أعمالٌ تُخرِجُ صاحبَها
من المِلَّةِ
تأليف
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير "
أموتُ ويبقى كلُّ ما كتبتُه .. فيا ليتَ مَنْ يقرأ كتابيَ دعا ليَ
لعلَّ إلهيَ أن يمنَّ بلُطفِه .. ويرحم تقصيري وسوءَ فعاليَ
بسم الله الرحمن الرحيم
... ـ مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له .
... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
... { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } آل عمران:102.
... { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } النساء:1.
... { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطعِ الله ورسولَه فقد فاز فوزاً عظيماً } الأحزاب:70-71.
... أما بعد، فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
... اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم .
... وبعد: فقد استهان كثير من الناس بشرائع الإسلام، وبالهدي الظاهري لهذا الدين .. على اعتبار أن المهم هو القلب وليس الجوارح .. وحب القلب وليس حب وانقياد الجوارح .. وطاعة القلب وليست طاعة الجوارح الظاهرة !(1/1)
... ولو سألت أحدهم عن سبب إعراضه عن الطاعة الظاهرة للشريعة، وتهاونه بأحكام الشريعة .. لأخذ مباشرة يحدثك ويشهدك عما في قلبه ـ كذباً وزوراً ـ من حب للدين .. وحب للمسلمين .. ومن صفاء وخشوع لا تجده عند أئمة الزهد والعبادة .. وأن المهم في الدين هو القلب .. وأن الله تعالى ينظر إلى قلوبنا لا إلى أعمالنا وجوارحنا .. وهذا كله من تلبيسات إبليس على العباد، ومن صده لهم عن دينهم الحق !!
... ولعل مما زاد الطين بلة، والخرق اتساعاً، والانحراف انحرافاً .. هذه الهجمة الإرجائية الضخمة الواسعة الانتشار، والمدعومة بإمكانيات وقدرات الأنظمة الطاغية الجاثمة على صدر الأمة .. التي يُروج لها ولدعاتها في كل مكان من العالم .. وتُقدم لهم كل التسهيلات المادية والمعنوية .. لأن الطواغيت الظالمين هم المستفيدون بالدرجة الأولى من هذه الدعوة الخبيثة الباطلة؛ يكفيهم منها أنها تصبغ عليهم وعلى أنظمتهم المهترئة العميلة الشرعية ـ مهما ظهر منهم من أعمال منافية لأصل الإيمان ـ التي يجب أن تُطاع من قبل الشعوب الضالة، وأن لا يُعصى أمرها في شيء!!
... هذه الهجمة الإرجائية الضخمة التي صورت للناس أن الإيمان يكفي فيه التصديق، أو ما وقر في القلب وإن لم يصدقه العمل .. وأحسنهم حالاً الذي اشترط له الإقرار باللسان .. ومن أضاف منهم العمل فهو للكمال؛ فوجوده وعدمه لا يؤثر على الإيمان وجوداً أو انتفاء .. وبالتالي فالناس عندهم كلهم
مؤمنون ومن أهل الجنة وإن لم يأتوا بشيءٍ من الأعمال أو الطاعات .. ومهما أتوا من الأعمال المكفرة المتفق على خروج صاحبها من الملة !!
... لا تزال إلى الساعة كثير من الجماعات والجامعات التي تدرس الإيمان على أنه التصديق الجازم فقط .. فمن أتى بالتصديق الجازم فهو مؤمن، ومن أهل
الجنة وإن لم يأت بشيء من الأعمال والطاعات .. ومهما كان ظاهره يدل على التمرد على أحكام وقيود الشريعة !!(1/2)
... فراج هذا المذهب الضال الخبيث على كثير من الناس .. فاستهوته أنفسهم الأمارة بالسوء .. ولامس بشاشة رغباتهم ونزواتهم وضعفهم، وحبهم للكسل وترك العمل .. وأوجد لهم المبررات والمسوغات الشرعية ـ بزعمهم ـ لما هم فيه من تقصير وتفلت من أحكام وقيود الشريعة ..!!
... والشر لم يقتصر على جانب ترك العمل وحسب .. بل تعداه إلى اختلاط الأنساب وضياع الحقوق والواجبات؛ فكم من فتاة مسلمة موحدة تُزوّج من رجل كافر مرتد، وتنجب منه الأطفال .. تحت ستار وغطاء أن العمل لا يدخل في الإيمان، ولا يُعتبر شرطاً لصحته .. وبالتالي لا حرج لو تزوجت من ذلك الخبيث المرتد، أو بقيت تحت ذمته وولايته ..!!
... لأجل ذلك كله فقد تعين علينا البيان والتنبيه والتذكير بجانب الأعمال ـ تركاً أو فعلاً ـ التي تخل بأصل الدين والإيمان .. والتي مؤداها إلى خروج صاحبها كلياً من ملة الإسلام .. معتمدين في كل ما نثبته ونقرره من مسائل وأحكام على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأقوال الصحابة ومن تبع نهجهم وسيرتهم من علماء سلف الأمة، ليكون الناس على بينة من أمرهم، وأين هم من دين الله تعالى .. { ليهلِك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة } .
... وقبل أن نُشرِع في بيان الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة .. نرى من الضروري والأهمية أن نتناول بعض المقدمات والقواعد الهامة ذات العلاقة بالموضوع والتي تعين القارئ على فهم المراد مما سيأتي بيانه في هذه الرسالة إن شاء الله .. مستلهماً من الله تعالى وحده العون والتوفيق والسداد، إنه تعالى سميع قريب .
... { إن أريد إلا الإصلاحَ ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب } هود:88.
...
وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلَّم .
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير "
* * *
_ مقدمات هامة بين يدي البحث:
... _ المقدمة الأولى: في مسمى الإيمان .. وبيان أنه اعتقاد وقول وعمل .(1/3)
... تضافرت نصوص الشريعة، وأقوال السلف الصالح الدالة على إن الإيمان اعتقاد في القلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح .
... وإليك بيان ذلك على وجه التفصيل:
... 1- دخول الاعتقاد في الإيمان: لا خلاف بين جميع أهل العلم أن من لم يعتقد الإيمان هو كافر خارج من الملة .. وإن أتى ظاهراً بالقول والعمل.
... قال تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جُنةً فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون . ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } المنافقون:1-3. فكفروا بسبب أنهم قالوا بلسانهم بالإيمان ما ليس في قلوبهم .. وهم إذ يقولون بالإيمان لا يقولون به على وجه الاعتقاد، وإنما يقولون به على وجه الاتقاء والنفاق ليدفعوا عن أنفسهم حكم الكفر والردة .. وبالتالي حكم السيف ..!
... وقال تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً } النساء:145. وقال تعالى: { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } التوبة:68. والنفاق هو إبطان الكفر والجحود في القلب وإظهار الإسلام على الجوارح نفاقاً خوفاً من سيف الحق .. أو من ملاحقة نظرات الناس له بالازدراء والاحتقار!
... وهذا خداع منهم وما يخدعون إلا أنفسهم كما قال تعالى: { يخادعون
الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } البقرة:9.
... قال القرطبي في التفسير: مخادعتهم ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدَعوا ا- هـ .
... وفي الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره، قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
فدل أن مرد قبول الأعمال ـ بما في ذلك الإيمان ـ إلى النية المنعقدة في القلب والباعثة على العمل ..(1/4)
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " البخاري.
... وفي رواية عند البخاري كذلك:" أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة " .
... منطوق الحديث ومفهومه يقضي ويلزم بأن من يشهد أن لا إله إلا الله .. لكنه لا يكون صادقاً بها، معتقداً لها في قلبه .. لا يدخل الجنة، ولا يكون من أهلها، وإنما هو من أهل النار .
... فالأدلة على دخول الاعتقاد في الإيمان .. والتي تدل كذلك أن الإيمان لا يصح ولا يستقيم إلا بعد أن ينعقد الاعتقاد الصادق للإيمان في القلب .. هي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع.
... ومما يُستفاد مما تقدم بطلان مذهب مرجئة الكرامية الخبيث الذي يحصر الإيمان في الإقرار باللسان؛ والذي من لوازمه أن يعد المنافقين من المؤمنين الذين يدخلون الجنة يوم القيامة ..!
... وهذا المذهب الخبيث الضال وإن كان لا يوجد في زماننا من يتبناه اسماً وشعاراً، إلا أنه يوجد من يتبناه تأصيلاً وتقعيداً وهم لا يشعرون .. وعلامتهم أنك لو أشرت إلى كفر الشيوعيين، والعلمانيين الذين يعتقدون الكفر والباطل .. لقالوا لك من فورهم: كيف تكفرهم وقد أتوا بالإقرار باللسان بشهادة أن لا إله إلا الله ..؟!!
... 2- دخول القول في الإيمان: نعني بالقول هنا الإقرار باللسان بشهادتي التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله .(1/5)
ومن الأدلة الدالة على دخول القول في الإيمان وكشرط من شروطه، قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب كما في صحيح مسلم وغيره:" يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك .. وأبى أن يقول لا إله إلا الله ! فأنزل الله: { إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء } . وقوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم } .
فالذي منع أبا طالب عن الإقرار بشهادة التوحيد ليس لكونه مكذباً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لاعتقاده بطلان رسالته ودعوته .. لم يكن لذلك، وإنما ـ كما أفاد النص ـ حتى لا تعيره قريش بأن الذي حمله على الإقرار بشهادة التوحيد الجزع من الموت .. وأبى أن يقولها إلى أن مات كافراً .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " متفق عليه.
قال النووي في الشرح 1/212: فيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ا- هـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/609: الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها ا- هـ.
3- دخول العمل في الإيمان: حيث دلت نصوص عديدة على دخول العمل في مسمى الإيمان، كما قال تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } البقرة:143. والمراد صلاتكم، فسمى الصلاة ـ وهي عمل ـ إيماناً .(1/6)
قال القرطبي في التفسير 2/157: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ؛ أي صلاتكم . فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل . وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان ا- هـ.
وفي الحديث من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل أي العمل أفضل ؟ فقال:" إيمان بالله ورسوله "البخاري. فسمى الإيمان عملاً وعده أفضل الأعمال .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "مسلم. فعد - صلى الله عليه وسلم - إماطة الأذى عن الطريق ـ وهو عمل ـ من شعب الإيمان، وكذلك الحياء.
ومن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد قيس قال - صلى الله عليه وسلم - :" آمركم بالإيمان بالله ..
أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟" قالوا الله ورسوله أعلم، قال:" شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس "متفق عليه.
ففسر الإيمان بالعمل؛ والعمل الظاهر على الجوارح .
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ليس بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله "مسلم.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " البخاري.
... من هذه النصوص وغيرها نص علماء الأمة وسلفها أن الإيمان: اعتقاد، وقول، وعمل . وإليك بعض أقوالهم:
... قال البخاري في صحيحه: هو قول وفعل .
... وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.(1/7)
... قال ابن رجب في كتابه القيم " جامع العلوم ": أنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً: سعيد بن الجبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزُّهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
... وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره . وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل ا- هـ.
... قال الشافعي في كتابه الأم: كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من
الثلاث إلا بالآخر ا- هـ.
... قال ابن تيمية في الفتاوى 7/144: قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في " شرح الإرشاد " لأبي المعالي بعد أن ذكر قول أصحابه: قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضاً ونفلاً والانتهاء عمن نهى عنه تحريماً وأدباً .
... قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين ا- هـ.
... وقال ابن رجب في كتابه " فتح الباري شرح صحيح البخاري " 1/5: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل، وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث، وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضاً .
... وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحدٍ من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيلُ بن عياض، ووكيع بن الجراح .
... وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر ابن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم ا- هـ.
... ـ مسائل وتنبيهات تتعلق بتعريف الإيمان المتقدم:(1/8)
... - المسألة الأولى: ورد في تعريف الإيمان لبعض أهل العلم: بأنه معرفة بالقلب أو تصديقه، وقول باللسان، وعمل بالأركان .
... وهذا التعريف وإن كان ورد عن بعض أهل العلم إلا أنا نرى فيه قصوراً عن شمولية جميع ما يدخل في مسمى الإيمان.
... وبيان ذلك: أن معرفة القلب أو تصديقه هو عمل واحد من أعمال القلب وليس كلها، والإيمان يشمل جميع أعمال القلوب: كالتصديق، والمحبة، والخشية، والعلم، والخضوع، والانقياد وغيرها مما يدخل في أعمال القلوب.
... فكلمة تصديق بالقلب لا تعطي المدلول الصحيح لما يدخل في مسمى الإيمان بخلاف كلمة: اعتقاد بالقلب.
... وكذلك القول في العمل بالأركان .. فإنها لا تعطي المدلول الصحيح لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان من الأعمال الظاهرة، بخلاف القول: بالعمل بالجوارح .. التي تفيد دخول جميع الطاعات الظاهرة التي تمارس على الجوارح؛ الأركان وغيرها .. والله تعالى أعلم.
... - المسألة الثانية: من خلال هذا التعريف المتقدم للإيمان الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأجمعت عليه علماء الأمة .. نعلم فساد وبطلان الأقوال والمذاهب الأخرى في الإيمان؛ كقول بعضهم: بأنه التصديق فقط .. أو أنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان .. أو أنه الإقرار باللسان فقط كما هو حال مرجئة الكرامية !!
... فهذه الأقوال في الإيمان على فسادها وبطلانها وانعدام الدليل عليها .. وانعكاساتها السلبية على واقع الناس وحياتهم، وعباداتهم .. هي التي تدرس وللأسف لأبنائنا في جامعاتهم، ومدارسهم، وكثير من مساجدهم .. ولا يسلم من شرها إلا القليل ممن رحم الله !!
- المسألة الثالثة: من لوازم هذا التعريف المتقدم الذكر القول ـ ولا
بد ـ بأن الكفر يكون: بالاعتقاد، والقول، والعمل.. فكما أن الإيمان يكون بالاعتقاد والقول والعمل، كذلك يكون الكفر .(1/9)
... فمن يأتي بتعريف السلف للإيمان .. ثم هو في مسائل التكفير يحصر الكفر في تكذيب القلب أو استحلاله .. أو في تكذيب القلب واللسان فقط مخرجاً للأعمال عن إمكانية أن تكون كفراً أو سبباً للكفر .. فهو كمن يتشبع بما لم يُعط، ويقول بالشيء وضده في آنٍ واحد .. وكمن يكذب نفسه بنفسه!!
... وهو في حقيقته يكون أقرب إلى مذهب جهم والمرجئة في الإيمان من قربه إلى مذهب السلف الصالح، اعترف بذلك أم أنه لم يعترف ..!
... - المسألة الرابعة: إذا كان الاعتقاد وكذلك الإقرار شرطاً لصحة الإيمان، فهل يكون العمل شرطاً لصحة الإيمان، أم في المسألة تفصيل ..؟
... أقول: مذاهب الناس في هذه المسألة ثلاثة أطراف: طرف لازم الإفراط والغلو فاعتبر مطلق العمل شرطاً لصحة الإيمان، وأن الوقوع في مطلق كبائر الذنوب والمعاصي هو مخرج كذلك لصاحبه من الملة .. يتمثل هذا الطرف في موقف الخوارج الغلاة، وليس هنا موضع الرد عليهم.
... وموقف ثانٍ: لازم التفريط والجفاء فأخرج مطلق العمل من الإيمان، ولم يعتبر شيئاً منه شرطاً لصحته، وأحسنهم حالاً الذي جعل مطلق الأعمال تدخل في ساحة كمال الإيمان ونقصانه؛ لكنها لا تصل إلى درجة أن تنفي عن صاحبها أصل الإيمان .. وهذا الموقف يتمثل في المرجئة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وتباين آرائهم وأقوالهم !
... وموقف ثالث: هو وسط بين الفريقين لا إفراط ولا تفريط؛ حيث اعتبر جانباً من الأعمال يدخل كشرط لصحة الإيمان لا بد من استيفائه وتحقيقه .. وجانباً آخر يكون مكملاً للإيمان؛ وجوده وعدمه يؤثر على كمال الإيمان زيادة أو نقصاناً، لكن لا يصل درجة أن ينفي عن صاحبه أصل ومطلق الإيمان .
هذا هو الموقف الوسطي الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأقوال علماء سلف الأمة .(1/10)
أما ما هي هذه الأعمال التي تدخل كشرط لصحة الإيمان .. أو الأعمال التي تنفي عن صاحبها أصل ومطلق الإيمان .. فهو موضوع هذه الرسالة، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك على وجه التحقيق والتفصيل.
- المقدمة الثانية: بيان أن الإيمان يزيد وينقص .
... قد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات، وينقص ويضعف بالمعاصي والذنوب.
... قال تعالى: { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } الفتح:7. وقال تعالى: { وزدناهم هداً } الكهف:13. وقال تعالى: { أيكم زادتهم هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً } التوبة:124.
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد " مسلم.
... قال البخاري في صحيحه: الإيمان قول وفعل، ويزيد وينقص .
... قال ابن رجب في كتابه فتح الباري 1/8: زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء . وقد روي هذا الكلام عن طائفةٍ من الصحابة كأبي الدرداء، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة.
... وروي معناه عن عليٍّ، وابن مسعود أيضاً، وعن مجاهدٍ، وغيره من التابعين ا- هـ.
... ومما يدل على أن الإيمان يتفاضل في قلوب الرجال تلك الأحاديث
العدية التي تثبت أن من المؤمنين من يكون إيمانهم كالجبال، ومنهم من يكون إيمانهم دون ذلك، ومنهم من يكون إيمانهم مثقال حبة من خردل، ومنهم من يكون إيمانهم مثقال ذرة من إيمان .. وعلى هذا التفاضل تتفاضل دراجتهم يوم القيامة .(1/11)
... عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين استنبئت ؟ فقال:" يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: نعم، قال: فزنه برجل فوزِنت به، فوزنتٌه، ثم قال: فزِنه بعشرةٍ، فوزِنت بهم، فرجحتُهم ثم قال: زِنه بمائةٍ فوزنت بهم فرجحتُهم، ثم قال: زِنه بألفٍ، فوزنت بهم، فرجحتهم، كأني أنظر إليهم ينثرون علي من خفة الميزان، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لو وزنته بأمّةٍ لرجحها "(1).
... فيه رد على أولئك الذين يجعلون إيمان عصاة الأمة وفساقها كإيمان الأنبياء والرسل، والملائكة المقربين ..!
... والقول بأن الإيمان يزيد وينقص .. له دلالاته التي منها: أن الإيمان يضعف بحسب نوع المعاصي التي تمارس؛ فأثر الذنب ـ الذي يُسمى كفراً ـ على الإيمان أشد من الذنب الذي هو دون ذلك، والذي لا يُسمى كفراً.
... ومنها: أن المعاصي تضعف الإيمان بحسب ممارستها وتكرارها .. فمن يأتي بالذنب مرة لا كمن يأتي به مائة مرة أو ألف مرة .. ومن لا يحكم بما أنزل الله مرة لا كمن لا يحكم بما أنزل الله مائة مرة، أو ألف مرة .. الخ كما يقول ـــــــــــــــ
(1) أخرجه الدارمي، السلسلة الصحيحة:2531.
البعض ..!
... فالشريعة ميزت بين من يأتي بالذنب مرة وبين المدمن على الذنب، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره:" مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن "(1). وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا يدخل الجنة مدمن خمر "(2). ومثل هذا لا يُقال فيمن قارع شرب الخمر مرة أو مرتين، والله تعالى أعلم.
... ـ المقدمة الثالثة: كل مؤمن مسلم، ولا يستلزم دائماً أن يكون كل مسلم مؤمناً.(1/12)
... من كان مؤمناً كان مسلماً ولا بد؛ لأن القلب إذا صلح بالإيمان صلح الجسد واستقامت الجوارح وفق أوامر الشريعة الظاهرة، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره:" ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
... قال ابن حجر في الفتح 1/128: خص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد ا- هـ.
ولا يلزم من ذلك دائماً أن يكون كل مسلم مؤمناً لاحتمال ورود ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:677.
(2) أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة:678. قلت: والحديث له تأويلان: إن كان هذا الإدمان حمل صاحبه على استحلال وتحسين شرب الخمر، أو على القتال والموت في سبيله؛ فيوالي فيه ويُعادي فيه .. ففي هذه الحالة يُحمل الحديث على ظاهره، ويكون المدمن على الخمر كعابد وثن على الحقيقة والعياذ بالله.
وتأويل آخر؛ وهو في حال لم يصل به الإدمان إلى هذا الموصل .. فإنه يُحمل على التغليظ، وبيان فداحة ذنب الإدمان على الخمر .. والله تعالى أعلم.
النفاق، أما من سلم من النفاق فإن كل مسلم مؤمن ولا بد؛ للعلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وأثر كل منهما على الآخر .
وفي حالة الكفر يُقال العكس؛ أي من كفر باطناً وقلباً لا يلزم بالضرورة أن يكفر ظاهراً أو أن يكون ظاهره دال على الكفر لاحتمال ورود النفاق، وقولنا لا يلزم بالضرورة أن يكفر بالظاهر؛ أي يلزم أحياناً وذلك عندما يكون الكفر من غير جهة النفاق، أما من كفر ظاهراً فهو كافر باطناً ولا بد .. وهذه قاعدة مطردة لا تتخلف.، ولولا خشية الإطالة لأتينا على ذكر الأدلة الشرعية التفصيلية على كل كلمة من كلمات هذه القاعدة.
... - المقدمة الرابعة: أحكام الكفر والإيمان تبنى على الظاهر لا على السرائر.(1/13)
... دلت نصوص الشريعة من الكتاب والسنة على أن الأحكام في الدنيا تبنى على الظاهر، وعلى أساس ما يُظهره المرء من أقوال أو أعمال، وذلك في الكفر والإيمان.
... أي إن أظهر من الأقوال والأعمال ما يدل على إيمانه وإسلامه حكمنا عليه بالإيمان، وجرت عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ومن دون أن نتحرى باطنه، أو نشق عن بطنه ونعرف حقيقة ما وقر في قلبه.
... وكذلك من أظهر الكفر البواح بقولٍ أو عمل فإنه يُحكم عليه بالكفر من دون أن نتحرى باطنه، أو نشق عن بطنه، ونعرف حقيقة ما وقر في قلبه.
... فمن أظهر لنا الكفر البواح ـ من غير مانعٍ شرعي معتبر ـ أظهرنا له التكفير والبراء ولا بد.
... قال - صلى الله عليه وسلم - :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن
محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " متفق عليه.
... قال ابن تيمية في الصارم: معناه أني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام، وأكل بواطنهم إلى الله؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت موجب للحد ببينة أو إقرار ..ا- هـ.
... قلت: فما بال أقوامٍ يقيمون أحكامهم على الآخرين ـ بخاصة منها مسائل الكفر والردة ـ بالظن والشبهات، والمحتملات .. وأقوامٍ آخرين على نقيضهم وضدهم تأتيهم البينة الظاهرة بإقرار أو فعل صريح، فيأبون إلا أن يشقوا عن القلوب والبطون ـ وأنا لهم بذلك ـ ليعلموا هل صدر الكفر من جهة البطون والقلوب أم لا ..؟!!
... قال - صلى الله عليه وسلم - :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله " البخاري.
... فحكم له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام، وأن له ذمة الله وذمة رسوله .. لمجرد إتيانه بالشرائع الظاهرة للإسلام الدالة على إسلامه.(1/14)
... وفي الحديث المتفق عليه، عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟! " قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال:" أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ.
... يعني هلا شققت عن قلبه ونيته ـ وليس لك سلطان إلى ذلك ـ حتى تعلم أنه قالها تقية من السلاح أم لا .. وهذا سؤال استنكاري على ما قد فعله أسامة - رضي الله عنه - ، لذلك قال أسامة لشدة إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه:" تمنيت أني أسلمت يومئذٍ !!"؛ أي أنه ود أن يكون قد فعل هذا الفعل وهو في الجاهلية قبل أن يصير مسلماً ..!
... قال النووي في الشرح 2/107: وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" أفلا شققت عن قلبه " فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر ا- هـ.
... وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قام رجل ـ وهو جد الخوارج وأولهم ـ غائر العينين مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتقِ الله !! فقال:" ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟!" قال ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال:" لا، لعله أن يكون يصلي" قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم " قال: ثم نظر إليه وهو مقفٍّ فقال:" إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود "مسلم.(1/15)
... فإن قيل: هنا قد أظهر ما يدل على إسلامه من وجه؛ ويتمثل ذلك في إقامة الصلاة، ومن وجه آخر أظهر ما يدل على كفره وهو خطابه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتقي الله، وأن يعدل في القسمة كما جاء في الرواية الثانية ومع ذلك لم يكفره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يأمر بقتله ولا استتابته .. فكيف التوفيق؟!
... أقول: إقامته للصلاة إسلام صريح .. ومقولته للنبي - صلى الله عليه وسلم - الآنفة الذكر كفر محتمل متشابه غير صريح ولا بواح، والقاعدة الشرعية تقول: الإسلام الصريح لا ينقضه إلا الكفر الصريح، ومن أسلم بيقين لا يخرج منه إلا بكفر يقين وجلي ..فالظن لا يُقاوم اليقين، والمتشابه لا يُقاوم المحكم، والمرجوح لا يُقاوم الراجح، والمفهوم لا يُقاوم المنطوق .. وهذه قاعدة هامة مطردة من قواعد التكفير بسطها له موضع آخر .
... ومن قصة أسرى بدر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس بن عبد المطلب ـ وكان من جملة الأسرى ـ:" يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل ابن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم؛ فإنك ذو مال " فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال:" الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك ". وذلك أن العباس لم يكن من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يجدون سبيلاً للهجرة والخروج من سلطان المشركين؛ لذلك لما اعتذر بالإكراه فلم يقبل منه وعامله النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهره الذي يدل على أنه مع المشركين على المسلمين ..!
... والأحاديث التي تقرر أن الأحكام تبنى على الظاهر وليس على الباطن والسرائر .. هي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع، وفيما تقدم يكفي كدليل على صحة القاعدة ولله الحمد.(1/16)
... أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة.
... قال الطحاوي في متن العقيدة الطحاوية: ولا نشهد عليهم بكفر ولا شرك، ولا نفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى ا- هـ.
... ـ تنبيه: ما تقدم تقريره خاص بمن وقع في الكفر البواح .. أما من يقع في الكفر المحتمل المتشابه فإنه لا يكفي بمفرده دليلاً على التكفير، لما تقدم من أن الكفر المتشابه المحتمل لا يقاوم الإسلام الصريح المحكم .. وعليه في هذه الحالة لا بد من مراعاة قصد ذلك المعين ومعرفة الدافع الذي حمله على الوقوع في الكفر المحتمل أو المتشابه.
... فمعرفة قصده من خلال القرائن الدالة عليه، ومن منطوقه أحياناً هو الذي يرجح لنا ويعيننا على القول بكفره أو إسلامه .. وأن مراده من الكفر المحتمل المتشابه الذي وقع فيه هو الكفر الصريح البواح، أم لا ..!
... مثال ذلك: شخص أحل الموسيقى والمعازف .. وهذا تحليل لما حرم الله .. والقاعدة تقول: أن من حلل حراماً فقد كفر .. وعليه هل يصح حمل الكفر الوارد في القاعدة على محلل الموسيقى والمعازف ؟!
... أقول: تحليل المعازف وآلات الطرب ليس من الكفر البواح الجلي، لخفاء النصوص الواردة في المسألة على كثير من الناس .. لذا لا بد من معرفة قصد صاحبه، والباعث الذي حمله على التحليل .. فإن كان الباعث التكذيب ورد النصوص رغم صحتها عنده .. فحينئذٍ يُحمل عليه الكفر الوارد في القاعدة الآنفة الذكر، ويكفر بعينه ولا بد.(1/17)
... وإن كان قصده من تحليل المعازف والموسيقى .. أن أصل الأشياء الإباحة، وأن النصوص لا تصح عنده في حرمة المعازف وآلات الطرب .. وبالتالي فهو يقول بالحل ..!
... فمثل هذا ـ وإن وقع في تحليل ما حرم الله حقيقة ـ إلا أنه لا يكفر بذلك؛ لأنه لم يكن دافعه على التحليل التكذيب والجحود، وإنما لأن النصوص في المسألة لم تصح عنده .. وربما ـ إن كان من أهل الاجتهاد والعلم ـ أن يكون له أجر فيما أخطأ واجتهد فيه .. والله تعالى أعلم.
... هذا مثال ـ والأمثلة على الكفر المتشابه المحتمل أكثر من أن تحصر في هذا الموضع ـ ضربناه لك، لتتضح لك المسألة، وتقيس عليه ما تعتريك من مسائل مشابهة لما قد ورد في المثال المذكور.
... وإن أردت المزيد من الأدلة على هذه القاعدة فراجع كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام، فإنه يعينك في ذلك.
... ـ تنبيه آخر: مما ينبغي الانتباه له والحذر منه أن أهل الإرجاء لو ناقشتهم في مسائل الإيمان، وأردت أن تحملهم على القول بكفر بعض الأعيان لاشتهار كفرهم ومروقهم .. وكان كفرهم البواح من جهة ما يمارس على الجوارح الظاهرة بالقول والعمل .. قالوا لك: هلاّ شققت عن قلوبهم وبطونهم وعرفت أنهم قد استحلوا الكفر في قلوبهم .. وألزموك بمعرفة القلب وما وقر فيه قبل أن تحكم عليهم بالكفر بناءً على ما ظهر منهم من الكفر البواح ..!!
... وإن كان كفرهم جاء من جهة اعتقادهم للكفر وأردت أن تكفرهم لذلك .. قالوا لك: كيف تكفرهم، وهم يقولون لا إله إلا الله .. ويظهرون الإيمان ؟!!
... فإن أردت أن تكفِّر من يكون ظاهره الكفر البواح .. اعترضوا عليك
بأصول جهم بن صفوان .. وألزموك بشق القلوب والبطون !!
... وإن أردت أن تكفر من يكون اعتقاده الكفر البواح .. ألزموك بأصول محمد بن كرام .. وقالوا لك: كيف تكفر من ظاهره التوحيد .. ويقول لا إله إلا الله .. فنحن أمرنا أن نحكم على الظاهر لا الباطن ..؟!!(1/18)
... وهذا أسلوب خبيث ـ مكشوفة مزالقه وخفاياه ـ ذكرناه لكي يتنبه إليه طالب العلم في حال ابتلي بمجالسة هؤلاء القوم .. أو بالحديث إليهم أو مناظرتهم !!
- المقدمة الخامسة: الجزاء يوم القيامة قائم على أساس الإسلام الحقيقي، لا الإسلام الحكمي.
لا يلزم من الحكم على شخص معين بأنه مسلم أن يكون يوم القيامة من أهل الجنة؛ لاحتمال وجود النفاق الذي لا نعلمه ويعلمه الله تعالى.
وإذا كانت الأحكام في الدنيا تقوم على أساس الظاهر فإن الأحكام يوم القيامة وكذلك الجزاء يكون على أساس الباطن والظاهر، والمرء لا ينجو من العذاب إلا إذا تحقق له إسلام الباطن والظاهر معاً.
لذا فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن لا نشهد لمعين بأنه من أهل الجنة والنجاة إلا من دلت النصوص الشرعية على أنه من أهل الجنة أو النجاة، كما جاء الخبر عن العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فإن قيل: هل يُقال في الكافر ما قيل في المسلم ..؟
أقول: يختلف الكافر عن المسلم بأنه إن مات على كفره فإنه يُشهد له بالنار، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عن أبيه:" حيثما مررت بقبر كافر فبشره النار " قال الأعرابي: لقد كلفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
فإن قيل: كيف بهذا المبشَّر بالنار إن كان في علم الله تعالى أنه مسلم ومن أهل الجنة ..؟!
أقول: ما دام فعل التكفير صادر عن اجتهاد صحيح وطاعة للشارع فيما أمر ليس على صاحبه شيء وإن أخطأ في الحكم، فخطأه مغفور له، ومن جهة فهو لا يُقدم ولا يؤخر لأن الحكم يومئذٍ لله العلي القدير؛ فمن كان في علم الله تعالى أنه من المؤمنين ومن أهل الجنة، لا يضره ما يقول الناس فيه، ولو اجتمع أهل الأرض قاطبة وحكموا عليه بالكفر، وأنه من أهل النار .. لما منع ذلك من أن يكون من أهل الجنة والرضوان.(1/19)
- المقدمة السادسة: العلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وأثر كل منهما على الآخر.
قد تضافرت أدلة الكتاب والسنة الدالة على علاقة الظاهر بالباطن، وعلى أثر كل منهما على الآخر سلباً وإيجاباً؛ فإذا صلح القلب صلحت الجوارح واستقامت على قدر صلاحه، وكذلك الجوارح إذا صلحت صلح القلب واستقام على قدر صلاحها.
وكذلك في حال الفساد والمرض؛ فإذا فسد القلب وانتابه المرض فسدت الجوارح ومرضت على قدر فساد ومرض القلب، وإذا فسدت الجوارح ومرضت تأثر القلب بها وفسد على قدر فسادها ولا بد.
قال تعالى: { ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها ويضرب الله الأمثالَ للناس لعلهم يتذكرون } إبراهيم:24.
هذا مثل لكلمة التوحيد والإيمان ضربه الله تعالى للناس لعلهم يتذكرون؛ فكما أن الإيمان له ظاهر وباطن؛ ظاهر على الجوارح وباطن في القلب كذلك هذه الشجرة الطيبة لها ظاهر متمثل في جذوعها وغصونها الوافرة الممتدة في السماء، ولها باطن يتمثل في الجذور الممتدة والضاربة في أعماق الأرض.
وكما أن الإيمان الباطن يتأثر ويؤثر بالإيمان الظاهر سلباً وإيجاباً، كذلك هذه الشجرة الطيبة فإن ظاهرها يتأثر ويتقوى بما تمده به الجذور من غذاء تمتصه من أعماق التربة لترسله غذاءً خالصاً إلى جذوعها وغصونها وأوراقها .. وكذلك الجذور تتأثر بما تفرزه لها الجذوع والغصون، والأوراق من غذاء وحياة، فتأمل لو حجبت الشمس، وكذلك الهواء والأكسجين عن شجرة كيف سيكون مصير هذه الشجرة إلى الذبول والضعف والموات .. وهكذا الإيمان في القلب وعلاقته بجوارح الجسد التي هي له بمثابة الجذوع، والغصون، والأوراق .. إذا حجبت عن غذاء العبادة والانقياد لأوامر الشريعة فإنه سيؤدي حتماً إلى ضعف وموت الإيمان الظاهر والباطن معاً.(1/20)
وعليه وعلى أصحابه يُحمل قوله تعالى: { إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصم الدعاء } النمل:80.
... وفي الحديث، فقد تقدم معنا قوله - صلى الله عليه وسلم - :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
... ومما يدل على أثر الظاهر على الباطن، وتأثر الباطن بكل خطيئة أو ذنب يُرتكب على الجوارح الظاهرة، قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إن العبد إذا أخطأ خطيئة ـ وفي رواية: إذا أذنب ذنباً ـ نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا نزعَ واستغفر وتاب سُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } (1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودٌ مِرباداً ـ أي صار كلون الرماد من الربدة ـ كالكوز مجخياً ـ أي مائلاً منكوساً ـ لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه "مسلم.
... تأمل كيف يتأثر القلب ضعفاً بكل ذنب يُرتكب على الجوارح، حتى إذا تراكمت عليه الذنوب والنكت السوداء أوصلته إلى موصل من الضعف والشلل لا يُحسن معها التمييز بين الحق والباطل، وبين الجميل والقبيح، وبين الخير والشر .. إلا ما يراه من جهة هواه، وتميل إليه نفسه الأمارة بالسوء!
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد " متفق عليه.
... وإن كنا نعتقد أن هذه الذنوب مجردة لا تنفي عن صاحبها مطلق الإيمان ــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:2654.
..(1/21)
إلا أن الحديث يدل على الأثر العميق والبالغ التي تحدثه هذه الذنوب الظاهرة في الإيمان الذي وقر في القلب ..!
... أخرج البخاري عن عكرمة قال: قلت لابن عباس كيف يُنزع الإيمان منه ؟ قال: هكذا ـ وشبك بين أصابعه ثم أخرجها ـ فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.
... وقال - رضي الله عنه - : ينزع منه نور الإيمان في الزنا، فإن زال رجع إليه الإيمان.
... ـ مما يُستفاد من هذه المقدمة: أن الظاهر لا يمكن أن يسير أو يتحرك بمفرده بمعزل عن الباطن، وكذلك الباطن لا يمكن أن يتحرك أو يسير بمعزل عن الظاهر ومن دون أن يؤثر به ويتأثر منه.
... وهذا فيه رد على مرجئة العصر الذين يفترضون إمكانية أن يكون الظاهر شيئاً يسير في اتجاه، والباطن شيئاً آخر، له وصف آخر .. ويسير في اتجاه آخر !!
... الظاهر يكون كافراً مستحلاً للكفر .. وبنفس الوقت يكون الباطن مؤمناً مستقراً بالإيمان ؟!!
... يقول الشيخ ناصر في كتابه التحذير من فتنة التكفير: وخلاصة الكلام: لا بد من معرفة أن الكفر ـ كالفسق والظلم ـ ينقسم إلى قسمين: كفر وفسق وظلم يُخرج من الملة، وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي. وآخر لا يخرج من الملة؛ يعود إلى الاستحلال العملي!!
... وبعد أن ذكر حديث أسامة وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" هلاّ شققت عن قلبه " قال: إذاً الكفر الاعتقادي ليس له علاقة أساسية بمجرد العمل، وإنما علاقته الكبرى بالقلب ا- هـ.(1/22)
... ويقول في شريط الكفر كفران: الكفر عمل قلبي وليس عملاً بدنياً .. الكفر الاعتقادي يختلف عن الكفر العملي من حيث أنه كفر قلبي، أما الكفر العملي ليس كفراً قلبياً وإنما هو كفر عملي .. لا يوجد عندنا في الشريعة أبداً نص يصرح ويدل دلالة واضحة على أن من آمن بما أنزل الله لكنه لم يفعل بشيء مما أنزل الله، فهذا هو كافر .. والتفريق بين كفر وكفر هو أن ننظر إلى القلب؛ فإن كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم المستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل ..ا- هـ.
... وغير ذلك من الإطلاقات الخاطئة التي هي في حقيقتها تأصيل لعقيدة جهم في الإيمان .. سواء كان الشيخ يعلم بذلك أم أنه لا يعلم .. وقد رددنا على كلامه الآنف الذكر بشيء من التفصيل في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .." فليراجعه من شاء.
... وسبب خطأ الشيخ ـ ومن تابعه من مرجئة العصر ـ أنه لم ينتبه للعلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وأن من لوازم كفر الظاهر كفر الباطن، ومن لوازم إيمان الظاهر وانقياده لأحكام الشريعة بصدق .. إيمان الباطن وانقياده، فكل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر كما تقدم تقريره وبيانه في شرح هذه المقدمة الهامة ..!
... كيف يمكن أن نتصور قلباً مؤمناً صالحاً وفي نفس الوقت عملاً كافراً طالحاً على الجوارح الظاهرة كما يقول الشيخ .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله .." ؟!!
... قال ابن تيمية رحمه الله: فإذا كان فيه ـ أي القلب ـ معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ..(1/23)
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد .. وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر .. ا- هـ.
- المقدمة السابعة: التكفير العام لا يستلزم بالضرورة تكفير المعين .
فالقول عن شيء بأنه كفر لا يستلزم بالضرورة أن يكون فاعل هذا الشيء كافراً؛ لقيام مانعٍ من موانع التكفير ـ المعتبرة شرعاً ـ بحقه التي تمنع من تكفيره، ومن لحوق الوعيد به.
وقولنا لا يستلزم بالضرورة؛ أي أحياناً يستلزم تكفيره بعينه وذلك عندما تتوفر بحقه شروط التكفير وتنتفي عنه موانعه .. فحينئذٍ لا بد من تكفيره بعينه نزولاً عند إرادة الشارع وحكمه.
قال ابن تيمية رحمه الله: حقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه ويُقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ..(1/24)
والأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها ..!
ولعن المطلق لا يستلزم بالضرورة لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط وانتفاء موانع .
وكنت أبين لهم أنما نُقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين؛ من فعل كذا فله كذا، وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة .. ا- هـ.
قلت: هذه قاعدة من قواعد التكفير كنا قد تناولناها بشيء من التفصيل ـ مع ذكر الأدلة عليها ـ في كتابنا " قواعد في التكفير "، ولم نرد أن نعيد ما كتبناه هناك، وإنما أردنا أن نذكّر القارئ بهذه القاعدة الجليلة ليحسن تفسير كلماتنا وإطلاقاتنا التي سيقف عليها ـ إن شاء الله ـ في طيات هذا الكتاب، وحتى لا يحملنا مالا نقصد ولا نريد ..!
- المقدمة الثامنة: كل عمل فعله شرط لصحة الإيمان فتركه كفر، وكل عمل فعله كفر فتركه وفعل ضده شرط لصحة الإيمان.
هذه قاعدة مطردة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، حيث ما من عمل يكون فعله شرطاً لصحة التوحيد إلا ويكون تركه كفر وناقض من نواقض الإيمان، وما من فعل يكون كفراً إلا وتركه وفعل ضده يكون شرطاً لصحة التوحيد والإيمان.(1/25)
مثال ذلك: إذا كانت الصلاة شرطاً لصحة الإيمان والتوحيد ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون تركها كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وإذا كان التحاكم إلى الشريعة والرضى بحكم الله تعالى شرطاً لصحة الإيمان والتوحيد ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون ترك التحاكم إلى الشريعة وعدم الرضى بها كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وإذا كان الكفر بالطاغوت والبراء منه ومن شركه شرطاً لصحة الإيمان والتوحيد ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون تركه والدخول في موالاته كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
وكذلك الكفر، ومثاله: إدعاء المخلوق خاصية التشريع والتحليل والتحريم لنفسه، فيشرع التشريع المضاهي لشرع الله تعالى .. وهذا كفر بواح ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون تركه ورد خاصية التشريع لله تعالى وحده شرط لصحة التوحيد والإيمان.
وإذا كان ترك الصلاة كفراً مخرجاً عن الملة ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون ترك الترك شرطاً لصحة التوحيد والإيمان.
وإذا كان الاستهزاء والطعن بالدين كفراً ـ كما هو منصوص عليه ـ يكون تركه وفعل ضده من التوقير والإجلال لله تعالى ولدينه شرطاً لصحة التوحيد والإيمان .
... وإذا كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كفراً أكبر مخرجاً عن الملة ـ كما هو منصوص عليه ـ فيكون تركه وفعل ضده ـ
وضده أن يستغيث بالله تعالى وحده ـ شرطاً لصحة التوحيد والإيمان .
وإذا كانت عبادة الأصنام والطواغيت كفراً أكبر مخرجاً عن الملة ـ كما هو منصوص عليه ـ يكون ترك عبادتها والدخول في عبادة الله تعالى وحده شرطاً لصحة التوحيد والإيمان.
وهكذا كل عمل يخرج صاحبه من الملة، أو يكون فعله شرطاً لصحة الإيمان والتوحيد .. لا بد أن يكون تركه دليلاً صادقاً على ضده ولا بد.
وهذه قاعدة ستظهر بوضوح للقارئ بأدلتها الشرعية عندما يقف على الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة .. والتي هي موضوع هذا البحث.(1/26)
ـ تنبيه: قد يرد سؤال يقول: إذا كانت هذه القاعدة صحيحة كما تقدم فهذا يلزم أن يكون للتوحيد عشرات الشروط، وليست تسعة شروط كما ذكرتم في كتابكم " شروط لا إله إلا الله " ..؟!
أقول: جميع الأعمال التي يدخل فعلها كشرط لصحة التوحيد، وكذلك تركها .. كلها تدخل تحت شرط واحد من شروط التوحيد، وهو شرط العمل بالتوحيد؛ وهي بذلك لا تكون شروطاً أخرى وإنما هي شروط ضمن شرط واحد من شروط التوحيد؛ ألا وهو شرط العمل بالتوحيد .. والله تعالى أعلم.
وبعد، فهذه أهم المقدمات التي أردنا أن نمهد بها بين يدي هذا البحث ليسهل على القارئ فهم مادته والمراد منه، ولكي يحسن إنزال عباراته المنزل الصحيح، ومن غير جنوح إلى إفراط ولا تفريط .. ومن غير غلو ولا جفاء .. والله تعالى وحده هو الهادي والموفق إلى سواء السبيل.
والآن إلى الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة، مادة هذا الكتاب ..
* * *
- أعمال تخرج صاحبها من الملة:
- العمل الأول: الحكم بغير ما أنزل الله.
... من الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة الحكم بغير ما أنزل الله .. ولكن هل مطلق الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر مخرج عن الملة .. أم أن في المسألة تفصيل ؟
... أقول: الراجح الذي دلت عليه نصوص الشريعة أن في المسألة تفصيل، وتفصيلها: أن من الحكم بغير ما أنزل الله ما يكون معصية وكفراً أصغر، وصاحبه يكون عاصياً مرتكباً لكبيرة عظيمة إلا أنه لا يكفر، ومنه ما يكون كفراً أكبر يُخرج صاحبه من الملة .
... وإليك الآن صفة كل منهما، وأقوال أهل العلم في كل من الصنفين:
... 1- الصنف الأول الذي لا يكفر: وهو الحاكم الذي يحكم بما أنزل الله، لكنه في مسألة أو بعض المسائل يحكم فيها بغير ما أنزل الله، لهوى أو نزوة أو غضب، أو شهوة، مع اعترافه بظلمه وخطأه وأنه مرتكب لذنب عظيم.(1/27)
... وقولنا: أنه يجب أن يعترف ويعتقد أنه مخطئ ومذنب ومسيء فيما أقدم عليه من الحكم بغير ما أنزل الله من لوازمه أن لا يكون مستحلاً ولا مستحسناً، ولا مزيناً لما حكم فيه بغير ما أنزل الله .. ولا جاحداً ولا مكذباً للحكم الشرعي الذي خالفه .. بل شأنه فيما أقدم عليه من فعل شأن من يرتكب أمراً مشيناً كالسرقة أو الزنى أو الكذب فيحمله ذلك على الاستحياء من الناس لشعوره بأنه ارتكب عيباً لا ينبغي لمؤمن أن يقع فيه، أو يعرفه عنه الناس ..!
... الحاكم بهذا الوصف المتقدم وإن وقع في جرم الحكم بغير ما أنزل الله إلا أنه لا يكفر كفراً أكبر، وفعله لا يرقى إلى درجة الكفر الأكبر .. وعليه وعلى أمثاله ينبغي أن يحمل كلام ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره من أهل العلم بأنه كفر دون كفر .. وأنه ليس بالكفر الأكبر الذي تذهبون إليه.
... أخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه؛ إنه ليس كفراً ينقل عن الملة { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } كفر دون كفر.
... وقال: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } هي به كفر؛ وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله.
... وأخرج الطبري في التفسير عن عطاء بن أبي رباح: قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .. قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.
... وعن طاوس: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملة.
... قال ابن القيم: الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين؛ الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر.
... وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه حكم الله، هذا كفر أكبر(1).(1/28)
... تأمل قوله:" في هذه الواقعة " الذي يفيد عدول الحاكم عن الحكم بما أنزل الله في حادثة معينة وليس في مطلق الحوادث والأحوال؛ بحيث يكون ترك ــــــــــــــــ
(1) بدائع التفسير:2/112.
الحكم بما أنزل الله صفة لازمة له على مدار الساعة، فهو ـ رحمه الله ـ لم يفترض في الحاكم مطلق الترك للشريعة والحكم بما أنزل الله ـ كما يصرح بذلك بعض المعاصرين ـ ثم بعد ذلك يقول عنه وعن فعله: كفر أصغر .. وكفر دون كفر !
... ثم لنعيد قراءة كلام ابن القيم رحمه الله، حيث نجده قد قيد الحاكم الذي حمل عليه الكفر الأصغر، وكفر دون كفر بقيود ثقال: منها أنه يحكم بما أنزل الله في مجموع حياته وشؤون حكمه، وهو الأصل عنده ..!
... ومنها: أن عدوله عن الحكم بما أنزل الله كان في حادثة معينة ـ أو لنقل في حوادث معينة معدودة ـ ولم يكن ذلك صفة لازمة له في جميع شؤون حكمه وسياسته ..!
... ومنها: أن يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله .. ويعتقد حبه .. وأفضليته وأنه ليس كمثله حكم من أحكام البشر ..!
... ومنها: أن يعتقد ويقر ظاهراً وباطناً أنه بفعله هذا قد اقترف معصية وذنباً قبيحاً يستحق صاحبه العقاب والإنكار .. شأنه شأن شعور السارق حين يسرق، والزاني حين يزني ..!
... ومنها: وهذا من لوازم ما تقدم أن لا يحسن حكمه، أو يعتقد حله، إلى درجة أن يباهي به أو يفرضه على العباد والبلاد كقانون دائم ولازم على مدار الوقت ..!
... فهذا كله يستفاد من كلام ابن القيم رحمه الله .. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل هكذا هم طواغيت الحكم في هذا العصر .. حتى يُحمل عليهم: كفر أصغر، وكفر دون كفر .. ويحصل عليهم هذا الجدال الواسع الأطراف
والمقاصد الذي فرق المسلمين إلى فرق ومذاهب .. وأضحك عليهم الأعداء وبخاصة منهم طواغيت الحكم ؟!!
... هذا سؤال ندعه للقارئ المنصف أن يتأمله ويتأمل الجواب السهل عليه، لننتقل به إلى بقية أقوال أهل العلم الآخرين .(1/29)
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصيةً كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً مجازياً وإما كفر أصغر .. وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهو كفر أكبر.
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفر أصغر ا- هـ.
قلت: وهو نفس كلام ابن القيم المتقدم، ويستفاد منه ما استفدناه من كلام ابن القيم المتقدم، ولا فرق .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته القيمة تحكيم القوانين: وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة .. فقد تقدم تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله - عز وجل - { ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون } قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله - رضي الله عنه - في الآية: كفر دون كفر .. ليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة
الهدى ا- هـ.
... فتأمل قوله :" في القضية " ولم يقل في قضايا الحكم أو في مجموع الحكم الذي يفيد ترك مجموع الحكم بما أنزل الله .. لم يقل الشيخ ذلك ـ ولا غيره من أهل العلم ـ لأنه لم يكن يتصور من حاكم يعدل عن حكم الله ويحكم في جميع شؤون الحياة والعباد بغير ما أنزل الله وعلى مدار الوقت .. ثم هو يحمل عليه مقولة ابن عباس: كفر دون كفر، وكفر أصغر ..!(1/30)
... وكلام الشيخ الآنف الذكر جاء في معرض تفسير كلام ومراد ابن عباس في قوله: كفر دون كفر .. أو كفر أصغر، كما يدل عليه سياق كلامه:" وذلك أن تحمله شهوته .." الذي جاء مباشرة بعد كلام ابن عباس؛ أي مراد ابن عباس من الحاكم الذي لا يكفر، ويكون كفره كفر دون كفر، هو الحاكم الذي تحمله شهوته وهواه .. الخ.
... ـ تنبيه: من لوازم فهم وفقه عبارات السلف واطلاقاتهم أن نعرف الظروف المحيطة بهم التي حملتهم على هذه الاطلاقات والكلمات .. وأن نعرف مرادهم وقصدهم من تلك العبارات، ومن المراد منها.
... فمقولة ابن عباس - رضي الله عنه - " كفر دون كفر " لما أخرجت عن زمانها ومحيطها وظروفها التي قيلت فيها .. ضل الناس في فهم هذه المقولة، وفهم مراد صاحبها وحملوها من المعاني السقيمة مالا تحتمل، وأنزلوها في غير منزلها الصحيح التي يريدها لها ابن عباس - رضي الله عنه - ..!
... بل لم أجد مقولة وعبارة لسلفنا الصالح ـ رضي الله عنهم ـ ظلمت وفهمت خطأ، وحُملت من المعاني مالا تحتمله كمقولة وعبارة ابن عباس " كفر دون كفر " حيث لم يتورع القوم من أن يحملوا هذه المقولة على فراعنة وطواغيت اجتمعت فيهم جميع خصال الكفر، ونواقض الإيمان .. ولو سألتهم عن سبب فعلهم الشنيع هذا .. لقالوا لك من فورهم: قال ابن عباس " كفر دون كفر .. ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " .. فهي كلمة حق لكنهم أرادوا بها باطلاً .. ونصرة الباطل !!
... قالها ابن عباس في المؤمنين المعاصرين له .. فحملوها هؤلاء على الكافرين المارقين المجرمين ..!
... ولكي يتضح لك هذا المعنى .. إليك التفصيل التالي:
... أخرج أبو داود في سننه عن ابن عباس، قال: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } إلى قوله: { الفاسقون } هؤلاء الآيات الثلاث نزلت في اليهود؛ خاصة في قريظة والنضير(1).(1/31)
... أي أن مراد الله تعالى من قوله: { فأولئك هم الكافرون .. الظالمون .. الفاسقون } عندما أنزل هذه الآيات هو الكفر الأكبر، والظلم الأكبر، والفسق الأكبر لأنها نزلت جميعها في اليهود الكفار.
... إذاً ما الذي حمل ابن عباس - رضي الله عنه - على القول في هذه الآيات ذاتها: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه .. إنه كفر دون كفر ؟!
... الجواب على ذلك: أن ابن عباس - رضي الله عنه - سئل عن حكام زمانه من المسلمين الذين ظهرت منهم بعض المخالفات الشرعية؛ كحال حكام بني أمية الذين جعلوا الحكم وراثياً بدلاً من أن يكون شورى بين المسلمين .. وأراد كذلك أن يصحح بعض المفاهيم والتصورات الخاطئة التي ظهرت بسبب وجود ـــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:3053.
الخوارج الغلاة الذين انطلقوا إلى آيات قيلت في الكفار، وتُحمل على الكفر البواح لينزلوها على المؤمنين في زمانهم ..!
... وقد بلغ بهم الغلو والجرأة على الحق أنهم كفروا علياً ومعاوية رضي الله عنهما، ومن معهما من المؤمنين بحجة أنهم لم يحكموا بما أنزل الله في قضية " التحكيم " المعروفة والمشهورة، واستدلوا على غلوهم هذا بقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله } يوسف:40. فرد عليهم علي - رضي الله عنه - بقوله المشهور: كلمة حق أرادوا بها باطلاً ..!
... في هذه الأجواء والظروف المشحونة بالشبهات والمغالطات والغلو والإفراط أطلق ابن عباس مقولته:" ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ".
... ومما يعيننا على هذا الفهم العبارة ذاتها التي جاءت بصيغة الخطاب والجواب على سؤال كان قد وجه من قبل أناس لابن عباس - رضي الله عنه - فأجابهم في حضرتهم وهم أمامه:" ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ".
... فالعبارة توحي وتدل أنها أطلقت في معرض حوار، وسؤال وجواب .. له مساس بواقع المسلمين آنذاك .. وليس في معرض وعظ أو درس أو خطبة على المنبر بعيداً عن واقع المسلمين ومشاكلهم!(1/32)
... وكأني بهم قد سألوه: كيف نوفق بين قوله تعالى: { فأولئك هم الكافرون } مع وجود بعض المخالفات الشرعية في مسائل الحكم لبعض الولاة المسلمين المعاصرين .. والتي هي بخلاف الحكم بما أنزل الله .. أليس هؤلاء بكافرين ؟!
... فأجابهم ابن عباس: هذا الكفر الذي تسألون عنه .. ليس بالكفر الأكبر الذي تذهبون إليه .. إنما هو كفر دون كفر.
... وما ذهب إليه حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنه - قد دلت عليه السنة، حيث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" لتنقضنَّ عُرى الإسلام عروةً عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهنّ الصلاة "(1).
... فقوله - صلى الله عليه وسلم - " فأولهن نقضاً الحكم " أي نظام الحكم، فيتحول من شورى إلى وراثي، كما حدث ذلك في عهد بني أمية ومن جاء بعدهم .. ويفيد كذلك أن من وقع في ذلك لا تنتفي عنه مطلق عرى الدين الأخرى؛ أي يبقى من المسلمين لمحافظته على بقية عرى الدين الأخرى التي آخرها الصلاة .
... هذا المعنى جاء واضحاً في حديث آخر حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :" أول من يغير سنتي رجل من بني أمية "(2). أي يغير سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم من شوري إلى وراثي .. ومع ذلك لا أحد قال ويقول بكفر معاوية - رضي الله عنه - ومن جاء بعده من أحفاده وأولاده الذين جعلوا الحكم وراثياً.
... وفي سنن أبي داود عن عاصم، قال سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثْنويَّة، واسمعوا وأطيعوا ـ ليس فيها مثنوية ـ لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر، لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً، ويا عذيري من عبد هذيل يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيه - عليه السلام - ..!!
ــــــــــــــ(1/33)
(1) أخرجه ابن حبان، وأحمد وغيرهما، صحيح الترغيب:571.
(2) السلسلة الصحيحة:1749.
... قال: فذكرته للأعمش، فقال: أنا والله سمعته منه(1).
... قلت: فالحجاج هنا يحل ما حرم الله يقيناً .. وهو من الحكم بغير ما أنزل الله .. وكذلك جحوده لقراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - واعتبارها رجز من رجز الأعراب، رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في عبد الله بن مسعود:" من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ على قراءة أُمِّ عبد "(2).
... ومع ذلك فإن أكثر السلف كانوا لا يكفرون الحجاج، ولا يرون الخروج عليه، ولا على أميره .. ويرون له تأويلاً يمنع من تكفيره مع إجماعهم على طغيانه وظلمه!
... ومن ذلك كذلك أن يفتي المفتي مستفتيه ـ عن جهل ـ بغير ما أنزل الله .. فهذا قد وقع في نوع من الحكم بغير ما أنزل الله، وهو آثم لكنه لا يكفر، ولا أحد من أهل العلم قال بكفره.
... قال - صلى الله عليه وسلم - :" من أُفتي بغير علم كان أثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمرٍ يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه "(3). فالحديث أشار إلى إثم المفتي ولم يشر إلى كفره ومروقه.
... فهذا النوع من الحكم بغير ما أنزل الله هو المراد من قول ابن عباس وغيره من أهل العلم: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه .. إنه كفر دون كفر، أو كفر أصغر .. والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:3879.
(2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع الصغير:5961.
(3) صحيح سنن أبي داود:3105.
... والسؤال: هل طواغيت الحكم في هذا الزمان كذلك .. حتى يجوز أن يحمل عليهم قول ابن عباس: كفر دون كفر (1)..؟!!
... ـ شبهة ورد: قد يقول قائل: كيف لا يكون كافراً وهو في حكمه بغير ما أنزل الله قد حكّم هواه واحتكم إليه .. والهوى طاغوت من الطواغيت التي تُعبد من دون الله .. ومن يحتكم إلى الطاغوت فهو كافر كما هو مقرر؟!(1/34)
... أقول: ليس كل طاعة أو احتكام للهوى كفراً أكبر ويكون صاحبه كافراً .. بل منه ما يكون كفراً ومنه ما يكون دون ذلك: فجانب الكفر منه عندما يطيع المرء هواه في الكفر، ويحتكم إلى هواه فيما هو كفر، ويكون هواه مصدراً من مصادر التشريع والتحليل والتحريم؛ فهو يحرم ما يراه هواه حراماً، ويحل ما يراه هواه حلالاً .. فالحكم على الأشياء بالتحسين أو التقبيح مرده كله إلى الهوى وما تميل إليه نفسه وليس لله تعالى وحده ..!
... فالهوى عندما يصل بصاحبه إلى هذا الموصل فهو في حقيقته يتأله هواه من دون الله تعالى، وهواه يكون حينئذٍ طاغوتاً ومعبوداً .. وعليه يُحمل قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً } الفرقان:43. وقال
ــــــــــــــــ
(1) يقول الشيخ محمد قطب في كتابه القيم " واقعنا المعاصر "، ص334: مظلوم ابن عباس فقد قال ما قال وهو يُسأل عن الأمويين، أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، فما القول فيهم ؟ وما من أحدٍ على الإطلاق قال عن الأمويين أنهم كفار، فقد كانوا يحكمون الشريعة في عموم حياة الناس، ولكنهم يحيدون عنها في بعض الأمور المتعلقة بسلطانهم إما تأويلاً وإما شهوة ـ ولكنهم لا يجعلون مخالفتهم تشريعاً مضاهياً لشرع الله ـ فقال فيهم ابن عباس: إنه كفر دون كفر، فهل كان يمكن لابن عباس أن يقول هذا فيمن ينحي الشريعة الإسلامية أصلاً، ويضع بدلاً منها قوانين وضعية ..؟!
تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الجاثية:23.
... قال ابن تيمية في الفتاوى 8/359: فمن كان يعبد ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه؛ فما هويه إلهه، فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه، وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك، والنفوس قد تدعي محبة لله وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه وقد أشركته في الحب مع الله ا- هـ.(1/35)
... أما الجانب الآخر من طاعة الهوى والتحاكم إليه الذي يكون دون الكفر الأكبر .. هو عندما يُطاع الهوى في أمور هي دون الكفر، كالتحاكم إليه على النحو الغير مكفر كما بيناه من قبل، أو طاعته فيما يعتبر من المعاصي التي هي دون الكفر، كطاعته في الوقوع في معصية الزنى، أو السرقة، أو شرب الخمر أو غيرها من الذنوب التي لا ترقى بمفردها إلى الكفر من غير استحلال لها، أو جحود لحرمتها .
... فهذا النوع من طاعة الهوى، هو المراد من قوله تعالى: { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } النساء:135. وقوله تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } النازعات:40-41. أي نهى النفس عما تشتهيه من المحارم والمحظورات.
... قال البغوي في التفسير: قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ا- هـ.
... هذا التفريق بين اتباع هوى مكفر، وهوى آخر غير مكفر أمر هام وضروري .. ومن لم يفعل، أو ينتبه لهذا التقسيم لزمه ولا بد واحد من اثنين:
إما أن يكفّر العصاة من أهل القبلة، فيقع فيما وقع فيه الخوارج الغلاة من قبل !
... وإما أن لا يكفّر أحداً ممن يجب تكفيرهم شرعاً .. فيقع بذلك فيما وقعت فيه المرجئة من قبل ولا بد !
... 2- الصنف الثاني من الحكام الذي يكفر كفراً أكبر:
... عرفنا من قبل صفات القسم الأول من الحكام الذين لا يكفرون الكفر الأكبر، ويكون كفرهم كفراً دون كفر .. وهنا كذلك لكي نحدد هوية هذا القسم من الحكام الذين يكفرون الكفر الأكبر لا بد من أن نبين صفاتهم وصفة حكمهم بغير ما أنزل الله التي لأجلها وبسببها يقعون في الكفر البواح، ويُحكم عليهم بالكفر المخرج عن الملة.
... وعليه فأقول: أيما حاكم لا يحكم بما أنزل الله على الوجه والصفة التالية التي سنبينها فهو من القسم الثاني الذي يكفر الكفر الأكبر.
... أولاً: الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله مطلقاً .. ولا في أي مجال من مجالات الحياة.(1/36)
... فهذا لا شك في كفره وخروجه من الملة ـ وإن زعم بلسانه أنه من المؤمنين ـ لانتفاء مطلق المتابعة عنه للشريعة .. وهذا من أبرز علامات النفاق والكفر والمروق؛ إذ أن الإيمان وإخلاص المحبة لله تعالى من أبرز علاماته الدالة عليه حصول المتابعة الظاهرة والباطنة للشريعة وأحكامها، والانقياد لها من غير تحرج أو أدنى اعتراض، كما قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } آل عمران:31. فالمحبة لله تعالى تنتفي على قدر انتفاء المتابعة والانقياد لأحكام الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - سبحانه وتعالى - . فمن انتفى عنده مطلق الاتباع والانقياد انتفى عنه لزوماً مطلق الحب لله تعالى، ومن ينتفي عنه مطلق
الحب لله تعالى لا شك في كفره، وخروجه من الملة.
... قال ابن كثير في التفسير1/366: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ا- هـ.
... وقال ابن القيم في المدارج 1/99: فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله ا- هـ.
... ومن الأدلة كذلك على كفر هذا النوع من الحكام قوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } النساء:65.(1/37)
... قال ابن القيم في كتابه التبيان،ص270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض ا- هـ.
... وهذا النوع من الحكام تحمل عليه ـ ولا بد ـ الآيات الثلاثة في سورة
المائدة على ظاهرها .. الكافرون الكفر الأكبر .. والفاسقون الفسق الأكبر .. والظالمون الظلم الأكبر.
... ولا يمكن أن يتصور عالم معتبر من علماء الأمة الأوائل حمل مقولة " كفر دون كفر .. أو كفر أصغر .. وفسق أصغر .. وظلم أصغر على حاكم لا يحكم بما أنزل الله في جميع مجالات ومناحي الحياة .. وعلى مدار الوقت!
... ونعيد لك هنا بعض ما كنا قد ذكرناه لك من أقوال بعض أهل العلم في صفة الحاكم الذي يحمل عليه كفر دون كفر:
... قال ابن القيم " فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر.. " فتأمل قوله " في هذه الواقعة " ..!
... وكذلك قول ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية:" في هذه الواقعة وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاصٍ ..".
... وكذلك قول الشيخ محمد بن إبراهيم:" وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله .. " فحدد مخالفته وحكمه بغير ما أنزل الله في قضية معينة وليس في مجموع قضايا الدين والدنيا .. كما يروج لذلك بعض المعاصرين !!(1/38)
... ثانياً: الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله في التوحيد .. كأن يحكم بالشرك، وبما يضاد التوحيد .. فهو كافر على أي وجه كان حكمه .. سواء كان مستحلاً لذلك أم أنه غير مستحل .. وسواء حمله على ذلك الجحود أم الهوى وحب الحياة الدنيا وزينتها .. فلا فرق.
... وعلة ذلك: أن التوحيد ـ باتفاق أهل العلم ـ لا يقبل من صاحبه إلا
إذا أتى به اعتقاداً وقولاً وعملاً .. لا يغني واحداً منها عن الآخر.
... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما ا- هـ.
... وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمهم الله تعالى في كتابه توحيد الخلاق ص141: تحقيق معنى الآية أن الحكم بغير ما أنزل الله إن كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه كما تقدم عن عكرمة، فأما من اعترف بقلبه وأقر بلسانه بحكم الله ولكنه عمل بضده ظاهراً في الفروع خاصة فليس بكفر ينقل عن الملة، قال طاوس: ليس الحكم في الفروع بغير ما أنزل الله مع الإقرار بحكمه والمحبة له ينقل عن الملة .
إلى أن قال: ونحن لا نكفر إلا من لم يحكم بما أنزل الله من التوحيد بل حكم بضده، وفعل الشرك، ووالى أهله وظاهرهم على الموحدين، أو من لم يقم أركان الدين عناداً وبغياً بعد أن دعوناه فامتنع وأصر، أو من جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من سائر الأمور الدينية والمغيبات الإيمانية ا- هـ.(1/39)
... فتأمل كيف فرق ـ رحمه الله ـ بين الحكم بغير ما أنزل الله فيما له مساس بالتوحيد وأصوله .. وبين الحكم بغير ما أنزل الله في مسائل الفروع .. وكيف عد الأول كفراً على الإطلاق ـ وعلى أي وجه كان الحكم فيه ـ بينما الآخر لا يكون كفراً إلا وفق ضوابط وشروط ومواصفات .. وهذا من تمام فقه وعلم الشيخ رحمه الله.
... ثالثاً: الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله جحوداً لما أنزل الله واستحلالاً للحكم بغير ما أنزل الله .. فهذا أيضاً لا خلاف بين أهل العلم على كفره وخروجه من الملة.
... لكن قوماً من المتأخرين ـ لُوثوا بالإرجاء ـ حصروا الاستحلال والجحود بوصف أخرجوه عن معناه الشرعي العام فقالوا: لا يكون المرء مستحلاً لما حرم الله، جاحداً لحكمه إلا إذا قال بلسانه أنه يستحل أو يجحد ذلك من قلبه، وما سوى ذلك لا سبيل لنا لمعرفة كونه جاحداً لما أمر الله أم لا .. وبالتالي لا يجوز تكفيره على أنه جاحد لما أنزل الله إلا إذا قال بعظمة لسانه صراحة أنه يجحد حكم الله تعالى، ويستحل الحكم بغيره ..؟!!
... وهذا خطأ ظاهر وتضييق لمعاني الشريعة الواسعة الدلالة والأحكام .. وبيان ذلك: أن الجحود يكون أحياناً بالقلب، وأحياناً باللسان، وأحياناً بالعمل .. وأحياناً يكون بها جميعاً!
... وجميع أنواع الجحود هذه مكفرة، تخرج صاحبها من الملة، وبرهان ذلك في التفصيل التالي:
... أ- جحود ما أنزل الله في القلب: وصفته أنه يجحد ما أنزل الله في قلبه .. مع الإقرار به في لسانه، وربما العمل به أحياناً نفاقاً ليدفع عن نفسه حكم النفاق والزندقة وتبعاته ..!
وهذا لا شك في كفره ونفاقه، وخلوده في النار لقوله تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } النساء:145. وقال تعالى: { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفارَ نار جهنمَ خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } التوبة:68.(1/40)
... ب- أن يجحد بما أنزل الله بلسانه دون قلبه: كحال اليهود الذين جحدوا آيات الله ـ في الظاهر ـ واستيقنتها أنفسهم وقلوبهم .. وكجحودهم لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع علمهم ويقينهم الباطني أنه نبي الله ورسوله بحق، كما قال تعالى عنهم: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } البقرة:146. وقال تعالى: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } النمل:14. وقال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } النمل:14. فهم جحدوا بالحق ظاهراً مع يقينهم في قلوبهم أنه الحق .. وما حملهم على هذا الجحود إلا الرغبة في الظلم والعدوان، والعلو في الأرض بغير حق ..!
... قال ابن كثير في التفسير 1/200: يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم ولده من بين أبناء الناس كلهم، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والإتقان العلمي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - { وهم يعلمون } ا- هـ.
... الشاهد مما تقدم أن الجحود لما أنزل الله يأتي أحياناً من غير جهة جحود القلب وتكذيبه .. وهو مع ذلك كفر أكبر يخرج صاحبه من الملة.
... ج- أن يجحد ما أنزل الله تعالى، ويستحل الحكم بغيره عملاً من غير تعبير عنه باللسان .. وهذا النوع من الجحود كذلك هو كفر أكبر يخرج صاحبه من الملة.
... فالعمل أحياناً يأتي تعبيراً صادقاً عن الشيء وإن لم يرافقه تعبير اللسان وإفصاحه، كحال المتلبس بالشرك الأكبر عملاً؛ كحال الساجد للصنم مثلاً .. فهو يشهد عملاً على نفسه بالكفر، وإن لم يصرح بفيه؛ فعمله المتلبس به يكفي دليلاً صريحاً على كفره .. ومن دون أن يستنطق بلسانه للتعبير عن حقيقة كفره أو شركه .. فلسان الحال والعمل يكون في كثير من الأحيان أصدق بياناً وتعبيراً من لسان القيل والقال !!(1/41)
... قال تعالى: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون } التوبة:17.
... قال ابن كثير في التفسير: وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر؛ أي بحالهم .. ا- هـ.
... وقال البغوي في التفسير: قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام .. ا- هـ.
... وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره، عن البراء بن عازب قال: لقيت عمي ومعه راية، فقلت: أين تريد ؟ قال:" بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله "(1). وفي رواية:" فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه ". وفي زيادة عند أحمد في مسنده:" فما سألوه ولا كلموه " أي بادروا إلى قتله، وأخذ ماله من دون أن يسألوه أو يكلموه ..!
... فهذا الرجل قتل ردة، وسلب ماله لاستحلاله ما حرم الله .. فإن قيل كيف عُرف أنه مستحل لما حرم الله، وهو لم يعبر عن ذلك بمنطوق اللسان..؟!
... أقول: إعراسه على الملأ بامرأة أبيه كزوجة .. هو تعبير صريح على استحلال نكاح امرأة الأب بعد أن استفاض العلم بحرمة ذلك، لذلك نجد ـــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:3744. وانظر الحديث الذي قبله.
...
أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكلفوا أنفسهم أن يسألوه عن السبب الذي دفعه على الإعراس بامرأة أبيه؛ لأن فعله الذي يعبر عن صريح الاستحلال هو جواب على كل سؤال يمكن أن يوجه إليه وقتئذٍ ..!
... وكذلك الحاكم بغير ما أنزل الله يمكن يقع في الاستحلال للحكم بغير ما أنزل الله عملاً، و من دون أن يعبر عن استحلاله باللسان .. وصورة ذلك أن يجعل من حكمه بغير ما أنزل الله قانوناً ملزماً للعباد والبلاد، يعاقب عليه ويكافئ فيه ..!(1/42)
... ومن صور الاستحلال العملي للحكم بغير ما أنزل الله كذلك الدفاع عنها إلى حد القتال دونها إن وجد من ينكر هذه الأحكام عليه .. فمن وقع في ذلك فمن الغباء والإرجاء أن يُسأل هل أنت مستحل لهذه القوانين أو الحكم بغير ما أنزل الله أم لا .. حيث أن فعله وقتاله دون هذه القوانين هو أبلغ في التعبير عن الاستحلال والجحود من تعبير اللسان !
... ودليلنا على ذلك هو ما تقدم من أدلة في المسألة .. والله تعالى أعلم.
... د- أن يجحد ما أنزل الله ظاهراً وباطناً؛ بالقلب واللسان والعمل معاً .. وهذا كفر مركب مغلظ، بعضه فوق بعض، لا يعلوه كفر .. انعقد النص والإجماع على كفر صاحبه، وكفر من لا يكفره!
... ـ تنبيه: قول بعض أهل العلم " ولا يخرج العبدُ من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه " كما في الطحاوية وغيره، ينبغي أن يحمل على الجحود بمعناه العام المتقدم: الجحود بالقلب، أو اللسان، أو العمل، أو بها جميعاً .. وهذا بخلاف كثير من الشراح والوعاظ الذين يحصرون الجحود في جحود القلب فقط!
... مع التنبيه إلى أن الكفر ليس محصوراً في الجحود .. فالمرء يمكن أن يقع
في الكفر من جهة الجحود، ومن جهات أخرى غير الجحود .. كما بيناه في هذا البحث، وفي مواضع أخرى من أبحاثنا.
... رابعاً: الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله بدافع البغض والكره لما أنزل الله .. وليس بدافع الاستحلال أو الجحود .. فهذا كذلك لا شك في كفره وخروجه من الدين .. وهو يكفر بالنص واتفاق جميع أهل العلم.
... قال تعالى: { والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } محمد:8-9.
... فعلل كفرهم وحبوط أعمالهم ـ ولا يحبط العمل إلا الكفر والشرك ـ بأنهم كرهوا ما أنزل الله على أنبيائه ورسله من الدين والأحكام والشرائع . ...
... وقال تعالى: { ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد
جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } الزخرف:77-78.(1/43)
فعلل سبب مكث أكثرهم في النار وخلودهم فيها أنهم كانوا للحق الذي جاءهم من عند ربهم كارهين ..!
... وقال تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر } محمد:25-26.
... قلت: هؤلاء ارتدوا على أدبارهم وكفروا من بعد ما تبين لهم الهدى والحق ودخلوا فيه بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .. فكيف بالذين يقولون لهم سنطيعكم في كل الأمر .. كيف بالذين كرهوا ما نزل الله ذاتهم .. ؟؟
... لا شك أنهم أولى بالكفر والارتداد عن الدين والعياذ بالله.
... خامساً: الحاكم الذي لا يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، ولا يكره الحكم بما أنزل الله .. لكنه يفضل الحكم بغير ما أنزل الله على الحكم بما أنزل الله، على اعتبار أنه يلبي حاجيات الناس أكثر، أو أنه يناسب العصر ومتطلباته أكثر من حكم الله تعالى أو غير ذلك من ضروب المفاضلة .. أو أنه يساوي بين حكم الله تعالى وبين حكم البشر في أي وجه من أوجه المساواة .. فهذا كذلك لا شك في كفره وخروجه من الملة كما نص على ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته القيمة " تحكيم القوانين ".
... قال تعالى عن نفسه - سبحانه وتعالى - : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } الشورى:11. فالله تعالى ليس كمثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في خصائصه وأفعاله - سبحانه وتعالى - .
... فالذي يساوي المخلوق مع الخالق في أي خاصية من خصائص الله تعالى
فإنه يكفراً كفراً بواحاً معلوماً من الدين بالضرورة.
... وما يذكر هنا ـ أن كثيراً من الناس ـ يستهجنون من أي مخلوق ـ أيا كانت مرتبته وقيمته ـ أن يدعي أن نظمه وكلامه ككلام الله تعالى أو أحسن .. والناس لا يترددون لحظة في تكفيره، والسخرية منه، ورميه بالزندقة .. وهم محقون في ذلك.(1/44)
... بينما لو جاء من يدعي أن حكمه وشرعه أحسن وأنسب للبلاد والعباد من حكم الله تعالى، وأكثر تقدمية ورقياً ـ كما هو حال طواغيت الحكم في هذا الزمان ـ لا تكاد تجد من ينكر عليه ويرميه بما رمى به الأول من الكفر والزندقة والمروق من الدين إلا من رحم الله، وهداه إلى الحق والتوحيد الخالص .. علماً ... أن الآخر كالأول من حيث الجرم والمروق والكفر، والتشبع بما ليس
فيه ولا عنده ..؟!!
... من شبه المخلوق بالخالق في ذاته أو أي صفة من صفاته وأفعاله .. رُمي مباشرة بالتجسيم، والتشبيه، والكفر .. بينما من يشبه حكمه بحكم الخالق - سبحانه وتعالى - بل ويفضله عليه قل من يرميه بشيء مما تقدم .. وكثير هم الذين يدافعون عنهم، ويتأولون لهم، ويحملون عليهم مقولة: ابن عباس كفر دون كفر .. علماً أن كلا الجرمين سواء من حيث الكفر والمروق !!
... فإن قيل ـ وقد قيل ـ : قد رميت طواغيت الحكم في هذا العصر أنهم يفضلون شرعهم على شرع الله .. ونحن لم نسمع من أحدهم مرة تجرأ على مثل هذا القول ..؟!
... أقول أولاً: إما أنكم جاهلون مغفلون، ولا تعذرون .. أو أنكم تتجاهلون، وتتكلفون الجهل وأنتم تعلمون !
... ثم ثانياً: فإن كثيراً من طواغيت الحكم المعاصرين ليسوا بهذا الغباء حتى يصرحوا على الملأ، وبالتعبير الصريح الوقح: أن حكمهم وشرعهم هو أفضل من حكم وشرع الله تعالى ..!!
... فهم لو قالوا بذلك صراحة لحكموا على أنفسهم وعروشهم وأنظمته بالإعدام والزوال .. ولكنهم أذكى وأدهى من ذلك !!
... أما ثالثاً: آتوني بطاغوت من طواغيت هذا العصر لا يعتبر دستوره، وقانونه هو الأمثل، والأفضل، والأكثر عدلاً .. الذي يعلو ولا يُعلى عليه .. والذي يجب على الأمة أن تنقاد إليه لا إلى سواه !!
... آتوني بحاكم واحد يحكم بغير ما أنزل الله ثم يعتبر نفسه مخطئاً آثماً عاصياً يستحق العقاب إلا أن يتغمده الله برحمته .. لكونه حكم بغير ما أنزل الله ؟!!(1/45)
... اطعن بالقرآن كيفما تشاء .. ليس عليك شيء ـ فحرية الكلمة والتعبير تضمن لك كل شيء كما تقول بذلك الديمقراطية الكافرة ـ لكن تجرأ على الطعن بدستورهم أو الخروج عليه .. فستجد كيف يتخطفونك، وينزلون بك أشد أنواع العقوبات المادية والمعنوية ..!!
... لمن السلطة التشريعية العليا .. لمن السيادة التي لا يُعلى عليها في ظل هذه الأنظمة الطاغية .. لله تعالى .. أم للمخلوق الضعيف الجاهل ؟!!
... كلنا يعرف الجواب: بأن السلطة التشريعية العليا .. والسيادة التي لا يعلى عليها .. هي للمخلوق .. هي للشعب .. أو لممثليه من النواب .. أو لفرد الطاغوت الحاكم !!
... فإذا لم يكن هذا هو عين التفضيل للمخلوق وشرعه على الخالق - سبحانه وتعالى - وشرعه .. فما هو التفضيل، وكيف يكون التفضيل ؟!!
... 3 ـ صنف ثالث من الحكام؛ لا من هؤلاء ولا من أولئك: وهو عندما يقع الحاكم المسلم في الخطأ اجتهاداً؛ فهذا وإن لم يصب حكم الله تعالى فيما حكم فيه إلا أن له أجراً على اجتهاده كما جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
... قال ابن تيمية في كتابه القيم رفع الملام: فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن إدراك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر ا- هـ.
... وهذا الصنف من الحكام له قرائن تدل عليه وتعرف به، يستحسن ذكرها حتى لا نُدخل طواغيت الكفر والحكم تحت هذه القائمة من الحكام .. ونحمل عليهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لهم أجراً فيما أخطأوا وخالفوا الحق فيه ..!
... فأقول: هؤلاء الذين لهم أجر .. هم الحكام المسلمون الذين يحكمون بما أنزل الله، ويبذلون جهدهم في معرفة الحق وطلبه .. ثم هم بعد ذلك يخطئون، فالخطأ بالنسبة لهم ليس مقصوداً ولا مراداً، ولا متعمداً .
... وهم الذين يجتهدون ـ فيخطئون ـ فيما لا نص فيه .. لأنه لا اجتهاد مع النص .(1/46)
... وهم الذين يرجعون إلى الحق إذا بان لهم خطأ اجتهادهم .. ولا يصرون على باطلهم وخطأهم.
... ثم هم بعد كل ذلك من أهل العلم والاجتهاد .. والدراية بمقاصد الشريعة وأحكامها.
... هؤلاء ـ بصفاتهم الآنفة الذكر ـ هم الذين يُحمل عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر " .. وطواغيت الحكم في هذا العصر ليسوا كذلك !
ـ خلاصة القول: أن الحكم بغير ما أنزل نوعان: نوع لا يكفّر ولا يخرج صاحبه من الملة؛ حيث يحمل عليه مقولة أهل العمل: كفر دون كفر .. وكفر أصغر، وقد تقدم بيان صفة هذا الحاكم .
... ومنه نوع يكفر ويخرج صاحبه من الملة: وهو كل حاكم كان حكمه بغير ما أنزل الله على أي وجه من الأوجه الخمسة الآنفة الذكر.
... ونوع ثالث: لا من هؤلاء ولا من أولئك وهو الحاكم المسلم الذي يحكم بما أنزل الله ثم يقع في الخطأ والمخالفة عن اجتهاد .. وهذا له أجر كما تقدم.
... هذا هو التقسيم العدل للمسألة كما دلت عليه النصوص الشرعية،
وأقوال أهل العلم المعتبرين .. لا يخرج عنه إلا خارجي غالٍ أو مرجئ ضال هالك .
... ـ حقيقة المشكلة مع المخالفين في المسألة:
... لا توجد مشكلة حقيقية مع المخالفين في المسألة حول هذا التقسيم المتقدم، فالكل يقر به ويسلم .. وإنما المشكلة تكمن معهم في توصيف الحاكم الذي يكفر، والحاكم الذي لا يكفر، ويكون كفره دون كفر.
... تكمن في الاختلاف على طواغيت الحكم المعاصرين .. من أي الأصناف هم .. هل هم من الصنف الذين يكفرون كفراً أكبر أم من الصنف الذين لا يكفرون، ويكون كفرهم كفراً دون كفر ..؟!!
... تكمن في الاختلاف معهم حول طواغيت الحكم المعاصرين إلى أي الوصفين هم أقرب وألصق .. إلى وصف حكام بني أمية الذين قال فيهم ابن عباس وغيره من أهل العلم: كفر دون كفر .. وليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
... أم إلى حكام اليهود الذين غيروا وبدلوا وشرّعوا .. فكفروا بذلك الكفر الأكبر ؟!!(1/47)
... هنا يكمن موطن النزاع والخلاف مع القوم .. وليس على مجرد التقسيم كتقسيم للمسألة نص عليه أهل العلم ؟!
... نحن بكل وضوح وصراحة نقول: هؤلاء الطواغيت المعاصرين هم أقرب وألصق بكفر وجحود حكام يهود الذين كفروا الكفر الأكبر .. من قربهم ـ فضلاً عن القول بمشابهتهم ـ لما كان عليه حكام بني أمية، أو غيرهم من العباسيين المسلمين !
... بل لا نحايد الحق والصواب لو قلنا: أنهم قد فاقوا حكام اليهود في كثير
من خصال الكفر والجحود والطغيان .. مما يجعل التوقف في تكفيرهم جريمة كبيرة بحق دين الله تعالى، وحق أمة الإسلام ..!
... أما المخالفون يقولون بخلاف ذلك يقولون: أن هؤلاء الحكام هم أقرب إلى حكام بني أمية والعباسيين .. وبالتالي فإن كفرهم كفر دون كفر .. هنا تكمن المشكلة الكبرى مع هؤلاء الصنف من الناس!
... لذا فإننا نطالب الصادقين المخلصين من هذا الفريق من الناس أن يحملوا أنفسهم ـ بتقوى وتجرد عن الهوى والخوف ـ على أن يدققوا النظر في واقع حقيقة هؤلاء الحكام الطواغيت، وفي طريقة حكمهم وأنظمتهم، وفي دساتيرهم وقوانينهم، وعلاقاتهم مع أمم الكفر والشرك، وموالاتهم لهم .. وينظروا كم هم شاقوا الله ورسوله والمؤمنين .. ثم بعد ذلك يطلقوا اطلاقاتهم وأحكامهم المضبوطة بضوابط ونصوص الشرع ..!
... فالذين أخطأوا الحق في شأن هؤلاء الطواغيت الظالمين ثلاثة أصناف:
... صنف فقه النصوص ودلالاتها .. لكنه لم يفقه حقيقة هؤلاء الطواغيت وما هم عليه من إجرام وكفر .. فأخطأ في الحكم وفي إنزال تلك النصوص على شواهدها من الواقع ..!
... وصنف آخر فقه حقيقة هؤلاء الطواغيت وما هم عليه من إجرام .. لكنه لم يفقه النصوص الشرعية ذات العلاقة بكفرهم وإجرامهم .. فأخطأ كذلك في الحكم على هؤلاء الطواغيت ولم يصب الحق فيهم !(1/48)
... وصنف ثالث خبيث .. عرف واقع هؤلاء الطواغيت .. وفي المقابل عرف النصوص الشرعية ودلالاتها، وما ينبغي أن يحمل منها على هؤلاء الظالمين المجرمين .. ومع ذلك فقد كتم العلم ـ رهبة ورغبة ـ ولبس على الناس دينهم
.. ولم يحكم في هؤلاء الطواغيت بحكم الله تعالى !!
... ولعل من أبرز دعاة هذا الصنف الأخير من الناس: الجهول علي الحلبي الذي يكثر من الجدال ـ بأسلوب علمي سلفي!! ـ عن طواغيت العصر ..!
... فانظر ـ مثلاً ـ ماذا يقول من كذب وزور عن هؤلاء الطواغيت .. ليضلل بذلك العباد، كما في مقدمته لكتاب " التحذير من فتنة التكفير ": على أني أقول هنا: إن تصور مسألة ترك الحكم بما أنزل الله كله وجميعه ـ في بلد إسلامي ـ هي إلى الخيال أقرب من كونها حقيقة واقعية؛ فإننا لا نعلم اليوم في دنيا الناس ـ من حيث الواقع ـ حاكماً منتسباً إلى الإسلام، ويدعي الحكم بالإسلام ـ وإن خالفه في كثير أو قليل ـ إلا وهو يُطبق من الإسلام قدراً ما؛ كالأركان الخمسة؛ في الإذن بها والإشادة بها، وعدم المنع لها، وكأحكام النكاح، والطلاق، والمواريث .. وغير ذلك من أحكام شرعية .. ا- هـ.
... أقول: هذه هي شهادة علي الحلبي في هؤلاء الطواغيت التي سيلقى بها الله ..!
هؤلاء الطواغيت الحاكمين في بلاد المسلمين، المنتسبين إلى الإسلام .. كلهم يطبقون الأركان الخمسة التي منها شهادة التوحيد ..؟!
... كلهم .. يا حلبي .. يشيدون بالتوحيد والموحدين .. ويأمرون بالصلاة والزكاة، وغيرها من أركان ومباني الإسلام ..؟!!
... أي توحيد هذا الذي يطبقونه .. والذي تقصده يا حلبي ..؟!!
... لعلك تقصد التوحيد الذي يحملهم على قتل ومطاردة الموحدين ..؟!
... لعلك تقصد التوحيد الذي حملهم على ملئ سجونهم بالموحدين، والدعاة إلى التوحيد ..؟!
... لعلك تقصد التوحيد الذي يحملهم على موالاة اليهود والنصارى، والدخول في طاعتهم ونصرتهم ..؟!!(1/49)
... لعلك تقصد التوحيد الذي حملهم على محاربة شرع الله تعالى والتحاكم إلى شرائع الطواغيت ..؟!
... لعلك تقصد التوحيد الذي يحملهم على سن التشريعات والقوانين المضاهية لشرع الله تعالى ..؟!!
... لعلك تقصد التوحيد الذي يحملهم على ترويج الفحش والإباحية في مجتمعاتهم ليصدوا الناس عن دين الله ..؟!!
... فأي توحيد هذا الذي تقصده في هؤلاء الطواغيت ..؟!
... أهذا هو التوحيد الذي تدعو إليه الناس .. التوحيد الذي يطبقه الطواغيت الظالمين ؟!!
... فتوحيدهم ليس من التوحيد في شيء .. بل هو من الكفر والشرك المضاهي للتوحيد الذي جاء به المرسلون من عند ربهم ..؟!!
... قولك ـ يا حلبي ـ عن هؤلاء الطواغيت أنهم يطبقون التوحيد ويدعون إليه، وغيره من أركان هذا الدين .. أقل ما يقال فيه أنه من الجدال عن الطواغيت الظالمين، وبالكذب والزور على دين الله تعالى وعلى عباده ..!!
... أقل ما يقال فيه: أنك كذبت الناس وغششتهم وما صدقتهم الحديث عما تعرفه من حقيقة هؤلاء الطواغيت ..!!
... أقل ما يقال فيه: أنك لم تؤد أمانة ما عندك من علم منّ الله به عليك الذي يحتم عليك أن تصدع بالحق، وأن لا تجامل أو تداهن به الطواغيت الظالمين رهبة أو رغبة ..!!
... اتق الله يا حلبي .. واعلم أنك ميت .. وغداً ملاقٍ ربك .. وأن هؤلاء الطواغيت الظالمين الذين أكثرت الجدال عنهم لن ينفعوك في شيء ..!!
... إن عجزت عن الصدع بالحق ونصرته .. فأقل أحوالك أن تسكت ولا تصدع بالباطل .. وأن لا تعين الظالمين على الموحدين !
... فإن عجزت عن أن توجه سهامك إلى صدور الطواغيت .. فلا توجهها إلى صدور الموحدين المجاهدين !!
... فإن عجزت عن الجدال عن الموحدين المستضعفين .. فلا تجادل عن الطواغيت المجرمين !
... فإن عجزت عن أن تقف في صف الموحدين المجاهدين وهم في معركتهم الفاصلة مع الباطل وأهله .. فلا تقف نصيراً في صف الطواغيت الظالمين وهم في معركتهم الشرسة ضد الإسلام والمسلمين ؟!(1/50)
... إنها نصيحة مشفق يريد لك الخير .. أرجو أن لا يصدك الهوى وخلافك معنا عن تأملها أو أن تقف معها ـ على انفراد مع النفس ـ ولو للحظات ..!
... ثم قف ـ بتأدب وتواضع ـ ملياً مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وانظر أين أنت منه .. حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :" من أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً "(1).
... هذا في السلطان المسلم الذي يعتريه بعض السوء .. فما بالك فيمن يقترب من سلاطين الكفر والطغيان .. لا شك أنه أولى بالفتنة والانتكاس .. وفي البعد عن الله - عز وجل - ، وعن دينه وتوفيقه !
ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:1272.
...
ـ العمل الثاني: تبديل الشريعة بشرائع أخرى .
... وهو عمل زائد عن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله، وصفته: أن ينحي الحاكم شرع الله تعالى ـ أو بعض شرعه ـ عن الحكم والوجود، ويستبدله بشرائع وقوانين أخرى مضاهية هي من صنع البشر المخلوق .. ويقدم العمل بها على شرع الله تعالى .. ويجعل من هذه الشرائع والقوانين المستبدلة قانوناً ملزماً للعباد والبلاد !
... فهذا العمل قولاً واحداً هو كفر أكبر على أي وجه وقع وتم .. وصاحبه يكفر بعينه بالنص والإجماع؛ لا يجوز أن يُقال فيه ما قيل في مجرد الحكم بغير ما أنزل الله؛ أن منه ما يكون كفراً أكبر ومنه ما يكون دون ذلك .. كفر دون كفر!
... والدليل على ذلك قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } المائدة:50.(1/51)
... قال ابن كثير في التفسير2/70: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم " الياسق "؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهود والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون } أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون { ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } (1) ا- هـ.
... قلت: وشبيه الياسق الذي أشار إليه ابن كثير الدساتير التي اصطنعتها طواغيت الحكم في هذا العصر، وألزموا بها البلاد والعباد، وقدموها على الحكم بالكتاب والسنة، وأضفوا عليها من القدسية والمكانة ما لم يجعلوه لكتاب الله تعالى، وجعلوا لها في قلوب الناس من الرهبة والخشية ما لم يجعلوه لكتاب الله تعالى .. وهذا هو عين الكفر البواح.
... بل هذه الدساتير الوضعية المعاصرة هي أكفر من ياسق التتار .. والذين وضعوها هم أكفر من الذين وضعوا ياسق التتار؛ لتضمن ياسق التتار على بعض الشرائع المأخوذة من الإسلام ـ كما يقول ابن كثير ـ بخلاف هذه الدساتير المعاصرة التي يخلو كثير منها من ذكر للفظ الجلالة " الله " - سبحانه وتعالى - ..!!(1/52)
... يقول الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ معلقاً على كلام ابن كثير المتقدم في كتابه عمدة التفسير: أفيجوز مع هذا في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل تشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة يغيرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه وافق شرعة الإسلام أم خالفها .. إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح ـــــــــــــــ
(1) وقال نحوه في كتابه البداية والنهاية 13/128: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى " الياسا " وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } ا- هـ.
الشمس؛ وهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام ـ كائناً من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها..ا- هـ.
... ويقول الشيخ محمد حامد الفقي في حاشيته على فتح المجيد،ص396 ، تعليقاً على كلام ابن كثير المتقدم في ياسق التتار: ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها ا- هـ.
... ومن الأدلة على كفر الحاكم المبدل لشرع الله تعالى الآيات الثلاث الواردة في سورة المائدة؛ وهي قوله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . وقوله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } . وقوله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } .(1/53)
... لأنها جميعها ـ كما يقول ابن عباس وغيره ـ نزلت في اليهود لوقوعهم في التبديل لشرع الله تعالى بشرائع وضعية اصطلحوا عليها من تلقاء أنفسهم وأهوائهم .. وإليك الأدلة التي توضح لك ذلك:
... قال تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .. هم الظالمون .. هم الفاسقون } . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فذلَّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويومئذٍ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسقٍ، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض ؟! إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرَقاً منكم، فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا؛ ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه؛ إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه .(1/54)
فدسوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر اللهُ رسولَه بأمرهم كله وما أرادوا فأنزل الله - عز وجل - : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا } إلى قوله: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ثم قال: فيهما والله نزلت، وإياهما عنى الله - عز وجل - (1).
... فقه ودلالات الحديث:
... 1- فيه أن الآيات الثلاث الواردة في سورة المائدة إذا أطلقت فهي يراد منها ابتداء الكفر الأكبر .. والظلم الأكبر .. والفسق الأكبر؛ لأنها جميعها نزلت وقيلت في اليهود.
... 2- استحق اليهود هذه الأحكام: الكافرون .. الظالمون .. الفاسقون لوقوعهم في مجرد التبديل لحكم وشرع الله تعالى، على نحو ما هو مبين في ـــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:2552.
الحديث.
3- عندما وقع اليهود في التبديل كانوا يعلمون أنهم مخالفون لدين الله المنزل عليهم .. وأنهم ظالمون بهذا التبديل .. وأن الذي حملهم على هذا التبديل قهر العزيزة للذليلة .. ولولا ذلك لما أعطت الذليلة ضعف ما تأخذه الذليلة من العزيزة ..!
أي أن اعترافهم بأنهم آثمون ظالمون لم يتشفع لهم في هذا الموضع ولم يمنع عنهم لحوق حكم الكفر .. وذلك لوقوعهم في التبديل .. ولأن التبديل لشرع الله تعالى كفر مستقل بذاته.
... 4- التبديل الذي وقع فيه اليهود ـ وكفروا لأجله ـ هو أنهم اصطلحوا فيما بينهم على أن يكون الشرع المبدل قانوناً ملزماً للجميع .. مع علمهم أن هذا القانون ليس من دين الله المنزل .. وأنه ظلم .. ولولا قهر العزيزة للذليلة لما أمكن الاتفاق على هذا القانون .. كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.(1/55)
... 5- من وقع من حكام المسلمين في التبديل لشرع الله تعالى كما وقعت به اليهود، وعلى النحو الذي وقعوا به فإنهم يكفرون ككفر اليهود .. فالآيات وإن نزلت في اليهود فإنها عامة لكل من يقع فيما وقعت فيه اليهود .. فليس لهم كل مرة ولنا كل حلوة!
... عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات، قال: فقيل ذلك في بني إسرائيل ؟ قال: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مرة، ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك.
... وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من
المسلمين واليهود والكفار.
... وعن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي لهذه الأمة بها.
... وروى ابن جرير الطبري بسنده عن الحسن، قال: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة .
... 6- ليس في الحديث ما يدل على أن اليهود كفروا لوقوعهم في الاستحلال القلبي للحكم بغير ما أنزل الله .. أو أنهم كفروا لأنهم نسبوا ما اصطلحوا عليه من أحكام وشرائع إلى دين الله تعالى المنزل عليهم .. كما يقول بذلك البعض!
... 7- في الحديث دليل قوي على إبطال المقولة ـ السائدة في هذه الأيام ـ التي تقول بأن من وقع في تبديل الشريعة مع اعترافه بأنه ظالم أو آثم فيما قد وقع فيه من التبديل لشرع الله بأنه لا يكفر .. كما يقول بذلك بعض الشيوخ المعاصرين!
... 8- كذلك فيه إبطال للمقولة التي تقيد كفر الحاكم المبدل لشرع الله تعالى بأن يرد تبديله إلى دين الله المنزل .. بينما لو رده إلى نفسه وهواه فإنه لا يكفر مهما ألزم العباد والبلاد بقوانينه وشرائعه المحدثة ..!!(1/56)
... فهو لا يكفر إلا أن يقول عن هذا الشرع المبدل .. هو دين الله المنزل، بينما لو رد التبديل لنفسه فقال: هو ديني وشرعي .. شرعته من تلقاء نفسي .. وقد ارتضيته لكم قانونا وحكما .. فإنه لا يكفر .. وهذا من أغرب ما سمعته أذناي من شبهات تنشر حول المسألة .. ولا ندري غداً بما سيطالعوننا به من شبهات وآراء ما أنزل الله بها من سلطان !!
... ـ وقفة مع فقه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني للحديث.
... قال الشيخ رحمه الله بعد أن خرج الحديث ... 6/111: فائدة هامة: إذا علمت أن الآيات الثلاث .. نزلت في اليهود وقولهم في حكمه - صلى الله عليه وسلم - :" إذا أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه " .. إذا عرفت هذا فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك، وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله، لا يجوز ذلك؛ لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم " .. وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه "، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً، وسر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي، فالاعتقادي مقره القلب، والعملي محله الجوارح . فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع، وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله .. وأما إذا كان مخالفاً لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له .. ا- هـ.
... أعلق على كلام الشيخ أعلاه في النقاط التالية:(1/57)
... 1- الذي حمل الشيخ على هذا الفهم الخاطئ للحديث هي أصوله الفاسدة في مسائل الكفر والإيمان .. التي هي أقرب ما تكون إلى أصول جهم الضال في الإيمان !
... 2- قول الشيخ بأنه لا يجوز حمل هذه الآيات على طواغيت الحكم المعاصرين رغم مشابهتهم لليهود من جهة التبديل والحكم بغير ما أنزل الله .. لماذا ..؟ لأنهم مصدقون بما أنزل الله .. كما زعم الشيخ!
... ونحن نسأل: هل هذا الفهم والفقه ينسجم مع عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بأنه: اعتقاد وقول وعمل ..؟!
... كيف يمكن أن نوفق بين تعريف السلف للإيمان .. وبين قول الشيخ المتقدم عن طواغيت الحكم بأنهم مؤمنون لكونهم جاءوا بالتصديق بما أنزل الله بخلاف اليهود الذين جحدوا .. وهل المسالة تقف عند مجرد التصديق ثم ليكن بعد ذلك ما يكون ..؟!
... ثم هل يكفي في الإيمان: التصديق الذي يكذبه العمل .. ؟!
... أليس هذا هو عين قول جهم الضال الذي يعلق الإيمان على تصديق القلب .. كما أنه يعلق الكفر على جحود وتكذيب القلب ..؟!!
... ثم كيف عرف الشيخ أن هؤلاء الطواغيت مصدقون في قلوبهم .. والقلوب لا يعرف حقيقتها وحقيقة ما وقر فيها إلا خالقها ..؟!
ومن جهة فهو لم يؤمر شرعاً أن ينقب عما في القلوب .. أو يشق البطون ؟!!
... فإن قيل: قرائن الحال .. والعمل الظاهر!
... نقول: قرائن الحال .. والعمل الظاهر يدل على تكذيب القلوب وليس على تصديقها؛ لمشابهتها ومطابقتها لفعل اليهود .. فالأعمال الظاهرة لهؤلاء الطواغيت لا تعين الشيخ ولا غيره على الحكم على قلوب هؤلاء الحكام بأنهم مؤمنون مصدقون في قلوبهم ..!
... 3- طواغيت الحكم المعاصرين الذين يحكمون العباد بالقوانين والدساتير الوضعية .. هم أشد كفراً وطغياناً من حكام يهود الذين كفروا !(1/58)
... هم أكفر منهم من جهة وقوعهم في مطلق الحكم بغير ما أنزل الله .. فإذا كان اليهود الذين نزلت فيهم الآيات قد وقعوا في تبديل بعض أحكام الشريعة المنزلة عليهم .. فإن كثيراً من طواغيت الحكم المعاصرين قد بدلوا مطلق الشريعة .. وحكموا العباد والبلاد بما يضادها من القوانين الوضعية الكفرية !!
... وهم أكفر منهم .. من جهة عدائهم الشديد للإسلام والمسلمين .. هل يُعرف عن اليهود ـ من قبل وفي هذه الأيام ـ أنهم يحاربون الأحبار والرهبان، والمتدينين من أبناء دينهم وجلدتهم .. كما يحارب حكام المسلمين ـ في هذا الزمان ـ العلماء والدعاة إلى التوحيد ..؟!!
... هل يمنع حكام اليهود ـ في هذه الأيام وغيرها من الأيام ـ أحبارهم ورهبانهم من الدعوة إلى اليهودية المنحرفة الضالة .. وإلى تلمودهم وكتبهم الهدامة .. كما يمنع حكام المسلمين ـ في هذه الأيام ـ العلماء والدعاة من الدعوة إلى الله تعالى، وإلى دينه الحق وتوحيده ..؟!!
... هل سمعتم أن اليهود قد علقوا عالماً من علمائهم على أعواد المشانق .. أو حكموا عليه بالإعدام .. بينما كم هم العلماء والدعاة إلى الله الذين عُلقوا ظلماُ وعدواناً على أعواد ومشانق هؤلاء الطواغيت الظالمين .. لا لشيء سوى أنهم يقولون ربنا الله !
... هل باع اليهود أنفسهم وبلادهم وخيراتهم لأعدائهم .. كما يفعل هؤلاء الطواغيت الظالمين ..؟!
... فهم أكفر منهم من وجوه ووجوه .. ومع ذلك يقول عنهم الشيخ: إنهم ليسوا كاليهود .. لأنهم مصدقون بما أنزل الله !!(1/59)
... 4- مما يؤكد فساد عقيدة الشيخ في الإيمان والكفر .. تقسيمه للكفر إلى قسمين: كفر يخرج صاحبه من الملة مقره القلب فقط، وكفر ـ مهما كان بواحاً ـ لا يخرج من الملة؛ ومقره الجوارح .. ما لم يأتِ دليل آخر يدل على تصديق القلب لهذا الكفر البواح الذي يمارس على الجوارح .. فمدار الكفر والإيمان ـ عند الشيخ ـ على ما ينعقد في القلب بغض النظر عما يجري على الجوارح من أعمال .. وهذا هو نفس تقسيم وقول جهم بن صفوان الضال..!
... أعد قراءة قوله من جديد ـ إن شئت ـ:" فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع، وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله "!
... مفهوم كلامه أن ما سوى ذلك ـ مهما كان الكفر بواحاً ـ لا يكون من الكفر الاعتقادي .. وهو من الكفر الذي يغفره الله!!
... هذا المفهوم قد عبر عنه بلفظ منطوق وذلك عندما قال:" وأما إذا كان مخالفاً ـ أي العمل الكفري ـ لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله .." فتأمل!!
... 5- كيف نوفق بين أصول أهل السنة ـ والتي يقول بها الشيخ ناصر! ـ الدالة على العلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وعلى تأثر وتأثير كل منهما بالآخر .. وبين قول الشيخ: ظاهر كافر .. وجوارح كافرة .. وباطن مؤمن، وقلب مؤمن مصدق .. حاكم كافر متمرد على شرع الله في ظاهره وعلى
جوارحه .. ثم هو مؤمن مصدق في قلبه وباطنه ..؟؟!!
... ثم ما قيمة أن نأتي بتعريفات أهل السنة للإيمان وما يتفرع عنه من مسائل .. ثم عند التأصيل والتفصيل، وإنزال الأحكام على الواقع .. نأتي بأصول وفهم جهم الضال، وغلاة أهل الإرجاء ..؟!
... 6- قول الشيخ أن علة كفر اليهود أنهم كانوا مكذبين جاحدين في قلوبهم بخلاف طواغيت الحكم في بلاد المسلمين فإنهم مصدقون .. ليس صحيحاً .. وليس في الحديث ما يدل على ذلك !(1/60)
... وما استدل به الشيخ ليس صحيحاً لا لغة ولا حالاً وصفةً .. وإليك ما قد قاله:" كما يدل عليه ـ أي على تكذيبهم وجحودهم القلبي ـ قولهم المتقدم: وإن لم يعطكم حذرتموهم فلم تحكموه .." !!
... قلت: أين الدلالة من العبارة على أن اليهود كانوا جاحدين مكذبين في قلوبهم ..؟!
... ولو أتينا بمذاهب أهل التأويل وطرقهم كلها لما استطعنا على أن نفسر هذه المقولة بأنها تعني الجحود والتكذيب القلبي ..؟!
... ثم هل من مذهب السلف الصالح التأويل .. نقاتل غيرنا ونشنع عليهم لوقوعهم في التأويل، ثم نحن نقع في شر أنواع التأويل ..؟!
... فإن قيل: يجوز التأويل للضرورة ..!
... قلنا: وما الضرورة هنا .. إلا إذا اعتبر حمل ألفاظ الحديث على أصول جهم وغلاة أهل الإرجاء .. من الضرورات التي تبيح المحظورات ؟! ...
... هذا وجه، ووجه آخر فإن القرآن يثبت أن اليهود لم يكونوا مكذبين وجاحدين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الآيات والذكر الحكيم من قلوبهم .. بل كانوا يوقنون في قلوبهم أن النبي حق، وأنه نبي مرسل .. وأن ما جاء به من عند ربه هو الحق، كما قال تعالى عنهم: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } النمل:14.
فهم جحدوا بالآيات بألسنتهم رغم أنهم كانوا يوقنون في قلوبهم أنها الحق، وما حملهم على ذلك الجحود الظاهر إلا الكبر والحسد والعناد..!
... وقال تعالى: { فلما جاءهم ما عرفوا به كفروا به فلعنة الله على الكافرين } البقرة:89.
... وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } البقرة:146. وغيرها كثير من الآيات التي تدل على أن اليهود كانوا يقرون في قرارة أنفسهم وقلوبهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق .. وأن ما جاء به من عند ربه من الآيات والتنزيل هو الحق .. ومع ذلك فقد كفروا لتكبرهم وترفعهم عن الدخول في الطاعة والمتابعة لهدي الشريعة ظاهراً وباطناً ..!(1/61)
... دليل آخر من السنة على كفر التبديل، وكفر من وقع في التبديل:
... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن بني إسرائيل لما طال الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم(1)، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ــــــــــــــــــ
(1) ظاهر الحديث يفيد أن استحلالهم للحكم بغير ما أنزل الله كان مقصوراً على اللسان، أما ما وقر في قلوبهم فهو مجرد الهوى والميل والرغبة .. ومع ذلك فقد كفروا .. لوقوعهم في التبديل.
...
كأنهم لا يعلمون، فقالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن اتبعوكم عليه فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم .."(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً فاتبعوه، وتركوا التوراة "(2).
... قلت: وهو نفس ما يصنعه طواغيت الحكم في هذا الزمان من تبديل لشرع الله؛ حيث ما من طاغوت من طواغيت الحكم إلا وكتب كتاباً من عند نفسه، جمع فيه قيأه وقيحه، وكل دمٍ فاسد .. سماه بالدستور .. يلزم به شعبه بقوة الحديد والنار، وأيما امرئٍ يأبى الطاعة والتحاكم إلى هذا الدستور، أو لا يرضى به، أو يعترض عليه بقول أو فهم فحكمه عندهم السجن والقتل، وغير ذلك من قوائم العقوبات ..!
... خالف من شئت وما شئت .. إلا دستورهم المقدس .. فحذارك أن تحدث نفسك في مخالفته في شيء ..؟!!
... إنها السنن .. واتباع سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة .. شبراً بشبر، ولو دخلوا جحر ضب لوجد من هذه الأمة من يفعل فعلهم، ويدخل جحورهم ..!
... والسؤال: علام اليهود يكفرون لوقوعهم في هذا التبديل .. وطواغيت الحكم في بلادنا لا يكفرون .. وقد وقعوا فيما وقع فيه اليهود من التبديل وأشر منهم ..؟!!
... أم لهم كل مرة .. ولكم يا طواغيت الحكم كل حلوة ؟!
ـــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، السلسلة الصحيحة:2694.
(2) أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة: 6/437.(1/62)
... ـ أقوال بعض أهل العلم في كفر التبديل:
... إضافة لما تقدم ذكره .. نذكر هنا أقوال بعض أهل العلم في كفر التبديل، وكفر من وقع في التبديل.
... قال ابن جرير في التفسير 4/592: { فأولئك هم الكافرون } يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه ..ا- هـ.
... وقال الجصاص في الأحكام في تفسير قوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } : في هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من الإسلام؛ سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم .. ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/70: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، ويكونون على وجهين: أحدهما أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً ا- هـ.
... قلت: هذا فيمن يتبع المبدلين لشرع الله في التحليل والتحريم .. فمن باب أولى كفر من قام بعملية التبديل لشرع الله من الأحبار والرهبان ..!
... وقال 28/524: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، واتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر ..ا- هـ.
... قلت: هذا فيمن يسوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. فكيف بمن يقوم بتبديل الشريعة .. ومن ثم فرض الشريعة المبدلة على البلاد والعباد بالقوة،
لا شك أنه أولى بالكفر، وبالخروج من دائرة الإسلام ..!
ـ العمل الثالث:سن القوانين والتشريعات المضاهية لشرع الله.
وهو يختلف عن الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، أو الذي يقوم بمجرد التبديل للشريعة بالشرائع الوضعية .(1/63)
... ويمكن القول: أن كل من استشرف خاصية التشريع .. فجعل من نفسه مشرعاً .. يشرع القوانين والتشريعات المضاهية لشرع الله تعالى فقد حكم بغير ما أنزل الله، وقد غير وبدل، وليس كل من حكم بغير ما أنزل الله، أو وقع في التبديل والتغيير للشريعة يلزمه أن يكون مشرعاً، أو أنه يقوم بمهمة سن القوانين والتشريعات .. وتصديرها للبلاد والعباد(1)!
... لذا لزم الإشارة إليه كعمل مستقل يخرج صاحبه من الملة، وصفته: أن يزعم لنفسه خاصية التشريع مع الله تعالى، أو يباشر عملية التشريع، والتحليل والتحريم، وسن القوانين المضاهية لشرع الله تعالى بالقول أو الفعل ..!
... وهذا عمل؛ وصاحبه لا شك ـ ولا خلاف ـ في كفره وطغيانه، وخروجه من دائرة الإسلام.
... وعلة ذلك أنه يتشبه بالخالق - سبحانه وتعالى - ، ويدعي لنفسه خاصية هي من أخص خصوصيات الله تعالى وحده؛ ألا وهي خاصية التشريع، والتحليل والتحريم.
ـــــــــــــــ
(1) قولنا بأن كل مشرع ـ من دون الله ـ هو حاكم بغير ما أنزل الله، ومبدل ومغير لشرع الله .. يلزم منه بالضرورة حمل الأدلة والأقوال التي تفيد كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وكفر المبدل المغير للشريعة .. على المشرع الذي يستشرف خاصية التشريع مع ـ أو من دون ـ الله.
... فالحكم والتشريع لله تعالى وحده، كما قال تعالى: { إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } الأنعام:57. وقال تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } يوسف:40. وقال تعالى: { ولا يُشرك في حكمه أحداً } الكهف:26. وقال تعالى: { أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشورى:21.
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الله هو الحكَمُ وإليه الحكم ".(1/64)
... بينما هذا الإنسان المشرع يقول ـ بكل وقاحة وصراحة ـ بلسان الحال أو القال: أنه هو المشرع من دون الله .. وأنه شريك مع الله في التشريع .. وأن خاصية التشريع والتحليل والتحريم له من دون الله .. فالله تعالى له الخلق .. وهو له الأمر!!
... وهو بذلك مثله كمثل فرعون، كما قال تعالى عنه: { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } القصص:38. أي ما علمت لكم من مشرع وحاكم ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري { أنا ربكم الأعلى } النازعات:24. الذي يحق له أن يربيكم على ما يشاء من دين، وشرائع، وثقافات، و { ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } غافر:29. أي لا دين يُتبع، ولا رأي يؤخذ به إلا رأيي وحكمي ..!
... وهذا حكمه الكفر والخلود في نار جهنم، كما قال تعالى عنه: { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } الأنبياء:29.
... فإن قالوا ـ وقد قالوا ـ: هو لم يقل عن نفسه أنه إله ..؟!
... أقول: ألم يقل عن نفسه أنه المشرع .. وأن من خصائصه التشريع .. أو أن سلطة التشريع له من دون الله ..؟!
... فإن قالوا: نعم .. وليس لهم أن يقولوا غير ذلك!
... أقول: هذا القول .. وزعم الألوهية لفظاً وصراحة سواء .. لا فرق بينهما من حيث المعنى والدلالة، ولا من حيث الحكم والتبعات.
... إلا أن الذي يقول عن نفسه أنه هو المشرع من دون الله .. يكون أكثر دهاءً ومكراً وخداعاً من ذلك الغبي الذي يقول عن نفسه صراحة ـ كفرعون ـ بأنه هو الرب أو الإله .. الذي قد يثير بذلك غضب الناس عليه، ويكشف طغيانه وكفره للعوام منهم!
... وقد سمى الله تعالى هؤلاء الذين يتجرءون على التشريع، والتحليل والتحريم أرباباً من دون الله كما قال تعالى عنهم: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } التوبة:31. وذلك عندما حلل الأحبار والرهبان الحرام، وحرموا الحلال من غير سلطان من الله تعالى .. وأطاعهم الأتباع على ذلك التحليل والتحريم!(1/65)
... وللمشرع من دون الله ـ في زماننا ـ صور عدة: أوقحها وأصرحها دلالة تلك الصورة الممثلة في مجالس النواب التشريعية ـ أو مجالس الشعب كما في بعض البلدان ـ التي يصرح أعضاؤها بكل وقاحة بأن مهمتهم التشريع، والتحليل والتحريم، وسن القوانين .. وأن سلطة التشريع هي لهم من دون الله!
... ومن ذلك كذلك تلك المجموعة التي تعكف على إعداد دستور للبلاد يكون مرجعاً وحكماً لها في كل شيء .. وقد يجتمع على ذلك الملك الحاكم، ومجلسي أعيانه، ونوابه ..!
... وقد يقوم بذلك شخص الحاكم وحده .. على طريقة الطاغية فرعون: { ما أريكم إلا ما أرى } . كما هو الحال في أغلب الدول الديكتاتورية التي تعيش نظام تسلط حكم الفرد (1)..!
... ومنها: ذلك المؤلف أو الكاتب الذي يحشو كتابه بعبارات .. يجوز .. ولا يجوز .. جيد .. وغير جيد .. حسن .. وقبيح .. حلال .. وحرام .. ممنوع .. وغير ممنوع .. بغير سلطان من الله تعالى.
... ومن هذه الصور: ما يشرعه أرباب الأحزاب العلمانية لأفراد أحزابهم من تعليمات .. وشرائع .. وقوانين .. ومناهج .. وثقافات .. تحدد مسلكهم وطريقتهم .. وما يجب لهم وما يجب عليهم .. وما هو ممنوع وما هو مسموح بغير سلطانٍ من الله تعالى!
... فكل هذه الصور تدخل دخولاً كلياً في معنى المشرع من دون الله .. ويُجرى عليها الوعيد والحكم الذي يلحق بالمشرع ـ من دون الله ـ في الدنيا والآخرة .. وقد تقدم بيانه.
ـ العمل الرابع: التحاكم إلى شرائع الكفر، والدخول في طاعة المشركين فيما يشرعون.
ـــــــــــــــ
(1) مثال ذلك: الدستور السوري فقد وقع عليه حافظ الأسد فقط .. مما يوحي أنه لم يشركه أحد في وضع هذا الدستور .. فهو أكبر من أن يكون له شريك يشاركه في التشريع أو وضع الدستور .. فتأمل!!
يأنفون أن يكون لهم شريك في الحكم والتشريع .. بينما يستسيغون ويجوزون ذلك على الله - سبحانه وتعالى - ..!!!(1/66)
... وصورته تختلف عمن تقدم ذكرهم .. فقد لا يكون المتحاكم إلى شرائع الكفر والطغيان حاكماً، ولا مبدلاً، ولا مشرعاً .. فهو عمل زائد عما تقدم ذكره، وممكن للمرء أن لا يأتي من هذه الأعمال الآنفة الذكر إلا هذا العمل؛ وهو التحاكم إلى القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر.
... لذا تعين إفراده وذكره كعمل مستقل من جملة الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة.
... وصورته: أن يحمل المرء نفسه حراً مختاراً على التحاكم إلى القوانين والمحاكم الوضعية، رغم توفر المحاكم الشرعية التي تحكم له بالشريعة، وتقدر على إنصافه ورد مظلمته ..!
... فهو يعدل عن التحاكم إلى شرع الله ـ رغم توفره ووجوده، وتيسره لمن يريده ـ إلى التحاكم إلى الشرائع الوضعية الباطلة ..!
... ومن ذلك ما يفعله طواغيت الحكم في بلادنا حيث تراهم يعدلون عن التحاكم إلى الشريعة .. ويحتكمون إلى شرائع الكفر المستوردة من الغرب الفاسد، أو الشرق الملحد .. وهذا زيادة منهم في الكفر والمروق!
... فمن فعل ذلك فهو كافر مرتد، خارج من دائرة الإسلام .. لا يتردد في كفره إلا كل أعمى البصر والبصيرة.
... والدليل على ذلك، قوله تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } النساء:60.
... فاعتبر الله تعالى إيمانهم زعماً لا حقيقة له؛ وذلك بأنهم عدلوا عن التحاكم إلى شرع الله تعالى إلى التحاكم إلى الطاغوت .. وشرائع الطاغوت،
رغم أنهم قد أمروا أن يكفروا به !(1/67)
... قال الشوكاني في التفسير 1/481: فيه تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به ا- هـ.
... ومما يدخل في الطاغوت معنى واسماً كل شرع يُتحاكم إليه غير شرع الله - عز وجل - .
... قال محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته القيمة " تحكيم القوانين ": فإن قوله - عز وجل - { يزعمون } تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل الإيمان ينافي الآخر ا- هـ.
... ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } النساء:65.(1/68)
... وهذه آية نزلت في رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد؟ قال أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي عليه، فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأبى صاحبه أن يرضى، وقال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر الصديق، فقال: أنتما على ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأبى أن يرضى، فسأله عمر، فقال كذلك، فدخل عمر منزله والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله تبارك وتعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } .
... وفي رواية عمرو بن الزبير: فقال عمر: أكذلك؟ للذي قُضي عليه ـ يستوثق منه ـ فقال: نعم، فقال عمر: مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج مشتملاً سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر، فقتله، وأدبر الآخر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قتل عمر صاحبي: ولولا ما أعجزته لقتلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن " فأنزل الله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ، فبرأ الله عمر من قتله(1).
... قلت: هذا حكم من تحاكم إلى أبي بكر وعمر ولم يرض بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فما قولكم فيمن يتحاكم طواعية إلى قوانين الكفر المستوردة من الغرب أو الشرق، ويقدمها على حكم الله ورسوله .. لا شك أنه أولى بالكفر وبالقتل!(1/69)
... قال ابن تيمية في الفتاوى 28/471: فكل من خرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة ا- هـ.
ـــــــــــــــ
(1) عن الصارم المسلول:38.
وقال تلميذه ابن القيم في التبيان، ص270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحاكم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا- هـ.
... ونحوه قول ابن كثير في التفسير: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة ا- هـ.(1/70)
... وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: فالواجب كمال التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً أو نحمله شبهة أو شكاً، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول؛ فلا نحاكم إلى غيره ولا نرضى بحكم غيره، ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره ..!
... لا يثبت إسلام من لم يُسلِّم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض
عليها، ولا يُعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
... روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ا- هـ.
... وقال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } النساء:59.
... أي إن كنتم صادقين في إيمانكم بالله واليوم الآخر فردوا ما تنازعتم به ـ من شؤون الدين والدنيا ـ إلى الله والرسول؛ إي إلى الكتاب والسنة .. فإذا انتفى هذا الرد، وتحاكمتم ـ فيما تنازعتم فيه ـ إلى غير الله والرسول، فأنتم غير صادقين في دعواكم بأنكم مؤمنين بالله واليوم الآخر .. مهما زعمتم بلسان القال ذلك، فلسان الحال والعمل يكذبه وينفيه.
... قال ابن القيم في الأعلام 1/50: جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر ا- هـ.
... وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } الحجرات:2.(1/71)
... قال ابن القيم في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟!".
... قلت: ولا يحبط العمل كلياً إلا الشرك والكفر ..!
... فإن قيل: أكثر بلاد المسلمين ـ في هذا الزمان ـ لا تحكم بالكتاب والسنة .. وإنما تحكم بالقوانين الوضعية المستمدة من الغرب أو الشرق، ومن أهواء القوم .. إضافة إلى مئات الملايين من المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفر والإلحاد .. وهؤلاء شاءوا أم أبوا معرضون للتحاكم إلى غير الكتاب والسنة .. فما حكم الشرع فيهم .. وهل يُحمل عليهم كفر من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة المتقدم الذكر ..؟!
... أقول: المسألة فيها تفصيل .. وتفصيلها كالتالي:
... 1- أفادت النصوص الشرعية أن المتحاكم إلى غير الكتاب والسنة .. يكفر بشرطين ووصفين أو بأحدهما:
... أولاً: أن يعدل عن التحاكم إلى الكتاب والسنة ـ رغم توفره وقدرته على إتيان ذلك ـ إلى التحاكم إلى الشرائع والقوانين الوضعية الأخرى.
... فهو في حقيقته يؤثر ويقدم التحاكم إلى شرائع البشر على حكم وشرائع خالق الخلق والبشر، وهذا هو المراد من الآيات الآنفة الذكر، والتي منها قوله تعالى: { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } . أي يتركون النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ويتركون حكم الله ورسوله، ويعدلون عنه إلى حكم الطاغوت، وشرع الطاغوت.
... قال ابن كثير في التفسير: والآية أعم من ذلك ـ أي من حصرها في سبب نزولها ـ فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.
... وقوله: { ويصدون عنك صدوداً } أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك ا- هـ.
... فتأمل قوله " لمن عدل " الذي يفيد المعنى الذي أشرنا إليه .. والله تعالى أعلم.(1/72)
... ثانياً: أن يرضى ويستحسن حكم غير الكتاب والسنة .. فهذا يكفر سواء باشر التحاكم، أو لم يباشر عملية التحاكم؛ لأن الرضى بالكفر كفر بلا خلاف بين أهل العلم.
... 2- من وقع في التحاكم إلى غير الكتاب والسنة على غير هذين الوصفين الآنفي الذكر .. لا يكفر، ولا يجوز أن تُحمل عليه النصوص الآنفة الذكر.
... 3- الأصل في المسلم إن وقع في مظلمة أن يبذل جهده المستطاع في تحصيل حقوقه عن غير طريق التحاكم إلى هذه القوانين الوضعية .. فإن تعسر عليه ذلك، ولم يجد بداً لتحصيل حقوقه إلا عن طريق هذه المحاكم .. أرجو أن لا يكون عليه حرج في ذلك إن شاء الله.
... فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم "(1).
... وحلف المطيبين هذا هو عبارة عن لجنة شُكلت من كبار المشركين يومئذٍ، تعاقدوا فيما بينهم على إنصاف المظلوم من الظالم .. وكان الناس ـ يومئذٍ ـ يردون نزاعاتهم ومظالمهم إليهم .
... قال ابن الأثير في النهاية: اجتمع بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيم في دار ــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:441.
ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فسموا المطيبين ا- هـ.
... قلت: ومع ذلك فقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه خيراً لقيامه على معنى شرعي صحيح .. وهو إنصاف المظلوم من الظالم.
4- أرى من العزيمة والتقوى ـ إن كان الضرر محتملاً ـ أن يصبر المرء على مظلمته، من دون أن يلتجئ إلى تلك المحاكم .. وبخاصة إن كان من ذوي العلم والفضل، فالأخذ بالعزيمة في حقه أولى، والله تعالى أعلم.
ـ مسألة: عمل المحاماة.
من إفرازات العمل بالقوانين الوضعية السائدة في أمصار المسلمين العمل بمهنة المحاماة .. فما هي صفته، وما هو حكمه، وما حكم المحامي الذي يمتهن العمل باختصاصه ..؟!(1/73)
أقول: العمل بالمحاماة هو أن يقوم المحامي نيابة عن موكله بالمرافعات والدفاع عنه، وتحصيل حقوقه في مجالس القضاء .. من خلال تحاكمه للقوانين الوضعية المعمول بها في تلك البلاد.
فالعمل ـ من خلال هذا الوصف ـ عمل كفري لا خلاف فيه .. وكفره يكمن من جهة التحاكم للقوانين الوضعية المخالفة لحكم الله تعالى الذي أنزله على نبيه وعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ولكن هل يلزم من ذلك أن يكون كل محام كافراً بعينه ..؟
الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل، وتفصيله يكمن في النقاط التالية:
1- الذي يختص في دراسة المحاماة ليتعرف على مزالق ومساوئ
القوانين الوضعية .. ليقوم بتعريتها، وفضحها، وتحذير الناس منها .. فمثل هذا لا حرج عليه إن شاء الله .. وقد يكون له أجراً .. لكن لا ننصح ولا نرى أن يخوض هذا المخاض الشائك إلا من اشتد صلبه في الإسلام، وكان على علم لا بأس به بعقيدة وشرائع الإسلام ..!
2- المحامي الذي يتحاكم لهذه القوانين الوضعية فيما هو يضاهي ويضاد حكم الله تعالى .. وكذلك لكي يبطل حقاً أو يحق باطلاً .. فهو كافر بعينه، وتُحمل عليه النصوص الشرعية الآنفة الذكر التي تفيد كفر من يتحاكم إلى شرائع الكفر والطغيان.
3- كذلك المحامي الذي يتحاكم إلى هذه القوانين الوضعية على وجه الاعتقاد، أو الاستحلال والتحسين أو استقباح ما يخالفها من قوانين الحق .. فإنه بذلك يكفر بعينه ويخرج من ملة الإسلام.
يقول الشيخ أحمد شاكر في كتابه عمدة التفاسير ( 2/172-174 )، منكراً على من يرسلون أبناءهم لدراسة القوانين الوضعية " الياسق العصري " ومن ثم ليعملوا بمقتضاها في المحاكم الوضعية:" أفيجوز لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد؛ أعني التشريع الجديد ؟!
أويجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه، واعتقاده، والعمل به، عالماً كان الأب أو جاهلاً ؟!(1/74)
أويجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري وأن يعمل به، ويُعرض عن شريعته البتة ..؟!
ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة ا- هـ.
4- المحامي الذي يقتصر عمله على إبطال الباطل وتحصيل الحقوق واستردادها إلى أصحابها .. ومن دون أن يتحاكم في ذلك إلى القوانين أو الشرائع الوضعية المضاهية والمضادة لحكم الله - عز وجل - .. فعمله جائز .. وله أجر ـ إن شاء الله ـ إن حسنت نيته وطويته.
مثاله: أن يُحكم على أخ من الأخوان ـ من أجل دعوته ودينه ـ بالإعدام من قبل هذه الأنظمة الطاغية المنتشرة في الأرض التي تحارب الله ورسوله .. فيتدخل هذا المحامي ليبطل هذا الباطل أو ليقلل من شره وأذاه .. أو بدلاً من أن يُسجن الأخ عشرون سنة في سجون الطواغيت الظالمين .. فيعمل على تخفيف ذلك عنه ـ إن لم يقدر على إلغائه ـ إلى سجن سنة أو سنتين .. ونحو ذلك من الأمثلة التي تتكرر مراراً في حياتنا اليومية!
فإن قيل: علام أجزت هذا النوع من العمل للمحاماة مع العلم أن ذلك
سيضطره للوقوف أما القاضي الكافر الذي لا يحكم بما أنزل الله ..؟!
... أقول: الذي حملنا على القول بجواز ذلك أمور:
... منها: أن قواعد الإسلام وشرائعه قد ألزمت بدفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر .. والمفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى .. ولا شك أن المفسدة الكبرى في مثالنا السابق أن يُعدم الأخ ظلماً وعدواناً .. أو يُسجن السنوات الطويلة بدلاً من أن يُلغى سجنه أو يُسجن لفترة وجيزة ومحتملة.(1/75)
... ومنها: أن دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر لا يستلزم استحلال الضرر الأصغر أو الرضى به .. وإنما الذي حملنا على تقديمه رغبة منا في دفع الضرر أو الشر الأكبر الذي لا يمكن دفعه إلا من خلال هذا الطريق!
... ومنها: قولنا في المسألة السابقة بجواز تحصيل المسلم لحقوقه المغتصبة عن طريق الكافر أو المحاكم السائدة في أمصار المسلمين ـ وفق الشروط الآنفة الذكر ـ يلزمنا بالضرورة القول بجواز مساعدة المحامي له، وبخاصة إن كان صاحب الحق هذا عاجزاً عن تحصيل حقوقه .. ولا يعرف كيف يتحصل عليها!
... ومنها: أن نصوص الشريعة أوجبت على المسلم أن ينصر أخاه المسلم، وأن لا يدعه أو يُسلمه للظلم والقهر والعدوان، كما في الحديث الصحيح:" المؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعتَه، ويحوطه من ورائه "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من ردَّ عن عرض أخيه، ردّ الله عن وجهه النارَ يومَ القيامة "(2).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يومَ القيامة من نار جهنم "(3).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" المسلمون تتكافأ دماؤهم .. وهم يد على من سواهم يردّ مشدهم ـ أي قويهم ـ على مُضعفهم، ومتسرعهم ـ أي مجاهدهم ـ على ـــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود:4110. وقوله:" يكف عليه ضيعته " أي معاشه، والمراد: أنه يمنع عن أخيه تلف معاشه وسبب رزقه. وقوله:" ويحوطه " أي يحفظه في أهله ونفسه وماله عند غيابه. (2) أخرجه أحمد، والترمذي، صحيح الجامع:6262.
(3) صحيح سنن أبي دواد: 4086.
...
قاعدهم .. "(1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ما من امرئٍ يخذلُ امرءاً مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطنٍ يُحب فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره اللهُ في موطن يُحبُّ فيه نصرته "(2).(1/76)
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربة من كُرَب يوم القيامة .." متفق عليه. وغيرها كثير من النصوص التي توجب على المسلم أن ينصر أخاه المسلم، وأن يذب عنه وعن عِرضه وحرماته، وأن لا يُسلمه للظلم والظالمين .. وهذا الذي أجزناه للمحامي أن يقوم به .. هو من هذا القبيل لا غير.
... ومنها: أن من المظالم قد ترقى إلى درجة الإكراه كالحكم على معين ـ ظلماً وعدواناً ـ بالقتل والإعدام .. وكان تنفيذه محققاً .. أو الحكم عليه بالسجن المؤبد أو لمدة طويلة ونحو ذلك ..!
... فإذا كان هذا النوع من الظلم لا يندفع إلا بإظهار نوع من الكفر .. كالوقوف في محاكم هؤلاء الظالمين والتحاكم إلى قوانينهم .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرجاً إن شاء الله لعلة الإكراه المانعة من لحوق الوعيد بالمعين، كما قال تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
... وللنصوص الشرعية العديدة التي تلزم العمل بالقاعدة التي تقول: بأن ـــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن أبي داود: 2391. (2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:5690.
الضرورات تُبيح المحظورات.
... ومنها: أن مثل هذا النوع من الدفاع عن حقوق المسلمين أمام الطغاة الظالمين قد حصل شيء منه في تاريخنا الإسلامي: فهذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقف أمام الطاغية قازان ملك التتار .. يُحاجه ويُجادله ليثبت له عدوانه وظلمه ليثنيه عن غزو الشام .. وليطالبه بإطلاق سراح أسرى المسلمين وغيرهم من أسرى أهل الكتاب ممن هم من أهل الذمة الذين كانوا معتقلين في سجونه .. فحقق الله على يديه من النصر والنفع للمسلمين يومئذٍ ما لا يعلمه إلا الله.(1/77)
... وكذلك لما وافق الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي - رضي الله عنه - على حكم طاغية الروم بأن يقبَّل رأسه مقابل أن يخلي عنه وعن إخوانه من أسرى المسلمين. فقال عبد الله: فقلت في نفسي عدوٌ من أعداء الله أقبِّل رأسه يُخلي عني وعن أسارى المسلمين، لا أبالي! فدنا منه فقبَّل رأسه، فدفع إليه الأسارى. فقدم بهم على عمر - رضي الله عنه - فأُخبر عمر بخبره، فقال عمر: حقٌّ على كل مسلم أن يُقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام عمر وقبل رأسه. وهذا إجماع من الصحابة على تصويب فعل وموقف عبد الله بن حذافة - رضي الله عنه - .
... ولا شك أن الحكم بتقبيل رأس الطاغية .. هو من الحكم بغير ما أنزل الله .. ولكن لما كان أسرى المسلمين لا يمكن أن يُخلى سبيلهم إلا من خلال هذا الطريق .. وبعد تقبيل رأس الطاغية .. فعله الصحابي بإقرار جميع الصحابة له .. رضي الله عنهم أجمعين.
... لأجل هذه الأوجه مجتمعة قلنا بجواز جانب محدود من عمل المحامي وفق الضوابط والشروط المبينة أعلاه .. والله تعالى أعلم.
ـ تنبيه: إلى هنا نكون ـ بفضل الله ومنته ـ قد انتهينا من بيان الأعمال المكفرة التي تخرج صاحبها من الملة ذات العلاقة بالحكم بغير ما أنزل الله.
... وكما هو ملاحظ فالقضية لا تقف عند حدود نوع واحد من العمل ـ كما يصور البعض ـ ثم تنتهي .. لا، وإنما هي أعمال يجب النظر إليها من عدة جوانبها وأطرافها؛ من جهة الحكم بغير ما أنزل الله، ومن جهة الوقوع في التبديل والتغيير لشرع الله، ومن جهة استشراف التشريع مع ـ أو من دون ـ الله .. ومن جهة التحاكم إلى الطاغوت وشرائعه .. فهذه أعمال كل واحد منها يخرج صاحبه من الملة وفق ما تقدم بيانه.(1/78)
... والذي يتعرض لبحث مسائل الحاكمية وصور الانحراف التي طرأت على الأمة في هذا الجانب .. لا بد له من أن يتناول الموضوع من جميع جوانبه وأطرافه الآنفة الذكر؛ إذ لا يكفي أن يقف عند جزئية الحكم بغير ما أنزل الله ثم يغض الطرف ـ رهبة أو رغبة ـ عن بقية جزئيات المسألة ذات العلاقة بالموضوع!
... كما يجب عليه أن لا يقف عند حدود الآيات الثلاث الواردة في سورة المائدة، أوعند أثر ابن عباس " كفر دون كفر " من دون النظر إلى مجموع النصوص الأخرى ذات العلاقة ـ وما أكثرها ـ التي تضفي على الموضوع معانٍ ومسائل أخرى، وأبعاداً هامة من دون الرجوع إلى مجموع هذه النصوص لا يمكن إدراكها ..!
أي أن من يستشرف الحديث أو بحث مسائل الحاكمية والتحاكم، وما يتفرع عنها من أحكام .. لا بد له من أن يلم بجميع النصوص الشرعية ـ وبجميع أقوال علماء الأمة المعتبرين ـ ذات العلاقة بالموضوع ويعملها بعضها مع بعض، ومن دون أن يعارض بعضها مع بعض ..!
... وهذا يحتم عليه كذلك ـ عندما يريد أن يصدر الأحكام بحق حكام هذا العصر ـ أن ينظر إلى مجموع المخالفات الشرعية التي وقعوا فيها من جهة حكمهم بغير ما أنزل الله ..! ...
فهم لم يقتصر انحرافهم على مجرد الحكم بغير ما أنزل الله وحسب .. لكي نقف طويلاً عند تقسيم أهل العلم للمسألة إلى قسمين: كفر أكبر .. وكفر أصغر، ومن ثم يدور الجدال الطويل المعروف والمشاهد على الساحة.
... فهم إضافة لكونهم لم يحكموا بما أنزل الله، فقد وقعوا في التبديل والتغيير لشرع الله، وجعلوا من أنفسهم مشرعين مع الله تعالى، فشرعوا الدساتير والقوانين الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان .. وكذلك وقعوا في كفر التحاكم إلى شرائع الكفر والطغيان ..!
... وهذا كفر مغلظ ومركب بعضه فوق بعض .. لا يمكن صرفه إلى الكفر الأصغر .. أو حمل أثر ابن عباس - رضي الله عنه - عليه .. كما يفعل البعض .. وبخاصة منهم الملوثين بشبه أهل الإرجاء(1)!!
ــــــــــــــــ(1/79)
(1) يقول سليم الهلالي في جوابه على أسئلة الأخوة الجزائريين ـ كما هو مسجل بصوته ـ معللاً عدم كفر طواغيت الأرض في هذا العصر بقوله عن الشيخ الألباني:" الذي نعلمه من شيخنا رحمه الله أنه لم يكفر حاكماً بعينه، وأن ما يُنسب إليه من تكفير حاكم الجزائر غير صحيح، وعلى المدعي الدليل وأن يبين لنا ذلك .. مما نعلم من صحبة ست وعشرين سنة مع هذا الإمام ـ رحمه الله ـ لا نعرف أنه كفر حاكماً بعينه " .. فتأمل!!
...
ـ العمل الخامس:موالاة المشركين ومظاهرتهم على المؤمنين.
... الموالاة تعني: الحب في القلب، والمناصرة بالجوارح، ويدخل فيه التحالف، والطاعة، والركون، والتودد .. وبعضه أظهر من بعض.
... وهي محرمة بين المسلمين والمشركين، لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } النساء:144.
... وقال تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } آل عمران:28.
... وهي واجبة بين المسلمين بعضهم مع بعض، لقوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } التوبة:71.
ولقوله تعالى: { إنما المؤمنون أخوة } الحجرات:10.
ولقوله تعالى: { ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } المائدة:56.
وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه "مسلم. أي لا يجوز له أن يُسلمه إلى ظلم الظالمين، ويتخلى عن نصرته.
وموالاة المشركين نوعان: نوع كفر أكبر يُخرج صاحبه من الملة، ونوع كفر أصغر، أو كفر دون كفر لا يخرج صاحبه من الملة.
الموالاة التي تخرج صاحبها من الملة: وصفتها أن يظاهر المشركين
الكافرين بالسنان واللسان ـ مظاهرة صريحة ـ ضد المسلمين، فيعمل على نصرتهم وعلى تقوية شوكتهم ودولتهم ضد المسلمين الموحدين!(1/80)
فهذا النوع من الموالاة كفر أكبر يُخرج صاحبه من الملة، وإليك الدليل على ذلك:
الدليل الأول: قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } المائدة:51.
فدلت الآية أن من يدخل في موالاتهم هو منهم؛ أي كافر مثلهم، قال القرطبي في التفسير: { فإنه منهم } بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وهو يمنع الميراث للمسلم من المرتد .. وجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم ا- هـ.
ومن جملة نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، واستدل بقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
قال سيد رحمه الله في الظلال: يحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى .. إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين إنما هو ولاء التحالف والتناصر .
وفي قوله تعالى { فإنه منهم } قال: فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف الإسلامي يخلع نفسه من الصف، ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف " الإسلام "وينضم إلى الصف الآخر.
فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى ـ وبعضهم أولياء بعض ـ ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم، الذي يتولى الله ورسوله والذين آمنوا ا- هـ.(1/81)
الدليل الثاني: قال تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا } النساء:97-99.
وقال تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السَّلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } النحل:28-29.
والذي عليه جمهور أهل العلم والتفسير أن هذه الآيات نزلت بسبب قومٍ قد أسلموا إلا أنهم آثروا البقاء مع المشركين في مكة ـ شحاً بالموطن والسكن ـ على الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة، فأكرهوا يوم بدر على الخروج لقتال المسلمين، وكان بعضهم قد قتل مع من قتل من مشركي قريش، فماتوا وهم كفار، لقوله تعالى: { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } وهذا وعيد لا يُطلق إلا بحق الكافرين.
أخرج البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي بالسهم يُرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيُقتل، فأنزل الله: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. } .
وقال القرطبي في التفسير5/349: عن عكرمة قال: كان ناس بمكة أقروا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرهاً إلى بدر، فقُتل بعضهم، فأنزل الله فيهم: { الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. } ا- هـ.
فإن قيل: الإكراه يرفع المؤاخذة عن المكره، فعلام الإكراه هنا لم يرفع عنهم المؤاخذة، ولم يمنع عنهم حكم الكفر ووعيده ..؟!(1/82)
أقول: لأنهم قبل أن يُكرهوا على الخروج لقتال المسلمين .. وعلى الوقوف في صف المشركين وتكثير سوادهم لم يكونوا من المستضعفين المكرهين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ..!
وبالتالي ما حصل لهم من إكراه على الخروج للقتال هم سببه .. وكانوا يستطيعون تفاديه بالهجرة وما فعلوا .. لذلك لم يُعذروا.
وكان ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان، ممن عذر الله - عز وجل - .
ومن جملة مظاهرة المشركين التي تخرج صاحبها من الملة ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مالٍ أو مشحةٍ بوطنٍ أو عيالٍ أو خوف مما يحدث في المال، فإنه في هذه الحال يكون مرتداً ولا تنفعه كراهته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم: { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } .[ مجموعة التوحيد:296 ].
... الدليل الثالث: قال تعالى: { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يُضلل فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يُهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } النساء:88-89.
... أي إن تولوا عن الهجرة إلى المسلمين، وأبوا إلا مظاهرة المشركين وموالاتهم، فخذوهم واقتلوهم .. وإن أظهروا الإسلام، وتكلموا بشهادة التوحيد؛ فإن ما يظهرونه من موالاة ومظاهرة للمشركين يكذب زعمهم بأنهم مسلمون مؤمنون.(1/83)
... وفي سبب نزول الآية ذكر ابن كثير في التفسير عن ابن عباس قوله: أنها نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يُظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يُظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا، أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحد من الفريقين عن شيء، فنزلت: { فما لكم في المنافقين فئتين } ا- هـ.
... فإن قيل: هؤلاء منافقون .. ولا خلاف في كفر المنافق؟!
... أقول: هؤلاء منافقون وفي الدرك الأسفل من النار يوم القيامة .. ولكن بما حُكم عليهم بالكفر في الحياة الدنيا، وحُلت دماؤهم وأموالهم لأجله ؟
... الجواب: حُكم عليهم بالكفر في الدنيا لمظاهرتهم للمشركين على المسلمين .. بدليل أنهم لو تركوا مظاهرة المشركين على المسلمين، وهاجروا إلى المسلمين لتعين على المسلمين موالاتهم على أنهم مسلمون لمجرد ذلك، وإن كانوا في الباطن لا يزالون منافقين ..!
... فدل أن مظاهرة المشركين على المسلمين كفر أكبر مستقل لذاته من وقع فيه وقع في الكفر البواح، وخرج من الملة ولا بد.
... قال سيد في الظلال 2/731: إنهم كفروا على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون ونطقوا بالشهادتين نطقاً يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين ا- هـ.
... الدليل الرابع: قال تعالى: { ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } المائدة:80-81.(1/84)
... أي لو صدقوا في إيمانهم بالله والنبي وما أنزل إليه من الحق لما اتخذوا الكافرين أولياء .. ولما اتخذوهم أولياء دل على كذب ادعائهم ـ بلسانهم ـ أنهم يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ..!
... قال ابن تيمية رحمه الله: فبين سبحانه الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه ملتزم بعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) عن مجموعة التوحيد:259. ...
... وقال في الفتاوى7/17: فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.
... ومثله قوله تعالى: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ، فإنه أخبر في تلك الآية أن متوليهم لا يكون مؤمناً وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ا- هـ.
... الدليل الخامس: قال تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } آل عمران:28.
... قال ابن جرير الطبري في التفسير: { فليس من الله في شيء } يعني بذلك فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ا- هـ.
... الدليل السادس: قال تعالى: { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نُزُلا } الكهف:102.
... وهذا سؤال تقريعي يفيد الاستنكار والتعجب؛ أي أيحسب الكفار أنه يمكنهم أن يتخذوا عباد الله المؤمنين أولياء .. فهذا لا يمكن أن يقع .. ولو وقع لزم خروج من اتخذتموهم أولياء من دائرة عباد الله المؤمنين .. لأن عباد الله المؤمنين ـ بنص كلام الله ـ لا يمكن أن تتخذوهم أولياء!(1/85)
... والقول بإمكانية أن يجمع العبد بين الإيمان وبين اتخاذ الكافرين أولياء .. من لوازمه تكذيب القرآن، ورد هذا النص الصريح الذي يفيد أن الكافر لا
يمكنه أن يتخذ المؤمن ولياً .. ولو استطاع وتمكن من ذلك فهو في حقيقته يتخذ ولياً كافراً مثله .. وليس مؤمناً.
... الدليل السابع: قال تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثلُه كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } الأعراف:175-176.
... وهذه آيات نزلت في رجل من بني إسرائيل زمن موسى - عليه السلام - يُقال له " بلعام بن عوراء " قد آتاه الله تعالى العلم والآيات فانسلخ منها وكفر بسبب أنه نصر الكافرين من قومه بالدعاء لهم على المؤمنين المسلمين الذين كانوا مع موسى - عليه السلام - ..!
... أخرج الطبري في كتابه الجامع عن ابن عباس قال: لما نزل موسى - عليه السلام - يعني بالجبارين ومن معه، أتاه ـ يعني بلعام ـ بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يُهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه ـ من الصلاح والعلم ـ فذلك قوله: { فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } ا- هـ.
... وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، قال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن عوراء من بني إسرائيل في زمن موسى - عليه السلام - ا- هـ.
... قلت: إذا كان هذا الرجل " بلعام " قد كفر وانسلخ من آيات الله بعد(1/86)
أن آتاه الله العلم .. بسبب مناصرته ومظاهرته للكافرين من قومه بالدعاء .. فكيف بمن يناصرهم بالسلاح، ويجعل من بلاد المسلمين قواعد عسكرية للكافرين تنطلق منها طائراتهم وصواريخهم لقتل المسلمين .. وقتل أطفال ونساء المسلمين .. لا شك أنه أولى بالكفر والارتداد عن الدين، وإن زعم بلسانه أنه حامي الحرمين ومن المسلمين!
... وممن يُحمل عليهم كذلك حكم الموالاة الكبرى أولئك الذين يُقسمون الأيمان المغلظة ـ من غير إكراه معتبر ـ على الولاء والطاعة للطاغوت الحاكم، ولنظامه، ولدستوره الكافر .. فهؤلاء مثلهم في الكفر والخروج من الدين .. ليسوا من الله، ودينه، وذمته في شيء ..!
... قال الشيخ سليمان آل الشيخ في رسالته القيمة " أوثق عرى الإيمان ": من يشير بكف المسلمين عنهم ـ أي عن أهل الكفر والشرك ـ إن كان المراد به أن لا يتعرض المسلمون لهم بشيء لا بقتال، ولا نكال وإغلاظ ونحو ذلك، فهو من أعظم أعوانهم، وقد حصلت له موالاتهم مع بعد الديار، وتباعد الأقطار.
... أما قول السائل: هل يكون هذا موالاة نفاق أم يكون كفراً؟
... إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ا- هـ.
... وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في الرسائل المفيدة، 64: وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاة لأصل الإسلام نصرة أعداء الله ومعاونتهم والسعي فيما يظهر به دينهم وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم ا- هـ.
... وقال ابن حزم في المحلى 12/33: وصح أن قول الله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ا- هـ.(1/87)
... وبعد، هذه بعض الأدلة ـ وهي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع ـ التي تفيد كفر من يظاهر المشاركين، أو يناصرهم ويدخل في موالاتهم على المسلمين.
... لننتقل إلى الجزء الثاني من المسألة؛ وهو بيان نوع الموالاة الصغرى أو الموالاة دون موالاة التي لا تخرج صاحبها من الملة .. وذكر الدليل عليها.
... ـ الموالاة الصغرى التي لا تخرج صاحبها من الملة: وصفتها أن يغضب المرء عصبية لقومه أو لمن هم من قبيلته، أو بلده، أو حزبه على وجه الحمية، وليس على وجه الاستحلال أو التقعيد، أو يكون ذلك ديناً يُتبع(1).
ــــــــــــــــ
(1) نقصد بقولنا " على غير وجه الاستحلال، أو التقعيد .." أي أن لا تكون هذه العصبية أو الحمية ناتجة عن تعاليم وعقيدة متبعة تلزمه ـ في الحق والباطل، والسخط والرضى ـ بتقديم ابن قومه أو وطنه، أو عشيرته على الآخرين .. كالتأصيل القومي أو الوطني الذي يُلزم بعقد الولاء والبراء، وتقسيم الحقوق والواجبات على أساس الانتماء إلى القوم أو حدود الوطن .. بغض النظر عن الانتماء إلى العقيدة والدين .. فهذا النوع من الموالاة يدخل في قسم الموالاة الكبرى المكفرة التي تخرج صاحبها من الملة .. فتنبه لذلك.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، في السؤال الثالث من الفتوى رقم ( 6310 ): أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين (
ـــــــــــــــــــ
( إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر ا- هـ.
... قلت: وما أكثر هذه الدول التي تكرس ـ بالقول والفعل، وبقوة القوانين المعمول بها في محاكمهم ـ عقيدة الولاء والبراء، وتقسيم الحقوق والواجبات على أساس الانتماء الوطني، ولحدود الوطن الجغرافي .. بما في ذلك الدولة السعودية!(1/88)
... فالسعودي في الدولة السعودية ـ وإن كان باطنياً زنديقاً علمانياً يُحارب الله ورسوله ـ له كامل الحقوق والموالاة لكونه سعودياً ينتمي للحدود الجغرافية للدولة السعودية .. بينما أتقى أهل الأرض وأعلمهم، وأكثرهم استقامة ليس له أدنى حقوق ذلك الباطني أو العلماني السعودي الآنف الذكر .. لكونه لا ينتمي إلى حدود الوطن السعودي .. ولو أراد أن يعمل أو يزور ـ ولا نقول أن يقيم لأن القانون لا يسمح له أن يدخل السعودية لمجرد الإقامة أو السكنة ـ لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا بعد إجراءات وقوانين يُعمل بها تُشعره أنه عبد مملوك من الدرجة العاشرة !!
... وكم آلمني حديث ذاك الرجل المسلم الصالح ـ ولا نزكيه على الله ـ وهو يقول لي: قد مضى على وجودي في الديار السعودية أكثر من خمسة وعشرين عاماً .. أخدم البلاد والعباد .. بكل جد وإخلاص .. أعطيتهم من عمري أكثر من ربع قرنٍ .. خدمت الوطن أكثر من الوطنيين .. وممن ينتسبون إلى جنسية الوطن .. أولادي كلهم قد ولدوا في السعودية .. لا يعرفون أرضاً ولا سماءً إلا أرض وسماء السعودية .. ومع ذلك .. وبعد كل ذلك .. لا يحق لي أن أعمل إلا باسم سيدي ( الكفيل السعودي! ) .. لا يحق لي أن أتحرك في البلاد إلا بعد تصريح وتوقيع من سيدي ( الكفيل! ) .. لا تجدد لي إقامتي إلا بعد استرضاء سيدي ( الكفيل! ) بالمال الذي يطلبه ويقتطعه مني ظلماً وعدواناً .. لا يحق لي أن أملك عقاراً أو أرضاً .. لا يحق لأولادي أن يدرسوا في الجامعات كغيرهم من السعوديين .. كل هذا وغيره لأنني لست سعودياً .. ولا أحمل جنسية الانتماء إلى حدود الوطن السعودي ..!!!! (
أو يُعطي فلاناً أكثر من فلان .. ويعطف عليه ويحسن إليه أكثر من الآخر .. لكونه من حزبه، أو قبيلته، وبلده ..!
... فهذه الأعمال ونحوها وإن كانت تدخل في الولاء المذموم شرعاً إلا أنه لا يبلغ بصاحبه درجة الكفر والخروج من الملة .. وإليك بعض الأدلة على ذلك:(1/89)
... أخرج البخاري بسنده ـ من قصة حادثة الإفك ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟! ". يقصد بذلك عبد الله بن أبي ـ رأس النفاق ـ وقوله الخبيث في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها !
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - :" والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ". فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من إخواننا الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا ــــــــــــــــــــ
( ولنا أن نسأل: هل هذا من الحكم بما أنزل الله .. والحكم بالشريعة الإسلامية السمحاء .. فإن كان الجواب لا .. ولا بد أن يكون كذلك .. فهل هو من الكفر الأكبر أم من الكفر الأصغر؛ كفر دون كفر كما يقول ابن عباس ..؟!!
... الجواب قد تقدم ذكره في جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .. فأعد قراءته إن شئت!!
مع الانتباه إلى أن قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فيمن يسوي بين الكافر والمسلم ويجعل أحكامهم واحدة فهو كافر .. فكيف بمن يجعل أحكام الكافر أفضل وأعلى من الأحكام التي تجرى على المسلم .. لكون الأول من الوطن .. والآخر ليس من الوطن .. لا شك أنه أولى بالكفر والخروج من الدين!
...
فيه أمرك ؟ فأخذت سعد بن عبادة غيرة.
... قالت عائشة رضي الله عنها: وكان قبل ذلك امرأً صالحاً، ولكن أخذته حمية؛ لأن ابن أبي كان كبير قومه!
... فقال سعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله!
... فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله فإنك منافق تجادل عن المنافقين .. وثار الحيان حتى نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يسكنهم.(1/90)
... فهذه الحمية التي أخذت سعد بن عبادة نحو رأس النفاق ابن أبي لكونه من قبيلته .. هي من الموالاة؛ لكنها من الموالاة الصغرى .. موالاة دون موالاة .. لا ترقى إلى درجة الكفر التي تخرج صاحبها من الملة كالموالاة الكبرى، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم على سعد بن عبادة بالكفر أو الردة .. ولم يحمله على التوبة من ذلك .. فعلمنا بالضرورة أن مثل هذا النوع من الموالاة ليست كفراً، ولا تخرج صاحبها من الملة.
... وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:" كنا غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين !
... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ما بال دعوى الجاهلية ؟" قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال:" دعوها فإنها نتنة ".
... قال لهم - صلى الله عليه وسلم - :" دعوها فإنها نتنة " ولم يقل لهم هذا كفر وردة .. علماً أن الذي فعلوه يدخل في الموالاة الباطلة .. إلا أنه من الموالاة الصغرى لا الكبرى.
... ونحو ذلك ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: قدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب الحجاب.
... قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً !!!(1/91)
... فما انتبهت إلا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت:" يا سودة على الله وعلى رسوله ؟!" فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت(1)!
... فقول سودة رضي الله عنها:" أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً " كبوة وزلة .. وهي من الموالاة إلا أنها تدخل في الموالاة دون موالاة .. بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد عن قوله لها:" يا سودة على الله وعلى رسوله ؟!".
... قال ابن تيمية في الفتاوى 7/523: قد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً ا- هـ.
... وقال 28/201: فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة، ونحوها: مثل إتيان أهل الباطل واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل، كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك .. ا- هـ.
ــــــــــــــ
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/22، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
... تأمل قوله " بحسب ذلك " أي بحسب ولائه ونوعه يكون له من الذم والعقاب، والنفاق .. فليس كل أنواع الولاء سواء من حيث الحكم، ومن حيث ما يستحق صاحبه من الذم والعقاب.
... ـ مسائل هامة مرتبطة بالموالاة والمعاداة.
... ـ المسألة الأولى: حكم الجاسوس.
... اعلم أن من يتجسس على عورات المسلمين، وأحوالهم الخاصة ـ وبخاصة منهم المجاهدين! ـ لينقلها إلى أعدائهم من الكفرة المجرمين؛ سواء كان كفرهم كفراً أصلياً أم كان كفر ردة .. فهو كافر مثلهم، وموالٍ لهم الموالاة الكبرى التي تخرجه من دائرة الإسلام، يُقتل كفراً ولا بد.
... قال تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } البقرة:8-9.(1/92)
... ومن خداعهم للمؤمنين أن يتظاهروا بالإسلام، وأن يقولوا عن أنفسهم بأنهم مؤمنون، ثم هم يتجسسون عليهم لصالح أعدائهم من الطواغيت وغيرهم من الكافرين المجرمين.
... وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً } الحجرات:12.
... والتجسس من حيث دوافعه نوعان: نوع خاص يكون الدافع عليه الفضول وحب الاطلاع على عورات الآخرين، ليتلذذ الجاسوس ـ في مجالسه الخاصة والعامة ـ بالخوض في الحديث عن أعراض الناس وعوراتهم ويتباهى بأنه يملك الدليل والبينة على صدق دعواه وقوله .. لذا جاء عقب النهي عن التجسس النهي عن الغيبة؛ لأن الغيبة نتيجة حتمية للتجسس، فكل من تجسس لا بد له من أن يقع في غيبة الآخرين.
... ونوع عام يكون دافعه نقل المعلومات ورفع التقارير إلى الطواغيت الظالمين وغيرهم من الكفرة والمشركين .. وهذا من الموالاة .. وهو أشد أنواع التجسس جرماً، وهو من الكفر الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة ولا بد.
... والنهي عن التجسس الوارد في الآية يشمل النوعين: الخاص والعام .. والعام أولى بالنهي من الخاص .. فتنبه لذلك.
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، وكونوا إخوانا " البخاري.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من أكل بمسلمٍ أكلةً فإن الله يُطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسِي ثوباً برجل مسلم فإن الله - عز وجل - يكسوه من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام رياءٍ وسمعة فإن الله يقوم مقام رياء وسمعة يوم القيامة "(1).(1/93)
... فيه تحذير وترهيب لأولئك الذين يكتبون التقارير عن المسلمين الموحدين ليرفعوها إلى الطواغيت الظالمين، ويشون عليهم، وعلى أماكنهم، وتحركاتهم .. مقابل مبلغ زهيد ـ يتقوتون به أو يلبسون ـ يرميه الطاغوت إليهم على كل تقرير يكتبونه عن المسلمين .. وما أكثر أصحاب النفوس الضعيفة هؤلاء في بلادنا، الذين باعوا دينهم وآخرتهم بدنيا غيرهم!!
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من استمع إلى حديث قوم وهم يفرون منه، صُبَّ في أذنيه ـــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:179. وانظر صحيح سنن أبي داود:4084.
الآنك"(1). والآنك هو الرصاص الأبيض المذاب .. وهذا فيمن يستمع على وجه الفضول والتطفل .. فكيف بمن يستمع على وجه التجسس لصالح أعداء المسلمين من الكافرين والمشركين ..؟!!
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتّبع اللهُ عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته "(2).
... قلت: من تتبع عورات المسلمين وتجسس عليهم لصالح الطواغيت الكافرين .. هو أولى بالنفاق، وانتفاء الإيمان من قلبه.
... فالتجسس على عورات المسلمين وخصوصياتهم لصالح أعدائهم من المشركين المجرمين لا يمكن أن يمتهنها إلا كل منافق خسيس عريق في النفاق والخداع ..!
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من حمى مؤمناً من منافقٍ بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلماً بشيءٍ يُريد شَينَه به حبسَه الله على جسر جهنم حتى يخرجَ مما قال "(3).
... هذا فيمن يرمي مسلماً بشيء يريد شينه به .. فكيف بمن يرمي مسلماً بشيءٍ يريد به قتله أو سجنه في سجون الطواغيت الظالمين ..؟!
... وعن سلمة بن الأكوع قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه، ثم انسل، فقال - صلى الله عليه وسلم - :" اطلبوه فاقتلوه " قال: فسبقتهم ــــــــــــــــ(1/94)
(1) صحيح الأدب المفرد:883. (2) صحيح سنن أبي داود:4083.
(3) صحيح سنن أبي داود:4086.
...
إليه فقتلته، وأخذت سلبه، فنفلني إياه. متفق عليه.
... وكذلك فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل المرأة التي حملت كتاب حاطب إلى كفار قريش عام الفتح، ومن دون أن تُستتاب.
... كما في الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة، أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين(1).
... من هاتين المرأتين هذه المرأة التي حملت رسالة حاطب إلى كفار قريش، واسمها سارة.
... قال الإمام سحنون: إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يُستتب، وماله لورثته.
... وفي المستخرجة قال ابن القاسم في الجاسوس: يُقتل ولا تُعرف لهذا توبة، هو كالزنديق(2).
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 28/109: ذهب مالك وطائفة من أصحاب أحمد إلى جواز قتل الجاسوس ا- هـ.
... قلت: وقتله يكون على الكفر والارتداد .. وليس على شيء آخر، والله تعالى أعلم.
... ـ شبهة ورد .
... لعل قائلاً يقول: إن حاطب بن أبي بلتعة قد كاتب كفار قريش، وأطلعهم على سر زحف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من جند الإسلام لفتح مكة .. وهذا
ــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن النسائي:3791.
(2) بواسطة كتاب أقضية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لمحمد بن فرَج، ص191. ...
من التجسس والموالاة .. ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكفره، ولم يأمر بقتله .. فكيف نوفق بين ذلك، وبين ما تقدم ذكره ..؟
... أقول: الذي فعله حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - هو من الكفر، لكن حاطباً لم يكفر لاعتبارات وموانع عدة منعت من لحوق الكفر به، سنأتي على بيانها إن شاء الله.(1/95)
... أما أن الذي فعله حاطب هو من الكفر والنفاق الأكبر؛ ذلك لقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيه أمام حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين وغيرهما:" يا رسول الله قد خان اللهَ ورسوله والمؤمنين .. دعني أضرب عنقَ هذا المنافق ـ وفي رواية ـ فإنه قد كفر .. إنه قد نافق .. نكث وظاهر أعداءك عليك"!
... والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعه ولم ينكر عليه أن هذا الذي فعله حاطب يُعد من الموالاة للمشركين، والكفر والنفاق الذي تُقطع عليه الأعناق .. ولكن الذي أنكره على عمر - رضي الله عنه - حمل حكم النفاق والكفر على حاطب .. وذلك لاعتبارات تمنع من لحوق هذا الحكم بحاطب ..!
... أما أن حاطباً لم يكفر، ولم يقع في النفاق فهو للاعتبارات التالية:
... 1- أنه كان متأولاً في فعله .. لم يكن يعلم ـ أو يظن ـ أن هذا الذي فعله يمكن أن يرقى إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام .. أو أنه يضر في إيمانه .. ولم يكن يقصد به الغش والغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك نجده يجيب ـ من فوره ـ لما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السبب الذي حمله على كتابة الرسالة إلى كفار قريش:" يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي .. وما فعلت كفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ـ وفي رواية ـ ما غيرت ولا بدلت .. أما أني لم أفعله غشاً يا رسول الله ولا نفاقاً .. ما كفرتُ ولا ازددتُ للإسلام إلا حباً "!
... فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" قد صدقكم .. لا تقولوا له إلا خيراً .. إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم ..!(1/96)
... قال ابن حجر في الفتح 8/503: وعذر حاطب ما ذكره؛ فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه ا- هـ.
... قلت: والتأويل مانع من موانع لحوق الكفر بالمعين .. فتنبه لذلك.
... 2- علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ عن طريق الوحي ـ بسلامة قصد وباطن حاطب، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم - :" قد صدقكم "، وهذه ليست لأحدٍ بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك نجد عمر ـ وليس له إلا ذلك ـ قد تعامل مع حاطب على اعتبار ظاهره .. وما يدل عليه ظاهره من نكوث، وموالاة، وكفر ونفاق .. فقال عباراته الآنفة الذكر!
... فإن قيل: الأحكام تبنى على الظاهر .. فعلام هنا قد تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع باطن وقصد حاطب ..؟
... أقول:فيما يخص إقامة الحدود .. وإنزال التعزير والعقوبات بالمخالفين لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إلا ما يدل عليه ظاهر الحال الذي يستوجب الحد أو العقوبة .. وإن كان يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن بواطن الأمور وخفاياها هي بخلاف هذا الظاهر، كتعامله مع المنافقين على اعتبار ظاهرهم رغم علمه - صلى الله عليه وسلم - بنفاقهم وكفرهم في الباطن.
... قال ابن تيمية في الصارم 356: فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار .. ا- هـ.
... أما فيما يتعلق بإقالة العثرات التي كان يقع فيها بعض أصحابه - صلى الله عليه وسلم - .. فكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي سلامة الباطن والقصد الذي يطلعه عليه الوحي ما وجد إلى ذلك سبيلاً .. لحبه للعذر وإقالة العثرات؛ وبخاصة إن جاءت هذه العثرات من أصحابه الكرام الذين لهم سابقة بلاء وجهاد في سبيل الله ..!(1/97)
ولأن مراعاة سلامة الباطن في هذا الجانب هو لصالح الإنسان المخطئ بخلاف جانب المؤاخذة والمحاسبة ففيه تقريع وتعذيب للمخالف .. لذا لم يمضه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ببينة ظاهرة تستدعي ذلك.
ودليلنا على ذلك موقفه - صلى الله عليه وسلم - من حاطب .. ونحوه ذلك الرجل من الأنصار الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما في صحيح البخاري ـ:" أراك تحابي ابن عمتك ..!!" وذلك لما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير بأن يسقي أرضه، ثم يرسل الماء إلى أرض جاره الأنصاري ..!
قلت: قول الأنصاري للنبي - صلى الله عليه وسلم - " أراك تحابي ابن عمتك !" هو كفر أكبر .. وطعن بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. والذي حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقالة عثرته علمه - صلى الله عليه وسلم - بسلامة قصده وباطنه، وأن الذي صدر منه هو عبارة عن فلتة وزلة .. وهذه ليست لأحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن العربي في الأحكام 5/267: كل من اتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحدٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ا – هـ.
وهذا الذي قيل في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الأنصاري يُقال أيضاً في موقفه - صلى الله عليه وسلم - من حاطب بن أبي بلتعة .. والله تعالى أعلم.
... فإن قيل: هل لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيل عثرات ترقى إلى درجة الكفر بناءً على سلامة قصد وباطن أصحابها ..؟(1/98)
... أقول: لا .. لانقطاع الوحي .. وهذا الذي يقصده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من قوله:" إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمَّناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يُحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة ".
... لذا نقول: من أظهر لنا الكفر البواح ـ من غير مانعٍ شرعي معتبر ـ أظهرنا له التكفير ولا بد.
... وقوله - رضي الله عنه - :" كانوا يؤخذون بالوحي " يريد في جانب إقالة العثرات .. وليس في جانب تطبيق الحدود وإنزال العقوبات .. فتنبه لذلك.
... 3- ومن علامات صدق حاطب - رضي الله عنه - أنه صدَق النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله .. ولم يواري عليه ما فعل .. مما دل على سلامة باطنه وقصده .. وبراءته من النفاق .. بخلاف المرأة فإنها أنكرت وكذبت لما سئلت عن الكتاب، فقالت:" ما معي من كتاب " فزاد ذلك من جرمها وكفرها ..!
... ولو كان حاطب منافقاً لكذَب الحديث .. لأن من خصال المنافق أنه إذا حدث كذب .. ولكن لما صدق في الحديث .. دل على صدق إيمانه وباطنه وأنه ليس منافقاً .. وكان لذلك أثراً ظاهراً في منجاته وإقالة عثرته، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي:" فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة ".(1/99)
... ومن حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، يقول: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت .. والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذَبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحدٍ، فقال: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنمُ جزاءً بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } .
... بينما أنزل الله في الثلاثة الذين صدَقوا الحديث ـ منهم كعب من مالك ـ قوله: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } إلى قوله تعالى { وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } التوبة:117-119.
... فتأمل كيف أن الصدق أنجاهم، وأقال عثرتهم .. وكيف أن الكذب أردى أولئك الذين كذبوا الأعذار، وأوبق آخرتهم ..!
... وهذا ينبغي أن يكون معتبراً عند الحديث عن حاطب بن أبي بلتعة .. وعن الأسباب التي أقالت عثرته.
... 4- إن مما أعان على إقالة عثرة حاطب كذلك أنه من أهل بدر .. وبدر حسنة عظيمة تذهب السيئات .. وتقيل العثرات .. وتستدعي تحسين الظن بأهلها .. وتوسيع دائرة التأويل لهم لو عثروا أو زلوا ..!
... لذلك نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تذكر له حسنة بدر ـ وما أدراك ما حسنة بدر ـ فقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".(1/100)
... وفي صحيح مسلم:" إني لأرجو أن لا يدخل النار أحد ـ إن شاء الله ـ ممن شهد بدراً والحديبية ".
... وحاطب قد جمع بين الخيرين .. فقد شهد بدراً والحديبية معاً ..!
... نستفيد من ذلك أن المرء كلما كبرت وكثرت حسناته .. وكانت له سابقة بلاء في الله .. كلما ينبغي أن تتوسع بحقه ساحة التأويل وإقالة العثرات .. عند ورود الشبهات، وحصول الكبوات .. والله تعالى أعلم.
... 5- أن فعل الوشاية الذي أقدم عليه حاطب لم يكن فعلاً ملازماً له .. فهو لم يفعل ذلك إلا مرة واحدة في حياته، ولأسباب تقدم ذكرها .. وهذا بخلاف ما عليه الجاسوس فإن التجسس صفة لازمة له على مدار الوقت .. لا هم له إلا كيف يتحصل على المعلومات لكي يرسلها إلى موفديه أو من يتعامل معهم ..!
... فهناك فرق بين من يقع في الخطأ مرة .. وبين من يقع في الخطأ مراراً من حيث دلالته على صفة وحقيقة فاعله.
... لذا من الخطأ الفادح أن يُحمل على حاطب حكم ووصف الجاسوس الآنف الذكر .. والله تعالى أعلم.
... وبعد، لأجل هذه الأسباب مجتمعة أفدنا في أول حديثنا أن فعل حاطب يُعتبر من الكفر، ومن الموالاة الكبرى، إلا أن حاطباً لم يكفر بعينه .. ولا يجوز أن يُحمل عليه حكم الكفر، والله تعالى أعلم.
... كلمة أخيرة: إلى أولئك الذين هان عليهم دينهم، وسهل عليهم التجسس على المسلمين لصالح الطواغيت باسم الدين، متذرعين بفتاوى بعض المضللين المشبوهين ممن ظاهرهم العلم .. مقابل مبلغ زهيد يُعطونه على كل تقرير يكتبونه إلى مخابرات الطواغيت .. لا يحسب هؤلاء أنهم على خير، أو أنهم على شيء .. وليتذكروا أن لهم يوماً سيُسألون فيه عما يفعلون .. وينتصف الله تعالى منهم لعباده المظلومين.
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" من أعان ظالماً بباطل ليدحض بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله - عز وجل - وذمة رسوله "(1).
... فكيف بمن يعين الطواغيت الظالمين على اعتقال المسلمين الموحدين وقتلهم، وانتهاك حرماتهم ..؟!(1/101)
... فكم من تقرير ظالم كتبه مخبر حقير أدى إلى اعتقال عشرات من الشباب المسلم الموحد ـ لعشرات السنين ـ في أقبية وزنازين الطواغيت .. إن لم يكن سبباً في قتلهم وإعدامهم ..!
... وفي صحيح مسلم وغيره:" المؤمن من أمنه المسلمون على أنفسهم وأموالهم .. والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
فالذي لا يأمنه المسلمون على أنفسهم .. ولا يسلمون من شر يده ولسانه .. فهو بنص الحديث ليس من المؤمنين ولا المسلمين.
فاتق الله يا عبد الله .. واحذر أن تكون ممن يتجسسون لصالح الطواغيت الظالمين .. أو يجادل عنهم .. أو يقاتل دونهم .. فتهلك وتخسر دنياك ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة:1020.
وآخرتك.
... ـ المسألة الثانية: فيمن يُكره على مظاهرة الكافرين .
... من أكره على مظاهرة المشركين، وكان ممن لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً للهجرة أو الخروج من سلطانهم .. لا يكون موالياً لهم، وهو معذور بالعجز والإكراه، لقوله تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } النحل:106. وقوله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } آل عمران:28. وقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } البقرة:286. وقوله تعالى: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً } النساء:98.
... أما من كان يستطيع حيلة، ويهتدي سبيلاً، وكان قادراً على الهجرة والخروج من سلطان المشركين .. لكنه لا يفعل ركوناً إلى الدنيا وزينتها، أو شحاً بالوطن والعشيرة والأهل .. ثم بعد ذلك يُكره على الخروج ومظاهرة المشركين على المسلمين فإنه لا يُعذر، وهو منهم، ويلحق به وعيد موالاتهم في الدنيا والآخرة.(1/102)
... واعتذار هذا بالإكراه كاعتذار أولئك بالإكراه الذين كذبهم الله تعالى وأنزل فيهم قوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } النساء:97.
... ولما أسر العباس ـ وكان ممن يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً ـ مع جملة من أسر من المشركين في بدر تعلل بالإكراه، وقال يا رسول الله إني كنت مكرهاً! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله "؛ أي أن ظاهرك يوحي ويدل أنك علينا وأنك غير مكرهاً الإكراه الشرعي المعتبر .. بدليل أنك كنت ممن يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً على الهجرة وتفادي مثل هذا النوع من الإكراه المزعوم .. ثم أن الله تعالى أعلم بسريرتك هل كنت مكرهاً حقاً أم لا ..!
... هذا هو تأويل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة أنه جاء كجواب على تعلل العباس بالإكراه .. والله تعالى أعلم.
... ومما يعيننا على هذا الفهم ما رواه السدي قال: لما أُسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس:" افد نفسك وابن أخيك "، قال يا رسول الله: ألم نصلِّ قبلتك، ونشهد شهادتك، قال:" يا عباس إنكم خاصمتم فخُصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } (1).
... فاستدلال النبي - صلى الله عليه وسلم - على العباس بقوله تعالى: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } دليل أن العباس لم يكن مكرهاً الإكراه المعتبر شرعاً .. وأن تعلله بالإكراه غير مقبول؛ لأن أرض الله واسعة .. وكان ممن يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً للهجرة.
... فإن قيل هذا المكره المعذور بالإكراه .. هل يبرر له الإكراه أن يباشر مهمة قتال المسلمين مع المشركين ..؟(1/103)
... الجواب: الإكراه يبرر له الخروج مع المشركين، وتكثير سوادهم .. ولا يبرر له أن يُشارك معهم القتال، أو أن يوجه سهامه إلى صدور المسلمين؛ ولو على وجه الدفاع عن النفس؛ لأن دمه ليس أعز شرعاً من دم أخيه المسلم، ـــــــــــــــــ
(1) بواسطة الرسائل المفيدة، للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، ص51.
ولأن المسلمين في عبادة وجهاد مشروع، وهو في جهاد باطل غير مشروع.
... ثم إذا كان المسلم في قتال الفتنة ـ قتال المسلمين بعضهم مع بعض ـ مأموراً بأن يعتزل القتال، وأن يتخذ سيفاً من خشب، وأن يكون كخير ابني آدم ليبوء القاتل بالإثم كله . ...
فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمسي كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم "(1).
... يريد - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك } المائدة:28.
... وفي صحيح مسلم:" فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليستعذ ".
... وفي الصحيح كذلك:" إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ".
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إنها ستكون فتنةٌ وفرقة واختلاف، فإذا كان كذلك، فأتِ بسيفك أُحُداً، فاضربه حتى ينقطع، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة، أو منية قاضية "(2).
... وعن أبي ذر يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتال الفتنة فقال: يا رسول الله أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال:" شاركت القوم إذاً، ولكن ادخل
ــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن ابن ماجه: 3200. (2) صحيح سنن ابن ماجه: 3201.(1/104)
بيتك " قلت يا رسول الله فإن دُخل بيتي ؟! قال:" إن خشيت أن يبهرَك السيف، فألقِ طرَفَ ردائك على وجهك، فيبوء بإثمه وإثمك، فيكون من أصحاب النار "(1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب "(2).
قلت: هذا الاعتزال للقتال من باب أولى أن يفعله المسلم عندما يكره على قتال المسلمين مع الكافرين ..!
فإن قتل بسهام المسلمين .. أو بسيوف المشركين على تمرده عن طاعتهم في القتال .. يُبعث على نيته وعلى ما وقر في سريرته وقلبه يوم القيامة، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره، عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" يعوذ عائذ بالبيت، فيُبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم " فقلت يا رسول الله: فكيف بمن كان كارهاً، قال:" يُخسف به معهم، ولكنه يُبعث على نيته ".
وفي رواية عند مسلم كذلك:" إن ناساً من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم " قلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس، قال:" نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/547: ونحن لا نعلم المكره، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرهاً لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم ـــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن ابن ماجه: 3197. (2) صحيح سنن ابن ماجه: 3199.
القيامة، فإذا قُتل لأجل الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من قتل من عسكر المسلمين ا- هـ.
وقال 28/535: ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره .(1/105)
إلى أن قال 28/539: والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يُقاتل؛ بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يُقتل مظلوماً، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام، كما نعي الزكاة والمرتدين ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يُقاتل، وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل؛ فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس ا- هـ.
ـ المسألة الثالثة: صفة موالاة المسلم الفاسق.
فمن تمام الإيمان وكماله أن ينضبط الولاء والبراء بضابط الشرع، فيدور حيث يدور الشرع ويريد وإن خالف هواه، كما في الحديث:" من أحب لله وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله - عز وجل - "(2).
ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 380.
(2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 2539.
... ومن علامات انضباطه بالشرع الاقتصاد في الحب والبغض بحسب خصال الخير والشر التي تستدعي الموالاة والمعاداة.
... كما في الحديث:" أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً
ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما " البخاري.
... والمسلم الفاسق قد جمع في نفسه خيراً وشراً؛ حيث عنده من الخير ما يستدعي موالاته من وجه، وبقدر ما فيه من خير، وعنده من الشر ما يستدعي مجافاته من وجه آخر، وبقدر ما فيه من شر.
... أي لا تجوز موالاته على الإطلاق كموالاتنا للصالحين المجاهدين العاملين؛ لتوفر جانب من الشر عنده، كما لا تجوز مجافاته على الإطلاق كمجافاتنا للمشركين الكافرين؛ لتوفر جانب من الخير عنده.(1/106)
... قال شيخ الإسلام في الفتاوى 28/209: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا؛ كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته .. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ا- هـ.
... ومما يدل على هذا الفقه أن رجلاً شكا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبا موسى الأشعري حين جلده على الشرب، وحلق شعره، وسود وجهه، ونادى في الناس ألا يُجالسوه ولا يواكلوه ـ وهذا إفراط في المعاداة والمجافاة ـ فأعطى عمر الشاكي مائتي درهم، وكتب إلى أبي موسى:" لئن عدت لأسودنَّ وجهك، ولأطوفنَّ بك في الناس !
... ويُروى كذلك أنه تفقد رجلاً يعرفه، فقيل له أنه يتابع الشراب، فكتب إليه عمر:" إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول، لا إله إلا هو، وإليه المصير ". فلم يزل الرجل يرددها حتى أحسنت توبته، وعندما بلغت توبته عمر قال لمن حضر مجلسه:" هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زلَّ زلةً، فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه ".
... قلت: وهذا فقه قلَّ من يتنبه إليه .. وهذا القليل الذي يتنبه إليه قليل منهم من يعمل به في واقع حياته ومعاملاته .. فالناس تجدهم إما إفراط في الموالاة .. وإما إفراط في البغض والمعاداة .. والحق هو الاعتدال والتوسط في هذا وذاك.
... كما في الأثر عن أسلم، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:" لا يكن حبُّك كلَفاً، ولا بغضك تلفاً ". فقلت: كيف ذاك ؟ قال:" إذا أحببت كَلِفْتَ كلَفَ الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف "!(1).
... ـ المسألة الرابعة: فيمن يوالي الكافر جهلاً أو تأويلاً ..؟(1/107)
... قد يوالي المسلم الكافر لعدم علمه بكفره، أو أنه يُقارف الكفر الأكبر .. فمثل هذا لا يجوز أن يُحمل عليه حكم موالاة الكافرين قبل قيام الحجة عليه بالبيان له بأن هذا الذي يواليه كافر، وكفره يأتي من جهة كذا، وكذا .. فإن أصر على موالاته ونصرته بعد قيام الحجة عليه، بالبينة القاطعة يكفر .. ويحمل عليه حينئذٍ قوله تعالى: { فإنه منهم } .
ــــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:993. والكلف: هو الولوع بالشيء مع شغل القلب.
... فقد مر ابن عمر بنصراني فسلم عليه، فردَّ عليه، فأخبر أنه نصراني، فلما علم رجع فقال:" رُدَّ عليَّ سلامي "(1).
... فابن عمر - رضي الله عنه - سلم عليه على أنه مسلم .. حيث لم يكن يعلم أنه نصراني .. وسلامه عليه نوع من الموالاة .. ولكن لما بُين له أنه نصراني تبرأ منه وطلب منه بأن يرد عليه سلامه ..!
... وكذلك ما روي عن عقبة بن عامر الجُهني أنه مرَّ برجل هيئته هيأة مسلم، فسلم فردّ عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: إنه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك وولدك (2).
... شاهدنا أن هذا النوع من الجهل في العادة يقع .. فلا يجوز التسرع بإطلاق الأحكام على العباد إلا بعد التثبت بأن هذا الموالي يوالي ذلك الكافر مع علمه المسبق بكفره، أو بالكفر الذي يخرجه من الملة .. ثم هو بعد ذلك يواليه وينصره!
... وقد يقع المسلم كذلك في موالاة الكافر من جهة التأويل المستساغ، وصفة ذلك: أن يوالي تاركَ الصلاة .. أو تارك جنس العمل .. لاعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الإسلام .. وأن النصوص الشرعية تبقيه في دائرة الإسلام .. فهذا كذلك وإن كان في الحقيقة يوالي الكافر المرتد .. إلا أنه لتأويلاته واعتماده على بعض النصوص المرجوحة .. تُقال عثرته، ويمنع عنه لحوق حكم الموالاة { فإنه منهم } والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــــ(1/108)
(1) صحيح الأدب المفرد:849. (2) صحيح الأدب المفرد:847.
... ونحو ذلك موالاة من يُظهر الكفر من وجه، والإيمان من وجه آخر فيرجح له جانب إيمانه على جانب كفره فيواليه على ذلك، بينما غيره يرجح له جانب كفره على جانب الإيمان عنده فيعاديه على ذلك .. وكلاهما معذوران مادام موقفهما ناتجاً عن اجتهاد وتقوى .. واعتماد الدليل الراجح لكلٍّ منهما ، وليس لأحدهما أن يُعيب على الآخر موقفه إلا على وجه المناصحة والمناظرة الهادفة النافعة.
... كما حصل للتابعين في اختلافهم على كفر الحجاج؛ حيث فريق منهم كان يرى كفره لما رجح لديه من الأدلة التي ألزمته بتكفيره، ومنهم من أمسك عن تكفيره بحكم أن الأدلة لديهم تلزمهم بالقول بإسلامه .. وكلا الفريقين لم يعب أحدهما على الآخر .. ولم يقل الذي كفَّر الحجاج أن الذين لم يكفروه كفار لدخولهم في موالاته أو لعدم تكفيرهم للكافر .. وكذلك الذين لم يكفروه لم يرموا الذين كفروه بالخروج والمروق عن الجماعة أو أنهم تكفيريون .. وسبب ذلك أن كلا الفريقين كان متأولاً في موقفه واعتقاده وعنده من الحجة والأدلة ما يُبرر موقفه وتأويله!
... أخرج ابن أبي شيبة في كتابه الإيمان عن وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم أنه كان إذا ذكر الحجاج قال: { ألا لعنة الله على الظالمين } .
... وكان الشعبي يقول:" أشهد أنه مؤمن بالطاغوت كافر بالله؛ يعني الحجاج "!
... ومع ذلك فإن كثيراً من السلف لم يكن يكفروه، وبخاصة منهم علماء العراق، فقد ثبت عن طاوس أنه كان يقول:" عجباً لإخواننا من أهل العراق يُسمون الحجاج مؤمناً ". وهذه الآثار أخرجها ابن أبي شيبة في كتابه الإيمان،
وهي كلها صحيحة الإسناد ولله الحمد(1).
فتأمل كيف سمى المخالفين لهم في تكفير الحجاج من علماء العراق بأنهم إخوانهم .. فلم يسلب عنهم أخوة الإسلام، ولم يحملهم الخلاف على كفر هذا الطاغية أن يرموا بعضهم البعض بالتفسيق، أو التضليل، أو التكفير .. حاشاهم!(1/109)
... ـ تنبيه: اختلاف السلف على كفر الحجاج لم يكن من قبيل اختلافهم على نواقض الإيمان التي تخرج صاحبها من الإسلام .. وإنما كان اختلافاً على شخصية الحجاج وعلى أفعاله التي تقبل مثل هذا الاختلاف؛ حيث كان يُظهر الجهاد والإسلام من وجه .. ويُظهر الكفر والطغيان من وجه آخر .. فظهر لهذا الفريق من أهل العلم ما لم يظهر للفريق الآخر .. وظهر للآخر ما لم يظهر للفريق الأول .. فحكم كل فريق بما ظهر له، وليس لهم إلا ذلك!
... وهذا يعني أنه لا يجوز الاستدلال باختلاف السلف على كفر الحجاج على اختلاف المسلمين في هذا الزمان على كفر طواغيت معاصرين لا يحتمل حالهم وطغيانهم إلا وجهاً واحداً، وهو الكفر البواح .. ولم يظهر منهم ما يُسوّغ ويبرر الاختلاف عليهم .. ثم نقول بعد ذلك نعذر بعضنا بعضاً كما عذر السلف بعضهم بعضاً في اختلافهم على كفر الحجاج ..؟!!
... أقول: هذا قياس فاسد من وجهين:
... أولهما: أن الطواغيت المعاصرين المختلف عليهم لا يحتمل حالهم إلا الكفر البواح .. بخلاف الحجاج فإن عنده من الإسلام والصفات والأعمال ما يُسوغ القول بإسلامه، ويمنع من تكفيره .. وبالتالي لا يصح قياس طواغيت هذا ـــــــــــــــــ
(1) قال الشيخ ناصر في التخريج، ص32: هذه الآثار الثلاثة كلها صحيحة الإسناد.
العصر عليه!
... فهو لم يتلبس في الكفر البواح الذي لا يحتمل تأويلاً ولا صرفاً ولا اختلافاً كحال طواغيت هذا العصر ..!(1/110)
... ثانياً: أن خلاف السلف كان قائماً على أساس اختلافهم على شخص الحجاج باعتبار ما ظهر منه لكل فريق .. بينما خلاف الخلف من المعاصرين على طواغيت الحكم يكمن ابتداء في اختلافهم على الأصول، وعلى تحديد النواقض التي تخرج صاحبها من الإيمان .. مما حدى بفريق واسع من الناس ـ ذهبوا مذهب أهل التجهم والإرجاء، يحصرون الكفر في تكذيب القلب وجحوده ـ يجادلون عن الطواغيت ويُنافحون عنهم بشغب عنيف .. يبررون كفرهم وطغيانهم، ويقولون بإسلامهم .. ويُزينون حالهم في أعين الناس!
... فالفرق شاسع بين السلف وهؤلاء الخلف .. وبين الحجاج وهؤلاء الطواغيت العملاء المجرمين الجاثمين على صدور العباد والبلاد ..! ...
ـ المسألة الخامسة: هل يدخل الإحسان إلى الكافر من قبيل ترغيبه بالإسلام وتأليف قلبه عليه .. في الموالاة ؟
ليس هذا من ذاك؛ فالإحسان إلى الكافر لغرض تأليف قلبه على الإسلام ليس من الموالاة .. بل هو عمل مشروع يؤجر عليه صاحبه، حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قلوب بعضهم بالعطاء الجزيل ليستميل قلوبهم إلى الإيمان، كما قال بعض هؤلاء الذين نفلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يُعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي (1).
ــــــــــــــــــ
(1) انظر زاد المعاد:3/484.
وقال تعالى في حق الوالدين المشركين: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } لقمان:15. ومن المصاحبة بالمعروف الإحسان والإنفاق عليهما .. والقيام على خدمتهما ونصحهما .
... وقال تعالى: { ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً } الإنسان:8. والآية عامة تشمل عامة المساكين واليتامى والأسرى بما في ذلك مساكين، ويتامى، وأسرى الكافرين .(1/111)
... وفي الحديث عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا تصدقوا إلا على أهل دينكم "، فأنزل الله تعالى: { ليس عليك هداهم } إلى قوله: { وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم } قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" تصدقوا على أهل الأديان "(1).
... وعن عبد الله بن عمرو: أنه ذبح شاةً، فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثُه "(2).
... فالمسلم مطالبٌ بأن يُظهر أخلاق هذا الدين في التعامل مع الآخرين، وبخاصة عندما يريد أن يدعوهم إلى الإسلام .. فلا بد من أن يُظهر لهم من الرفق والحكمة والعدل ما يُحببهم بهذا الدين العظيم، ويرغبهم في الدخول فيه.
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" أدعو الناس، وبشروا ولا تنفروا " مسلم. ومن التبشير إظهار حسن الخلق .. ومن التنفير إظهار سوء الخلق في ـــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، السلسلة الصحيحة:2767.
(2) صحيح سنن أبي داود:4291.
التعامل مع الآخرين، وهو ما نهانا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... وفي الأثر عن محمد بن الحنفية قال: ليس بحكيم من لا يُعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً أو مخرجاً "(1).
... ـ المسألة السادسة: لماذا التأكيد على عقيدة الولاء والبراء في الإسلام ؟
... يرد السؤال على لسان كثير من الناس: لماذا هذا التأكيد على عقد الولاء والبراء في الله .. وعلى أساس الانتماء للعقيدة والدين .. لماذا نحن بني البشر لا نكون جميعاً إخواناً متحابين بغض النظر عن الانتماءات الدينية العقدية أو غيرها .. كما يطرح ذلك المذهب الإنساني العلماني الواسع الانتشار ..؟!
... أقول: رغم سعة انتشار هذا الطرح .. وكثرة الهيئات والجهات المشبوهة التي تنادي به .. إلا أنه طرح خيالي باطل لا وجود له على أرض الواقع، وذلك من أوجه:(1/112)
... أولاً: عقد الولاء والبراء في الله وعلى أساس الإيمان بالله - عز وجل - .. هو الدين الذي شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - .. فليس للمرء ـ إن أراد البقاء في دائرة دين الله الإسلام ـ أن يخرج عن هذه العقيدة .. إلى عقيدة أخرى أياً كانت هذه العقيدة ..!
... فالمسألة من هذا الوجه إسلام أو لا إسلام .. كفر أو إيمان !
... ثانياً: أن المحبوب لذاته الذي يُعقد فيه الولاء والبراء معبود مألوه .. ــــــــــــــــــ
(1) صحيح الأدب المفرد:682.
فمن عقد الولاء والبراء، والمحبة والمعاداة في الله فهو عبد لله .. ومن عقد الولاء والبراء في غير الله - عز وجل - فهو عبد لهذا الغير أياً كان هذا الغير .. وسواء أقر بعبادته له من دون الله أم أنه لم يقر.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 10/267: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحَب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته { ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته، فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة .. ا- هـ.
فهو من هذا الوجه .. توحيد وشرك .. وإن الشرك لظلم عظيم يحط من قدر وقيمة الإنسان الذي خُلق لعبادة الله وحده لينقله إلى حضيض وذل العبودية للمخلوق .. وهذا مما لا يليق ببني البشر الذين يتطلعون دائماً للتحرر من تبعات العبودية للعبيد!(1/113)
ثالثاً: من السنن التي فطر الله تعالى عليها الخلق وجود الحق والباطل، ووجود الخير والشر، وتدافع الحق مع الباطل، والخير مع الشرع؛ حيث لا الباطل يمكن أن يقر أو يتابع الحق ما دام محافظاً على باطله وطغيانه ومتمسكاً به، ولا الحق يمكن له أن يتابع الباطل على باطله إلا إذا تخلى عن صفته كحق .. وهذا لا يمكن أن يكون .. ولو كان لفسدت الحياة، وتعطلت مصالح العباد والبلاد الدينية والدنيوية، كما قال تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً } .الحج:40.
وقال تعالى: { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً } النساء:75.
... وقال تعالى: { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } الإسراء:81. وقال تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } الأنبياء:18. وقال تعالى: { وكذلك يضرب الله الحق والباطل } الرعد:17.
... فالحق والباطل في تدافع وتصارع مستمر .. إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما عليها .. لا يمكن أن نفترض إمكانية تعايشهما جنباً إلى جنب فضلاً عن إمكانية دخول أحدهما في موالاة الآخر!
... رابعاً: هذا الطرح خيالي لا واقع له، وهو بخلاف ما دلت عليه الآيات، والواقع المشاهد.
... أما دلالة الآيات، فلقوله تعالى: { ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } البقرة:217. ولقوله تعالى: { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة } التوبة:8. ولقوله تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } البقرة:120. وغيرها كثير من الآيات التي تدل دلالة قطعية على أن فريق الباطل ـ بكل تشعباته ومذاهبه ـ لا يمكن أن يهدأ بالهم أو أن يحط لهم ترحال القتال والحرب والكيد إلا بعد القضاء التام على الحق وأهله ..!(1/114)
... أما دلالة الواقع المشاهد الذي يصدق ما جاء في القرآن الكريم فحدث عنه ولا حرج .. فمن الماضي القريب قد أمعنوا في قتل المسلمين في البوسنة والهرسك .. واليوم يُمعنون الذبح والقتل والإجرام بحق المسلمين في الشيشان وفلسطين .. وأفغانستان .. وارتيريا .. وكشمير .. والفلبين .. وفي جزر الملوك في أندونوسيا .. وغيرها الكثير الكثير من أمصار المسلمين .. التي يعاني فيها المسلمون من ويلات أحقاد ملل الكفر والنفاق!
... أضف إلى ذلك إلى أنه ما من دولة في العالم إلا وتميز المواطنين المحليين عن غيرهم في الموالاة والمعاداة، وفي الحقوق والواجبات ..!!
... فهذا الواقع وغيره من الشواهد يجعلنا نجزم أن شعار المحبة وعقد الموالاة بين بني البشر على أساس انتمائهم الإنساني بعيداً عن الولاء الديني أو اعتبار التقوى وأيهم أحسن عملا .. هو شعار باطل خيالي لا واقع له في الوجود!
... خامساً: هذا الطرح .. عقد الموالاة على أساس الانتماء الإنساني .. منافٍ للعدل، وهو مفاده أن يتساوى في الولاء والبراء، والحقوق والواجبات أتقى أهل الأرض مع أفجر وأكفر أهل الأرض .. فالذين يُصلحون في الأرض كالذين يُفسدون .. وهذا عين الظلم والجور.
... قال تعالى: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } السجدة:18. وقال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } القلم:35. وقال تعالى: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ص:28.
... سادساً: الولاء والبراء في الإسلام يقسم الشعوب كل الشعوب إلى قسمين: كافر ومؤمن .. صالح وطالح .. بغض النظر عن انتماءاتهم الجنسية أو العرقية أو عن لغاتهم وأوطانهم وألوانهم ..!
... وهذا بخلاف من يعقد الولاء والبراء على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو اللغة أو الوطن .. فإنه يقسم الشعوب إلى مئات بل وآلاف الفرق
المتنافرة المتباغضة المتناحرة فيما بينها..!(1/115)
... قأيهما أجمع للشعوب وأقل تفريقاً لها: عقيدة الإسلام .. أم العقائد والنظريات الأخرى الواسعة الانتشار ..؟!!
... سابعاً: ميزان التفاضل في العقيدة الإسلامية التقوى .. وأيهم أحسن عملا .. بغض النظر عن أي اعتبار آخر .. وهذا بخلاف النظريات الأخرى التي تفاضل بين بني البشر على أساس الانتماء للتراب أو اللون أو الجنس أو اللغة أو غير ذلك من الروابط مما لا يليق ببني البشر ..!!
... ثامناً: إن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام هي الحصن المنيع الذي يحفظ الأمة من أي غزو عسكري أو فكري ثقافي ..!
... وهو الحصن الذي يُشعر الأمة بالتمايز عن الآخرين من المجرمين الكافرين .. فإذا ما انهار وسقط سقطت معه المناعة ضد أي غزو خارجي أياً كانت صورته وأهدافه سواء كانت مادية أم معنوية وفكرية .. وهذا الذي يريده الأعداء من المسلمين أن يغيبوا العقيدة التي تحملهم على التحرر من كل ضروب وأشكال الاستعمار والهيمنة..!
... ما الذي يحمل الأمة على عدم قبول دولة الصهاينة على أرض فلسطين .. وتتعامل معهم وكأنهم سرطان خبيث في جسد الأمة .. ؟!
الجواب: إنها عقيدة الولاء والبراء .. حصن الأمة الأخير .. والذي شذ من الأمة وآثر السخط والغضب وأقر بدولة إسرائيل تأمل حاله .. ستجد أن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام قد غابت عن ساحة اعتقاده وتفكيره وذهنه وحياته.. وذلك الذي حمله على الإقرار بدولة الصهاينة اليهود!
تأمل لو أن الصهاينة اليهود يدخلون بصدق في سلم الإسلام كافة ..
أترى مشكلة بينهم وبين المسلمين في فلسطين وغيرهم من المسلمين في العالم ..؟
الجواب يعرفه الجميع: بأن لا .. لأن الجميع حينئذٍ يكونون معنيين من قوله تعالى: { إنما المؤمنون أخوة } الحجرات:10.
... ما الذي حمل الأمة من قبل على مقاومة المستعمر الكافر بكل أشكاله وضروبه إلى أن اضطرته للخروج من الديار .. إنها عقيدة الولاء والبراء ..!(1/116)
... تأمل الفارق بين الأحياء والأموات ممن يدبون على الأرض .. ستجد الفارق بينهما أن الأحياء منهم لا يزالون متمسكين بحصن عقيدة الولاء والبراء بخلاف الأموات من الأحياء ..!
... لأجل ذلك نلحظ الأعداء كيف يحرصون أشد الحرص على القضاء على عقيدة الولاء والبراء في نفوس أبناء الإسلام .. ليستبدلوها بولاءات جاهلية نتنة ضعيفة المقاومة والتأثير، يسهل عليهم من خلالها تحقيق أهدافهم ومآربهم بغزو البلاد واستحمار العباد ..!
... تاسعاً: ثم هي معاملة بالمثل كما أن القوم يضمرون ويُظهرون لنا العداوة والبغضاء .. كذلك نحن نضمر ونظهر لهم العداوة والبغضاء .
... كما قال تعالى: { وقاتلوهم كافة كما يُقاتلونكم كافة } التوبة:36.
... وقال تعالى في المؤمنين: { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } الشورى:39.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا .
... ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يُضمرون لنا العداوة والبغضاء من أجل باطلهم وكفرهم .. ومن أجل أطماعهم الدنيوية التوسعية الساقطة .. أما نحن فإننا نظهر لهم العداوة من أجلهم ومن أجل أطرهم إلى نور الحق والهداية .. إلى جنة عرضها السماوات والأرض .. فهي عداوة في حقيقتها الخير كل الخير لهم عسى أن تكون سبباً في دخولهم في دين الله تعالى الإسلام.
... كما قال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } الممتحنة:4.
... فهي عداوة ليست من أجل الدنيا .. وليست من أجل تعبيد العبيد للعبيد وإنما من أجل { حتى تؤمنوا بالله وحده } فإن آمنوا بالله وحده انقلبت العداوة إلى سلم، والبغضاء إلى محبة وأخوة ..!
... كما قال تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } التوبة:11.(1/117)
... وفي الحديث الصحيح:" عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل " البخاري. وفي رواية عند أحمد:" قوم يُساقون إلى الجنة مقرنين في السلاسل ".
وهم أسرى الحرب من الأعداء المكبلين بسلاسل الأسر .. ثم يشرح الله صدرهم للإسلام ..!
... فهي سلاسل غليظة وكريهة .. ولكن من أجل أن نقودهم بها إلى الرضوان والجنة ..!
... فعداؤنا لهم عبادة .. وإرادة خير للجميع .. وعداؤهم لنا شرك وكفر وإرادة الشر للجميع ..!
... إلى هنا نكون قد انتهينا ـ بفضل الله ومنته ـ من الجواب على السؤال المتقدم الذكر: لماذا هذا التأكيد على عقيدة الولاء والبراء في الإسلام .. ولماذا لا يكون ولاؤنا معقوداً على أساس انتمائنا لجنس البشر والإنسان ..؟!
... ـ ولاءات جاهلية واسعة الانتشار نحذر منها.
... من المظاهر التي ابتليت بها الأمة ولاءات جاهلية نتنة تعددت أشكالها وصورها، وتفاقم شرها وضررها .. فرقت الأمة في تكتلات وانتماءات ما أنزل الله بها من سلطان .. وإتماماً للبحث والفائدة نتناول بعض هذه الولاءات أو الروابط التي يُعقد فيها الولاء والبراء، التي منها:
... 1- الولاء الحزبي: وصورته أن تُعقد الموالاة والمعاداة على أساس الانتماء إلى الحزب، فمن كان من الحزب أو أنصار الحزب والوه وقربوه، ووصلوه، ومن كان ليس من الحزب وليس من أنصاره عادوه وجافوه بغض النظر عن دينه وأخلاقه وسلوكه ..!
... ومن صوره كذلك مناصرة الحزب وتأييده في الحق والباطل، وعلى الخير والشر .. لكون هذه المواقف صادرة عن الحزب!
... فإذا ما ذُكر الحزب بشيء من النقد وإن كان حقاً سرعان ما تثور ثائرتهم .. ويشتد غضبهم وإنكارهم على من تجرأ فوجه ذلك النقد ..!
... فكل شيء عندهم قابل للنقد والتقييم والتعقيب إلا الحزب ورجالات الحزب ..؟!!(1/118)
... ومن مظاهره كذلك أن ينال كل ما يصدر عن الحزب من تعليمات وتوجيهات القبول التام لكونها صادرة عن الحزب أو الجماعة .. بغض النظر عن صوابها أو خطئها .. أو موافقتها للحق .. ومن دون أن يردها إلى الشرع ويعرف حكم الله فيها!
... ومن مظاهره كذلك تقديم أقوال الحزب وحكمه على قول الله ورسوله .. وهو من أشنع ما يؤخذ على من يقع في الولاء الحزبي المذموم !
ومنه كذلك أن لا يُقبل الحق إلا إذا جاء من خلال قنوات الحزب .. ولو جاء من غير طريق الحزب لا ينال عندهم القبول أو نفس القبول كما لو جاءهم عبر طريق الحزب وقنواته ..!
... ومن علامات ذلك أنك إن جادلت أحدهم في مسألة ما ويكون الحق بجانبك ومع ذلك تراه يماري ويجادل ويقلل من قيمة هذا الحق الذي أنت عليه .. فإذا أخبرته بأن هذا الذي تقول به هو قول الحزب وقول قادة حزبه .. تراه يتراجع عن جداله ومماراته ويقر لك أن هذا هو الحق المبين ..!!
... ولو وقع قادة الحزب في خطأ جلي ظاهر .. تراهم يتأولون لهم خطأهم ويقيلون عثرتهم، ويقللون من شأن خطئهم وكأنه لم يكن .. بينما لو وقع حزب آخر أو شخص آخر بنفس الخطأ بل وأقل منه تراهم لا يرحمونه .. حيث يحملون عليه أسوأ عبارات الطعن والتجريح، والتأثيم ..؟!!
... فهذه الصور كلها من الولاء الحزبي المذموم، ومما قد نهى الله تعالى عنه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 11/92: وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.(1/119)
... وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمر بالجماعة والإئتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان ا- هـ.
... وقال 28/20: من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويُعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين بل هؤلاء من عسكر الشيطان ا- هـ.
... 2- موالاة العالم أو الشيخ لذاته: من صور الموالاة الباطلة السائدة في أمصار المسلمين موالاة الشيخ لذاته .. ولها صور عدة:
منها: أن الناس يحبونه لذاته؛ فيوالون فيه ويُعادون فيه .. يوالون من يواليه ويدخل في طاعته .. ويُعادون من يُعاديه أو يجافيه .. بغض النظر عن اعتبار الدين والخلق .. وأيهم أحسن عملاً ؟!
ومنها: التعصب لأقواله ومذاهبه في الحق والباطل .. فيما أخطأ فيه أو أصاب .. والقتال دونها .. لكونها صادرة عنه .. ومن دون ردها إلى الكتاب والسنة ..!
ومنها: أن أتباعه لا يقبلون في حق شيخهم نقداً .. ولا تعقيباً .. فهم لا يُطيقون أن يروا أحداً يعقب عليه في مسألة أو جزئية ـ ولو كان محقاً ـ ومن يفعل .. فسرعان ما تثور ثائرتهم عليه بالإنكار والزجر، والتوبيخ .. لأن الشيخ في نظرهم فوق أن يُعقب أو يُستدرك عليه في شيء..؟!
ومنها: أنهم يتعاملون مع كلامه وفتاويه بقدسية بالغة .. كأنها أحرف منزلة من السماء .. غير قابلة للنقاش أو الرد ..؟!
فكل يؤخذ منه ويُرد عليه .. عدا شيخهم فإنه يؤخذ منه ولا يُرد عليه .. وهذا إن لم يقولوه بلسان القال فإنهم يقولونه بلسان الحال والعمل .. وهو في كثير من الأحيان أصدق تعبيراً من لسان القال ..!(1/120)
ومنها: تقديم قوله على الكتاب والسنة .. تحت زعم أن الناس لا يفهمون الكتاب والسنة .. وهم دون الشيخ فهماً وعلماً .. وأن الشيخ هو أفهمهم وأعلمهم بالكتاب والسنة .. فهو لم يخالفهما إلا لوجه معتبر عنده يعرفه هو والآخرون لا يعرفونه ..؟!!
ومنها: رد الحق إذا جاء مخالفاً لقوله .. فالقول قوله وإن كان باطلاً معارضاً لصريح الأدلة من الكتاب والسنة!
ومنها: أن الحق لا يُقبل إلا إذا جاء منه أو من طريقه .. ولو جاء من طريق غيره لا ينال عند القوم نفس القبول كما لو جاء عن طريق شيخهم ..؟!
ومنها: حمل أخطائه دائماً على التأويل والمحمل الحسن .. بينما لو وقع غيره بنفس الأخطاء فإنه يُفسق ويُجرّم .. وتقوم عليه الدنيا ولا تقعد!
فهم يرضون ـ أو على الأقل لا يُبالون! ـ أن يُقال أسوأ القول في أي شيخ أو شخص آخر .. فالأمر عليهم هيناً لا يثير حفيظتهم أو غضبهم .. أما أن يُقال شيء من ذلك في شيخهم ـ ولو بالحق ـ فهذا غير ممكن .. ولا يُسمح به !
لحمه مسموم بالسم الأصفر القاتل .. الويل لمن يقترب منه .. ولحوم غيره من أهل العلم والفضل .. مشوية ومبهرة وشهية .. لا حرج من نهشها وأكلها ..!
فالناس إن وصلوا إلى هذا الموصل في التعامل مع شيوخهم أو علمائهم .. فإنه يُحمل عليهم ـ ولا بد ـ ما قاله تعالى في أهل الكتاب من قبل: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } التوبة:31. وذلك عندما اتبعوهم فيما أخطأوا فيه .. فأطاعوهم في تحليلهم لما حرم الله، وتحريمهم لما أحل الله .. وقدموا قولهم على ما أنزل الله تعالى في التوراة والإنجيل .. فكانت تلك عبادتهم واتخاذهم أرباباً من دون الله - عز وجل - !(1/121)
كما جاء ذلك من حديث عدي بن حاتم، وكان قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يُشركون } قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم. قال - صلى الله عليه وسلم - :" أليس يُحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتُحلونه "؟ قال: قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم ".
وكذلك قال أبو البحتري: أما إنهم لم يُصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ـ بمعنى الركوع والسجود والتنسك ـ ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية !
وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت الربوبية في بني إسرائيل ؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم؛ فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم(1).
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/71-72: أما إن كان المتبع عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة، وأما إن قلد شخصاً دون دون نظيره ـــــــــــــــــ
(1) عن الفتاوى لابن تيمية:7/67.
بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية.
... وقال: من علم هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد مع علمه أنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.(1/122)
... وقال 28/19-20: كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد، فيوالي من يواليه، ويُعادي من يُعاديه مطلقاً، وهذا حرام ليس لأحد أن يأمر به أحداً، ولا يجيب عليه أحد بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله.
... ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان.
... وقال 8/217: فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويُطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الأنس والجن شعبة من هذا .. وذلك أن الإنسان يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً } .
... والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم " يال، ياغي " أي صديقي وعدوي، فمن وافقهم كان ولياً وإن كان كافراً، ومن لم يوافقه كان عدواً وإن كان من المتقين، وهذا حال فرعون.
... والواحد من هؤلاء يريد أن يُطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عاد فرعون موسى - عليه السلام - ، وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه بما هو عنده، فإذا كان مطاعاً مسلماً طلب أن يُطاع في أغراضه وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل.(1/123)
... وقال 28/15-17: وليس للمعلمين أن يُحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
... وليس لأحدٍ منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يُعاديه، بل فعل هذا كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً ولياً، ومن خالفهم عدواً باغي .. بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يُطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله.
... وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة
ومشاجرة لم يجز لأحد أن يُعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يُعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره؛ وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق ولقيام بالقسط.
... قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما . فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } .
... ومن مال مع صاحبه ـ سواء كان الحق له أو عليه ـ فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحق على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يُرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء.(1/124)
... وقال رحمه الله 28/227-228: وليس لأحد أن يُعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة، والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ.
... فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان . انتهى كلامه رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.
... ـ تنبيه: ينبغي أن نفرق بين احترام العلماء وتوقيرهم، وإنصافهم وطاعتهم بالمعروف وبما أصابوا به، وبين التعصب لأسمائهم وذواتهم، وأقوالهم .. في الحق والباطل .. وعقد الموالاة والمعاداة فيهم وعليهم ..!
... فالأول واجب قد شرعه الله تعالى لعباده وأمرهم به، كما في الحديث:" ليس من أمتي من لم يُجِل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالِمنا "(1). أي يعرف له حقه من توقير واحترام، وتكريم .. من غير إطراء ولا إسراف!
... والثاني باطل مؤداه إلى الوقوع بالشرك .. قد نهى الشارع عنه وحذر منه أشد التحذير كما تقدم.
... والذي حملنا على هذا التنبيه أن كثيراً من الناس يخلطون بين الأمرين .. بين الموالاة المشروعة .. والموالاة المذمومة .. فيقعون في الغلو والإسراف في الإطراء والموالاة .. ويظنون ذلك من النوع المشروع المباح .. لما للعلماء من فضل وحق على الأمة والعباد .. لذا لزم التنبيه والبيان!
3- الولاء الوطني: لا نعني به حب الأوطان مسقط الرأس، والحنين إليها .. فهذا وارد لا خلاف عليه، قد دلت عليه السنة كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مكة لما أخرجه المشركون منها:" إنك لأحب أرض الله إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك لما خرجت ".
هذا المعنى حق ومشروع وهو غير معني من حديثنا .. وإنما نعني الوجه الآخر للولاء الوطني السائد في الأمصار والمعمول به في جميع الأنظمة والدساتير المعاصرة، وصِفته: أن تُعقد الموالاة والمعاداة .. والحقوق والواجبات بين العباد ـــــــــــــــــ(1/125)
(1) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب:96.
على أساس انتمائهم للحدود الجغرافية للوطن الذي ينتسبون إليه؛ حيث لا فرق بين الكافر والمؤمن .. وبين أهل ملل الكفر والزندقة كلها وأهل ملة الإسلام في الموالاة والمعاداة .. والحقوق والواجبات .. ما دام الجميع ينتمون إلى وطن واحد، وبقعة جغرافية واحدة.
وهذه النظرة للوطنية المعمول بها ـ في جميع أمصار المسلمين ـ تغيب الولاء والبراء على أساس الانتماء للعقيدة أو الدين .. أو أساس التقوى وأيهم أحسن عملاً وخُلقاً .. وتحتم على المسلمين أن يوالوا أفجر وأكفر أهل الأرض .. ويمنحوه من الحقوق والواجبات .. كما يوالون أتقى وأصلح أهل الأرض .. ويمنحونه من الحقوق والواجبات .. ما دام هذا الكافر الفاجر وهذا التقي الصالح يجمعهما وطن واحد .. وحدود قطر واحد!
وهي تحتم كذلك أن من كان يعيش خارج هذه الحدود الجغرافية للقطر أو ينتمي إلى غيره من الأقطار .. ولو كان أتقى أهل الأرض وأصلحهم .. فإنه لا يُعطى أدنى الحقوق والموالاة التي يُعطاها أكفر وأفجر من يعيش ضمن تلك الحدود الجغرافية للقطر أو ينتمي إليه ..!
فالوطن بهذا المفهوم الشائع .. والمعمول به في أكثر الأمصار .. وثن يُعبد من دون الله .. يُعقد فيه الولاء والبراء .. والحب والبغض .. والسلم والحرب .. وقد بلغ ببعض دعاة الوطنية مبلغاً أن ينسبوا الربوبية صراحة لهذه الأوطان .. ويصرفوا إليها صنوفاً عديدة من التنسك والعبادات !!
فانظر مثلاً ماذا يقول أحمد محرم المصري في وطنه مصر:
فإن يسألوا ما حُبَّ مصرَ فإنه
دمي وفؤادي والجوانح والصدرُ
أخافُ وأرجو، وهي جَهدُ مخافتي
ومرمى رجائي، لا خفاءُ ولا نُكرُ
هي العيشُ والموتُ المبغَّضُ والغنى
لأبنائها والفقرُ والأمن والذُعرُ
هي القدرُ الجاري هي السخطُ والرضى
هي الدينُ والدنيا هي الناس والدهرُ
بذلك آمنا، فيا من يلومنا
لنا في الهوى إيماننا ولك الكفرُ !!
... ويقول شوقي كذلك:(1/126)
ويا وطني لقيتُكَ بعد يأسٍ ... كأني لقيتُ بك الشبابا
وكلُّ مسافرٍ سيئوبُ يوماً ... إذا رُزقَ السلامة والإيابا
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني ... عليه أُقابلُ الحتمَ المُجابا
أدير إليك وجهي قبل البيتِ .. إذا فُهتُ الشهادة والمتابا
قلت: هذه القدسية والعبودية للأوطان ـ التي هي شرك أكبر ـ قد انعكست على أخلاق الناس، وعقائدهم، وأفكارهم، وسلوكياتهم .. حتى أننا نجد من المستساغ جداً أن يقول أحدهم عن نفسه: أجاهد وأقاتل في سبيل الوطن .. أموت في سبيل الوطن .. أتبرع بمالي وأبنائي في سبيل الوطن .. أضحي بكل شيء في سبيل الوطن .. الوطن غالي يستحق منا كل غالٍ ونفيس .. فكل شيء في سبيل الوطن يرخص ويهون .. ويقصد من وطنه تلك الحدود الجغرافية للإقليم التي ينتمي إليها .. فإذا كان وطنه هذا بسلام .. فعلى بقية أوطان وأمصار الإسلام الأخرى السلام .. فهي لا تعني له بشيء .. المهم عنده
وطنه .. فوطنه حفظه الله وحماه .. وبقية أوطان المسلمين فلعنة الله عليها !!
وهذه السياسة .. بل قل هذه العقيدة الوثنية في عبادة الأوطان وتمجيدها .. نجدها مكرسة في جميع قوانين ودساتير الأنظمة العربية المعاصرة .. حيث ما من دستور إلا ويُقصر أصحابه على الدفاع عن حدود إقليمهم ووطنهم فقط .. مهما أصاب أمصار المسلمين وأقاليمهم الأخرى من دمار أو هلاك أو اعتداء .. فهذا لا يعنيهم في شيء .. ودستورهم لا يلزمهم بالدفاع عنها .. كما هو حاصل في موقفهم من فلسطين .. والشيشان .. وأفغانستان .. وكشمير .. والفلبين .. وارتيريا .. والسودان .. وغيرها الكثير الكثير من أمصار المسلمين التي تواجه اعتداء صريحاً من قبل أعداء الإسلام!(1/127)
فباسم الوطن والوطنية والولاء الوطني .. مزقوا البلاد إلى أوطان وأوطان .. ورسموا لكل وطن حدوداً وشعاراً .. وألفوا له نشيداً وطنياً يحفظونه الأبناء والأجيال ليتغنوا به دون سواه .. ففرقوا بذلك بين الأخوة المسلمين إلى دويلات ممسوخة ومتفرقة .. وولاءات متضاربة متناحرة متنافرة .. لا تزيد أمة الإسلام إلا ضعفاً واحتقاراً وازدراءً في أعين أعدائها .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
ـ مفهوم الوطنية في الإسلام .
... الوطن في نظر الإسلام هو الوطن الذي يخضع لسلطانه وأحكامه؛ فأيما وطن خضع لسلطان الإسلام وأحكامه وعقيدته ـ يوماً من الأيام ـ فهو وطن الإسلام ..!
هو الوطن الذي يتسع اتساع وانتشار العقيدة الإسلامية في ربوع الأرض والبلاد .. فحيثما يهيمن الإسلام وتكون الكلمة له .. فهو حينئذٍ وطن
للإسلام والمسلمين.
وكل إنسان يخضع لسلطة وأحكام هذا الوطن الإسلامي ـ بما فيهم أهل الذمة ـ فهو المواطن الذي يُعطى حقوق وواجبات المواطنة .. على ضوء التفصيلات المبينة في الفقه الإسلامي ذات العلاقة بالموضوع.
فهذا الوطن بمواصفاته الآنفة الذكر هو وطن كل مسلم في العالم على اختلاف جنسياتهم وألوانهم ولغاتهم .. لهم فيه كامل الحقوق والواجبات!
وهو الوطن الذي يجب الدفاع عنه ـ بكل غالٍ ونفيس ـ وحراسته من أي خطر يتهدده مادياً كان أم معنوياً .. وسواء جاء هذا الخطر من جهة عدو داخلي .. كالحركات المرتدة الخارجة عن تعاليم وأحكام وعقيدة الإسلام .. أو كان عدواً خارجياً استهدف أمن وسلامة ـ ولو شبراً واحداً من ـ أرض الوطن الإسلامي الكبير!
فإن قيل: ما بال أمصار المسلمين في هذا الزمان التي يعلوها سلطان الكفر وأحكامه .. وما موقف المسلمين منها؟!(1/128)
أقول: وإن كانت هذه الديار من حيث التقسيم الفقهي تُعتبر دار حرب لعلو أحكام الكفر عليها .. إلا أنها تُعتبر من جهة أخرى دار إسلام مغتصبة قد سطت عليها قوى الكفر والردة والطغيان .. يجب تحريرها وإعادتها إلى حظيرة الإسلام وسلطانه وأحكامه .. مهما كلف ذلك من تضحيات .. وهو هدف جميع الحركات الجهادية المعاصرة .. وكل مسلم مخلص غيور على دين الله تعالى وحرماته .. وهو من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى .. وهو ما يُسمى في الفقه الإسلامي بجهاد دفع الصائل .. وحكمه واجب على جميع المسلمين كل بحسب استطاعته وموقعه من الدار المعتدى عليها.
هذه هي نظرة الإسلام للوطنية .. وهذا هو الوطن الإسلامي الذي تجب موالاته ونصرته والذود عنه.
فإن قيل: علام هذا الاهتمام الكبير في الذود عن حرمات أوطان المسلمين وأمصارهم ..؟!
أقول: لأن في ضياع حرمات الأوطان ضياع لجميع الحرمات الأخرى؛ كالدين، والعرض، والنفس، والمال وغيرها .. ومن لوازم الحفاظ على هذه الحرمات ـ الذي جاء الدين لحمايتها والحفاظ عليها ـ الحفاظ على حرمات الأوطان وأمنها وسلامتها .. من هنا جاء الإسلام ليؤكد على ضرورة حماية أوطان المسلمين من أي اعتداء خارجي كان أم داخلي .. وكيفما كانت صورته .. وكان أهله وأصحابه!
ـ وطنية مزيفة فاحذروها.
مما يؤخذ على الأنظمة الطاغية الحاكمة في زماننا ـ وفي أمصار المسلمين تحديداً ـ حصرهم لمعنى الوطنية وربطها بمصالح النظام الحاكم .. وتحديداً بالطاغوت الحاكم!
فعلى قدر موالاة المرء وإخلاصه للطاغوت الحاكم أو النظام الحاكم .. على قدر ما يكون إنساناً وطنياً .. ومحباً للوطن .. وعلى قدر ما يُعادي الطاغوت الحاكم أو النظام الذي يمثله .. على قدر ما يكون غير وطني .. وضد الوطن .. ومن أعداء الوطن !
ولربما بسبب ذلك يُحرم من جميع حقوقه المدنية والسياسية التي يُعطاها كل مواطن ينتمي لذلك القطر ..!(1/129)
فهم لأدنى معارضة أو اعتراض على سياستهم أو نظامهم وطغيانهم ..
يسحبون منك الجنسية .. ويحرمونك من أدنى حقوق المواطنة .. وكأن البلاد والعباد ملكاًً لذواتهم وعوائلهم، وأحزابهم(1)..!
ــــــــــــــــ
(1) تأمل مثلاً المعارضة الإسلامية للنظام السوري .. فهي بسبب معارضتها للنظام الحاكم يُحرم جميع أفرادها من جميع حقوقهم المدنية؛ كالحصول على جوازات سفر، أو الأوراق التي تثبت هويتهم وانتماءهم للوطن السوري .. مما يحملهم ذلك على أن يتحملوا مكرهين هم وأبناؤهم معاناة الاستعانة بجنسيات وجوازات، ووثائق مزورة غير صحيحة .. تمكنهم من الحركة والعيش !
والذي يُعطى منهم شيء من ذلك ـ من قبل سفارات النظام المنتشرة في الخارج ـ فإنه يتعرض لعملية ابتزاز وتحقيق تلزمه في نهاية المطاف أن يكون عبداً لما كان قد فر منه أو عارض لأجله ..!!
وما يُقال عن المعارضة السورية وموقف النظام الطائفي الحاكم منها يُقال كذلك عن المعارضة العراقية، والمعارضة الليبية، والمعارضة التونسية، والمعارضة المصرية، والمعارضة الجزائرية .. وغيرها من البلدان والأمصار التي تواجه أنظمة الحكم فيها معارضة من شعوبها المقهورة بالحديد والنار!!
ومن آخر المهازل ـ المضحكة المبكية ـ مما حصل على هذا الصعيد والتي تناولتها جميع وكالات الأنباء: موقف النظام الأردني من الأستاذ إبراهيم غوشة الأردني الجنسية حيث حُبس على أرض المطار ومُنع من دخول بلده وموطنه لعدة أيام .. ولم يُسمح له بالدخول إلا بعد أن أعطى كامل التعهدات والمواثيق بأن لا يمارس أي نشاط سياسي ضد دولة الصهاينة اليهود المغتصبين للوطن الفلسطيني .. من داخل بلده وموطنه الأردن!!(1/130)
وفي المقابل فهم يسمحون للصهاينة اليهود ـ المحتلين للوطن! ـ بالدخول إلى الأردن والتسوح والإفساد فيها كيفما يشاءون .. وبممارسة نشاطهم السياسي والاقتصادي والثقافي وغير ذلك مما يُعينهم على بسط نفوذهم في المنطقة من خلال سفارتهم القائمة في العاصمة عمان ..مع كامل الحراسة والاحترام والإكرام ..!! (
... 4- الولاء القومي: وهو الولاء الذي ينعقد على أساس الانتماء القومي .. والروابط القومية التي تقوم على عناصر وأسس وهي:" الجنس، والتاريخ، واللغة، والمصالح المشتركة، والأرض " كالقومية العربية، والقومية الفرنسية، والقومية التركية .. ونحوها من القوميات المنتشرة في العالم.
... وملاحظ أن هذا النوع من الولاء ـ كغيره من الروابط والولاءات التي تقدم الحديث عنها ـ يغيب عنصر الدين والعقيدة من جملة اعتباراته .. حيث لا فرق في نظر القومية والقوميين بين اليهودي، والمجوسي، والباطنيين الغلاة وغيرهم من ملل الكفر والشرك والإلحاد وبين المسلم الموحد ما دام كلاهما ينتميان إلى قومية واحدة ..!
... بل الكافر المشرك الملحد من أبناء القومية له من الحقوق والموالاة ما ليس لأتقى أهل الأرض من المسلمين الذي لا ينتمي لنفس هذه القومية ..!
... فمثلاً العربي المشرك الملحد ـ من أي ملة كان ـ الذي ينتمي للقومية العربية له من الموالاة والحقوق ما ليس للمسلم الموحد الباكستاني الذي لا ينتمي إلى القومية العربية ..؟!!
... فالقومية ـ بهذا المفهوم الشائع والمعمول به ـ هي كفر؛ لأنها توجب ما حرم الله تعالى وتحرم ما أوجب .. وهي من جملة الروابط الجاهلية التي حذر الإسلام منها أشد التحذير، فقال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ ـــــــــــــــــــ(1/131)
( تأملوا .. فهذه هي الوطنية التي يريدونها ويربون الشعوب عليها .. فهي ليست فقط الوطنية التي تحمي مصالح الطواغيت الحاكمين .. وتمجدهم وتبجلهم في الباطل .. بل هي أيضاً الوطنية التي تحمي مصالح الصهاينة المغتصبين على أرض فلسطين وفي المنطقة كلها..!!
وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات:13. قال ابن عباس: لا أرى أحداً يعمل بهذه الآية: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى .. } فيقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك .. فليس أحد أكرم من أحدٍ إلا بتقوى الله.
... وقال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } القلم:35.
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الله قد أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهَنِ أبيه ولا تكنوا "(2).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من ادعى دعوى الجاهلية فإنه جثا جهنم ـ أي من جماعات جهنم ـ فقال رجل: يا رسول الله: وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله التي سماكم: المسلمين، المؤمنين، عباد الله "(3).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ليس منا من دعا بدعوى الجاهلية "(4). وكل دعوى غير ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وغيره، صحيح الجامع:1787.
(2) أخرجه أحمد، والترمذي، صحيح الجامع:567. قال ابن الأثير في النهاية: التعزي الانتماء والانتساب إلى القوم. فأعضوا بهن أبيه: أي قولوا عض أير أبيك !
(3) صحيح الترغيب والترهيب:553. (4) صحيح سنن النسائي:1756.(1/132)
دعوى الإسلام فهي دعوى جاهلية .. وكل آصرة أو رابطة تقوم على غير آصرة العقيدة والدين .. آصرة التقوى والعمل الصالح .. فهي آصرة جاهلية نتنة يجب نبذها والترفع عنها.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن أوليائي منكم المتقون، مَن كانوا وحيث كانوا "(1). أي من أي جنسية أو قومية كانوا .. ومن أي مكانٍ كانوا .. وفي أي أرضٍ عاشوا .. فأحبهم لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين هم المتقون الصالحون .. هذا هو ميزان الحق الذي لا يُحابي أحداً، وما سواه فهو الباطل.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربي، ولا أبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب "(2).
... نفي جاء بعده استثناء يُفيد قمة الحصر والقصر .. لا فضل لشيء على شيء .. ولا تفاضل بين الأشياء .. إلا .. بالتقوى!
... فالحديث يلغي جميع صور التفضل القومية .. وغيرها من الصور والموازين الجاهلية السائدة بين بني البشر .. ليحصرها في صورة واحدة؛ ألا وهي صورة التقوى والعمل الصالح .. وأيكم أحسن عملاً.
... وبعد، الروابط الباطلة السائدة التي تنعقد بها وعليها الموالاة والمعاداة .. والحقوق والواجبات .. هي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع .. اكتفينا بالإشارة إلى بعضها مما قد عم به البلاء .. واتسعت دائرته وفتنته في الأمصار .. ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "، وصححه الشيخ ناصر في التخريج.
(2) أخرجه أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح.
رجاء اجتنابها والحذر والتحذير منها .. ولكي يتمكن القارئ من القياس عليها مما لم نتعرض لذكره وبيانه .. والله تعالى وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ـ كلمات مختارة لسيد قطب في الولاء والبراء.(1/133)
... قبل أن ننتقل إلى بيان العمل السادس من الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة .. آثرنا أن نختم حديثنا عن الولاء والبراء .. بكلمات مختارة لسيد قطب ـ رحمه الله ـ من كتابه القيم الظلال، حيث يقول: إنه لا يجتمع في قلبٍ واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويُعرضون .. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله
في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } .
... هكذا، ليس من الله في شيء لا في صلة ولا نسبة ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية، فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماماً ..
... وأول خطوة في الطريق هي تميذ الداعية وشعوره بالإنعزال التام عن الجاهلية تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.
... لا ترقيع ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام أو ادعت هذا العنوان.
... وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس، شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء، لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريق، لا يملك أن يُسايرهم خطوة واحدة في طريقهم، ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير، وإلا فهي البراءة الكاملة والمفاصلة التامة والحسم الصريح .. { لكم دينكم ولي دين } .(1/134)
... إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم .. وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين إذا كانت المعركة مع المسلمين ..
... فليس هناك جبهة تديّن يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد، هناك دين هو الإسلام، وهناك لا دين؛ هو غير الإسلام، ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها، أو إلحاد ينكر الأديان، تختلف فيما بينها كلها .. ولكنها تختلف كلها مع الإسلام، ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء ..
... إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعاً على أساس العقيدة؛ فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة، ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم؛ إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة، ولا حتى أمام الإلحاد مثلاً ـ كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن ـ وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه ..؟!
... فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلاً، ولا
يكونون في ذواتهم شيئاً ولا يحققون في واقع الأرض أمراً ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم ..
... لقد نزل القرآن ليبث الوعد اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته ولينشئ تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها، المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية، فهذه صفة المسلم دائماً، ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا إلى الله ورسوله والذين آمنوا .. الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل.(1/135)
... فهذا مفرق الطريق وما يمكن أن يتميع حس المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام، وبينه وبين كل من لا يرفع راية الإسلام، ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف أول ما تستهدف إقامة نظام واقعي في الأرض فريد، يختلف عن كل الأنظمة الأخرى ..
... وتنقسم البشرية إلى حزبين اثنين: حزب الله وحزب الشيطان. وإلى رايتين اثنتين: راية الحق وراية الباطل. فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل، وهما صنفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان، ولا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن ولا جنس ولا عصبية ولا قومية إنما هي العقيدة والعقيدة وحدها ..
... وينهى الله - عز وجل - المؤمن أن يجعل ناساً هم دونه في الحقيقة والمنهج موضع ثقة واستشارة، ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة ولكننا لا نفيق، ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر، ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم .. ومع ذلك نعود فنفتح لهم صدورنا، ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق .. وتبلغ بنا المجاملة أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا، فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ..
... ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله ومن هنا نُذل ونضعف ونستخذى، ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، وهاهو ذا كتاب الله يعلمنا كما علم الجماعة المسلمة الأولى، كي ننفي كيدهم وندفع أذاهم، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر } .(1/136)
... إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب: { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } .. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً، ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله بقيام دار إسلام تعتصم بها ..
... فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ولم تتميز هذا التميز، حق عليها وعيد الله هذا : وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبين نفسها، ولا يتبينها الناس ممن حولها، وعندئذٍ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد دون أن يدركها فتح الله الموعود.
... إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات
ومشقات، غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزها، ونتيجة اندفاعها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها ..!
... ليس للّون والجنس، واللغة والوطن، وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله، إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويُعرف به فضل الناس: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والكريم حقاً هو الكريم عند الله، وهو يزنكم عن علمٍ وعن خبرة بالقيم والموازين: { إن الله عليم خبير } .
... وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.(1/137)
... وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد، كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله، وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا شتى الأزياء، وتتسمى بشتى الأسماء، وكلها جاهلية عارية عن الإسلام ا- هـ.
* * *
... ـ العمل السادس: الاستهزاء بالدين أو بشيء من أحكامه.
... من الأعمال التي تُخرج صاحبها من الملة الاستهزاء بدين الله تعالى أو بشيء من أحكامه وفرائضه، وشرائعه.
... فالاستهزاء بالدين جَدّاً أو هزلاً كفر وردة .. لا يصدر ممن يرجو لله تعالى الوقار والإجلال.
... قال تعالى: { ولئن سألتهم ليقولُنَّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفةٍ منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } التوبة:64-65.
... فهؤلاء كفروا بعد أن كانوا مؤمنين بسبب استهزائهم بالدين على وجه الخوض واللعب .. وليس على وجه الاعتقاد أو الاستحلال!
... قال ابن عمر - رضي الله عنه - : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ـ أي أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ـ أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق، لأخبرنًّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن.
... قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب! ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .(1/138)
... وفي رواية عن قتادة قالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : احبسوا عليَّ هؤلاء الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا، قلتم كذا .. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها ما تسمعون.
... وفي قوله تعالى: { إن نعف عن طائفة نعذب طائفة } ذُكر أنه عُني بالطائفة في هذا الموضع رجل واحد.
... عن ابن اسحاق قال: كان الذي عني فيما بلغني مخشن بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع.
... وعن معمر قال: قال بعضهم: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث، فيسير مجانباً لهم، فنزلت الآية فسمي طائفة وهو واحد(1).
... قال القرطبي في التفسير: قيل كانوا ثلاثة نفر؛ هزئ اثنان وضحك واحد؛ فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. قال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه " مخاشن بن حُميِّر " .. وقيل إنه كان مسلماً إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم. وكان يقول: اللهم إني أسمع آيةً أنا أُعنى بها، تقشعر الجلود وتجب منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسَّلت أنا كفنت أنا دفنت. فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وجد غيره ا- هـ.
... قلت: فهذا نص صريح في كفر من يستهزئ بالله وآياته ورسوله ولو كان استهزاؤه على وجه الخوض والهزل واللعب، فالهزل بالكفر كفر لا خلاف عليه بين الأمة، قال تعالى: { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } الطارق:13.
... قال ابن القيم في الأعلام 3/135-137: وأما الهازل فهو الذي ــــــــــــــــ
(1) انظر جامع البيان للطبري:6/172-174.
يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضه الجاد فاعل من الجِد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل.(1/139)
... وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز، فيكون جد القول وهزله سواء بخلاف جانب العباد ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/272: قوله تعالى: { قد كفرتم بعد إيمانكم } ، فقد أمره أن يقول لهم قد كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول عن مثل هذه الآيات أنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يُقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم مازالوا منافقين ..ا- هـ.
... وقال في الصارم: وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر .. فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً، سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول ا- هـ.
... وفي قوله تعالى: { إنما كنا نخوض ونلعب } قال الكياالهراسي في كتابه أحكام القرآن 2/214: فيه دلالة على أن اللاعب والخائض سواء في إظهار الكفر على غير وجه الإكراه لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك. ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ا- هـ.
... وقال ابن العربي في كتابه الأحكام 2/976: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدّاً أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل ا- هـ.(1/140)
... وقال أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن 4/348: فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه، لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوا لعباً فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك. وروي عن الحسن وقتادة أنهم قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أي وجه قالوه من جد أو هزل، فدل على استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر، ودل أيضاً على أن الاستهزاء بآيات الله وبشيء من شرائع دينه كفر فاعله ا- هـ.
... ومن جملة نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في كتبه الاستهزاء بالدين، فقال: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ا- هـ.
... فإن قيل: أين يكمن استهزاء القوم بالله وآياته ورسوله .. وهم لم يستهزئوا إلا بالصحابة، كما في قولهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء ..؟!
... أقول: قد ثبت ـ بالكتاب والسنة ـ ثناء الله ورسوله على الصحابة خيراً .. وبالتالي فإن من يطعن أو يستهزئ بهم فإنما في حقيقته يطعن ويستهزئ بالله وآياته التي زكى بها الصحابة، وأثنى فيها عليهم خيراً .. وكذلك فهو يطعن ويستهزئ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي زكى أصحابه، وأثنى عليهم خيراً .. فيكون الطعن بهم .. طعناً به وبتزكيته وثنائه، لذلك قال تعالى في المستهزئين: { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
... فالطاعن بالصحابة في حقيقته يذم من أثنى الله تعالى عليه خيرا .. ويقبح ما حسنه الله تعالى .. ويطعن بآياته وبرسوله.(1/141)
... فالآية من هذا الوجه فيها دليل قوي على كفر من يشتم أو يستهزئ بالصحابة رضي الله تعالى عنهم.
... قال ابن تيمية في الصارم، ص590: من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يُحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.
... وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبغون بضعة عشر نفراً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عليهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وخيرها هو القرن الأول، وكان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمون أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.
... ولهذا تجد عامة من ظهر عليهم شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه
زنديق ا- هـ.
... وقال القاضي عياض في الشفا 2/610: وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، وتكفير الصحابة، فهؤلاء كفروا من وجوه؛ لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه
كفرة على زعمهم ا- هـ.
... قلت: وكذلك الذي يشتمهم شتماً عاماً، وبصيغ عامة .. من دون أن يستثني أحداً منهم فإنه يكفر على أي وجه كان شتمه وكان الدافع إليه؛ إذ لا يصدر هذا النوع من الشتم إلا من كان زنديقاً منافقاً ..!(1/142)
... ومما يُستدل بالآية الآنفة الذكر: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } التوبة:65-66. أن الذي يطعن بالدين أو يستهزئ بشيء من أحكامه وشعائره فإنه يكفر وإن كان لا يقصد الكفر من طعنه أو استهزائه إذ لا أحد أو القليل من كفرة أهل الأرض من يقصد الكفر من كفره .. وأكثرهم يمارسون الكفر وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، كما قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } الكهف:103-104.
... قال ابن جرير في التفسير: قوله { وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً } يقول: وهم يظنون أنهم يفعلون ذلك لله مطيعون، وفيما ندب من عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدل الدلائل على خطأ من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته .. ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الصارم، ص177: وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفَرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً؛ إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله ا- هـ.
... وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها
بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " متفق عليه.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم " البخاري.(1/143)
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه "(2).
... فهو ليس فقط لا يقصد الكفر .. بل يُطلق كلمته من دون أن يتبين معناها وما يمكن أن تؤدي إليه .. بل يُطلقها ولا يرى بها بأساً .. ولا يُلقي لها بالاًً .. لا يظن أنها يمكن أن تبلغ به ما بلغت من سخط الله وغضبه .. ومع ذلك يهوي بها في جهنم!
... وفيما تقدم رد على أولئك المقصديين من أهل الإرجاء الذي نشروا شبهاتهم على الناس، فاشترطوا للتكفير ـ من غير سلطان من الكتاب أو السنة ـ قصد الكفر .. إذ لا يكفر أحد عندهم إلا بعد التثبت من أنه يقصد الكفر ـــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي وغيره، صحيح سنن الترمذي:1884.
(2) رواه مالك في الموطأ، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
من كفره .. وهذا من أبطل الباطل الذي يُصادم نصوص الكتاب والسنة، وقد تقدم ذكر بعضها!
... فإن قيل: كيف نفسر قول ذلك الرجل كما جاء في الصحيح:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ..".
... أقول: ذلك الرجل الذي قال مقولته تلك فأخطأ من شدة الفرح كما في عبارته المذكورة أعلاه .. لم يكن يقصد قول الكفر .. ولو قصد قول الكفر لكفر وإن زعم أنه قاله على وجه الخوض واللعب من غير قصدٍ للكفر.
... فهناك فرق بين عدم قصد قول الكفر .. وبين عدم قصد الكفر من قول الكفر .. وقلّ من ينتبه للفارق بينهما .. فالأول هو الذي دلت نصوص الشريعة على عذره .. بخلاف الآخر فإنه يكفر .. ولا يُعذر إلا على أصول جهم بن صفوان الضال!
... فأهل السنة يشترطون للتكفير أن يكون قاصداً للقول أو الفعل .. وأهل التجهم والإرجاء يشترطون أن يكون قاصداً للكفر من ذلك القول أو الفعل .. والفرق بينهما بيّن وشاسع!
... وعليه فإننا نقول: كل من قصد أن يقول قولاً كفرياً، أو يفعل فعلاً كفرياً فإنه يكفر وإن زعم أنه لا يقصد الكفر من ذلك القول أو الفعل!(1/144)
... فإن قيل: متى يكون المرء قاصداً للقول أو الفعل المكفر .. وكيف نميز القاصد من غير القاصد ..؟!
... أقول: كل من قال قولاً أو فعل فعلاً من غير إكراه معتبر .. فهو يقصد هذا القول أو الفعل .. ويتحمل جميع تبعاته .. وهو ممن تعمد به قلبه .. مهما زعم بلسانه خلاف ذلك.
... وكذلك الخطأ الذي يحصل للمدهوش كسبق لسان، فيقدم ما ينبغي تأخيره، ويؤخر ما ينبغي تقديمه من الكلام .. كما حصل لذلك الرجل الذي ورد ذكره في الحديث .. فأخطأ من شدة الفرح .. فهذا النوع من الخطأ قرينة أو علامة على انتفاء القصد.
... وكذلك الذي يقع بالخطأ جهلاً كالذي يدوس على شيء يظنه متاعاً أو أي شيء .. ثم يتبين له بعد ذلك أن هذا الشيء هو قرآن كريم ..!
... أو الطالب المتعلم الذي يتعلم تلاوة القرآن الكريم فيمر على آية يكون فيها لفظ الجلالة " الله " مرفوعاً .. فيقرأه خطأ منصوباً .. أو يزيد كلمة أو ينقص خطأ .. فهذا الخطأ ونحوه هو الذي نحكم على صاحبه بأنه معذور بانتفاء قصد الوقوع في الخطأ .. أو بانتفاء قصد القول أو الفعل الخاطئ .. وعلى هؤلاء يُحمل قوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } الأحزاب:5.
... وفي الغالب فإن قرائن الحال تساعد كثيراً على معرفة المعذور من غيره بانتفاء قصد الوقوع في الخطأ خطأ .. والله تعالى أعلم.
... ـ العمل السابع: مجالسة المستهزئين من غير إنكار ولا قيام.
... الجلوس في مجالس الاستهزاء بالدين عمل مستقل غير الاستهزاء .. يمكن وقوعه مجرداً عن المشاركة في الاستهزاء .. لذا كان لا بد من إفراده كعمل مستقل من جملة الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة.
... فأقول: قد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على أن من جلس في مجالس الاستهزاء بالدين .. من غير إنكار ولا قيام .. فهو كافر وإن لم يُشارك المستهزئين استهزاءهم بالدين.(1/145)
... قال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } النساء:140.
... فقوله تعالى: { إنكم إذاً مثلهم } ؛ أي كفار مثلهم .. لأنكم جلستم معهم من غير إنكار ولا قيام، ولا إكراه .. فكان جلوسكم علامة صريحة على رضاكم بكفرهم واستهزائهم .. والرضى بالكفر كفر بلا خلاف.
... قال ابن جرير الطبري في التفسير: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها فأنتم إذاً مثلهم في ركوبهم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه ا- هـ.
... وقال ابن كثير في التفسير: أي إنكم إن ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم الجلوس معهم في المكان الذي يُكفر فيه بآيات الله ويُستهزأ ويُنتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: { إنكم إذاً مثلهم } ا- هـ.
... وقال البغوي في تفسيره: { إنكم إذاً مثلهم } أي إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم ا- هـ.
... وقال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إن معنى الآية على ظاهرها وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم، حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر والرضى بالكفر كفر.
... وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه لأن الحكم على الظاهر، وهو قد أظهر الكفر فيكون كافراً(1) ا- هـ.(1/146)
... وقال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } المائدة:78-79.
... جاء في تفسير هذه الآية: أن بني إسرائيل لما وقعت في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى ابن مريم.
... فهؤلاء أنكروا على قومهم .. ولم يسكتوا على باطلهم .. فما انتهوا .. فما منعهم ذلك من مجالستهم ومؤاكلتهم .. فلعنوا بسبب ذلك .. وعّد جلوسهم معهم نقيض لما كانوا قد نهوا عنه!
... فإذا كان هذا حال من يجالسهم بعد أن ينكر عليهم وينهاهم فكيف بمن يجالسهم ويؤاكلهم، ويُسامرهم من غير إنكار .. لا شك أنه أولى باللعن من علماء بني إسرائيل!
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة ــــــــــــــــ
(1) مجموعة التوحيد:ص48.
قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ويأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " مسلم.
... ليس وراء إنكار القلب مثقال حبة خردل من إيمان لأنه ليس وراء إنكار القلب إلا الرضى .. والرضى بالكفر كفر.(1/147)
... وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيأتي السهم فيُرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء:97.
... وسبب أنهم لم يُعذروا بالاستضعاف ـ كما ذكرنا من قبل ـ أنهم كانوا قادرين على التحول من دار المشركين إلى دار المسلمين في المدينة فآثروا البقاء في دار المشركين والجلوس معهم، فأكرهوا بعد ذلك على الخروج للقتال .. فلم يُعذروا بالإكراه والاستضعاف لأنهم هم كانوا سببه.
... وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً:" من كثر سواد قومٍ فهو منهم، ومن رضي عمل قومٍ كان شريك من عمل به ".
... قال ابن حجر في الفتح 13/38: فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعاصي باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلاً أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يُعذر ا- هـ.
... ـ مسألة: فإن قيل كيف يمكن أن نحكم على المرء بأنه راضٍ بالكفر من مجرد جلوسه في مجالس الاستهزاء بالدين .. والرضى أمر قلبي باطني لا سبيل لنا إليه ..؟
... أقول: سبيلنا لمعرفة رضاه بالكفر يكون من خلال ظاهره؛ فأيما امرئٍ يجلس في مجالس الكفر والاستهزاء من غير إنكار، ولا قيام، ولا إكراه .. فهو راضٍ بالكفر الدائر في المجلس وإن زعم بلسانه خلاف ذلك، إذ واقع حاله الدال على كفره أصدق أنباء من زعم لسانه.
... ثم نقول له: إذا كنت غير راضٍ بالمنكر فما الذي حملك على الجلوس من غير إنكار ..؟!
... فإن قلت: الإكراه .. فأنت غير مكره!
... وإن قلت: العجز والضعف .. فأنت قادر غير عاجز عن القيام والخروج ..!(1/148)
... لم يبق أمامه سوى الإقرار بأنه كان راضٍ بما يدور في المجلس من منكر، كما في السيرة عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه لما وصل إلى العرض في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدوا قدّم مائتي فارس، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه. فأخذوا " مُجاعة " في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد، قال له: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كذاباً ـ يريد مسيلمة الكذاب ـ قد خرج فينا فإن الله يقول: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
... قال خالد: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس؛ وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه، وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري،
إقرار له ورضاء بما جاء به ..!!
... فهلاّ أبيت عذراً، وتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتكلم أليشكري .. فإن قلت: أخاف قومي، فهلاّ عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ..؟!!
... قال مُجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ..؟!
... فقال: قد عفوت عن دمك ولكن في نفسي حرج من تركك(1) ..!
... تأمل كيف اعتبره خالد - رضي الله عنه - لمجرد إقامته في سلطان مسيلمة الكذاب ـ وليس في مجلسه أو بيته ـ من غير إنكار ولا خروج، ولا إكراه أو خوف معتبر .. علامة على رضاه بأمر هذا الكذاب .. وأنه قد غير وبدّل .. ولولا صدق لهجة مجاعة وإقراره بخطئه .. الذي حمل خالد على أن يعفو عن دمه وفي نفسه حرج من ذلك .. لكان مجاعة في عداد الذين قتلوا على الردة ممن قُتلوا مع مسيلمة الكذاب .. ولكن الله تعالى قد سلّم.
... مسألة ثانية: فإن قيل هل يلزم من ذلك أن كل من جلس في مجلس معصية من غير إنكار ولا قيام، ولا إكراه أن يكون كافراً ..؟!(1/149)
... الجواب: لا يلزم ذلك .. وإنما يلزمه ما يلزم المجلس من حكم بحسب نوعية المعاصي التي تمارس فيه، فإن كانت دون الكفر لا يكفر وإنما يناله وزر المعاصي التي هي دون الكفر.
... وإن كانت ترقى إلى درجت الكفر الأكبر يكفر، ويناله وزر الكفر الذي يمارس في المجلس .. وإن لم يُشارك فيه.
ـــــــــــــــ
(1) عن مجموعة التوحيد: ص299.
... فمن جلس في مجلس يُشرب فيه الخمر يناله وزر شارب الخمر وإن لم يُشارك في شرب الخمر، كما في الأثر عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه أخذ قوماً على شرابٍ، فضربهم وفيهم صائم!، فقالوا: إن هذا صائم .. فتلا عليهم قوله تعالى: { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلهم } .
... فعامله معاملتهم ولم يزد على ذلك .. ولو كان كافراً بجلوسه في مجلس شرب الخمر لاستتابه من الكفر والردة، ولكن لم يحصل شيء من ذلك.
... قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخل في هذه الآية { إنكم إذاً مثلهم } كلُّ محدِثٍ في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
... أي أن هذه الآية تشمل كل مبتدع وكل من يجالسه .. سواء كانت بدعته مكفرة أم كانت دون ذلك.
... وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" مثَلُ جليسِ الصالحِ والسوء كمثل حامل المسك، ونافخِ الكير، فحاملُ المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبةً. ونافخُ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثةً " متفق عليه.
... فالذي يجد ريحاً منتنة خبيثة ليس كالذي تحترق عليه ثيابه .. فهو بحسب نوعية المجلس وما يدور فيه .. وبحسب قربه من نافخ الكير .. وهكذا مجالس المنكر .. والله تعالى أعلم.
... ـ تحذير وتنبيه: فيما تقدم تحذير بليغ لأولئك الذين تُطاوعهم أنفسهم على المشاركة في المجالس النيابية التشريعية .. رغم ما يدور في تلك المجالس من كفر واستهزاء بالدين وأحكامه .. ثم يحسبون أنهم على شيء!(1/150)
... كم من مرة رأيناهم يُخضعون شرع الله تعالى للتصويت .. فترتفع
الأيدي وتنخفض بين مؤيد ومعارض ..!
... كم من مرة رأيناهم يردون حكم الله تعالى وشرعه .. بزعم النزول عند رغبة واختيار الأكثرية .. التي تعلو ولا يُعلى عليها ؟!
... كم من مرة رأيناهم يقررون شرائع الكفر والطغيان .. بزعم النزول عند رغبة وإرادة الأكثرية ..؟!
... كم من مرة رأيناهم يُمجدون الطاغوت .. ويُمجَّد الطاغوت أمامهم .. ويُمجد دستوره .. والقوم جالسون صامتون خاشعة أبصارهم .. ترهقهم ذِلَّة .. لا يتكلمون بكلمة واحدة، ولا يتحرك لهم ساكن .. وكأن إستهم لاصقة بكراسيهم ؟!!
... قالوا: سنأمر الطاغوت بالمعروف وننهاه عن المنكر .. فدخلوا .. فأمروه بالمنكر ونهوه عن المعروف .. أو بالأحرى لم يجرؤوا على أن يُذكّروه بالمعروف فضلاً عن أن يأمروه به!
... قالوا: سنصدع بالحق .. فخانتهم أعصابهم .. فصدعوا بالباطل!!
... قالوا: الإسلام هو الحل .. فدخلوا .. فقالوا: الالتزام بالدستور هو الحل .. الالتزام بالديمقراطية هو الحل!
... كم من صفقة باطلة مضت باسمهم .. وعلى عواتقهم وكواهلهم .. ترتب عليها ضياع حقوق وانتهاك حرمات .. بعد أن خضعت لمعارضتهم المضحكة التي لا يمكن أن تكون فاعلة .. فأمدوها بالحياة وأصبغوا عليها الشرعية والقانونية .. بكونها نزلت إلى حيز التنفيذ بعد أن مرت على المعارضة وقالوا فيها قولهم ..؟!!
... هؤلاء البرلمانيون ـ على اختلاف شاراتهم وانتماءاتهم وأسمائهم ـ لا
يحسبون أنفسهم على خير .. أو أنهم على شيء .. وهم لا شك يدخلون دخولاً كلياً في قوله تعالى: { إنكم إذاً مثلهم } . وفي قوله تعالى: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ، مهما زعموا بلسانهم أنهم غير ذلك!
... ـ العمل الثامن: السّبُّ الصريح للدين.
... الشتم عمل زائد عن مجرد الاستهزاء .. فقد يأتي المرء بالشتم الصريح للدين دون الاستهزاء .. لذا رأينا تناوله كعمل مستقل من جملة الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة.(1/151)
... فأقول: كل من شتم الدين أو شيئاً من أحكامه وشعائره يكفر كفراً أكبر، ويخرج من الإسلام لذات شتمه على أي وجه جاء شتمه، بغض النظر عما وقر في قلبه من اعتقاد أو استحلال للشتم أو عدمه.
... وكل ما ذكرناه من أدلة على كفر المستهزئ تصلح دليلاً على كفر الشاتم الطاعن بالدين .. ونزيد عليها هنا الأدلة التي تفيد كفر الشاتم لذات الشتم والطعن.
... قال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } التوبة:74.
... هذه آية نزلت في رجل قال:" إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن أشر من الحمر " فبلغ خبره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما سأله عن مقولته، أنكر وحلف أنه ما قال.، فانزل الله تعالى الآية.
... وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك، ومهما يكن فإن الكلمة اكفروا بسببها هي دون السب الصريح، فدل أن السب الصريح أولى بالكفر وبخروج
صاحبه من دائرة الإسلام.
... وفي قوله: { وكفروا بعد إسلامهم } ، قال الشوكاني في الفتح 2/383: أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام وإن كانوا كفاراً في الباطن، والمعنى: أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم ا- هـ.
... وقال القرطبي في التفسير 8/206: قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي - صلى الله عليه وسلم - والطعن في الإسلام، { وكفروا بعد إسلامهم } أي بعد الحكم بإسلامهم ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/272: الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى ا- هـ.
... وقال تعالى: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } التوبة:12.
... فسمى الطاعن في الدين، إماماً في الكفر، وهو زائد عن الكفر المجرد .. فدل أن الطعن بالدين كفر مغلظ.(1/152)
... قال القرطبي في التفسير: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين؛ إذ هو كافر ا- هـ.
... وقال ابن تيمية رحمه الله في الصارم: إنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين، فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر.
... وقال: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
... فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع، لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من
الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له (1) ا- هـ.
... ـ العمل التاسع: قتالُ المسلمين وسبهم.
... من الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة قتال المسلمين أو سبهم أو السخرية منهم لدينهم .. وكذلك من يسب عامة المسلمين بصيغ العموم من دون استثناء .. فهذا يكفر إذ يستحيل أن يسب عامة المسلمين لمشاكل خاصة دنيوية بينه وبينهم جميعاً .. وإذا انتفى ذلك بقي الخيار الأخير والوحيد وهو أنه يشتمهم حقداً وكراهية لدينهم الذي ينتمون إليه .. ومن كان كذلك لا شك في كفره وخروجه من الإسلام.
... قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } المطففين:29-34.
... فالضحك من المؤمنين والسخرية منهم، والتعريض والغمز بهم لا يمكن أن يصدر إلا من كل كافر مجرم زنديق .. وهي سنة قديمة من سنن الذين كفروا ـــــــــــــــ(1/153)
(1) لا نريد هنا أن نستقصي الأدلة وأقوال أهل العلم الدالة على كفر الشاتم .. فهذا له موضع آخر .. وقد خصصنا لذلك بحثاً مستقلاً أسميناه :" تنبيه الغافلين إلى حكم شاتم الله والدين " وهو منشور في موقعنا على الإنترنت يمكن للقارئ مراجعته لو شاء.
والذي أردناه هنا أن نكتفي بذكر الدليل الذي يفيد كفر الشاتم للدين .. كعمل من جملة الأعمال التي تخرج صاحبها من الملة .. وفيما تقدم ذكره كفاية. تتجدد على ممر عصورهم .. وبأساليب شتى .. وإلى يوم القيامة .. إلى اليوم الذي يصدق فيه قول الحق: { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } .
... وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " متفق عليه.
... قال ابن حزم في الملل 3/237: فهو على عمومه؛ لأن قوله - عليه السلام - هنا عموم للجنس، ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر ا- هـ.
... وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: من يستهزئ بأهل الدين والمحافظين على الصلوات من أجل دينهم ومحافظتهم عليه يُعتبر مستهزئاً بالدين فلا تجوز مجالسته ولا مصاحبته، بل يجب الإنكار عليه والتحذير منه، ومن صحبته وهكذا من يخوض في مسائل الدين بالسخرية يعتبر كافراً ا- هـ.(1/154)
... قال ابن تيمية رحمه الله في الصارم، ص371: إضرار المسلمين يزيد على تغير الاعتقاد، ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد، وهو كاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوى والظن، ومعلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغيير الاعتقاد من هذين الوجهين: من جهة كونه إضراراً زائداً، ومن جهة كونه قد يظن أو يُقال أن الاعتقاد قد يكون سالماً معه، فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين، ويكون فساده أعظم من فساد الانتقال؛ إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نُزع عن الكفر، وهذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالاً، بل هو معصية، وهو من أعظم أنواع الكفر ا- هـ.
... قلت: وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " يمكن كذلك أن
يُحمل على الفسق الأصغر، والكفر الأصغر .. كفر دون كفر؛ وذلك عندما يكون السب أو القتال من أجل أمور دنيوية أو خلافات شخصية .. أو لتأويل يبرر الخلاف لكنه لا يبرر القتال.
... فالسب أو القتال من هذا القبيل محرم لكنه لا يخرج صاحبه من الملة كما أفادت بذلك نصوص عدة، كما في قوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الحجرات:9. فهما رغم اقتتالهما .. إلا أن الله تعالى قد سماهما مؤمنين .. وأمر بالإصلاح بينهما.
... كما أن القاتل حده القتل ولأولياء الدم أن يعفوا .. فيسقط عنه حد القتل .. ولا يُعرف أنه يُستتاب من الردة أو يُعامل معاملة المرتدين .. وهذا مما هو معلوم من الدين بالضرورة.(1/155)
... خلاصة القول: ينبغي التفريق بين قتال وقتال .. وبين سب وسب .. والنظر إلى الدافع لكلٍّ منهما، حيث أن منه ما يكون كفراً وذلك عندما يكون سب المسلم وقتاله لدينه .. وكذلك عندما يكون القتال أو السب لعامة المسلمين .. حيث لا يمكن أن يصدر ذلك من أحد إلا على وجه الحقد والكراهية والعداء لدين المسلمين.
... وما سوى ذلك من السب والقتال فهو دون الكفر .. وهو من جملة المعاصي التي يُترك صاحبها لمشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
... ـ خطأ شائع: من الأخطاء الشائعة التي يُروج لها مشايخ الإرجاء أن عداء طواغيت الحكم المعاصرين للمسلمين وقتالهم واضطهادهم لهم وبخاصة منهم الدعاة المخلصين العاملين .. هو من النوع الذي لا يُكفِّر .. وهو من قبيل المعاصي التي يُترك صاحبها للمشيئة .. مستدلين على شذوذهم هذا بفعل الحجاج وغيره من الحكام ممن قتل وظلم بعض المسلمين ..!
... أقول: إن ما فعله الحجاج وغيره من حكام المسلمين الظالمين كان عن تأويل .. وشبه .. وهوى .. لا يمكن أن تُدرج على أنه كان عداء للإسلام .. وعداء للمسلمين لدينهم .. وأن دافعهم لقتال بعض المسلمين كان العداء لدين الله .. أو كان بدافع العمالة لأعداء الأمة من اليهود والنصارى .. لا يمكن التسليم بذلك ابتداء فضلاً عن الجزم به أو تأكيده!
... وهذا بخلاف طواغيت الحكم المعاصرين .. فإن عداءهم للمسلمين هو في حقيقته عداء للإسلام .. استرضاء لأوليائهم من اليهود والنصارى .. الذين لاينفكون عن مطالبة عملائهم في المنطقة بمحاربة الإسلام والمسلمين!
... هذا الحاكم الذي يُملئ السجون بشباب التوحيد من أجل أنهم يُطالبونه بأن يحكم بشرع الله تعالى .. أن يحكم بالتوحيد .. لا يمكن أن يُفسَّر إلا أنه عداء صريح لدين الله تعالى!(1/156)
... هذا الحاكم الذي يُحارب الفضيلة والأخلاق الحميدة .. ويعمل على نشر الفساد والرذيلة والإباحية والإلحاد لإفساد دين وعقيدة العباد .. لا يُمكن أن يُصنف إلا أنه عداء صريح لدين الله تعالى .. وردة صريحة عن الدين!
... هذا الحاكم الذي يعمل جاهداً على إقصاء الدين عن الحياة .. وعلى فصل الدين عن الدولة .. ويُقاتل من أجل ذلك .. ويجند الجنود لحماية هذا النظام العلماني .. لا يمكن أن يُصنف إلا أنه عداء صريح لدين الله تعالى .. وأنه إيثار للكفر والردة على الإيمان!
... هذا الحاكم الذي يعمل حارساً وفياً لمصالح أعداء الأمة في المنطقة .. ويسخّر الجند وجميع مرافق الدولة في سبيل ذلك .. لا يمكن أن يُصنّف عمله هذا إلا أنه عمالة وخيانة .. وردة صريحة عن الدين!
... الحجاج رغم ظلمه وطغيانه لم يكن شيئاً من ذلك .. بل كان مجاهداً في سبيل الله إلى أن وصلت جيوشه إلى أطراف السند والهند .. لذا لا يمكن أن يُقاس هؤلاء الحكام الخونة وما يفعلونه على الحجاج .. وعلى نوعية المظالم التي صدرت عن الحجاج وغيره من حكام المسلمين من قبل .. لانعدام وجود الشبه بينهما الذي يسمح بإجراء مثل هذا القياس .. والله تعالى أعلم.
... ـ العمل العاشر: السِّحر.
... من الأعمال التي تُعتبر كفراً لذاتها .. وتُخرج صاحبها من الملة " السحر "، وعلة ذلك أن السحر عمل مؤلف ومركب يُعظم فيه غير الله تعالى، تُنسب إليه القدرة على التأثير في الأشياء، والتصرف في المقادير والكائنات ضراً ونفعاً!
... فترى الساحر يزعم القدرة على التأثير في الأشياء لذاته، فينُزل الضر فيمن يشاء، ويرفع الضر عمّن يشاء .. وهذا من أخص خصائص الله تعالى وحده؛ فالضار النافع الذي لا راد لضره ولا مانع لنفعه أحد هو الله تعالى وحده .. وما سواه تعالى لا يقدر على أن ينزل ضراً أو يحقق نفعاً لأحد إلا بإذن الله تعالى ومشيئته.(1/157)
... قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً } الإسراء:56.
... وقال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الأنعام:17.
... وقال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } يونس:107.
... إضافة إلى ما تقدم فإن الساحر معبود من جهة كثير من جهلة الناس الذين يعتقدون فيه القدرة على التأثير بالأشياء نفعاً وضراً .. فيعبدونه من جهة الخوف، والرجاء، والخشية .. فتتعلق القلوب بهم من دون الله .. فيرجونهم أن يُنزلوا في مخلوق ضراً أو نفعاً .. ويخشونهم على أنفسهم من أن ينزلوا بهم ضراً .. وربما يحملهم ذلك على أن يلتمسوا رضاهم بالعطايا والهدايا .. والنذر والذبح وغير ذلك من ضروب الشرك!
... لذا فإن الساحر طاغوت كافر معبود من دون الله تعالى .. حدّه في دين الله ضربة سيف تفصل رأسه عن جسده.(1/158)
... قال تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } البقرة:102.
... قال القرطبي في التفسير: قوله تعالى { وما كفر سليمان } ، تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفراً صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر، ثم قال: { ولكن الشياطين كفروا } فأثبت كفرهم بتعلم السحر.
... وقال: فذهب مالك إلى أن إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً(1) يُقتل ولا يُستتاب ولا تُقبل توبته؛ لأنه أمر يستسرُّ به كالزنديق، ولأن الله تعالى سمى السحر كفراً بقوله: { وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } وهو قول أحمد، وأبي ثور، وإسحاق، والشافعي، وأبي حنيفة، وروي قتل الساحر عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وأبي موسى، وقيس بن سعد، وعن سبعة من التابعين.
... وروي عن الشافعي: لا يُقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره، ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يُقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر!
... قال ابن العربي: وهذا باطل من وجهين:
... أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يُعظم به غير الله ــــــــــــــــ(1/159)
(1) قلت: لا يمكن أن يتأتى السحر إلا بممارسة الشرك والكفر؛ من استغاثة بشياطين الجن، وتعظيمهم ورجائهم، والخوف منهم .. وزعم التأثير بالأشياء، والإتيان بما يُعتبر من خوارق العادة وغير ذلك من الأشياء!
ومما يقوم به السحرة استهانتهم بكلام الله تعالى استرضاء لشياطينهم وطواغيتهم، قال ابن تيمية عنهم في الفتاوى 19/35: كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة ـ وقد يقلبون حروف كلام الله - عز وجل - ـ إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة، أو يكتبون غير ذلك بما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك، فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم ا- هـ. وهذا عين الكفر البواح!
تعالى، وتُنسب إليه المقادير والكائنات.
... الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال: { وما كفر سليمان } بقول السحر { ولكن الشياطين كفروا } به وبتعليمه. وهاروت وماروت يقولان: { إنما نحن فتنة فلا تكفر } وهذا تأكيد للبيان (1) ا- هـ.
... وقد عدّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من جملة نواقض الإسلام التي تخرج صاحبها من الملة: السحر والعمل به.
... وقد تابعه على قوله هذا أبناؤه وأحفاده ، وغيرهم من علماء التوحيد في الجزيرة العربية.
... وقد نقل الشيخ عن صاحب " الإقناع " قوله: ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، ويكفر بتعليمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، فتأمل هذا الكلام (2) ا- هـ.
... ـ العمل الحادي عشر: الكهانة.
... الكهانة عمل كفري؛ وصفته أن يتكهن الكاهن علم الغيب .. فيدعي علم الغيب ما كان وما سيكون من شؤون الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وحده، كما قال تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } الأنعام:59.(1/160)
ــــــــــــــــ
(1) الجامع لأحكام القرآن:2/43،47-48.
(2) انظر الرسائل الشخصية:ص213.
... وقال تعالى: { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ } يونس:20.
... وقال تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } النمل:65.
... وقال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأعراف:188.
... فعلم الغيب من أخص خصوصيات الله تعالى وحده .. فمن ادعاه فقد ادعى الألوهية والربوبية لنفسه، وجعل من نفسه نداً لله - عز وجل - في أخص خصائصه .. والذي يقره أو يتابعه أو يصدقه على ادعائه هذا فقد أقر له بالألوهية، وكفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" ليس منا من تطير ولا من تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - "(2).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد برئ مما أُنزل على محمد "(3). هذا فيمن يصدق الكاهن فكيف بالكاهن نفسه الذي يتكهن علم الغيب .. لا شك أنه أولى بالكفر والبراء مما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .. نعوذ بالله من الكفر والخذلان بعد أن أعزنا الله وأكرمنا بالإيمان.
ــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الجامع الصغير:5435.
(2) أخرجه أحمد والحاكم، صحيح الجامع:5939.
(3) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع:5942.(1/161)
... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة، منهم: الذي يدعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى: { عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً } ا- هـ.
... وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في رسالة له في حكم السحر والكهانة بعد أن أورد الأحاديث المذكورة أعلاه: في هذه الأحاديث دليلاً على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله، وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه، والمصدق لهم في دعواهم علم الغيب يكون مثلهم ا- هـ.
... قلت: من ضروب الكهانة التي تحصل في زماننا الضرب بالكف أو الرمل، أو الفنجان .. حيث يتكهن الضارب للمضروب له الغيب .. وما ينتظره أو سيحصل له في المستقبل من غنى أو فقر .. أو شقاء أو سعادة!!
... ومن ضروب الكهانة كذلك ذلك العلم الباطل الذي يسمونه علم الأبراج والكواكب والنجوم الذي يصدرون به بعض الجرائد والمجلات، وبعض وسائل الإعلام المرئية وغيرها .. فكل هذا يدخل في الكهانة .. ويقع تحت طائلة الوعيد الوارد في النصوص الآنفة الذكر.
... ثم كم من دمار وخراب وضرر حصل ويحصل للعالَم بسبب تصديقهم للكهنة فيما يخبرون به أنه سيحصل للعالم من دمار أو كوارث تستدعي من الجميع الترقب والانتظار، والوقوف عن العمل والإنتاج وغير ذلك .. ولما يأتي التوقيت الذي حدده لهم الكاهن لحصول تلك الكوارث والتحولات ..فإذا الأمور بخلاف ما توقع وتكهن به للناس .. فتنقلب النتائج حينئذٍ بالسوء على أولئك الذين صدقوه وأوقفوا كل شيء انتظار تحقق تنبؤاته وتكهناته!!
... ـ العمل الثاني عشر: ترك الصلاة.(1/162)
... ترك الصلاة كفر .. وتاركها كافر خارج من الملة، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها، لقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } التوبة:5.
... وقال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } التوبة:11.
... دل مفهوم الآيات أنهم إن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة لا تخلوا سبيلهم، وهم ليسوا إخوانكم في الدين، ولا تنتفي أخوة الدين إلا عن الكافر المشرك.
... فإن قيل: هذا يلزم أن تكفروا تارك الزكاة كذلك ..؟
... أقول: قد وردت نصوص أخرى تصرف الكفر عن تارك الزكاة، التي منها قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم:" ما من صاحب لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يقضي الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ".
... فكونه يُترك لمشيئة الله تعالى .. ويرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار دل أنه ليس كافراً؛ إذ لو كان كافراً لما كان له سبيل إلا إلى النار.
... ومن صوارف الكفر عن تارك الزكاة قول عبد الله بن شقيق العقيلي - رضي الله عنه - عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم:" كان أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ". فأثبت تكفيرهم لتارك الصلاة وإجماعهم
على ذلك دون سواها من الأعمال .. والزكاة من جملة تلك الأعمال.(1/163)
... قال ابن عبد البر في التمهيد 4/234: قال ابن عباس: تجده كثير المال ولا يُزكي، فلا يُقال لذلك: كافر، ولا يحل دمه ا- هـ.
... لأجل هذه النصوص والآثار أثبتنا كفر تارك الصلاة دون تارك الزكاة ، والله تعالى أعلم.
... ومن الأدلة كذلك الدالة على كفر تارك الصلاة قوله - صلى الله عليه وسلم - :" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " مسلم. أي بينه وبين الوقوع في الكفر والشرك ترك الصلاة، فإذا ترك الصلاة وقع في الكفر والشرك وأصبح كافراً مشركاً.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" بين الكفر والإيمان ترك الصلاة "(2). والحديث فيه دليل على تسمية الأعمال إيماناً.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"(3).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك "(4).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله "(5).
ـــــــــــــــــــ
(1) أخرجه النسائي، صحيح الترغيب:563.
(2) أخرجه الترمذي، صحيح الترغيب:563.
(3) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب:564. (4) صحيح الترغيب:574.
(5) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب:569.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من تركها متعمداً فقد خرج من الملة "(1).
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" آخر ما يُفقد من الدين الصلاة ".
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" آخر عرى الإسلام نقضاً الصلاة ".
... قال الإمام أحمد: كل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه ا- هـ.(1/164)
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" ما من أمتي من أحدٍ إلا وأنا أعرفه يوم القيامة. فقالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق ؟! قال: أرأيت لو دخلت صِيرةً ـ حظيرة تُتخذ للدواب ـ فيها خيل دُهم بُهم ـ لونها أسود لا يُخالطها لون آخر ـ وفيها فرسٌ أغرَّ مُحجَّل ـ وهو الذي يرتفع البياض في قوائمه ـ أما كنتَ تعرفه منها ؟ قال: بلى، قال: فإن أمتي يومئذٍ غُرٌّ من السجود، محجلون من الوضوء "(2).
... قلت: أين تارك الصلاة ..؟!
... أفاد الحديث أن تارك الصلاة ليس من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وليس ممن يتعرف عليهم من بين الناس؛ إذ العلامة للتعارف يومئذٍ الصلاة .. وآثار الصلاة على الوجوه والجباه.
... وفي الأثر فقد صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:" لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة ".
... وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" من ترك الصلاة فلا دين له ".
ــــــــــــــــــ
(1) قال الحافظ المنذري في الترغيب: رواه الطبري، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة بإسنادين لا بأس بهما.
(2) أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة:2836.
... وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال:" لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له ".
... وعن علي - رضي الله عنه - قال:" من لم يصل فهو كافر ".
... وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:" من لم يصل فهو كافر ".
... وعن حماد بن زيد، عن أيوب قال:" ترك الصلاة كفر لا يُختلف فيه ".
... وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال:" كان أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ".
... قلت: والكفر هنا لا يجوز تأويله أو حمله على الكفر الأصغر بدليل أن الصحابة كانوا يرون كثيراً من الأعمال غير الصلاة كفراً أصغر أو كفراً دون كفر.
... قال ابن تيمية في الفتاوى 28/308: وأكثر السلف على أنه يُقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها ا- هـ.(1/165)
... قال ابن حزم في المحلى: وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً ا- هـ.
... وقال الحافظ المنذري في الترغيب: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمداً لتركها، حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء رضي الله عنهم.
... ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن
المبارك، والنخعي، والحكم بن عتبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم رحمهم الله تعالى ا- هـ.
... قلت: هذه النصوص والآثار الصحيحة الثابتة عن سلفنا الصالح هي التي ألزمتنا بالقول بكفر تارك الصلاة .. وبخروجه من دائرة الإسلام.
... وقد تأملت أدلة المخالفين في المسألة فلم أجدها تقوى على المعارضة أو صرف الكفر عن تارك الصلاة إلى الكفر الأصغر أو الكفر دون كفر(1).
... فإن قيل: ما مقدار ترك الصلاة التي يكفر صاحبه .. فهل من ترك صلاة واحدة يكفر كما أثر عن بعض السلف .. أم أن هناك حد آخر للترك يكفر المرء بموجبه ؟
... أقول: الخلاف في المسألة قوي، والراجح أن من غلبت صلاته على تركه للصلاة .. وكان عنده من النوافل ما يُجزئ ما كان قد تركه من الصلوات .. أنه لا يكفر، وخلاف ذلك فإنه يكفر ولا بد(2).
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" أول ما يُحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا - عز وجل - لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها؟ فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، ـــــــــــــــ(1/166)
(1) قد تناولت أدلة وشبهات المخالفين ورددت عليها دليلاً دليلاً في كتابي " حكم تارك الصلاة " ما يغني عن إعادتها هنا .. فمن شاء الوقوف عليها فليراجع كتابنا المذكور .. وهو منشور في موقعنا على الإنترنت ولله الحمد.
(2) هذه مسألة كنت قد أجبت عنها في كتابنا " حكم تارك الصلاة " فأعيد هنا ما كنت قد كتبته هناك.
قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم "(1).
... قلت: فلو كان انتقاص شيء من فريضة الصلاة يُعتبر كفراً، لما نفعه التطوع، ولما جبرت صلاته بالنوافل؛ لأنه لا ينفع مع الكفر عمل ولا طاعة.
... وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" انتقص منها شيئاً " يحتمل أمرين كلاهما دلت عليهما السنة، أحدهما أنه أقام الصلاة، لكنه أحياناً لم يأتِ بأركانها وفرائضها على الوجه المطلوب، فأنقص من ذلك شيئاً.
... والثاني: أنه ترك صلاة كاملة أو أكثر خلال حياته في الدنيا، فتُجبر صلاته وتكمل من صلاة التطوع إن كان له تطوع.
... قال - صلى الله عليه وسلم - :" إنها ستكون عليكم بعدي أمراء، يشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، قال رجل: إن أدركتها معهم أصلي معهم؟ قال:" نعم إن شئت ". أي يصليها معهم نافلة؛ لأن الفريضة لا تُعاد في اليوم مرتين.
... وكونه - صلى الله عليه وسلم - أذن للرجل بأن يأتم بهم ويصلي معهم، فدل أنهم ليسوا كفاراً بترك الصلاة حتى يذهب كل وقتها؛ لأن الكافر المرتد لا تجوز الصلاة خلفه إجماعاً.
... وقال - صلى الله عليه وسلم - :" فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها، وحافظ عليها، ولم يُضيعها استخفافاً بحقها، فله علي عهد أن أدخله الجنة. ومن لم يصلها لوقتها، ولم يُحافظ عليها، وضيعها استخفافاً بحقها، فلا عهد له علي، إن شئت ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، صحيح الجامع:2571.
عذبته، وإن شئت غفرت له "(1).(1/167)
... فكونه يُترك للمشيئة فدل أنه غير كافر؛ لأن الكافر ليس له في الآخرة إلا الخلود في النار أعاذنا الله منها.
... وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" ولم يحافظ عليها، وضيعها استخفافاً بحقها " لا ينبغي أن يُفهم منه مطلق الترك؛ لأن ترك الصلاة كلياً كفر أكبر كما تقدم.
... قال ابن تيمية في الفتاوى: فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن، حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ".
... وقال ـ بعد أن ذكر الحديث أعلاه ـ يظهر أن الاحتجاج بذلك على تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر(1) ا- هـ.
... فتأمل كيف فرق بين تارك الصلاة، وبين تارك المحافظة؛ حيث أن الأول يكفر، والآخر لا يكفر.
... وقال ابن القيم في تأويل الحبوط الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم - :" فإن من ترك ــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الترغيب:397.
(2) الفتاوى:7/578و 22/49.
صلاة العصر، فقد حبط عمله ": والذي يظهر في الحديث ـ والله أعلم بمراد رسوله ـ أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبداً، فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين(1) ا- هـ.
... فتأمل كيف فرق بين الترك الكلي العام المكفر، الذي يؤدي إلى حبوط جميع الأعمال، وبين الترك الجزئي الخاص في يوم معين الغير مكفر، الذي يؤدي إلى حبوط أعمال ذلك اليوم فقط.(1/168)
... ومما يُستدل به كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :" أُمر بعبد من عباد الله أن يُضرب في قبره مائة جلدة ، فلم يزل يسال ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجُلد جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه وأفاق قال: على ما جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت صلاةً واحدة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " (2).
... أفاد الحديث عدم كفر هذا الرجل رغم أنه صلى صلاة واحدة بغير وضوء، وهو مثله مثل من لم يصلِّ؛ لأن الطهور والوضوء شرط لصحة الصلاة، فالحديث فيه أن تارك صلاة أو بعض الصلوات خلال حياته لا يكفر، وليس فيه أن تارك الصلاة كلياً ـ كما ذهب البعض إلى ذلك! ـ لا يكفر، فليس في الحديث ما يدل على ذلك، لا من حيث المنطوق ودلالة الألفاظ، ولا من حيث المفهوم، والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــ
(1) كتاب الصلاة وحكم تاركها:ص65.
(2) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، السلسلة الصحيحة:2774.
... فهذا وأمثاله يُجبر له من التطوع والنوافل يوم القيامة كما تقدم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة الذي جاء فيه:" فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم ".
... أما من غلب عليه ترك الصلاة .. أو كثر تركه للصلاة .. وقلّ عنده التطوع .. فهذا أنَّى يُجبر له من النوافل ما فرط في صلاته المكتوبة .. لذا من كان كذلك لا مناص من كفره وتكفيره، والله تعالى أعلم.
... وعليه فإننا نقول: من كان لا يصلي إلا الجمعة والأعياد من أيام السنة .. أو في رمضان فقط .. فهو كافر مرتد .. وعليه وعلى أمثاله تُحمل النصوص الآنفة الذكر الدالة على كفر تارك الصلاة ولا بد، والله تعالى أعلم.
... ـ العمل الثالث عشر: ترك جنس العمل.
... من أعرض عن الانقياد الظاهر للشريعة .. فلم يعمل بشيء من واجبات وأركان هذا الدين .. فهو كافر مرتد وإن كان مقراً بالشهادتين.(1/169)
... قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران:31.
... فعلى قدر المتابعة لهدي وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والشريعة التي جاء بها من عند ربه تكون المحبة لله - عز وجل - .. وعلى قدر المحبة الصادقة لله - عز وجل - يكون الاتباع والانقياد لأحكام الشريعة .. فكل منهما لازم وملزوم للآخر.
... فإذا انتفى مطلق الاتباع الظاهر لأحكام الشريعة .. لزم انتفاء مطلق الحب لله - عز وجل - .. ولا ينتفي مطلق الحب لله - عز وجل - إلا ممن كان مبغضاً كافراً معانداً ومشاقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء:115.
... قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 8/360: فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه، كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين ا- هـ.(1/170)
... وقال ابن القيم في المدارج 1/99: في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله ا- هـ.
... وقال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه:124.
... وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } السجدة:22.
... وأولى الناس دخولاً في الوعيد الوارد في هذه الآيات هو التارك لجنس
العمل، المعرض عن مطلق الطاعة الظاهرة.
... وقد عدّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من جملة نواقض الإسلام العشرة التي تخرج صاحبها من الملة:" الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به " واستدل على ذلك بقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } السجدة:22.
... وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } البينة:5.
... وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذريات:56.(1/171)
... فالله تعالى ما خلقنا وخلق الخلق كله .. وأرسل الرسل .. وأنزل الكتب إلا لعبادته وحده - سبحانه وتعالى - .. فالذي يقول بإيمان من لم يأت بجنس العمل أو الطاعة أو العبادة الظاهرة .. فقد أبطل الغاية والحكمة التي لأجلها خلقنا الله تعالى وخلق الخلق كله .. وأرسل الرسل.
... قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .
... وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله ا- هـ.
... وقال الشوكاني رحمه الله في رسائله السلفية: من كان تاركاً لأركان
الإسلام وجميع فرائضه، ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم ا- هـ.
... وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/142: قال تعالى: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأتِ بالعمل مواضع كثيرة كما نفى فيها الإيمان عن المنافق ا- هـ.
... فإن عرفت ذلك فلك أن تعجب من قول الشيخ الألباني كما في شريطه " الكفر كفران ": لا يوجد عندنا في الشريعة أبداً نص يصرح ويدل دلالة واضحة على أن من آمن بما أنزل الله لكنه لم يفعل بشيء مما أنزل الله، فهذا هو كافر ا- هـ.(1/172)
... ونحن نرد خطأ الشيخ في هذه المسائل إلى فساد أصوله في " الإيمان والوعد والوعيد " التي هي أقرب ما تكون إلى أصول جهم الضال .. ولكن إلى الساعة كثير من الناس لا يزالون يجادلون عن الشيخ بالباطل .. لا يريدون أن يقتنعوا .. ولا أن ينصفوا الحق من الشيخ .. عصبية للشيخ ولاسمه!
... قال ابن تيمية في الفتاوى 7/533: وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة؛ فإن هذا ممتنع إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك ا- هـ.
... قلت: وهو نفس قول الشيخ ناصر المتقدم .. وقد نسبه شيخ الإسلام
إلى جهم وأتباعه .. ولكن المتعصبة للشيخ ناصر لا يعلمون .. ولا يريدون أن يعلموا .. ومع ذلك فهم من أكثر الناس جدالاً في الباطل .. وعن الباطل!
... فإن قيل: هذا الذي لا يعبد الله تعالى في ظاهره، أو على جوارحه الظاهرة لا يلزم منه أن يكون معرضاً عن دين الله تعالى لاحتمال أن يكون عابداً لله تعالى في قلبه وباطنه ..؟
... أقول: يستحيل ذلك؛ للعلاقة المتبادلة والمؤثرة والمتأثرة بين الظاهر والباطن، فكل منهما مرآة تعكس صورة الآخر .. فإذا صلح الباطن لا بد أن يصلح الظاهر، ويسري صلاحه بالضرورة إلى الجوارح الظاهرة .. والعكس كذلك، وإذا فسد الباطن لا بد من أن يفسد الظاهر، ويسري فساده إلى الجوارح الظاهرة وعلى قدر فساد الباطن .. والعكس كذلك، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
... قال ابن تيمية في الفتاوى 14/120: وهنا أصول تنازع الناس فيها، ومنها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف ؟(1/173)
... فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: أنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن وإنما هو كافر.
... وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً في الباطن، وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعاً وعقلاً، وقد كفر السلف كوكيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب ". فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً؛ وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه ا- هـ.
... وهذه مسألة قد أشرنا إليها بشيء من التفصيل في المقدمة السادسة من هذا الكتاب .. فراجعها إن شئت.
... ـ تنبيه: اعلم أن الكفر يأتي من جهة ترك العمل الظاهر .. من جهات ثلاث:
... 1- من جهة ترك جنس العمل .. فلا يعمل بشيء من أركان وواجبات هذا الدين .. فهذا كفر كما تقدم.
... 2- من جهة ترك الصلاة .. فلو كان تاركاً للصلاة يكفر مهما أتى من الأعمال والطاعات الأخرى .. كما تقدم.
... 3- من جهة ترك العمل بالتوحيد .. فمن أقام الصلاة .. وأتى بالطاعات الأخرى .. لكنه لم يفرد الله تعالى بالعبادة؛ فأشرك مع الله آلهة أخرى .. فإنه يكفر .. ولا تنفعه الصلاة .. ولا شيء غيرها من الطاعات؛ فالشرك يحبط ويُبطل جميع الطاعات.
... قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } النساء:48.(1/174)
... وقال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الأنعام:88.
... ـ العمل الرابع عشر: الاستغاثة بالمخلوق.
... الذي حملنا على إفراد " الاستغاثة بالمخلوق " كعمل من جملة الأعمال التي تُخرج صاحبها من الملة .. هو سعة انتشار هذا العمل الشركي في الأمصار، وكثرة الناس الذين يقعون فيه وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً .. لذا لزم التنبيه والتحذير والبيان.
... فأقول: الاستغاثة بالمخلوق .. وكذلك طلب العون والمدد منه .. فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى عمل شركي .. يخرج صاحبه من الملة .. وعلة ذلك أن الاستغاثة طلب ودعاء؛ فهي من هذا الوجه عبادة .. والعبادة لا يجوز أن يُصرف شيء منها لغير الله - عز وجل - .
... فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" الدعاء عبادة ". وفي رواية ضعيفة:" الدعاء مخ العبادة ".
... وقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي العبادة أفضل؟ قال:" دعاء المرء لنفسه ". فجعل دعاء المرء لنفسه عبادة .. بل من أفضل وأخص ما يدخل في معنى ومسمى العبادة.
... ومن وجه آخر فهي تتضمن اعتقاد المستغيث بأن المستغاث به قادر على أن يكشف الضر عنه، أو جلب النفع له .. من دون الله - عز وجل - .. فينسب له بذلك خاصية النافع الضار .. التي هي من أخص خصوصيات الله تعالى وحده.
... أو لاعتقاده بأن هذا المستغاث به له مكانة عند الله تعالى تقربه إلى الله زلفى .. ويكون شفيعه وواسطته إلى الله تعالى في قبول دعائه واستغاثته .. وهذا عين الكفر والشرك.
... قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } يونس:18.(1/175)
... وقال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } الزمر:3.
... قال ابن كثير في التفسير: أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم وما ينوب من أمور الدنيا.
... قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: { إلا ليقربونا إلى الله زلفى } أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ا- هـ.
... وعند البغوي في تفسيره4/71: قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم: من ربكم، ومن خلقكم، ومن خلق السماوات والأرض ؟ قالوا: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زُلفى؛ أي قُربى ا- هـ.
... وقال تعالى: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } المائدة:76.
... وقال تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } يونس:106. أي من المشركين ..
... وقال تعالى: { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } الشعراء:213.(1/176)
... وقال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } يونس:107. وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } الأحقاف:5.
... وقال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } النمل:62.
... وقال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } فاطر:13-14.
... وغيرها كثير من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستغاثة والدعاء عبادة .. وهو شرك أكبر لو صرف منه شيء للمخلوق .. أياً كان هذا المخلوق .. وأن النفع والضر كله بيد الله - عز وجل - لا شريك له .. يصيب به من يشاء .. ويصرفه عمن يشاء .. وأنه لا راد لأمره وقضائه شيء - سبحانه وتعالى - .
... وفي الحديث عن ابن عباس قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال:" يا فتى ألا أهب لك، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنه قد جف القلم بما هو كائن، واعلم بأن الخلائق لو أرادوك بشيء لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا "(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج .(1/177)
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 1/123-126و161-195: وعُلم أنه لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا.
... وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يُعافيني!
... ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني!
... ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت معاذ يُستعاذ به .. فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُشرع هذا لأمته.
... وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين؛ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يُستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
... فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند
قبورهم وفي مغيبهم وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .(1/178)
... وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار.
... قال تعالى: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران:80. فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر.
... فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين.
... ومن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه ـ كالحجاب الذين بين الملك ورعيته ـ بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه؛ فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم؛ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج .. فمن أثبت وسائط على هذا الوجه: فهو كافر مشرك، يجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل ا- هـ.(1/179)
... وقال ابن القيم رحمه الله: من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالَم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سبباً لأذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسببٍ يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، وندعو لهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم(1) ا- هـ.
... وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات بل هو أكرمها على الله كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله، ولهذا ـــــــــــــــــ
(1) عن كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد:ص230.(1/180)
يخلصون في الشدائد لله وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا الله، يا الله لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر.
... إلى أن قال: فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء ـ دعاء المسألة ودعاء العبادة ـ لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يُعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بها حقيقةً وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم يُشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناها واعتقاده إجماعاً (1) ا- هـ.
... فإن قيل ـ وقد قيل ـ: الاستغاثة هي من ضروب التوسل .. وقد جاءت بعض النصوص تفيد جواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ..؟!
... أقول: الاستغاثة شيء والتوسل شيء آخر؛ الاستغاثة طلب الغوث من المستغاث به، وهو إزالة الشدة فالمستغيث بالمخلوق طالب منه وسائل له، بينما المتوسل يطلب ويسأل بالشيء المتوسل به، والفرق بيّن وواضح بين المدعو والمدعو به.
... قال ابن تيمية في الفتاوى 1/103- 104: لم يقل أحد أن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور؛ فإن المستغيث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به، ـــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، ص219، 227.
وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
... وقول القائل: أن من توسل إلى الله بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم فقد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم ا- هـ.
... أما من حيث حكم التوسل: فمنه المشروع، ومنه غير المشروع.(1/181)
... 1- التوسل المشروع: هو أن تتوسل إلى الله تعالى بصالح أعمالك، كما هو ثابت في الحديث المتفق عليه من قصة النفر الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فانحطت عليهم صخرة أغلقت عليهم الغار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأفضل عمل عملوه، وكان كل واحد منهم يقول:" اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُجْ عنا فُرجةً نرى منها السماء " إلى أن كُشف عنهم.
... ومن التوسل المشروع كذلك أن تتوسل إلى الله تعالى بدعاء من تتوسم فيه الصلاح؛ كأن تقول له: يا فلان ادع الله لي بأن يفرج لي كربي .. فيدعو .. ثم تقول إن شئت: اللهم إني أتوسل إليك بدعاء فلان لي، اللهم شفعه فيَّ؛ أي اقبل دعاءه في وفك كربي .. فهذا النوع من التوسل دلت عليه السنة، وعلى جوازه إجماع الأمة.
... كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ادع الله أن يُعافيني، فقال:" إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك "، فقال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء:" اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ " وفي رواية عند أحمد زيادة هامة:" اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ ". أي اللهم إني أتوجه إليك بدعاء نبيك، اللهم فاقبل دعائي فيه، ودعاءه فيَّ .. ففعل الرجل فبرأ.
... ولا يُقال هنا أن توسل الرجل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بذاته لا بدعائه .. ولو كان الأمر كذلك لما قال:" اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ "، فهل يقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توسل بذات الرجل كذلك .. مما دل أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجل كانت بدعائه له، وشفاعة الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبل الله تعالى دعاء نبيه فيه.(1/182)
... وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا .. فيُسقون ". أي كنا نتوسل إليك بدعاء نبينا - صلى الله عليه وسلم - .. أما وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإنا نتوسل إليك بدعاء عم نبينا .
... وكذلك معاوية بن أبي سفيان ـ لما أجدب الناس بالشام ـ استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي فقال:" اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا(1).
... 2- توسل غير مشروع: وهو أن تتوسل بذات الرجل لا بدعائه، سواء كان هذا التوسل في حضوره، أم في غيابه، أم بعد موته؛ كأن تقول: اللهم إنا نتوسل إليك بفلان؛ وتقصد ذاته .. أو تقول: اللهم إنا نتوسل إليك بحق فلان .. أو بجاه فلان عندك .. فهذا النوع من التوسل مُحدَث ولا يجوز.
... ولو كان جائزاً لما عدل عمر - رضي الله عنه - ومن معه من الصحابة عن التوسل ــــــــــــــــــ
(1) عن الفتاوى لابن تيمية:1/314.
بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذات العباس؛ لأن ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - تفضل ذات العباس حياً وميتاً.
... وكذلك لما عدل معاوية ومن معه من المسلمين عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق ليتوسلوا بيزيد بن الأسود .. مما دل أن التوسل المشروع هو التوسل بدعاء الداعي وليس بذات الداعي، والله تعالى أعلم.(1/183)
... قال ابن تيمية في الفتاوى1/315-325: فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته ـ مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم ـ فليس هذا مشهوراً عند الصحابة والتابعين .. فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية ـ وهم أعلم منا وأعلم بما يحب الله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول، أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً.
... وبعد أن ذكر شيخ الإسلام حديث الرجل الأعمى الذي توسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء.
... فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كنا بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم، ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا إلى أن يُطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أم لم يدع الجميع عندهم توسل به .. وقول هؤلاء باطل شرعاً وقدراً، فلا هم موافقون لشرع الله، ولاما
يقولونه مطابق لخلق الله.
... فلو كان التوسل حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به ـ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة ـ إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله ا- هـ.(1/184)
... وقال ابن أبي العز الحنفي في كتابه شرح العقيدة الطحاوية: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يُقسم على الله بأحدٍ من مخلوقاته، فهذا محذورٌ من وجهين، أحدهما: أنه أقسم بغير الله. الثاني: اعتقاده أن لأحدٍ على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: { وكان حقّاً علينا نصرُ المؤمنين } الروم:47. فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على الخالق.
... وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق ؟! وقد قال - صلى الله عليه وسلم - :" من حلف بغير الله فقد أشرك ". ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يُكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، ونحو ذلك، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحدٍ من الأئمة رضي الله عنهم، والدعاء من أفضل العبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع.(1/185)
... وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده: لأن فلاناً عنده ذو وجاهة وشرف ومنزلة، فأجب دعاءنا، وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات - صلى الله عليه وسلم - قال عمر - رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون:" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإن نتوسل إليك بعم نبينا " معناه بدعائه هو ربَّه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أن نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأعظم من جاه العباس ا- هـ.
... ـ العمل الخامس عشر: التوجه بأي عمل تعبدي للمخلوق [ عمل شركي ].
... العبادة ليست محصورة في الاستغاثة أو الدعاء، وبالتالي فإننا نقول: أي عمل تعبدي يصرفه العبد للمخلوق .. هو كفر وشرك .. يخرج صاحبه من الملة .. سواء عبد هذا المخلوق من جهة الاستغاثة أو الدعاء .. أو من جهة الطاعة والاتباع، والانقياد .. أو من جهة المحبة والموالاة .. أو من جهة الخشية أو الرجاء .. أو من جهة النذر والذبح .. أو من جهة الركوع والسجود والتنسك .. فهذا كله من الشرك الأكبر الذي يحبط مطلق العمل .. والذي لا يغفره الله تعالى إلا بالتوبة النصوح.
... قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } النساء:48.(1/186)
وقال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الأنعام:88. وقال تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } الزمر:65.
... وبعد، إلى هنا ينتهي الحديث عن الأعمال الظاهرة التي تخرج صاحبها من الملة، وبانتهائنا منها تنتهي ـ بفضل الله ومنته ورحمته ـ جميع فصول ومادة هذا الكتاب .. راجياً العلي القدير أن يتقبله مني .. وأن يضع له القبول النافع في البلاد وبين العباد .. ما دامت السماوات والأرض، إنه تعالى كريم، سميع، قريب، مجيب.
... وكان الانتهاء ـ بفضل الله ومنته وتوفيقه ـ من إعداد وتأليف مادة هذا الكتاب ظهر يوم الخميس 11 جمادى الثاني، لسنة 1422 من هجرة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، الموافق 30/8/2001م.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد المنعم مصطفى حليمة
أبو بصير
عفا الله عنه وعن والديه وأهل بيته بمنه ورحمته
* * *
الفهرس
... الموضوع الصفحة
... ـ مقدمة ..................................... 5
... ـ مقدمات هامة بين يدي البحث .............. 9
... ـ المقدمة الأولى: في مسمى الإيمان، وبيان أنه
... اعتقاد وقول وعمل ........................... 9
... ـ مسائل وتنبيهات تتعلق بتعريف الإيمان ....... 14
... ـ المقدمة الثانية: بيان أن الإيمان يزيد وينقص .. 17
... ـ المقدمة الثالثة: كل مؤمن مسلم، ولا يستلزم
... دائماً أن يكون كل مسلم مؤمناً ................ 19
... ـ المقدمة الرابعة: أحكام الكفر والإيمان تبنى على
... الظاهر لا على السرائر .......................... 20
... ـ المقدمة الخامسة: الجزاء يوم القيامة قائم على
... الإسلام الحقيقي لا الإسلام الحكمي ............. 26
... ـ المقدمة السادسة: العلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن(1/187)
... وأثر كل منهما على الآخر ....................... 27
... ـ المقدمة السابعة: التكفير العام لا يستلزم بالضرورة
... تكفير المعين ......................................... 32
... ـ المقدمة الثامنة: كل عمل فعله شرط لصحة الإيمان
... فتركه كفر، وكل عمل فعله كفر فتركه وفعل ضده
... شرط لصحة الإيمان ................................ 33
... الموضوع الصفحة
... ـ أعمال تخرج صاحبها من الملة ................ 36
... ـ العمل الأول: الحكم بغير ما أنزل الله ......... 36
... ـ الصنف الأول الذي لا يكفر ................. 36
... ـ تنبيه يتعلق بمقولة ابن عباس" كفر دون كفر " .. 40
... ـ شبهة ورد تتعلق في اتباع الهوى .............. 45
... ـ الصنف الثاني من الحكام الذي يكفر كفراً أكبر.. 47
... ـ حقيقة المشكلة مع المخالفين في المسألة ......... 60
... ـ شهادة على الحلبي على طواغيت الحكم ...... 61
... ـ العمل الثاني: تبديل الشريعة بشرائع الطاغوت.. 65
... ـ وقفة مع فقه الشيخ ناصر للمسألة ............ 71
... ـ أقوال بعض أهل العلم في كفر التبديل ......... 78
... ـ العمل الثالث: سن القوانين والتشريعات المضاهية
... لشرع الله ....................................... 79
... ـ العمل الرابع: التحاكم إلى شرائع الكفر، والدخول
... في طاعة المشركين فيما يُشرعون ................... 82
... ـ مسألة تحاكم الناس إلى المحاكم الوضعية ......... 88
... ـ مسألة عمل المحاماة ............................ 90
... ـ العمل الخامس: موالاة المشركين ومظاهرتهم على
... المؤمنين ......................................... 98
... ـ موالاة كبرى تخرج صاحبها من الملة ........... 98
... الموضوع الصفحة
... ـ موالاة صغرى لا تخرج صاحبها من الملة ...... 107
... ـ مسائل هامة مرتبطة بالموالاة والمعاداة ......... 112
... ـ المسألة الأولى: حكم الجاسوس ............... 112
... ـ المسألة الثانية: فيمن يُكره على مظاهرة الكافرين 123(1/188)
... ـ المسألة الثالثة: صفة موالاة المسلم الفاسق ...... 127
... ـ المسألة الرابعة: فيمن يوالي الكافر جهلاً أو تأويلاً 129
... ـ المسألة الخامسة: هل يدخل الإحسان إلى الكافر
... من قبيل ترغيبه بالإسلام .. في الموالاة ............ 133
... ـ المسألة السادسة: لماذا التأكيد على عقيدة الولاء
... والبراء في الإسلام .............................. 135
... ـ ولاءات جاهلية واسعة الانتشار نحذر منها .... 142
... ـ الولاءات الحزبية ........................... 142
... ـ موالاة العالم أو الشيخ لذاته ................ 144
... ـ الولاء الوطني ............................. 150
... ـ مفهوم الوطنية في الإسلام .................. 153
... ـ وطنية مزيفة فاحذروها ..................... 155
... ـ الولاء القومي .............................. 157
... ـ كلمات مختارة لسيد قطب في الولاء والبراء .. 160
... ـ العمل السادس: الاستهزاء بالدين أو بشيء من
... أحكامه ...................................... 165
... الموضوع الصفحة ...
... ـ العمل السابع: مجالسة المستهزئين من غير إنكار
... ولا قيام ....................................... 173
... ـ تحذير وتنبه لأولئك البرلمانيين ................ 179
... ـ العمل الثامن: الشتم الصريح للدين .......... 181
... ـ العمل التاسع: قتال المسلمين وسبهم ......... 183
... ـ خطأ شائع ................................. 185
... ـ العمل العاشر: السحر ...................... 187
... ـ العمل الحادي عشر: الكهانة ................ 190
... ـ العمل الثاني عشر: ترك الصلاة .............. 193
... ـ العمل الثالث عشر: ترك جنس العمل ....... 201
... ـ الكفر الذي يأتي من جهة ترك العمل الظاهر .. 206
... ـ العمل الرابع عشر: الاستغاثة بالمخلوق ...... 207
... ـ مسألة التوسل بالمخلوق .................... 213
... ـ العمل الخامس عشر: التوجه بأي عمل تعبدي
... للمخلوق ..................................... 218(1/189)
... ـ الفهرس ...................................
www.abubaseer.com(1/190)