السيدة عائشة رضي الله عنها ............................. ... 132
خاتمة ........................................................... ... 142
المصادر والمراجع ............................................. ... 144
الفهرس ......................................................... ... 150(1/132)