إتحاف أهل السنة
بجواز الخلاف في مسألتي
العذر بالجهل
وتارك الصلاة
رسالة للمشنعين على المخالفين لهم في هاتين المسألتين ومن تأثر بهم
الجزء الثاني
(مسألة كفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً)
كتبه
أبومحمد عبدالله بن محمد العبدالكريم
السعودية-الزلفي-29/3/1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب بجزئيه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم، وبعد: فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرانا بعدل، وحرما الظلم علينا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، ومن العدل الذي أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنزال المسائل الشرعية وأصحابها منازلهم، من غير إفراط ولا تفريط، أو من غير غلو ولا جفاء، فالمسائل الجزئية الفرعية لا يصح أن تنزل منزلة المسائل الكلية والأصولية، والمخالف في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف لا يصح أن يساوى بالمخالف في المسائل الخلافية التي لا يسوغ فيها الخلاف.(1/1)
أقول ذلك لِما بدأ يظهر على السطح من تشنيع بعض طلبة العلم على إخوانهم في بعض المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف بين أهل العلم، والتي احتمل أهل السنة الخلاف فيها، قبل ظهور هؤلاء المشنعين، وصار هؤلاء المشنعون يرمون بالبدعة والفرقة كالإرجاء كل من خالفهم في هذه المسائل الاجتهادية، ومن ذلك مسألة العذر بالجهل في مسائل الشرك، ومسألة كفر تارك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً، حيث اختار هؤلاء المشنعون القول بعدم العذر بالجهل، وتكفير تارك الصلاة تكاسلاَ، وأتبعوا ذلك برمي من خالفهم بالجهل تارة، وبالبدعة أو الفرقة تارة أخرى، فأردت أن أبين لكل منصف من أهل السنة والجماعة أن هاتين المسألتين مسألة العذر بالجهل في مسائل الشرك، ومسألة كفر تارك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً من المسائل الاجتهادية، التي هي داخلة جميعاً تحت مذاهب أهل السنة والجماعة، والتي يعذر فيها كل من أخذ بأحد القولين، مع وجوب البيان والنصيحة بين المختلفين بالتي هي أحسن ورفع الملام عن المخطئ مع بقاء الإخوة الدينية، وليس من شأني في هذه الوريقات بيان الراجح من المرجوح، أو الصواب من الخطأ في هذه المسائل -مع أني قد أذكر شيئاً من أدلة الفريقين- بل المراد كما تقدم بيان إعذار المخالف في هاتين المسألتين مسألة العذر بالجهل في مسائل الشرك، والمسألة الثانية مسألة كفر تارك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً، علماً أني أدين الله في مسألة الصلاة أن تركها كفر أكبر مخرج عن الملة، لكن هذا لا يعني مصادرة الرأي الآخر السائغ عند أهل السنة، ورمي أصحابه بالجهل والبدع.
وقد تقدم الكلام عن المسألة الأولى في الجزء الأول، وهذا هو الجزء الثاني في بيان المسألة الثانية، وهي حكم تارك الصلاة تهاوناً أو كسلاً، والله أسأل أن يوفقني لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
المسألة الثانية:
مسألة حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً
الفصل الأول(1/2)
بيان أن هذه المسألة مسألة اجتهادية، من موارد النزاع بين أهل السنة، وليست من المسائل التي يضلل بها المخالف ويرمى بسبب المخالفة فيها بالبدعة.
تحرير محل النزاع: قبل الشروع في بيان الخلاف في ذلك أود التنبيه إلى أن المراد بهذه المسألة هو تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، لا تاركها جحوداً، فإن تركها جحوداً كفرٌ أكبر بلا خلاف بين أهل السنة.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (2/149): أجمع المسلمون على أن جاحد فرض الصلاة كافر يقتل إن لم يتب من كفره ذلك.ا.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين، ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم.ا.هـ
وأما ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً فقد اختلف أهل السنة في هذه المسألة على قولين، ونقل الخلاف فيها عن أهل السنة والحديث جمع من أهل العلم، ومنهم:
1-أبو عبدالله محمد بن نصر المروزي، قال رحمه الله تعالى –في تعظيم قدر الصلاة-:
قد ذكرنا في كتابنا هذا ما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم من تعظيم قدر الصلاة وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها والتغليظ بالوعيد على من ضيعها والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل وعظم القدر ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم في إكفار تاركها وإخراجه إياه من الملة وإباحة قتال من امتنع من إقامتها ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها.ا.هـ من تعظيم قدر الصلاة (2/925).(1/3)
ثم قال المروزي بعد أن ساق كلام القائلين بالتكفير وأدلتهم: قد حكينا مقالة هؤلاء الذين أكفروا تارك الصلاة متعمدا وحكينا جملة ما احتجوا به وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث وقد خالفتهم جماعة أخرى عن أصحاب الحديث فأبوا أن يكفروا تارك الصلاة إلا إن يتركها جحودا أو إباء واستكبارا واستنكافا ومعاندة فحينئذ يكفر وقال بعضهم تارك الصلاة كتارك سائر الفرائض عن الزكاة وصيام رمضان والحج وقالوا الأخبار التي جاءت في الإكفار بترك الصلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإكفار بسائر الذنوب نحو قوله صلى الله عليه و سلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.ا.هـ من تعظيم قدر الصلاة (2/936)، فانظر رعاك الله كيف جعل هذا القول قولاً لأهل الحديث ثم نقله عن بعض أئمتهم من غير تشنيع ولا تبديع.
2-الإمام الصابوني فقد قال:
واختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمدا، فكفره بذلك أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف، وأخرجوه به من الإسلام، للخبر الصحيح: " بين العبد والشرك ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر" وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمة الله عليهم أجمعين إلى أنه لا يكفر ما دام معتقدا لوجوبها، وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام، وتأولوا الخبر من ترك الصلاة جاحدا كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه قال: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) ولم يك يتلبس بكفر فارقه، ولكن تركه جاحدا له. ا.هـ من عقيدة السلف أصحاب الحديث - (1 / 29) فتأمل رعاك الله كيف جعل الصابوني هذا القول قولاً لأهل الحديث ثم نقله عن بعض أئمتهم من غير تشنيع ولا تبديع.(1/4)
3-الإمام أبو بكر الإسماعيلي: حيث قال حاكياً اعتقاد أهل السنة: واختلفوا في متعمد ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر. فكفره جماعة: لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " وقوله :" من ترك الصلاة فقد كفر ومن ترك الصلاة فقد برئت منه ذمة الله " وتأول جماعة منهم أنه يريد بذلك من تركها جاحداً لها كما قال يوسف عليه السلام ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) ترك جحود الكفر ا.هـ من اعتقاد أهل السنة ص40.
فهذا الصابوني والإسماعيلي يذكرون هذا القول عند أهل السنة ولا يصفونه بقول أهل البدع، زد على ذلك أن هذا البيان جاء في كتب عقائد أهل السنة وليست في كتب الفقه، مما يدل على أنهم قصدوا بيان أن المسألة اجتهادية عند أهل السنة، ولو كانت من أقوال أهل البدع لبينوها ولما أقروا الخلاف فيها.
4-ابن عبدالبر رحمه الله، حيث قال مبيناً الخلاف في المسألة وأن القولين من أقوال أهل السنة الذين يقولون الإيمان قول وعمل: وابن شهاب –أي الزهري- القائل ما ذكرنا –أي عدم كفر التارك للصلاة وأنه يعزر حتى يصلي- هو القائل أيضا في قول النبي صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله كان ذلك في أول الإسلام ثم نزلت الفرائض بعد وقوله هذا يدل على أن الإيمان عنده قول وعمل والله أعلم، وهو قول الطائفتين اللتين ذكرنا قولهم قبل قول ابن شهاب كلهم يقولون الإيمان قول وعمل وقد اختلفوا في تارك الصلاة كما علمت.ا.هـ من التمهيد (4/241) ولم ينسب -رحمه الله- القول بعدم كفر تارك الصلاة إلى المرجئة كما فعل المشنعون على إخوانهم المخالفين لهم في هذه المسألة.
5-شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتابه الإيمان:(1/5)
وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا : أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور . وعن أحمد في ذلك نزاع، واحدى الروايات عنه : أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب . وعنه رواية ثانية : لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط، ورواية ثالثة : لا يكفر إلا بترك الصلاة، والزكاة إذا قاتل الإمام عليها . ورابعة : لا يكفر إلا بترك الصلاة . وخامسة : لا يكفر بترك شيء منهن، وهذه أقوال معروفة للسلف.ا.هـ من الإيمان(237)، فجعل القول بعدم كفر تارك الصلاة من أقوال أهل السنة، بل نقله عن إمامهم أحمد في رواية عنه، ولو كان هذا قولاً للمرجئة لما أقر ابن تيمية بنسبته للإمام أحمد.
وقال في الإيمان الأوسط:(1/6)
أما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد : أحدها : أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر وهذا قول طائفة من السلف وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبو بكر والثاني : أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره . و الثالث لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد . والرابع : يكفر بتركها وترك الزكاة فقط . والخامس : بتركها وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج. .ا.هـ من الإيمان الأوسط(155) فجعل القول بكفر تارك الصلاة قول طائفة من السلف، فدل ذلك على أن القول الآخر قول الطائفة الثانية من السلف، بل نقله عن إمامهم أحمد بن حنبل في رواية عنه، ولو كان هذا قولاً للمرجئة لما أقر ابن تيمية بنسبته لطائفة من السلف ولا للإمام أحمد.
6-الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
كما في " الدرر السنية " (1/102) جوابا على من سأله عما يكفر الرجل به ؟ وعما يقاتل عليه ؟ فقال رحمه الله:
أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونا فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان.ا.هـ فهل محمد ابن عبدالوهاب يقول بقول المرجئة؟!
7-الشيخ عبد الرحمن بن حسن، من أئمة الدعوة السلفية في نجد رحمه الله تعالى.
فقد سئل عن مذهب الخوارج...(1/7)
فأجاب: أما مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب، ما كان منها دون الكفر والشرك، وإنهم قد خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه وكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال، واستدلوا على ذلك بآيات، وأحاديث، لكنهم اخطؤوا في الاستدلال.
فما دون الكفر والشرك من المعاصي، فلا يكفر فاعله، لكنه ينهى عنه إذا أصر على كبيرة ولم يتب منها، فيجب نهيه والقيام عليه؛ وكل منكر يجب إنكاره، من ترك واجب، أو ارتكاب محرم، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا، دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذلك ما اتفق العلماء على أن فعله، أو اعتقاده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم، فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، لا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر؛ وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها.ا.هـ من الدرر السنية (10/348) فأين هؤلاء الذين يشنعون على المخالفين لهم عن كلام أئمتهم في هذه المسألة.
8-عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن:
قال رحمه الله: والخلاف - في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر - واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج. والقول الثاني: إنه لا يكفر إلا من جحدها. والثالث : الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. ا.هـ من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - (3/ 14)
9-الشيخ حمد بن ناصر بن معمر من أئمة الدعوة السلفية في نجد:(1/8)
حيث قال رحمه الله: اختلف العلماء، رحمهم الله، في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود: فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ومالك، إلى أنه لا يحكم بكفره; واحتجوا بما رواه عبادة. وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي، والحكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي، وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين، إلى أنه كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً، وذكره في كتاب الزواجر عن جمهور الصحابة والتابعين. وقال الإمام محمد بن حزم: سائر الصحابة والتابعين ومن بعدهم يكفِّرون تارك الصلاة مطلقاً.ا.هـ من الدرر السنية (4/201)، لاحظ أن الشيخ ينقل الإجماع هنا عن بعض أهل العلم على كفر تارك الصلاة، لكنه في نفس الوقت يعتبر الخلاف فيه، لا كما يفعل المشنعون حين ظنوا أن حكاية الإجماع كافية للتشنيع، وسيأتي الكلام عن توجيه الخلاف مع نقل الإجماع –إن شاء الله-.
10-اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية برئاسة ابن باز وعضوية المشائخ بكر أبو زيد وصالح الفوزان وعبد الله بن غديان وعبد العزيز آل الشيخ الفتوى رقم ( 18415 )
س: هل باستطاعة أي مسلم أن يكفر شخصا ما إذا رأى أن ذلك الشخص فعل ناقضا من نواقض الإسلام ؟
ج: أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله كما تفعله الخوارج والمعتزلة، ما عدا من ترك الصلاة متعمدا فإنه يكفر ولو لم ينكر وجوبها على الصحيح من قولي العلماء ، لما جاء في الأدلة في كفر تارك الصلاة. (27/424). فهذه اللجنة الدائمة لم تنعت القول الآخر بأنه قول المرجئة بل جعلته قولاً معتبراً فجعلت القول بالتكفير هو الراجح، والقول بعدم التكفير هو الرجيح.
11-العلامة الشيخ محمد بن عثيمين.(1/9)
قال: هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى، وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً.ا.هـ من رسالته حكم تارك الصلاة. فنقل رحمه الله التنازع في هذه المسألة عن السلف ولم يقل هو ولا غيره: إن الخلاف في هذه المسألة بين السلف والمرجئة.
12-الشيخ عبدالمحسن العباد.
سئل –حفظه الله- من قال: إن تارك الصلاة لا يكفر، فهل هذا القائل أخرج العمل من مسمى الإيمان فكان قوله موافقاً لقول المرجئة؟
الجواب: لا، ليس هذا بصحيح؛ لأن الذين يقولون بأن تارك الصلاة لا يكفر هم كثيرون من أهل العلم، وفيهم الذين يقولون: إن العمل جزء من الإيمان، فلا يعتبر من قال ذلك مُرجئاً؛ لأنهم رأوا أنه لا يكفر لأدلة رأوها ولفهم فهموه، فليس كل من قال: تارك الصلاة لا يكفر -وهو قول أكثر أهل العلم- يكون مرجئاً، وعليه تنبني الدندنة الموجودة الآن برمي الشيخ الألباني رحمه الله بأنه يرى فكر الإرجاء لقوله بعدم التكفير! وهذا من الغلط، ولو كان هذا صحيحاً لكان كل الذين قالوا من المتقدمين بأن تارك الصلاة لا يكفر هم من المرجئة! وهذا لا يمكن أن يكون أبداً.ا.هـ من شرحه لسنن أبي داوود.
فهل رأى أولئك المشنعون أحداً من هؤلاء الأئمة أو غيرهم من أئمة السنة رمى القول بعدم كفر تارك الصلاة بأنه مذهب المرجئة، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)، فأنشدهم بالله أن يتبعوا سلفهم ولا يحدثوا بعدهم.
إشكال عند المشنعين والجواب عنه:
حيث يقولون: إن الإجماع منعقد بين الصحابة على كفر تارك الصلاة، فلهذا قمنا بالتشنيع على المخالفين، في هذه المسألة.
والجواب من وجوه:(1/10)
الوجه الأول: أن الإجماع كغيره من الأدلة الصحيحة كالكتاب والسنة والقياس الصحيح، قد يوجد لدى أحد طرفي الخلاف في المسألة، لكن هذا لا يعني مصادرة الرأي الآخر ووصمه بالبدعة، وإلا للزم على ذلك تبديع أكثر المخالفين في المسائل المتنازع عليها.
فإن قالوا: إن الإجماع يختلف عن غيره من الأدلة، فهو يرفع الخلاف، فالجواب بالوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن الإجماع مثل غيره من الأدلة الصحيحة، يعتذر للسني في مخالفته، كما يعتذر له في مخالفة آية صريحة، أو سنة ثابتة، بأحد الأعذار التي ساقها ابن تيمية في كتابه رفع الملام، ومنها عدم التسليم بثبوت الدليل أو دلالته، لذا قال المروزي لما ذكر أدلة القول بتكفير تارك الصلاة: ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم في إكفار تاركها وإخراجه إياه من الملة وإباحة قتال من امتنع من إقامتها ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها.ا.هـ من تعظيم قدر الصلاة (2/925).
الوجه الثالث: أن السلف نقلوا الإجماع عن الصحابة في تكفير تارك الصلاة، ومع ذلك احتملوا الخلاف من المخالف في هذه المسألة، كما تقدم النقل عن المروزي وغيره، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف.
الوجه الرابع: ليس كل مسألة نُقل فيه الإجماع عن الصحابة أو من بعدهم يصير الخلاف فيها من مسائل التبديع والافتراق، فالمسائل التي نقل فيها الإجماع ومع ذلك احتمل أهل السنة الخلاف فيها فيما بينهم ليست قليلة، ومنها:(1/11)
1-مسألة قضاء الصلاتين التي تجمع للحائض بعد الطهر، كما ذكر ابن تيمية في منهاج السنة، قال –رحمه الله-: الحائض إذا طهرت في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم ولم ينقل عن صحابي خلافه. ا.هـ
2-ومنها مسح بعض الرأس للوضوء، ذكر ذلك ابن حزم، كما في المحلى، حيث قال –بعد سياق الآثار عن الصحابة-: ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف لما رويناه عن ابن عمر في ذلك، ولا حجة لمن خالفنا فيمن روى عنه من الصحابة وغيرهم مسح جميع رأسه، لأننا لا ننكر ذلك بل نستحبه، وإنما نطالبهم بمن أنكر الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء فلا يجدونه.ا.هـ
3-ومنها المنع من بيع الهر ذكر ذلك ابن حزم، قال ابن حزم في المحلى –بعد سياق نهي جابر رضي الله عنه عن بيع الهر- : فهذه فتيا جابر ولا نعرف له مخالفا من الصحابة.ا.هـ ونقل ابن القيم كلام ابن حزم في زاد المعاد وأقره.
4-ومنها المنع من بيع الكلاب، ذكر ذلك ابن حزم: قال –في المحلى بعد سياقه لكلام المجيزين-: وهذا مما خالفوا فيه الآثار المتواترة وصاحبين لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة.ا.هـ
5-ومنها استقبال جهة القبلة حيث نفى الخلاف بين الصحابة ابن تيمية في شرح العمدة وابن رجب في فتح الباري، فقال ابن تيمية بعد أن ذكر القول باستقبال جهة القبلة، قال: لأن ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم.ا.هـ ثم ساق بعض الآثار عن الصحابة، وقال ابن رجب في فتح الباري: روي هذا المعنى - أيضا - عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - ، ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك.ا.هـ(1/12)
6-ومنها تحديد النفاس بأربعين يوماً، ذكر ذلك ابن عبدالبر في الاستذكار، قال رحمه الله: وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا مخالف لهم منهم وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم.ا.هـ
7-ومنها أن خروج الدم الكثير ينقض الوضوء دون القليل، ذكر ذلك ابن قدامة، كما في المغني، فقال رحمه الله: روي ذلك عن ابن وابن عباس وأبي هريرة فروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وعن أبي هريرة قال : أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة.ا.هـ
8-ومنها الوضوء من تغسيل الميت ذكر ذلك ابن قدامة، قال –رحمه الله- في المغني: روي ذلك عن ابن وابن عباس وأبي هريرة فروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وعن أبي هريرة قال : أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة.ا.هـ
9-ومنها المنع من تجاوز الميقات بلا إحرام ذكر ذلك ابن تيمية في شرح العمدة حيث قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم رواه سعيد والاثرم وفي رواية قال لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام رواه حرب ولا يعرف له مخالف.ا.هـ
فتلك مسائل نقل بعض أهل العلم الإجماع عليها، ومع ذلك لازال أهل السنة يختلفون فيها ولا يبدعون ولا يفرقون من أجلها.
فإن قيل: إن ذلك يلغي حجية الإجماع على المخالفين لأهل السنة، وسيعتذرون بمثل هذه المعاذير في ترك أقوال أهل السنة التي نقلوا الإجماع عليها.
فالجواب: أن المسائل التي نُقل فيها الإجماع عن أهل السنة على نوعين:(1/13)
الأول: المسائل التي استقر فيها إجماع أهل السنة ولم يحتملوا فيها الخلاف، ورموا القول المخالف لهم بالبدعة، كنفي الأسماء والصفات، فهذه المسائل ليس للمخالف فيها أن يعتذر بشيء من المعاذير المتقدمة.
الثاني: المسائل التي نقل فيها الإجماع لكن لم يستقر الإجماع بين أهل السنة، بمعنى: أنه وقع بين أهل السنة أنفسهم الخلاف في الإقرار بثبوت هذا الإجماع، واحتملوا بينهم خلاف بعضهم البعض في ذلك، ولم يرموا القول المخالف لهذا الإجماع المحكي بالبدعة، كالمسائل المتقدمة، ومنها أيضاً مسألة تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، فهذا النوع من المسائل يجب على السني أن يحتمل المخالف فيها، ولا يجوز له أن يرمي القول فضلاً عن صاحبه بالبدعة، وتَرِدُ عليه الأجوبة المتقدمة حين احتجاجه بالإجماع في تبديع القول الآخر.
الفصل الثاني
بعض أهل العلم من أهل السنة بل من أئمة السنة الذين قالوا بعدم كفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً
نُقل هذا القول عن جمع من أئمة السنة والحديث، منهم:
1-الزهري.
2-الشافعي.
3-أبو ثور.
4-أبو عبيد.
قال المروزي: وكان ممن ذهب هذا المذهب من علماء أصحاب الحديث الشافعي رضي الله عنه وأصحابه أبو ثور وغيره وأبو عبيد في موافقيهم ثم نقل ذلك بإسناده عن الزهري-.ا.هـ من تعظيم قدر الصلاة (2/956)
5-مالك. نقل ذلك عنه جمع من أهل العلم منهم ابن القيم كما في كتابه الصلاة قال رحمه الله في بيان الروايات عن الإمام أحمد في مسألة تارك الصلاة، وبعد أن بين أن الرواية الأولى عن أحمد هي القول بكفره، ثم قال: والثانية: يقتل حداً لا كفراً وهو قول مالك والشافعي.ا.هـ
6-أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، فقد قال في وصيته لتلميذه الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد: ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها فإن تركها كسلاً أو تهاوناً : كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.(1/14)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الإيمان:
وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا : أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور . وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه : أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب . وعنه رواية ثانية : لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط، ورواية ثالثة : لا يكفر إلا بترك الصلاة، والزكاة إذا قاتل الإمام عليها . ورابعة : لا يكفر إلا بترك الصلاة . وخامسة : لا يكفر بترك شيء منهن، وهذه أقوال معروفة للسلف.ا.هـ من الإيمان(237).
7-محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كما في " الدرر السنية " (1/102) جوابا على من سأله عما يكفر الرجل به ؟ وعما يقاتل عليه ؟ فقال رحمه الله :
أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونا فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان.ا.هـ
فهل لأحد من أهل السنة والحديث أن يصف هؤلاء الأمة المرضيين، بأنهم مرجئة أو دخلت عليهم شبهة الإرجاء؟! لا يقول ذلك بعد هذا البيان إلا أحد رجلين: إما أنه لا يعرف معنى الإرجاء، وإما أنه لا يعرف من هم سلفه وأئمته في المعتقد.
هذا آخر ما أردت بيانه من المسألة الثانية وهي جواز الخلاف في حكم تارك الصلاة، وبها تم المقصود من الكتاب بجزئيه، والحمد لله رب العالمين.
كتبه: أبومحمد عبدالله بن محمد العبدالكريم
السعودية-الزلفي-29/3/1430هـ(1/15)