بسم الله الرحمن الرحيم
التأويل عند الإمام أحمد
المقدمة
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .
وبعد :
فما زال أهل البدع في كل زمان ومكان يحاولون أن يجدوا لبدعهم أصلا في شريعة الله ، فأعيتهم السنن ، فذهبوا إلى كلام السلف يبحثون فيه عما يأملون ، ويردون مالا يريدون !
ولما كان الإمام أحمد إمام أهل السنة ؛ ذهب هؤلاء إلى البحث في كلامه ، ففهموا منه مالا يريده ، وقوّلوه ما لم يقله ، إما بسبب الخطأ في النقل أو الخلل في الفهم .
ومن هذه النماذج : ما نُسب إلى الإمام أحمد في الفتنة ، وربما في غيرها من القول بالتأويل ، ورتبوا على ذلك قولهم هذا ؛ جواز التأويل في النصوص الشرعية عند الحاجة ، ومن تأول مرة فما المانع أن يتأول مائة مرة (1) !! .
ولأهمية الموضوع كان من المهم النظر فيما يروى عن الأمام أحمد في ذلك ، وقد قدمت بمقدمة يسيرة تصور محنة أحمد في مسألة خلق القرآن لأن أشهر ما نسب له كان في المحنة ، وذلك من سير أعلام النبلاء للذهبي (2) .
المحنة
قال صالح بن أحمد : حمل أبي ومحمد بن نوح من بغداد مقيدين فصرنا معهما إلى الانبار فسأل أبو بكر الأحول أبي يا أبا عبد الله إن عرضت على السيف تجيب قال : لا .
__________
(1) ( (1) انظر ما كتبه حسن السقاف في مقدمته على (كشف شبه التشبيه) لابن الجوزي
(2) هذا وقد ترجم له الذهبي ترجمة حافلة ماتعة 11/77(1/1)
قال صالح بن أحمد قال أبي فلما صرنا إلى اذنة ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها إذا رجل قد دخل فقال : البشرى قد مات الرجل ، يعني المأمون قال أبي وكنت أدعو الله أن لا أراه
قال الإمام أحمد : كان المعتصم يوجه إلي كل يوم برجلين أحدها يقال له أحمد بن أحمد بن رباح ، والآخر أبو شعيب الحجام ، فلا يزالان يناظراني حتى إذا قاما دعي بقيد فزيد في قيودي ، فصار في رجلي أربعة أقياد ، فلما كان في اليوم الثالث دخل علي فناظرني .
فلما كان في الليلة الرابعة وجه _ يعني المعتصم _ ببغا الكبير إلى إسحاق فأمره بحملي إليه فأدخلت على إسحاق فقال يا أحمد إنها والله نفسك إنه لا يقتلك بالسيف إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربا بعد الضرب وأن يقتلك في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر .
ثم أدخل على المعتصم فيقول كلموه ناظروه فيكلمني هذا فأرد عليه ويكلمني هذا فأرد عليه ، فإذا انقطعوا يقول المعتصم ويحك يا أحمد ما تقول فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به .
ولما جئ بالسياط نظر إليها المعتصم فقال ائتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين تقدموا فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين فيقول له شد قطع الله يدك ثم يتنحى ويتقدم آخر فيضربني سوطين وهو يقول في كل ذلك شد قطع الله يدك، فلما ضربت سبعة عشر سوطا قام إلي يعني المعتصم فقال يا أحمد علام تقتل نفسك إني والله عليك لشفيق ... وكان عبد الرحمن يقول من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع
قال صالح ثم خلي عنه فصار إلى منزله وكان مكثه في السجن منذ اخذ إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهرا .
قال أحمد ورأيت المعتصم قاعدا في الشمس بغير مظلة فسمعته يقول
لابن أبي داود لقد ارتكبت إثما في أمر هذا الرجل ، فقال يا أمير المؤمنين انه والله كافر مشرك قد أشرك من غير وجه فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد.(1/2)
ومن عجائب ما روي ، قال أحمد بن الفرج حضرت أحمد بن حنبل لما ضرب فتقدم أبو الدن فضربه بضعة عشر سوطا فأقبل الدم من أكتافه وكان عليه سراويل فانقطع خيطه فنزل فلحظته وقد حرك شفتيه فعاد السراويل كما كان فسالته قال قلت الهي وسيدي وقفتني هذا الموقف فتهتكني على رؤوس الخلائق .
قال الذهبي : وهذه الحكاية لا تصح وقد ساق صاحب الحلية من الخرافات السمجة هنا ما يستحيا من ذكره ؟؟!!
وبعد ذلك أطلق سراحه وكان يقول كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا وقد جعلت أبا إسحاق _ يعني المعتصم _ في حل ورأيت الله يقول ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفرالله لكم ) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح ، وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك
[محنة الواثق]
قال حنبل لم يزل أبو عبد الله بعد أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة ويحدث ويفتي حتى مات المعتصم ، وولي ابنه الواثق فاظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى أحمد بن أبي دؤاد وأصحابه .
فقد جاء يعقوب ليلا برسالة الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى أبي عبد الله يقول لك الأمير إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك احد ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها ، فاذهب حيث شئت من ارض الله فاختفى أبو عبد الله بقية حياة الواثق وكانت تلك الفتنة ، وقتل أحمد بن نصر الخزاعي ولم يزل أبو عبد الله مختفيا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق .
[ حال الإمام في دولة المتوكل ]
قال حنبل ولي المتوكل جعفر فاظهر الله السنة وفرج عن الناس وكان
أبو عبد الله يحدثنا ويحدث أصحابه في أيام المتوكل وسمعته يقول ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا .
ا.هـ. ملخصا من السير
التأويل المنسوب إلى أحمد(1/3)
بعض أهل العلم ينسب إلى الإمام أحمد رحمه الله أنه تأوّل بعض الصفات ، وبعض المغرضين على مذهب السلف فرح بهذه الرواية ، وأنّ أحمد أوّل المجيء يوم القيامة بمجيء الثواب وغير ذلك . وممن نقل هذا :
أ / قال ابن حزم " وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال وجاء ربك إنما معناه وجاء أمر ربك " (1) .
ب / قال ابن كثير " روى البهيقي عن الحاكم عن أبي عمر بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعإلى وجاء ربك أنه جاء ثوابه ثم قال البهيقي وهذا اسناد لا غبار عليه " (2)
ج / وقال أبو يعلى : " وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله ( وجاء ربك ) قال : قدرته " (3)
والجواب عنها (4) :
1ـ أنها من رواية حنبل ، وهو مع ثقته له مفاريد يغرب فيها .
قال الذهبي " قلت له مسائل كثيرة عن أحمد ويتفرد ويغرب " (5)
__________
(1) الفصل لابن حزم 2/132 .
(2) البداية والنهاية10 / 327 ، وكتاب : (ذكر محنة الإمام أحمد) طبع منه الجزء الثاني فقط كما يقول المحقق محمد نغش : وليس فيه هذه الرواية ، وانظر القصة في الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد ص:58 بلفظ : " وإنما تأتي قدرته " بدل " ثوابه " في رواية ابن كثير وذكر ابن تيمية " أنه تأول قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من العمام والملائكة)[سورة البقرة 210].... فهل يجئ الله إنما يجئ أمره " الاستقامة 1/74
(3) إبطال التأويلات 132
(4) انظر : مجموع الفتاوى 5/399-401 ، الاستقامة 1/74-75 ، مختصر الصواعق 616 ، براءة الأئمة الأربعة 377-384 ، إتحاف أهل الفضل والإنصاف للعلوان ص32-35 ، منهج المتكلمين للغصن 1/521-528 ، منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 2/556 ، موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1163
(5) سير أعلام النبلاء ج: 13 ص: 52(1/4)
وقال ابن تيمية : " وقال قوم غلط حنبل في نقل هذه الرواية ، وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه ، والجماهير يرروون خلافه ، وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التى خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته على طريقين ، فالخلال وصاحبه قد ينكرانها ويثبتها غيرهما كابن حامد " (1)
وقال أبو إسحاق ابن شاقلا " هذا غلط من حنبل لا شك فيه " (2)
2ـ أنها مخالفة للمشهور المتواتر عن الإمام أحمد من وجوب الإقرار بجميع الصفات وردّ التأويل وإبطاله .
قال ابن تيمية " ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية ويبين أنه لا يقول أن الرب يجىء ويأتى وينزل أمره بل هو ينكر على من يقول ذلك " (3)
3ـ أنّ حنبلاً نفسه قد نقل عن الإمام أحمد روايات في إثباته لهذه الصفات الفعلية الاختيارية ، كالمجيء والنزول .
قال حنبل : " سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله قوله ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق حتى قلت لأبي عبد الله ينزل الله إلى سماء الدنيا قال قلت نزوله بعلمه أم بماذا فقال لي اسكت عن هذا مالك ولهذا امض الحديث على ما روي " (4)
__________
(1) الاستقامة 1/75
(2) انظر إبطال التأويلات ص:132 ، شرح حديث النزول (ضمن الفتاوى ) 5/399 ، 16/405
(3) شرح حديث النزول (ضمن الفتاوى ) 5/401
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي3 / 453(1/5)
4ـ أنّ عبد الله ابن الإمام أحمد روى عن أبيه بسنده عن قتادة إثبات مجيء الله يوم القيامة ولم يؤولها . " حدثني أبي نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله عز وجل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة قال يأتيهم الله عز وجل في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة عند الموت " (1)
5ـ أنه على فرض ثبوت هذه الرواية عن أحمد فإنما قاله أحمد في معرض المناظرة مع خصومه ، كما هو مدلول الرواية نفسها .
قال ابن تيمية : " ...وقال قوم منهم إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له فإنهم يتأولون مجئ الرب بمجئ أمره قال فكذلك قولوا يجئ كلامه مجئ ثوابه وهذا قريب " (2)
وقال في موضع آخر : " ومنهم من قال بل أحمد قال ذلك على سبيل الالزام لهم يقول اذا كان أخبر عن نفسه بالمجىء والاتيان ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره فكذلك قولوا جاء ثواب القرآن لا أنه
نفسه هو الجائى فان التأويل هنا الزم " (3)
6ـ أن يقال ( على فرض ثبوتها ) : إن ذلك وقع من أحمد ثم رجع عنه ؛ لأن أكثر النقول عنه مصرِّحة بعدم التأويل . لكن من يقول بثبوتها يغفل النقول عن أحمد المصرِّحة بعدم التأويل .
قال ابن تيمية : " وذهب طائفة ثالثة من أصحاب أحمد الى أن أحمد قال هذا ذلك الوقت ، وجعلوا هذا رواية عنه ثم من يذهب منهم الى التأويل كابن عقيل وابن الجوزى وغيرهما يجعلون هذه عمدتهم حتى يذكرها أبو الفرج بن الجوزى فى تفسيره ، ولا يذكر من كلام أحمد والسلف ما يناقضها " (4)
__________
(1) السنة 2/504 ، وانظر نحو هذا ، فيما نقله عبد الغني المقدسي تعليقا في (الاقتصاد) صـ 110
(2) الاستقامة 1/75
(3) شرح حديث النزول (ضمن الفتاوى ) 5/400 ، وانظر الفتاوى 16/409 ، مختصر الصواعق المرسلة ص 616
(4) شرح حديث النزول (ضمن الفتاوى ) 5/400(1/6)
د / ما حكاه أبو حامد الغزالى عن بعض الحنبلية أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء (1) : وهي أحاديث ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) (2) و ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ) (3) ( واني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن ) (4)
والجواب :
1 / أنها كذب على أحمد.
قال ابن تيمية : " فهذه الحكاية كذب على أحمد لم ينقلها أحد عنه باسناد ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه ، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف لا علمه بما قال ولا صدقه فيما قال " (5)
2 / ثبت عن أحمد خلاف مانقله الغزالي في شأن حيث ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ) قال " قلب العبد بين اصبعين......وكلما جاء الحديث مثل هذا قلنا به " (6)
3 / ليس في هذه الأحاديث ما يوجب التأويل .
أ / حديث : (الحجر الأسود يمين الله في الأرض )
__________
(1) قواعد العقائد 135 ، ونقله في أساس التقديس بنحوه ص: 107
(2) رواه ابن عدي في الكامل 1 / 342 والبغدادي في تاريخ بغداد 6 / 328
وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية 2 / 575 ، والألباني في الضعيفة (223)، وانظر فيض القدير 3/ 409 ، وهذا الحديث من كلام ابن عباس
(3) مسلم (2654)
(4) أحمد في المسند 2/541 ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة المجمع 10/56
(5) شرح حديث النزول (ضمن الفتاوى ) 5/398
(6) انظر : إبطال التأويلات لأبي يعلى صـ 45(1/7)
قال ابن تيمية " ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره فانه قال يمين الله في الأرض ، فقيده بقوله في الأرض ولم يطلق فيقول يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق ، ثم قال فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ومعلوم أن المشبه غير المشبه به وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلا ولكن شبه بمن يصافح الله ، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل " (1)
ب / ( واني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن )
هذا الحديث على ظاهره فإن الله فرج عن نبيه ودينه بنصرة الأنصار له
قال ابن الأثير "... قيل عنى به الأنصار لأن الله نفس بهم الكرب عن المؤمنين وهم يمانيون لأنهم من الأزد ....... ومنه الحديث لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن يريد بها أن تفرج الكرب وتنشئ السحاب وتنشر الغيث وتذهب الجدب قال الزهري النفس في هذين الحديثين اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من نفس ينفس تنفيسا ونفسا كما يقال فرج يفرج تفريجا وفرجا كأنه قال أجد تنفيس ربكم من قبل اليمن وإن الريح من تنفيس الرحمن بها عن المكروبين " (2)
قال ابن تيمية " فقوله من اليمن يبين مقصود الحديث فانه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك ولكن منها جاء الذين يحبهم ويحبونه الذين قال فيهم ( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه .... وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة وفتحوا الأمصار فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات ) (3)
ج / ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن )
__________
(1) الفتاوى 6/ 397 ، وانظر الدرء 5/239 ، التدمرية (ضمن الفتاوى ) 3/44
(2) النهاية في غريب الحديث 5 / 92، 93
(3) الفتاوى 6/ 398(1/8)
فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها ولا أنها في جوفه ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضى مباشرته ليديه وإذا قيل السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ، ويقال بدر بين مكة والمدينة مع تباعد ما بينهما (1)
وقبل أن نختم هذه المسألة يحسن أن نورد كلاما مهما لابن القيم ، قال رحمه الله : " وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها ، وهي أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية أو الحديث ، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث ، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى : ( ولقد رآه نزلة أخرى ..) [ النجم : 13] ... " (2)
ملخص البحث
بعض أهل العلم ينسب إلى الإمام أحمد رحمه الله أنه تأوّل بعض الصفات في محنته المشهورة ،وما نقله الغزالي عن بعض الحنبلية من تأويل أحمد لثلاثة أحاديث ، وبعض المغرضين على مذهب السلف فرح بهذه الرواية ، وأنّ أحمد أوّل المجيء يوم القيامة بمجيء الثواب ، أو أمر الله.....
والجواب عنها باختصار :
1ـ أنها من رواية حنبل ، وهو مع ثقته له مفاريد يغرب فيها .
2ـ أنها مخالفة للمشهور المتواتر عن الإمام أحمد من وجوب الإقرار بجميع الصفات وردّ التأويل وإبطاله .
3ـ أنّ حنبلاً نفسه قد نقل عن الإمام أحمد روايات في إثباته لهذه الصفات الفعلية الاختيارية ، كالمجيء والنزول .
4ـ أنّ ابن الإمام أحمد عبدالله روى عن أبيه بسنده عن قتادة إثبات مجيء الله يوم القيامة ولم يؤولها .
5ـ أنه على فرض ثبوت هذه الرواية عن أحمد فإنما قاله أحمد في معرض المناظرة مع خصومه ، كما هو مدلول الرواية نفسها .
__________
(1) التدمرية (ضمن الفتاوى ) 3/45 ، القواعد المثلى لابن عثيمين صـ 99 ط.أضواء السلف
(2) مختصر الصواعق ص : 617(1/9)
6ـ أن يقال : إن ذلك وقع من أحمد ثم رجع عنه ؛ لأن أكثر النقول عنه مصرِّحة بعدم التأويل .
*** وأما رواية الغزالي : فالجواب عنها:
1 / أنها كذب على أحمد.
2 / ثبت عن أحمد خلاف مانقله الغزالي
3 / ليس في هذه الأحاديث ما يوجب التأويل .(1/10)