الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية للعالم العلامة والنحرير الفهّامة وحيد دهره وفريد عصره المرحوم المبرور صاحب التفسير المشهور أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الحسيني الآلوسي البغدادي تغمده الله تعالى برحمته آمين
[ ص 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا مجيب السائلين وغياث المستغيثين وناصر السالكين مسالك الهدى وخاذل الهائمين في مهاوي الردى الناكبين عن الصراط السويّ نحمدك على أن هديتنا للإتباع وحفظتنا عن الزيغ والابتداع وأيدّتنا بالدليل الجلي والبرهان القطع ونصلي ونسلم على من أنزلت عليه القرآن والزمن من النذر قد فرغ وبعثته مؤيداً بالمعجزات الباهرات لينذر الحاضرين ومن بلغ فصدع بالحكم الشرعي ونصرته بالرعب قبل المشرفي وعلى صاحبه المخصوص بفضيلته ثاني اثنين ومن هو في القبر مضاجعه كهاتين هذا وقد كانا رفيقين إذ الزمان جاهلي وعلى عمر الذي كانت الشياطين تفرّ عن ظلّه وتتفرق هيبة من أجله إذا سمعوا خفتي فعلم هربوا من الأحوذي وعلى عثمان مصابر البلاء من أيدي الأعداء الذي تستحي منه ملائكة السّماء سلام الله تعالى
[ ص 3 ](1/1)
على ذلك الحييّ وعلى عليّ الذي ملئ علماً وخوفاً وعاهد على ترد الدّنيا فأوفى ونحن والله نحبه أوفى من حبّ الرافضي وعلى آله وسائر أصحابه وأزواجه وأتباعه الدارجين على منهاجه ما أحرق الشهاب كلّ شيطان مارد غوي أمّا بعد فيقول أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيّد محمود المفتي ببغداد عفى عنه بينما علماء العراق الذين طار صيتهم إلى سائر الآفاق يجرّون أذيال أفكارهم في رياض العلوم ويُجرون جريال أنظارهم في حياض سرّها المكتوم زمن خلافة مجد ونظام الدين والدنيا ومجدّد جهات العدالة العليا ستر الله تعالى في العالم الأكبر والمعير من بعض أنوار جلاله وجماله فوصى الشمس والقمر ربّ السطوات التي لا تبارى والغرمات التي غرت أن تجارى ظل الله تعالى المبسوط في بسيطته خليفته الأعظم في خليفته السلطان بن السلطان بن السلطان محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان جعل الله تعالى حبّات قلوب أعاديه منثورة بانتظام نظام مواليه ولا زالت رؤوس الملوك خان معه لجلاله وأوابها الأيابي مقيّدة بين يدي أقواله وأفعاله إذ وفد عليهم من بلاد لاهور وافد وأرتاد في محافل رياحهم رائد فحطّ رحله حيث تحطّ الرجال رحالها وانزل أصله حيث تبلغ النفوس أمالها وذلك حضرة فرع الشجرة القادرية وعرف الغالية المحمديّة
[ ص 4 ](1/2)
نقيب الأشراف وفخراً لعبد مناف واحد الأحدين وثالث القمرين السيّد السند ومقوّم الأود الطائر مجده بجناحي البازاني النسر الطائر المقتفى آثار أجداده نجوم العبدي والسادة الأكابر السيد محمود أفندي ابن الحاج زكريا لا زال ثرى مواطئ أقدامه كحلاً لعين الثريا ثم ابرز له ألوكة من علماء لاهور وفقهم الله تعالى لما فيه اغتنام الأجود مشتملة على الاستفتاء عن حكم مسئلة وقعت هنالك وتشعبّت في تحقيقها على ما نقل المذاهب والمسالك وتلخيصها ما قول علماء الدين وأئمة المسلمين ومرشدي الطريقة وجامعي الشريعة والحقيقة من ساكني دار السلام ومجاوري حضرت علم الأعلام الغوث الرباني والهيكل الصمداني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدسّ سره وغمرنا وإياكم برّه في جماعة ظهروا في بلادنا يزعمون أنهم من أهل السنّة ويسبّون الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ خصوصاً من خاض لجّة الفتنة كمعاوية بن أبي سفيان ومن وافقه في ذلك الشأن ألهذا أصل أصيل أم هو حديث خرافة من جملة ....... بالميل انتهى ومعها أيضاً وقعة فيها أجوبة حتّمة قد حرّرها علماء أجّلاء ومشايخ فضلاء ورقم كل منهم وراء أجوبة اسمه وختم تحته ليصدق ختمه رقمه فعرض النقيب جميع ذلك لدى حضرت الوزير الخطير والبدر المنير الفائز بالرياستين الدينيّة والدنيوية
[ ص 5 ]
والحائز الحكمتين العلميّة والعملية
ثبت الجنان من وثباته وثباته يوم الوغى أسد الشرى
يقظ يكاد يقول عما في عنيد ببديهتاً غنته أن يتفكروا
بعفو عن الدين العظيم تكرّيماً ويصدّ عن قول الخفي متكبّراً
بين الملوك الخابرين وبينه في الفضل ما بين الثريا والثرا(1/3)
جالب قلوب أهل العراق بأنواع الإحسان على محبّة سلطانه والمتمثل لأوامره الخاقانية في صرّة وإعلانه المتفضل على العلماء بما يضيق عن نطاق الحصر والمحبّ للأولياء قدّست أسرارهم في المسمّى والجهر جابر كسرى والمنعم علي بما لا يؤدّي معشار عشر حقه وإن كنت أبا الثناء شكري مولاي على رضا باشا لازال له الرضاء غطاء والعلي فراشاً فأرسلها أيدّه الله تعالى إلى بعض علماء عصره والفضلاء المعوّل عليهم في مصره ليرى ماذا يجيبون وبم يرجع المرسلون فرجعوا بعد برهة لرّد من ارتكب السببّ فعصى برسالتين إحداهما لعمري سيف والأخرى عصا ثم أحرني بالجواب وتحرير الكلام في ذلك الباب مع ما أنا فيه الاشتغال بالتفسير وضيق وقتي عن منادمة سمير فلم أر بداً من الامتثال لأمر من أوجب طاعة الملك المتعال ستذكّر أما ورد عن النبيّ المختار ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فشرعت في تأليف هذه العجالة وترصيف هذه الرسالة
[ ص 6 ](1/4)
معتمداً على فيض أكرم مسئول مرّتباً لها على مقدّمة وخاتمة وثلاثة فصول فأقول أمّا المقدّمة ففي تعريف الصحابي أعلم أنّ الصحابي في اللغة كما قال شيخ الإسلام القاضي زكريا من صحب غيره ما يطلق عليه اسم الصحبة وإن قلّت وهو نسبة إلى الصحابة وهي إحدى المصادر التي جاء فيها فتح التاء وكسرها وعد منها غير قليل أبو محمد بن قتيبة وتكون جمع صاحب وقيدّها ابن الأثير بالفتح ثم قال ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا والذي يقتضيه كلام بعض أجلة اللغويين أنّ الصحابة مصدراً كان أو جمعاً يجوز في فائه الفتح والكسرة ولعلّة المعوّل عليه والنسبة على تقدير المصدرية من نسبة الشخص إلى من هو منهم وذلك على ما قيل بعد تنزيل الصحابة منزلة أسماء القبائل كتميم وقيس أو الأحياء كقريش وثقيف وإلاّ فالقياس صاحبي فليفهم واختلفوا في تعريفه اصطلاحاً فذهب الأكثرون ومنهم المحدثون والإمام أحمد وبعض الأصوليين وبعض أصحاب الإمام الشافعي عليه الرحمة إلى أنّه من اجتمع بالنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً ومات على الإيمان وبعضهم قال من رأى النبيّ بدل من اجتمع بالنبي ويدخل على الأول مثل ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ ولا يدخل على الثاني إلاّ بتمحل لكن يخرج عنه من رآه من بعينه حيث لا يعدّ ذلك اجتماعاً عرفاً وقد عدّ أئمة الحديث هذا الصنف في الصحابة ويمكن أن يقال أنّ عدّهم ذلك على سبيل
[ ص 7 ](1/5)
التوسّع لشرف منزلة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعطوا كل من رآه حكم الصحبة كما صرّح بذلك أبو المظفر بن السمعاني وأيدّه كما قال الشمّني بما رواه شعبة عن موسى السبلاني قال : أتيت أنس بن مالك فقلت هل بقى من أصحاب النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غيرك قال : قد بقى ناس من الأعراب قد رأوه وأمّا من صحبه فلا انتهى ففرّق ـ رضي الله تعالى عنه ـ بين من له صحبة ومن له رؤية والظاهر أنّ المراد من قولهم من اجتمع بالنبي من اجتمع به حال نبوّته ويشهد له وهم لم يترجموا في الصحابة من ولد له ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل النبوّة ومات قبلها كالقاسم وترجموا مَنْ ولد بعدها كإبراهيم وعليه يخرج زيد بن عمرو بن نفَيْل جدّ سعيد أحد العشرة الذي قال فيه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أنّه يبعث أمّة وحده لأنّه اجتمع معه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قبل النبوّة ومات قبل البعثة على الصحيح بخمس سنين على الدين الحنفي لكن ذكره أبو عبد الله بن مندة والبغوي وغيرها في الصحابة ولعلّه مبني على التوسّع أيضاً وقد كان ـ رضي الله تعالى عنه ـ يعلم قرب بعثة نبيّ لكن لم يعلم أنّه نبيّنا محمد ـ عليه الصلاة السلام ـ بخصوصه فقد أخرج الفاكهي أنّه قال من حديث ولنا انتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدّقه وأشهد أنّه نبيّ ومن الغريب نقل الجلال الدواني القول بنبوّته وأيدّه بعضهم بأنّه كان يستند إلى الكعبة ثم يقول
[ ص 8 ](1/6)
هلموا إليّ فإنه لم يبق على دين الخليل غيري وأنت تعلم أن هذا التأييد أضعف من دين ......... ولم نر نحن هذا النقل عن أحد في الكتب المعوّل عليها في هذا الباب لغير الجلال والظنّ فيه حسن وقولهم مؤمناً حال من فاعل اجتمع فيخرج من اجتمع به ـ عليه الصلاة السلام ـ غير مؤمن وقولهم ومات على الإيمان يخرج من اجتمع به ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً ومات والعياذ بالله تعالى كافراً كربيعة بن أمية وعبد الله بن جحش وعبد الله بن خطل ثم ظاهر الكلام أن تخلّل الردّة لا يضرّ في إطلاق وصف الصحبة وهو كذلك عند جمع سواء كان الرجوع إلى الإسلام في حياته ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أم بعد وفاته لأنّ أشعث بن قيس أرتدّ بعد النبيّ ـ عليه الصلاة السلام ـ ثم رجع إلى الإسلام بين يدي الصديق الأكبر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وزوّجه أخته ولم يختلف أحد من المحدثين في عده في الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وقال بعض : يشترط عدم تخلّل الردّة والمراد من قولهم من اجتمع به ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ مؤمناً ومات على الإيمان الاستمرار على الإيمان لا اعتبار الطرفين فقط وهذا الخلاف في أنّه هل الردّة وحدها تحبط العمل أو هي بشرط الموت عليها فمن قال بالأوّل لقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (1) ذهب إلى الثاني ومن ذهب إلى الثاني لقوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } (2) الآية
[ ص 9 ]
__________
(1) ... سورة الزمر : جزء من الآية 65 .
(2) ... سورة البقرة : جزء من الآية 217 .(1/7)
وهي مفيدة للآية المطلقة لا أنّها على التوزيع قال بالأول : وقد حققنا ذلك في تفسيرنا روح المعاني وهل يدخل من اجتمع به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ميتاً قبل أن يدفنّ كما وقع لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر إن صحّ محل نظر ورجّح الحافظ العسقلاني عدم الدخول واستشعر بعضهم من التعريف أنّه لا بدّ أن يكون من يطلق عليه الصحابي مميّزاً عاقلاً فلا يدخل الأطفال الذين حنّكهم ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كعبد الله بن الحارث بن نوفل وغيره ويمكن أن يقال بدخولهم بناء على أنّ الاجتماع أعم من أن يكون بالنفس والاختيار أو بالغير والاضطرار وأنّ الإيمان أعم من أن يكون حقيقة أو حكماً أو تبعاً كذا قيل وأنت تعلم أنّه لا ينبغي تعميم الإيمان بحيث يشمل إيمان المنافقين لأنّهم ليسوا بصحابة قطعاً ولا عبرة بإيمانهم وإن أجريت عليهم أحكام المؤمنين من الدفن في مقابرهم ونحو ذلك وذهب جمهور الأصوليين إلى أنّ الصحابي من طالت صحبته مدّة يثبت معها إطلاق الصاحب عليه عرفاً بلا تحديد لمقدارها وقيل : مقدار ستة أشهر وقال ابن المسِيّب : مقدار سنة وإلاّ فيشترط الغزو وقيل : لا يعدّ صحابياً إلاّ من وصف بأحد أوصاف أربعة مَنْ طالت مجالسته أو حفظت روايته أو ضبط أنّه غزى معه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أو استشهد بين يديه ـ عليه الصلاة والسلام وقيل غير ذلك والأصح أن المختار عند المحققين هو الأوّل
[ ص 10 ]
فليحفظ وأمّا الفصل الأول ففي بيان أنّ الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ عدول أعلم أنّ أهل السنة إلاّ من شذّ أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم فقد اخلصوا الأعمال من الرياء نفلاً وفرضاً واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوّا أبصارهم عن الشهوات غضا فإذا أبصرتهم رأيت قلوباً صحيحة وأجساماً مرضى وعيوناً قد ألفَتْ السهر فما تكاد تطعم غُمضا بادروا أعمارهم لعملهم أنّها ساعات تقضّى والله تعالى ودّ من قال فيهم شعراً(1/8)
لله دّر أناس أخلصوا عملاً على اليقين ودانوا بالذي أمروا
أولاهم نعماً فازداد شكرهم ثم ابتلاهم فارضوه بما صبروا
وفوا له ثم وافوه بما عملوا به سيوفهم يوماً إذا نشروا
ومن ارتكب منهم من يخالف بعض هذه الأوصاف لم يمت إلاّ وهو أنقى من ليلة الصَدَ وغير مدنس بوَجهه ولا مصرّ على سيّئة قال الخطيب في الكفاية : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم وأخباره عن طهارتهم واختياره لهم وسرد في ذلك آيات كثيرة وأحاديث شهيرة وتخصيص عموماتها خلاف الأصل ولا دليل عليه وجعل السبب دليلاً مما لا يلفت إليه فقد قالوا : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإلاّ لبقى كثير من الأحكام الشرعية بلا دليل وأشكل قوله سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) كما لا يخفى ومَنْ سَيَر الآيات والأخبار والسير والآثار وجد أنّ الله تعالى
[ ص 11 ]
__________
(1) ... سورة المائدة : جزء من الآية 3 .(1/9)
قد عدّلهم وأعدّ لهم من الكرامة والزلفى ما أعدّ لهم ولا يحتاج أحد منهم إلى تعديل الله تعالى إلى تعديل أحد من الخلق وإذا جاء هذا لله تعالى بطل ...... ولو لم يرد من الله سبحانه ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شي من ذلك لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرتهم الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوّة الإيمان واليقين القطع بتعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنّهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدّلين الذين يجيئون إِثْرهم وهذا مذهب كافّة العلماء ممن يعتمد قوله ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي ـ عليه الرحمة ـ أنّه قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ فأعلم أنّه زنديق وذلك أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حقّ والقرآن حقّ وما جاء به حقّ وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ والمنتقصون لهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى انتهى وقال الماوزي في شرح البرهان في الصحابة عدول وغير عدول ولا نقطع إلاّ بعدالة الذين لازموه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأمّا عدالة كلّ من رآه ـ عليه الصلاة السلام ـ يوماً أو زاره ....... أو اجتمع به لغرض وانصرف فلا نقطع بها بل هي محتملة وجوداً وعدماً وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب
[ ص 12 ](1/10)
وتعقبه الشيخ صلاح الدين العلائي بأنّه قول غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحوريث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه ـ عليه الصلاة السلام ـ ولم يقم عنده إلاّ قليلاً وانصرف وكذلك من لم يعرف إلاّ برواية الحديث الواحد ولم يدر مقدار إقامته من أعراب القبائل وفي ذلك ما فيه وذهبت الشيعة إلى أنّ أكثر الصحابة غير عدول بلى روى سليم بن قيس الهلالي منهم في كتاب وفات النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين وعن غير واحد عن الصادق : أنّ الصحابة ارتدوّا بعد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاّ أربعة وفي رواية عن الصادق إلاّ ستة وسبب ارتدادهم بزعمهم تقديمهم أبا بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ على علي ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ في الخلافة وعدم عملهم بحديث الغدير الذي هو نصّ عندهم في خلافة الأمير كرّم الله تعالى وجهه بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلا فصل وثبوته بزعمهم ضروري عند جميع الصحابة مَنْ حَضَرَ الغدير منهم ومن لم يحضر والخلافة أخت النبوّة ولا فرق بين نافي النبوّة عن النبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ونافي الخلافة عن علي ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ في أن كلاّ منهما كافر وكذا لا فرق بين الاخلال بشأن النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ والاخلال بشأن الأمير كرّم الله تعالى وجهه فإنّ كلاّ منهما كفر وقد جحد الجميع وأخلّوا إلاّ الأربعة أو الستة بشأنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ فكفر والعياذ
[ ص 13 ](1/11)
بالله تعالى ولا يخفى أنّ هذا المذهب في غاية البطلان ونهاية الفساد لأنّه يلزم عليه عدم إمكان إثبات مطلب مّا من المطالب الدينيّة لأنّ الأدّلة عندهم أربعة كتاب وخبر وإجماع وعقل وأمّا الكتاب فنقلته هم الصحابة المرتدوّن وحاشاهم بزعمهم وهم قد حرّفوه وأسقطوا كثيراً من آياته وسوره وغيرّوا ترتيبه وفصلوا فيه ما فعلوا والقرآن الحق غير موجود في أيدي الناس وإنّما الموجود في أيديهم المصحف المحرّف الذي هو أشدّ تحريفاً من التوراة والأنجيل ونقلته أسوء حالاً من نقلتهما فقد روى الكليني عن سالم بن مسيلمة قال : قرء رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفاً من القرآن ليس ما يقرؤه الناس فقال أبو عبد الله منا كفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم منه القائم فإذا قام القائم فأقرأ كتاب الله تعالى على حدّه وفي كتاب الكافي للكليني وغيره أمثال هذه الرواية وحينئذ يجوز أن تكون الأحكام المذكورة في هذا القرآن منسوخة أو مخصّصة بما أسقط منه أو بعضها منسوخاً وبعضها مخصصاً ويجوز أن يكون كلّ منها مبدّلاً مغيّراً بما يخالفه وأمّا الخبر فحاله عندهم أشهر من نار على علم وهو أيضاً لا بدّ له من ناقل فهو أمّا من الشيعة أو من غيرهم ولا اعتبار لغيرهم عندهم أصلاً لأنّ منتهى وسائطهم في رواياتهم المرتدّون المحرّفون لكتاب الله تعالى المعادون المعاندون للأمير ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ وسائر أهل بيته وأمّا الشيعة فيقال لهم كون
[ ص 14 ](1/12)
الخبر حجة أمّا لأنّه قول المعصوم أو وصل بواسطة المعصوم الآخر وعصمته أحد بعينه لا تثبت إلاّ بخبر لأنّ الكتاب ساكت عن ذلك وهذا لا يصحّ التمسك به والعقل عاجز والعجزة على تقدير الصدور أيضاً موقوفة على الخبر لأنّ شاهدة التحدّي ورؤية المعجزة لم تيتسّر للكل والإجماع إنّما يكون أيضاً حجّة بدخول المعصوم مع أنّ في نقل إجماع الغائبين لا بدّ من الخبر وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره أو يخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح وأيضاً كون الخبر حجة متوقف على نبوّة نبيّ أو إمامة إمام وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت هو والتواتر ساقط من حين الاعتبار عندهم لأنّ كتمان الحق والزور في الدين قد وقع نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً وخبر الآحاد غير معتبر في هذه المطالب بالإجماع وأمّا الإجماع فبطلانه أظهر لأنّ ثبوته فرع ثبوت الشرع وإذا لم يثبت الأصل لا يثبت الفرع وأيضاً كون الإجماع حجة عندهم ليس بالأصالة بل يكون قول المعصوم في ضمنه فالمدار على قول المعصوم وثبوت المعصوم قد علم حاله وأيضاً دخل المعصوم في الإجماع لا يثبت إلاّ بخبر وقد مرّ آنفاً ما فيه وأمّا العقل فالتمسك به أمّا في الشرعيات أو في غيرها أمّا في الشرعيات فيرجع الأمر إلى القياس وهم لا يقولون بحجيّته وأمّا في غيرها فيتوقف على تجريده من شوائب الوهم والألف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب ونحوه والعلم بخلوصه مما يخلّ يتوقف
[ ص 15 ](1/13)
على ..... معصوم كنبيّ وإمام يحكم بذلك ولا يمكن أن يكون الحاكم العقل إذ يعود الكلام في خلوص حكمه عما ذكر ويلزم ما يلزم على أن الكلام في الأمور الدينية لا غير والعقل الصرف عاجز عن معرفتها تفعيلاً نعم يمكن العقل ذلك إذا كان مستمداً من الشريعة كأن يكون أصل الحكم مأخوذاً من الشارع فحينئذ يقاس عليه ولما كان القياس باطل عند هذه الفرقة تعذرت تلك المعرفة وبطل حكم العقل وقد يقال أنّهم لو التزموا صحّة القياس لا يجديهم نفعاً لأنّه يبقى الكلام في طريق ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه وقد أنسدّ عليهم كلّ طريق كما لا يخفى والحاصل أن القول بارتداد كل الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ إلاّ أربعة أو ستة مع ما ورد فيهم وعنهم ولهم مما لا يقدم عليه أحد ممن يؤمن بالله تعالى ورسوله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ واليوم الآخر ولظهور شناعة هذا القول وبطلانه عدل عند بعض الشيعة زاعماً ارتداد كبّار الصحابة وعلمائهم فقط كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وأما العوام منهم فهم معذورون في إتباعهم باقون على إيمانهم بل أنّ من العلماء من هو معذور أيضاً لكونه ..... مستضعفاً في الأرض لا يقدر على شيء ولكن بشرط إنكاره في قلبه ما فعله القوم وكراهته لهم وموالاته للأمير ـ كرم الله وجهه ـ ولا يخفى أنّه من البطلان بمكان أيضاً لما فيه من تكذيب الآيات
[ ص 16 ](1/14)
الدالة على أنّهم أفضل المؤمنين وأنّه سبحانه قد رضي عنهم وهم قد رضوا عنه ومنزلة الرضا غاية قصد العابدين وحديث الغدير كما أوضحناه في التفسير لا يدلّ على الخلافة على الوجه الذي يزعمه الشيعة أصلاً وإلاّ لزم الطعن بالأمير كرّم الله وجهه بترك الانتهاض أطلب حقّه كما انتهض له حين انتهت النوبة إليه عندنا بعد وفاة عثمان ـ رضي الله عنه ـ والتقية التي يزعمونها مما لا وجه لارتكابها أوّلاً وتركها أخيراً ودعوى أنّه أمر بالأمَرْين حسبما وقعا ممّا لا دليل عليها والشيعة بيت الكذب وقد أبطلنا القول بالتقية في روح المعاني وفي النفحات القدسية بما لا مزيد عليه ومن الناس من قال على فرض دلالة ذلك الخبر على الخلافة أنّا لا نسلم كفر من ارتكب خلافه غاية ما في الباب كونه مرتكب الكبيرة ومرتكب الكبيرة ليس بكافر إلاّ عند الخوارج وأنت تعلم أنّ الشيعة بنوا القول بالكفر على أنّ الخلافة أخت النبوّة فالإخلال بأمرها كالإخلال بأمر النبوّة فحيث كان الإخلال بأمر النبوّة كفراً كان الإخلال بأمرها كذلك وذلك غير مسلّم ودون إثباتها خرط ..... والحق الحقيق بالقبول أنّ القوم رضي الله عنهم لم يرتكبوا في ذلك مكروهاً فضلاً عن حرام فضلاً عن كبيرة ويشهد لذلك حسن معاملة الأمير ـ كرم الله وجهه ـ للخليفتين الأوّلين والامتثال لأمرهما والنصح لهما والأدب عنهما في حياتهما وبعد موتهما فقد روى الإمام المؤيدّ
[ ص 17 ](1/15)
بالله يحيى بن حمزة الشيعي في آخر كتاب طوق الحمامة في مباحث الإمامة (( عن سويد بن غفلة أنّه قال : مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فأخبرت عليّاً ـ كرم الله تعالى وجهه ـ وقلت لولا أنّهم يرون أنّك تضمر ما أعلنوا ما اجتروا على ذلك فقال نعوذ بالله سبحانه من ذلك رحمهما الله تعالى ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته فجعلت دموعه تتحدر عليها وجعل ينظر للبقاع حتى اجتمع الناس ثم خطب فقال : ما بال أقوام يذكرون أخَوْي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووزيَريه وصاحبيه وسيّدي قريش وأبوي المسلمين وأما برئ مما يذكرون وعليه معاقب صحِبا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوفاء والجدّ في أمر الله تعالى يأمران وينهيان ويعاقبان لا يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرأيهما رأياً ولا يحبّ كحبهما حبّاً لما يرى من عزمهما في الله عزّ وجل فقبض وهو عنهما راض والمسلمون راضون فما تجاوز في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وأمره في حياته وبعد موته فقبضا على ذلك رحمهما الله تعالى فوالله الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لا يحبّهما إلاّ مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلاّ شقيّ مارق وحبّهما قرب وبغضهما مرد إلى آخر الحديث )) (1) وفي رواية (( لعن الله تعالى من أضمر لهما إلاّ الحسن الجميل )) (2) فانظر وفقك الله تعالى هذا المدح العظيم من الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ على منبر الكوفة ومقرّ
[ ص 18 ]
__________
(1) ...
(2) ...(1/16)
الخلافة الذي يجعل احتمال التقية كرماداً اشتدت به الريح هل يبقى معه القول بارتدادهما والعياذ بالله تعالى وارتداد إتباعهما سبحانك هذا بهتان عظيم وفي نهج البلاغة وهو من أصح الكتب عند الشيعة أنّ عليّا ـ كرم الله وجهه ـ قال : لله تعالى بلاد أبي بكر لقد قوّم الأود وداوى العلل وأقام السنّة ذهب نقّي الثوب أصاب خيرها وأبقى شرّها أدّى لله تعالى طاعته واتقاء بحقه رحل وتركهم في طرق متشعّبة لا يهتدى فيها الضال ولا يستيقن المهتدى وقد حذف مؤلفه حفظاً لمذهبه أبا بكر وأثبت بدله لفظ فلان وتأبى الأوصاف إلاّ أبا بكر ولهذا الابهام اختلاف الشراح فقال بعضهم : هو هو وقال آخرون : هو عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وأيّاً ما كان فهو مما يلقم الشيعة الحجر وغاية ما أجابوا عنه أنّ ذلك كله لاستجلاب قلوب الناس فإنّهم كانوا يميلون إلى الشيخين غاية الميل ولا يخفى على المنصف أنّ فيه نسبته الكذب إلى المعصوم ـ كرم الله تعالى وجهه ـ لغرض دنيوي مظنون الحصول بل كان اليأس منه حاصلاً وفيه تضييع غرض الدين بالمرّة وحاشا ثمّ حاشَا الأمير من ذلك وفي الصحيح أن مدح الفاسق غضب الربّ فما ظنك بالكافر وأيضاً أيّة ضرورة تلجيه إلى هذه التأكيدات والمبالغات والاستجلاب الذي زعمه الشيعة يحصل بدونها والعبارات شتّى وهو ـ رضي الله عنه ـ من أفصح الناس وأيضاً في هذا المدح تضليل الأمّة وترويج الباطل وذلك محال من الإمام
[ ص 19 ](1/17)
بل الواجب عليه بيان حقيقة الحال لمن بين يديه بموجب ما صحّ اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس وأجاب بعض الإمامية بأنّ المراد من فلان رجل من الصحابة مات على عهد رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ واختار بهذا الراوندي وهو مما يقضى منه العجب فهل كان يمكن لغيره ـ عليه الصلاة والسلام ـ في زمنه الشريف تقويم الأّود ومداواة العلل وإقامة السنة وهل يعقل أنّ رجلاً مات على عهد رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وترك الناس فيما ترك ورسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قائم يصدع بالحق ويهدي إلى صراط مستقيم هذا لعمري الخرق العظيم والخطب الجسيم وأجاب بعض آخر منهم بأنّ الغرض من هذا الكلام مجرّد التعريض بذمّ عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو أيضاً مما يتعجب منه لأنّ التعريض كان ممكناً بدون ارتكاب هذا الأسلوب وأيضاً ما الداعي التعريض دون التصريح وهو في الكوفة بين شيعته وأنصاره وجاء أيضاً في النهج عن الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ في وصف الصحابة مطلقاً كانوا إذا ذكر الله تعالى هَمَتْ أعينهم حتّى تبلّ ثيابهم وماروا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب والأخبار في ذلك من طرق الشيعة عن الأمير ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ كثيرة ومن طريق الجماعة أكثر ولو آمنوا بها من هذا الطريق لذكرناها وجاء مدح أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عن الأئمة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ففي كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن
[ ص 2 ](1/18)
عيسى الأردبيلي الإمامي أنّه سئل الإمام جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ عن حلية السيف هل تجوز فقال : نعم قد حلّى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ سيفه بالفضة فقال السائل : أتقول هكذا ....... الإمام عن مكانه فقال نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق ثلاثاً فمن لم يقل له الصديق فلا صدّق الله تعالى قوله في الدنيا وفي الآخرة وفي ذلك من المدح ما لا يخفى فإن مرتبة الصديقية بعد مرتبة النبوّة كما أشبعنا الكلام عليه في التفسير ولا أقلّ من كونها صفة مدح فوق العدل فكيف يتأتّى احتمال الكفر مع ذلك وغاية ما أجابوا عمّا ذكر ونحوه أنّه تقيّد وهي كعكّازه الأعمى عندهم وقد أبطلنا القول بها في غير موضع من كتبنا كما أشرنا إليه سابقاً على أنّ الظاهر كون السائل شيعياً فلا معنى للتقية منه واحتمال حضور سنّي مما لا يلتفت إليه وإذا ثبت بهذه الأخبار كون الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ أصلاً للمدح ومحلاً للثناء وهو الخليفة الأوّل ثبت أنّ أمر الخلافة ليس كما يزعمه الشيعة وأنّ الذين بايعوه وعزّروه لم يرتدّوا بذلك وإلاّ لكان هو الأحّق بنسبة الارتداد إليه وحاشاه ولكان حرّياً بالذمّ الشنيع من المعصوم بدل من المدح الجليل والثناء الجزيل وزعم بعض الشيعة أن ممّا يوجب الكفر أيضاً قتال الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ وإيجابه ذلك من فروع جعل الخلافة أخت النبوة وهو أظهر من إيجاب مجرّد مبايعة غيره على الخلافة لكفر فأهل وقعة
[ ص 21 ](1/19)
الجمل ووقعة صفين كلّهم كفار عندهم الصحابة وغيرهم في ذلك سواء وسيأتي استدلالهم على ذلك مع ردّه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى واستدل بعض علمائهم على ارتداد الصحابة بعد رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بما روى عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعاً (( ليردنّ علي إناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي فيقال لي أنّك لا تدري أأحدثوا بعدك )) (1) وفي رواية (( فأقول سحقاً سحقاً )) (2) والجواب عنه أوّلاً بأنّا لا نسلّم أنّ المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتقدم في المقدّمة بل المراد بهم مطلق المؤمنين به ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ المتبعين له وهذا كما يقال لمقلّدي أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أصحاب أبي حنيفة ولمقلّدي الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدّة من السنين وعبارات الفقهاء ملئ من ذلك كما لا يخفى على المتبع وأيدّه بعضهم أنّه وقع في بعض الروايات أمتّي ولم أَرَه وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين ومعرفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّهم من أمته من إمارات تلوح عليهم فقد جاء في الخبر أن طائعيهم يمتازون على طائعي غيرهم وجذبهم وردّهم عن الحوض كان تأديباً لهم وعقاباً على معاصيهم ويلحق
[ ص 22 ]
__________
(1) ...
(2) ...(1/20)
بذلك رحماؤه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بقوله : (( سحقاً سحقاً )) (1) وسجله بعضهم من قبيل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لصفية ـ رضي الله عنها ـ : (( عقري حَلقي وليس بشي )) (2) وثانياً بأنّا سلّمنا أنّ المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى السابق إلاّ أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهراً ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدّوا من الأعراب على عهد الصديق ـ رضي الله عنه ـ وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم أصحابي لظنّ أنّهم لم يرتدّوا كما يؤذن عندما قيل في جوابه من أفّك لا تدري ما أحدثوا بعدك وهذا الجواب أولى من الجواب المنفي كما لا يخفى ولا يفيد ذلك الشيعة شيئاً لأنا لا ننكر ارتداد أحد الصحابة وإنّما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاث ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة والحديث لا يدلّ على ذلك أصلاً فإن قلت أن إناساً في الحديث كما لا يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدّي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة فما الدليل على ما أردت أجيب بأنّ ما جاء عن الله سبحانه والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة وحينئذ يتعيّن ما أردناه من ذلك حذراً من إلغاء الحديث وزعم بعض منّا أنّ المراد بأولئك الأناس المنافقون وفيه أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمت حتّى علم
[ ص 23 ]
__________
(1) ...
(2) ...(1/21)
حالهم وأنّهم في الدرك الأسفل من النار فكيف يقول أصحابي أصحابي فتأمل واستشكل القول بعد الترجيح الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ بأنّ الله تعالى حكم بفسق البعض في قوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) الآية فإن جمهور المفسرين بل كلهم كما قال ابن عبد البر على أنّها نزلت في الوليد بن عقبة أخى عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين بعثه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ مصدّقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم ...... فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنّهم مقاتلوه فرجع وقال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّهم قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة فهمّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقتالهم فجاؤا معتذرين ونزلت الآية فسمّاه الله تعالى فاسقاً وقد عدّه أئمة الحديث من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وجعله الحافظ العسقلاني ـ عليه الرحمة ـ في القسم الأول من الأقسام الأربعة على أن قصة صلاته بعد رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهودة وفي كتب الأخبار مذكورة وقصّة جلد عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ له بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مخرجة في الصحيحين وهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى وذلك ينافي العدالة قطعاً وأجيب بأنّه ليس مرادنا من كون الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ جميعهم عدولاً أنّهم لم يصدر عن أحد منهم مفسّق أصلاً ولا ارتكب ذنباً قطّ فإنّ دون إثبات ذلك ........ فقد كانت تصدر منهم
[ ص 24 ]
__________
(1) ... سورة الحجرات : جزء من الآية 6 .(1/22)
الهفوات ويرتكبون ما يحدّون عليه وإنكار ذلك مكابرة صرفه وعناد محض وجهل بموارد الآيات والأحاديث بل مرادنا أنّهم لم ينتقلوا من هذه العار إلى دار القرار إلاّ وهم طاهرون مطهرّون تائبون آيبون ببركة صحبتهم للنبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ونصرتهم إياه وبذل أنفسهم وأموالهم في محبته وتعظيمهم له أشدّ التعظيم سراً وعلانية كما يدل على ذلك الكتاب وتشهد له الآثار ومما يفصح عن تعظيمهم له ما رواه الموافق والمخالف أنّ عروة بن مسعود لما أتى النبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ في قضيّة الحديبية وكلّمه ثم رجع إلى الصحابة قال لهم أي قوم والله هؤلاء ولقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً يعظمّه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تنخم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم فدلَكَ بها وجهه وجلده وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيماً إلى آخر ما قال ولا يرد على هذا المنافقون لأنّهم بمعزل عن الاتصاف بذلك ولا يعلم ارتداد متصف بما ذكره وموته على الردّة ليقال هلا رجع إلى الإيمان ببركة ذلك وإن سلّمنا وجود مرتد كان متصفاً بما ذكر وقد مات على الردّة فهو أعزّ من بيض الأنوق وقد يستشهد لما قلنا بقوله تعالى بعد تلك الآية { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1)
[ ص 25 ]
__________
(1) ... سورة الحجرات : الآية 6 ـ 8 .(1/23)
فإن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنّه سبحانه حبّب إلى هؤلاء المؤمنين الذين لو أطاعهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كثير من الأمر لفشلوا ووقعوا في المشقة والإثم الإيمان وزينّه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ومن أخبر سبحانه عنه بذلك لا يكاد يموت إلاّ طاهراً راشداً ويدخل في هؤلاء المخاطبين الوليد ـ رضي الله تعالى عنه ـ بلا ريب لأنّ العنت كان ظاهراً على تقدير إطاعته والعمل بموجب ما أخبر به كما لا يخفى وكذا بقوله عزّ وجلّ : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } (1) وقوله سبحانه : { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } (2) وقوله جلّ وعلى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (3) الآية فإنّ فيها التعبير بالمضارع المقيد للاستمرار التجدّي كما قيل بمعونة المقام واستمرار الابتغاء الذي هو من أفعال القلب ممّا يقضى بعدم إصرارهم على الذنب أن صدر منهم كذا قررّه بعضهم وللنظر فيه مجال واستشكل القول بالعدالة أيضاً
[ ص 26 ]
__________
(1) ... سورة النور : جزء من الآية 43 .
(2) ... سورة الفتح : جزء من الآية 26 .
(3) ... سورة الفتح : جزء من الآية 29 .(1/24)
بأنّ كثيراً من الصحابة فرّ من الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف من اكبر الكبائر وبأنّ الكثير منهم انفضّ عن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ حين أقبّلت العير من الشام يوم الجمعة كما قصّ الله تعالى ذلك بقوله : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } (1) الآية وقد أخرج هذا مخرج الذم فلا أقلّ من أن يكون مفسّقاً وبأنّ النبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ طلب في مرض موته دواة وقرطاساً ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما قال وكثر اللغط فقال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ : (( أخرجوا عني )) (2) فقد خالفوا أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ والله تعالى يقول : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } (3) الآية وبأنّ مسلماً روى في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال : أنّ رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قال : (( إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أيّ قوم أنتم فقال عبد الرحمن بن عوف كما أمرنا الله تعالى فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كلا بل يتنافسون ثم يتدابرون ثمّ تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض )) (4) فإنّ هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة وذلك ينافي العدالة وأجيب عن الأول بأنّ الفرار يوم أحد كان قبل
[ ص 27 ]
__________
(1) ... سورة الجمعة : جزء من الآية 11 .
(2) ...
(3) ... سورة آل عمران : جزء من الآية 32 .
(4) ...(1/25)
المنهي ولئن قلنا كان بعده فهو معفوّ عنه بدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1) وأمّا الفرار يوم حنّيْن فبعد تسليم أنّه كان فراراً في الحقيقة معاتباً عليه لم يصرّ عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله سبحانه : { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } (2) وعن الثاني بأنّ تلك القصّة إنّما كانت في أوّل زمان الهجرة قبل التأدّب بآداب الشريعة فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه ولهذا لم يتوعّد عليه ولم يعاتبهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة على أنّه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار وأنّ الحسنات يذهبن السيئات وعن الثالث بأنّ الأمر منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن إلاّ من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلاّ لفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد مع خاصّة أهل بيته كالأمير ـ كرّم الله وجهه ـ فإنّه بقى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حياً بعد ذلك خمسة أيّام ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (3) وهو ظاهر والتخلف عن الامتثال كان ناشئاً عن محض المحبّة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدّة مرضه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومثل هذه
[ ص 28 ]
__________
(1) ... سورة آل عمران : جزء من الآية 155 .
(2) ... سورة التوبة : الآية 26 .
(3) ... سورة المائدة : جزء من الآية 3 .(1/26)
المخالفة لا تعدّ فسقاً وإلاّ لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي ـ كرّم الله وجهه ـ ولا قائل به بالإجماع وقد وقع للأمير ـ رضي الله تعالى عنه ـ بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية فإنّه كتب في كتاب الصلح هذا ما عاهد عليه محمّد رسول الله تعالى فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه فأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل حتى محاه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيده الشريفة بل وقع منه ـ كرّم الله وجهه ـ ما يرى أشدّ من ذلك فقد صحّ من طرق متعددّة (( أنّ النبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ذهب إلى بيت الأمير والبتول ـ رضي الله تعالى عنها ـ ليلة وأيقظهما لصلاة التهجّد وأمرهما بها فقال الأمير والله لا نصليّ إلاّ ما كتب الله لنا وإنّما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلّينا فرجع ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يضرب فخذيه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً )) (1) وقد رواه البخاري أيضاً في صحيحه (( وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلاّ لما هو فيه من المرض )) (2) وكلام عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لم يكن إلاّ لغلبة الحال عليه الناشئة من كلام المحبّة وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا النفحات القدسية في ردّ الإمامية وعن الرابع بأن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم ويدل على ذلك أنّ الصحابة أمّا
[ ص 29 ]
__________
(1) ...
(2) ...(1/27)
مهاجرون أو أنصار والحديث صريح في أنّ أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنّهم ما حملوا المهاجرين على التحارب فتعيّن أنهم من التابعين وقد وقع ذلك منهم فإنّهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك بن الأشتر وإضرابه ولا كلام لنا فيهم واستشكل أيضاً بغير ذلك وأجيب بما أجيب وأجاب بعضهم عن جميع ذلك بأناّ لم ندّع العصمة في الصحابة وإنّما ادّعينا العدالة فيهم ومجرّد وقوع ما يحل بها في وقت من أحدهم لا يستدعى سلبها عنه دائماً وكثرة الآيات والأخبار والآثار الواردة في مدحهم الناطقة بوفور ما أعدّ الله تعالى تقتضي أنّهم لم يذهبوا إلى ربهم إلاّ وهم طاهرون مطهرّون فلا ينبغي الخوض فيهم والطعن فيهم { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (1) وهو في معنى جواب الذي ذكرناه فيما تقدم عن الوليد ـ رضي الله تعالى عنه ـ وزعم بعضهم لاضطراب الأدلة عليه أنّه فيهم عدولاً وغير عدول وفصّل ذلك بأنّهم قسمان القسم الأول من مات قبل الفتنة والقسم الثاني من مات بعدها فمن تحقق ارتكابه لمفسّق من القسم الأوّل ولم تتحقق توبته عنه وقليل ماهم حكم بفسقه ومن لم يتحققّ منه ذلك بأن
[ ص 30 ]
__________
(1) ... سورة الحشر : الآية 10 .(1/28)
تحقق منه الصلاح والمآثر الحسان أو كان مستور الحال حكم بعدالته ومن خالط الفتنة ولم ينصر الإمام الحق فإن كان عن اجتهاد وكان من أهله فهو عدل وإن كان مخطئاً في الواقع وكذا حكم من اعتزل الفئتين كابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ومن خالط ولم ينصر الإمام ولم يكن ذلك عن اجتهاد بل لمحض إتباع الهوى وحبّ الرياسة فهو فاسق إلى أن تحقق توبته وأمّا المقلّدون فإن كانوا قدّ قلدّوا الباغي مع العلم بما ورد في حقّ الأمير ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ فهم فسقة أيضاً وإن كانوا قدّ قلدوّا مع الجهل فيقرب بالقول بأنّهم عدول معذورون انتهى وأنت تعلم أنّ هذا القول خلال المعوّل عليه عند أهل السنة فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الصحابة الذين أدركوا الفتنة أنّه اتفق أهل الحقّ ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم وأنّهم معذورون فيما صدر منهم وما صدر إلاّ عن اجتهاد ويعلم من ذلك حكم من لم يدرك الفتنة كما لا يخفى وأنا لا أجزم بأن جميع ما صدر إنّما صدر عن اجتهاد ولا اعتقد أن جميع الصحابة بالمعنى السابق الشامل لمن اجتمع معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساعة مجتهدون ومع هذا أقول لا ينبغي الخوض في أحد منهم والقول بعدم
[ ص 31 ]
عدالته فإنّ الخطر في ذلك عظيم وقد قال الله سبحانه : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (1) ولا ينبغي لمن يعرف نفسه أن يكون دون نملة سليمان ـ عليه السلام ـ في الأدب مع أصحاب نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا تسمع قولها لأخواتها { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } (2) فقيّدت بقولها وهم لا يشعرون حذاراً من توهم نسبته هذا الفعل إليهم عاملين وذلك غاية الأدب والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .
__________
(1) ... سورة الإسراء : جزء من الآية 36 .
(2) ... سورة النمل : جزء من الآية 15 .(1/29)
وأمّا الفصل الثاني
ففيما شجر بين الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وتلخيص الكلام فيه أن حكم الطائفتين وهو كالتتمة للفصل الذي قبله أعلم أن أعظم ما تداولته الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ما وقع زمن خلافة الأمير ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ فنشأ منه وقعتان عظيمتان وقعة الجمل ووقعة صفيّن والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ وأنكر الهشامية تلك الوقعتين وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمعاً لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه وتلخيص الأولى أنّه لما قتل عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ صبراً توجّع المسلمون فسار طلحة والزبير وعائشة وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها نحو البصرة
[ ص 32 ](1/30)
فلما علم علي ـ كرّم الله وجهه ـ بمخرجهم واعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ففاتوه وأرسل ابنه الحسن وعمار يستفزان أهل المدينة وأهل الكوفة ولمّا قدموا البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها حتى إذا جاءهم الإمام ـ كرّم الله وجهه ـ حاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار ومنهم قتلة عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ بالتحريش ورموا بنار الفتنة فحمى الوطيس وقامت الحرب على ساق وكان ما كان وانتصر علي ـ كرّم الله وجهه ـ وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة ولما ظهر عليّ ـ رضي الله عنه ـ جاء إلى أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ فقال : غفر الله لك قالت : ولك ما أردت إلاّ الإصلاح ثم أنزلها دار عبد الله بن خليل وهي أعظم دار في البصرة على صفيّة بنت الحارث أم طلحة الطلحات وزارها بعد ثلاث ورحبّت به وبايعته وجلس عندها فقال رجل : يا أمير المؤمنين إنّ بالباب رجلين ينالان من عائشة فأمر القعقاع بن عمر أَنْ يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجرّدهما من ثيابهما ففعل ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وأذن لمن نجا من الجيش أَنْ يرجع إلاّ أن يحبّ المقام وأرسل معها أربعين(1/31)
[ ص 33 ]
امرأة وسير معها أخاها محمداً ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودّعت الناس ودعت لهم وقالت : يا بنيّ لا يغتب بعضكم بعضا أنّه والله ما كان بيني وبين علي ـ رضي الله عنه ـ في القديم إلاّ ما يكون بين المرأة وأحمائها وأنّه لمن الأخيار فقال علي ـ كرّم الله وجهه ـ : أنت والله ما كان بيني وبينها إلاّ ذلك وأنّها زوجة نبيّكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدنيا والآخرة وسار معهما مودعاً أميالاً وسرّح بنيه معها بقيّة ذلك اليوم وكانت ـ رضي الله تعالى عنها ـ بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع منها تبكي حتى تبّل خمارها ففي هذه المعاملة من الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ دليل على خلاف ما يزعمه الشيعة من كفرها وحاشاها ـ رضي الله تعالى عنها ـ وفي ندمها وبكاها على ما كان دليل على أنّها لم تذهب إلى ربّها إلاّ وهي نقيّة من غبار تلك المعركة على أنّ في كلامها ما يدّل على أنّها كانت حسنة النيّة في ذلك وقال غير واحد : أنّها اجتهدت ففعلت لكنّها أخطأت في اجتهادها ولا أثم على المجتهد المخطئ بل له أجر على اجتهاده وكونها ـ رضي الله تعالى عنها ـ من أهل الاجتهاد مما لا ريب في وآية { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ( ) الخ خطاباً لنساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تأبى ذلك إذ ليس المراد منها
[ ص 34 ](1/1)
إلاّ تأكيد أمر التستر والحجاب وإلاّ لما أخرجهنّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزول الآية للحج والعمرة مثلاً ولما جاز خروجهنّ لذلك ولا لعيادة المرضى والأقارب والسفر لا ينافي التستر والحجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب نعم قالت الشيعة أنّه يبطل اجتهادها أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوماً لأزواجه : (( كأنّي بإحداكنّ تنبحها كلاب الحؤب فإيّاك أن تكوني يا حمراء )) ( ) والحوءب كجعفر منزل بين البصرة ومكّة وقد نزلته عائشة ونبحتها كلابُهُ فتذكرت الحديث وهو صريح في النهي ولم ترجع والجواب عن ذلك أنّ الثابت عندنا أنّها لما علمت ذلك وتحققته من محمد ابن طلحة فهمّت بالرجوع إلاّ أنها لم توافق عليه ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلاً من ........ تلك الناحية أنّ هذا المكان مكان آخر وليس بحؤب على أنّ إيّاك أن تكوني يا حمراء ليس موجوداً في الكتب المعوّل عليها فيما بين أهل السنة فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد على أنّه لو كان لا يرد محذوراً أيضاً
[ ص 35 ](1/2)
البين المأمورة به بلا شبهة وقد شبّه حالها ـ رضي الله عنها ـ في ذلك مجال شخص رأى من بعيد طفلاً يريد أن يقع في بئر فسعى ليمنعه من ذلك فمّر بلا شعور بين يدي مصلّ فإنّه يذهب لما قصد لأنّه لم رجع لم يحصل له تلافي ما وقع وفاته تخليص الطفل المأمور به وأمّا طلحة والزبير ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فلم يموتا إلاّ على بيعة الإمام ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ أمّا طلحة فقد روى الحاكم عن ثور بن ...... أنّه قال : (( مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي من أنت قلت من أصحاب أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ فقال أبسط يدك أبايعك فبسطت يدي فبايعني وقال هذه بيعة علي وفاضت نفسه فأتيت عليّاً ـ رضي الله عنه ـ فأخبرته فقال : الله أكبر صدق الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنّة إلاّ وبيعتي في عنقه )) ( ) وأمّا الزبير ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقد ناداه علي ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ وخلابة وذكرّه قول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ له : (( لتقاتلنّ عليّاً وأنت له ظالم )) ( ) فقال : لقد أذكرتني شيئاً إنسانيه الدهر لا جرم لا أقاتلك أبداً فخرج من المعسكرين نادماً وقتل بوادي السباع مظلوماً قتله عمرو بن جرموز وقد روى الموافق والمخالف أنّه جاء بسيفه واستأذن علي الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ فلم يأذن له فقال : أنا قاتل الزبير فقال :
[ ص 36 ]
.......(1/3)
سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ............... بالنار )) ( ) والشيعة كما في ........ الإنكار ....... يزعمون أن ............................ ضرورة أن النبيّ ... ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنّما ذكر ذلك الخبر في حقّ الزبير ـ رضي الله عنه ـ من معرض التعظيم له والتفخيم من أمره وذلك يأتي كون استحقاق قاتله النّار لأمر آخر غير قتله ولو كان المقصود ما ذكر لكان الكلام من باب الألفاظ المنافي كمال ـ صلى الله عليه وسلم ـ الموجب لارتفاع الوثوق بأوامره ونواهيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لاحتمال أن يريد بها معنى لم يظهر إنما هو مذهب الملاحدة الباطنيّة وأمّا عنهم قتله من إتمام الشبهة على ما قيل ونظيره مما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن (( أن ناساً من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ذهبوا يتطرقون فقتل واحد منهم رجلاً قد فرّ وهو يقول أنّي مسلم أنّي مسلم فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك غضباً شديداً ولم يقتل القاتل )) ( ) وكذا قتل أسامة ـ رضي الله عنه ـ فيما أخرجه السدي (( رجلاً يقول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ........ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
[ ص 37 ](1/4)
جداً ولم يقبل ........ قال له كيف أنت ولا إله إلاّ الله ونزل قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } ( ) الآية وأجاب آخرون بأنّ العلماء اختلفوا في أنّه هل يجب القصاص على الحاكم إذا لم يطلب الولي أم لا ولعلّ الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع وروى أيضاً أنّ الأمير ـ رضي الله عنه ـ قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه مرحباً بابن أخي أنّي لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ( ) وهذا ونحوه يدل على أنّهما ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لم يذهبا إلاّ طاهرين مطهرّين وأمّا تلخيص الوقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أنّ معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان قد استنصره أبناء عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ ووكلّوه في طلب حقّهما من قتلة أبيهما فلما بلغه فراغ علي ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج من دمشق حتى ورد صفيّن في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات فلما ورد الأمير ـ رضي الله عنه ـ دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا وطلبوا منه قتلة عثمان وكانوا قد انحازوا إلى عسكره ولهم عشائر وقبائل ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم فمال ـ رضي الله عنه ـ إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره فأبى معاوية إلاّ تسليم من يزعمونه قاتلاً وكثير القيل والقال حتى أتّهم بنوا
[ ص 38 ]
أميّة الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ بأنّه الذي دلسّ على قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وكان ـ كرّم الله وجهه ـ قد تصرف بسلاحِهِ فقال لذلك قائلهم
ألا ما ليلي لا نفور كواكبيه إذا غار نجم لاح نجم يراقبه
بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم ولا تنبهوه لا تحلّ مناهبه
بني هاشم لا تعجلونا فإنّه سواء علينا قاتلوه وسالبه(1/5)
وإنّا وإيّاكم وما كان منكم كصدع الصفا لا يراب الصدع شاعبه
بني هاشم كيف التقاعد بيننا وعند علي سيفه وحرائبه
لعمرك لا أنسى ابن أروى وقتله وهل ينسين الماء ما عاش شاربه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه كما فعلت يوماً بكسرى مرازبه
وكان الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ يلعن القتلة ويقول يا معاوية لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان وتصرّفه ـ رضي الله عنه ـ بسلاحه لأنّه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أنّ حقّ التصرّف في ذلك للإمام ثم أنّه قد وقع الحرب بينهم مراراً وبقى ـ كرّم الله وجهه ـ بصفيّن ثلاثة أشهر وقيل : سبعة ، وقيل : تسعة وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس وليلة الهرير أمرها شهير وآل الأمر إلى التحكيم وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج وذلك تقدير
[ ص 39 ](1/6)
العزيز العليم وأهل السنة إلاّ من شذّ يقولون أنّ علياً ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر وأنّ مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين خلافاً للشيعة ولا فاسقين خلافاً للعمرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ولمن شذّ من أهل السنة ولا أن أحد الفريقين من علي ـ كرّم الله وجهه ـ ومقاتليه لا بعينه فاسق خلافاً للواصلية أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي أمّا أنّ الحقّ مع عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ فغنّي عن البيان وأمّا كون المقاتل باغياً فلأنّ الخروج على الإمام الحقّ بغي وقد صحّ أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ويح عمار تقتله الفئة الباغية )) ( ) وقد قتله عسكر معاوية وقوله حين أخبر بذلك قتله من أخرجه ممّا لا يلتفت إليه وإلاّ لصحّ أن يقال أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاتل حمزة وأضرابه ممن قتل معه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكذا قول من قال المراد من الفئة الباغية الفتنة الطالبة أي لدم عثمان فلا يدلّ الخبر على البغي بالمعنى المذموم وأمّا كونه من ليس بكافر فلما في نهج البلاغة أنّ علياً ـ كرّم الله وجهه ـ خطب يوماً فقال : أصحبنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة ولقوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ( )
[ ص 40 ](1/7)
فسمّى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهما وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنّها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم وأن يقاتلوا إذا بغت إحداهما حتى تفيء ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلاً لأنّ الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فأفهم واستدلّ بعضهم على كفر المقاتلين للإمام ـ كرّم الله وجهه ـ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له : (( حربك حربي ولا يحل ........ أنا سلم لما سالمتم حرب لمن حاربتم )) ( ) وحرب آل بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفر بلا ريب وبقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (( حبّ علي إيمان وبغضه كفر ونفاق )) ( ) ولا يغفر اظهر من الحرب منه ثبت الكفر والنفاق وأجاب أهل السنة بأن الخبر الأوّل لم يروه منّا إلا ابن جرير وفي رواية عندنا وَهْن شهير نعم ذكره الطوسي المنجم وغيره من الشيعة وهم بيت الكذب وأكثر رواتهم زنادقة بشهادة الأئمة ـ رضي الله عنهم ـ كما يشهد بذلك الكافي وغيره وعلى تقدير صحة الرواية لا حجّة فيه لأنّه خارج مخرج التهديد والتغليط بدليل ما حكم به الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ
[ ص 41 ](1/8)
من بقاء إيمان أهل الشام وأخوّتهم في الإسلام ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنّة أو يخصّ الحرب بما كان كحرب الخوارج صادراً عن بُغْض وعداوة وإنكار ....... الأمير للخلافة باعتبار الدين وذلك كفر عند كل مؤمن وأدلّة التخصيص أكثر من أن تحصر وقال بعض : لا شك أنّ المقصود التشبيه بحذف الأداة كزيد أسد فكأنّه قيل حربك كحربي فإن كان الحرب فيه المصدر المبني للفاعل صحّ أن يكون وجه الشبه الوجوب أي أنّ حربك لما حاربك وبغى عليك من المؤمنين واجب عليك كحربي لمن حاربني من الكافرين واشتراك الحربين في الوجوب لا يستدعى اشتراك المحاربين بصيغة اسم المفعول في الكفر وهو ظاهر وإن كان الحرب فيه المصدر المبني للمفعول صحّ أن يكون وجه الشبه كونه حراماً وضلالاً مثلاً ولا يتعيّن كونه كفراً ومن أصحابنا من منع كون حرب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كفراً فقد قال سبحانه : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ( ) فإنّها نزلت في أكلي الربا وهم ليسوا بكفار وقال جلّ وعلا في قطّاع الطريق : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ( ) الآية ولم تحكم الشيعة بكفرهم أيضاً وفيه تأمل لا يخفى وجهه وبأنّ الخبر الثاني كالخبر الأوّل غير ثابت عندنا ولم يروه أحد منّا أيضاً وقيل : أنّه على تقدير الثبوت خارج مخرج التهديد لمن حارب أهل ....... على
[ ص 42 ](1/9)
طرفها تقديم في الخبر السابق والخبر الأخير رواه مسلم لكن لا نسلم أنّ الحرب بغض فقد يحارب الإنسان مَنْ يحبه والحيثيات مختلفة كما لا يخفى وممّا يدلّ على أنّ المحارب غير كافر يصلح الحَسَن ـ رضي الله تعالى عنه ـ مع معاوية وهو ممّا لا مجال لإنكاره وقد روى المرتضى وصاحب فصول المهمّة من الإمامية أنّه لما أبرم الصلح بينه ـ رضي الله تعالى عنه ـ وبين معاوية خطب فقال : أنّ معاوية نازعني حقاّ لي دونه فنظرت الصلاح للأمّة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ورأيت أنّ حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم انتهى وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالح وأنّ المصالحة لم تقع إلاّ اختياراً ولو كان المصالح كافراً لما جاز ذلك ولما صحّ أن يقال فنظرت الصلاح للأمّة وقطع الفتنة الخ فقد قال سبحانه وتعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ( ) ويدلّ على وقوع ذلك اختياراً أيضاً ما رواه صاحب الفصول عن أبي محنف من أنّ الحسين ـ رضي الله عنه ـ كان يبدي كراهة الصلح ويقول : لو خرّ أنفي كان أحبّ إلي ممّا فعله أخيّ فإنّه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه ـ رضي الله تعالى عنه ـ اختياراً فإنّ الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أنّ معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ ندم على ما كان منه من المقاتلة والبغي على الأمير
[ ص 43 ](1/10)
ـ كرّم الله وجهه ـ وأتفّق أن بكى عليه ـ كرّم الله وجهه ـ فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال : قال معاوية لضراً يصف لي عليّاً فقال : أو تعفيني قال بل تصفه فقال أو تعفيني قال : لا أعفيك قال : أما إذ لا بدّ فإنّه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزيراً ..... طويل الفكرة يقلّب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدينا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه إلى أن قال لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله فاشهد بالله تعالى لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجونه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأنّي أسمعه يقول يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم بي تشوقت هيهات هيهات غرّي غيري قد بقتك ثلاثاً لا رجعت لي فيه فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشية الطريق قال : فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشّفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء
[ ص 44 ](1/11)
ثم قال معاوية : رحم الله تعالى أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار فقال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها انتهى وما يذكره المؤرخون من أنّ معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان يقع في الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يقول عليه أو يلتفت إليه لأنّ المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ولا يميّزون بين الصحيح والموضوع والضعيف وأكثرهم حاطب .... لا يدري ما يجمع فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر التي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخطأ مما لا يليق بشأنه عاقل فضلاً عن فاضل وما جاء في ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضاً التوقف عن قبوله والعمل بموجبه لأنّ له معارضات مثله في الصحة والثبوت على أنّ من سلم من داء التعصّب وبرء من وصمة الوقوع في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمل ذلك على أحسن المحامل وأوّله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
وأما الفصل الثالث ففي بيان حكم سبّ الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ وهو المقصود في الحقيقة من هذه الرسالة أعلم أنّ
[ ص 45 ](1/12)
السبّ في اللغة الشتم ويكون بكلّ ما فيه تنقيص وله مراتب متفاوتة وأجمع أهل السنة أنّه مطلقاً في حقّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ منهيّ عنه وإنّما الخلاف في كفر مرتكبه وستعلم قريباً إن شاء الله تعالى الحقّ في ذلك واللعن مثل السبّ بل هو أدهى وأمر وقد يقال له سبّ أيضاً ففي النهاية لابن الأثير أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ومن الخلق السبّ والدعاء انتهى والشيعة جوّزوا السبّ واللعن على أكثر الصحابة ومنهم من كتم النصّ وهو بزعمهم حديث الغدير وكذا من حارب الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ كعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم بل اعتقد أنّ لعن هؤلاء وسبّهم من أعظم العبادات وأقرب القربات وذلك من الضلالة بمكان فقد صحّت أحاديث كثيرة في النهي عن اللعن مطلقاً حتى لعن الحيوانات وصرّح بعض الحنفيّة بأنّ لعن الكلب من وجه كفر وقد تواتر عند الفريقين نهي الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ عن لعن أهل الشام فما ظنّك بأصحاب النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل بكبارهم ـ رضي الله عنهم ـ الذين ورد في حقهم من الآيات البيّنات ما ورد وأثنى عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لم يثن على أحد فمن ذلك قوله سبحانه : { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ( ) ( تدقق الآية شيخي )
[ ص 46 ](1/13)
وقوله تعالى : { الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ( ) وقوله عزّ وجلّ : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ( ) الآية وقوله جلّ وعلا : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } ( ) الآية وقوله تبارك وتعالى : { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ( ) الآية وقوله سبحانه : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ( ) إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى ومثلها الأخبار الواردة فيهم عموماً وخصوصاً ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه كما لا يخفى وليس لهم أن يقولوا بالردّة والعياذ بالله تعالى لما علمت وإن قالوا أنّهم ارتكبوا من الذنوب ما سوّغ لعنهم وإن لم يكن كفراً فإنّ مسوغ اللعن ليس مخصوصاً به ردّوا بأنّا لا نسلّم ارتكابهم لذلك ودون إثباته خرط القتاد وعلى فرض التسليم قد قدّمنا أن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ
[ ص 47 ](1/14)
لما منّ الله تعالى عليهم من شرف صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبذل الأنفس والأموال والأولاد بين يديه مع صدق النية وخلوص العزيمة وشدّة المحبّة لا يصرّون على ذنب فعلوه وخطيئة ارتكبوها فما ذهبوا إلى ربهم إلاّ بتوبة نصوح طاهرين من الآثام مكفراً عنهم ما يقتضى الملام فلم يتحقق فيهم حال السبّ واللعن والعياذ بالله تعالى ما يسوغ ذلك واعتبار ما كان أو صحّ لاقتضى جواز سبّ مثل حذيفة وسلمان ـ رضي الله عنهما ـ فإنّهما كانا قبل أن يسلما كافرين والشيعة لا يجوّزون ذلك فيهما لأنّهما عندهم من الصحابة الموالين للأمير ـ كرّم الله وجهه ـ وبالجملة اعتبار ذنب مغفور المقدح والطعن في غاية السعة وموجب لفساد عظيم ومن ذلك صحة إطلاق الكافر مثلاً على كثير من المؤمنين وهو كما ترى وقد قال سبحانه وتعالى : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ } ( ) وأيضاً الوارد في لعن المرتكبين لبعض الذنوب اعتبار عنوان الذنب ومفهوم الوصف كالظالمين والكاذبين دون القصد إلى واحد بخصوصه ممّا صدق عليه المفهوم كزيد الظالم وعمرو الكاذب فيجوز لعن الله الظالمين ولعن الله الكاذبين مثلاً دون لعن الله تعالى زيداً وعمراً الظالم والكاذب بل نصّوا على حرمة لعن كافر بعينه لم يتحقق بخبر المعصوم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وقوله ـ صلى الله
[ ص 48 ](1/15)
عليه وسلم ـ حين رأى حيواناً وسم على وجهه لعن الله من فعل هذا ليس نعتاً في لعن مخصوص لجواز اعتبار العموم ولعن الملائكة المرأة التي تخرج من بيتها بغير أذن زوجها حتى تعود أيضاً كذلك وعن بعض المحققين أنّ اللعن في مثل ألا لعنة الله على الظالمين متوجّه بالحقيقة إلى الوصف لا إلى صاحبه والمراد ذم ذلك الوصف والتنفير عنه وأنّه لو ..... من توجهه إلى المتلبس به يكون وجود الإيمان مانعاً والمانع تقدم كما هو عند الشيعة وأيضاً وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضياً فاللعن لا يكون مترتباً على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا } ( ) الآية ظاهر في طلب المغفرة وترك العداوة للمؤمنين ونطق الصحابة الذين تسبّهم الشيعة بكلمة الإيمان وإقامتهم لشعائر الدين أمر معلوم لا يحتمل الإنكار بوجه وكون ذلك عن نفاق أو مستتبعاً بما يخالفه ممّا يحتاج إلى دليل يثبته وبرهان يحققه وهو أحد المستحيلات ولو سلم لكلّ أحد كل ما يقوله من الاحتمالات العقلية وإن لم يبرهن عليها لسلّم كلام النواصب والخوارج في حقّ الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ وترّهاتهم التي تمحّها الإسماع في شأنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ وفي ذلك من الفساد
[ ص 49 ](1/16)
ما فيه ومتى كان الإيمان ثابتاً لا ينبغي إلاّ لترضّى والاستغفار دون السبّ واللعن وقد استدل بعض أصحابنا للنهي عن اللعن بقوله سبحانه : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ( ) بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه كما ذهب إليه الإمامية وبالجملة حرمة سبّ الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ممّا لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشات أو يتنازع فيه اثنان وأطلق غير واحد القول بكفر مرتكب ذلك لما فيه من إنكار ما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة ......... على أنّ لهم الزلفى من ربهم ومن هنا كفّر من كفّر الرافضة واستدل لكفرهم أيضاً بما رواه البيهقي في دلائل النبوّة بسَنَد حَسَن عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه قال : (( يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنّهم مشركون )) ( ) وأشار إلى ذلك ........ في قصيدته النونية النبوية بقوله :
وكذاك أخبر أنّ سبّ صحابة ما للمصرّ عليه من غفران
علماً بقوم يجهرون بسبّهم من كلّ غمر فاحش لعّان
وروى عن الإمام مالك أنه قال : (( من شتم أحداّ من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكراً أو عمراً وعلياً أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل )) ( ) .....
[ ص 50 ](1/17)
يؤول له وفي لفظ يقتل من كفر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلّهم أو واحداً منهم لأنّ من كفّر مسلماً فقد كفر فما بالك بالصحابة وهم أساس الإسلام وعماده وذهب القاضي حسين إلى أنّ سبّ الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه اكفارهما وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية والأصحّ من مذهب الشافعية أنّ السبّ بما فيه اكفار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهو السبّ الذي اتخذه عبادة شيعة زماننا ودرج عليه الكمُيْلية من الشيعة أيضاً فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يرتاب في كفرهم بناء على أنّ سبّهم للصحابة بما فيه اكفارهم وحاشاهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ويلزم من اكفارهم بغضهم وهو كفر أيضاً كما صرّح به الطحاوي وغيره واستدل له بعض الأئمة بقوله تعالى في حقّهم : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } ( ) وكذا استحلال إيذائهم وهو كفر أيضاً كما لا يخفى وفي الأنوار لو استحل إيذاء أحد من الصحابة كفر وفي الاعلام أن استحلال إيذاء غير الصحابة من المسلمين مكفّر فما ظنّك باستحلال إيذائهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وكذا يلزم ذلك إنكار خلافة الخلفاء منهم وفي البزازية أنّ من أنكر خلافة أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فهو كافر في الصحيح وأنّ من أنكر خلافة عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فهو كافر في الأصح وفي التاتارخانية مثل ذلك والذي نعلمه من الشيعة اليوم
[ ص 51 ](1/18)
التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النصّ ولم يبايعوا علياً ـ كرّم الله وجهه ـ بعد وفات النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما بايعوا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ كذلك وكذا التصريح بغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبّهم ولعنهم تهافت الفراش على النار وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك وما روى عن بعضهم من أنّ السابّ يضرب أو ينكّل نكالاً شديداً محمول على ما إذا لم يكن السبّ بما يوجب تكفيرهم ـ رضي الله عنهم ـ وكان خالياً عن دعوى بغض وارتداد واستحلال إيذاء وليس مراده من أن حكم السابّ مطلقاً ذلك كما لا يخفى على ...... وذكر صاحب التحفة الاثني العشرية عليه الرحمة أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه بما أثنى وهم الذين ولع الرافضة بسبّهم وبغضهم مثل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أنّ سبّهم وطعنهم من العصيان بمكان ونصّ كلامه ـ قدس سره ـ ثم ينبغي أن يعلم ههنا دقيقة وهي أنّ سبّ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والطعن فيهم والعياذ بالله تعالى إنّما صار حراساً وكفراً لأنّ وجه السبّ وهو المعاصي والكفر لا يوجد في أولئك الكبار ..... بل يمتنع بالضرورة وإنّما الموجود فيهم ما يوجب تعظيمهم وتكريمهم وتوقيرهم
[ ص 52 ](1/19)
والثناء الجميل عليهم والمحامد الحسنة لهم ومن عداهم من جماعة المؤمنين الذين ثبت تعظيمهم وتكريمهم ومغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم بنصوص الكتاب المجيد فهم في حكمه لا محالة في حرمة السبّ والطعن والتحقير والإهانة غاية الفرق بين الفريقين أنّ الأنبياء لم يوجد فيهم أصلاً ما يوجب هذه الأمور وهؤلاء وجد فيهم فانعدم والمعدوم بالعدم الطارئ كالمعدوم بالعدم الفطيري في هذا الباب ولهذا كانت نسبة الذنب السابق المنوب عنه إلى التائب حراماً فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له وليس لعوام الأمّة ممن عدا الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذه المرتبة لأنّ تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم أمر معلوم لنا بالقطع من الوحي والتنزيل وقبول طاعاتهم وتعلّق رضاء الله تعالى بأعمالهم على الخصوص أمر متيقن أيضاً فهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ متوسطون بين الأنبياء والأمة ولهذا لن يصل أحد من غير الصحابة وإن كان مطيعاً ...... إلى درجتهم أصلاً انتهى وهذا كلام حسن وفيه تأييد لما ذكرنا من أن اعتبار ذنب مغفور في غاية السفه وكذا أجمع السادة الصوفية ـ قدس الله أسرارهم ـ من القادرية والنقشبندية والجشتية والكبروية والسهروردية وغير ذلك على وجوب محبّة الصحابة كبارهم
[ ص 53 ](1/20)
وصغارهم وتكريمهم وتوقيرهم واعتقاد أنّهم أفضل البشر بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحرمة سبّهم وطعنهم وإنّ سابهم وطاعنهم من الضالين الخاسرين وفي كتاب الغنية المنسوب لحضرة الغوث الرباني والهيكل الصمداني قطب دائرة العارفين ومرّبي المسترشدين والسالكين المحبوب السبحاني حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ قدس سرّه ـ وغمر نابرّه ما ينادى على ذلك بأعلى صوت بَلْ صرّح ـ قدس سرّه ـ بل فيها بتشبيه الرافضة عاملهم الله تعالى بعدله باليهود والنصارى وهو ظاهر في اكفارهم ومن تتبع كتب القوم قدّست أسرارهم رآهم أشد الخلق حباّ لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسرهم وأكثر الناس بغضاً للرافضة الطاغين فيهم نعم أنّ للصوفية نوع اختصاص بعلي ـ كرّم الله وجهه ـ حتى شاع أنّ الصوفية علوية لما أنّ سلاسل الطرائق منتهية إليه وواردة عليه فهو باب الولاية وأبو الإرشاد ولا يجرّهم هذا إلى الابتداع وتنقيص أحد من الصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ومن نسب إليهم من ذلك وحاشاهم فقد ضل ضلالاً بعيداً وإذا أحطت خبراً بما ذكرنا ظهر لك أنّ من سبّ أو طعن أو بغض أو كفّر أحداً من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لاسيما كبارهم كالخلفاء الراشدين وزعم حلّ ذلك عند أحد
[ ص 54 ](1/21)
من أهل السنة والجماعة فقد أعظم الفِرْقة بغير مرية فكيف لا وأخذ الأمور التي ميزّت أهل السنة عن الشيعة حبّهم لأصحاب نبيّهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتعظيمهم إياّهم وقولهم فيهم أنهم أفضل البشر بعد النبييّن والترضي عنهم أجمعين لا كما عليه الشيعة من بغضهم لهم وتحقيرهم وقولهم فيهم أنّهم شر الخلق ولعنهم وسبّهم في كلّ وقت وحين ولم يستثنوا أحداً من ذلك سوى ستة أو سبعة أو ما يقارب من ذلك وبالجملة أنّ نسبة حلّ السبّ لأهل السنة في الكذب مثل قول القائل الضدّان يجتمعان والأربعة فرد والثلاثة زوج وشريك الباري ممكن بالإمكان الخاص ونحو ذلك ولا ينبغي أن يزاد بي جواب زاعم ما ذكر من تلك النسبة على قول ألا لعنة الله على الكاذبين لظهور كذبه وعنائه عن البيان عند من عرف معنى لفظ أهل السنة والجماعة هذا والكلام في خصوص حلّ سبّ معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ واكفاره ولعنه بعلم أيضاً حكمه مما تقدم وقد صرّح الإمام مالك بأن من قال أنّه كان على ضلال وكفر قتل ويفهم من الرواية الأخرى أنّ من كفّر فقد كفّر وكذا من قال بحلّ لعنه كما يقتضيه كلامهم فإنه من كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وكان أحد الكتاّب لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما صحّ في مسلم وغيره
[ ص 55 ](1/22)
وفي حديث سنده حسن (( كان معاوية يكتب بين يدي رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ )) ( ) قال المدايني : كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وحي ربّه وهي مرتبة رفيعة وروى الترمذي وقال : أنّه حديث حسن (( أنّ رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ دعا له فقال : اللهّم أجعله هادياً مهديّاً )) ( ) ودعاءه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمّته مستجاب ومتى كان هذا مستجاباً كان في معاوية صفتان يقصدان لاعنه ومكفره على عجزه وأخرج الملا في سيرته ونقله عنه المحبّ الطبري في رياضه أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أرحم أمتّي بأحبتي أبو بكر وأقواهم في دين الله تعالى عمر وأشدهم حياء عثمان ....... علي ولكلّ نبي حواري وحواري طلحة والزبير )) ( ) وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحقّ معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله تعالى وأمين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان فمن أحبّهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك وفي هذا من الدلالة على فضله ما لا يخفى وقد فاز ـ رضي الله تعالى عنه ـ بمصاهرة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنّ أمّ حبيبة أم المؤمنين أخته وقد قال
[ ص 56 ](1/23)
ـ عليه الصلاة والسلام ـ (( دعوا أصحابي وأصهاري فإنّ من حفظني فيهم كان معه من الله تعالى حافظ ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله تعالى منه ومن تخلّى الله تعالى منه يوشك أن يأخذه )) ( ) رواه الإمام الحافظ أحمد بن منيع وروى الحارث بن أبي أسامة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (( عزيمة من ربيّ وعهد عهده إليّ أن لا أتزوّج إلى أهل بيت ولا أزوّج بيتاً إلا كانوا رفقائي في الجنة )) ( ) والأخبار المشعرة بفضله كثيرة وما طعن به المخالف مردود عليه وقد ألف العلامة ابن حجر السلطان همايون من سلاطين الهند رسالة نفيسة في الذبّ عن معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ سمّاها تطهير اللسان والجنان عن الخطور والتفوّه بثلب سيّدنا معاوية بن أبي سفيان وأجاب عن الأخبار الموهمة للنقص في حقه ـ رضي الله تعالى عنه ـ ونزول الحسن ـ رضي الله عنه ـ عن الخلافة ومبايعته عليها ووقوع الإجماع إذ ذاك على خلافته لا يبقى سبيلاً إلى سبّه ويجعل القول بكفره والعياذ بالله تعالى كفراً لا شبهة فيه لما فيه من تضليل الأمة التي لا تجمع على ضلالة أبداً لاسيما ومن جملة المجُمعين المعصوم وهو الحسن ـ رضي الله عنه ـ على ما هو معتقد الشيعة ودعوى الإكراه قد مرّ الجواب عنها فتذكر والكلام في عمرو بن العاص نظير الكلام في معاوية ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما علمت مما روى عن
[ ص 57 ](1/24)
الإمام مالك وغيره وقد كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقربّه ...... بعد أن اسلم وولاّه غزاة ذات السلاسل ..... بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ثمّ استعمله على عمان فتوفّى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو أميرها ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو الذي افتتح قنّسرين وصالح أهل حلب ومنيح وانطاكية وأخرج أحمد من حديث طلحة أحد العشرة رفعه عمرو بن العاص من صالحي قريش ورجال سنده ثقات إلاّ أنّ فيه انقطاعاً بين ابن أبي مليكة وطلحة وأخرجه البغوي وأبو يَعْلى من هذا الوجه وفيه زيادة (( نِعْم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله )) ( ) وموافقته لمعاوية في قتال علي ـ كرّم الله وجهه ـ ليس بكفر على ما علمت ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه الطبراني بسند رجاله موثقون على خلاف في بعضهم أنّ الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ قال : (( قتلاي وقتلا معاوية في الجنة )) ( ) فإنّه ظاهر في أنّ الأمر كان عن اجتهاد وللمخطئ فيه أجر واحد وللمصيب أجران إلى عشرة أجور وقد جاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ما يدلّ على أنّ معاوية كان من أهل الاجتهاد ونصّ غير واحد على أنّ عمراّ بن العاص أيضاً كذلك فهو معذور فيما
[ ص 58 ]
صدر منه وإن كان مخطئاً كسائر من بغى على علي ـ كرّم الله وجهه ـ والحكايات الدالّة على أنّه إنّما وافق معاوية للدنيّا لا للدين ممّا نقلها المؤرخون في كتبهم في غير سنّد لها لا يعوّل عليه وحال المؤرخين في النقل معلومة فلا ينبغي الاغترار بنقلهم إلا إذا وجدت فيه شروط القبول وممّا لا يقول عليه من ذلك ما نقله ابن الوردي أنّ عمراً انحرف يوماً عن معاوية فاستعتبه معاوية فأنشده
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنّل
به منك ديناً فانظرَنْ كيف تصنعُ
فإن تعطني مصراً وتربح صفقتي
شريتّ بها شخصاً يضرّ وينفع(1/25)
فولاّه مصر وجهزّه إليها لذلك والثابت عند أهل الأخبار أنّه وُليّ مصر وسار إليها بعد ما كان من أمر الحكمين وحكم فيها من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أنْ مات وأمّا أنّه أنشد ما أنشد فغير ثابت ومما ينتظم في هذا السلك بعض الأخبار المشعرة بذمّه وذم اجتماعه مع معاوية وهو ما روى أنّ شداد بن أوس دخل معاوية وعمرو معه على فراشه فجلس بينهما وقال : أتدرون ما أجلسني بينكما أنّي سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إذا رأيتموهما جميعاً ففرقوا بينهما فوالله ما
[ ص 59 ]
اجتمعا إلاّ على غَدره فأحببت أن أفرّق بينكما )) ( ) انتهى فإنّ هذا الخبر لم يثبت لأنّ في سنده مَنْ قال الحافظ الهيثمي فيه لا أعرفه وبعض المحققين أجاب عنه على تقدير صحته بما لا يخلو عن نظر نعم ........ عنهما ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في قتال الأمير ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ والبغي عليه أمر ظاهر لا مساغ لإنكاره إلاّ أنّهما معذوران عند أكثر الجماعة أو مكفّر عنهما ذلك على ما أشير إليه في ما سبق ولو لم يقل بهذا ولا ذاك فنهاية ما يمكن أن يقال كونهما آثمين وأمّا الكفر وحلّ اللعن والسبّ فمّا لا يمكن أن يقال بوجه من الوجوه وحال من الأحوال ومما هو ظاهر في أنّ عمراً لم يكفر بما فعل أنّ الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ تمكن من قتله في صفيّن كما هو مشهور عند الموافق والمخالف ولم يقتله ولو كان كما يزعمه الشيعة لما منعه من قتله مانع كما لا يخفى وبالجملة تكفير أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين تحقق إيمانهم وصدقهم وعدم نفاقهم والإقدام على لعنه بمجرّد شبهة هي أو وهن من بيت العنكبوت كفر صريح لا ينبغي أن يتوقف فيه وللشيعة الذين في زماننا الحظ الأوفى من هذا الكفر لأنّهم كفّروا إناساً من الصحابة كان الأمير يصلّي وراءهم ويقتدي بهم في الجُمَع والجماعات كأبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ
[ ص 60 ](1/26)
وقد ..... معهم على أحسن حال وأرفه بال زوّج ابنته أم كلثوم من عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ونكح هو ـ كرّم الله وجهه ـ عن سبي أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ خولة الحنفية ـ رضي الله عنها ـ وصدر منه ـ كرّم الله وجهه ـ من حُسَن المعاملة مع الخلفاء ما لا يقبل تأويلاً وهو ممّا يلقم الشيعة حجراً لكونهم أسوأ الخلق عقيدة وأكثرهم جرأة وأظهرهم ضلالاً قال في تبصرة الحقائق : الشاكّ في كفرهم أن شكّ أن في قولهم هل هو فاسد أم لا فهو كافر وإن علم أن قولهم ضلال وبدعة وشكّ في كونه كفراً ففي تكفير خلاف وممن حكم بكفر الشيعة وإلحاق ديارهم بدار الحرب جماعة من المتأخرين كالعلامة ابن كمال وشيخ الإسلام أبي السعود وغيرهما ولولا خوف الأطناب لأتيت من فضائحهم بالعجب العجاب وفيما ذكرناه كفاية فيما نحن بصدده من الجواب والله تعالى الهادي إلى صَوْب الصواب
وأمّا الخاتمة
ونسئل الله تعالى حسنها ففي تفاوت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في الفضل أعلم أفضل الخلق على الأصحّ وعليه أكثر الناس الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأفضلهم المرسلون وأفضلهم أولوا العزم وأفضلهم محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهل هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل من المجموع كما أنّه أفضل من كلّ واحد أم لا فيه خلاف والذي أميل إليه الأوّل وأفضل الأمم أمّته
[ ص 61 ](1/27)
ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما يشهد له الآيات والأخبار وأفضلهم صحابته للآيات أيضاً وللأحاديث البالغة مبلغ التواتر وأن كانت تفاصيلها آحاد وأفضلهم الخلفاء الأربعة الراشدون وهم في الفضل كما روى عن أبي منصور الماتريدي وأبي الحسن الأشعري على ترتيبهم في الإمامة وعن مالك تقديم عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ على عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ وأدّعى غير واحد رجوعه على ما تقدّم ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان وممن له عزيمة لا تنكر أهل ...... من الأنصار وكذلك السابقون الأوّلون وقد ........ فأكثر في شخص واحد من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فتكون بدرياً أحدياً من أهل بيعة الرضوان مثلاً ولا يلزم من ذلك محذور تفصيل الشيء على نفسه كما لا يخفى وقال بعضهم : أفضل الصحابة أهل الحديبية وأفضلهم أهل أحد وأفضلهم أهل بدر وأفضلهم العشرة وأفضلهم الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وزعمت الخطابية أن أفضلهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والشيعة أنّ أفضلهم علي ـ كرّم الله وجهه ـ وأنف بعضهم عن أن يقال ـ كرّم الله وجهه ـ أنّه أفضل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأنشد في ذلك :
يقولون لي فضّلِ علياً عليهم وكيف أقول الدّر خير من الحَصى
ألم تر أنّ السيف ينقص قدره إذا قيل هذا السيف خير من العَصا
[ ص 62 ](1/28)
وزعمت الراوندية أنّ أفضل الصحابة العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ وتوقف بعض الناس على تفضيل أحد منهم بخصوصه وقال : الأسلم بعد اعتقاد جلالتهم عدم الخوض في التفضيل فليس هنا ما يفيد اليقين وفي المواقف وشرحه بعد كلام في يقين الأفضل من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها من الجزم بها إذ لا دلالة للعقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل وليست مسألة يتعلّق بها عمل فيكفى بها الظن بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين والنصوص بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنّها بأسرها أمّا آحاد أو ظنية الدلالة وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجباً لزيادته قطعاً لأنّ الثواب تفضل من الله تعالى عند أهل الحقّ فله أن لا يثب المطيع ويثب غيره وثبوت الإمامة وإن كان قطعياً لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن كيف ولا قطع بأنّ إمامة المفضول لا تصحّ من وجود الفاضل لكنّا أوجدنا السلف قالوا بأنّ الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وحسنُ ظننا بهم يقضي بأنّهم أولم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا إتباعهم في ذلك القول وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله تعالى وإلى عدم الجزم ذهب الآمدي انتهى
[ ص 63 ](1/29)
المراد منه ولا تخفى متانته وفي فتوحات الشيخ الأكبر ـ قدس سرّه ـ ما يوافق ذلك فإنّه قال : إن تقديم الخلفاء بعضهم على بعض لا يقتضى الجزم بالتفضيل بل ذلك راجع إلى الله تعالى ولم يُعْلم به فالله سبحانه يحفظنا من الفضول وفي كلام الشيخ السهروردي في عقيدته ما يوافقه أيضاً ونقل عن الباقلاني أيضاً أن مسألة التفضيل على الترتيب المشهور ظنية وفي ذلك مخالفة لما عليه الإمام الأشعري حيث ذهب إلى أنّها قطعية قيل : وعليه فضّل علي ـ كرّم الله وجهه ـ على سائر الصحابة مبتدع قطعاً وعلى القول الآخر فيه لا قطع بابتداعه والمشهور عند الجماعة إطلاق القول بابتداعه وأنّ من فضّله ـ كرّم الله وجهه ـ بالمحبّة مبتدع أيضاً ما لم يكن من ذريّته وهو خلاف الإنصاف كما لا يخفى على منصف ومن الناس من لم ير تفضيلة على الكلّ ابتداعاً لما ثبت من جلةٍ من أئمة الحديث أنّه ما ورد في صحابي ما ورد في علي ـ كرّم الله وجهه ـ من الأخبار النبوية والمدائح المصطفوية مع ما تواتر عنه من الشجاعة والعلم والإيثار وملازمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صغيراً وكبيراً وغير ذلك وكون غيره أشجع منه وأعلم وأكثر ملازمة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حيّز المنع وجَعَلَ الابتداع عدم توفيه الباقين حقهم من التفضيل بل قدّ يجر ذلك إلى الكفر والعياذ بالله تعالى وأطال الكلام في ذلك وفيه نظر أو نقل عن آخرين أنّه ـ كرّم الله وجهه ـ
[ ص 64 ](1/30)
ولما اجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره كان هو الخليفة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلا فصل ولكن من طريق الباطن الذي يدور على الإرشاد وتربية المريدين وتصفية بواطنهم وغير ذلك مما تقتضيه الولاية وأمّا أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فهو خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً بلا فصل أيضاً ولكن من طريق الظاهر الذي يدور عليه سدّ الثغور وتجهيز الجيوش وتنفيذ الأحكام وحفظ بيضة الإسلام ونحو ذلك ومن هنا كان معظم سلاسل السادة الصوفية قدّست أسرارهم منتهية إلى علي ـ كرّم الله وجهه ـ دون غيره من الصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ انتهى وأنت تعلم أن دعوى خلافتين ظاهرية وباطنيّة غير مسلمة عند أهل الظاهر وإثباتها عليهم صعب جدّاً فتأمل وأعلم أيضاً أنّ المشهور أيضاً من مذهب الجماعة أنّه وهو على الحق لا يبلغ أحد من الأمة إلى يوم القيامة درجة واحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في الفضل ولو فعل ما فعل من الطاعات ويشهد له ظواهر كثير من الآي والأخبار وعلى هذا جاء ما نقل عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك ـ عليه الرحمة ـ أنّه سئل فقيل له يا أبا عبد الرحمن أيّما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال : والله أنّ الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل من عمر بألف مرة صلى معاوية خلف
[ ص 65 ](1/31)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ سمع الله لمن حمده فقال معاوية ـ رضي الله عنه ـ : ربّنا ولك الحمد فما بعد هذا الشرف الأعظم وأمّا ما روى عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه قال : (( أمّتي كالمطر لا يدري أوله خير أم أخره )) ( ) فلا يعارض ما تدلّ عليه تلك الظواهر لأنّ المراد منه كما قال ابن قتيبة تقريب آخر هذه الأمّة إلى أوّلها في الفضل كما تقول لا أدري أوجه هذا الثوب خير أم مؤخره وقد علمت أن وجهه خير ولكنّك تؤيّد تقريب مؤخره عن وجهه في الجودة وغير ذلك ممّا هو مذكور في محله هذا والحمد لله حمداً غضاّ والصلاة والسلام على نبيّه النبيه حتى يرضى وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ورجوم الغواية ما ظهر الحق والصواب وأحرق شياطين الأوهام من فلك العلم شهاب وكتب أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه سنة 1254 رمضان
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ لِي : أَنّ أُمّ جَمِيلٍ حَمَالَةَ الْحَطَبِ حِينَ سَمِعَتْ مَا نَزَلَ فِيهَا ، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا تَرَى إلّا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُك ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي ؟ وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ ثُمّ قَالَتْ
ثُمّ انْصَرَفْت ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ فَقَالَ مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي(1/32)
الروض الأنف ـ الجزء الثاني(1/33)