تلخيص كتاب الاستغاثة ج 1
____________________
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مما وجد في مجموع مخطوط فيه مسائل شتى لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ومنه فصل في ذكر البكري الذي رد على شيخ الإسلام في مسألة الاستغاثة أثبتنا هنا ما عثرنا عليه بحروفه وبالله التوفيق وهذا نصه فصل في ذكر البكري
قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تاريخه اسمه على بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي المصري توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر ودفن بالقرافة وقد هم السلطان بقتله مرارا فتشفع فيه
____________________
(1/49)
الأمراء وكان يقال له نور الدين أبا الحسن
له رد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين أضحك فيها على نفسه العقلاء وشمت به فيها الأعداء لأن مثله مثل ساقية صغيرة كدرة الماء لاطمت بحرا عظيما صافي الماء قد ملئ درا وجوهرا وحكمة وعلما أو كرملة صغيرة أرادت زوال جبل شامخ عن محله حطما فكان كما قال عنه شيخ الإسلام إبن تيمية إن كلامه لا يتكلم به أحد من أهل العلم والإيمان وإنما يتكلم به أعور بين عميان يروج عليهم بسبب ضلالهم وإضلالهم ما يقوله من الهذيان
وكان شيخه شمس الدين الجزري قد رد عليه فيما دخل فيه في هذا المسألة من التكفير و أعظم عليه في ذلك النكير و بين أن هذا الكلام الذي صدر منه لا يقوله أحد ممن يعرف بالعلم و الإيمان و إنما يقوله جاهل في غاية الجهل أو صبي مع الصبيان و أخذ شيخه يندب على مصر و ينوح إذ كان مثل هذا الكلام يظهر به فيها شخص و يبوح
قال ابن تيمية رأيت أن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء و إنما
____________________
(1/50)
يستحق التأديب البليغ و النكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام ولا خبرة بأقوال أهل العلم الذين هم أئمة أهل الإسلام بل يريد أن يتكلم بنوع مشاركة في فقه و أصول و تصوف و مسائل كبار بلا معرفة و لا تعرف و الله أعلم بسريرته هل هو طالب رياسة بالباطل أو ضال يشبه الحالي بالعاطل أو اجتمع فيه الأمران وما هو من الظالمين ببعيد
قال و كلامه في الاستغاثة بغير الله أتى فيه من الجهالات بالعجب العجاب
قال فمجموع ما قاله ما علمت أنه سبقه إليه أحد من المسلمين و مع هذا إنه لم يجترئ على أن يكتب فيها شيئا حتى نظر جوابي في الاستفتاء الذي كتبته و أرسل به إلي فاستعان به على ما قاله و أعاره بعض الأمراء كما أخبرني كتابي الذي كنت صنفته من مدة و سميته الصارم المسلول على شاتم الرسول فإني ذكرت فيه ما يجب على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم من العقوبات الشرعية و ذكرت فيه من أصول هذه المسألة و فروعها و الدلائل الشرعية عليها و كلام أئمة الإسلام فيه ما يعرفه من وقف عليه فأخذ هذا الكلام مما ذكرته في ذلك و جعلته صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق و الاعتداء ما استعمله هذا الجاهل الظالم في حق أهل العلم و الاهتداء
إلى أن قال شيخ الإسلام ثم إن الأصحاب تقاضوني تعليقا على
____________________
(1/51)
كلام هذا الظالم الجاهل لئلا يضل بكلامه بعض الطغام حتى قال لي بعضهم إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام إذ فيها بيان التوحيد و نفي الشرك عن الصمد المجيد فإن أول ما نشأ الشرك و عبادة غير الله من القبور
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الهياج الأسدي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته
فأمره بمحو الشرك و أصله الذي ينشأ منه
و المقصود أن الشيخ رد على البكري و نقض قوله نقضا أجاد فيه و أفاد و بين ما فيه من حق و باطل في مجلدة كبيرة أبطل فيها أنواع الشرك الاعتقادي و العملي و ما يتفرع منهما بالأدلة و البراهين القاطعة المقبولة التي تسر قلوب أهل السنة و تقر أعينهم عند سماعها و تسود وجوه أهل الأهواء و البدع و يرهقها قتر و ذلة فرحم الله من قبل الحق و نصره و رد الباطل و خذله و أهله
و مما استدل به البكري الحديث الذي يروي أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة و جرى ما جرى استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد قال له لما نفخت في الروح رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق عليك فقال صدقت
____________________
(1/52)
يا آدم إنه لأحب خلقي إلي وإذ سألتني به فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك وهو آخر الأنبياء من ذريتك
____________________
(1/53)
____________________
(1/54)
ذكره في رده مع نظائره من هذا الجنس الذي لا يستجيز الصبيان ذكره فضلا عن الجهال فضلا عمن شم للعلم شمة أو نشق له رائحة
____________________
(1/55)
قال وقد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين من لا أحصيهم كثرة ولم يروه من المرويات المنكرة
قال وقد جاء أن نوحا وإدريس وأيوب وموسى وجماعة من الأنبياء توسلوا به
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في نقضه كلامه وحله إبرامه
فيقال أولا هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي لم يسبقه أحد من الأئمة إليه وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية وأضلهم في المسالك الدينية
فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد حسن ولا صحيح بل ولا ضعيف يستأنس به ويعتضد به وإنما نقل هذا وأمثاله كما تنقل الإسرائيليات التي كانت في أهل الكتاب وتنقل عن مثل كعب ووهب وابن إسحاق ونحوهم ممن أخذ ذلك عن مسلمة أهل
____________________
(1/56)
الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم كما روى أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات فكان يحدث منها بأشياء
ويكفيك أن هذا الحديث ليس في شئ من دواوين الحديث التي يعتمد عليها لا في الصحاح كالبخاري ومسلم وصحيح أبن خزيمة وأبي حاتم بن حبان وابن منده والحاكم ولا في المستخرجة على
____________________
(1/57)
الصحيح لأبي عوانة وأبي نعيم ومستخرج البرقاني والإسماعيلي ولا في السنن ك سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ولا في الجوامع ك جامع الترمذي وغيره ولا في المسانيد ك مسند أحمد ونحوه ولا في المصنفات ك موطأ مالك ومصنف عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شية ووكيع ومسلمة ولا في كتب التفسير المروية بالأسانيد التي يميز فيها بين المقبول والمردود ك تفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وابن أبي شيبة وبقي بن مخلد ونحوهم وتفسير ابن أبي حاتم وابن داود ومحمد بن جرير وأبي بكر بن المنذر وابن مردويه
وقد جمع غير واحد من الحفاظ قصة آدم ومن أجمعهم أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه الكبير فإنه روى عامة ما رواه الناس ولم يذكر هذا وإنما ذكر هذا وأمثاله من يجمع الموضوعات الكثيرة والأكاذيب العظيمة مثل مصنف كتاب وسيلة المتعبدين الذي صنفه الشيخ عمر الموصلي ومثل تنقلات الأنوار للبكري الذي فيه من الكذب والأكاذيب مما لا يخفى على فطن لبيب ومثل القاضي عياض بن موسى البستي مع علمه وفضله ودينه أنكر العلماء عليه كثيرا مما ذكره في شفائه من الأحاديث والتفاسير التي يعلمون أنها من الموضوعات والمناكير مع أنه قد أحسن فيه وأجاد بما فيه من تعريف حقوق خير العباد وفيه من الأحاديث
____________________
(1/58)
الصحيحة والحسان ما يفرح به كل من عنده إيمان
وإذا كان تفسير الثعلبي وصاحبه الواحدي ونحوهما فيها من الغريب الموضوع في الفضائل والتفسير ما لم يجز معه الاعتماد على مجرد عزوه إليها فكيف بغيره ك تفسير أبي القاسم القشيري و أبي الليث السمرقندي و حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي الذي ذكر فيه عن جعفر و نحوه ما يعلم أنه من أعظم الكذب
مع أن هؤلاء المصنفين أهل صلاح و دين و فضل و زهد و عبادة و لكنهم كما
قال مالك أدركت في هذا المسجد سبعين شيخا كل له فضل و صلاح و دين ولو ائتمن أحدهم على بيت مال لأدى فيه الأمانة يقول أحدهم حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نأخذ عن أحد منهم شيئا و كان ابن شهاب يأتينا وهو شاب فنزدحم على بابه لأنه كان يعرف هذا الشأن
وقال أيوب السختياني إن من جيراني لمن أرجو بركة دعائه في السحر ولو شهد عندي على حزمة بقل لم أقبله
و سئل عن بعضهم فقال رجل صالح و للحديث رجال يعرفون به و للدواوين حساب و كتاب
و قد روى أبو بكر الآجري و ابن الجوزي آثارا في أن اسم النبي
____________________
(1/59)
صلى الله عليه وسلم كان مكتوبا على ساق العرش و على أبواب الجنة
وهذا ممكن فإنه قد ثبت عن ميسرة قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا وفي رواية متى كتبت نبيا قال ( ( و آدم بين الروح و الجسد ) )
____________________
(1/60)
و في مسند أحمد و غيره بإسناد حسن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته سأنبئكم بأول أمري دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى و رؤيا أمي رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) )
____________________
(1/61)
____________________
(1/62)
____________________
(1/63)
____________________
(1/64)
وفي حديث أبي هريرة سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة قال ( ( بين خلق آدم و نفخ الروح فيه ) ) رواه الترمذي و حسنه
ففي هذه الأحاديث أن الله كتب اسمه بعد خلق آدم و قبل نفخ الروح فيه
و أما ما يرويه كثير من الجهال و الاتحادية و غيرهم من أنه قال كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين و آدم لا ماء و لا طين فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدا من المحدثين لم يذكره و معناه
____________________
(1/65)
باطل فإن آدم عليه السلام لم يكن بين الماء و الطين قط فإن الطين ماء و تراب و إنما كان بين الروح و الجسد
ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجودا و أن ذاته خلقت قبل الذوات و يستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراه مثل حديث فيه أنه كان نورا حول العرش فقال يا جبريل أنا كنت ذلك النور و يدعي أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل
و المقصود هنا أن الله سبحانه و تعالى كتبه نبيا بعد خلق آدم قبل نفخ الروح فيه
وهو موافق لما أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك
____________________
(1/66)
ثم يكون مضغة مثل ذلك إلى آخره بين فيه خلق الجنين و تنقله من حال إلى حال فناسب هذا أنه بين خلق آدم و نفخ الروح فيه تكتب أحواله و من أعظمها كتابة سيد ولده
و إذا كان هذا ثابتا أمكن أن يكتب اسمه كما رواه بالإسناد لكن الجزم بثبوته يحتاج إلى دليل يثبت بمثله فما علمناه قلناه وما لم نعلمه أمسكنا عنه
و الرب تعالى قد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة و عرشه على الماء قد علمهم و ما هم عاملون ثم أبرزهم في أحايين قدرها فكل يوم هو في شؤون يبديها لا شؤون يبتديها وقد بسط الكلام على هذا في مواضع
فما ذكره البكري في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلح للاعتماد ولا للاعتضاد ولا للاستشهاد فإن من الأحاديث الضعيفة ما يستشهد به و يعتبر كأحاديث ابن لهيعة و إبراهيم
____________________
(1/67)
الهجري بل و لا له إسناد معروف عن أحد من الصحابة ولا التابعين الذين يأثرون ما يذكرونه من مثل هذا عن الصحابة ليقال مثل هذا لا يقولونه إلا توقيفا
و مما يبين كذب هذا أن الله سبحانه و تعالى قال { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا } فأخبر أنه تاب عليه بالكلمات التي تلقاها منه
وقد قال تعالى { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } الآية فأخبر أنه أمرهم بالهبوط عقب هذه الكلمات
و أخبر أنه تاب عليه عقب الكلمات و أمره بالهبوط فكان أمره بالهبوط عقب الكلمات التي تلقاها منه وهي قولهما { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } أو كلمات تشبه هذه الكلمات ذكر ذلك طائفة كثيرة من المفسرين
و من ذكر أن الكلمات التي تلقاها من ربه غير هذه لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة في هذه الكلمات أشياء كثيرة كلها تدور على ما ذكره الله في كتابه من قول آدم و حواء { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }
____________________
(1/68)
و أيضا فإن قولهما { ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا } يتضمن الإقرار و الاستغفار
و من هو دون آدم إذا أقر بذنبه و استغفر منه غفر له كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ( ( إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه و تاب تاب الله عليه ) )
وقال تعالى { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما }
و كذلك الآية التي في آل عمران { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }
____________________
(1/69)
و إذا حصلت مغفرة بالتوبة حصل المقصود بها لا بغيرها
و قد ثبت في الصحيح عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( ( يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله و أن التوبة تهدم ما كان قبلها ) )
و أيضا فلو كان آدم قد قال هذا لكانت أمة محمد أحق به منه بل كان الأنبياء من ذريته أحق به
وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته به و لا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار ولا نقله أحد من العلماء الأبرار فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع و الاختلاق الذين وضعوا من الكذب أكثر مما بأيدي المسلمين من الصحيح لكن الله فرق بين الحق و الباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء التعديل و التجريح
و هذا من جنس ما يرويه بعض العامة إذا سألتم الله فسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم وهو كذب موضوع من الأحاديث
____________________
(1/70)
المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام
قال الإمام أحمد للناس أحاديث يتحدثون بها على أبواب دورهم ما سمعنا بشيء منها وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لم نعلم و القول على رسوله صلى الله عليه قول عليه لأن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم من أمر فالله أمرنا به فلو كان قد قاله لكنا مأمورين به ولا يجوز أن نقول إن الله أمرنا ما لم نعلم أن الله أمرنا به فكيف إذا لم يذكره عالم ولا عارف فكيف إذا كان أهل المعرفة بالحديث يقطعون بأنه كذب موضوع و العلم بذلك علم مسلم لأهله لهم فيه طرق و معارف يختصون بها كما يختص علماء الأحكام بالعلم بطرقها
و لهذا كان أحمد بن حنبل يعطي كل ذي حق حقه كان يعرف ليحيى بن معين معرفته بالفن الأول و يقدمه في معرفة الرجال و يكرمه و يعظمه و كان يحيى يتكلم في الشافعي بكلام ليس بمستقيم حتى أنه أخذ كلامه في قتال البغاة فجاء به إلى أحمد منكرا على الشافعي بعض ما فيه من ذكر قتال البغاة و إدخال ذكر قتال علي و طلحة و الزبير فيه فقال له وهل يمكنه أن يقول في هذا المقام إلا هذا و أظنه قال له لا تتكلم فيما لا تحسن أو نحوه من الكلام الذي فيه إنكار على يحيى لأجل
____________________
(1/71)
إنكاره على الشافعي في طرق الأحكام التي كان الشافعي أعلم بها منه و إن كان يحيى أعلم بالرجال من الشافعي
و كلام يحيى بن معين و البخاري و مسلم و أبي حاتم و أبي زرعة و النسائي و أبي أحمد بن عدي و الدارقطني و أمثالهم في الرجال و صحيح الحديث و ضعيفه هو مثل كلام مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أمثالهم في الأحكام و معرفة الحلال من الحرام وفي الأئمة من هو إمام مع هؤلاء و هؤلاء مشارك للطائفتين و إن كان بأحد الصنفين
و أكثر أئمة الحديث و الفقه كمالك و الشافعي و أحمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و كذلك الأوزاعي و الثوري و الليث هؤلاء و كذلك لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة و لأبي حنيفة أيضا ما له من ذلك و لكن لبعضهم في الإمامة في الصنفين ما ليس للآخر وفي بعضهم من ضعف المعرفة بأحد الصنفين ما ليس في الآخر فرضي الله عن جميع أهل العلم و الإيمان
و نقول { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
____________________
(1/72)
و أما قوله إن هذا قد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين و المحدثين إلى آخره فما أدري من أيهما أعجب من تكثيره لمن رواه كأنهم من الحفاظ الكبار أو من سكوته عن مقابلتهم بالرد و الإنكار إذ مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن هو عارف بطرق الحديث مميز بين الصحيح و الضعيف
و مثل هذا لا يرويه إلا أحد الرجلين رجل لا يميز بين الصحيح و الضعيف و الغث و السمين وهم جمهور مصنفي السير و الأخبار و قصص الأنبياء كالثعالبي و الواحدي و المهدوي و الزمخشري و عبدالجبار بن أحمد و علي بي عيسى الرماني و أبي عبدالله ابن الخطيب الرازي و أبي نصر ابن القشيري و أبي الليث السمرقندي و أبي عبد الرحمن السلمي و الكواشي الموصلي و أمثالهم من المصنفين في التفسير فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم ولا لهم خبرة بالمروي المنقول ولا لهم خبرة بالرواة النقله بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح و الضعيف ولا يميزون بينهما لكن منهم من يروي الجميع و يجعل العهدة على الناقل كالثعلبي و نحوه ومنهم من ينصر قولا أو جملة إما في الأصول أو التصوف و الفقه بما يوافقها من صحيح أو ضعيف و يرد ما يخالفها من صحيح و ضعيف
و أما باب فضائل الأعمال و الأشخاص و الأماكن و الزمان و القبور فباب اتسع فيه الكذب و البهتان
____________________
(1/73)
و أما رجال التفسير القدماء فمنهم الإمام المتفق عليه كمجاهد الذي قال عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية و أسأله عنها
وقال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به
وعلى تفسيره يعتمد البخاري و الشافعي
و كذلك تفسير طاووس و سعيد بن جبير و عطاء بن أبي رباح و نحوهم من التابعين فإنهم بهذا الشأن من أعلم الناس
و كذلك أصحاب ابن مسعود كعلقمة و الأسود و عبيدة السلماني و غيرهم
و منهم من إسناده في التفسير عن ابن عباس منقطع وهو في نفسه ثقة كالسدي الكبير و الضحاك فإن الضحاك لم يصح سماعه من ابن عباس و السدي جمع ما ذكره من التفسير الذي ذكره عن التابعين كما جمع ابن إسحاق السيرة و علي بن أبي طلحة الوالبي لم يسمع من ابن عباس و قتادة ثقة حافظ في نفسه ورواية معمر عنه صحيحة و إن كان مالك أنكر ذلك لأجل القدر
و أما الكلبي و السدي الصغير فمتروكان
و كذلك مقاتل بن سليمان بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة وأصحاب ابن عباس الأخصاء الذين رووا عنه ما فسره من القرآن وما رواه من الحديث وما نقلوه عنه في سائر العلوم الحديث والفقه والتفسير
____________________
(1/74)
و شرح الغريب و غير ذلك سعيد بن جبير و طاووس بن كيسان و مجاهد ابن جبر و عكرمة مولاه و عمرو بن دينار وجابر بن زيد أبو الشعثاء و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فهؤلاء هم المخصوصون به و بطريقهم انتشر علمه
و أما التفاسير المضافة إليه كالتفسير الذي يرويه جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس فجويبر ضعفه علي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وقال أحمد لا يشتغل بحديثه و قال يحيى بن سعيد الخرساني البلخي لا يلتفت إليه و قال علي بن الجنيد و الدارقطني متروك و الضحاك لم يسمع من ابن عباس حرفا واحدا
و تفسيرآخر يرويه عبيدالله بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس و يقال إن عبيدالله هذا في الوهن و الضعف أنزل من جويبر
و تفسير آخر يرويه محمد بن سعد العوفي عن آبائه عن عطية العوفي عن ابن عباس و عطية بن سعد ضعيف تكلم الناس فيه
و تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال أحمد علي بن أبي طلحة ضعيف ولم يسمع من ابن عباس شيئا
و تفسير يرويه محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس والكلبي كذاب و باذام ضعيف ولم يسمع من ابن عباس شيئا
قال عبد الصمد بن الفضل سئل أحمد عن تفسير الكلبي فقال كذب فقيل له أفيحل النظر فيه قال لا
____________________
(1/75)
و قال عبدالله بن أحمد سمعت أبي يقول ترك عبدالرحمن بن مهدي أبا صالح باذام و كذلك ضعفه سفيان و غيره وكان الشعبي يمسك بأذنه ويقول ويلك أنت لا تحفظ القرآن و تفسر القرآن وكان مجاهد ينهى عن تفسيره قاله البخاري
وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسمي أبا صالح دروع زن أي كذابا يكذب
وقال الإمام أحمد ثلاث علوم ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير وفي لفظ ليس لها أسانيد
ومعنى ذلك أن الغالب عليها أنها مرسلة و منقطعة فإذا كان الشيء مشهورا عند أهل الفن قد تعددت طرقه فهذا مما يرجع إليه أهل العلم بخلاف غيره
و أما تفاسير تابع التابعين كقتادة ومعمر وسفيان الثوري و ابن أبي عروبة وابن جريج و غيرهم ممن صنف التفاسير فإنما يذكرون من أصولهم ما سمعوه من شيوخهم عن الصحابة و التابعين
و قد صنف في تفاسير الصحابة و التابعين و تابعيهم كتب كثيرة يذكرون فيها ألفاظهم بأسانيدها مثل تفسير وكيع وعبدالرزاق وعبد
____________________
(1/76)
ابن حميد وآدم ابن أبي إياس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه و أبي بكر بن أبي شيبة و بقي بن مخلد وسنيد ودحيم وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير وأبي بكر بن داود ومن هؤلاء من لا يذكر شيئا عن مقاتل والكلبي
وعامة الكتب تحتاج إلى نقد و تمييز كالمصنفات في سائر العلوم من الأصول و الفروع و غير ذلك فإن الفقهاء قد وضعوا في الفقه أشياء كثيرة من الموضوعات والضعاف
أما جمهور المصنفين في الأخبار والتواريخ والسير والفتن من رجال الجرح والتعديل منهم من هو في نفسه متهم أو غير حافظ كأبي مخنف لوط بن يحيى و هشام بن محمد السائب الكلبي و إسحاق بن بشر و أمثالهم من الكذابين بل الواقدي خير من ملء الأرض مثل هؤلاء وقد علم ما قيل فيه ومحمد بن سعد كاتبة ثقة لكن ينظر عمن نقل و كذلك أبو الحسن المدائني و أمثاله و إن سلموا من الطعن فيهم فليسوا من علماء الجرح والتعديل حتى يكون ما رووه و لم ينكروا مقبولا
و إنما العالمون بالجرح والتعديل هم علماء الحديث وهم نوعان منهم من لم يرو إلا عن ثقة عنده كمالك و شعبة و يحيى ين سعيد و عبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل و كذلك البخاري و أمثاله و منهم من يروي عن الثقة و غيره للمعرفة ولما عنده من التمييز كالثوري و غيره
____________________
(1/77)
و الذين جمعوا المنقولات فيهم من يمكنه التمييز بين الصحيح و الضعيف في الغالب كالدارقطني وأبي نعيم والخطيب والبيهقي وابن ناصر و ابن عساكر و أبي موسى المديني و ابن الجوزي و أمثالهم لكن قد يروون في كتبهم الغرائب المنكرات و الأحاديث الموضوعات للمعرفة بها
وكما يروى عن أحمد أنه قال إذا سمعت أهل الحديث يقولون هذا الحديث فائدة فاعلم أنه غريب منكر يعني أنهم يستفيدون غرائب الحديث كما يستفيد الفقهاء و نحوهم غرائب الأقوال و الطرق و الوجوه و إن كانت وجوها سودا
و أبو نعيم يروي في الحلية في فضائل الصحابة وفي الزهد أحاديث غرائب يعلم أنها موضوعة و كذلك الخطيب وابن الجوزي وابن عساكر وابن ناصر و أمثالهم والدارقطني صنف سننه ليذكر فيها غرائب السنن وهو في الغالب يبين حال ما رواه وهو من أعلم الناس بذلك و البيهقي يعزو ما رواه إلى الصحيح في الغالب وهو من أقلهم استدلالا بالموضوع لكن يروي في الجهة التي ينصرها من المراسيل و الآثار ما يصلح للاعتضاد ولا يصلح للاعتماد ويترك في الجهة التي يضعفها ما هو أقوى من ذلك الإسناد
____________________
(1/78)
وهم فيما يقولونه من أصدق الناس و أثبتهم لكن الشأن في من قبلهم من الإسناد فإنهم كثيرا ما يتركون التمييز فيه بخلاف الأئمة الكبار الذين يعتمدون على الحديث و يحتجون به فيما بينهم و بين الله تعالى كمالك و الشافعي و أحمد و إسحاق وعبدالرحمن بن مهدي و يحيى بن سعيد والبخاري وأبي داود فإنهم يحررون الكلام في المتن و الإسناد والله الهادي إلى سبيل الرشاد
فإذا عرفت ذلك فلا يخلو ما رواه إما أن يكون من جنس ما رواه صاحب الفردوس شهردار الديلمي أو الشيخ عمر الملا صاحب وسيلة المتعبدين أو البكري صاحب تنقلات الأنوار و ابن سبع الذي له مصنف كبير في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم و مصنف صغير في كرامات الأولياء و أمثال هؤلاء ممن في كتابه من الكذب ما لا يحصيه إلا الله فهل يجوز الاعتماد على ما يرويه هؤلاء
أو يكون أرفع من هذا و إن كان فيها من الصدق ما لا يحصيه إلا الله ك تفسير الثعلبي والواحدي والشفا للقاضي عياض و تفسير أبي الليث و القشيري مما فيه ضعف كثير و إن كان الغالب عليه الصحيح
أو يكون من الحفاظ كأبي نعيم و الخطيب و ابن ناصر و أبي موسى و ابن الجوزي و عبد الغني و ابن عساكر و نحوهم فهؤلاء سكوتهم عن الإنكار في كثير مما يروونه لا يدل على الصحة عندهم باتفاق أهل الحديث
و أما الأولون فهم لا يعرفون الصحيح من السقيم فسكوتهم عن
____________________
(1/79)
الإنكار سكوت عموم المؤمنين الذين لا يعرفون حقائق الدين لا يميزون بين السنة والبدعة غير الإنكار على ما يرونه ويسمعونه من الأقوال والإعمال وإذا كان الراوي لهذا وأمثاله لا يخرج عن أن يكون غير عالم بهذا بما ينكره أو يكون عادته رواية هذا وأمثاله من غير بيان لعادة معروفة بينهم لم يكن لهذا فيما ذكره حجة
وأيضا فعلماء الدين أكثر ما يحررون النقل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه واجب القبول أو فيما ينقل عن الصحابة و أما ما ينقل من الإسرائيليات و نحوها فهم لا يكترثون بضبطها ولا بأحوال نقلها لأن أصلها غير معلوم و غايتها أن تكون عن واحد من علماء أهل الكتاب أو من أخذه عن أهل الكتاب لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن
____________________
(1/80)
يحدثوكم بباطل فتصدقوهم و إما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم ) )
فإذا كنا قد نهينا عن تصديق هذا الخبر و أمثاله مما يؤخذ عن أهل الكتاب لم يجز لنا أن نصدقه إلا أن يكون مما يجب علينا تصديقه مثل ما أخبرنا به نبينا عن الأنبياء و عن أممهم فإن ذلك يجب تصديقه مع الاحتراز في نقله فهذا هذا
وأعجب من هذا قوله إن نوحا وإدريس وأيوب وجماعة من الأنبياء توسلوا به فمثل هذا لا يجوز لمسلم أن يبني دينه الذي يكفر به من خالفه على مثل هذا النقل الذي لا يعتمد عليه من يدري ما يقول
ومعلوم أن ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم أضبط و أتم و أكمل وهو علينا أوجب و أمتنا به أعرف ولو قال قائل في زماننا قد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وفعل كذا محتجا به من غير أن يعرف ما يستند إليه من العزو والإسناد لكان قائل ذلك من أجهل الناس وأبعدهم عن طريق الرشاد دع من يستدل على تكفير غيره مما يرويه عن أولئك الأنبياء الذين قد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا حدثنا أهل الكتاب عنهم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم بل مثل هذا إذا وجدناه في كتب أهل الكتاب أو في كتب المسلمين منقولا لم يجز لنا أن نصدقه و من صدقه فقد عصى الله ورسوله ولو صح فغايته أن يكون شرع من قبلنا
والناس لهم في هذه المسألة قولان مشهوران أحدهما أنه ليس
____________________
(1/81)
شرعا لنا ما لم يرد به شرعنا فقد كان مشروعا لهم ما ليس مشروعا لنا من سجود بعضهم لبعض فإن ما جاء به نبينا من كمال التوحيد لم يجئ به نبي غيره و كذلك تحريم الإنسان على نفسه أشياء كما حرم إسرائيل على نفسه ما حرمه فإن الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا التوحيد و غيروا الدين بعث الله لهم نبيا يبين ما بدلوه و كتموه و نحن أخر الأمم فليس بعد نبينا نبي ينتظر
وفي المأثور عن الأنبياء المتقدمين ما يدل على أن ذلك لم يكن مشروعا لهم مثل ما ذكره الحافظ أبو نعيم في كتاب الحلية في ترجمة أحمد بن أبي الحواري قال حدثنا أبي حدثنا أحمد يعني محمد ابن عمر اللبناني حدثنا الحسين يعني أبا علي الحسين بن عبدالله بن شاكر السمرقندي سمعت عبدالله بن الجلا يقول قال يوسف عليه السلام اللهم إني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك ويعقوب إسرائيلك فأوحى الله إليه يا يوسف تتوجه
____________________
(1/82)
إلي بنعمة أنا أنعمت بها عليهم
قال أحمد فقلت لأبي سليمان الداراني كنت لبعض الأولياء قبل اليوم أشد حبا فقال إنما يتقرب إليه بحب أوليائه أولى ثم بعد منزلة تسعد القلب
وقد ذكر بعض الناس في هذا الأثر أن الله قال له وأي حق لآبائك علي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والنبوة كما قال تعالى بعد ذكره لهم و ثنائه عليهم { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل }
____________________
(1/83)
الآية
وكذلك الآية التي في النساء { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } 2 الآية
وقال في الفاتحة { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } 3
وأما ما استحقوه عليه فكقوله { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } 4 { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } 5
فهو سبحانه أحقه على نفسه بحكم إحسانه وفضله ووعده لا هم أحقوه عليه كالحق الذي لإنسان على من له عنده يد
ولهذا ليس لأحد أن يدل على الله بصلاح سلفه فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء كأهل الغار الثلاثة فإنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم لما علموا أن الله سبحانه وتعالى يثيب العاملين على أعمالهم كما قال { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } 06 )
وسعى غيره ليس له كما لا تزر وازرة وزر أخرى كما قال تعالى
____________________
(1/84)
{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }
وإن كان المرء قد ينتفع بسعي غيره لكنه ليس له فلا يمت ويدل بما ليس له
قال الشيخ قال المعترض وقد روى أن أبا جعفر لما ناظر مالكا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما قال { لا ترفعوا أصواتكم } س الآية وذم الآخرين فقال { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } الآية إن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به
____________________
(1/85)
قال الشيخ فيجاب الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما المطالبة بصحة هذه الحكاية وليس معه ولا مع من ينقلها بها إسناد صحيح ولا ضعيف وإنما غايته أن يعزوها إلى الشفا أو إلى من نقلها منه وكل عالم بالحديث يعلم أن في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار ما ليس له أصل ولا يجوز الاعتماد عليه فإذا قال القاضي عياض ذكره فلان في كتابه فهو الصادق في خطابه وإذا لم يذكره من أين
____________________
(1/86)
نقله لم نتهمه ولكن نتهم من فوقه وقد رأيناه ينقل من كتب فيها كذب كثير وهو صادق في نقله منها لكن ما فوقه لا يجوز الاعتماد عليهم
الوجه الثاني أن يقال هذه الحكاية كذب بلا ريب من وجوه
منها أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة كما روى ذلك عن الصحابة
وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو القبر على قولين فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا وقال غيره يستقبل القبر وقت السلام عليه
وأما وقت الدعاء فما أعلم إماما خالف في أنه يستقبل القبلة بل الأئمة متفقون على أن قبلة المسلمين التي يستقبلونها في جميع أدعيتهم وأمكنتهم هي الكعبة ويستحب لكل من دعا الله أن يستقبل الكعبة حيث كان وأين كان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبلها فيستقبل وقت الذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرات وعلى الصفا والمروة وعقب الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره
وما جعل أحد من الأئمة قبر أحد من الأنبياء قبلة للدعاء وإنما يستقبل قبورهم أهل الجهل عند عباداتهم
ومن هؤلاء الغلاة من يستقبل قبورهم ويصلي إليها وقد ثبت في
____________________
(1/87)
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) )
ومنهم من يستقبل قبر شيخه وقت الصلاة ويستدبر الكعبة ويقول هذا قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وهذا كفر صريح يوجب استتابة قائله مع أنه يفعله طائفة من الزهاد والعباد وبعضهم يسجد لقبورهم
وكذلك قصد قبورهم للصلاة والدعاء بدعة وقد ثبت عن مالك وغيره من الأئمة أنهم جعلوا ذلك من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين
فعلم أن هذا كذب على مالك مخالف لمذهبه كما كذبوا عليه أنه كان يأخذ طنبورا يضرب به ويغني لما كان في المدينة من يغني حتى إن أكثر المصنفين في إباحة السماع كأبي عبدالرحمن السلمي والقشيري وأبي حامد ومحمد بن طاهر المقدسي وغيرهم يذكرون إباحته عن مالك وأهل المدينة وهو كذب فإنه قد علم بالتواتر من مذهبه النهي عن ذلك حتى قال إسحاق بن الطباع سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق
ومنها أن مالكا من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي
____________________
(1/88)
صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا يستريب أحد في ثبوته عنه مع أن لفظ زيارة القبور في الجملة مما جاءت به السنة في غير قبره كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن فزوروا القبور فإنها تذكر الموت
والأحاديث في ذلك كثيرة ثم بسط الشيخ الكلام على ذلك
وأما ما ذكره من أن أهل المدينة شكوا إلى عائشة فأمرتهم أن يعملوا من قبره كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت شحما فسمي عام الفتيق فقد ذكر هذا فيما أظن محمد بن الحسن بن زبالة فيما صنفه في أخبار المدينة
____________________
(1/89)
وجوابه من وجهين
أحدهما أن هذا محمد بن زبالة ضعيف لا يحتج به والثابت عن الصحابة باتفاق أهل العلم أنهم كانوا إذا استسقوا دعوا الله إما في المسجد وإما في الصحراء وهذا الاستسقاء المشروع باتفاق أهل العلم فإنهم اتفقوا على دعاء الله واستغفاره
واختلفوا هل يصلى للاستسقاء على قولين وجمهورهم على أنه يصلى له وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأما أبو حنيفة فلم يعرف الصلاة في الاستسقاء والجمهور عرفوا ذلك بما ثبت في الصحاح
____________________
(1/90)
والسنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين والصحابة في زمن عمر وغيره صلوا واستشفعوا بالعباس وغيره ولم يكشفوا عن قبره ولو كان مشروعا لما عدلوا عنه
وهذا العلم العام المتفق عليه لا يعارض بما يرويه ابن زبالة وأمثاله ممن لا يجوز الاحتجاج به
ولو قال عالم يستحب عند الاستسقاء أو غيره أن يكشف عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين لكان مبتدعا بدعة مخالفة للسنة المشروعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه
ونحو هذا ما روى أن أهل القسطنطينية كانوا إذا أجدبوا يستسقون بقبر أبي أيوب الأنصاري وقد روي أن أهل تستر كانوا يفعلون ذلك بقبر
____________________
(1/91)
دانيال وأن أبا موسى كتب عمر في ذلك فكتب إليه عمر إذا كان النهار فاحفر ثلاثة عشر قبرا ثم اجعله في أحدها ليخفى على الناس
وهذا قد رويناه في كتاب المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير إلى أبي العالية وذكره البيهقي في كتاب شعب الإيمان وذكره غيره وهذا من فعل أهل الكتاب لا من فعل
____________________
(1/92)
المسلمين فليس فيه حجة فلا يحتج به محتج
وأيضا فحجرة عائشة كان منها ما هو مكشوف لا سقف له كما روي عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل كذلك مدة حياة عائشة فكيف يحتاج أن يفتح في سقفها كوة إلى السماء
فإن قيل فتحت الكوة في قبل الحجرة محاذية للقبر فهذا كذب ظاهر فإن الحجرة لم يكن لها هناك كوة ينزل منها من ينزل لكنس الحجرة وإنما كان هذا بعد موت عائشة في أيام عمرت الحجرة
الثاني أن هذا الفعل ليس حجة على محل النزاع سواء أكان مشروعا أو لم يكن فإن هذا استنزال للغيث على قبره والله تعالى ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين وليس في ذلك سؤال لهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة بهم والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيا أو وليا ليس مشروعا ولا هو من صالح الأعمال إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب
وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين
____________________
(1/93)
حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيا كان أو ميتا وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة ويظن الغر أنه المستغاث به أو أن ملكا جاء على صورته وإنما هي شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتا فيقول يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك أنا في جاهك قد أصابني كذا وجرى على كذا ومقصوده قضاء حاجته إما من الميت أو به ومنهم من يقول للميت اقض ديني واغفر ذنبي وتب على ومنهم من يقول سل لي ربك ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونثره ومنهم من يقول يا سيدي الشيخ فلان أو يا سيدي رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله
وهؤلاء قد رأيتهم وسمعت هذا منهم ومن شيوخ يقتدي بهم ومفتين وقضاة ومدرسين
ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد من السلف ولا شرع الله ذلك ولا رسوله ولا أحد من الأئمة ولا مع من يفعل ذلك حجة شرعية أصلا بل من فعل ذلك كان شارعا من الدين ما لم يأذن به الله فإن هذا الفعل منه
____________________
(1/94)
ما هو كفر صريح ومنه ما هو منكر ظاهر سواء قدر أن الميت يسمع الخطاب كما إذا خوطب من قريب أو قدر أنه لا يسمعه كما إذا خوطب من بعيد فإن مجرد سماع الميت للخطاب لا يستلزم أنه قادر على ما يطلب الحي منه وكونه قادرا عليه لا يستلزم أنه شرع لنا أن نسأله ونطلب منه كل ما يقدر عليه فليس لنا في حياة الرسل أن نسألهم كل ما يمكنهم فعله بل ولا نسأل الله تعالى كل ما يمكنه فعله بل الدعاء عبادة شرعية فكيف يجوز أن نسألهم ذلك بعد مماتهم وليس لنا أن نسألهم كل ما يقدر الله عليه من المفعولات ليسألوا ربهم إياه كما سأل قوم موسى موسى أن يريهم الله جهرة وسألوا المسيح إنزال المائدة وسألوا صالحا الناقة وسألوا الأنبياء الآيات
فلو قال قائل سؤال الغائب حيا وميتا كسؤال الشاهد فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب الناس البعيدين له
قلنا هذا محال في العادة المعروفة وإذا وقع ذلك في بعض الصور كان من باب خرق العادة والعادة قد تخرق بأن يسمع الأدنى
____________________
(1/95)
خطاب الأعلى كما سمع سارية خطاب عمر يا سارية الجبل يا سارية الجبل
ويجوز خرق العادة بالعكس لكن إثبات هذا في حق معين لا يكون إلا بحجة تدل على وقوع ذلك في حقه
____________________
(1/96)
فإن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الخطاب البعيد والقريب
قيل ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين القريب والبعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك
ففي السنن حديث أوس بن أوس الذي رواه أبو داود وغيره ورواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة على ) )
قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت
قال يقولون بليت قال ( ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) )
____________________
(1/97)
____________________
(1/98)
والحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) )
____________________
(1/99)
والحديث الذي رواه النسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام ) )
____________________
(1/100)
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حبان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيدالله بن نافع حدثنا العلاء بن عبدالرحمن قال سمعت الحسين بن علي يقول قال رسول الله
____________________
(1/101)
صلى الله عليه وسلم ( ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ولا تتخذوا بيتي عيدا صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم ) )
وروى الروياني في مسنده والبزار وغيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال قال لي عمار بن ياسر قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ( ( يا عمار إن لله ملكا أعطاه الله إسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه فقال صلى عليك فلان كذا وكذا فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحدة عشرا ) )
____________________
(1/102)
____________________
(1/103)
وقال أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك فلا يصلي عليك كذا وكذا صلاة
وقال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحراث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال
____________________
(1/104)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ ) )
قال قلت وبعد الموت
قال ( ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) )
____________________
(1/105)
فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه وأن ذلك يصل حيثما كنا
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( ما من أحد يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) ) وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد وأبي داود وغيرهما في السلام عليه عند قبره وزيارة قبره إذ لم يكن معهم سنة يستندون إليها في زيارة قبره إلا هذا الحديث
والأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة وأكثرها
____________________
(1/106)
وضعت بعد الإمام أحمد وأمثاله
فهذه النصوص التي ذكرناها تدل على أنه يسمع سلام القريب ويبلغ سلام البعيد وصلاته لا انه يسمع ذلك من المصلي والمسلم وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك والحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهم العلماء منه السلام عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد فإن السنة إذا زار الرجل القبور مطلقا أن يسلم عليهم ويدعو لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم
____________________
(1/107)
وقد بسط الشيخ الكلام في هذا الموضوع بسطا طويلا ومقصوده توحيد الله سبحانه وطلب الحوائج منه والذب عن حومة الإخلاص وأن لا يسأل إلا الله
ثم قال والمقصود هنا أن المعترض المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال والالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال والإضلال لجميع الناس بل قال لم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص قديما وحديثا وأنه يصح إسنادها إلى المخلوقين وهذا كلام صحيح لكن يقال له لم يزل الناس يفهمون أنها طلب من المستغاث به أو طلب من غيره به والثاني لا سبيل إليه والأول لم ينازع فيه أحد إذا طلب من المستغاث ما شرع طلبه منه مما يقدر عليه إذ لا يقدر أحد على الأشياء كلها إلا الله وحده والمخلوق له حال يخصه ويليق به
ثم قال الشيخ فإن هنا أربعة معاني
أحدها أن يسأل الله تفريج الكربة بالمتوسل به ولا يسأل المتوسل به شيئا كما يفعله كثير ممن يتوسل بالأموات
أو أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو كما كان الصحابة
____________________
(1/108)
يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ثم من بعده بعمه العباس وبيزيد بن الأسود الجرشي وغيرهما
____________________
(1/109)
والثالث أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله
والرابع أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله
فأما الأول فهو سائل لله وحده ومستغيث به وليس مستغيثا بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به
وأما الثاني فهو استغاثة بالله في تفريج الكربة واستغاثة بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به أي بدعائه وشفاعته وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله أو في حال مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال
وكذلك الثالث إذا سأل المتوسل به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به
وأما الرابع وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة فهذا استغاثة به ليس توسلا به بل المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم يكن قادرا
____________________
(1/110)
عليه لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه
فالأول سؤال به وليس استغاثة أصلا وبعض الناس يسميه توسلا به
والثاني فيه استغاثة به وتوسل به
والثالث فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به
والرابع استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة وليس هذا هو التوسل به
والتوجه المشروع الذي كانت الصحابة تفعله إنما كان بدعائه وشفاعته ولا ريب أن من سأل الله تفريج الكربة بواسطة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته فقد استغاث به وهذا جائز كما كان الناس يفعلونه في حياته وكما يفعلونه في الآخرة في حياته أيضا ولكن هذا ليس مشروعا بعد موته ولم يفعله أحد من الصحابة بعد موته بل عدلوا عن التوسل بدعائه وشفاعته إلى التوسل بدعاء غيره من الأخيار كالعباس ويزيد بن الأسود وغيرهما فلا دين إلا ما شرعه الله ورسوله كما أنه لا حرام إلا ما حرمه
____________________
(1/111)
ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له دينا لم يؤذن له به وليس معه في الاستغاثة بهم سوى فعل بعض المتأخرين وكلامهم ممن ليس هو معدود من أهل الإجماع والاختلاف فليس معه تقليد المقلدين ولا اجتهاد المجتهدين ومن ابتدع بدعة في الدين بدون اجتهاد أهل الاجتهاد أو التقليد لأهل الاجتهاد كان من أهل الضلال والغي لا من أهل الهدى والرشاد
وأما السؤال بهم فغاية ما معه فيه قول بعض العلماء مع منازعة غيره له فيه وقد قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يجوز السؤال لله بالأنبياء والصالحين فكيف بالاستغاثة بهم مع أن الاستغاثة بالميت والغائب مما لا نعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا وإنما كانوا يستشفعون ويتوسلون بهم بمعنى أنهم يسألون الله لهم مع سؤالهم هم لله فيدعو الشافع والمشفوع له كما قال عمر بن الخطاب اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
____________________
(1/112)
فيسقون
وكما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فيما ينزل حتى يجيش له ميزاب ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
وكذلك قال معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بيزيد بن الأسود فقال اللهم إنا نستشفع أو نتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى سقوا
ومنه قول الأعرابي إنا نستشفع بك على الله
____________________
(1/113)
ومنه قول الأعمى اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي
ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي
____________________
(1/114)
يستنصر بهم فقد تبين أن الاسترزاق والاستنصار يكون بالمؤمنين بدعائهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم
ومن استنصر بشخص أو استفتح به أو استسقى به لا يجب أن يكون خيرا من غيره ولا افضل منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من صعاليك المهاجرين وكذلك عمر ومن معه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أفضل من العباس لكن ينبغي أن يكون المستنصر به والمسترزق به له مزية على غيره من الناس بصلاح أو قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كقوله سبقك بها عكاشة وإن من عباد الله من لو أقسم على الله
____________________
(1/115)
لأبره منهم البراء بن مالك
وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له قال اللهم اجب دعوته وسدد رميته وأبو بكر وعمر أفضل منه
____________________
(1/116)
ولم يجيء فيهما نص خاص بذلك
ومثل هذه الفضائل التي للمفضول تارة تكون ثابتة للفاضل وتارة يكون له ما هو أفضل منها مثل حديث أويس القرني وقوله لعمر إن استطعت أن يستغفر لك فافعل وقد يكون الذي يستغفر له أويس أفضل من أويس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما ودعه لا تنسنا من دعائك أو أشركنا في دعائك ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر
____________________
(1/117)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( لا بأس بالرقى ما لم يكن شركا ) ) فنهى عن الرقى التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا }
ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك بل نهوا عن كل مالا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك بخلاف ما كان من الرقى
____________________
(1/118)
وسؤال الله بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين غير مشروع بخلاف الطلب من الله بدعاء الصالحين وبالأعمال الصالحة فإنه جائز لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا فإذا توسلنا إلى الله بالأعمال الصالحة وبدعائهم كنا متوسلين إليه بوسيلة كما قال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } فالوسيلة هي الأعمال الصالحة
وأما إذا توسلنا إليهم بنفس ذواتهم لم يكن في نفس ذواتهم سبب
____________________
(1/119)
يقتضي إجابة دعائنا ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحا ولا متواترا ولا مشهورا عن السلف ونحن إنما ننتفع باتباعنا لهم ومحبتنا لهم وهم لهم عند الله من الدرجات والمنازل أمر يعود نفعه إليهم فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبينا ومحبته وموالاته واتباع سنته فهو من أعظم الوسائل فالتوسل به من غير متابعة له في الأعمال لا يجوز أن يكون وسيلة فإن المتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منه فبأي شيء يتوسل ولا يجوز أن يقسم
____________________
(1/120)
على الله بغيره من المخلوقات أصلا
وقوله تعالى { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } فعلى قراء الخفض فقط قال طائفة من السلف هو قولهم أسألك بالله وبالرحم وهذا إخبار عن سؤالهم بالرحم أي بسبب الرحم أي الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض فيكون سؤالهم
____________________
(1/121)
بالرحم كسؤال الثلاثة بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته
ومن هذا الباب ما روى أن عبدالله بن جعفر كان إذا سأل عليا سأله بحق جعفر أعطاه وليس هذا من باب الإقسام فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل الباء هنا باء السبب فحقه من باب حق الرحم لأن حق ابنه عبدالله إنما وجب بسبب جعفر وحقه على علي رضي الله عنهما
ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
____________________
(1/122)
هذا والحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين
أحدهما لأن فيه السؤال لله بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أوجبه هو سبحانه على نفسه لا هم أوجبوه عليه فليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا
ومنه قوله تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة }
____________________
(1/123)
وقوله { وكان حقا علينا نصر المؤمنين }
{ كذلك حقا علينا ننج المؤمنين }
{ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن }
وفي حديث معاذ أتدري ما حق العباد على الله
وفي حديث أبي ذر إني حرمت الظلم على نفسي
وكل ذلك تفضلا منه ورحمة وإذا كان حق السائلين له هو الإجابة وحق العابدين له هو الإثابة فذلك سؤال له بأفعاله
____________________
(1/124)
كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ) ) إلى آخره فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله كما قال تعالى { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار }
____________________
(1/125)
وقوله { فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار }
وقال { إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين }
وقال تعالى عن الحواريين { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين }
ونحو ذلك توسلوا إلى الله في دعائهم بالإيمان به
____________________
(1/126)
وكان ابن مسعود يقول في السحر اللهم أمرتني فأطعتك ودعوتني فأجبتك وهذا تسحر فاغفر لي
ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذي أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج الله عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى إذا أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذا الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم
فقال رجل منهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج ) )
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من
____________________
(1/127)
السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبدالله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبدالله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فاخذ ذلك كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ) )
فهؤلاء الثلاثة سألوا الله وتوسلوا إليه بأعمال البر فالأول أخبر عن
____________________
(1/128)
بره بوالديه برا عاليا تاما أكمل البر وأحسنه والآخر أخبر عن عفته التامة الكاملة وعن همته العالية والآخر أخبر عن أداء الأمانة على الوجه الأكمل الأتم
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا خالد بن خداش بن العجلان وإسماعيل بن إبراهيم قالا حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه فالتفت إليها بعضنا وقال يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله قالت وما ذاك مات ابني قلنا نعم قالت أحق ما تقولون قلنا نعم فمدت يدها إلى الله فقالت اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تغيثني عند كل شدة ورخاء فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم قال فكشف الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب سائر ما يقدر
____________________
(1/129)
عليه وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء
يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله بذلك ويقسم عليه بذلك والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بلالا يقسم بها بحال فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ولا بكعبتك ولا بأنبيائك ولا بعبادك الصالحين كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء
وما يذكره بعض العامة من قوله ويروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت لكم إلى الله حاجة فسلوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء ومن دعا غيره كفر
____________________
(1/130)
وقد روي في المسند و الترمذي و غيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال ( ( يا أيها الناس اذكر والله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه ) ) قال قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي قال ( ( ما شئت ) ) قلت الربع قال ( ( ما شئت وإن زدت فهو خير لك ) ) قلت النصف قال ( ( ما شئت و إن زدت فهو خير لك ) ) قلت الثلثين قال ( ( ما شئت وإن زدت فهو خير لك ) ) قلت أجعل لك صلاتي كلها قال ( ( إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك و آخرتك ) )
وفي لفظ إذا تكفى همك و يغفر ذنبك
____________________
(1/131)
وقوله أجعل لك من صلاتي يعني من دعائي فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء قال تعالى { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) )
وقالت امرأة صل علي يا رسول الله و على زوجي فقال ( ( صلى الله عليك وعلى زوجك ) )
فيكون مقصوده يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به و أستجلب به الخير و أستدفع به الشر فكم أجعل لك منه قال ما شئت فلما انتهى
____________________
(1/132)
إلى قوله أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفي همك و يغفر ذنبك
وفي الرواية الأخرى إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك و آخرتك
وهذا غاية ما يدعو به الإنسان لنفسه من جلب الخيرات ودفع المضرات فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب كما قد بسط ذلك في مواضعه
وقد ذكر علماء الإسلام و أئمة الدين الأدعية المشروعة و أعرضوا عن الأدعية البدعية
وفي المسند عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ( من قال حين ينادي المنادي اللهم رب هذه الدعوة القائمة و الصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضى لا سخط بعده استجاب الله له دعوته ) )
____________________
(1/133)
فالذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم وهو من أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك فإن الصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وقد أمر الله بها في كتابه
وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه والثناء عليه ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء
____________________
(1/134)
رواه أحمد و أبو داود وهذا لفظه والنسائي والترمذي وقال حديث صحيح
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( الدعاء لا يرد بين الأذان و الإقامة ) )
رواه أحمد و أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن
____________________
(1/135)
وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما يرد على داع دعوته عند حضور النداء والصف في سبيل الله تعالى ) ) رواه أبو داود
____________________
(1/136)
وقد قال مالك لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك فكثير من هؤلاء الذين يعظمون القبور والمشايخ و يستغيثون بهم و يطلبون حوائجهم منهم يطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور وذلك من جنس السحر والشرك فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء حملا له من مكان إلى مكان فتارة تذهب به إلى مكة و تارة إلى بيت المقدس و غيره من البلاد و يكون زنديقا فاجرا إباحيا تاركا للصلاة وغيرها مما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم و فرضه و يستحل المحارم التي حرمها الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ويحلها لغيره و إنما تقترن به الشياطين و تخدمه لما فيه من الكفر والزندقة ومن الفسوق و العصيان فإذا آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم و تاب و التزم الطاعة لله و لرسوله فارقته تلك الشياطين و تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات و التأثيرات
وأنا أعرف من هؤلاء عددا كثيرا بالشام و مصر و الحجاز و اليمن و أما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها وذلك لأن ظهور هذه الأشياء من الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان في تلك البلاد أقوى وأظهر وظهور الإسلام والسنة وإحلاص الدين لله في أرض الشام أقوى من سائر البلاد فلهذا
____________________
(1/137)
ضعفت هذه الأحوال الشيطانية و أنكرت إذا ظهرت فيها و إذا ظهرت ولم تنكر و لم تغير قويت واشتدت شوكتها فحيث قويت الأحوال الرحمانية الإيمانية المحمدية والتوحيد ونور القرآن و ظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية فإن سلطانها إنما يقوى و تعظم جنوده في بلاد أهل الكفر والفسوق والعصيان كبلاد جنكر خان والهند والروم وغيرها من أهل الكفر والفسوق والعصيان فبلادهم فيها مادتان مادة كفر ونفاق و فسوق و عصيان و مادة علم وإحسان وإيمان فإذا غلبت إحدى المادتين على الأخرى أهلكتها
والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل الحبشة و النجشية و الطوينية والتوى ونحو ذلك من علماء المشركين و شيوخهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر ويصعد أحدهم في الهواء و يخبرهم بأمور غائبة و يبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم ولا يرون أحدا يضرب به و يطوف الإناء عليهم و لا يرون من يحمله وإذا نزل بأحدهم مئة ضيف أتاهم بطعام يكفيهم ويأتيهم بألوان مختلفة مع كفرهم وذلك كله من الشياطين تأتيه به من تلك المدينة أو من غير تسوقه
وهذه الأمور تكون كثيرة عند من يكون مشركا أو ناقص الإيمان وعند التتار من هذا أنواع كثيرة ولا سيما دولة تمرخان وأتباعه فإنهم سحروا الناس سحرا لم ير مثله و أظهروا أحوالا لا حقيقة لها فوافقت قدر
____________________
(1/138)
الله فعملت أعمالها
وذلك لما ضعف الإيمان بالشام وقل نور النبوة فظهر تأثير ذلك الأحوال في الناس لضعف الدين و امتلاء القلوب من حب الدنيا وظهور مناكير معروفة وكثرة الخبث و قلة الطيب
ولما كان الطيب غالبا قويا والإسلام فاشيا ظاهرا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائما به أهله منصورون معانون وأهل الفساد و الفسوق مقهورون ذليلون كان أولئك المذكورين بينهم و بين بلاد الشام خنادق و أسوار من قدر العزيز الجبار فلا يصلون إليها وكم قد حاولوا دخولها من سنين وشهور وأيام وقد ضرب الله بينهم وبينها بسد فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا فالأحوال الشيطانية عندهم كثيرة جدا ولهذا الدجال إنما يخرج من قبلهم و بلادهم وهم أتباعه و يظهر على يديه من الأحوال الشيطانية و الأمور الزنديقية ما يحار له الناظرون وهو كافر بالله العظيم
وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا الإيمان والتوحيد واتباع الرسول فتجد غالبهم ممن يعتقد الشيوخ والبله وأصحاب الأحوال الشيطانية ويأتي أحدهم إلى قبر الشيخ ويدعوه ويكشف رأسه عند قبره و يطلب حاجته منه و يستغيث به و يستنصر به وكل ذلك من ضعف الإيمان
____________________
(1/139)
واختلاط الشرك بالقلوب
ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين وزهد مع نوع جهل يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت ولا يبيت بمزدلفة ولا يطوف طواف الإفاضة و يظن أنه حصل له بذلك عمل صالح و كرامة عظيمة من كرامات الأولياء ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان فإن مثل هذا الحج ليس مشروعا ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين ومن ظن أن مثل هذا عبادة وكرامة فهو ضال جاهل
ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء ولا من الصحابة ولا من أولياء الله المعروفين ذوي الكرامات يفعل بهم مثل هذا فإنهم أجل قدرا من ذلك وقد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطار معه من الإسكندرية إلى عرفة فرأى الملائكة تنزل فتكتب أسماء الحجاج ولم يكتبوه فقال هل كتبتموني فأعرضوا عنه فقال لهم ثانية فأعرضوا عنه فقال لهم ثالثا فقالوا له أنت لم تحج أنت لم تحج كما حج المسلمون ولم تتعب ولم تحرم فلا ثواب لك فماذا نكتب
وكان بعض الشيوخ من أهل العلم قد طلب منه بعض هؤلاء الذين تحملهم الشياطين أن يحج معهم في الهواء فقال لهم هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله و رسوله
فدين الإسلام مبني على أصلين من خرج عن واحد منهما فلا
____________________
(1/140)
عمل له ولا دين أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وعلى أن نعبده بما شرع لا بالحوادث والبدع وهو حقيقة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة و محبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا و إكراما وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله والرسول هو المبلغ عن الله طاعته وأمره ونهيه و تحليله و تحريمه فهو واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره و نهيه ووعده ووعيده
و أما إجابة الدعاء وكشف البلاء والهداية والإغناء ونحو ذلك فالله تعالى هو المتفرد بذلك الذي يسمع و يرى و يعلم السر و النجوى وهو القادر على إنزال النعم و إزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها و يسرها فهو مسبب الأسباب التي بها يحصل ذلك و لهذا فرض سبحانه على المصلي أن يقول في صلاته { إياك نعبد وإياك نستعين }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) )
____________________
(1/141)
وهذا الحديث في الصحيحين من غير وجه وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الحامل بقدرته للعرش و حملته وقد جعل سبحانه العالم طبقات ولم يجعل أعلاه مفتقرا إلى أسفله فالسماء لا تفتقر إلى الهواء و الهواء لا يفتقر إلى الأرض فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما أجل و أعظم و أغنى و أعلى من أن يفتقر إلى شيء بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه وهو مستغن عن كل ما سواه وهذه الأشياء مبسوطة في غير هذا الموضع قد بين فيها التوحيد الذي بعث الله به رسله قولا وعملا
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء أو رقاع تخفق فيقول يا محمد أغثني فأقول لا أملك لك
____________________
(1/142)
من الله شيئا قد أبلغتك ) )
فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم والله سبحانه قد وعد أهل التقوى بالتخليص من الكربات و بإحسانه إليهم برفع الدرجات قال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }
وقال تعالى { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } فصل
الأحاديث التي رويت في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها ضعيفة بل موضوعة وليس في السنن الأربعة منها حديث واحد فضلا عن الصحيحين ولا احتج الأئمة بشيء منها ولا رووا شيئا منها ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا الثوري ولا الأوزاعي ولا الليث ولا أبو حنيفة ولا إسحاق بن راهويه ولا أحد من أئمة المسلمين وذلك مثل
____________________
(1/143)
قوله من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي
ومثل ما يروون عنه أنه قال من زارني بعد مماتي كنت له شفيعا يوم القيامة
ومثل ما يروون من زارني و زار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة
فهذا الأحاديث وما أشبهها كلها كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه لفظ واحد في زيارة قبره ولكن روي الأولان من قد يروي الموضوعات كالبزار والدارقطني كما قد بسط الكلام على ذلك في
____________________
(1/144)
غير هذا الموضع كيف يكون زائر قبره كالمهاجر إليه في حياته فإن زيارته في حياته إنما شرعت لمن يأتي و يبايعه على الإسلام والجهاد أو يهاجر إليه لطلب الآخرة أو يطلب منه العلم أو نحو ذلك من المقاصد المأمور بها في حياته التي لا يحصل شيء منها بزيارة قبره
وهذه الأمور المبتدعة من الأقوال هي مراتب
أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس بكثير من الأموات وهو من جنس عبادة الأصنام ولهذا تتمثل لهم الشياطين على صورة الميت أو الغائب كما كانت تتمثل لعبادة الأصنام بل أصل عبادة الأصنام إنما كانت من القبور كما قال ابن عباس و غيره وقد يرى أحدهم القبر قد انشق و خرج منه الميت فعانقه أو
____________________
(1/145)
صافحه أو كلمه ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورتة ليضله وهذا يوجد كثيرا عند قبور الصالحين و أما السجود للميت أو للقبر فهو أعظم و كذلك تقبيله
المرتبة الثانية أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت فيقصد زيارتة لذلك أو للصلاة عنده أو لأجل طلب حوائجه منه فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين
المرتبة الثالثة أن يسأل صاحب القبر أن يسأل الله له وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين وقد أخبر الله عن إخوة يوسف أنهم خروا له سجدا وكذلك سجد له أبواه وهذا السجود ليس مشروعا لنا فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ) ) وكذلك الذين
____________________
(1/146)
اتخذوا مسجدا على أهل الكهف وهذه الأمة قد نهيت عن بناء المساجد على القبور
وقد كان اليهود يستفتحون على الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا صفته في التوراة يقولون اللهم انصرنا على أعدائنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وهذا كقوله { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح }
والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر ومنه الحديث المأثور إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بهم أي بدعائهم كما قال وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم
____________________
(1/147)
بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم فالذي ذكره المفسرون في تفسير الآية أن اليهود كانوا يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم
وقيل إ نهم كانوا يقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة
وقيل إنهم كانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان
____________________
(1/148)
نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
قال ابن إسحاق في السيرة حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه زعموا أن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا أنا كنا نسمع من يهود وكنا أصحاب أوثان وهم أهل كتاب وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم قالوا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وكنا كثيرا ما نسع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا وعرفنا ما كانوا يتواعدون به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا هم به ففي ذلك نزل قوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
فإن اليهود لهم يعرف أنهم غلبوا العرب بل كانوا مغلوبين معهم أو كانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقا كما كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاؤهم عبدالله بن أبي حتى أجلاهم
____________________
(1/149)
النبي صلى الله عليه وسلم من حين ضربت عليهم الذلة والمسكنة لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا على غيرهم وإنما كانوا يقالون مع حلفائهم كما حالفت النضير الخزرج وحالفت قريظة الأوس قبل الإسلام والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليهم فكذبوه كما قال تعالى { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة }
وقال تعالى { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين }
وقال تعالى { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى }
وكان اليهود قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء صلوات الله
____________________
(1/150)
وسلامه عليهم ( استدرك 1 )
وما يروونه من أن آدم دعا به أو تشفع به فهو من الأحاديث الموضوعة التي لا يبني عليه حكما شرعيا إلا جاهل بأدلة الأحكام
وأصل ضلال المشركين أنهم ظنوا أن الشفاعة عند الله كالشفاعة عند غيره وهذا أصل ضلال النصارى أيضا قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
وأمثال هذا في القرآن كثير
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق تنفع عند الله مثل أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه أو يخافه كما يشفع عند الملك ابنه أو أخوه أو أعوانه أو نظراؤه الذين يخافهم أو يرجوهم فيجب سؤالهم لأجل رجائه وخوفه منهم فيمن يشفعون به عنده وإن كان الملك أو الأمير أو غيرهما يكره الشفاعة فيمن شفعوا فيه فيشفعهم فيه على كراهة منه ويشفعون عنده أيضا بغير إذنه فالله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفع
____________________
(1/151)
أحد في أحد إلا لمن أذن الله للشفيع أن يشفع فيه فإذا أذن للشفيع شفع وإن لم يسأله الشفيع ولو سأل الشفيع الشفاعة ولهم يأذن الله له لم تنفع شفاعته كما لم تنفع شفاعة نوح في ابنه ولا إبراهيم في أبيه ولا مراجعة لوط في قومه ولا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنافقين واستغفاره لهم بل قيل له { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم }
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) )
وفيه أنه قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد
____________________
(1/152)
فمن قال من المغالين والجاهلين إن لله عبادا لو سألوه أن لا يقيم القيامة لما أقامها فهو مفتر كذاب فإن أفضل الخلق عنده أجاب أكثر مسائلهم مما يوافق قدره وأمره ورد بعضها فما حال من هو دونهم وما أخبر
____________________
(1/153)
أنه سيفعله فلا بد من وقوعه فلا يقبل دعاء أحد في أن يدعه كقيام الساعة فإن أفضل أهل السماوات وأفضل أهل الأرض لو سألوه أن لا يقيم القيامة لما أجاب سؤالهم إذ قد قضى ذلك وقدره قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة
وإنما تقع الشفاعة وتنفع ويظهر جاه الشفيع ووجاهته عند المشفوع إليه إذا شفع فيمن أذن له أن يشفع فيه وفي إجابته سؤاله وقبول شفاعته لا أنه يقسم على الله بأحد من خلقه ولا يتوسل إليه بمجرد ذات أحد من خلقه من غير دعاء من المتوسل به ولا طاعة من المتوسل
والداعي إنما ينتفع من وجهين إما بدعاء الرسول وإما بإيمان الداعي به وطاعته ومحبته
فأما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له وهو لم يؤمن به لم ينتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم فأبو طالب مع كفره لما كان يحوط الرسول ويمنعه شفع فيه حتى خفف عنه العذاب وقد كان في غمرة من النار فلما شفع فيه صار في ضحضاح من النار وفي رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه ولولاه
____________________
(1/154)
لكان في الدرك الأسفل من النار هكذا رواه مسلم في صحيحه فانتفع به مع كفره في تخفيفه عذابه بأن شفع فيه والإيمان به نافع لمن آمن و إن لم تحصل معه شفاعة
فهذان السببان هما اللذان ينفعان العبد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم و أما مجرد توسل العبد بذاته أو إقسامه به بدون هذين السببين فلا ينفعه أصلا كما تجد أفسق الناس و أفجرهم يغالي في قبور الصالحين ويقول قبورهم هو الترياق المجرب ولم يعمل ببعض عملهم ولا حام حول حماهم و كما ينتسب بعض الناس إلى الأئمة وهم براء منه لم يتبعهم يوما من الدهر و أكثر هؤلاء قد غلب عليهم نفاق القلوب و إيمانهم ليا بألسنتهم و طعنا في الدين
وقد ظن بعض من تكلم في الشفاعة على طريق الفلاسفة كابن
____________________
(1/155)
سينا و أشباهه أن الشفاعة تنفع لتعلق الشفيع بالمشفوع وإن لم يكن هناك دعاء من الشفيع وشبه ذلك بشعاع الشمس الذي يظهر في المرآة و المرآة تطرح شعاعها على الماء والشعاع الذي على الماء يظهر فيه الحائط وأن العبد إذا تعلق بالملائكة والأنبياء كان ما ينزل عليهم من الرحمة ينزل عليه من ذلك بتوسطهم كما ينتفع أتباع المتبوع بما يحصل له من الجاه والمنزلة وهذا الذي قاله هو شر من قول المشركين وهذه هي الشفاعة التي أبطلها الله و رسوله صلى الله عليه وسلم
وابن سينا ذكر هذه الشفاعة جريا على منهاج سلفه المشركين الصابئين أهل مقدونية كالإسكندر فيلبس المقدوني ووزيره أرسطو ونحوهم من المشركين الذين كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت و كانوا أهل شرك و سحر كما هو متواتر عنهم معروف من أخبارهم
والجهال يظنون أن هذا الإسكندر هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظمون أرسطو و يظنون أنه كان وزير ذي القرنين وهذا من جهلهم فإن الإسكندر الذي كان وزيره أرسطو هو الإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له اليهود والنصارى وهذا كان قبل المسيح بنحو ثلاث مئة عام وهو الذي قهر الفرس ولم يصل إلى سد يأجوج ومأجوج
وأما ذو القرنين المذكور في القرآن فهو من أهل الإيمان والتوحيد
____________________
(1/156)
وقد اختلف في نبوته والصحيح أنه لم يكن نبيا وقد كان قبل هذا بمئين من السنين وهو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج وكان الله تعالى قد مكن له في الأرض و آتاه من كل شيء سببا فقهر الجبابرة و أذلهم و سار بالعدل فيما آتاه الله
وفي كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله و نحوه ما مشى فيه على منهاج ابن سينا ولهذا اشتد نكير العلماء على أبي حامد لما في كلامه من أصول الفلاسفة الملحدين وهم بنوا الشفاعة على
____________________
(1/157)
أصلهم الفاسد وهو أن الله عندهم لا يحدث شيئا بمشيئته و اختياره بل لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك فلهذا لم يثبتوا لله تعالى إجابة سائل ولا إحداث أمر وقد بسط الكلام على مذاهب هؤلاء في غير هذا الموضع وأصولهم لا أفسد منها فإن الله أمر العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا وأن يدعوه فهو سبحانه وحده يثيبهم إذا أطاعوه و يجيبهم إذا دعوه
وقد بينا في غير هذا الموضع أنه لو كان شيء من العالم قديما للزم أن تكون له علة تامة فإن العلة التامة القديمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها فلا يصدر عن العلة التامة حادث والعالم لا ينفك عن حادث فيمتنع صدور ما يستلزم الحوادث عن علة تامة أزلية فيمتنع أن يكون قديما
و أيضا فكل ما سوى الله ممكن يقبل الوجود والعدم وكل ما يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فأما ما كان قديما أزليا واجب الوجود ممتنع العدم دائما فيمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم سواء قيل هو واجب الوجوب بنفسه أو بغيره
وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بالسلام عليه فهذا حق وهو يقتضي أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل مولده وهذا لا ريب فيه و أما قول القائل قد توسل به الأنبياء قبلنا فيقال
____________________
(1/158)
مثل هذا ليس بحجة ولا يصح الاحتجاج به بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان
أحدهما أنه ليس بحجة
والثاني أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم كأخبار النبي صلى الله عليه وسلم
فأما الاعتماد على نقل أهل الكتاب أو نقل من نقل عنهم فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين لأن في الصحيح عنه أنه قال ( ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه و إما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ) )
وفي المسند و سنن النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال ( ( أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه و تركتموني لضللتم ) )
____________________
(1/159)
وهذه القصص التي يذكر فيها التوسل عن الأنبياء بنبينا ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة وإنما تذكر مرسلة كما تذكر الإسرائيليات التي تروي عمن لا يعرف
وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه و بينا بطلان ذلك جميعه وإن كان ذلك قد نقل عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممن ينقل عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج به لأن الواحد من هؤلاء و إن كان ثقة فغاية ما عنده أن ينقل عن كتاب من كتب أهل الكتاب أو يسمعه من بعضهم فإن بينه وبين الأنبياء الذين يروي ذلك عنهم دهرا طويلا
____________________
(1/160)
والحديث المرسل عن المجهول من الكتاب الذي لا يعرف علمه وصدقة لا يقبل باتفاق المسلمين ومراسيل أهل ديننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند أئمة العلماء مع كون نبينا قريبا و ديننا محفوظا محروسا فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس ونوح و غيرهم
والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء و توباتهم و استغفارهم و ليس فيه شيء من هذا الذي ذكروه
وقد نقل أبو نعيم في الحلية أن داود عليه السلام قال يا رب أسألك بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق و يعقوب فقال الله له يا داود وأي حق لآبائك علي فإن كانت الإسرائيليات حجة فهذا فيه دليل على أنه لا يسأل الله بحق الأنبياء و إن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات ثم إن توسل النبي المتقدم بالنبي الذي بعده يقتضي أن يكون أفضل منه فيقتضي أن يتوسل نوح بإبراهيم و داود بعيسى و إسرائيل بموسى ومثل هذا لو كان حقا لكان أصلا في العلم الصحيح و لكن المتقدم من الأنبياء يبشر بمن يأتي بعده منهم وليس
____________________
(1/161)
هو مأمورا بإتباع شريعة من يأتي بعده بل إما أن يكون مأمورا بإتباع شريعة توحي إليه أو شريعة رسول قبله فهو مستغن عمن بعده متبع لمن قبله فكيف يتوسل بالمتأخر ولا يتوسل بالمتقدم الذي يجب عليه إتباعه
وقد ثبت في الصحيحين حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة فتوسل أحدهم ببره بوالديه وتوسل الآخر بعفته عن الفاحشة مع التمكن منها والمحبة وتوسل الآخر بأدائه الأمانة مع تثمير المال و طول المدة ففرج الله عنهم فلو كان ما ذكر صحيحا لتوسلوا بالأنبياء و بصالح أعمال الأنبياء فكيف يدعون التوسل بذلك و يتوسلون بما لم يذكر في كتاب و لا سنة
ولو كان هذا صحيحا لكان مشهورا بل مشروعا لنا وكنا نحن أحق بذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم وأولى بكل خير كان و يكون ولأنه رسولها و نبيها فلما كان لم يكن لهذا أصل عند أحد من الصحابة و التابعين لهم بإحسان علم أن هذا من أكاذيب المفترين
واستغاثة الصحابة به في القحط إنما استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم و الاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منه وإنما الممنوع أن يستغاث به فيما لا يقدر عليه وأن يقسم على الله به ولا سيما إذا كان المخلوق ميتا أو غائبا فلا يجوز أن يستغاث به فيما يقدر عليه حيا ولا فيما لا يقدر
____________________
(1/162)
عليه و أما استغاثة الجمل به ليجيره من ظلم أهله فهو أيضا طلب منه أن يشكيه فأشكاه بمنع أهله من أذاه وهذا جائز
وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده و إنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب و مما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقيا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعضه مسقوف وبعضه مكشوف وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان نائبه على المدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرقي المسجد و قبليه فأمره أن يشتريها من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاشتراها وأدخلها في المسجد فزاد في قبلي المسجد و شرقيه ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد و إلا فهي قبل ذلك كانت خارجة
____________________
(1/163)
عن المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موته ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف
وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين ولو صح ذلك لكان حجة و دليلا على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه فأين هذا من هذا
والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم و محبته و طاعته و موالاته فهذه الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه و إن أريد أن نتوسل إليه بما تحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان و العمل الصالح فهذا باطل
____________________
(1/164)
عقلا و شرعا
أما عقلا فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوبا له ما يوجب كون حاجتي تقضي بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضي به حاجتي فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة و أما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي فيها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها و لهذا لو توسل به من كفر به مع محبته له لم ينفعه والمؤمن به ينفعه الإيمان به وهو أعظم الوسائل
فتبين أن الوسيلة بين العباد و بين ربهم عز وجل الإيمان بالرسل و طاعتهم { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا }
و أما الشرع فيقال العبادات كلها مبناها على الإتباع لا على
____________________
(1/165)
الابتداع فلبس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله فليس لأحد أن يصلى إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال ( ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) ) مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى إلى قبر الشيخ و يقولون هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة و طائفة أخرى يرون أن الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام والأقصى و كثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد
و لأهل البدع عبادات كثيرة قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع و بينا بطلانها وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بدين الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام و أنه لم ينقله أحد من علماء الأمة بل هم متفقون على أنه لا فضيلة للصلاة عند القبور ولا في المساجد المبنية عليها التي تسمى المشاهد مع أن طائفة من الغلاة من أهل الشيعة ومن المنتسبين إلى السنة يرون السفر إليها حجا وقد صنف ابن النعمان المفيد شيخ الرافضة كتابا سماه مناسك حج المشاهدة وذكر فيه من
____________________
(1/166)
فضل العبادات فيها ما هو أعظم من العبادات المشروعة في المسجد الحرام
وقال بعض المتفلسفة إن الأرواح المفارقة قد حصل لها قوة وكمال فإذا اتصل بها روح الزائر مع خشوعه فاض عليها من آثار تلك الروح ما تقوى به و تستنير هذا من قول أهل الزور ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة إلا ضل وأضل ووقع في مهواة من التلف
فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة و يعلم أنها جاءت بتحصيل المصالح و تكميلها وتعطيل المفاسد و تقليلها وإذا رأى من العبادات و التقشفات و غيرها التي يظنها حسنة و نافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها ومفسدتها راجحة على مصلحتها إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح
وقد كتبت في هذه المسألة نحو مجلد وذكرتها في مواضع أخر و بينت أسباب الشرك وما فيه من الفوائد و المقاصد التي ضل بها المشركون و أنها معمورة بالمفاسد ومعمورة بالمضار التي من أجلها حرمها الله
____________________
(1/167)
فإن قال القائل أنا إذا توسلت بذاته إنما توسلت بعملي المتعلق به وذلك أنه لحبي له و تعظيمي إياه توسلت به وهذا مما يحبه الله تعالى مني
قيل حبك له و تعظيمك له الذي هو من الإيمان به هو يدعوك إلى زيادة الإيمان به و طاعته وهو الذي يحبه الله منك وأما حبك له وهو الذي لا تقصد به إلا قضاء حاجتك الدنيوية فهذا لا يحبه الله منك كما أن حب أبي طالب إنما كان قصده به تعظيم نسبه وإقامة حرمته لم يقبله الله منه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( سيكون في هذه الأمة قوم
____________________
(1/168)
يعتدون في الدعاء والطهور ) )
وكثير من الناس دعا بدعاء فأجيب وحصل له به ضرر أعظم من نفع ذلك الدعاء وأعرف من يستغيث برجال أحياء فيتصورون له و يدفعون عنه ما كان يحذر و يحصل له ما كان يطلب والأحياء الذين استغاث بهم لا يشعرون بشيء من ذلك وإنما هي شياطين تمثلت على صورهم لتضل ذلك الداعي المشرك كما كانت الإنس تستعيذ بالجن فكانت رؤساء الجن تعبدهم
____________________
(1/169)
والذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويدعونها تتنزل عليهم أرواح من الجن وتقضي لهم كثيرا من حوائجهم و يسمونها روحانية ذلك الكوكب وهو شيطان ومن الشياطين من يطير بصاحبه من الإنس في الهواء ويضعه على رأس السنان و يدخل به النار فيمنعه حرها فالسعادة و النجاة في الاعتصام بالكتاب و السنة و اتباع ما شرع كما شرع
و الدعاء من أجل العبادات فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عباداته الصورة المشروعة فإن هذا هو الصراط المستقيم و الله تعالى يوفقنا و سائر إخواننا المؤمنين
و ليحذر العبد مسالك أهل الظلم والجهل الذين يرون أنهم يسلكون مسالك العلماء تسمع من أحدهم جعجعة ولا ترى طحنا فترى أحدهم أنه في أعلى درجات العلم وهو إنما يعلم ظاهرا من الحياة الدنيا
____________________
(1/170)
ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وقد تعدى على الأعراض والأموال بكثرة القيل و القال فأحدهم ظالم جاهل لم يسلك مسلك في كلامه مسلك أصاغر العلماء بل يتكلم بما هو من جنس كلام العامة الضلال و القصاص و الجهال ليس في كلام أحدهم تصوير للصواب ولا تحرير للجواب كأهل العلم أولي الألباب ولا عنده خوض العلماء أهل الاستدلال و الاجتهاد ولا يحسن التقليد الذي يعرفه متوسطة الفقهاء لعدم معرفته بأقوال الأئمة و مآخذهم
و الكلام في الأحكام الشرعية لا يقبل من الباطل و التدليس ما ينفق على أهل الضلال و البدع الذي لم يأخذوا علومهم عن أنوار النبوة و إنما يتكلمون بحسب آرائهم و أهوائهم فيتكلمون بالكذب و التحريف فيدخلون في دين الإسلام ما ليس منه و إن كانوا لضلالهم يظنون أنه منه و هيهات هيهات فإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له
و لما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر لم يطمع أحد في إبطال شيء منه ولا في زيادة شيء فيه بخلاف الكتب قبله قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه و تغيير ألفاظه بالزيادة و النقصان و الكذب في متونه وإسناده فأقام الله له من يحفظه و يحميه و ينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين و تأويل الجاهلين فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه وأهل التحريف في معانيه كما قال صلى الله عليه وسلم ( ( لا يزال طائفة
____________________
(1/171)
من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ) )
وقال صلى الله عليه وسلم ( ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) )
____________________
(1/172)
وقد وقع في هذا الباب كثير من الفقهاء و الفقراء و العامة و نحوهم ممن فيه زهد ودين و صلاح ولكن كل من لم يكن علمه و عمله يرجع إلى العلم الموروث عن الرسول مقيدا بالشريعة النبوية لم يخلص من الأهواء والبدع بل كله أهواء وبدع وقد ذكره الخطيب البغدادي
وقد قال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من
____________________
(1/173)
اجتهاد في بدعة فانظروا أعمالكم إن كانت اقتصادا أو اجتهادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ) أخرجاه
وفي رواية ( ( من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد ) )
وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما سنح له وأحبه ورآه بل لا يعبده إلا بالعبادة الشرعية وقد قال فضيل بن عياض
____________________
(1/174)
في قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال أخلصه وأصوبه قيل ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وقال أبو بكر بن عياش لما قيل له إن بالمسجد أقواما يجلسون ويجلس إليهم الناس فقال من جلس للناس جلس إليه ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى { ورفعنا لك ذكرك } و أهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر }
ولهذا كانت أصول الإسلام كما قال الإمام أحمد وغيره تدور على ثلاثة أحاديث
قوله الحلال بين والحرام بين
وقوله إنما الأعمال بالنيات
____________________
(1/175)
وقوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
وذلك أن الدين فعل ما أمر الله به و ترك ما نهى الله عنه والنهي عن ذكره في حديث الحرام بين وذكر حكم ما يشتبه به وما لا يشتبه به
و المأمور به أمران عمل باطن وهو إخلاص الدين لله و عمل ظاهر وهو ما شرعه الله لنا من واجب و مستحب
وخلق كثير يعبدون غير الله وخلق يبتدعون عبادة لم يأذن بها الله كما ذكر تعالى ذلك في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما من السور المكية وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ) قالوا اليهود والنصارى قال ( ( فمن ) )
____________________
(1/176)
وفي الصحيح أيضا أنه قال ( ( لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر و ذراعا بذراع ) ) قالوا فارس والروم قال ( ( ومن الناس إلا هؤلاء ) )
وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } إلى آخرها
وكثير من الناس عملهم ليس خالصا لله ولا موافقا لشريعة الله مبتدعة ضلال يشرعون دينا لم يأذن به الله وقد قال الله تعالى { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون }
وقال تعالى { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها }
____________________
(1/177)
وقال { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع }
فأخبر تعالى أنه ليس للمخلوق من دونه ولي يلي أمورهم ولا شفيع يعينهم من دون الله
ويقال إن طائفة تسمى السوفسطائية أنكرت الحقائق ولم تقر بشيء مما تحسه أو تعقله وهذا لا يمكن أن تعيش عليه أمة من الأمم مدة من الزمان فإن الناس إن لم يعرف بعضهم بعضا ويميز الشخص منهم بين غيره و بين نفسه وبين يومه وأمسه ومأكوله ومشروبه وبين زوجته وولده وغير زوجته وولده وبين ثوبه وثوب غيره وكلامه وكلام غيره ونحو ذلك و إلا كان مجنونا بل أكثر المجانين لا بد لهم من نوع تمييز كما للبهائم تمييز فكيف يتصور أن يكون في الوجود طائفة تنكر كل شيء ولا تقر بثبوت شيء وإنما السفسطة حال تعرض لبعض الناس فيجد فيها بعض الحقائق ويلبس الحق بالباطل
____________________
(1/178)
وقيل إن السفسطة كلمة معربة من اليونانية وإن أصلها سوفسطا أي حكمة مموهة وغيرت بالتعريب كسائر ما عربته العرب من ألفاظ العجم ولا ريب أن في الناس من يسفسط في بعض الأمور فيجحد الحق بعدما تبين أو يجحد علمه به أو يقر ببعضه دون بعض أو يجعل الحقائق تبعا للعقائد أي ما يعتقده هو
فيقال السوفسطائية أربعة أقسام
قسم يجحد الحقائق
وقسم يجحد العلم بها
وقسم متجاهل لا أدرية واقفة
وقسم جاعل الحقائق تبعا للعقائد
فهذه الأقسام الأربعة لا توجد في غالب في كثير من الأمور إما أن ينفي الحق الثابت أو ينكر علمه به ويقول ما أعرفه أو يقف في وجوده وفي علمه به أو يجعل الحقائق تبعا لما يعتقده
وفي الناس من هذا وغيره عجائب وإنما يخلص العبد من ذلك
____________________
(1/179)
علمه ما الناس عليه وما بعث الله به رسوله فيعلم الوجود العيني والثبوت العلمي كما قال تعالى { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
وقال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم }
فمن عرف أخبار الأمم المتبعين للرسل والمخالفين لهم وعاقبة هؤلاء وهؤلاء كان في ذلك له عبرة وحجة توافق القرآن
ومعلوم أن معرفة مذاهب الناس ومقالاتهم ودياناتهم ومللهم ونحلهم وآرائهم لا يخلو صاحبها من معرفة أن يكون فيها تابعا للرسل ومللهم أو لا يكون وقد جعل بعض الناس معرفة التاريخ من المقالات ولعمري إنها لداخلة فيما يقص من أحوال الناس وأفعالهم ولكن الشأن في تمييز الصدق منها من الكذب والاعتبار بالصدق منها كما قال تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } فدل على أن فيما يقصه الناس في تواريخهم ومقالاتهم ومذاهبهم ما هو مفترى لا
____________________
(1/180)
حقيقة له فكتب المؤرخين الذين لا يقصدون الكلام على الآراء والديانات فيها ما يشتمل على الصدق والكذب وهي أكثر التواريخ التي لم توزن بتمييز أهل المعرفة بالمنقولات وكذلك الكتب التي يذكر فيها مقالات الناس وآراؤهم ودياناتهم فيها ما يشتمل على الصدق والكذب وهي ما لم توزن بنقد من يخبر المقالات وكذلك تعمد الكذب قليل في أهل العقول والديانات المصنفين لتواريخ السير
وفي الرد على البكري أن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني أو يا علم الله أو يا قدرة الله أو يا عزة الله أو يا عظمة الله ونحو ذلك أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا لذلك من صفات الله وصفات غيره أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصرا أو إغاثة أو غير ذلك
والنصارى وإن كانوا يقولون المسيح هو كلمة الله و يدعونه ويتخذونه إلها فهو عندهم عين قائمة بنفسها حاملة للصفات ليس المسيح عندهم صفة قائمة بموصوف ولكن مذهبهم متناقض حيث يجعلون الإله واحدا و الأقانيم ثلاثة ويدعون أن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة فإن فسروا الأقنوم بما يجري مجرى الصفة لزم أن تكون الصفة خالقة وهم لا يقولون ذلك و إن فسروه بما يجري مجرى الموصوف لزم أن تكون
____________________
(1/181)
الذات الموصوفة وهي الأب هي المسيح وهم لا يقولون ذلك فقولهم متناقض في نفسه باتفاق عقلاء بني آدم ولم يقولوا إن مجرى الصفة القائمة بغيرها تدعى و تسأل
قال وقوله من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة أو استغاث به سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما فهذا القول لم يقله أحد من الأمم بل هو مما اختلقه هذا المفتري وإلا فلينقل ذلك عن أحد من الناس
وما زلت أتعجب من هذا القول وكيف يقوله عاقل والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاستغاثة به وأريد أن أعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم فوقع لي أن سبب هذا الضلال الاشتباه عليهم أنهم عرفوا أن يقال سألت الله بكذا كما في الحديث ( ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت المنان ) )
____________________
(1/182)
ورأيي أن الاستغاثة تتعدى بنفسها كما يتعدى السؤال كقوله { إذ تستغيثون ربكم }
____________________
(1/183)
وقوله { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه }
فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله سألت بفلان والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول أتوسل إليك بفلان وتارة يقول أسألك بفلان فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان أو أستغيث إليك بفلان ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب
وأصل الشبهة على هذا التقدير أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثا مدعوا مسؤولا مطلوبا منه وبالاستغاثة المحضة من الإغاثة التي يكون المضاف بها مطلوبا به لا مطلوبا منه فإذا قيل توسلت به أو سألت به أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم وهم يقولون أستغيثه واستغثت به من الإغاثة كما يقولون استغثت الله واستغثت به من الغوث
فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه وإذا قالوا لمخلوق استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤولا مطلوبا منه وأما إذا قالوا استغث به من الإغاثة فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا
____________________
(1/184)
وكذلك استنصرته واستنصرت به فإن المستنصر يكون مسؤولا مطلوبا و أما المستنصر به فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا
فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به
وقول القائل استغثت فلانا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله
قال في الوجه الرابع إن التضمين المعروف في اللغة إنما هو ضم معنى لفظ معروف إلى آخر مع بقاء معنى اللفظ الأول كما في قوله { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } فإنه ضمن معنى الإذاعة فعدى بحرف الغاية عن مع أنه فتنة
وكذلك قوله { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } فإنه ضمن معنى الضم والجمع فعدي بحرف الغاية مع أن معنى السؤال موجود
وكذلك قوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } ضمنه معنى نجيناه مع بقاء معنى النصر
____________________
(1/185)
وقوله { يشرب بها عباد الله } ضمن معنى يروي فعدي بحرف الباء مع بقاء معنى الشرب
وهكذا إذا قيل استغثت بالله من الغوث فإنه ضمن معنى الاستغاثة التي هي من العون فعدي بالباء مع بقاء معنى الاستغاثة وهي طلب من المستغاث به
فأما إذا قيل استغثت بفلان من الغوث بمعنى سألت غيره به و توسلت به فهذا لا يجوز لأنه أحال معنى الاستغاثة فإن معناها طلب الإغاثة من المستغاث به ومعلوم أن المسؤول به والمقسم به والمتوسل به ليس مسؤولا ولا مطلوبا منه ففيه تبديل معنى اللفظ فلا يجوز ذلك
وقال في الوجه الخامس إنه لو قدر أن معنى ذلك معنى التوسل بالأنبياء فالتوسل بهم الذي جاءت به الشريعة هو التوسل إلى الله بالإيمان بهم وبطاعتهم أو بدعائهم وشفاعتهم كما كان الصحابة يتوسلون بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وغيره كما في حديث الأعمى وكما يتوسل الخلائق يوم القيامة بشفاعته وأعظم وسائل الخلائق إلى الله
____________________
(1/186)
تعالى الإيمان بهم وإتباعهم وطاعتهم فأما التوسل بذواتهم والسؤال بهم بدون دعائهم وشفاعتهم وطاعتهم التي يثيب الله عليها فهذا باطل لا أصل له في شرع ولا عقل
وقال أيضا فالمخلوق لا يفعل شفاعة ولا غيرها إلا لرجاء منفعة ما تأتيه من خارج أو خوف مضرة تأتيه من خارج وإلا فلو قدر أن نفسه مستغنية بنفسه عن كل ما سواه لم يفعل الأفعال التي جرت بها عادة المخلوق
والخالق سبحانه غني عن الخلق كلهم وكلهم مفتقر إليه وكل ما يكون فيهم مما يحبه ويرضاه كالإيمان والعمل الصالح فذلك منه فهو الخالق لذلك تفضلا وكرما فهو الخالق لكل مخلوق وما عمل وهو المتصف بكل صفة كمال فليس في الوجود ما هو غيره إلا داخلا في مسمى أسمائه بحيث لا يكون ذلك الداخل في مسمى أسمائه إلا وهو من مخلوقاته و مفعولاته ومصنوعاته
____________________
(1/187)
ومعاملات بعضهم لبعض لا تخرج عن معاوضة كالمبايعة والمؤاجرة ولهذا قال الفقهاء إن كلا من الشريكين يتصرف في حقه بحكم الملك وفي حق شريكه بحكم الوكالة فأكثر معاملات الناس مشاركة والمشاركة فيها نوع من المعاوضة والمعاوضة الظاهرة كالمبايعة والمؤاجرة فيها أيضا معنى المشاركة فإن التجار والصناع هم مشاركون
____________________
(1/188)
للناس في مصالح دنياهم متعاونون عليها إذ كان الإنسان مدنيا بالطبع لا تتم مصلحته إلا ببني جنسه يعاونونه على جلب المنفعة ودفع المضرة والمعاوضة بينهم هي التي تبعث على المعاونة أو كل منهم لا يفعل إلا ما يجلب إلى نفسه به منفعة أو يدفع به مضرة
وإذا كان عامة ما بين الخلق من الأسباب الكسبية التي بها يتساءلون ويشفع بعضهم إلى بعض هي من جنس المشاركة فالسبب الآخر هو الولادة
فالأسباب والصلات التي بين الناس لا تخرج عن سبب خلقي وهو الولادة أو سبب كسبي من جنس المشاركة والمعاوضة ولهذا افتتح الله سورة النساء بقوله { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } الآية فإن هذه السورة ذكر فيها حكم الأسباب التي بين الناس من هذا وهذا فذكر ما يتعلق بالولادة من القرابة والرحم وما يتعلق من المواريث والمناكح وكذلك ما يحصل بينهم بالعقود من المناكح والمواريث والوصايا على اليتامى فالنسب من الأول والصهر من الثاني كما قال { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا }
____________________
(1/189)
فافتتح السورة بقوله { الذي خلقكم من نفس واحدة } ثم قال { واتقوا الله الذي تساءلون به } أي تتعاهدون به و تتعاقدون { والأرحام } فدخل في الأول ما بينهم من التساؤل والتعاهد والتعاقد الذي يجمع المعاوضة والمشاركة ودخل في الثاني الولادة و فروعها فالخلق إنما يتصل بعضهم ببعض من هذين الوجهين المشاركة والولادة وقد نزه الله سبحانه نفسه المقدسة عنهما فقال { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل }
وقال { ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا }
وقال { قل هو الله أحد } إلى آخر السورة
____________________
(1/190)
ومن هنا ضل من ضل من المشركين وأشباههم من الصابئين والنصارى ومن ضاهاهم فإنهم جعلوا المخلوق للخالق بمنزلة الشريك والولد وهذا أصل مادة كلام هؤلاء الجهلة الضلال ونحوهم والقرآن قد حسم هذه المادة الفاسدة وجرد التوحيد وبين أنه لا نسبة بين المخلوق والخالق إلا نسبة العبودية المحضة قال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون }
وقال { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون }
وقال { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا }
____________________
(1/191)
فصل
قال وإثبات الأسباب مما نطق به الكتاب واتفق عليه أولو الألباب لكن الشأن في تحقيق المناط وإدراج محل النزاع تحت هذه القاعدة وإلا فما قاله من أن الأسباب والحكمة ليس له حاصل كلمة حق أريد بها باطل
فإن قوله وليس رجوع الأشياء إلى الباري من جهة القدرة بمبطل لما أثبته الباري من الأسباب لم ينازع فيه لكن يقال لم قلت إن ما ادعيته هو من الأسباب التي أثبتها الله تعالى فإنك لم تأت على هذا بحجة أصلا وأنت محتاج إلى شيئين إلى أن تثبت أنه سبب في الواقع وأنه سبب غير مشروع غير محظور فإن الأقسام ثلاثة لأن الشيء إما أن يكون سببا مباحا أو محرما أو لا يكون سببا مع ظن كثير من الناس أنه سبب
فكثير من الأمور فيها ما يظن أنه سبب و ليس بسبب كما يظن اليهود
____________________
(1/192)
والنصارى أن اتباع دينهم سبب لنيل الجنة والثواب في الآخرة وهو ضالون في اعتقادهم أن هذا سبب لذلك وكذلك ما يعتقده الجهال أن النذر سبب لحصول الحاجات المطلوبة ودفع المكاره المرهوبة
وقد ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال ( ( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) )
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ) )
رواه البخاري ومسلم
____________________
(1/193)
و كما يظهر المشركون أنهم إذا دعوا الأصنام أو من يعبدونه من دون الله أن عبادتهم تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى وأنها سبب لنجاتهم وقضاء حوائجهم وكما يظن من يدعو عند القبور أنه سبب لنيل طلبته وقضاء حاجته وكذلك المستغيثون بالموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم كل ذلك باطل وليس بسبب
وأما السبب المحظور فكالقتل والزنا والسرقة فإنه سبب لنيل كثير من الأغراض الفاسدة وكذلك الشرك والسحر قد يكون سببا لنيل بعض المطالب والمقاصد
وأما السبب المباح المشروع فكالعبادات الشرعية في حصول الأجر و الثواب وكالدعاء لله والاستغاثة به والتوكل عليه في حصول ما يقدره الله بذلك من المطالب وكالأكل والشرب والنكاح والازدراع وغير ذلك
____________________
(1/194)
في حصول ما علقه الله بذلك من شبع وري وولد ونبات وغير ذلك وهذا التقسيم بين
و أما قوله إذا علمت أن الاستغاثة به صحيحة وأن كل متوسل به إلى الله مستغيث به عرفت ان الأستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته فكلام لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله كتابي فضلا عن أن يقوله مسلم وهو كلام باطل قطعا وذلك أنه صلى الله عليه وسلم في حياته يجوز أن يستغاث به فيطلب منه أن ينصر المظلوم ويطعم الجائع ويسقي الظمآن ويخلص الأسرى ويقضي دين المدين و يبين الدين و يزيح شبهات المعارضين ويجيب السائلين ونحو ذلك
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الناس عملا وأعظمهم عل البر والتقوى بل كل خير في الوجود فهو معين عليه بل له مثل أجر كل عامل خير من أمته فإنه هو الذي دعا إلى ذلك ومن دعا إلى هدى كان
____________________
(1/195)
له مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا
والاستغاثة طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة وأنواع الكرب في الشدائد كثيرة لكثرة أسبابها كالأمراض والحاجات والأعداء فإن الأمراض فيها من الشدة التي تلحق المريض وأهله وأصدقاءه ما الله به عليم والحاجة إلى الرزق لنفسه وعياله وما ينال الإنسان بسبب الديون عليه كذلك وما يناله إذا قل رزقه من أنواع الشدائد وكذلك حال العدو الظالم من الكفار والفجار في عدوانهم على الناس من الكرب والشدائد ما لا يقدر قدره إلا الله
ومن هو دون الرسول من عموم المؤمنين يستغاث به ويطلب منه في حياته الإغاثة على دفع هذه الشدائد كلها بحسب قدرته وذلك إما
____________________
(1/196)
واجب و إما مستحب ومعلوم أن طلب المؤمنين ذلك من رسول الله في حال حياته أعظم من طلبهم له من كل خليفة و عالم وشيخ وملك وهو أقوم بذلك من هؤلاء وأقدر على إزالة ذلك منهم فكانوا عند الجدب يفزعون إليه حتى يستسقي الله لهم وعند الحرب يفزعون إليه طلبا لأمره ودعائه بل قد روى البراء عن علي أنه قال كنا إذا احمر البأس
____________________
(1/197)
ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه
وفي الصحيح أن أهل المدينة فزعوا فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة عري فكشف لهم ثم رجع فقال ( ( لن تراعوا وإن وجدناه لبحرا ) )
وعند قلة الطعام والماء فإليه يفزعون فيدعو لهم فيكثر الطعام كما فعل ذلك غير مرة في عام الخندق وفي السفر وغير ذلك
____________________
(1/198)
وعند قلة الماء فيكثره الله ببركته إما بنبغيه من بين أصابعه كما نبع غير مرة بالمدينة وغيرها كيوم الحديبية وإما بدون النبع كما فعل بمزادتي المرأة اللتين شرب منهما الجيش ولم ينقص منهما شيء وعند المخاوف يفزعون إليه فيرمي الحصى في وجوه الكفار ونحو ذلك
____________________
(1/199)
فقول القائل إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته لزم من ذلك أن نطلب منه هذه الأشياء المذكورة وغيرها بعد موته ووجب أن يفعلها بعد موته فيخرج في الغزوات ويقيم الحدود ويعود المريض فاعلا ذلك ببدنه بعد مماته كما كان يفعل ذلك في حياته فهل يقول هذا إنسان أو يحتاج رد هذا إلى برهان
ولكن علينا بعد موته من الإيمان به وطاعته ما علينا في حياته أن نصدق خبره و نطيع أمره ونشهد له أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبدالله حتى أتاه اليقين
فليس عليه بعد موته أن يأمرنا ولا ينهانا ولا يعلمنا ولا يهدينا وليس عليه بعد الموت فعل من الأفعال لا واجب ولا مستحب كما ليس ذلك على غيره من الناس بل الموت ينتهي به التكليف الثابت في الحياة بإجماع الخلق فليس على نبي ولا غيره بعد موته أن يفعل ما كان يؤمر به
____________________
(1/200)
في حال الحياة من واجب ومستحب وإغاثة الأمة من جملة ما كان يفعله من الواجبات والمستحبات باقيا لهم قد أدى وأبان ونصح
ولا يستطيع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته طلبوا منه إغاثة ولا نصرا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يفعلون ذلك في حياته ولا فعل ذلك أحد من أهل العلم والإيمان
وإنما يحكى مثل ذلك عن أقوام جهال أتوا قبره فسألوه بعض الأطعمة أو استنصروه على بعض الظلمة فحصل بعض ذلك وذلك لكرامته على ربه ولحفظ إيمان أولئك الجهال فإنهم إذا لم تقض حاجتهم وقع في قلوبهم الشك وضعف إيمانهم أو وقع منهم إساءة أدب ونفس طلبهم الحاجات من الأموات هو إساءة أدب فقضى الله حاجتهم لئلا يضعف إيمانهم به وبما جاء به لئلا يرتدوا عن الإيمان فإنهم كانوا قريبي عهد بإيمان
وعلى كل لا يقتضي أن يكون ما فعله أولئك الجهال حسنا مشروعا مأمورا به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يعطي المؤلفة قلوبهم الأموال ولا يعطي
____________________
(1/201)
خواص المهاجرين والأنصار الذين هم احب إليه من الذين يعطي ويقول ( ( إني لأعطي رجالا وأدع رجالا والذين أدع أحب إلي من الذين أعطي أعطي رجالا لما جعل الله في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ) ) وقال ( ( إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا ) ) قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال ( ( يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل ) ) وإعطاؤه لصناديد نجد وقريش عام حنين مع أنه لم يعط الأنصار مشهور وقد بين
____________________
(1/202)
للأنصار لما جمعهم في القبة ما في ذلك لهم من السعادة وما فيه من التأليف لأولئك ليتقوى إيمانهم ويضعف نفاقهم فهل هذا العطاء منه لأجل هذه المصلحة مع قوله يتأبطها نارا موجب لمدح من سأله واستحسان حاله
فإذا كان هو في حال حياته يعطيهم مع أن الذي سأله مذموم على سؤاله إياه مذموم على ما أعطاه إياه معاقب على ذلك والرسول مأجور على ذلك الإعطاء امتنع أن يحتج أحد بإعطائه على جواز سؤاله هذا وهو في الحياة فكيف بعد الموت وإنما عليه ما حمل من التبليغ وعلينا ما حملنا من طاعته ومن طاعته أنا نرغب إلى الله تعالى في جميع حوائجنا كما قال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } و قال لابن عباس ( ( إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله ) )
____________________
(1/203)
فأعالي الصحابة كالصديق وغيره لم يكونوا يسألونه شيئا من المال بل قد روي امتناع بعضهم من الأخذ كعمر وغيره حتى قال له ( ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه
____________________
(1/204)
نفسك ) )
وقد قال تعالى { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل }
وقال تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }
وإن كان هذا السؤال نوعا آخر لكن المقصود أن سؤال الأنبياء حتى سؤال العلم منهم فيه أنواع كثيرة محرمة وإن كانوا قد يعطون السائل فلا يدل ذلك على أن السؤال مشروع هذا في حياتهم فكيف بعد مماتهم
ولم ينقل أحد من أهل العلم أن أحدا من السلف سأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد موته لا عند قبره ولا عند غير قبره وكذلك قو عيسى لما سألوا المائدة قبل رفع عيسى إلى السماء لم يكونوا محمودين في مسألهم بل كان نزولها ضررا عليهم وكذلك قوم موسى سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وقوم صالح سألوا صالحا آية فكانت سبب هلاكهم فالسؤال فتنة وشر للسائل وهو للمسؤول أجر وخير ومعجزة
____________________
(1/205)
للنبي صلى الله عليه وسلم
والاعتداء في الدعاء تارة يكون بأن يسأل ما لا يصلح له مثل منازل الأنبياء أو يسأل أن يكون ملكا لا يحتاج إلى طعام وشراب أو أن يعلم الغيب أو أن يكون عنده خزائن الله يعطي منها ما يشاء ويمنع ما يشاء فإذا سأل ما هو من خصائص الربوبية أو خصائص النبوة كان هذا اعتداء وكذلك إذا سأل الله جبلا من ذهب أو أن يجعل السماوات أرضا والأرض سماوات أو أن لا يقيم الساعة كل هذا من الاعتداء
ومنه أن يسأل ما فيه ظلم لغيره ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه المشهور الذي رواه أحمد وغيره والترمذي وصححه عن ابن عباس رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري
____________________
(1/206)
فقوله وانصرني على من بغى علي دعاء عادل لا دعاء معتد يقول انصرني على عدوي مطلقا ومن الاعتداء قول الأعرابي اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لقد تحجرت واسعا ) ) يريد رحمة الله
وقد جعل الصحابة من الاعتداء ما هو دون هذا من تكثير الكلام الذي لا حاجة إليه كما في سنن أبي داود وغيره عن ابن سعد قال
____________________
(1/207)
سمعني أبي وأنا أقول اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا فقال يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) ) فإياك أن تكون منهم إنك إن اعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر وسعد هذا هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة وأهل الشورى
وعن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنا له يقول في دعائه اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ( يكون في هذه
____________________
(1/208)
الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور ) )
____________________
(1/209)
ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله فإن ذلك من الشرك والله لا يغفر أن يشرك به وإن الشرك لظلم عظيم فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
وسؤال المخلوق محرم لغير حاجة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في تحريم المسألة له ولغيره كحديث حكيم وقبيصة وغيرهما ففي حديث حكيم بن حزام قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال ( ( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى ) ) أخرجاه
____________________
(1/210)
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية فقال ( ( ألا تبايعون ) ) فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نيايعك يا رسول الله قال ( ( على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا قال فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناولها أياه ) ) رواه مسلم
وعن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( من يكفل أن لا يسأل الناس شيئا وأنا أتكفل له الجنة ) ) فقال ثوبان أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا
____________________
(1/211)
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ لأبي داود
وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه ) )
____________________
(1/212)
رواه الترمذي وصححه
وعن عائذ بن عمرو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه فلما وضع رجل على أسكفة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا ) ) رواه النسائي
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ( والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا يسأله أعطاه أو منعه ) )
أخرجاه واللفظ للبخاري
____________________
(1/213)
و لسلم ( ( لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به و يستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ) )
و عن الزبير بن العوام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره يبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) ) رواه البخاري
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي أنه قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال ( ( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) ) ثم قال ( ( يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة حلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل
____________________
(1/214)
أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا ) )
رواه مسلم و أبو داود والنسائي
وترك السؤال للمخلوق اعتياضا بسؤال الخلق أفضل مطلقا كما قال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب }
وقال يعقوب { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }
وقال الخليل عليه الصلاة والسلام { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ( ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت
____________________
(1/215)
فاستعن بالله
وفي المسند أن أبا بكر الصديق كان السوط يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ويقول إن خليلي أمرني أ ن لا أسأل الناس شيئا
وفي الصحيحين حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال أصابتني فاقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يخطب الناس وهو يقول أيها الناس والله مهما يكون عندنا من خير فلن ندخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا
____________________
(1/216)
وأوسع من الصبر فقلت في نفسي والذي بعثك بالحق لا أسألك شيئا فرجعت فأغنى الله وجاء بخير
فأبو سعيد فهم من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك سؤاله تعففا واستغناء خير له من سؤاله
فإذا كان ترك سؤال الأنبياء في حياتهم أفضل مع الحاجة والفاقة ومع عدم الحاجة يكون حراما فكيف سؤال الغائب والميت منهم ومن غيرهم هل يكون عملا صالحا مشروعا مستحبا للناس
والله تعالى لم يأمر بسؤال الخلق قط لا أحياء ولا أمواتا ومن زعم أن سؤال المخلوق حيا أو ميتا قد أمر الله به أو هو واجب أو
____________________
(1/217)
مستحب فهو غالط وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا سمعوا المؤذن أن يقولوا مثل ما يقول ثم يسألوا له الوسيلة ثم قال فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة فأمرهم أن يسألوا له الوسيلة
والوسيلة تتضمن شفاعته لهم فقد أمرهم أن يطلبوا له من الله ما يتضمن قبول شفاعته كما أمر الأعمى أن يقول في جملة دعائه اللهم شفعه في فإنه لم يأمرهم بذلك سائلا لهم بل آمرا لهم بما ينفعهم فإنهم إذا سألوا له حصل لهم من الثواب ما ذكر وإن كان هو ينتفع بإجابة الله سؤالهم فهو كما ينتفع بسائر ما نعمله مما أمرنا الله به ورسوله إذ كان له مثل أجورنا ولله تعالى المنة عليه بما أنعم عليه من أعماله وأعمال غيره التي ترتفع درجته بها ولله المنة على الذين أنعم عليهم بطاعته حتى نالوا ما نالوا من ثواب الله بذلك
والمؤمن المحسن المتبع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أحدا بأمر لمجرد غرضه كما يأمر الملك والصديق والمالك ولا يسال أحدا شيئا بل إذا أمر أحد بأمر كان مقصوده بذلك انتفاع المأمور وحصول مصلحته وله أجر الناصح الدال على الخير الداعي إلى الهدى فيكون له مثل أجر
____________________
(1/218)
العامل المأمور من غير أن ينقص من أجر العامل شيء
وكذلك إذا قال لغيره ادع لي فإنه يقصد بذلك أن الداعي يحصل له مثل دعائه كما ثبت في الصحيح ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك آمين ولك بمثل فهو يقصد أن يحصل للداعي ذلك ويقصد أيضا انتفاعه باستجابة الله دعاء ذلك الداعي له كما يقصد إذا أمره بالمعروف أن ينتفع المأمور بعمله ويكون للآمر مثل أجره
فالمؤمن المتبع للسنة يحسن إلى الخلق ويطلب الأجر من الخالق فيكون قائما بحق الله وحق عباده قد أتى بحقيقة الصلاة وهي أن يعبد الله وحده وحقيقة الزكاة وهي الإحسان إلى الخلق فيجتمع له التعظيم لأمر الله والرحمة لعباد الله فيصلي على جنازة المسلم بقصد انتفاع الميت بالدعاء له وما يحصل له من الله من الأجر بإحسانه إلى الميت ويزور قبر أخيه المسلم من الصحابة والتابعين وأهل البيت وغيرهم بل ومن الأنبياء والمرسلين كما يصلي على جنازته فيسلم عليه
____________________
(1/219)
ويدعو له فيرحم الله الميت باستجابة الدعاء ويثيب الله الساعي في وصول النفع والرحمة إليه على هذا الإحسان
فهذا هو المشروع للمسلمين مع المسلمين فاستنزل الشيطان أهل البدعة والضلال فصاروا يزورون قبر الأنبياء والصالحين ولا يقصدون بتلك الزيارة الله والدار الآخرة ولا يخلصون لله الدين ولا ينال الميت رحمة وخيرا بدعاء الحي له ولا يرجون من الله ثواب ذلك فلا توحيد لله ولا إحسان إلى خلق الله بل يقصدون تكليف ذلك الميت حوائجهم يستعملونه ولا ينفعونه وهو أيضا لا ينفعهم ويشركون بالله ولا يوحدونه قد تركوا القيام بحق الله من العبادة له والتوكل عليه ورجاء رحمته وتركوا القيام بحقوق الأموات من الأنبياء والصالحين وغيرهم لما في ذلك من زيادة رحمة الله لهم وإحسانه إليهم ورفع درجاتهم مع ترك مسألة الحي القيوم العليم القدير وترك التوكل عليه كما قال { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا }
وإنزال حاجة الإنسان بمخلوق ميت أو حي إما عاجز عنها وإما متكلف بها فإنه لا يستريب عاقل أن المخلوق في حياته ومماته لا يستوي عنده من يحسن إليه ويجلب له الخير والعافية ومن يكلفه ويؤذيه
____________________
(1/220)
بالسؤال بطلب الحوائج منه مع علم المسؤول أنه ليس أهلا لما طلب منه بخلاف الخالق تعالى فإنه سبحانه وتعالى عما يشركون يحب من يسأله ويفتقر إليه كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج ) )
____________________
(1/221)
وفي حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) ) رواه الترمذى وابن ماجه
____________________
(1/222)
** الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبني آدم حين يسأل يغضب **
ورأى الفضيل رجلا يشتكي إلى آخر فقال يا هذا تشتكي من يرحمك إلى من لا يرحمك كما قيل ** وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم **
وشكى إليه رجل مرة حاله فقال له يا أخي أمدبرا غير الله تريد
ومما يروى عن عمر بن الخطاب أو غيره ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله
وكما كتبت عائشة إلى معاوية أما بعد فإنه من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وجعل حامده من الناس له ذاما ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وجعل ذامه من الناس له حامدا وقال خالد بن معدان من اجترأ على الملاوم في مراد الحق رد الله
____________________
(1/223)
تلك الملاوم له محامد ومن ترك قول الحق في مراد الخلق خوف ملاوم الخلق ورجاء محامدهم قلب الله تلك المحامد عليه ملاوما وذما
هذا تحقيق قوله تعالى { أليس الله بكاف عبده }
وقوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه }
وإنما يؤتى الإنسان من نقص متابعته للرسول والله تعالى أمره باتباعه لا بالإشراك به فقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }
وسؤال الخلق هو في الأصل محرم لأنه فيه أنواع الظلم الثلاثة الظلم في حق الله بالشرك والظلم للمسؤول فإن فيه إيذاء له وظلم الإنسان نفسه لما فيه من تعبيدها لغير الله
وقد أبيح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته وأما سؤال الميت والغائب فلم يأذن الله به قط ومن عدل عما أمر به الرسول من عبادة الله وحده والتوكل عليه والرغبة إليه وطاعته فيما أمر به من الإحسان والخير الذي ينتفع به هو وهم وغيره من المخلوقين فإن العبد كلما عمل بما أمرت به الرسل كان لهم مثل أجره وحصل له هو من الخير
____________________
(1/224)
من إجابة دعائه ونفعه وغير ذلك فمن عدل عن هذه الرحمة والخير وسعادة الدنيا والآخرة إلى أن يفعل ما أمرته به الرسل بل اتخذهم أربابا يسألهم ويستغيث بهم في مماتهم ومغيبهم وغير ذلك كان مثله مثل النصارى فإن المسيح قال لهم { اعبدوا الله ربي وربكم }
وقال { إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة }
فلو امتثلوا أمره كانوا مطيعين لرسل الله موحدين لله ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة فغلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين ويطلبون منهم ويشركون بهم وكذبوا بالرسول الذي بشر به وحرفوا التوراة التي صدق بها وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح وكان هذا من جهلهم وضلالهم فإنهم كلما أطاعوه فيما دعاهم إليه كان له مثل أجورهم وكانت طاعتهم له والإقرار بعبوديته وبما بشر به فيه وله ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه وله ولهم فيه الخير المستطاب واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة
وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام }
____________________
(1/225)
قالوا إن هذا تنقص بالمسيح وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه بل قالوا هذا كفر وجحد لحقه وسلب لصفات الكمال الثابتة له ولعمري إن هذا إنما هو نقص لما في نفوسهم من الغلو فيه لا نقص لنفس المسيح الموجود في نفس الأمر
وفي ذلك من الحمد له والمدح وإعظامه والإيمان به وإعطائه الدرجة العلية ما ليس في الغلو فيه لأن في هذا تقرير كمال عبوديته التي هي كمال المخلوق وهذا هو الكمال فأما الغلو فيه إلى حد الربوبية فذاك خيال باطل لا كمال حاصل وفي إثبات العبودية له إيمان به وموافقة لخبره وأمره فيحصل له بذلك من الخير والرحمة ما لا يحصل له بالغلو فيه الذي هو كذب فيه مكذوب عليه ومعصية له وإشراك بالله وليس في ذلك ما ينفعه ولا ما يرفعه بل في ذلك ضرر على المشركين المفترين
وكذلك الغالية في علي رضي الله عنه ونحوه إذا بين لهم قدره وما ثبت عنه من أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر
____________________
(1/226)
وقوله لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى قالوا هذا شتم لعلى وتنقص له وهذا عين الكذب بل هذا
____________________
(1/227)
فيه من إثبات درجته وفضله ومعرفته بالحق وأهله وأمره للناس بالمعروف ونهيه لهم عن المنكر ما ليس في الكذب والغلو الذي ليس فيه منفعة له بل فيه ضرر على أهل الإفك والعدوان
وهكذا الغالية في الشيوخ بهذه المنزلة ولا سيما القادرية والأحمدية وكذلك كل غال كالذين يستغيثون بالموتى أو الغائبين والذين يطلبون حوائجهم من المقبورين ويجعلونهم وسائط ووسائل وشفعاء في قضاء تلك الحوائج بلا علم يدل على ذلك ويشرعون دينا لم يأذن به الله إذا ذكر لهم المشروع في حقهم من الدعاء لهم عند زيارة قبورهم وغيرها والصلاة والسلام من أنواع الدعاء وأن ذلك تضاعف لهم به الرحمة والبركة وتضاعف أيضا للداعي الرحمة والبركة وأن سؤالهم شرك وغلو زعموا أن هذا تنقض بهم وسب لهم وإنما هو نقص لما في نفوس من غلا فيهم وأنزلهم عن منازلهم وفيه من الحمد لهم والرحمة والبركة ما لا يحصل لهم بما يفعلونه من الكذب والإشراك والله يقول
____________________
(1/228)
الحق وهو يهدي السبيل
وأما كون موسى وعيسى وجيهين عند الله كما قال تعالى { وكان عند الله وجيها } وقال عن عيسى { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } فذلك لا يوجب الغلو فيهما ولا في غيرهما من الرسل والأنبياء والصالحين ولا يبيح أن تبتدع لهم عبادة ودعاء لم يأذن الله فيه ولا أن ينقص من حقوقهم ومنازلهم التي أنزلهم بها والله تعالى لم يأذن لنا أن نسأل ميتا حاجة لا نبيا ولا غيره ولا يطلب منه جلب منفعة ولا دفع مضرة ولا أن نقصد بزيارة قبره إجابة دعائنا بل شرع لنا الإيمان بهم وبما جاؤوا به والسلام عليهم
فالذي شرع لنا قي حق الرسل فيه تحقيق توحيد الله وحده وتحقيق طاعتهم وفيه مزيد الرحمة لهم ورفعة الدرجة والرضوان لنا ولهم
والأنبياء لا ينقص عند الله جاههم بموتهم بل هم في مزيد من كرامة الله وإحسانه إليهم ورفع الدرجات لهم عند الله وليس في هذا ما يوجب أن نطلب منهم الحاجات بعد الموت كما كانت تطلب منهم في الحياة ولا أن يؤمروا وينهوا ذلك إذ قد علم بالاضطرار انقطاع هذا
____________________
(1/229)
الحكم عن جميع الأموات فيظن هؤلاء الجهال الضلال أن مسألتهم والطلب منهم هو من باب رفع قدرهم وكذبوا ليس الأمر كذلك وإنما ذلك من باب التكليف لهم وهم يثابون على ذلك والمكلف لهم المؤذي يتضرر بذلك ويعذب به وإذا طلب سائلهم منهم حاجته لم يكن ذلك سبب جاههم فإن ذلك يطلب ممن لا جاه له عند الله بل قد يطلب بعض المطالب من الكفار والفجار وكل من يرجون منه أن يقضي حاجتهم سألوه واستغاثوا به سواء كان ذلك السؤال جائزا في الشرع أو لم يكن
وخواص أصحابه لم يكونوا يسألونه شيئا من ذلك والمؤمنون منهم يسألونه عند الحاجة والضرورة
وأما من فيه جهل ونفاق فكانوا يسألونه ويلحون عليه ويؤذونه بالسؤال وهو يصبر على أذاهم ويعطيهم لله تعالى إحسانا إليهم وتألفا لقلوبهم واستجلابا لهم ليدخلوا في الإسلام أو يردهم بميسور من القول كما في حديث ابن أبي هالة أنه كان إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول وذلك لأن الله أمره بذلك فقال { وآت }
____________________
(1/230)
____________________
(1/231)
ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إ ن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا وقد عرف ما ورد في سبب نزول الآية من إعطائه السائل ما سأل حتى لحقه الضرر وكل ذلك كان وهو حي
وبكل حال فالذي كان يسألهم و يطلب منهم سواء كان عاصيا لله أو غير عاص إنما كان يسألهم لاعتقاده أنهم قادرون عليه وعلى إعطائه سؤله وكم ممن كان يسأل الرسول ما ليس عنده و يؤذيه بذلك
فالسؤال إنما كان لأجل اعتقاده القدرة على المسؤول لا لأجل الجاه و هكذا كل مسؤول من الخلق و مطلوب منه في دفع الضرر إنما يسأل و يطلب منه لاعتقاد قدرته على فعل المسؤول و إلا فعاقل من العقلاء لا يسأل أحدا ما يعتقد أنه لا يقدر عليه ولا يستعينه في أمر يعرف أنه لا يقدر على الإثابة فيه ولكن تارة الاعتقاد يصيب و يخطىء
و الأمور نوعان نوع يطلب له منا و يجب له علينا و نوع يطلب لنا
____________________
(1/232)
منه سواء أوجب عليه أو لم يجب
فالواجب له علينا من الحقوق بعد الموت الإيمان به و محبته و نصره و تعزيزه و توقيره و طاعة أمره و اتباع سنته و موالاة أوليائه و معاداة أعدائه
و تحقيق ذلك أن الله أمره بأشياء منها ما هو حق لله و منها ما هو حق للناس و الأمر يكون تارة أمر إيجاب و تارة أمر استحباب و كل ما أمر به مما فيه نفع للخلق ففيه حق لهم عليه كتبليغهم و تعليمهم و البيان لهم و أمرهم بكل معروف و نهيهم عن كل منكر و حضهم على كل ما يقربهم إلى الجنة و نهيهم عن كل ما يبعدهم عنها و تبيين كل ما يحتاجون إليه و أمثال ذلك
و قد فعل ذلك و تركهم على البيضاء ليلها كنهارها وما طائر يقلب
____________________
(1/233)
جناحيه إلا ذكر لهم منه علما بأخباره و أوامره و نواهيه و كذلك كان يقوم بأخذ الصدقة من أغنيائهم و ردها على فقرائهم و إنصاف مظلومهم من ظالمهم و إطعام جائعهم و عيادة مريضهم و الصلاة على ميتهم و أمثال ذلك من أنواع إحسانه إليهم في جميع مصالح الدنيا و الآخرة
فاجتمعت له صفات الكمال المتفرقة في غيره من الرسل و الأنبياء وولاة الأمر و غيرهم و كان له من خصائص النبوة و الرسالة ما لم يشركه فيه
____________________
(1/234)
أحد بعده وكان يقوم بالإمامة في الصلاة و الإمارة في الغزو و إرسال البعوث و عقد الألوية و الشعائر في الحرب و إقامة الحدود و إيصال الحقوق و قسم المواريث و المغانم و الفيء و الصدقات و تعليمهم ما يؤمرون به مما في القلوب من المعارف و الأحوال أو ما يقوم بالأبدان من الأقوال و الأعمال و إفتاؤهم فيما ينوبهم من المسائل و الحكم بينهم فيما يتنازعون فيه من القضايا و تعبير الرؤيا و ما كان و ما يكون من أمر الدنيا و الآخرة و صفات الرب و ملائكته و أمر الآخرة و الجنة و النار إلى غير ذلك
فهذه الأمور التي كان مأمورا بها أمر إيجاب أو أمر استحباب و كانت حقا عليه للخلق انتهت بموته فلم يبق عليه منها شيء كما انتهى حق الله الذي أمره به فلم يبق عليه شيء فجاهد في الله و نصح الأمة و عبد ربه حتى أتاه اليقين
و أما ما كان حقا له على الأمة و منفعته في الحقيقة تعود عليهم و الله تعالى يثيبه بما يعملون به من طاعته مثل ثوابهم و يستجيب فيه صالح دعواهم فهو في الحقيقة حق الله و إن كان فيه حق للرسول فإن الله هو الذي أمرهم بما أمرهم به الرسول ومن يطع الرسول فقد أطاع الله فكل ما أمرهم به الرسول من واجب و مستحب فالله أمرهم به و إذا أطاعوا
____________________
(1/235)
الله و رسوله فأجرهم على الله و إذا عصوا الله و رسوله فحسابهم على الله قال تعالى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب }
وقال { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم }
و قال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين }
ثم قال { الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
فأمر بطاعته و طاعة رسوله لأن طاعته طاعة لله و أمرهم بالتوكل عليه وحده و طاعة الرسول هي عبادة الله وحده
و الأمر و المعنى المتقدم من أن الرسول ليس عليه إلا ما أمر به من البلاغ المبين و الجهاد وليس عليه جزاء العباد ولا حسابهم ولا هدايتهم قد كرر في القرآن في مواضع و الحق الذي لله و للرسول باق بعد موت الرسول و كذلك ما كان من حقوقه التي يمكن بقاؤها كالصلاة عليه و التسليم و التعزير و التوقير فهي لم تنقص بعد موته بل توكدت
____________________
(1/236)
و قويت بل حقوقه علينا بعد موته أكمل منها في حياته لم ينقص بموته كما قررناه في كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول و بينا أن تنقصه في حياته أو سبه فإنه كان له أن يعفو عن حقه فأما بعد موته فليس لأحد أن يعفو عن حقه ولا يسقط و كذلك في مغيبه
فعلينا أن نقوم بحقوقه الواجبة علينا في حال مماته و مغيبه أكثر مما علينا أن نقوم بها في محياه و حضوره و تلك حقوق علينا له و إذا فعلناها كانت عبادة منا لله أجرنا فيها على الله وهي مما يزيده الله بها من فضله من جهة امتثاله لما أمرنا به وهو داعينا و كلما أطعنا كان له مثل أجورنا و من جهة ما يصل إليه من الرحمة باستجابة الله دعاء الأمة مع ما يزيد الله إياه من فضله
وهذه الحقوق الثابتة بعد موته هي تبع لرسالته فإنه هو السفير والواسطة بيننا و بين الله تعالى في تعليمنا و انتفاعنا بما علمنا من علم الله و خبره وفي أمرنا و إرشادنا إلى ما أمر الله به و أحبه و رضيه و بذلك حصل لمن آمن به و اتبعه سعادة الدنيا و الآخرة بل أعظم نعمة أنعم الله بها على
____________________
(1/237)
المؤمنين أن أرسله إليهم و أنزل عليه الكتاب و من عليهم باتباعه فليس في الدنيا خير أعظم من هذا
وقد سمى الله الشمس سراجا وهاجا و سماه سراجا منيرا و نعمة الله بالسراج المنير أنعم من نعمته بالسراج الوهاج من وجوه منها أن السراح الوهاج لصلاح بعض الأمور الدنيوية وهي فانية منقضية و السراج المنير لصلاح الدين و الآخرة مع صلاح الدنيا فإن وجود الشمس لا ينتفع به الآدميون في الدنيا إلا أن يكون لهم اجتماع و تعاون في المصالح و ذلك لا يتم إلا بشريعة تقيم بينهم قانون العدل ولم يطرق الوجود شريعة أعظم من شريعته صلى الله عليه وسلم فما يحصل بها من صلاح الناس في المعاد بعض نعمة منها خير من الدنيا وما فيها و أما ما يحصل بها من صلاح القلوب و الأرواح و الأبدان بالعلوم النافعة و الأعمال الصالحة و الهدى و دين الحق فهذا لا يحصل لا بشمس ولا بنحوها و كذلك ما يحصل بها بعد الموت من السعادة الأبدية التي لا نسبة لخير الدنيا إليها كما قال صلى الله عليه وسلم ( ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم
____________________
(1/238)
فلينظر بم ترجع ) ) وهذا باب يطول وصفه
فبالرسول عرفت أسماء الله و صفاته و ما يستحقه من الأسماء الحسنى و الصفات العلى تارة بما بينه من الأمثال التي هي مقاييس عقلية و تارة بما يخبر به من الأنباء الصادقة النبوية و تارة بما يقصه عن الأنبياء الذين هم خير البرية
وبه عرفت الملائكة و النبيون و الجنة و النار و قصص الأنبياء و أخبار الدنيا و ملاحمها و فتنها و أشراط الساعة و علاماتها و أخبار القيامة و تفاصيلها و غير ذلك
و إذا قيس ما عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العلم و الدين إلى ما عند أهل الكتاب مع أنه في الأصل دون ما عند المسلمين في الصفة و المقدار و بينهما تفاوت عظيم فقد دخله من التحريف و النسخ ما جعله كالريح العقيم و الضلال فيه راجح على الهدى و الشر فيه أكثر من الخير فالمتمسك بما عليه اليوم أهل الكتاب خاسر مستحق للخلود في النار كما
____________________
(1/239)
قال صلى الله عليه وسلم ( ( و الذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بي و بما جئت به إلا دخل النار ) )
و أما من عدا أهل الكتاب فعندهم من الجهل البسيط و المركب في المقال و الفعال ما لا يكاد يخطر ببال و ما عندهم من علم صحيح كالذي عند الفلاسفة من الحساب و أكثر الطبيعة و كثير من الهيئة و قليل من الإلهي هو و بعض المنطق فإنه لما صار إلى المسلمين هذبوه و نقحوه و تمموه و أوضحوه
ومن تأمل كلام المتفلسفة الأوائل و كلام متفلسفة الإسلام وجد متفلسفة الإسلام أخبر و أدق و قلوبهم أعرف و ألسنتهم أنطق و ذلك لما عندهم من نور الإسلام زادوا في فلسفة أولئك زيادات إلهية و تقريرات نبوية و مقامات للعارفين و أمور من أحوال أولياء الله المتقين ليس لها في كتب أولئك الأوائل ذكر بحال ولا خطرت منهم على بال
هذا مع أن هؤلاء المتفلسفة المتأخرون في الإسلام من أجهل
____________________
(1/240)
الخلق عند أهل العلم و الإيمان و فيهم من الضلال و التناقض ما لا يخفى على أذكياء الصبيان لأنهم لما التزموا أن لا يسلكوا إلا سبيل سلفهم الضالين و أن لا يقروا إلا بما يبنونه على تلك القوانين وقد جاءهم من النور و الهدى و البيان ما ملأ القلوب و الألسنة و الآذان صاروا بمنزلة من يريد أن يطفئ نور الشمس بالنفخ في الهباء أو يغطي ضوءها بالعباء وقد قال صلى الله عليه وسلم ( ( إنما أنا رحمة مهداة ) )
____________________
(1/241)
و منهم من يقول مهداة كالقاضي البرتي فليس لأحد أن يتكلم بما لا يعلم و إن كان قد جاء في الآثار عن السلف أن الموتى يدعون للأحياء و أن أعمالهم إذا عرضت دعوا لهم و أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو
____________________
(1/242)
للأمة فهذا كله هو فاعل له بأمر الله و أمره له في غير دار التكليف أمر تكوين لا يتصور مخالفة المأمور كما أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما
____________________
(1/243)
يلهمون النفس و ليسوا مكلفين بذلك و كذلك استغفار الملائكة لبني آدم كما أخبر به القرآن وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( و الملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه ) )
ومع هذا فلا يجوز لأحد أن يدعو الملائكة ولا يستغيث بهم ولا يطلب منهم ما أخبر الله به أنهم يفعلونه فإنها ذريعة إلى دعائهم من دون الله و الإشراك بهم
و كذلك دعاء الموتى من الأنبياء و الصالحين ذريعة إلى ذلك بخلاف سؤال أحدهم في حياته و حضوره فإن ذلك لا يفضي إلى عبادته من دون الله لأنه لو رأى أحدا يفعل ذلك نهاه إذ الأنبياء و الصالحون لا يقرون أحدا على الشرك مع قدرتهم على نهيه و إنما يعبد أحدهم بعد موته و كذلك الصلاة خلف أحدهم من أفضل العبادات في حال حياتهم و بعد موتهم لا يجوز أن يصلى خلف قبورهم ولا أن تتخذ قبورهم مساجد ولا تستقبل في الصلاة كما في حديث أبي مرثد الغنوي لا تجلسوا على القبور و لا تصلوا إليها رواه مسلم لأن ذلك ذريعة
____________________
(1/244)
إلى الشرك و اصل الشرك إنما نشأ من القبور كما في الصحيح عن ابن عباس و الملائكة لا يراهم الناس فلهذا لا يطلب منهم الحوائج
و أيضا فما تفعله الملائكة و الأنبياء بعد الموت هو أمر محدود يفعلون منه ما أمر الله به لا يزداد بسؤال السائلين فليس في سؤالهم إياه منفعة بل مضرة فنهى عنه لأنه شر لا خير فيه فصار بمنزلة أن يطلب الرجل من الشمس أن تصحبه و من الريح أن تهب و نحو ذلك
و كذلك كل ما يؤمر بأمر تكوين لا يحتاج أن يطلب فإنه فاعله طلب أو لم يطلب و ما لم يأذن به الله فهو لا يفعله طلب منه أو لم يطلب بخلاف الشفاعة يوم القيامة فإن الناس يسألونه و سؤال الحي الحاضر يجوز في الدنيا و القيامة و إن كان الميت يسمع الكلام كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أهل القليب ( ( ما أنتم بأسمع
____________________
(1/245)
لما أقول منهم ) )
____________________
(1/246)
و ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إن الميت ليسمع قرع نعالهم حين يتولون عنه مدبرين ) )
و قال صلى الله عليه وسلم ( ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) ) رواه أبو عمر ابن عبد البر و صححه
____________________
(1/247)
____________________
(1/248)
و الشيء الذي لم يشرع تارة لا يشرع لعدم المنفعة فيه و تارة لوجود المضرة فيه و تارة لرجحان المضرة على المنفعة إذا اجتمعا
و أما ما ترجحت مصلحته على مفسدته و منفعته على مضرته فإن الشارع لا يهمله إذ الشارع مبعوث بتحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها كما قد بسط في غير هذا الموضع
____________________
(1/249)
وقد كان السابقون الأولون لا يكفلونه هذه الأثقال ولا يلحفون عليه في السؤال وهم أعظم قدرا و أعلى منزلة أفتراهم ما كانوا يعرفون ما له من الجاه و المنزلة أم لم يعلموا أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم و خير البرية حتى نبغ نابغة من أهل الجهل و الضلال المبتدعين فعكسوا الأمر كما عكسه من أشبهوه من النصارى فجعلوا معصيته طاعته و مخالفته اتباعا و تكريما و جعلوا كل ما يعلو به درجته خفضا و نقصا و جعلوا الشرك بالله دينا و قربة و جعلوا إخلاص الدين لله و ابتغاء الأجر و الثواب منه و الرغبة إليه دون غيره من فعل أهل الكفر الملحدين و الله تعالى هو الذي ينصر رسله و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد
فليتدبر العاقل فعل من بدل دين الله و سلك سبيل المرتدين المنافقين الذين يجعلون الإيمان كفرا و السنة بدعة و الكذب صدقا و الباطل حقا و أولياء الله أعداءه و جند الله جند الشيطان كل ذلك مضاهاة لأهل الشرك و البهتان
فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع خطاب البعيد والقريب
قيل ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين
____________________
(1/250)
القريب و البعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك المعروف في هذا الباب من الأحاديث يبين ذلك ففي السنن حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الذي رواه أبو داود و غيره ورواه ابن حيان في صحيحه و الدارقطني في سننه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم و فيه قبض و فيه النفخة و فيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ) ) قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك و قد أرمت قال ( ( يقولون بليت ) ) قال ( ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) )
و الحديث الذي رواه أحمد و أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا و صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) )
و الحديث الذي رواه النسائي و ابن حيان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام ) ) و روى أبو يعلى في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان عن أبي
____________________
(1/251)
بكر الحنفي حدثنا عبيد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسين بن علي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( صلوا في بيوتكم و لا تتخذوها قبورا و لا تتخذوا بيتي عيدا صلوا علي و سلموا فإن صلاتكم و سلامكم يبلغني أينما كنتم ) )
و روى الروياني في مسنده و البزار و غيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال قال لي عمار بن ياسر قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ( ( يا عمار إن لله ملكا أعطاه أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه و اسم أبيه فقال صلى عليك فلان كذا و كذا فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحد عشرا ) )
وقال أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك فلان يصلي عليك كذا و كذا صلاة
____________________
(1/252)
و قال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحراث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة و إن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ ) ) قال قلت و بعد الموت قال ( ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) )
فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة و السلام يعرضان عليه و إن ذلك يصل حيثما كنا
و في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ( ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) )
و هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد و أبي داود و غيرهما في السلام عليه عند قبره وهو الذي اعتمد في زيارة قبره إذ لم يكن معهم سنة يستندون إليها في زيارة قبره إلا هذا الحديث وبقية الأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة أكثرها وضعت بعد أحمد و أمثاله
فهذه النصوص تدل على أنه يسمع سلام القريب و يبلغ سلام البعيد و صلاته لا أنه يسمع ذلك من المصلي المسلم و إذا لم يسمع سلام البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب و استغاثته بطريق الأولى
____________________
(1/253)
و الأحرى و النص إنما دل على أن الملائكة تبلغه الصلاة و السلام
و الحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهموا من هذا الحديث السلام عليه عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد
ثم نقول لا يخلو إما أن يكون الحديث عاما في سلام البعيد و القريب و إما أن يكون خاصا بالقريب فإن كان الثاني فلا حجة فيه على سماع خطاب البعيد بغير واسطة تبليغ الملائكة و إن كان الأول فالحجة فيه أضعف من وجهين
أحدهما أنه حينئذ لا يبقى السلام عند قبره بخصوصه حديث ولا سنة أصلا بل لا يبقى فرق بين السلام عليه من القريب و البعيد كما لم يفرق بين الصلاة من القريب و البعيد
لكن هذا خلاف ما عرف من السنة و خلاف ما عليه الأئمة من استحباب السلام عليه عند قبره فإنه قد سن إذا زار القبور زائر مطلقا أن يسلم عليهم و كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم و يدعو لهم
____________________
(1/254)
فكيف لا يسلم على الميت عند قبره
____________________
(1/255)
و قد كان الصحابة يسلمون عليه عند قبره وقد كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت
____________________
(1/256)
رواه مالك عن نافع عنه و رواه أحمد و غيره
الثاني إن الذي في الحديث أن الله يرد عليه روحه ليرد السلام وهذا قد يكون بتوسط تبليغ الملائكة وقد يكون بمباشرته هو سماع المسلم و إذا احتمل الأمرين فتعيين أحدهما مما يفتقر إلى دليل و الأحاديث المتقدمة تدل على أن صلاة البعيد و سلامه معروض عليه مبلغ إليه بواسطة الملائكة و ذلك ينفي السماع مباشرة من غير تبليغ فإن كان يسمع كلام المخاطب بنفسه لم يحتج إلى واسطة
و المقصود هنا أن هذا المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال و الالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال و الإضلال لجميع الناس فإن قوله كل من سأل كلام مجمل أيريد به على كل من
____________________
(1/257)
سأل الله بالمتوسل به تفريج كربة أو على من سأل الله و سأل المتوسل به أن يسأل الله أو على كل من سأل المستغاث به تفريج الكربة و إن لم يسأل الله فإن هنا أربعة معاني
أحدها أن يسأل الله بالمتوسل به تفريج الكربة ولا يسأل المتوسل به شيئا كما يفعله من يتوسل بالأموات و الغائبين
أو أن يسأل الله و يسأل المتوسل به أن يدعو له كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ثم من بعده بعمه العباس و بيزيد ابن الأسود الجرشي و غيرهما
و الثالث أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله هو
و الرابع أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله
فأما الأول فهو سائل لله وحده و مستغيث به و ليس مستغيثا بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به و حينئذ فيكون هذا
____________________
(1/258)
المعنى مطابقا لمعنى السؤال به لكن تسميته استغاثة ليس من اللغة المعروفة
و أما الثاني فهو استغاثة بالله و استغاثته بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به أي بدعائه و شفاعته وهذا هو المشروع في الدنيا و الآخرة في حياة الشفيع و سؤاله أو في مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال
و كذلك الثالث إذا سأل المتوسل به المستشفع به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة فهذا لا ريب في جوازه و إن سمي استغاثة به
و أما الرابع وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة فهذا استغاثة به ليس توسلا به بال المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم ين قادرا على تفريج الكربة لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه
فالمعنى الأول سؤال به و ليس استغاثة أصلا و بعض الناس يسميه توسلا به
و المعنى الثاني فيه استغاثة به و توسل به
و المعنى الثالث فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به
و المعنى الرابع استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من
____________________
(1/259)
ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة وليس هذا هو التوسل به و التوجه المشروع الذي كان الصحابة يفعلونه فإن ذلك إنما كان بدعائه و شفاعته حيا
وقد نص غير واحد من أهل العلم على أنه لا يجوز سؤال الله بالأنبياء و الصالحين فكيف بالاستغاثة بهم
مع أن الاستغاثة بالميت و الغائب مما لا يعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا و إنما كانوا يتوسلون بدعائهم أحياء فيسألونهم أن يسألوا الله لهم مع سؤالهم هم الله كما قال عمر بن الخطاب اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا و إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
و كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال ربما قول الشاعر و أنا أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش له ميزاب ** و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
و كذلك قال معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بيزيد بن الأسود
____________________
(1/260)
الجرشي فقال اللهم إنا نستشفع أونتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا فكانوا يسألون الله ويسألون الصالحين الأحياء منهم الحاضرين عندهم أن يسألوا الله لهم و لهم
و منه قول الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بك على الله
ومنه قول الأعمى اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( وهل تنصرون و ترزقون إلا بضعفائكم ) ) بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أى يستنصر بهم
فالاستنصار والاسترزاق يكون بالمؤمنين بدعائهم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منهم لكن دعاؤهم وصلاتهم من جملة الأسباب
وبذلك يتبين أنه من استسقى بشخص واستفتح به لا يجب أن
____________________
(1/261)
يكون أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من صعاليك المهاجرين وكذلك عمر ومن معه من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أفضل من العباس لكن يقتضي أن يكون للمستنصر به والمسترزق مزية على غيره من الناس كقرابته بالرسول أو فضل ديانته على غيره من الناس في الجملة وهذا كقوله سبقك بها عكاشة وقوله إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وأهل الشورى وأمثالهم وإن لم يكن فيهم نص خاص بذلك
بل سعد بن أبي وقاص كان مجاب الدعوة كما دعا له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( ( اللهم أجب دعوته وسدد رميته ) ) وأبو بكر وعمر أفضل منه وإن لم يجئ فيهما نص خاص بذلك
ومثل هذه الفضائل التي للمفضول تارة تكون ثابتة للأفضل و تارة يكون له ما هو أفضل منها
مثل ما في حديث أويس فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل والمستغفر له أويس أفضل من أويس وكذلك في التابعين
____________________
(1/262)
للصحابة بإحسان إلى يوم الدين من هو أفضل من أويس
وكذلك قصة موسى والخضر وموسى أفضل من الخضر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما ودعه للعمرة لا تنسنا من دعائك
فمن ادعى دعوى و أطلق فيها عنان الجهل مخالفا فيها لجميع أهل العلم ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه عليها فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق
وما زال أهل العلم إذا انتهى النزاع بينهم إلى الألفاظ مع اتفاقهم على المعاني يقولون هذا نزاع لفظي والنزاع اللفظي لا اعتبار به يستهينون بالنزاع في الألفاظ إذا وقع الاتفاق على المعاني التي يعلقها الأيقاظ ولكن من كان نزاعه لفظيا وأوهم الناس أن النزاع فيما يتعلق بالأصول ويجعل ذلك من مسائل سب الرسول علم أنه ظلوم جهول و إن كان مصيبا في الإطلاق فكيف إذا كان ضالا مفتريا في اللفظ والمعنى جميعا
والخوارج الذين كفروا عليا و عثمان رضي الله عنهما وجمهور أهل الإيمان متمسكون بظواهر من القرآن مع أنهم من أعظم الناس جهلا و ابتداعا وهم مع هذا أظهر حجة و أبين محجة من مثل هذا الضال وأمثاله
____________________
(1/263)
الذين ليس لهم فيما يبتدعونه من الشرك سوى محض البهتان و الافتراء والاعتداء فلو كان توسلهم به في مماته كتوسلهم به في حياته لكان توسلهم به أولى به من توسلهم بعمه العباس ويزيد وغيرهم فهل كان فيهم في حياته من يعدل عن التوسل به والاستشفاع إلى التوسل بالعباس وغيره وهل كانوا وقت النوازل والجدب يدعونه ويأتون العباس أم هل يفعل هذا مؤمن
فلو كان التوسل به في مماته كما كان في حياته لزم أن يكون المهاجرون والأنصار إما جاهلين بهذه التسوية وهذا الطريق أو أنهم سلكوا في مطلوبهم أبعد طريق و كلاهما لا يصفهم به إلا من كان من جنس الرافضة الأراذل القادحين في أولئك الأفاضل
ثم سلف الأمة و أئمتها و علماؤها إلى هذا التاريخ سلكوا سبيل الصحابة في التوسل في الاستسقاء بالأحياء الصالحين الحاضرين ولم يذكر أحد منهم في ذلك التوسل بالأموات لا من الرسل ولا من الأنبياء ولا من الصالحين فمن ادعى أنه علم هذه التسوية التي جهلها علماء الإسلام و سلف الأمة و خيار الأمم و كفر من أنكرها و ضلله فالله تعالى هو الذي يجازيه على ما قاله و فعله
و ألفاظ حديث الأعمى تدل على أن ذلك المشروع إذا كان الرسول
____________________
(1/264)
حيا مسؤولا سائلا لله فإن في أول الحديث أن الأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له ليرد عليه بصره ولم يطلب منه غير ذلك ثم إن النبي مع دعائه له أمره أن يتوضأ و يصلي و يقول اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيك محمد وفي رواية بنبيي محمد نبي الرحمة و هذا سؤال
____________________
(1/265)
محض لله
و حديث الأعمى رواه الترمذي و النسائي و الإمام أحمد و صححه الترمذي و لفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلا فيقول ( ( اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم فشفعه في ) )
و روى النسائي نحوه
و في الترمذي و ابن ماجة عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني فقال ( ( إن شئت دعوت و إن شئت صبرت فهو خير لك ) ) فقال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه و يدعو بهذا الدعاء فذكر نحوه
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
و رواه النسائي عن عثمان بن حنيف و لفظه أن رجلا أعمى قال يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري قال فانطلق فتوضأ
____________________
(1/266)
ثم صلى ركعتين ثم قال اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم فشفعه في قال فرجع وقد كشف الله بصره
وقال أحمد في مسنده حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله ادع الله أن يعافيني فقال إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك و إن شئت دعوت لك قال بل ادع الله لي فأمره أن يتوضأ و أن يدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي لي الله فشفعني فيه و شفعه في قال ففعل الرجل فبرأ
فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا و ميتا وهذا يستدل به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه و يظنون أن توسل الأعمى و الصحابة به في حياته كان بمعنى الإقسام به على ربه أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته ولا يحتاج هو أن يدعو لهم ولا إلى أن يطيعوه و يظنون أن كل من توسل بالرسول كما توسل به ذلك الأعمى مشروع له وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله
____________________
(1/267)
و منهم من يقول هذه قضية عين فيثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها والفرق ثابت شرعا وقدرا بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له فلا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في دعائه الله فشفعه في فعلم أنه شفع فيه وكذلك قوله إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك قال ادع لي فدعا له وقد أمره أن يصلي ويدعو هو لنفسه أيضا فحصل الدعاء من الجهتين
وكذلك قول عمر في استسقائه بالعباس فالنبي صلى الله عليه وسلم علم رجلا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق و أكرمهم على ربه و أقربهم وسيلة إليه
و كذلك لو كان كل أعمى يتوسل به و إن لم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى و لو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى و فعل كما فعل من الوضوء و الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم و إلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى
فعدول عمر و الصحابة عن هذا إلى هذا و ما يشرع من الدعاء و ينفع
____________________
(1/268)
عما لا يشرع ولا ينفع و ما يكون أنفع من غيره و هم في وقت ضرورة و مخمصة و جدب يطلبون تفريج الكربات و تيسير الخير و إنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه و لهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه
و حديث الأعمى إنما ظهر للناس بسبب كلامنا ومن جهة أصحابنا اتصل علمه إلى هؤلاء المبتدعة فإن الفقيه أبا محمد بن عبد السلام لم يقف على هذا الحديث ولم يعرف صحته فإنه علق الجواب بجواز التوسل به صلى الله عليه وسلم على صحته فكأنه لم يصح عنده إما لعدم علمه بتصحيح الترمذي له أو أنه أطلع فيه على قادح معارض
ولولا الإطالة لتكلمنا على ذلك فنحن لا حاجة بنا إلى شيء من ذلك فإنا بالحديث عاملون و له موافقون و به عالمون و الحديث ليس فيه إلا أنه طلب حاجته من الله عز وجل ولم يطلبها من مخلوق و نحن إلى الله تعالى نرغب و إياه نسأل فهو المدعو المسؤول كما أنه المعبود المستعان لا نشرك به شيئا { فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين }
____________________
(1/269)
ولو قال العبد أنا أقول في دعائي يا رب يا رب كما قالت الأنبياء ولا أقول يا سيدي و إن كان الله هو السيد إذ قد كره مالك و غيره من العلماء أن يقول العبد هذا و أمروا أن يقول كما قالت الأنبياء فصل
من شك في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهو مبتدع ضال بعد البيان و البرهان وهذا و أمثاله قد ظهر عنهم من الكذب و الافتراء ما قد تواتر عند المشايخ و العلماء و الملوك و الأمراء فلم يبق الكذب والبهتان منهم أمرا غريبا ولا فعلا عجيبا وهم في الكذب تارة يتعمدونه و تارة لجهلهم يخطئون لأنهم لا يحققون ما ينقلونه كنقلهم الأحاديث و الآثار و اللغة و الأحكام فتراهم يكذبون فيها ضلالا و جهلا لقلة العلم و التثبت و عدم التحقيق و اتباع الأهواء و الخروج عن الطريق و الخبر الذي لا يطابق مخبره إذا كان صاحبه غير مجتهد يسمى كذبا و يذم على ذلك و إن اعتقد صدق نفسه كما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية لما ذكرت
____________________
(1/270)
للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا السنابل بن بعكك قال لها لما مات زوجها وهي حامل فولدت ما أنت بناكحة حتى تمر عليك أربعة أشهر و عشر فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل
ومنه ما جاء في الصحيح أن سعد بن عبادة قال يوم فتح مكة اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال ذلك أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ( ( كذب سعد بل اليوم يوم يعظم فيه الكعبة ) )
____________________
(1/271)
و منه قول عبادة بن الصامت لما قيل له إن أبا محمد زعم أن الوتر واجب فقال كذب أبو محمد
____________________
(1/272)
و كذلك قول ابن عباس لما قيل له إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر فقال كذب نوف
فما زعمه هذا و أمثاله من أنا شككنا الناس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كذب منه فإنا لم نشكك أحدا في شفاعته في الدنيا ولا في الآخرة ولا شككوا في شيء من دين المسلمين ولا في مسألة واحدة مما دلت عليها الأدلة الشرعية و إنما شككوا بل توبوا مما عليه أهل الشرك و الكذب و الافتراء
____________________
(1/273)
و البدع و الضلال من العبادات و الأدعية المبتدعة التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وهي ليست مما شرع الله لعباده بل فيها من الإشراك بالله و اتخاذ الأنداد و الشركاء من دونه و الغلو في الدين و إيذاء أنبيائه و أوليائه و تضييع حقوقهم و مخالفة طريقهم و عصيان أمرهم و مفارقة هديهم و الابتداع في دينهم ما ليس من دين المسلمين دع ما يستلزم ذلك من فعل الفواحش المنكرات و العدوان على الخلق وأكل أموالهم بالباطل و عمى القلوب بالضلال و الغي فإن البدع في الدين سبب الفواحش و غيرها من المنكرات كما أن إخلاص الدين سبب التقوى و فعل الحسنات قال تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }
و قوله { لعلكم تتقون } متعلق بقوله { اعبدوا ربكم } لعل التقوى تحصل لكم بعبادته كما قال تعالى { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }
و من قال إن هذا مثل قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } و أن المعنى خلقكم لعلكم تتقون فقوله ضعيف لأن
____________________
(1/274)
الله أمرهم بالعبادة التي خلقوا لها كما ذكره في تلك الآية ولو أراد هذا المعنى لقال ليتقوا كما قال هنا ليعبدون وقد قال { لعلكم تتقون }
لا تفعل الشيء مترجيا لعاقبته فإنه عالم بالعواقب و لكن يأمر العباد بفعل الشيء لما يرجون من عاقبته كما قال تعالى { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } فهما قالا ذلك راجيين منه التذكرة و الخشية لا أن الله يرجو ذلك مع علمه تعالى بأنه لا يتذكر ولا يخشى
وقال { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } ولا يجوز أن تكون تقواهم هي الغاية المطلوبة من خلق الأولين و الآخرين بل كل إنسان مطلوب منه أن يعبده وإن لم يعبده غيره و كان تعليله أن يقال لعلكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم
وقوله { اعبدوا ربكم } أي أخلصوا له العبادة فإن ذلك سبب التقوى كما قال عن يوسف عليه السلام { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }
____________________
(1/275)
وقال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }
وقال تعالى { إلا عبادك منهم المخلصين }
فتبين بذلك أن عباد الله المخلصين لا يغويهم الشيطان و إنما يغوي من أشرك بالله كما قال تعالى { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }
و قال تعالى { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة } الآية
فالتوحيد أصل كل خير و جماعة و الشرك أصل كل شر و جماعة و الموجبتان من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار و لهذا لما جمع سبحانه و تعالى بين
____________________
(1/276)
ما أمر به و بين ما حرمه في قوله تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين }
ثم قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فصل
و أما ما ذكره بأنه استباح نفي صفة من صفات الكمال عن النبي صلى الله عليه وسلم فكذب باطل لم ينف شيئا من صفات الكمال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صفات الكمال قائمة به من العلم و الإيمان و النبوة و الرسالة و ختمها و لوازم ذلك بل و سائر ما خصه الله به من الخصائص التي فضله بط على إخوانه من المرسلين قد علم أن أهل العلم و الإيمان و التوحيد أعلم بها و أعظم إثباتا لها من أهل الشرك و الجهل و الضلال بل وهم يعجزون في كثير من المواضع أن يردوا على النصارى ما هم فيه من
____________________
(1/277)
الشرك و الجهل لمشاركتهم لهم في ذلك بل قد يزيدون أشياء لا تستجيزها النصارى
ومن أظهر الإسلام وكان منافقا فهو شر من النصارى كما كان المنافقون من الملاحدة و القرامطة الباطنية و نحوهم ممن هو في الباطن لا يقر بما يقر به اليهود و النصارى من أصل التوحيد و الرسالة و المعاد و الأعمال الصالحة و إن كان أهل الكتاب قد كفروا من ذلك بما صاروا به كافرين كما قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } الآية
فالمنافقون الذين لم يقروا في الباطن بأصل ذلك شر من أهل الكتاب كما قال تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }
و من كان مشاركا لهم فيما ذمهم الله عليه فهو شر منهم أو في بعضه ففيه من الشبه بهم الذي يستحق به الذم بقدر ذلك و من قال ما يعلم من دين الإسلام خلافة فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب و إلا قتل باتفاق الأئمة رضي الله عنهم
و أصل الكفر والشرك مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الجهال فيهم من الشرك و مخالفة الرسول ما لا خفاء به على المؤمن العليم وهم فيه على
____________________
(1/278)
درجات
منهم من يأتي بالشرك البين و الإنكار البين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يستتاب باتفاق الأئمة
و منهم من هو مخطئ في دقيق ذلك
و منهم من هو بين هذا و هذا إما فاسق و إما عاص
فكيف يقاس هؤلاء بخلفاء الرسل وورثة الأنبياء المتبعين ملة إبراهيم المحضة
قال تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } وقال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين }
و إذا قال هذا الرجل عنهم إنهم نفوا الاستغاثة به مطلقا فهو كذب عليهم و إنما نفوا الاستغاثة به و بسائر الموتى في حال موتهم أو حال مغيبهم و إذا قدر أن سائلا سأل عالما هل يستغاث بالرسول صلى الله عليه و سلم في حال موته فقال لا يستغاث به كان جوابه المطلق مقيدا بسؤال السائل له و إذا ذكر كلام من استغاث به بعد موته أو نظم شعرا في الاستغاثة به
____________________
(1/279)
في حال موته فأنكره أهل الإيمان على هذا المستغيث به بعد موته كانوا منكرين لهذه الاستغاثة المقيدة لا المطلقة
وقال في الرد إذا كنت قد جعلت الاستغاثة هي طلب الغوث كالاستعانة و الاستنصار و أنه يجوز إسنادها إلى المخلوق مطلقا فيستغاث بالمسلم و الكافر والبر والفاجر كما يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستنصر به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) ) لم تكن الإغاثة من خصائص المؤمنين فضلا عن أن تكون من خصائص النبيين أو المرسلين وحينئذ فإذا قدر أن أحدا نفاها كما افتريته فإنما نفى وصفا مشتركا بين جميع الآدميين ونافيها عنه لا يتصور أن يخصه بالنفي والحالة هذه فإن هذا لا يقوله مؤمن ولا كافر فإن الكافر به لا ينازع أنه من الآدميين فإذا كان المنفي عنه لا يختص به كان نفيه عنه نفيا له عن سائر الآدميين وصار ذلك بمنزلة أن يقال لا يستغاث أحد من الآدميين ولا يستنصر به ولا يستعان
وقائل هذه العبارة إما أن يريد بها ما يريده الناس من هذه العبارة
____________________
(1/280)
عند الإطلاق من تحقيق التوكل والتوحيد بأن العبد لا يسأل إلا الله ولا يطلب النصر المطلق والغوث المطلق والإعانة إلا من الله تعالى فهذا معنى صحيح
وأما الأول فهو صحيح إذ المقصود أن المخلوق لا يسأل فإن الله لم يأمر أحدا بسؤال المخلوق شيئا وإن كان المخلوق يجب عليه أن ينصر أخاه ويعينه ويغيثه فذلك يطلب منه من حيث أمره الله به كما يؤمر بسائر ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يجب أن يطلب منه على جهة السؤال له والذل والخضوع والتضرع له كما يسأل الله تبارك وتعالى بل مسألة المخلوق هي في الأصل محرمة وتباح عند الحاجة والأفضل الاستعفاف عنها مطلقا
وأما السؤال عن العلم فلا ريب أن السائل قد وجب عليه أن يطيع العالم فيما يخبره به من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما وجب على العالم أن يخبره بأمر الله ورسوله والسؤال هنا من باب التعاون على البر والتقوى كصلاة الجمعة والجماعة والجهاد والتعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالسائل للعالم في الحقيقة يذكر له ما يوجب عليه بيان العلم كما يذكر له العالم ما يوجب عليه قبول ما يقوله العالم بخلاف سؤال ما يختص به السائل من مال ونفع
فكلامه يقتضي أن الاستغاثة بالمخلوق ليست واجبة ولا مستحبة ولا
____________________
(1/281)
مباحة فإن قوله تعالى { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } لا يقتضي أنه شرع لنا وجوبا ولا استحبابا مثل هذه الاستغاثة بل ولا يقتضي الإباحة فإن هذا الإسرائيلى ليس ممن يحتج بأفعاله بل ولا في الآية ما يقتضي أن هذا المستغيث بموسى كان مظلوما بل لعله كان ظالما وموسى لما أغاثه فقتل عدوه ندم على ذلك وقال { هذا من عمل الشيطان }
ثم قال { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له }
ثم قال { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين } فشهد فيه موسى بأنه غوي
وكذلك قول الشيطان لإتباعه { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } أي بمغيثكم وما أنتم بمغيثي فهذا ينفي وجود الإغاثة ولو كانت واقعة لم يكن فعل الشيطان وأتباعه دليلا على جواز ذلك في الشرع وإن سمي ذلك في اللغة استغاثة
____________________
(1/282)
وقول هاجر أغث إن كان عندك خير أو غواث إن جعل قولها حجة في الشرع فإنما يدل على الجواز وإن لم يجعل حجة في الشرع وهو الصواب فإنها ليست نبية فلا يدل على جوازه
وأما قوله اسقنا غيثا مغيثا فإنه إنما يدل على تسمية المطر غيثا وهذا أمر لغوي فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستغث بالمطر وإنما استغاث بالله فقال ( ( اللهم أغثنا ) ) حتى نزل المطر الذي يسمى مغيثا لما فيه من
____________________
(1/283)
إزالة الشدة والأفعال تضاف إلى المخلوق بجهة وتضاف إلى الخالق بجهة أتم منها
وأما فعل البهيمة فهو كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزة أكرمه الله بها وإلا فأفعال البهائم لا تصلح بمجردها شريعة لبني آدم لكن يقع
____________________
(1/284)
الاستدلال بها من باب التنبيه كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( ( العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه وليس لنا مثل السوء ) )
فإذا كان فعل الآدمي مما يذم من فعل البهائم نهي عنه وكذلك إذا صدر من البهيمة ما تحمد عليه يقال فالآدمي أحق بذلك وإذا كانت البهائم والجمادات تعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق بتعظيمه كما قال الحسن البصري في حنين الجذع إذا كان الجذع يحن إليه فأنتم أولى
____________________
(1/285)
بالحنين إليه
وهذا حسن لكن تعظيمه إنما يكون بطاعته و متابعته و معاونته و ما فيه زيادة لثوابه و رفع لمنزلته وهو مراد الحسن و غيره لا بأمور مبتدعة لا سيما إذا كانت من باب الشرك و فيها تكليف له فإن سؤاله في حياته و إن كان جائزا في الجملة فليس من باب التعظيم له والا التوقير ولا من فعل خيار أصحابه و إنما كان ذلك أهل الجفاء كالأعراب ومن هو حديث عهد بالإسلام دون أكابر المؤمنين و إن وقع ذلك منهم وقع قليلا
ولو قدر أن الاستغاثة بالمخلوق و سؤاله و الطلب منه واجب أو مستحب أو مباح فالكمال ليس في استغاثة المستغيث و طلب الطالب بل هو في فعل المستغاث به فإذا فعل المطلوب و أغاث المكروب كان ذلك من كماله فمن نفى عن شيء من المخلوقين خصائص الخالق لا يقال إنه نفى عن المخلوق صفة من صفات كماله فإذا قال ليس أحد من المخلوقين لا ملك و لا نبي ولا غيرهما لا ربا و لا خالقا للخلق و لا مالكا للملك ولا هو بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير و نحو ذلك لم يكن نفى عن المخلوق شيئا من صفات كماله بل نفى عنه ما ليس إلا لله وحده وهذا من تحقيق التوحيد لله وهو أن ينفي عن خلقه كلهم ما لا يكون إلا له فيقول لا إله إلا الله فلا تصلح الإلهية إلا له بل الخلق كلهم عباده
____________________
(1/286)
فصل
و قوله لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بإهلاكه و إهلاك أمثاله خصوصا أهل الدولة و أصحاب الحكم إلى آخره فيقال
كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع و اتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم و حزبه الجاهلين الظالمين و كانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين
وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به و بأحزابه أليق وهم به أحق و هكذا فعل الله تعالى بهم حيث عاقبه و حزبه عقوبة المعتدين الظالمين عقوبة لم يعاقب بها أحدا من أشكالهم وهؤلاء مضاهون للمشركين الذين ناظروا إمام الحنفاء إبراهيم صلوات الله عليه و سلامه كما قال تعالى { فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } إلى قوله { إن ربك حكيم عليم } فإنهم خوفوا إبراهيم بمن عبدوه من دون الله فقال لهم { ولا أخاف ما تشركون به } فإنه ليس للمؤمن أن يخاف إلا الله فلا يستحق ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يخشى و يتقى كما لا يستحق
____________________
(1/287)
أن يصلي له و يصام بل هذا كله لا يصلح إلا لله وحده لا إله إلا هو
ثم قال الخليل { إلا أن يشاء ربي شيئا } وهذا استثناء مقطع أي لكن إن شاء ربي شيئا كان فأنا أخاف ربي
ثم قال { وكيف أخاف ما أشركتم } من المخلوقات و أنتم لا تخافون إشراككم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا يقول فكيف لا تخافون أنكم عبدتم غير الله بغير سلطان من الله و هكذا يقول أتباع إبراهيم الخليل الذين هم على ملته لمن خرج عنها من أشباه النصارى و غيرهم كيف نخاف ما أشركتموه و دعوتموه من دون الله كائنا من كان سواء كان ملكا أو نبيا أو شيخا أو غيره و أنتم لا تخافون الله حيث دعوتم غيره بغير سلطان من الله فإن هذا الذي تفعلونه بدعة لم يأمركم الله بها ولا رسوله وفيها من الشرك ما فيها ولو لم يكن فيها شرك فكيف يسوغ لكم أن تشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله
و معلوم أن من شرع عبادة يتقرب بها إلى الله و يجعلها وسيلة له إلى الله يرجو عليها ثواب الله إما واجبة أو مستحبة فلا بد أن يكون من الدين الذي شرعه الله و أمر به و إلا كان حظ صاحبها الإبعاد و الطرد و لهذا قال الفقهاء العبادات مبناها على التوقيف و الاتباع لا على الهوى و الابتداع وقد قال الله لنبيه { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه } فهو داع إلى الله بإذن الله لا من تلقاء نفسه بل أمر
____________________
(1/288)
الله له و هؤلاء داعون إلى غير الله بغير إذن الله فيقال لهم ائتماما بإمام الحنفاء إبراهيم الذي يجب على كل مسلم أن يأتم به و كيف نخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } و الظلم هنا هو الشرك كما في الصحيح من حديث ابن مسعود فتبين أن أهل الإخلاص أحق بالأمن من أهل الإشراك به قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا }
____________________
(1/289)
فغاية الأمر ما قد أقر به هذا الرجل على نفسه و على أصحابه لما خاطبه بعض أصحابنا فقال أنتم نسبتمونا إلى الشرك و نحن ننسبكم إلى التنقص بالرسول
فغاية الأمر أن ما يدعيه على منازعيه تنقص بالرسل وهم يقولون عنه و عن أمثاله إنهم مشركون و معلوم أن الشرك أعظم الذنوب كما أن التوحيد أعظم الحسنات كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين قال قلت يا رسول الله إي الذنب أعظم قال ( ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ) إلى آخره وقد قال الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية و الأية الأخرى فأخبر أنه لا يغفر الشرك و ما دونه موقوف على المشيئة
و أعظم ما دعا الله الخلق إليه في كتابه و دعت الرسل هو التوحيد
____________________
(1/290)
و أعظم ما نهى عنه الشرك وهو أصل دعوة الرسل و أساسها و رأسها و أكمل ما فيها و به بعث الله جميع الرسل كما قد صرح به القرآن في أكثره فهو مملوء به
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أول ما دعا المشركين إلى كلمة التوحيد و أن بالإقرار بها يصير الرجل مسلما و بالامتناع عنها يصير كافرا و أنه قال صلى الله عليه وسلم ( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) ) فلا يصير الرجل مسلما حتى يشهد هذه الشهادة فإنها رأس الإسلام فهي واجبة في كل خطابة فكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذمى و لهذا وجبت في التحيات و سميت التحيات تشهدا باسم التشهد الذي فيها و بها ختمت التحيات
و روى الترمذي و أبو حاتم و الحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( أفضل الذكر لا إله إلا الله و أفضل الدعاء الحمد لله ) )
____________________
(1/291)
وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( أفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد وهو على كل شيء قدير ) )
____________________
(1/292)
و عليها شرع الجهاد الذي هو سنام العمل كما قال تعالى { الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }
و في الآية الأخرى { ويكون الدين كله لله }
و أهل هذه الكلمة هم السعداء فمن مات عليها دخل الجنة كما ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) )
____________________
(1/293)
وفي السنن عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) )
و في المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت روحه لها روحا ) ) وهي الكلمة التي عرضها
____________________
(1/294)
على عمه أبي طالب قال ( ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) ) قال عمر و أي كلمة أفضل من كلمة ألاص بها النبي
____________________
(1/295)
صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب
وهذا باب واسع فلا يعرف في دين الأنبياء و المرسلين و أتباعهم من الأولين و الآخرين ولا كتب رب العالمين أمرا أعظم من التوحيد وهو أول الكلمات العشر التي في التوراة و نظيرها الوصايا العشر التي في آخر الأنعام
و أهل التوحيد هم المستحقون للشفاعة يوم القيامة كما ثبت في الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم ( ( يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ) )
____________________
(1/296)
وقد ثبت أن الشرك جنس تحته أنواع و كله مذموم وإن كان بعضه أكبر من بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) )
____________________
(1/297)
وقد روى ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) ) فقال أبو بكر الصديق فما المخرج منه يا رسول الله فقال ( ( قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك و أنا أعلم و أستغفرك لما لا أعلم ) )
____________________
(1/298)
____________________
(1/299)
و الشرك له شعب تكبره و تنميه كما أن الإيمان له شعب تكبره و تنميه و إذا كان كذلك فإذا تقابلت الدعوتان فمن قيل إنه مشرك أولى بالوعيد ممن قيل فيه إنه ينتقص الرسول فإن هذا إن كان مشركا الشرك الأكبر كان مخلدا في النار وكان شرا من اليهود و النصارى و إن كان مشركا
____________________
(1/300)
الشرك الأصغر فهو أيضا مذموم ممقوت مستحق للذم و العقاب
وقد يقال الشرك لا يغفر منه شيء لا أكبر و لا أصغر على مقتضى عموم القرآن و إن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلما لكن شركه لا يغفر له بل يعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة
و بالجملة فالشرك أعظم من التكذيب بالرسالة و لهذا كان المشركون أكفر من اليهود و النصارى المكذبين برسالته فكيف بما يقال إنه تنقص و النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتل المشركين ولا يقتل المتنقصين وقد قال له ذو الخويصرة اعدل فإنك لم تعدل وقال له بعض الناس إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ونحو ذلك فلم يقتل أحدا ممن تنقصه و آذاه ممن دخل في الإسلام و إن كان يجب قتل من يقول هذا اليوم لكون الحق في حياته كان له فأسقطه كما قد بسطناه في كتاب الصارم المسلول
____________________
(1/301)
و المقصود أن ما يجب قتل صاحبه بكل حال أعظم ممن ليس كذلك و سيئته أعظم من سيئة المنتقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم
و يقال أيضا منازعوه يقولون قول هذا القائل قول يتضمن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم و الطعن في دينه و أمره و أذى الله و رسوله و ذلك أعظم من التنقص باتفاق المسلمين ولهذا يقال كل مشرك مكذب برسول الله متنقص به و ليس كل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم أو تنقصه يكون مشركا فصار قوله متضمنا لتنقص الرسول مع الشرك عند منازعيه و قولهم لم يتضمن عنده إلا مجرد التنقص فكان ما يذكرونه من الوعيد لحزبه أعظم مما يذكر هو من الوعيد
و الناس متنازعون في أهل الكتاب هل يدخلون في المشركين أم لا كما في قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وهل هم مشركون أم لا و التحقيق أن أصل دينهم ليس فيه شرك لكن ابتدعوا نوعا من الشرك و لهذا قال تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فجعل المشركين غير أهل الكتاب
____________________
(1/302)
وقد قال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فأخبرهم أنهم أشركوا
فإن قيل هؤلاء لم يتعمدوا الكذب و الطعن في دينه بل هم متأولون ظانون أن ذلك تعظيم له فلا يكونون كفارا
قيل و كذلك قاله من قصد الإيمان به وما جاء به من التوحيد و قصدوا متابعته و طاعته لم يقصدوا التنقص به لو كان لازم ما قالوه تنقصا في نفس الأمر لهم أولى بالعذر منهم فقوله مع الشرك يتضمن أذى الله و رسوله و المؤمنين وقولهم فيه تعظيم لله و رسوله
أما أذى الله فإنه قد ثبت في الصحيح لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدا و شريكا وهو يعافيهم و يرزقهم
و قوله يتضمن من إثبات الأنداد لله ما يوجب ذلك
و أما أذى الرسول فإن سؤاله ما لا يقدر عليه أذى له و عدوان عليه
____________________
(1/303)
و أيضا ترك العمل بسنته و شرعته ينقص الثواب الواصل إليه فإن الأمة إذا عملت بسنته كان له مثل أجورهم فمن عمل بما قرره من التوحيد والسنة أثابه الله على ذلك ثوابا عظيما وكان للرسول مثل ذلك الثواب ومن صد الناس عن هذا منع هذا الأجر أن يصل إلى الرسول فهؤلاء المشركون مؤذون للرسول من جهة جلب ما يضره إليه ومنع ما ينفعه عنه
وأما أذاهم للمؤمنين فنهيهم لهم عن توحيد الله وطاعة رسوله وذمهم على ذلك وشتمهم فهم ممن قال الله تعالى فيهم { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا }
وأما أهل التوحيد فإذا فعلوا ما جاءت به السنة وحدوا الله بإيمانهم وطاعتهم وسؤالهم له وحده لا شريك له حصل للرسول مثل ثوابهم وكانوا متبعين لأمره مريحين له من أذاه بسؤاله وفي هذا من جلب ما يسره إليه ودفع ما يضره عنه ما هو من تمام تعزيزه وتوقيره الواجب على أمته له ومن المعلوم أن تصديق الرسل وطاعتهم خير من الغلو فيهم بلا تصديق ولا طاعة
وقد وقف هذا الرجل على الكتاب الذي صنفه المجيب في ساب
____________________
(1/304)
الرسول واعترف أنه ما رأى في هذا الباب مثله فكيف يسوغ له مع هذا أن ينسبه إلى نقيض ذلك
ولو قدر أن هذا في نفس الأمر تنقص فهو مما تكلم فيه صاحبه بالاجتهاد وقد أجمع المسلمون على أن مسائل الاجتهاد لا تدخل في السب الذي يستحق صاحبه الوعيد والقاضي عياض من أعظم الناس قولا بالعصمة وأشدهم على الساب وقد ذكر أن نفاة العصمة ونحوهم لا يدخلون في السب الموجب للحد وإن قدر أن قولهم يتضمن تنقصا
ونظائر هذا كثيرة مثل تنازع الناس هل يصلى عليه عند الذبيحة فأكثرهم لا يستحبون ذلك بل مذهب مالك واحمد المنصوص عنه كراهته ومنهم من يستحبه كقول الشافعي وبعض أصحاب أحمد
وكذلك تنازعهم في وجوب الصلاة عليه في التشهد الأخير هل هو ركن أو واجب أو مستحب فيه نزاع مشهور وأكثر العلماء لا يوجبونه ولا يقال إن من كره الصلاة عليه في مواطن أو لم يوجبها إن هذا تنقص به
وكذلك تنازع العلماء هل كان يستحق الصفي في حياته وهل كانت أربعة أخماس الغنيمة ملكا له وهل كان الفيء ملكا له ولا يقال إن من نفى ملكه لذلك فقد تنقصه
____________________
(1/305)
وتنازعوا في بوله وغائطه فجمهور المسلمين من الأولين والآخرين على أن ذلك نجس ولهذا صح عنه أنه كان يستنجي ويستجمر ولا يقال هذا تنقص له
والجمهور يفرقون بين شعره وبوله فشعره طاهر وبوله نجس وطائفة نجست شعره وبوله ومن الناس من قال بطهارتهما ولا يقال لمن سوى في هذا الحكم بين شعره وبوله إنه ساب له
وجمهور العلماء على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء وإن كانوا لا يقرون عليها ولم يقل أحد إن هذا سبب لهم يوجب الكفر والقتل والأنبياء يجوز عليهم المرض والجوع والنسيان ونحو ذلك بالإجماع ولا يقال هذا تنقص لهم وكذلك يجوز عليهم عند عامة أهل السنة أن يصابوا بالسحر وأنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وتنازع الناس هل في سنته ما يقوله باجتهاد وإذا اجتهد هل يجوز عليه الخطأ لكن لا يقر عليه
وأكثر الفقهاء يقولون بالأمرين ولم يقل أحد إن هؤلاء سابون له وإلا فيكون أكثر أصحاب مالك والشافعي وأحمد يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم
وتنازع الناس إذا أراد أن يسلم عليه بعد وفاته هل يستقبل القبر ويستدبر القبلة أو لا يستقبل القبلة على قولين
____________________
(1/306)
ثم تنازعوا هل يستدبر القبر أو يجعله عن يساره على وجهين
والأول هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثاني مذهب أبي حنيفة ولم يقل أحد إن هذا تنقص ومثل هذا كثير في الأحكام المتعلقة به صلى الله عليه وسلم مما يجب له ويباح ويحرم ويكره ويستحب
قال البكري وأورد هذا الرجل حديثا أن منافقا كان يؤذي المؤمنين قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ) )
قال والكلام على استدلال هذا الكافر الضال من وجوه
الأول عدم تسليم صحة الحديث له إلى آخر كلامه
قال الشيخ والجواب عن هذا الكلام مع ما فيه من الجهل والإلحاد والحلول والشرك في الدين والافتراء على الله والرسول وعباده المؤمنين أن يقال
هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن
____________________
(1/307)
معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الإعتضاد والمعاونة لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الإعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للإعتضاد فما يصلح للإعتضاد نوع وما يصلح للإعتماد نوع
وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة وقد قال أحمد قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم ولكن قيل إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثة غلط ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديما وبين من حدث عنه حديثا وأهل السنن يروون له
والسياق الذي ذكر فيه هذا الحديث في جواب الفتيا لفظه فأما ما
____________________
(1/308)
لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم إلى أن ذكر الحديث لأن فيه لفظ الاستغاثة التي كان فيها النزاع وهو في كتاب مشهور وقد روى الناس هذا الحديث من أكثر من خمس مئة سنة إن كان ضعيفا وإلا فهو مروي من زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما زال العلماء يقرؤون ذلك ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول إنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر ولا حرام
وكان في إيراده بيان تقدم تكلم العلماء والسلف بهذا اللفظ ولو كان عبد الله بن لهيعة ذاكرا لا آثرا ولم ينكره المسلمون عليه لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا مثل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وكان زمانهما متقاربا فإنه من أعيان الفقهاء المفتين وإن كان في حديثه ضعف وكذلك شريك بن عبد الله وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهم من المشهورين بالفتيا إذا تكلم في حديثهم لم يمنع هذا أن يكونوا من المجتهدين المفتين إذا كان النزاع في إطلاق لفظ وقد أطلقه أحد هؤلاء العلماء إما آثرا وإما ذاكرا وسمعه الناس منه ونقلوه عنه ولم يعرف أن أحدا أنكره علم أن علماء المسلمين
____________________
(1/309)
كانوا يتكلمون بمثل هذا اللفظ وأن المتكلم به ليس خارقا للإجماع ولا مبتدعا لفظه لم يسبق عليه
بآخر الأصل المخطوط المطبوع عليه هذا الجزء ما خلاصته
بلغ معارضته على أصل مخطوط جيد في مكتبة الأفاضل بني شطي في دمشق الشام وتمت المعارضة في 25 جماد الثانية سنة 1330 وكتبه جمال الدين القاسمي عفي عنه يليه تتمته وأوله وأما ما ذكره من تأويل الحديث إلخ
____________________
(1/310)
____________________
(1/311)
____________________
(1/312)
بسم الله الرحمن الرحيم
وأما ما ذكره من تأويل الحديث فهو من جنس دين النصاري لا من جنس دين المسلمين وبيان ذلك من وجوه
الأول قوله إن الله تعالى لتشريف رسوله والمقربين عنده خاطبهم تارة بتنزيلهم منزلة نفسه في الأفعال وتارة نزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف وكلاهما تشريف عظيم
فيقال هذا كذب على الله وشرك به وهو من جنس أقوال أهل الحلول والاتحاد فليس في خطاب الله المطلق تنزيل أحد منزلة نفسه في الأفعال ولا تنزيل نفسه في الأفعال والأوصاف منزلتهم بل هو إله واحد لا شريك له وكل من في السماوات والأرض آتيه عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
____________________
(1/313)
ومن قال إن الرب عز وجل ينزل المخلوق منزلة نفسه في الأفعال أو ينزل هو منزلة المخلوق في الأفعال والأوصاف فقد زعم أن الله سبحانه يجعل له ندا وأنه يقيم المخلوق مقامه في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإجابة الدعاء وكونه معبودا وأنه يقوم مقام العبد في الصلاة والصيام والطواف وغير ذلك من أفعال العباد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال تعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون }
ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا حتى إن كثيرا من النظار المثبتين للقدر كالأشعري وغيره جعلوا هذا أخص وصف للرب تعالى كما جعل الجبائي وغيره من
____________________
(1/314)
المعتزلة أخص وصفه القدم
ومقصود المعتزلة أن لا يثبتوا له صفة قديمة لامتناع المشاركة في أخص وصفه ومقصود أولئك المثبتين أن لا يشركه غيره في الخلق وقد يقولون لا يشركه غيره في الفعل وهو قول من يقول العبد فاعل مجازا لا حقيقة وهو كاسب حقيقة كما هو قول الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو في الأصل قول جهم بن صفوان وهو أول من عرف في الإسلام أنه قال إن العبد ليس بفاعل لكن جمهور أهل السنة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون إنه فاعل حقيقة وجمهور هؤلاء يقولون إن فعله مفعول للرب بناء على أن الخلق غير المخلوق كما هو قول الأكثرين وهو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء
وأما من قال إن الفعل هو المفعول وإن فعل العبد فعل الرب ولم يفرق بين الفعل والمفعول فيلزمه لوازم تبطل قوله كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن القدرة على الاختراع من خصائص الرب وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة بل علمه بكل شيء من خصائصه وقدرته على كل شيء من خصائصه وخلقه لكل شيء من خصائصه
____________________
(1/315)
والمقصود هنا الكلام على قول هذا الرجل الذي ضاهى المشركين الحلولية من النصارى وغالية الشيعة وجهال الصوفية حيث قال إن الله تعالى ينزل المقربين منزلة نفسه تارة وينزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف تارة فإن هذا كلام مخالف لدين المسلمين وسنبين جهله وخطأه فيما تأوله على ذلك من القرآن والحديث فنقول
أما قوله تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } فليس فيها أن نفس الفعل القائم بالرسول ومخاطبته لهم ومد يده لمبايعتهم هو نفس فعل الله ومخاطبته ومبايعته بل فيها أن من بايع الرسول فقد بايع الله كما قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ) )
____________________
(1/316)
فطاعة أميره طاعته ومعصية أميره معصيته لأنه أمر بطاعته فمن أطاعه أطاع الله لأن الله أمر بامتثال ما أمر به لأن أمره من أمر الله لا أن نفس الفعل القائم بأميره نفس فعله ولا نفس فعله هو نفس فعل الرب تعالى
واعلم أن من قال من النظار إن أفعال العباد كلها فعل الله فلا فرق عندهم بين أفعال المؤمنين والكفار والبهائم وحركات الجمادات فإن مرادهم أن كل ما سوى الله فهو فعله أي مفعوله وعلى قول هؤلاء
____________________
(1/317)
فلا فرق بين فعل الرسول وغيره وليس في كون الله خالقا لشيء تفضيل لذلك المخلوق على غيره فإن الله خالق كل شيء
كذلك على قول الجهور الذين يقولون إن أفعال العباد مفعولة له مخلوقه له ليست فعله بل هي فعل الفاعلين والله تعالى خالق الفاعل وفعله فعلى القولين لا فضيلة في ذلك لمخلوق على مخلوق فلا تظن أن في هذا تشريفا لمقرب ولا رسول ولا غيره
وهذا ما يبين به خطأ هؤلاء الجهال الذين لا يفرقون بين ما خلقه وقدره وما أمر به وفرضه فجعل الله تعالى مبايعة الرسول مبايعة الله وطاعة الرسول طاعة الله ليس من جهة خلق الله أفعال العباد والقيومية الشاملة للمخلوقات فإن كونه خالقا لكل شيء وكونها بمشيئته وقدرته ليس فيها تفضيل مخلوق على مخلوق إذ التفضيل إنما يكون
____________________
(1/318)
بما به الاختصاص لا بما يشترك الجميع فيه
ومن جعل مبايعة الرسول مبايعة لله لأجل أن الله خالق كل شيء نظرا منه إلى القيومية الشاملة لكل مخلوق لزمه أن يكون من بايع الكفار والفساق مبايعا لله لأن الله خالق كل شيء فيكون هؤلاء قد جعلوا مبايعة خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه كمبايعة فرعون وأمثاله من المشركين وهذا يقع فيه كثير ممن يلحظ القيومية الشاملة العامة المتناولة لكل مخلوق وهؤلاء من أكفر الخلق ويجعلون هذا منافيا للأمر والنهي وهم من جنس الذين قالوا { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } إلى قوله { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن }
وكذلك هؤلاء إنما يتبعون أهواءهم ولا يتكلمون بعلم فإن قولهم في غاية المناقضة فإن الواحد من هؤلاء إذا آذاه غيره أو ظلمه
____________________
(1/319)
قابله وعاقبة ولا يمكنه أن يعذره بالقدر ومشاهدة القيومية كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع
وجهة تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة كون الله تعالى أرسله مبلغا لأمره ونهيه مبينا لما يحبه ويرضاه وما يبغضه ويسخطه فما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فالله أمر به وما نهى عنه فالله نهى عنه ومن بايعه وعاهده وعاقده على أن يطيعه في الجهاد إذا أمره به وأن لا يفر أو على أن يقابل حتى يموت كما بايعه المسلمون تحت الشجرة فهم معاهدون الله تعالى معاقدون له على طاعته فيا أطاعوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك الذين بايعوه قبل ذلك ليلة العقبة لما بايعه الأنصار ولهذا قال تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا }
فسمعهم وطاعتهم لا أمرهم ومعاهدتهم على ذلك هو سمع وطاعة
____________________
(1/320)
لله تعالى و معاهدة له و عهد الله إلى خلقه وهو أمره و نهيه الذي بلغته رسله و التخصيص و التفضيل يظهر في الوفاء به و متابعة الرسل ولهذا قال تعالى { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } أي أوفوا بأمري أوف بوعدكم الذي وعدتكم على الوفاء به فإن المبايعة و المعاهدة تتضمن المعاوضة من الجانبين فهم إذا أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الطاعة وفي الله تعالى بما عاهد عليه من الأجر و الثواب كما قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك و لنفسك و لأصحابك فقال ( ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا و لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أبناءكم و نساءكم و لأصحابي أن تواسوهم ) ) قالوا فإذا
____________________
(1/321)
فعلنا ذلك فما لنا قال ( ( لكم الجنة ) ) قالوا امدد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك
____________________
(1/322)
فهم لما عاهدوه على هذا ليطيعوه فيه قد عاهدوا ربه عز وجل الذي أمرهم بذلك و الله تعالى هو الذي يوفي بعهدهم فيدخلهم الجنة
وفي الحديث الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي أنه قال ( ( سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على و أبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها حين يصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة و من قالها حين يمسي موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) )
____________________
(1/323)
فقوله و أنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي على ما عهدته إلينا من طاعتك ووعدك ما وعدتنا به من ثوابك أمتثل أمرك و أرجو وعدك
و من المعلوم أن الإنسان لو استناب نائبا ووكل وكيلا في عقود كبيع و إجارة و مزارعة ونحو ذلك لكان المعاقد للوكيل معاقدا لموكله بحيث إن وفى الموكل فقد وفى للوكيل و إن غدر بالوكيل فقد غدر بالموكل و الموكل عليه أن يوفي بما عاقد عليه الوكيل و الوكيل إذا استمر موكله في العقد تعلقت حقوق العقد بالموكل وهل يكون الوكيل ضامنا على قولين معروفين هما روايتان عن أحمد
____________________
(1/324)
و من قال إن حقوق العقد تتعلق بالوكيل كما يحكى عن أبي حنيفة يقول إنها بعد ذلك تنتقل إلى الموكل
و لهذا تنازعوا في المسلم إذا وكل ذميا في شراء الخمر فقال الجمهور لا يصح لأن الملك يحصل للموكل و المسلم ليس له أن يملك الخمر و أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ملكها الذمي ابتداء ثم دخلت في ملك المسلم ضرورة كالميراث
وعلى كل تقدير فمآل الأمر إلى الموكل ومع هذا ففعل الوكيل متميز عن فعل موكله و كلامه متميز عن كلامه ليس أحدهما هو الآخر ففعل المخلوق أشد مباينة لفعل الخالق من مباينة فعل مخلوق لمخلوق
و إذا كان مبايعة الوكيل مبايعة للموكل مع تمييز الفعلين فالتمايز في الخالق أولى ولو أرسل مرسل رسولا إلى شخص ليعاقده عقدا من العقود هدنة أو نكاحا أو غير ذلك لكانت معاهدة الرسول معاهدة لمرسله مع تمييز أحد الفعلين عن الآخر
و مع كون المرسل و الرسول من جنس واحد و مع أنه يمكن أن
____________________
(1/325)
يقيم الموكل وكيله مقامه في عامة أفعاله لأن الوكيل يفعل مثل ما يفعله موكله و أما الرب سبحانه و تعالى فيمتنع أن يفعل أحد مثل فعله و يمتنع أن يستخلف أحدا يقوم مقامه في فعله فإنه سبحانه و تعالى خالق فعل ذلك الشخص وهو سبحانه و تعالى شاهد لا يغيب و هذا موضع غلط فيه طائفة من الناس فظنوا أن الله سبحانه و تعالى يستخلف أحدا عن نفسه و ادعى بعضهم أن آدم خليفة عن الله في الأرض يقوم مقامه و أنه جمع له أسماءه الحسنى قالوا وهو معنى تعليمه الأسماء كلها
وهذا قول أهل الحلول و الاتحاد كابن عربي صاحب الفصوص و أمثاله من أهل الإلحاد و هذا جهل و كفر فإن الله تعالى هو الذي يخلق كل شيء و يدبر أمر السماء و الأرض وهو خالق آدم كما هو خالق سائر المخلوقات وهو شاهد لا يغيب
____________________
(1/326)
و المخلوق يستخلف مخلوقا عن نفسه لعجزه أو جهله أو مغيبه و أفعال الخليفة عن غيره يفعلها بنفسه لا يحدثها الذي استخلفه و الله تعالى على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم وهو شاهد لا يغيب وهو الذي يخلق كل شيء فالعبد يستخلف ربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا سافر ( ( اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا و اخلفنا في أهلنا ) ) فإن المقيم عند أهله هو يدبر أمر بيته فإذا سافر سأل الله أن يخلفه فيهم و كما روي أنه سمع يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم قائلا يقول إن في الله عزاء من كل هالك و عوضا
____________________
(1/327)
من كل مصيبة و خلفا من كل ما فات فبالله فثقوا و إياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب
____________________
(1/328)
و كذلك العبد يخلف العبد في أهله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ) )
وقال صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز ( ( و كلما نفرنا في الغزو خلف أحدهم له
____________________
(1/329)
نبيب كنبيب التيس يمنح أحداهن الكثبة من اللبن إن الله أمكنني من أحد منهم لأجعلنه نكالا ) )
و منه قوله تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي يخلف بعضهم بعضا
و كما قال تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم }
و قوله تعالى { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون }
و داود عليه السلام جعله الله خليفة عن من كان قبله كما
____________________
(1/330)
جاءت بذلك الآثار
و منه قوله تعالى { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } وقد قيل إن من هنا للبدل أي بدلا منكم
كما قالوا في قوله تعالى { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أي بدلا من الرحمن و أنشدوا ** فليت لنا من ماء زمزم شربة ** مبردة باتت على طهيات **
و قالوا معناه بدلا من ماء زمزم
وفي حديث أبي سعيد الذي رواه مسلم في صحيحه إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
____________________
(1/331)
و المقصود هنا أن المخلوق يمكن أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله و أما الرب فهذا ممتنع في حقه ممتنع لذاته أن يكون غير الله مماثلا له في ذاته أو صفاته أو أفعاله فإن المثلين يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر و يجب له ما يجب له و يمتنع عليه ما يمتنع عليه
و الرب حي قيوم غني صمد واجب بنفسه مستحق لصفات الكمال بنفسه ممتنع اتصافه بنقائضها فإن كماله من لوازم ذاته الواجبة الوجود بنفسها التي يمتنع عدمها أو عدم شيء من لوازمها و المخلوق يجب أن يكون معدوما محدثا فقيرا فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب الوجود واجب العدم قديما محدثا غنيا بنفسه فقيرا بنفسه و ذلك جمع بين النقيضين
و إذا كان المخلوق الذي يرسل من يماثله لا يكون فعله هو فعله
____________________
(1/332)
فالخالق الذي يرسل بعض عباده أبعد أن يكون فعله هو فعله حتى تكون نفس بيعة الرسول نفس بيعة المرسل فإذا كان خالقا لذلك الفعل و غيره من المخلوقات فهو بهذا الاعتبار الاختصاص له و الله تعالى قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فإن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله وبيعته عن مرسله ليست بيعة لنفسه و الجزاء على مرسله و لهذا قال { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما }
و أما استشهاده بقوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فمن هذا الجنس وهو قد سبقه إلى هذا المعنى الذي توهمه طائفة من الجهال و ذلك أن الله تعالى لم يضف الرمي هنا إلى نفسه لمجرد كونه خالقا لأفعال العباد فإن هذا قدر مشترك بين رمي النبي صلى الله عليه وسلم و سائر أفعاله غير الرمي و بين رمي غيره من الناس و بين أفعالهم فإن فعال العسكرين يوم بدر خلقها الله تعالى كما خلق سائر أفعال الحيوان لو جاز أن يقال إن الله رمى لكونه خلق حركة العبد لقيل إنه
____________________
(1/333)
يكر و يفر و يركب و يعدو و يصوم و يطوف و نحو ذلك لكونه يخلق ذلك
و قد روي أن المحاصرين لعثمان رضي الله تعالى عنه كانوا يرمونه بالحجارة فقال لم ترموني فقالوا لم نرمك و لكن الله رماك قال كذبتم لو رماني الله لأصابني و أنتم ترمونني ولا تصيبونني وهو صادق في ذلك فإن الله تعالى لما رمى قوم لوط و أصحاب الفيل أصابهم و لكنهم هم رموا عثمان
و الله تعالى يقول { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من تراب أو غيره فرمى بها المشركين فأصابت عيونهم و هزمهم الله تعالى بها ولم يكن في قدرة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل الله تعالى أوصل ذلك إليهم
____________________
(1/334)
و الرمي له طرفان خذف بالمرمي ووصول إلى العدو و نكاية فيهم و النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأول و الله فعل الثاني
و المعنى ما أوصلت الرمي إذ خذفته و لكن الله أوصله و هزمهم به فالذي أثبته الله لنبيه غير الذي نفاه عنه وقد أثبت له رميا بقوله { إذ رميت } و نفى عنه رميا بقوله { وما رميت } وكان هذا غير هذا لئلا يتناقض الكلام
ولو كان المراد كما ظنه هذا و أمثاله ممن يحتج بهذه الآية على أن الله خالق أفعال العباد و يضحك المعتزلة و غيرهم من القدرية عليه إذا احتج بهذه الآية ولو كان المراد لساغ أن يقال مثل هذا في جميع أفعال العباد فيقال ما ركبت إذ ركبت و لكن الله ركب و ما ظننت إذ ظننت
____________________
(1/335)
و لكن الله ظن و ما أكلت إذ أكلت و لكن الله أكل لكان يقال لكل من رمى بالقوس وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى و يقال للكفار إذا رموا المسلمين ما رميتم إذ رميتم و لكن الله رمى و أشباه هذا مما لا يقوله مسلم ولا عاقل
ثم إن الله تعالى ذكر هذه الآية لبيان نعمته على نبيه و على المؤمنين يوم بدر وما أيدهم به من النصر فلو أريد كونه خالقا لفعله لكان هذا قدرا مشتركا بين جميع الناس بل لا بد أن يكون لرميه خاصة يعجز عنها الخلق فعلها الله تأييدا لنبيه و نصرا له و إنعاما عليه و على
____________________
(1/336)
المؤمنين فتبين أن هذه الآية حجة عليه لا له كالأولى و أن الله تعالى فرق بين فعل الخلق و فعل نفسه ولم ينزل أحدا منزلة نفسه في الأفعال
و مما يبين ذلك أن أفعال العباد لا يجوز أن تنفى عنهم باتفاق المسلمين من قال إن الله تعالى خالقها ومن قال إنه لم يخلقها لا يجوز أن يقال هذا ما أكل ولا شرب ولا قعد ولا ركب ولا طاف ولا ركع ولا سجد ولا صام و لا سعى ولكن الله هو الذي أكل و شرب و قعد وركب و طاف و ركع و سجد و صام و سعى
و سواء كانت الأفعال محمودة أو مذمومة و سواء كانت سببا لخرق العادة أم لا فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر ولا الحجر ولكن الله ضرب ولا يقال إن نوحا ما ركب في السفينة و لكن الله ركب ولا يقال إن المسيح ما ارتفع إلى السماء بل الله ارتفع ولا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما ركب البراق بل الله ركب و أمثال هذا
فالفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله تعالى إلا على بيان
____________________
(1/337)
أن الله تعالى خلقه و جعل صاحبه فاعلا كقول الخليل عليه السلام { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي }
و كما قال { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }
و قال تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
و قال { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار }
و لا يقال إن الله يقيم الصلاة و يدعو إلى النار ولا إنه قد أسلم
و قال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } ولا يوصف الله تعالى بالهلع و الجزع
و جماع الأمر أن الله عز وجل لا يوصف بمخلوقاته وهذه هي
____________________
(1/338)
أدلة السلف و أهل السنة على أن كلام الله تعالى غير مخلوق قالوا
لأنه سبحانه لا يوصف بما خلقه في غيره فإذا خلق في غيره حركة أو طعما أو ريحا أو لونا كالسواد و البياض لم يوصف بأنه هو المتحرك بها ولا بأنه متروح أو أبيض أو أسود و إذا خلق في غيره كلاما لم يوصف بأنه هو المتكلم به
و يعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره و اشتق لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره فإذا خلق في محل حركة أو علما أو قدرة كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر لا الخالق لتلك الصفة فيه
و أورد المعتزلة نقضا على هذا صفات الأفعال فقالوا هو عادل بعدل خلقه في غيره
____________________
(1/339)
فأجاب أئمة السلف رحمهم الله و جمهورهم بطرد الدليل بناء على أن الفعل غير المفعول و استدل الإمام أحمد و غيره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( أعوذ بكلمات الله التامات ) ) قالوا وهو لا يستعيذ بمخلوق و طرد هذا قوله ( ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك وبك منك ) ) فالنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه و بكلماته
و هذا مذهب جمهور المسلمين أن الخلق غير المخلوق وهو المنقول عن السلف والأئمة كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وهو الذي ذكره البغوي صاحب شرح السنة وهو الذي ذكره الكلاباذي أنه اعتقاد الصوفية وهو قول الكرامية وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة وجهور أصحاب مالك والشافعي وأحمد لا من وافق منهم الأشعري وغيره الذين يقولون الخلق هو المخلوق كما اختار ابن عقيل وغيره وهو أول قول القاضي أبي يعلى ثم رجع عنه وهو اختيار أبي المعالي الجويني وغيره وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن الله سبحانه
____________________
(1/340)
وتعالى لا يوصف بالمخلوقات فلا يوصف بما خلقه في غيره من الصفات وإن كانت صفات كمال فكيف يوصف بما خلقه في غيره من أفعال العباد وتجعل الأفعال القائمة بالمخلوقات صفات له يشتق له منه أسماء فهذا مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول مناقض للقواعد والأصول ولكن بعض من ناظر القدرية في هذا المقام انحرف كما انحرف وقابل باطلا بباطل ورد بدعة ببدعة
والذين يصفون الله تعالى ببعض المخلوقات صنفان صنف غلطوا في الصفات وصنف غلطوا في القدر
فالأول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون إن كلام الله مخلوق فوصفوه بما خلقه في غيره
وكذلك يقولون رضاه وغضبه هو ما يخلقه من الثواب والعقاب وإرادته خلقها لا في محل كما تقوله المعتزلة من البصريين فيصفونه بمخلوقات بائنة عنه
والصنف الثاني الجهمية الجبرية الذين قالوا إن أفعال العباد نفس فعله وفعله هو مفعوله كما يقوله الجهم بن صفوان وأتباعه كالأشعري ومن وافقه وهؤلاء لم يثبتوا له فعلا قائما بنفسه غير المخلوقات
____________________
(1/341)
المباينة له فإذا كان خالق أفعال العباد لزم أ ن تكون هي فعله ولا تكون فعلا لغيره وحينئذ فالصفات الفعلية التي يصفون بها الرب مثل كونه خالقا ورازقا وعادلا إنما تتصف عندهم فيها بمخلوقاته وتتصف أيضا عندهم بأفعال العباد كلها
فالجهم بن صفوان أعظم الناس وصفا له بمخلوقاته في كلامه وأفعال العباد وغير ذلك والمعتزلة وافقوه في الكلام ونحوه من الصفات دون أفعال العباد ووافقوه في فعله لغير أفعال العباد لكون أفعال العباد عندهم ليست فعلا له
فالجهية والمعتزلة متفقون على أنه يوصف بمخلوقاته لكن المعتزلة عندهم هو خلق كلامه ورضاه وغضبه وإرادته فيوصف بها ولم يخلق أفعال العباد فلا يوصف بها وأما جهم فعنده أنه خلق الجميع فلزمه أن يوصف بالجميع
والأشعري وافق جهما في المخلوقات من أفعال العباد وغيرها دون الكلام والإرادة فإنهما عنده صفات تقوم بالله لكنه وافقه على أن المخلوق هو الخلق وهو يصفه بالصفات الفعلية فوافقه على اتصافه
____________________
(1/342)
بالمخلوق من هذا الوجه و صار هو والمعتزلة متقابلين هو ينكر عليهم قولهم في الكلام والإرادة وأصاب في إنكاره عليهم وهم ينكرون عليه قوله في أن أفعال العباد فعله وهم وإن أصابوا في هذا الإنكار لكنهم ينكرون أن يكون مخلوقا وهذا منكر
والأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة وكسبا ولكن يقول قدرته لا تأثير لها في المقدور وما أثبته من الكسب لا يتحقق الفرق بينه وبين الفعل فكان حقيقة قوله في أفعال العباد هو معنى قول جهم
وأما السلف وأئمة الفقهاء وأهل الحديث وجمهور المنتسبين إلى السنة وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية وغيرهم فسلموا من هذه الأقوال الفاسدة ولم يصفوا الله بمخلوقاته وإنما وصفوه بما يقوم به من صفاته وأفعاله
وأما الحلولية الذين يصفونه ببعض أفعال المخلوقات كما تقوله النصارى في المسيح والغالية في الأئمة والشيوخ والقائلون بالحلول العام كقول ابن عربي ** وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه **
فهؤلاء فساد قولهم أظهر من هذا كله وقوله هذا المتخلف يرجع إلى
____________________
(1/343)
قول هؤلاء وإن كان قد لا يلتزمه لو عرف أنه يلزمه
وأما الخبر الذي استشهد به من قوله استطعمتك فلفظه في الصحيح يقول الله تعالى عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
وهذا الخبر ليس فيه فعل للعبد وإنما فيه جوعه ومرضه ولكن ظن أن لفظة استطعمتك وأنه جعل استطعام العبد استطعام الرب
وأيضا فالخبر مقيد لم يطلق الخطاب إطلاقا وإنما بين أن عبده هو الذي مرض وهو الذي جاع وقال لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ولم يقل لوجدتني أكلته وقال لو عدته لوجدتني عنده ولم يقل لوجدتني إياه 2
والحديث خطاب مفسر مبين أن الرب عز وجل ليس هو العبد ولا صفته صفته ولا فعله فعله أكثر ما فيه استعمال لفظ الجوع والمرض
____________________
(1/344)
مقيدا مبينا للمراد فلم يطلق الخطاب إطلاقا
وأيضا فقد علم المخاطب أن الرب تعالى لا يجوع ولا يمرض فلم يكن فيه تلبيس لا من جهة السمع ولا من جهة العقل بل المتكلم بين فيه مراده والمستمع له لم يشتبه عليه بخلاف ما إذا أضيف لفعل العبد الذي يمكن منه الفعل والفعل قد قام به فإنه إذا جعل فعله فعل الرب لم يعقل هذا إلا إذا أريد أنه خالقه وإذا أريد ذلك فالصواب أن يقال فعل العبد مخلوق للرب تعالى ومفعول له لا يطلق أنه فعله لما فيه من التلبيس ولما فيه من نفي فعل الرب ولما فيه من نفي كون العبد فاعلا
ثم إنه لا فرق في ذلك بين المقربين وغير المقربين بهذا الاعتبار بل قال الله تعالى { أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } كما قال تعالى { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } ونوح عليه السلام محمود مقرب والشياطين أعداء الله
____________________
(1/345)
وقال تعالى { بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد }
كما قال تعالى { بعث في الأميين رسولا منهم }
وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله }
وكما أنه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فيخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وقد خلق المؤمن والكافر والبر والفاجر وخلق الدواب والنبات كلها طيبها وخبيثها فجهة الخلق عامة شاملة فلو كان قوله { يبايعونك } وقوله { ولكن الله رمى } من الخلق الشامل والقيومية العامة للزم أن يقال مثل ذلك في كل مبايع ورام وإن كان من الكافرين ولم يكن في ذلك خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا فضل له على أحد المخلوقين
وأما حديث الأولياء فليس من هذا الباب بالكلية وإنما فيه
____________________
(1/346)
فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي لم يقل أنا أسمع وأنا أبصر ولا أنا أبطش ولا أنا أمشي
وقد صرح بالفرق فيه بين الرب والعبد من وجوه متعددة كقوله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ففرق بين نفسه ووليه وعدوه ووليه ثم قال ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ففرق بين المتقرب والمتقرب إليه ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به إلى آخره فلم يقل كنت إياه ولا فيه أن فعل أحدهما هو فعل الآخر ولكن أخبر أن إحسان العبد وفعله يقع به لأن العبد إذا صار موافقا لله فيما يحبه ويرضاه يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ويرضى بما يرضى ويأمر ما يأمر وينهى عما ينهى صار الإيمان به ومعرفته وتوحيده في قلبه فإحساسه وأفعاله تقع به
وهذا ما في القلب نظير قوله في ما في اللسان أنا مع عبدي ما
____________________
(1/347)
ذكرني وتحركت بي شفتاه فقال تحركت بي وإنما تتحرك باسمه
____________________
(1/348)
كذلك قوله فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي أي بما في قلبه من الإيمان بي وقد يسمى هذا المثال العلمي وهذا كثير في الكلام كقول القائل ** ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره ** وقال الآخر ** ومن عجبي أني أحن إليهم ** وأسأل عنهم من لقيت وهم معي ** ** وتطلبهم عيني وهم في سوادها ** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي **
وقد يسمى هذا حلولا لحلول معرفته ومحبته في العارف المحب وقد غلط بعض الناس فظن أن ذات المعلوم المحبوب محل وهذا
____________________
(1/349)
غلط كما غلط من قال بحلول ذات الرب سبحانه وتعالى في بعض عبيده كالنصارى ومن ضاهاهم من غلاة الشيعة وجهال الصوفية
الوجه الثاني قوله فإذا غلب على المقرب شهود القيومية ورؤية التوحيد كما جاء في مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه
____________________
(1/350)
فيقال مشهد القيومية يشهد فيه أن الله خالق كل شيء وهذا الشهود العام يتناول ما دخل من إيمان و كفر
و أما الإحسان الذي فيه أن تعبد الله كأنك تراه فهذا مقام من يميز بين المحظور و المأمور فإن العبد إذا صار كأنه يشاهد ربه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ووالى أولياءه وعادى أعداءه و هذا مشهد الإلهية الذي دعت إليه الرسل حيث أمروا بعبادة الله وحده و طاعته و ليس هذا هو مشهد القيومية و لكن من هو أكبر من هذا الرجل غلطوا في هذا فغلط مثل هذا لا ينكر لا سيما كثير من الشيوخ المعظمين عند هذا و أمثاله فإنهم لا يفرقون بين هذا و هذا بل يعدون نهاية العارفين الفناء في توحيد الربوبية والاصطلام في شهود القدر الجاري
و يقول أحدهم إن مشاهدة العارف المنتهي في القربة لحكم الله الذي هو مشهد مشيئته العامة لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح
____________________
(1/351)
سيئة
وقد يقول أحدهم هذا العارف يكون الجمع في قلبه مشهودا و الفرق على لسانه موجودا
و مرادهم بالجمع شهود القدر و هؤلاء غاية تحقيقهم شهود التوحيد الذي أقر به عباد الأصنام فإن عباد الأصنام من العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء و ربه و مليكه كما أخبر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون }
و قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }
وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم احتجوا في ذلك بقوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا } الآية وقد ظن طائفة من المثبتين للقدر أنهم قالوا هذا على سبيل التكذيب بالقدر و الاستهزاء به
____________________
(1/352)
لقوله { كذلك كذب الذين من قبلهم } و بهذا أجاب القدرية لما احتججت عليهم بهذا الآية
وهذا غلط فإن العرب كلهم كانوا يثبتون القدر و يقرون أن الله خالق كل شيء وربه و مليكه فلم يكونوا مكذبين بذلك ولا ذمهم الله سبحانه على التكذيب بالقدر بل على الاحتجاج به على إبطال الأمر و النهي
و قوله { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي كذبوا بالأمر و النهي الذي جاءت به الرسل فإن هذا هو تكذيب الذين من قبلهم الذي ذكر الله في القرآن و لهذا قال { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } أي فإن المحتج بالقدر لا يحتج به إلا إذا لم يكن عنده علم بل يتبع هواه فإنها حجة متناقضة إذ لو احتج عليه بالقدر لما قبل هو ذلك منه و هذا مبسوط في غير هذا الموضع
فمن كان غاية توحيده شهود القيومية و الربوبية العامة كان قد شهد ما أقر به المشركون ولم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و إنما يشهد ذلك من شهد الفرق بين المأمور و المحظور و بين أولياء الله و أعدائه و بين توحيده و الإشراك به و عبد الله كأنه يراه و هذا شهد الفرق في الجمع فهو مع شهوده القيومية يشهد أنه الإله المستحق
____________________
(1/353)
للعبادة دون ما سواه ووجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم و موالاة أوليائه و معاداة أعدائه و يستعينه على فعل ما أمر و ترك ما حظر و شهوده أنه خلق الملائكة و الشياطين لا يحجبه عن أن يشهد أن الملائكة و الأولياء و الشياطين أعداد و كذلك شهوده أنه خالق أفعال العباد لا يحجبه عن أن يشهد أنه يحب الإيمان و العمل الصالح و يرضاه و يكرم أهله و يقربهم إليه و ينهى عن الكفر و الفسوق و العصيان و يمقت أهله و يعاقبهم فمن غلط هذا ظن أن مجرد شهود القيومية هو شهود المقربين و ظن أن هذا هو عبادة الرب كأنه يراه
و من هؤلاء من يظن أن من شهد القيومية سقط عنه الملام و منهم من يقول إن الخضر سقط عنه الملام لشهوده القيومية
و هذا كله باطل و طرد هذا القول يجر إلى شر من أقوال اليهود و النصارى فإن اليهود و النصارى يميزون في الجملة بين أمور منكرة كما يميزون بين الصدق و العدل و بين الكذب و الظلم و هؤلاء إذا شهدوا القيومية العامة لم يميزوا بين المعروف و المنكر و لا بين الصدق و الكذب و العدل و الظلم فهم في هذا النفي لا يثبتون بل يميزون تمييزا طبيعيا لا شرعيا فيفرق أحدهم بين ما هواه و بين ما لا يهواه فيطلب هذا
____________________
(1/354)
و ينفر عن هذا و يمدح من وافق غرضه و يذم من خالف غرضه و لهذا كان هؤلاء نهاية سلوكهم هو الفناء و الجمع و الاصطلام لا يحبون ما أحب الله ولا يبغضون ما أبغض الله فإن الإرادة و المحبة و الرضى سواء عندهم كما تقوله القدرية من المعتزلة و غيرهم لكن أولئك قالوا لا يحب الكفر و الفسوق والعصيان فلا يريده فيكون ما يقع من ذلك بدون مشيئته و قدرته فيكون ما لا يشاء و يشاء ما لا يكون
وقال هؤلاء هو أراد الكفر و الفسوق و العصيان فهو يحب ذلك و يرضاه و إن كان لا يريده دينا بل يريد تنعيم من أطاعه و تعذيب من عصاه
ثم قال هؤلاء هذا الفرق يعود إلى حظوظ أنفسهم فالعارف الفاني عن حظوظه في شهود قيوميته لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ثم قالوا و الأنبياء و الصديقون يقومون بالفرق لأجل العامة رحمة بهم
و هذا عندهم من التلبيس الذي أمرت به الخاصة وهم يبطنون خلاف ما يظهرون فإنه يكون الجمع في قلوبهم مشهودا و الفرق في ألسنتهم موجودا فالقائم بالفرق عندهم لا يكون إلا واقفا مع حظه ملبسا بإيمانه لأجل غيره إذا لا فرق بالنسبة إلى الله تعالى عندهم
____________________
(1/355)
و من عرف ما جاءت به الرسل من إثبات محبة الله تعالى و رضاه و فرحه بتوبة التائبين و سخطه و غضبه و مقته لمن عصاه و عرف أن الفرق ثابت بالنسبة إلى مع شمول المشيئة لكل واقع صار على ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فأحب الله و أحب ما يحبه الله كان متابعا لما أمر الله تعالى به و أحبه و رضيه ولم يكن مع مجرد الإرادة فإن هؤلاء دخلوا بإرادة أنفسهم فانتهوا إلى الإرادة الخلقية
و من دخل بالإرادة التي هي أمر الله و نهيه مصدقا لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الفرق الثابت في كتاب الله و أفعاله كان على دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله و أنزل كتبه على ملة إبراهيم عليه السلام و دين محمد صلى الله عليه وسلم
و من لم يقل بالفرق في نفس الأمر فإنه خارج عن حقيقة الإيمان كما أنه خارج عن شريعة الإسلام فليس معه حقيقة إيمانية ولا شريعة إسلامية و إنما معه حقيقة خلقية قدرية أقر بها عباد الأصنام الذين هم مشركون و ذلك أن شهود القيومية بلا جمع ممتنع طبعا و شرعا فمن لم
____________________
(1/356)
يشهد الفرق الشرعي الإلهي و إلا كان مع الفرق الطبيعي النفساني أو مع فرق آخر شيطاني فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } و ذكر الرحمن يراد به الذكر الذي أنزله الله تعالى كما قال تعالى { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }
فمن أعرض عن هدى الله الذي أرسل به رسله و أنزل به كتبه فلم يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه كان معرضا عن ذكره المنزل فيقيض له شيطانا يصده عن سبيل الله فيفرق بمجرد هواه و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
____________________
(1/357)
ولو كان مثل هذا ذاكرا لله ولم يشهد إلا القيومية العامة لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل من الفرق فإنه يكون من أعظم أتباع الشياطين و لهذا يوجد الشيوخ و العباد و الزهاد من هؤلاء يتبعون شياطين الإنس و الجن فيكون أحدهم من خفراء الكفار و أعوانهم و منهم من يحسن الظن بالكفار و أعوانهم و نظرائهم فيحسبهم من أولياء الله المتقين لا سيما إن رأى من الأحوال الشيطانية ما يقويه مثل أن يخبره ببعض الغائبات أو يحصل له نوع من التصرفات فيطير به الشيطان في الهواء و يحضر له طعاما وغير ذلك كما كان يحصل لعباد الأصنام مع الشياطين
وهذا التوحيد توحيد الربوبية العامة كان المشركون يقرون به فهو وحده لا ينجي من النار ولا يدخل الجنة بل التوحيد المنجي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بحيث يقر بأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة دون ما سواه وأن محمدا رسوله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن عصى الرسول فقد عصى الله فيحل ما حلله الله ورسوله ويحرم ما حرمه الله ورسوله ويأمر بما أمر الله به ورسوله وينهى
____________________
(1/358)
عما نهى الله عنه ورسوله
وهذا المقام غلط فيه كثير من السالكين لم يميزوا بين الأول و الثاني من توحيد الربوبية و توحيد الإلهية ولو طردوا قولهم لخرجوا عن الدين كما تخرج الشعرة من العجين و إنما طرده حذاق الملحدين منهم الذين يقولون السالك يشهد أولا طاعة و معصية ثم ثانيا يشهد طاعة بلا معصية وهو شهود القيومية ثم لا تبقى طاعة ولا معصية وهو مشهد الوحدة عندهم و لهذا يقول بعض شيوخ هؤلاء أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا ما كنت مخطئا
ويقول الآخر وهو ابن عربي ** الرب حق و العبد حق ** يا ليت شعري من المكلف ** ** إن قلت عبد فذاك ميت ** أو قلت رب أنى يكلف **
و الكلام مبسوط في غير هذا الموضع و إنما الغرض التنبيه على موضع الغلط و الاشتباه
____________________
(1/359)
الوجه الثالث قوله إن المقرب إذا غلب عليه هذا نطق برد الأشياء إلى خالقها و غلب ذلك على نطقه
فيقال سيد المقربين محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي قاتل الكفار وكان يأمر بقطع يد السارق و رجم الزاني و جلد الشارب و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يحل الطيبات و يحرم الخبائث فلو غلب عليه مشهد القيومية و أن الأشياء جميعها مخلوقة لله ولم يشهد ما فيها من الفرق لما كان ينبغي أن يأمر أحدا ولا ينهى أحد اولا يقتل أحدا و لكان ينبغي أن يرد كفر الكافرين و فسق الفاسقين إلى
____________________
(1/360)
الخالق كما قال في قوله صلى الله عليه وسلم ( ( ولكن الله حملكم ) ) و بين أن يقال و العياذ بالله تعالى و لكن الله كفر وزنى و سرق و شرب الخمر فهل يقول هذا مؤمن أو عاقل
وقوله صلى الله عليه وسلم ( ( ولكن الله حملكم ) ) سنذكره إن شاء الله تعالى و إلا فمشهد القيومية شامل لجميع الفعل و إن فرق بين خلق الله لحملهم و لكلامهم و لفعلهم و لتكذيب المكذبين أفترى الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يشهد القيومية في بعض الأشياء و هو أعلم الخلق بالله و مشركو العرب كانوا مقرين بأن الله رب كل شيء وهم يقرون بمشهد القيومية
الوجه الرابع أن يقال له من من المقربين كان يقف عند مشهد القيومية فيرد جميع الأفعال إلى الخالق من غير أن يشهد أنها
____________________
(1/361)
أفعال لفاعليها يستحقون عليها المدح والذم و الثواب و العقاب
و هذا القرآن ينطق عن جميع الأنبياء و المرسلين وهم سادات المقربين بأنهم كانوا يفرقون بين المعروف و المنكر و الإيمان و الكفر و التوحيد و الشرك و يأمرون بعبادة الله وحده و ينهون عن عبادة ما سواه ولو لم يشهدوا إلا القيومية التي ترد فيها الأفعال إلى خالقها لم يأمروا ولم ينهوا ولم يمدحوا يذموا فإن العبد لا يأمر الله ولا ينهاه ولا يذمه ولا يعاقبه و الأنبياء كلهم على شهود الفرق و مدح المحسن و ذم المسيء و إن كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء و ربه و مليكه فشهود القيومية العامة لا يناقض أن يفعلوا ما أمروا به و أن يأمروا الخلق بعبادة الله وحده و ينهوهم عن عبادة ما سواه بل عامة بني آدم من المسلمين و الكفار يقرون بالقدر و بهذه القيومية وهم مع هذا يثبتون الفرق بين المطلوب و المرغوب و يمدحون من فعل ما يوافق مرادهم و يذمون من خالف ذلك ولا يرون الإقرار بالقيومية مناقضا لذلك
____________________
(1/362)
الوجه الخامس قوله فيكون المعنى حينئذ كما وردت به الآية أن البيعة و إن كانت له في الصورة فهي مع ربه في المعنى و كذا ما كان من الرمي فكأنه يقول الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى إنما المستغاث به الله عز وجل
فيقال قد تقدم بيان فساد أصل هذا الكلام
ثم نقول قوله هي مع ربه في المعنى أتريد به أن الله سبحانه و تعالى هو المرسل له الذي أمره أن يبايعهم على الجهاد و أمرهم بالجهاد وهو الذي ثبتهم على الوفاء أم تريد أن الله هو الذي خلق البيعة فإنه خالق كل شيء و القيومية شاملة كل شيء أم تريد به معنى ثالثا
فإن أردت الأول فهو صحيح ولكن يناقض قولك فإن هذا مختص بمن يأمر بما أمر الله به و ينهى عما نهى الله عنه لم ينزل الله
____________________
(1/363)
أحدا منزلة نفسه في الأفعال ولا جعل الله أفعال محمد صلى الله عليه وسلم كصومه و صلاته و حجه و اعتماره و جهاده و نكاحه و أكله و شربه و دعائه و تضرعه فعلا له ولا جعل نفس مبايعته للمؤمنين فعلا له بل جعل المبايع له إنما يبايع مرسله و الجزاء عيله كما جعل من أطاعه فقد أطاع الله فهذا خاص ليس عاما في كل أفعاله
و أيضا فلم يجعل هذا الفعل فعل الله بل أخبر أن محمدا رسول الله يبايع عنه و المبايعة لمرسله في الأصل كما أن الطاعة طاعة لمرسله في الأصل و كما أن معاملة الوكيل معاملة مع موكله وليس في هذا إسقاط فعل الوكيل عنه عن أن يكون وكيلا و إنما فيه إثبات النيابة له عن غيره
و إن أردت أن الله خالق بيعته فهذا المعنى صحيح عند أهل السنة المثبتة للقدر الذي هو خلق الله خلافا لنفاته و لكن إذا فسرت الآية بهذا سويت بين الأنبياء و الشياطين و بين آدم و إبليس و بين موسى و فرعون و بين أولياء الله و أعدائه و لزمك أن تقول كفر الكافرين في الصورة و لربهم في المعنى أو لعنته للكفار هي للكفار في الصورة و لربهم في المعنى
و أيضا فيقال لك المبايعة فيها فعل من الرسول و فعل من
____________________
(1/364)
الصحابة فعلى هذا التقدير يلزمك أن يكون الله بايع في المعنى لأنه خالق للأفعال و إلا فإذا جاز أن يقول البيعة له في الصورة و لربه في المعنى لكون الله خالقه و خالق فعله لزمك أن تقول بيعته لهم بيعة لله في المعنى لأن الله تعالى خلقهم و خلق أفعالهم و يلزمك على هذا التقدير أن تقول إن الذين بايعتهم إنما بايعت الله و طرده أن من قاتل شخصا فإنما قاتل الله ومن بايعه فإنما بايع الله بل يلزمهم أقبح من هذا وهو أن من لامسه أو جامعه أو ضاجعه فإنما يفعل ذلك مع الله فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقا لأفعال العباد كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى وهذا عام في كل الأفعال الخير و الشر و إن أردت معنى ثالثا فبينه
الوجه السادس قوله البيعة و إن كانت في الصورة له فهي مع ربه في المعنى إذا لم يرد معنى الإرسال و التبليغ المختص بالأمر و النهي كان مقتضاه أن الرسول لم يفعل شيئا ولا بايع و لكن الرب سبحانه
____________________
(1/365)
هو الذي فعل ذلك في المعنى وهذا و إن أريد به خلق الأفعال فقد تقدم بيان بطلان إرادة ذلك هنا و إن أريد به خلق الحلول بأن يكون الرب سبحانه هو المتكلم على لسان الرسول كما أن الجني يتكلم على لسان المصروع وفي الباطن للجني فهذا هو الكفر الصريح و هذا مذهب النصارى
و هؤلاء يشبهون بالنصارى في كثير من أمورهم و لهذا سلط الله عليهم النصارى يهينونهم كما أهانوا أهل هذا الشخص و أمثاله و كنت أقول لهم إن الله وعد بنصره المؤمنين على الكافرين و أنتم مشابهون للنصارى و فيهم من هو أكفر من النصارى و أعظم إلحادا و نفاقا من النصارى و كثير من بغضهم للنصارى إنما هو لهوى و حظ كونهم لهم في الدنيا رياسة و مال كثير أكثر منهم لا يبغضونهم لأجل كفرهم و دينهم إذ كانوا مشاركين لهم في كثير مهم منه و بعضهم أشد كفرا و نفاقا من النصارى و بعض النصارى أكفر منهم و طائفة من شيوخهم يميلون إلى النصارى أكثر من المسلمين و يأمرونهم بالبقاء على دينهم ويقولون إذا صرتم محققين على طريقتنا فلا حاجة لكم إلى الإسلام بل دوموا على النصرانية
____________________
(1/366)
ثم إن الآية يمتنع أن يراد بها الحلول فإنه قال { يد الله فوق أيديهم } و يد النبي صلى الله عليه و سلم كانت مع أيديهم لا فوقها فلم تكن يده يد الله و لأنه قال { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } ولم يقل فإنك تؤتيه وقال { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } ولم يقل إنك أنت علمت ما في قلوبهم ولا أنزلت السكينة عليهم
الوجه السابع قوله فكأنه يقول الاستغاثة و إن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى و إنما المستغاث به الله فيقال إنه لم يقل لم تستغيثوا بي و إنما استغثتم الله ولكن قال إنه لا يستغاث بي و إنما يستغاث بالله وهذا نفي للمستقبل لا للحاضر
الوجه الثامن إن يقال هذا الرجل فسر الاستغاثة بالتوسل كما تقدم قوله إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كانت بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيره
وقال قول القائل أتوسل إليك برسولك و أستغيث برسولك
____________________
(1/367)
عندك أن تغفر لي استغاث بالرسول حقيقة في لغة جميع الأمة و هذا الكلام و إن كان باطلا كما تقدم فالمقصود هنا أنه جعل الذي يسأل الله به مستغيثا به وهنا قد جعل الاستغاثة بسؤاله فقد جعل المستغيث به مستغيثا بالله
فالمعنى لا يصح إذا أريد به السؤال به فإن الله تعالى هو مسؤول لا مسؤول به و حينئذ فما قال في الاستغاثة به هنا يناقض ما تقدم إلا أن يجعل الاستغاثة تعم النوعين فيلزمه أن يجعل كل من سأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فإنما سأل الله و يلزمه ذلك في غيره و حينئذ فيسأل المخلوق كما يسأل الخالق وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم
الوجه التاسع أنه لو صح هذا النفي و الإثبات باعتبار القيومية لقيل هذا لكل من كان كذلك
فيقال لمن بايع الناس كلهم وواجرهم و شاركهم إنك إنما بايعت الله وواجرت الله و شاركت الله
ويقال للذي استغاث بموسى الذي قال الله تعالى فيه { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } إنه لم يستغث بموسى و إنما
____________________
(1/368)
استغاث الله تعالى
و يقال لمن استنصر المؤمنين الذين قال الله تعالى فيهم { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } إنما استنصروا الله و النصر على الله
و يقال في قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } و اتقوا الله يعين
وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال لما قدم التتار آخر قدماتهم و كنت أحرض الناس على جهادهم فقال لي هذا الشيخ أقاتل الله فقلت له هؤلاء التتار هم الله وهم من شر الخلق هؤلاء إنما هم عباد الله خارجون عن دين الله و إن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله ويكون الله يقاتل الله و قول هذا الشيخ لازم لهذا و أمثاله
الوجه العاشر أن يقال إذا كان الأمر كما ذكرته من شهود
____________________
(1/369)
القيومية فأي مدح في هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم و أي فائدة في هذا القول أو ترى الصديق و الصحابة ما كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء و مليكه و أن العبد لا يمكنه أن يفعل شيئا إلا بمشيئة الله و قدرته
الوجه الحادي عشر أن ما كان من هذا الباب لا يجوز فيه نفي الفعل عن العبد فلأنه مكابرة للحس ولو على مذهب الجبرية بل إذا أريد نفي الواقع فلا بد من قرينة تبين المراد و الحديث مطلق ليس فيه قرينة
الوجه الثاني عشر و أما حديث أبي موسى الأشعري وقوله
____________________
(1/370)
ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم كون الله خالق أفعال العباد فإن هذا يتناول هذا الفعل و غيره من الأفعال ومعلوم أنه لم يقل لم أركب و لكن الله ركب ولم يقل ما جاهدت في سبيل الله ولكن الله جاهد ولا سافرت ولكن الله سافر و نحو ذلك بل النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه أن يحملهم قال ( ( والله ما أحملكم و ما عندي ما أحملكم عليه ) ) فلما ذهب أبو موسى بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فأمر فبعث منها إلينا بخمس ذود غر الذرى فقلنا تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا فرجعت
____________________
(1/371)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال ( ( ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم ) ) فلما لم يكن منه قصد ولا قدرة صح أن يقول ما حملتكم لأني لم يكن عندي ما أحملكم عليه و لكن الله حملكم بما يسره من الحمولة التي أتى بها بغير فعل مني فنفى الحمل عن نفسه و أضافه إلى الله تعالى لأنه أراد به تيسير الحمولة ولم يكن له في هذا فعل
ثم قال ( ( و إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير و تحللتها ) ) وقال لهم هذا لما قالوا إنك حلفت أن لا تحملنا وكان قد قال ( ( ما عندي ما أحملكم عليه ) ) فبين لهم أني حلفت للعسرة و العجز و أن الله يسر بالحمولة فهو الذي حملكم ومع هذا فإني أحنث في يميني للمصلحة الراجحة و أكفر
وهذا الكلام يتضمن إما جوابين من النبي صلى الله عليه و سلم كل منهما مستقل و إما الجواب بأحدهما كأنه يقول أنا ما حملتكم و إن كنت حملتكم فأنا أكفر وعلى الأول يقول الحمل الذي طلبتموه ما حصل مني بل من الله و الحمل الذي حلفت عليه أكفر عنه
الوجه الثالث عشر قوله فإن صح هذا الحديث لا يكون كما قال من جعل الصديق بتأويله مخطئا من غير ضرورة بل يكون الحديث حثا على الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم فيقال أنت الذي جعلته مخطئا حيث
____________________
(1/372)
قال إنه يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ما أثبته و قال ليس هـهذا استغاثة بي بل بالله بل قولكم يستلزم تخطئة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلتم من طلب من مخلوق حاجة لم يطلبها منه و إنما يطلبها من الله وهذا مكابرة للحس و الشرع و العقل
و على ما قاله يجوز أن يقال لمن سأل كافرا حاجة و استغاث به ما سألته ولا استغثت به و يكون من قال إنه سأل كافرا مخطئا وهذا كما أنه تخطئة منهم للصديق فهي تخطئة لجميع عقلاء بني آدم من المسلمين و الكفار
و أيضا فإنه لا يلزم على ما ذكر المجيب تخطئة أبي بكر الصديق فإن الصديق قد يعتقد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دفع ذلك المنافق بعض الأمور التي يقدر عليها البشر فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس عندي في دفعه حيلة بل يستغاث الله في أمره
ومن المعلوم أن المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم تارة يقدر عليه وتارة لا يقدر
____________________
(1/373)
عليه وقد يظن السائل أنه يقدر عليه ولا يكون قادرا وكان نساؤه يسألنه النفقة أحيانا وليس عنده ما ينفق عليهن و سألته الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فقال ردوا علي ردائي فوالذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا
____________________
(1/374)
و حقيقة قوله لا يستغاث بي و إن كان مراده الاستغاثة الكلية كما يقال لا يستغاث بي ولا يتوكل علي ولا أدعى و لا أسأل و نحو ذلك فمراده النهي عن الطلب الذي لا يفعله إلا الله تعالى كما نهى عن السجود له و كما نهى أن يقال ما شاء الله و شاء محمد
و قال لمن قال ما شاء الله و شاء محمد ما روي عن ابن عباس قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله و شئت فقال ( ( أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده ) )
____________________
(1/375)
رواه النسائي و ابن ماجة و رواه الإمام أحمد و لفظه أجعلتني لله عدلا بل ما شاء الله وحده
الوجه الرابع عشر أنه إذا كان هذا حثا على الاستغاثة به بناء على ماذكرت من شهود القيومية و توحيد الربوبية وهذا عام لكل المخلوقات فينبغي أن يحث على سؤال المخلوقين و الرغبة إليهم لأن
____________________
(1/376)
السائل لهم عنده لا يسألهم إنما يسأل الله تعالى كما أن المستغيث بمخلوق لا يستغيث به إنما يستغيث بالله تعالى على زعمكم وهذا كثيرا ما يقع فيه هؤلاء الإسماعيلية الاتحادية و أعرف منهم شخصا كان معظما و كان له حاجة إلى نصراني فذهب إليه و خضع له و قبل يده و رجله و ربما قبل نعله حتى قضى حاجته ثم جعل يقول ما رأيت إلا الله و ما كان ذلك الخضوع و التقبيل إلا لله عز وجل
وهؤلاء يصرحون في كتبهم بأن عباد العجل ما عبدوا إلا الله و عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله و عباد المسيح ما عبدوا إلا الله تعالى و عندهم من عبد كل معبود كان محققا موحدا وإنما المقصر عندهم من عبد بعض المظاهر دون بعض كالنصارى و عباد العجل و اللات و العزى
____________________
(1/377)
وفي كلام ابن عربي صاحب الفصوص و أمثاله من هذا ألوان لكن هذا الرجل و أمثاله لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهود القيومية ولكن إذا جعلوا من استغاث بمخلوق فإنما استغاث بالله لأجل توحيد الربوبية و شهود القيومية لزمهم أن من سجد لمخلوق لم يسجد إلا لله و من عبد مخلوقا إنما عبد الله ومن سأل مخلوقا إنما سأل الله
فإن قالوا الأعمال بالنيات
قيل لهم و الذين قالوا نستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنهم قصدوا
____________________
(1/378)
غيره و أنتم جعلتم ذلك بمجرده استغاثة بالله لشهود القيومية و جعلتم النبي أمر بالاستغاثة بالمخلوق لشهود القيومية فيلزمكم أن يكون الله و رسوله أمر بسؤال المخلوق والاستغاثة بالمخلوق وعبادة المخلوق بالسجود لمخلوق و الخوف من المخلوق لأجل القيومية فيلزم أن يكون كل شرك حرمه الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم قد أمر الله به و رسوله باعتبار القيومية لأن كل ما عبد من دون الله فالقيومية تتناوله فإذا كان اعتبارا مسوغا لأن يعامل المخلوق معاملة الخالق لزم أن يعامل المخلوقات كلها معاملة الخالق من دعاء و سؤال يصلي لها و يسجد لها و يعبد
____________________
(1/379)
الوجه الخامس عشر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة و مدح من لا يسأل الناس شيئا فقال ( ( من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته كدوشا أو خموشا في وجهه يوم القيامة ) )
____________________
(1/380)
وقال ( ( لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي ليس في وجهه مزعة لحم ) )
وقال ( ( لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع ) )
____________________
(1/381)
وقال أيضا في حديث قبيصة بن مخارق ( ( إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة الغارم و الذي أصابته جائحة اجتاحت ماله والذي أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة ) )
وقال في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ( ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) ) و حديثهم في الصحيحين فمدحهم على ترك الاسترقاء
____________________
(1/382)
وقد روي في بعض ألفاظه لا يرقون ولم يذكره البخاري فإنه لا يثبت و إن رواه مسلم ومعلوم أن المسترقي يقول لغيره ارقني فيطلب من غيره الرقية
____________________
(1/383)
و إن كان شهود القيومية معتبرا في سؤال الخلق وجب أن يكون المسترقي إنما سأل الله و كان يكون مأمورا بالاستغاثة بالخلق باعتبار مشهد القيومية وقد قال الله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب }
فإن كان مشهد القيومية معتبرا في هذا الباب كان كل من سأل مخلوقا فإنما رغب إلى الله فلا ينهى عن ذلك بل يؤمر بالرغبة إلى الخالق و الله تعالى قد وصف الفقراء الممدوحين بأنهم لا يسألون الناس إلحافا و سواء كان المعنى أنهم لا يسألون الناس أو يسألون الناس ولا يلحفون فإن كان مشهد القيومية معتبرا هنا وجب أن يؤمر بسؤال الخلق والإلحاح في مسألتهم فإنهم إنما يلحفون في مسألة الله تعالى والله يحب الملحين في الدعاء وهذا باب واسع
الوجه السادس عشر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح من لا يسأله وفضله
____________________
(1/384)
على من يسأله بل ذم كثيرا من سأله فقال من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا
وقال يسألني أحدهم المسألة ويخرج بها يتأبطها نارا قالوا
____________________
(1/385)
يا رسول الله فلم تعطهم فقال ( ( يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل ) )
وقال والذي نفسي بيده ما من أحد يسألني شيئا فتخرج له المسألة ما لم أكن أعطيه فيبارك له فيه
أو كما قال لحكيم بن حزام في الحديث الصحيح الذي أخرجاه في الصحيحين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني
____________________
(1/386)
ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم ما أنكر مسألتك إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزا أحد بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا هذا لفظ رواية البخاري
وفي رواية ولا تكون يد أحد من العرب فوق يدي أبدا
فكان أبو بكر وعمر يعطيانه حقه من بيت المال فلا يأخذه
____________________
(1/387)
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنما استغاث بالله وقد حضه على ذلك كمن سأل الله فيلزم أن يحض الناس على سؤاله والأمر بالعكس بل مدح من لم يسأله وذم كثيرا ممن سأله
وأما الوجه الثاني وهو قوله إنه يصح أن يراد أنه لا يستغاث بي على وجه التأثير والاقتدار إنما ذلك لله وفائدة التنبيه على ذلك أن لا يتعلق به صلى الله عليه وسلم أحد في الانتصار به من جهة السببية الظاهرة كما يتعلق الناس بالأسباب على الغفلة بل يكون تعلقهم بالنظر إلى جانب الربوبية فيه ومكانته عند ربه فيكون ذلك كما قال من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس الخبر
فالجواب عنه من وجوه
أحدها أن هذا الذي ذكره موافق في المعني لما ذكره المجيب فإنه لا ريب أنه يجوز أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أمورا ويستغاث به في أشياء بل يجوز هذا في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال في أول الجواب أجمع
____________________
(1/388)
المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضا لعموم الخلق وأجمعوا على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته كما في حديث عمر رضي الله تعالى عنه اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا فتسقينا
والذي ذكره عمر قد جاء مفسرا في سائر أحاديث الاستسقاء وهو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعائه وشفاعته فينا وأن يقدم بين أيدينا شافعا وسائلا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فقد بين أنه يجوز سؤاله والطلب منه وهو الاستغاثة ومعلوم أن هذا من جملة الأسباب التي تفعل على جهة التسبب مع التوكل على الله تعالى عز وجل لا يطلب من مخلوق شيء على جهة أنه مستقل بالقدرة والتأثير فإن الاستقلال من خصائص الرب جل وعلا
وإذا كان هذا الوجه متفقا عليه فحمل الحديث عليه لا يضر وحينئذ فالمطلوب منه إما أن يكون قادرا عليه وإما أن لا يكون قادرا فإن كان قادرا طلب على هذا الوجه وإن لم يكن قادرا عليه طلب من الله
____________________
(1/389)
ولا منافاة بين المعنيين لكن ظاهر لفظ الحديث إن صح يقتضي أنه لم يكن قادرا على دفع ضرر ذلك المنافق وأنه أمرهم أن يستغيثوا فيه بالله تعالى
الوجه الثاني أن يقال الأسباب المخلوقة ولمشروعة لا تنكر والأسباب المشروعة تفعل مع التوكل على الله تعالى لكن لم قلتم إن الاستغاثة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق هو من الأسباب المشروعة والكلام إنما هو في هذا وهذا هو الذي نهى عنه
فالجواب حيث قيل فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من غيرهم فلا يجوز أن يقال لغير الله اغفر لنا واسقنا الغيث وانصرنا على القوم الكافرين أو اهد قلوبنا ونحو ذلك ثم ذكر الحديث المذكور فبين أن المنهي عنه أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق
والطالب من النبي صلى الله عليه وسلم قد يظن أنه يقدر على قضاء حاجته ولا يكون كذلك كما كان سأله الناس إما نساؤه وإما غيرهن ما ليس عنده وكما كان الناس يأتونه في غزوة تبوك ليحملهم فلا يجد ما يحملهم عليه
____________________
(1/390)
قال تعالى { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } وكما سأله أبو موسى الأشعري وأصحابه الأشعريون أن يحملهم فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه وكان هؤلاء الأشعريون من خيار الصحابة ظنوه قادرا على حاجتهم ولم يكن كذلك
وفي الصحيحين أن فاطمة ابنته جاءت تسأله خادما فأتاها بعد أن نامت هي وعلي رضي ا لله عنهما فعلمها أن تسبح وتحمد وتكبر وقال ذلك خير لك من خادم ولم يعطها
وقد قال الله تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } فأمر الله تعالى إذا لم يجد ما يعطي السائل أن يقول له قولا
____________________
(1/391)
ميسورا
وفي صفته أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول
وقد قال تعالى { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } وقال تعالى { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر }
ولما قدم عليه وفد هوازن مسلمين سألوه أن يرد عليهم السبي و المال فقال ( ( أحب الحديث إلي أصدقه ومعي من ترون فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي و أما المال ) )
فهو تارة يسأل ما يقدر عليه وتارة يسأل ما لا يقدر عليه
فهذا الحديث إن كان صحيحا فقد سأله بعض أصحابه أن
____________________
(1/392)
يدفع عنهم ضرر ذلك المنافق فأخرهم أنه لا يقدر عليه بل يطلب ذلك من الله تعالى
كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح عام اليرموك يستنصره على الكفار و يخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها فلما وصل كتابه بكى الناس و كان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف و أشار علي عمر أن يخرج بالناس فرأى عمر أن ذلك لا يمكن و كتب إلى أبي عبيدة مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة فينزلها بالله يجعل الله له فرجا و مخرجا فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله و قاتلهم فأخبره أنه لا يمكنه أن يعاونه في هذه
____________________
(1/393)
القضية و أمره أن يستعين بالله وإن كان قد يمكنه أن يعينه
الوجه الثالث أنه لو أريد هذا المعنى لقيل ما يدل على هذا المعنى مثل أن يقال توكلوا علي و أنا أغيثكم ولم يقل إنه لا يستغاث بي و إنما يستغاث بالله فإنه قد نفى و أثبت بكلام مطلق وليس في الباب ما يدل على ما ذكر
و يظهر هذا بالوجه الرابع وهو أن أبا بكر و غيره من الصحابة أعلم بالله من أن يظنوا أنه يستقل بالإبداع و الاختراع فمن حمل الحديث على
____________________
(1/394)
هذا فقد نسب الصديق رضي الله عنه إلى غاية الضلال أين من ينزه الصديق من الخطأ ومن ينسبه إلى هذا
و النبي صلى الله عليه وسلم نفى و أثبت و إن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم فأي حاجة إلى نفيه
و إن قيل إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم بخلاف ظنهم أنه يقدر على دفع المكروه فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيرا
وقد يكون الأمر كما يظنه الظان فليس فيه قدح لا في الصحابة رضي الله عنهم ولا في الرسول بخلاف من يقول لا تعتقدوا في أني مثل الله أقدر و أستقل بالتأثير كما يفعله الله فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصحابة فكيف يظنونه هم
و من أراد أن يأمر غيره بالتوكل مع السبب المأمور به لا ينهاه عن السبب بل يقول له كما قال اعقلها و توكل و كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في
____________________
(1/395)
____________________
(1/396)
الحديث الصحيح احرص على ما ينفعك و استعن بالله ولا تعجز و كما قال تعالى { فإذا عزمت فتوكل على الله } و كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن يبعثه في السرايا ( ( ادعهم إلى الإسلام ثم الهجرة و إلا فالجزية فإن أجابوك و إلا فاستعن بالله و قاتلهم ) ) لا يقال في مثل
____________________
(1/397)
هذا ولا يقاتل ولا تحرص على ما ينفعك
الوجه الخامس أن الحديث الذي ذكره حجة عليه وهو حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل ) )
____________________
(1/398)
رواه أبو داود و الترمذي و صححه
فإنزال الفاقة بالناس أن يشكو إليهم يترك الشكوى إلى الله فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق جائزة لجاز إنزالها بالناس وقد قال يعقوب عليه السلام { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }
____________________
(1/399)
وقال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما ( ( إذا سألت فسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله ) )
و رأى الفضيل بن عياض رجلا يشكو إلى رجل فقال يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك
وقال بعضهم ذكر الله الصبر الجميل و الصفح الجميل و الهجر الجميل فالصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى إلى المخلوق و الهجر الجميل الذي ليس فيه أذى و الصفح الجميل الذي ليس فيه عتاب
و أما قوله المراد بالخبر التنبيه على الرجوع إلى الله تعالى بالقلب لا ترك السبب بل أن يذكر الله تعالى في ذلك السبب
____________________
(1/400)
فيقال الأسباب نوعان
سبب مأمور به فهذا طاعة و عبادة لله كطلب الرزق بالصناعة و التجارة 2 و كدفع العدو بالقتال و الأكل عن الجوع و اللباس عند البرد فهذا ليس فيه إنزال الفاقة بهم ولا شكوى إليهم
و أما نفس سؤال الناس فسؤالهم في الأصل محرم بالنصوص المحرمة له و إنما يباح عند الضرورة
و تنازع العلماء هل يجب سؤالهم عند الضرورة
فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجب سؤال الخلق مع إيجابه مع غيره من الأئمة الأربعة و غيرهم الأكل من الميتة عن الضرورة فإن الله سبحانه و تعالى لم يوجب سؤال الخلق بل قد وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا و كان أحدهم إذا سقط سوطه لا يقول لأحد ناولني إياه منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
____________________
(1/401)
و صاحب الفاقة إذا أنزلها بالله تعالى أنزلها بالغني الملي العليم القدير إذا سأل الله تعالى
و قيل يجب السؤال و هذا منقول عن الثوري وهو اختيار أبي الفرج ابن الجوزي وعلى هذا قال قائل يسأل الناس ما يجب عليهم أن يعطوه إياه إما من الزكاة و إما من غيرها فإن إطعام الجائع فرض على الكفاية من الناس كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( عودوا المريض و أطعموا الجائع و فكوا العاني ) )
وقد جاء في الحديث ( ( لو صدق السائل ما أفلح من رده ) )
____________________
(1/402)
____________________
(1/403)
ونقل المروزي عن أحمد أنه إذا علم صدق السائل وجب أن يعطيه قال تعالى { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }
____________________
(1/404)
و إذا كان يسألهم ما أوجب الله تعالى عليهم كان بمنزلة أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه الذي جعل الله له في المال و سؤال ذي السلطان جائز كمن سأل المودع أن يرد عليه وديعته و أن يعطيه حقه من الميراث و المغنم أو نحو ذلك
و على هذا فليس للسائل أن يسال من لا فضل عنده و ليس له أن يعتدي في السؤال على الناس و ليس له أن يجزع و يعدل عن الصبر الجميل و عليه أن يرغب إلى الله تعالى و يتوكل عليه وحينئذ فلا يكون قد أنزلها بالناس مع أن القول الأول وهو عدم وجوب السؤال أظهر فإن النصوص تقتضي أن ترك سؤال الخلق أفضل مطلقا و لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفا ( ( هم الذين لا يسترقون ) )
____________________
(1/405)
و المسترقي يطلب الرقية و الدعاء من الراقي وقد قال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } فقد بين أنه كافي من توكل عليه وأنه لا بد أن يرزق المتقي من حيث لا يحتسب والميتة رزق ساقه الله إليه عند الضرورة فليس له أن يمتنع من أكله فيعين على قتل نفسه ولو أتاه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس أخذه
وهذا كله يدل على أن سؤال الخلق والاستغاثة بهم حرام في الأصل لا يباح إلا لضرورة وهو في الأظهر أشد تحريما من الميتة فكيف يقال إنه مأمور به فيما لا يقدر عليه الخلق وهو قال أحد إن سؤال المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مأمور به أو مباح
ومن هنا يظهر الوجه السادس قوله والمراد به التنبيه على الرجوع إلى الله تعالى بالقلب لا بترك السبب بل أن يذكر الله تعالى في ذلك
____________________
(1/406)
السبب
فيقال له هذا إنما يصح إذا كان السبب مشروعا فإن السبب المشروع 2 لا ينافي التوكل والكلام هنا فيمن يستغيث بالخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله كما قيل في الجواب فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم
ومعلوم أن سؤال الخلق مثل هذا باطل شرعا وعقلا
فمن الذي جعل هذا من الأسباب الشرعية
ومن قال أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عنده شيء يعطيه فينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به وإذا لم يمكنه دفع العدو ينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به في ذلك
وقد تقدمت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يمدح من لا يسأله مطلقا ويذم من يسأله ما لا يحب أن يعطيه ويذم من يسأله ما لا يقدر عليه فسؤاله والاستغاثة في ذلك أذى وعدوان عليه يحرم فعله معه صلى الله عليه وسلم أعظم مما يحرم أذى غيره والعدوان عليه مع ما فيه من الشرك والجزع
____________________
(1/407)
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نهوا أن يسألوه كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }
هذا وإن كان في سؤال العلم أحيانا فسؤال الدنيا أولى
وقد ذم من كان يسأل الرسل الآيات قال تعالى { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } وقال تعالى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة }
____________________
(1/408)
ولو كان يجوز السؤال والاستغاثة به في كل ما يسأل الله ويستغاث به فيه كما قال هؤلاء المفترون إنه تجوز الاستغاثة به وبغيره من الصالحين في كل ما يستغاث الله فيه لم يحرم من مسألته إلا ما يحرم من مسألة الله تعالى
والعبد يجوز أن يسأل الله الرزق والعافية والنصر على الأعداء والهداية والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسأله احد كل ما يقدر عليه فضلا عن أن يسأله ما لا يقدر عليه لما في ذلك من الأذى والعدوان عليه وهو أحق بالتعزيز والتوقير من غيره فإذا كان يحرم أذى غيره بذلك فأذاه أولى بالتحريم بل أذاه كفر وأذى المؤمنين ذنب قال تعالى { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا }
____________________
(1/409)
فصل
قال وكثيرا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد ويثبته الباري سبحانه وتعالى في مواضع أخر اعتبارا بالأسباب وإثباتا لبساط الحكمة فيأتي هذا المبتدع فيخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهما إنها لا تصح في الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليه
وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق تثبت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء ونصوص الكتاب والسنة اعتبارا بالسبب والحكمة وتنفي عن الخلق إشارة للتوحيد وانفرادا للباري بخلقها كما انفرد بخلق غيرها
كما قال سبحانه وتعالى من بساط التوحيد { وما النصر إلا من عند الله }
وقال عز وجل { إنك لا تهدي من أحببت }
وقال { إياك نعبد وإياك نستعين }
____________________
(1/410)
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }
وقال { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }
وفي الصحيح انصر أخاك ظالما أو مظلوما
وقال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة }
وقال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى }
وفي الصحيح والله عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
____________________
(1/411)
وأعنى على نفسك بكثرة السجود
وجمع الوجهين في قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
فيقال في هذا الكلام من الكذب والافتراء والظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل
وجوابه من وجوه
الأول إن لفظ المذكور جواب المسألة التي سألها واعترض بعد جوابها قد ثبت بالسنة المستفيضة المتواترة باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد
____________________
(1/412)
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين إلا ما يحكى عن طائفة قليلة منهم وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفضيل
ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه وكذلك من أقر بشفاعته في الآخرة وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به
كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقوا بالعباس رضي الله عنه وقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وفي سنن أبي داود وغيره أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله تعالى لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك إن الله تعالى لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك وذكر تمام الحديث فأنكر
____________________
(1/413)
قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه فعلم جوازه
فمن أنكر هذا فهو مخطئ ضال مبتدع وفي كفره نزاع وتفصيل
____________________
(1/414)
وأما من أقر بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال إنه لا يدعى إلا الله تعالى وإن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى فلا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك فهذا مصيب في ذلك هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا
كما قال تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا الله }
وقال تعالى { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }
وكما قال تعالى { يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض }
____________________
(1/415)
وكما قال تعالى { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله }
وقال { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }
فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها والعبارة الدالة على المعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كتاب الله تعالى وكلام رسوله وجب إقرارها وإن وجدت في كلام احد فظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع إليه فيه
وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك العبارة غير مراد الله ورسوله فهذا يرد عليه فهمه كما روى الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل ) )
____________________
(1/416)
فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يطلبون منه الدعاء و يستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال ربما ذكرت قول الشاعر و أنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش له الميزاب ** و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
____________________
(1/417)
وهو قول أبي طالب
و لهذا قال المصنفون في أسماء الله تعالى يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله تعالى و أن كل غوث فمن عنده و إن كان جعل ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه و تعالى و لغيره مجازا
قالوا و من أسمائه المغيث و الغياث و جاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
____________________
(1/418)
قالوا جميعا و أجمعت الأمة على ذلك وقال أبو عبيد الله الحليمي الغياث هو الغيث و أكثر ما يقال غياث المستغيثين و معناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه و مريحهم و مخلصهم
وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين اللهم أغثنا اللهم
____________________
(1/419)
أغثنا يقال أغاثه إغاثة و غوثا وهذا الاسم في هذا المعنى مجيب و المجيب المستجيب قال تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال و الاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر
قالوا و الفرق بين المستغيث و الداعي أن المستغيث ينادي بالغوث و الداعي ينادي بالمدعو وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه وفيه و الاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أنه يطلب منه ما يليق به ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به و إما مخطئ ضال و أما المعنى الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم فهي أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها
____________________
(1/420)
و من هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق
وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي الشيخ المشهور بالديار المصرية وغيرها استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون
وفي دعاء موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى و أنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان و لا حول ولا قوة إلا بالله
و لما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق صح إطلاق نفيها عما سوى الله عز وجل ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله تعالى ولا أنكر على من نفى
____________________
(1/421)
مطلق الاستغاثة عن غير الله تعالى
و كذلك الاستعانة أيضا منها ما لا يصح إلا لله وهي المشار إليها بقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى }
و كذلك الاستنصار وقال تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } و النصر المطلق وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله تعالى
فهذه ألفاظ جواب السؤال الذي طلب جوابه كما تقدم ذكر سؤاله و جوابه وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه و زعم أنه يرد عليه فافترى 2
____________________
(1/422)
على المجيب بقوله إنه يخلط في الحقائق و يلحد في الآيات كما قال في الإغاثة و النصر و غيرهما إنها لا تصح من الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليهم و أخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق تثبت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء و نصوص الكتاب والسنة اعتبارا بالسبب و الحكمة و تنفي عن الخلق إشارة إلى التوحيد و انفراد الباري عز وجل بخلقها كما انفرد بخلق غيرها
كما قال تعالى من بساط التوحيد { وما النصر إلا من عند الله }
و قال { إنك لا تهدي من أحببت }
و قال { إياك نعبد وإياك نستعين }
و قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }
وقال { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }
وقال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى }
____________________
(1/423)
فيقال المجيب لم ينفها عن الخلق مطلقا كما ذكرت بل قال وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } و كذلك الاستنصار قال تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }
فقد ذكر هاتين الآيتين قبلك وفرق بين ما يضاف إلى المخلوق وما يضاف إلى الخالق من النصر و الإغاثة كما فرق بين هذا وهذا في الإغاثة
فنقلك عنه النفي العام كذب بين ولكن هو فصل فجعل ما يخص به الله الذي لا يضاف إلى غيره وهو المطلق و إنما يضاف إلى المخلوق ما يليق به و أنت تريد أن تجعل المخلوق عدل الخالق يضاف إليه جميع ما يضاف إلى الرب عز وجل مضاهاة للحلولية و النصارى و المشركين الذين أنت و أمثالك من طلائع جيوشهم و أبواب مدائنهم وهم دعاة إلى مذهبهم في الحقيقة و إن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم و هذا بين يكشف ضلال هؤلاء
____________________
(1/424)
و نقول في الوجه الثاني قوله وكثيرا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد و يثبته الباري سبحانه و تعالى في مواضع أخر اعتبارا بالأسباب و إثباتا لبساط الحكمة هو كلام باطل فإن الله سبحانه وتعالى لا ينفي شيئا و يثبته إذ الجمع بين نفيه و إثباته تناقض و كلام الله منزه عن التناقض قال الله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ولكن المنفي غير المثبت فالذي ينفيه في موضع ليس هو الذي يثبته في موضع أخر ولكن هؤلاء الضلال يجعلون المنفي عين المثبت فيكون ما يضاف إلى الرب سبحانه و تعالى بطريق التوحيد يضاف إلى غيره بطريق السبب و الحكمة و لهذا قالوا إن كل ما يطلب من الله يطلب من غيره بهذا الطريق فأشركوا في ربوبية الله تعالى وفي دعاء الله تعالى و عبادته حيث
____________________
(1/425)
جعلوا ما يضاف إلى المخلوق يضاف إليه تعالى فصار حقيقة قولهم أن المخلوق تضاف إليه مفعولات الله تعالى كلها و يطلب منه مقدورات الرب كلها لما في الخلق من السبب و الحكمة
ولم يعلم هؤلاء الجهال أن السبب لا يستقل بالتأثير بل تأثيره متوقف على سبب آخر وله موانع و حينئذ فلا يجوز تخصيصه بالإضافة إليه و إن كان سببا
و أيضا فالأسباب التي نعرفها مضبوطة و أكثر ما فعله الله و يفعله لا نعرف نحن أسبابه
و أيضا أثبتوا أسبابا في خلقه و أمره ما أنزل الله بها من سلطان بل إثباتها مخالف للشرع و العقل فضلوا في إثبات أسباب لا حقيقة لها وفي الإضافة إليها وفي تعليق الحوادث كلها بسبب واحد
وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص أنه كان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم تكذيبا لقوله وردا عليهم ( ( خمس لا يعلمها إلا الله تعالى إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا
____________________
(1/426)
تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ) ) و أظنه ذكر عنه أنه قال علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله تعالى
و آخر من جنسه يباشر التدريس و ينسب إلى الفتيا كان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله و إن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع
وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه يدعي هذه المنزلة ويقول إنه
____________________
(1/427)
المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم و إنه يزوج عيسى بابنته و إن نواصي الملوك و الأولياء بيده يولي من يشاء و يعزل من يشاء و إن الرب تعالى يناجيه دائما و إن هو الذي يمد حملة العرش و حيتان البحر و قد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود بحضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة فعرفه الناس و انكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة
ومن هؤلاء من يقول في قوله تعالى { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } يقول إن الرسول هو الذي يسبح بكرة و أصيلا و منهم من يقول أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت ** دع ما ادعته النصارى في نبيهم ** و احكم بما شئت مدحا فيه و احتكم ** ** فإن فضل رسول الله ليس له ** حد فيعرب عنه ناطق بفم ** ** و انسب إلى ذاته ما شئت من شرف ** و انسب إلى قدره ما شئت من عظم ** ** لو ناسبت قدره آياته عظما ** أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم **
و منهم من يقول نحن نعبد الله و رسوله فيجعلون الرسول معبودا
و منهم من يأتي قبر الميت الرجل أو المرأة الذي يحسن به الظن
____________________
(1/428)
لنفسه فيقول اغفر لي و ارحمني ولا توقعني على زلة ولا توقفني على خطيئة 2
ونحو هذا الكلام يرد إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ المخلوق فيها إلها
ولما استقر هذا في نفوس عامتهم تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم عن هذا ما يقول هذا فيقول فلان عنده ما ثم إلا الله تعالى لما استقر في نفوسهم وهذا كله و أمثاله وقع ونحن بمصر و آخر يقول معظما لمن يدعو إلى التوحيد قد جعل الإله إلها واحدا
و المقصود هنا أن نبين خطأه فيما ذكره عن الله من أنه ينفي الأشياء إشارة إلى التوحيد و يثبتها اعتبارا بالأسباب و نبين أنه سبحانه لا ينفي ما أثبته ولا يثبت ما نفاه
أما قوله تعالى { وما النصر إلا من عند الله } فهذا النصر
____________________
(1/429)
المنفي في هذه الآية عن غير الله لم يثبته الله لغيره قط والذي ذكره في قوله { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } ليس هذا هو ذاك
يبين هذا أنه قال { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا } إلى أن قال { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } وقال تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم }
فهو سبحانه و تعالى قد أمدهم بالملائكة و معلوم أن نصر الملائكة لهم أعظم من النصر الذي أمروا به في قوله { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }
____________________
(1/430)
فإن هؤلاء غاية ما يفعلونه دون ما تفعله الملائكة ثم بين أنه و إن نزلت الملائكة وقاتلت فالنصر لا يحصل بمجرد هذا إن لم يحدث الله ما به ينتصر المؤمنون وذلك لأن المقاتل من الملائكة و البشر غاية قدرته حركة نفسه و أما ما يتولد عن ذلك فهو لا يستقل به
و الناس متنازعون في هذا
فكثير من النظار المثبتين للقدر يقولون إن جميع المتولدات فعل الله ليس فعلا للعباد مثل الشبع و الري وانقطاع العضو و خروج السهم من القوس
و أما القدرية فيقول أكثرهم إنها مفعول فاعل السبب و يقسمون الأفعال إلى مباشر و متولد لكنهم مع هذا يعلمون أن الفعل لا يتم بمجرد قدرة العبد بل بأمور خارجة عن قدرته
وقالت الطائفة الثالثة إن هذه المتولدات حادثة بفعل العبد و بالأسباب الأخرى فالعبد مشارك فيها لم ينفوا أثره كما نفاه الأولون
____________________
(1/431)
ولا جعلوه فاعلا كالآخرين بل جعلوه مشاركا فيها
وهذا أعدل الأقوال ولهذا فرق الله تعالى بين الأعمال المباشرة و بين الأعمال المتولدة في قوله تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } الآية ثم قال { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم }
فلما كان الإنفاق و السير عملا مباشرا قال فيه { كتب لهم } وتلك الأمور من النصب و الجوع و غيظ الكفار و النيل من العدو ليس مباشرا بل هو مما يسمى متولدا فلهذا قال فيه { إلا كتب لهم به عمل صالح } لأنهم مشاركون في حصول هذا الآثار و حصول هذه الآثار لا بد فيه من الأسباب التي يخلقها الله ومن رفع الموانع فلا تجوز أن تجعل مفعولة لسبب معين بل هي مفعولة لله تعالى و انتصار المؤمنين على الكفار هو أعظم من النيل الذي ينال من العدو فإذا لم يكن هذا مفعولا لمخلوق فكيف يكون النصر
وهب أن الملائكة نزلت بقذف الرعب في قلوب الكفار كما قال تعالى { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب }
____________________
(1/432)
و أيضا فهب أن الملائكة حضروا فمن الذي يخلق القدرة فيهم وفي المؤمنين و القدرة التي بها يكون الفعل أكثر لا يكون إلا مع الفعل وهب أن القدرة حصلت فمن يخلق الأسباب الخارجة كقبول الجلود للجرح و حصول الزهوق بعد الجرح و الهزيمة المستمرة إذ يمكن أن الكفار يقرون و يكرون و يمكن أنهم يقاتلون حتى يقتلوا فلا يقتل منهم واحد حتى يقتل غيره
فالنصر الذي قال الله تعالى فيه { وما النصر إلا من عند الله } لا يقدر عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس في الموجودات سبب يحصل به هذا النصر ولا موجب له إلا مشيئة الله تعالى فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإن كل ما يكون لسبب فلا بد من حصول سبب آخر ومن رفع موانع
ثم خلق الأسباب ورفع الموانع لا بد أن يحدث هو سبحانه ذلك الأثر بفعل منه على أصح قولي الجمهور الذين يقولون إن الخلق غير المخلوق فإن هؤلاء لهم قولان هل يخلق بفعل واحد قديم يوجد جميع
____________________
(1/433)
الموجودات أم هو يوجد به المفعولات بأفعال متعاقبة كما قال تعالى { خلقا من بعد خلق } على قولين
ومن قال بالثاني قال إن المؤثر التام يستلزم الأثر التام وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فإن الفاعل إذا كان قبل حدوث المفعول و حين حدوثه على حال واحدة كان تخصيص أحد الحالين بحدوث المفعول ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في صريح العقل فالأثر لا يوجد إلا إذا حصل مؤثره التام فإنه بدون تمامه لا يكون مؤثرا فلا يحصل الأثر وإذا تم وجب حصول الأثر إذ لو لم يجب لأمكن وجوده و أمكن عدمه فكان يتوقف على حدوث شيء آخر فلا يكون المؤثر تاما
و هؤلاء يقولون إن القدرة مع الفعل و كذلك الإرادة و سائر ما يتوقف عليه الفعل و إن كان بعض ذلك قد يتقدم عليه و يبقى إلى حين حصوله لكن لا بد من وجوده معه وهذا الفعل الذي هو تكوين الرب
____________________
(1/434)
سبحانه وتعالى خارج عن جميع الأسباب المخلوقة
و أما قوله { إنك لا تهدي من أحببت } مع قوله { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فقد اتفق المسلمون على أن تلك الهداية المنفية ليست هي الهداية المثبتة له لا نزاع في هذا بين أهل السنة و القدرية
و أما الهداية المثبتة فهي الدعوة و البيان وهذه يشترك فيها من يحبه ومن لا يحبه فإن عليه البلاغ وقد بلغ صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وقال في آخر عمره في حجة الوداع ( ( اللهم هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد ) )
____________________
(1/435)
و نظير هذا قوله تعالى { وأما ثمود فهديناهم } وقوله { فقالوا أبشر يهدوننا } وقال تعالى { ولكل قوم هاد }
فإن الهداية هداية الدلالة و الإرشاد بكلامه و بعلمه و أمره ونهيه و ترغيبه و ترهيبه
و أما حصول الهدى في القلب فهذا لا يقدر عليه أحد باتفاق المسلمين سنيهم و قدريهم لأن أحدا لا يستطيع أن يهدي القلوب و يخلق الهدى فيها غير الله
أما أهل السنة فيقولون إن الإهتداء الذي في القلب لا يقدر عليه إلا الله ولكن العبد يقدر على أسبابه وهو المطلوب منه بقوله تعالى
____________________
(1/436)
{ اهدنا الصراط المستقيم } وهو المنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله { إنك لا تهدي من أحببت } وقوله { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } وقوله { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء }
و أما القدرية فيقولون إن ذلك مقدور للعبد
ولهذا تنازعوا في العلم الحاصل في القلب عقب الاستدلال
فقالت القدرية هو فعل العبد
وقالت المثبتة هو مفعول الله كسب للعبد ونظيره
و تنازعوا في النظر هل هو متضمن له مستلزم له أو مقترن اقترانا عاديا على قولين مشهورين
و التحقيق أنه من جملة الأمور التي تسمى المتولدات كالشبع و الري و الرؤية في العين والسمع في الأذن فهي حاصلة بفعل العبد المقدور و بأسباب خارجة عن قدرته ولهذا يثاب عليه لما له في حصوله
____________________
(1/437)
من السبب و الاكتساب
و كذلك قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن هذه الاستعانة التي يختص بها الله تبارك و تعالى لم يثبتها لغيره أبدا كما أن العبادة له لم يثبتها لغيره أبدا
وقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ليس ذلك التعاون هو هذه الإعانة المطلوبة من الله تعالى
فإن إعانة الله لعبده على عبادته تكونه بأمور لا يقدر عليها غيره مثل جعل العلم و الهدى في القلب و جعل الإرادة و الطلب في القلب و خلق القوى الباطنة و الظاهرة و خلق الأسباب المنفصلة التي بها تحصل العبادة ومعونة الإنسان لغيره إنما هي بفعله القائم في محل قدرته وهي
____________________
(1/438)
شيء لا يخرج عنه وما خرج عن محل قدرته فقد تقدم الكلام فيه و غايته أن يكون له فيه شرك
و المقصود أن ما أمر الخلق به و جعله فعلا هو الذي نفاه عن غيره و بين أنه يختص به
و أما قوله { وما رميت إذ رميت } فتقدم الكلام عليها و بينا غلط من ظن أن الرمي المنفي عن الرسول هو عين المثبت له و بينا أن المنفي هو وصول الرمي إلى الكفار و تأثيره فيهم و المثبت هو الحذف الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم
وقوله ( ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) ) هو من جنس قوله { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }
____________________
(1/439)
و أما قوله { استعينوا بالصبر والصلاة } فالمستعان به فعل يفعله العبد و المعنى اصبروا و صلوا فإن ذلك يعينكم على المطلوب
و الأعمال الصالحة بينها تصادق و تلازم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) )
و كذلك الأعمال السيئة بينها تصادق و تلازم كما قال في نفس هذا الحديث ( ( و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) )
أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وهداية الصدق مثل إعانة الصبر و الصلاة وليس ذلك هو ما أثبته
____________________
(1/440)
الله لنفسه و نفاه عن غيره سبحانه وتعالى أن يكون تأثيره مثل تأثير الإعراض
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) ) هو من جنس قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى }
فقد تبين أن جميع ما ذكره من النصوص ليس فيه ان ما نفاه عن
____________________
(1/441)
غيره أثبته لغيره في موضع آخر بل الذي أثبته لغيره غير الذي نفاه عن غيره
الوجه الثالث قوله إن هذه الحقائق تثبت للمخلوقين حقيقة لغوية بإجماع العلماء غايته أن قول العرب مات زيد و تحركت الشجرة وهبت الريح ونحو ذلك يسمى في لغتهم حقيقة وهذا لا ينفعه لأن المضاف إلى المخلوق ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره
فإنه يقال أماته الله و الإماتة التي اختص الله بها لا تثبت لغيره وإن قيل إن فلانا أماته فالمراد أنه فعل فعلا خلق الله الموت فيه مع أسباب أخر هو من جملتها وهو المضاف إلى العبد ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره فما يضاف إلى السبب لم ينفه الله عن غيره وما نفاه لا يضاف إلى السبب
و أيضا فهب أن هذا حقيقة لغوية أي قاعدة في هذا الكلام هنا في الحقائق العقلية و الأحكام الشرعية لا في استعمال الألفاظ وليس كل من أضيف إليه الفعل لغة يترتب على ذلك الأحكام الشرعية التي للفاعلين
____________________
(1/442)
الوجه الرابع قوله اعتبارا بالأسباب و إثباتا لبساط الحكمة ماذا تعنى به
فإن الناس يتنازعون في ذلك
فمنهم من يقول ليس في الوجود سبب له تأثير و حكمة يفعل لأجلها بلا محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانا عاديا فإن تقدم سمي سببا و إن تأخر سمي حكمة من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة
وليس عند هؤلاء في القرآن لام التعليل في فعل الله وهذا قول جهم بن صفوان و كثير من النظار المنتسبين إلى القدر كالأشعري و أتباعه ومن وافقهم من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد رضي الله عنهم بل ولا يقولون إن هذا الشخص ينسب إليهم فعلى قولهم لا سبب ولا حكمة
ومن الناس من أثبت حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها وهو قول المعتزلة و نحوهم من الجهمية
ثم القدرية من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال الحيوان ولا يثبتون تأثيرا
____________________
(1/443)
لغير ذلك
و أما الفقهاء و أهل الحديث و الصوفية و أهل الكلام كالكرامية و غيرهم فإنهم يثبتون السبب و الحكمة لكن كثير من هؤلاء يتناقض فيتكلم في الفقه بلون وفي أصول الفقه بلون و في أصول الدين بألوان ففي الفقه يثبت الأسباب والحكم وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات خلاف ما يقوله في الفقه وفي أصول الدين ينفي الحكمة و التعليل بالكلية لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك و القليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة و يبين رجوعها إلى الفاعل الحكيم مع حصول موجبها في مخلوقاته
وهذه المسائل من اشرف العلم وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع و المقصود هنا أن ما ذكره هذا الشخص من النصوص ليس فيه إثبات الأسباب و الحكم لأفعال الرب سبحانه و تعالى التي نفاها عن غيره
و بيان ذلك أن الأسباب عند من يقول بإثباتها هي من جملة الحوادث التي يكون الرب عز وجل فاعلا لها فالقول في إحداثه للسبب
____________________
(1/444)
و الحكمة كالقول في إحداثه ما بينهما يمتنع أن يكون بشيء من ذلك محدثا لغيره بل هو محدث لجميع المحدثات و ليس في ذلك ما يوجب كون الأسباب محدثة
و أيضا فهذه الآيات التي ذكر ليس فيها إثبات حكم شيء من المحدثات كقوله تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { فعليكم النصر } بل ولا فيها إثبات نسب لفعل الرب سبحانه و تعالى بل فيها إثبات بعض أفعال العباد كهدايته و إعانته و أفعال العباد لا تختص بكونها أسباب دون غيرها من الحوادث فكلام هذا الرجل كلام من لم يتصور صحيحا ولا عبر فصيحا
الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته
____________________
(1/445)
الله من الأسباب و الحكم لكن
من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق و دعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى
ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غير نبي كان ذلك سببا في حصول الرزق و النصر و الهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
ومن الذي شرع ذلك و أمر به
ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء و الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين
إحداهما إن هذه الأسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى
و الثانية أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه فإن قتل المسافر قد يكون سببا لأخذ ماله
____________________
(1/446)
و كلاهما محرم و الدخول في دين النصارى قد يكون سببا لمال يعطونه و محرم و شهادة الزور قد تكون سببا لمال يؤخذ من المشهود له وهو حرام و كثير من الفواحش و الظلم قد يكون سببا لنيل مطالب وهو محرم و السحر و الكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم و كذلك الشرك في مثل دعوة الكواكب و الشياطين و عبادة البشر قد يكون سببا لبعض المطالب وهو محرم فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا
وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا و أمرا فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله عز وجل شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا و أن يستغيثوا به سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره والله تعالى حي عالم قادر لا يغيب كفى به شهيدا وكفى به عليما وهم لا يقدرون على ذلك بل نقول في
____________________
(1/447)
الوجه السادس سؤال الميت و الغائب نبيا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين
وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى و الغائبين
ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال و يشتد البأس بهم و يظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين
____________________
(1/448)
ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا
ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها
وقد كره العلماء كمالك و غيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه و ذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف
و أما ما يروى عن بعضهم أنه قال قبر معروف الترياق المجوب وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره و قول بعض الشيوخ لمريده إذا كانت لك إلى الله حاجة فاستغث بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين و أتباعهم و كثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته و ربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه أو أنه ملك تصور على صورته و أن هذا من كراماته فيزداد به شركا وفيه مغالاة ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين
____________________
(1/449)
بعباد الأوثان حيث تتراءى أحيانا لمن تعبدها و تخاطبهم ببعض الأمور الغائبة و تقضي لهم بعض الطلبات ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة
و كذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد المحدثة في الإسلام و السفر إليها محدث في الإسلام لم يكن من ذلك شيء في القرون الثلاثة المفضلة
بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ) يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
____________________
(1/450)
و ثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ( ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) )
____________________
(1/451)
وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا و إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
فلم يذهبوا إلى القبور ولا توسلوا بميت ولا غائب بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان توسلهم به توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم وهذا تعذر بموته
فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء و الصالحين اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز و نقل عن بعضهم جوازه
فكيف يقول القائل للميت أنا أستغيث بك و أستجير بك و أنا في حسبك أو سل لي الله و نحو ذلك
فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة ولو قدر أن له تأثيرا
____________________
(1/452)
فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله تعالى
و ذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب ميت من تتمثل له الشياطين وربما كانت على صورة ذلك الغائب و ربما كلمته وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام بعبادها وهذا مما قد جرى لغير واحد فينبغي أن يعرف هذا
ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه أعظم مما يؤذيه لو كان حيا وربما قضيت حاجته مع ذم يلحقه كما كان الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيه و يقول ( ( إن أحدهم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا ) )
ومن هذه الحكاية المذكورة في الذي جاء إلى قبر النبي و طلب منه سكباجا فأتاه بعض أهل المدينة فأطعمه سكباجا و أمره بالخروج
____________________
(1/453)
من المدينة وقال إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يطعمه و أن يخرجه وقال من يقيم بالمدينة لا يتمنى ذلك أو كما قال
ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم بل ومن هو دونه حي يسمع كلام الناس كما قال صلى الله عليه وسلم ( ( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) ) و ( ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه ) ) رواه ابن عبد البر و صححه
لكن في مسألتهم أنوا ع من المفاسد منها إيذاؤهم له بالسؤال ومنها إفضاء ذلك إلى الشرك وهذه المفسدة توجد معه بعد الموت دون الحياة فإن أحدا من الأنبياء و الصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهى عن ذلك و أما بعد الموت فهو لا ينهى فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يعبد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لا تتخذوا قبري عيدا ) ) وقال ( ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) )
____________________
(1/454)
____________________
(1/455)
وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم
ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء و الصالحين مساجد
و أما النبي أو الصالح إذا بنى له مسجدا في حياته يصلى فيه معه فهذا من أفضل الأعمال
فحكم الحياة يفارق حكم الممات وذلك كما جاءت السنة بذلك
____________________
(1/456)
فصل
قال ثم اعلم أنه من نفى الحقائق نفيا عاما يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري بالقدرة عددناه من المنزهين ولم نجعل ذلك إبطالا للحكمة إذ الألفاظ يعتبر حكمها بما تفهم العقول منها بمقتضى الأوضاع والقرائن ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل وأجمع الخلف والسلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال
والجواب من وجوه
أحدها أن الجواب المذكور ليس فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر بل قد صرح فيه بالعموم وقيل فيه من قال لا يدعى إلا الله تعالى وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى فلا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك فهو مصيب ولذلك حيث ذكر هذا فلم يذكره إلا على وجه
____________________
(2/457)
التعميم فدعوى المدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة خصوا بالذكر كذب لا يحتاج إلى جواب
الوجه الثاني أن يقال التحقيق في هذا الباب أنه إذا كان النفي لا يصلح لمخلوق فذكرت الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام كان هذا من أحسن الكلام وكان هذا من باب التنبيه كما يقال لا تجوز العبادة إلا لله تعالى لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فينبه بنفيها عن الأعلى على انتفائها عمن هو دونهم بطريق الأولى
وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن قد حصل فيه غلو كما يقال ليس في الصحابة معصوم لا علي ولا غيره وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره فهذا أحسن
فالمخصص إذا كان فيه فائدة مطلوبة كان حسنا
ومنه قوله تعالى { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى }
____________________
(2/458)
فنفى سبحانه أن تغني شفاعة الملائكة الذين في السماء إلا من بعد إذنه تنبيها بذلك على أن من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم فإن المشركين كانوا يقولون عن الأصنام إنها تشفع لهم قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
ولا يجوز أن يكون الكلام تنقيصا بالملائكة ولذلك قال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا }
فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله تعالى والنهى عن الغلو في الدين الذي فيه تشبيه المخلوق بالخالق قال { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } بعد أن قال { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه }
____________________
(2/459)
وقال في الآية الأخرى { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } الآية فنسبه إلى أمه وهذا قد جرى في القرآن في غير موضع فنسبه إلى أمه لينفي نسبته إلى غيرها فلا ينسب إلى الله تعالى أنه ابنه ولا إلى أب من البشر كما زعمت النصارى الغالية فيه ولا كما زعمت اليهود الكافرة به
وأبلغ من هذا قوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } فذكر أهل الأرض جميعا وخص المسيح وأمه بالذكر من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئا لأن المسيح وأمه اتخذوا إلهين كما قال تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله }
____________________
(2/460)
فكان التخصيص بالذكر لينفي هذا الشرك و الغلو الذي وقع في المسيح وأمه ولم يكن من ذلك باب التنقيص بالمسيح و أمه بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين فالتخصيص للحاجة إلى ذكر المخصوص و العلم به أو لأجل التنبيه به على ما سواه
و لهذا لا يكون التخصيص في هذا مفهومه مخالفة بنفي نقيض الحكم عن ما سواه و حتى الذي يسمى دليل الخطاب للتخصيص لم يكن للاختصاص بالحكم
وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فتخصيص الملائكة و النبيين بالذكر تنبيه على من دونهم فإنه أن لا يأمر باتخاذ الصالحين أربابا بطريق الأولى
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ) قيل ولا أنت يا رسول الله قال ( ( ولا أنا إلا
____________________
(2/461)
أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل ) ) فكان تخصيصه بالذكر لتحقيق العموم وإن هذا النفي يتناول أفضل الخلق فلا يظن أحد غيره أن يدخل الجنة بعمله
و كذلك قوله في الحديث الصحيح ( ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينة منه الجن ) ) قالوا و إياك يا رسول الله قال ( ( و إياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ) )
____________________
(2/462)
و منه قوله تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } فذكر هذا الوعيد في الملائكة و خصهم بالذكر تنبيها على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحد من المخلوقين لا ملك ولا غيره و أنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم فكيف من دونهم و هذا التخصيص أفرد الله تعالى بالإلهية
ومنه قوله تعالى في الأنبياء { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } والأنبياء معصومون من الشرك ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله فكيف بغيره
وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }
____________________
(2/463)
مع أن الشرك منه ممتنع لكن بين بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزما لحبوط عمل المشرك وخسرانه كائنا من كان وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظ هذا الذنب لا لغض قدر المخاطب كما قال تعالى { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين } ليبين سبحانه أنه ينتقم ممن يكذب في الرسالة كائنا من كان وأنه لو قدر أنه غير الرسالة لانتقم منه والمقصود نفي هذا التقدير لانتفاء لازمه
وكذلك قوله تعالى { أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته } وفي الحديث المعروف إن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم
____________________
(2/464)
فهذا من بيان عدل الرب سبحانه وتعالى وإحسانه وتقصير الخلق عن واجب حقه حتى الملائكة والأنبياء وغيرهم وأنه لو عذبهم لم يكن ظالما
____________________
(2/465)
لهم فكيف بمن دونهم
وهذا باب واسع فمن غلا في طائفة من الناس فإنه يذكر له من هو أعلى منه ويبين انه لا يجوز هذا الغلو فيه فكيف يجوز الغلو في الأدنى كمال قال بعض الشيعة لبعض شيوخ السنة تقول مولانا أمير المؤمنين عليا ما كان معصوما فقال أبو بكر وعمر عندنا أفضل منه وما كانا معصومين
وكما يقال لمن يعظم شيخه أو أميره بأنه يطاع في كل شيء وأنه لا تنبغي مخالفته فيقال له أبو بكر الصديق أفضل منه وقد قال أطيعوني ما أطعت الله تعالى فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني
وكما إذا ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم ولا يجرحون
____________________
(2/466)
لاعتقاد أن ذلك نقص فيهم وأنهم قادرون على دفع كل أذى فيقال له أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قد أوذي وقد جرح يوم أحد وكسرت رباعيته وذلك كرامة من الله تعالى له ليعظم أجره ويزيده الله بذلك رفعة بالصبر على الأذى في الله
وكذلك لو حلف بشيخه فقيل لا تحلف بغير الله فمن حلف بغير الله فقد أشرك
وكذلك إذا اعتقد معتقد في شيخه أنه يشفع لمريديه يوم القيامة أو أن له راية في الآخرة يدخل تحتها مريديه الجنة فيقال له المرسلون أفضل منه وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله عز وجل ويحمد ربه بمحامد فيقال ارفع رأسك وقل يسمع لك
____________________
(2/467)
وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة
فهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له بل يبدأ أولا بالسجود لله تعالى والثناء عليه ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع حد له حدا يدخلهم الجنة فليست الشفاعة له مطلقا في حقه ولا يشفع إلا بإذن الله تعالى فكيف يكون الشيخ إن كانت له شفاعة
وكذلك إذا قيل عن بعض الشيوخ إن قبره ترياق مجرب قيل له
____________________
(2/468)
إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقا مجربا فكيف تكون قبور الشيوخ ترياقا مجربا
و كذلك إذا قيل إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره و يقسم به على الله ويعرف عنده عشية عرفة ونحو ذلك قيل له إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق لم تستسق الصحابة رضوان الله عليهم عند قبره ولا أقسموا به على الله ولا عرفوا عند قبره فكيف غيره
وكذلك إذا قيل إنه يسجد لقبر الشيخ أو يستلم أو يقبل قيل إذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يسجد له ولا يستلم ولا يقبل باتفاق الأئمة فكيف بقبر غيره
و كذلك إذا قيل الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلي فيه غيره احتراما له قيل إذا كان الصحابة صلوا في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فكيف لا يصلى في موضع مصلى غيره وهو أحق بالاحترام من كل أحد
و كذلك إذا قيل إن الشيخ الميت يدعى و يسأل ويستغاث به قيل إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون ولا يسألون ولا يستغاث بهم فكيف بمن دونهم
وإذا قيل يطلب من الشيخ كل شيء قيل ما لا يقدر عليه إلا
____________________
(2/469)
الله لا يطلب من الأنبياء فكيف يطلب ممن دونهم
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فأقول قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ) ) أخرجاه فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثهم بل يقول قد أبلغتكم لا أملك لكم من الله شيئا كما قال ( ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا
____________________
(2/470)
يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ) )
وهذا النوع من الكلام يقال على وجوه تارة يقال السجود لا يصلح للأنبياء فكيف بمن دونهم
وتارة يقول السائل هل أسجد للشيخ فيقال له الرسول لا يسجد له فكيف يسجد للشيخ
فتارة يذكر الاسم العام و يخص الأفضل بالذكر تحقيقا للعموم و أنه لا يستثني من هذا العموم أحدا وإن كان أفضل الخلق كما قال مات الناس حتى الأنبياء و تارة يذكر الأفضل و يعطف عليه غيره تحقيقا للعموم وتارة يختص الأفضل بالذكر تنبيها به على من سواه
فهذا النمط من الكلام حيث ذكر الأفضل فيه فإنه لا يراد اختصاصه بالحكم بل يراد به العموم و تحقيق العموم و أن هذا الحكم ثابت في حق
____________________
(2/471)
الأفضل فكيف بمن دونه
و حينئذ فإذا قدر أن سائلا سأل هل يستغاث بميت من الأنبياء و الصالحين فقيل له لا تستغث بأحد منهم لا نبي ولا غيره وقيل لا يستغاث بنبي فكيف بمن دونه أو قيل أفضل الخلق لا يستغاث به أو نحو ذلك من العبارات التي يفهم منها عموم النفي و أنه ذكر الأفضل تحقيقا للعموم كان هذا من أحسن الكلام كما تقدم كما إذا قيل لا يسجد لقبره ولا يتمسح به ولا يقبل ولا يتخذ وثنا يعبد و نحو ذلك و كذلك لو كان الخطاب ابتداء في سياق التوحيد و نفي خصائص الرب سبحانه و تعالى عن العبد فقيل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يطلب إلا منه لا من نبي ولا غيره أو قيل لا يستغاث فيه إلا بالله لا يستغاث فيه بالنبي فكيف من دونه أو نحو هذا الكلام كان حسنا
فالاستغاثة المنفية نوعان
أحدهما الاستغاثة بالميت مطلقا في كل شيء
والثاني الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق
فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله لا نبيا ولا غيره ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق وليس لأحد أن
____________________
(2/472)
يسأل ميتا ولا يستغيث به في شيء من الأشياء سواء كان نبيا أو غيره و إذ كان كذلك فجميع ما وقع هو من هذا الباب ولم يفهم أحد من الخلق شيئا إلا هذا
الوجه الثالث قوله من نفى الحقائق نفيا عاما يفهم به الإشارة للتوحيد و إفراد الباري سبحانه و تعالى بالقدرة عددناه من المنزهين فلم يجعل ذلك إبطالا للحكمة و من خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم و عدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته و إن نوى معاني التوحيد
يقال له أولا قولك عددناه من المنزهين عبارة في غير موضعها بل حقه أن يقال من الموحدين فإن التنزيه نفي النقائص عن الله عز وجل و أما الإشارة إلى التوحيد و إفراده بالقدرة فيسمى توحيدا
و يقال له قولك خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم و عدم صلاحيتهم للأسباب كلام مجمل فماذا تريد به أتريد به عدم صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله لهم مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي و العذاب و تدبير العالم و عدم صلاحية الرسول لتبليغ رسالات الله تعالى و نحو ذلك مما أثبته الله لهم أو عدم صلاحيتهم لما اختص
____________________
(2/473)
الرب تبارك وتعالى به مثل أن يطلب منه الأمور التي لا يقدر عليها غيره وعدم صلاحيتهم لكونهم يسألون و يدعون بعد موتهم أو يطلب منهم كل ما يطلب من الله تعالى
فإن عنيت الأول فقائله أعظم جرما من أن يقال نقصهم بعبارته إذ قد يكون كافرا مثل أن يتضمن نفيه جحد رسالة الرسول أو جحد نزول الملائكة عليه بالوحي أو جحد ما يدخل في الإيمان من الإيمان بالملائكة ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب
و إن أردت الثاني فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجب تنزيهه عنه فضلا عن أن يجب نفيه عنه فمن قال لا إله إلا الله لم يكن قد نقص الملائكة و الأنبياء بنفي الإلهية عنهم
ومن قال إن الملائكة و الأنبياء تنفي الإلهية عنهم ليسوا أربابا ولا آلهة ولا يعبدون ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كان قد نفى عنهم ما يختص به الرب تبارك و تعالى ولم ينف عنهم ما هم أسباب فيه
و إنما يكون نافيا للأسباب إذا قال لا شفاعة لهم ولا يشفعون لأحد ولا يدعون لأحد أو دعاؤهم لا ينفع لأحد فهذا باطل بل كفر
____________________
(2/474)
أو قال إنه لا يتوسل إلى الله تعالى بالإيمان بهم ومحبتهم و طاعتهم أو لا يتوسل إليه بدعائهم و شفاعتهم فهذا باطل بل كفر
وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه و أن ذلك صحيح في حق النبي و الصالحين وقال إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كان حيا أو ميتا و إن من سأله و طلب منه فقد استغاث به فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيا و ميتا كل شيء كما يطلب من الله و يطلب بالتوسل به حيا و ميتا كل ما يطلب من الله تعالى و أن ذلك ثابت للصالحين أيضا فاقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيا و ميتا كل ما يطلب من الخالق سبحانه و تعالى
و معلوم أن هذا الذي قاله لو كان حقا لم يجز نفي الاستغاثة بوجه من الوجوه كما لا يجوز نفي شفاعته التي أثبتها الله تعالى و نفي استشفاع الناس به يوم القيامة كما نطقت به النصوص و نفي توسل الصحابة بشفاعته و دعائه في الدنيا
فمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأحد ولا يستشفع به و إنه لم تكن الصحابة يستشفعون به فهو مفتر كذاب بل هو كافر بعد قيام الحجة عليه
و أما من قال إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى أو
____________________
(2/475)
قال إنه لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته فهذا قد أصاب فأين هذا من هذا
و أما من قال إنه لا يقسم على الله تعالى بمخلوق ولا يتوسل بميت ولا يسأل بذات مخلوق فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه و شفاعته ولما مات توسلوا بعمه العباس بدعائه و شفاعته ولم يتوسلوا بذاته ولم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله تعالى بميت في دعائه ولا أقسم به عليه
و هكذا قد قال أبو حنيفة و أبو يوسف و غيرهما إنه لا يجوز أن يقال أسألك بحق الأنبياء و كذلك قال أبو محمد بن عبد السلام إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء و توقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لظنه أن في ذلك خبرا يخصه وليس كذلك فهذا و إن كان مصيبا ففيه نزاع فقد نقل عن بعض العلماء أنه لا يجوز أن يتوسل إلى الله به بعد موته ونقل في منسك الحج الذي نقله المروزي عن الإمام أحمد
وقد تنازع العلماء في القسم به هل ينعقد به اليمين على قولين
أشهرهما أنه لا ينعقد اليمين به وهو مذهب مالك و الشافعي و أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد
____________________
(2/476)
و الثاني تنعقد به اليمين وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه
و على هذه الرواية فهل الحلف يختص به أو يحلف بسائر الأنبياء على وجهين
أشهرهما الأول
و الثاني ذكره ابن عقيل و غيره
فقد يقال إن التوسل به و الإقسام على الله به هو من جنس الحلف به فيكون النزاع في هذا كالنزاع في هذا
و الصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا النبي ولا غيره
ولكن لم يسم أحد من الأمم هذا استغاثة فإن الاستغاثة به طلب منه لا طلب به وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع و سماه استغاثة فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع و إذا جاز أن يتوسل به في كل شيء جاز أن يستغاث به في كل شيء
ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة بل جعل الاستغاثة به
____________________
(2/477)
الطلب منه أيضا وكان لا يميز بين هذا المعنى وهذا المعنى بل يجوز عنه أن يستغيث به في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث وهذا عنده ثابت للصالحين و الاستغاثة طلب الغوث كالاستغاثة و الانتصار وذلك ثابت في حياته وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته بثبوتها في حياته لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه فدخل عليه الخطأ من وجوه
منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في الدعاء مستغيثا به وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازا مع دعواه الإجماع على ذلك و أن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به
والثاني ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلا بذاته لا بدعائه و شفاعته فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط لكنه يوافقه عليه طائفة من الناس بخلاف الأول فإني ما علمت أحدا وافقه عليه
الثالث أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به و هذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه و مماته وهنا أصاب في لفظ
____________________
(2/478)
الاستغاثة لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا و الممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه و الشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة و المنام وهذا الرجل قد نقل منه فيما يغلب على ظني
وهؤلاء لهم صلاح و دين لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام و معرفة الحلال و الحرام و ليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد و يدعوه
وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم و زهد إذا نزل به أمر خطأ إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة و استغاث به وهذا يفعله كثير من الناس و أكبر منه و منهم من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه و يدعو به و يدعو عنده
وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة و الأئمة
و هؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ إذا كانت لكم
____________________
(2/479)
حاجة فاستغيثوا بي و تعالوا إلى قبري و نحو ذلك مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيا و ميتا
ومنه قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب والدعاء عند قبر الشيخ فلان مجاب ونحو ذلك وحجتهم أن طائفة من الناس استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء و قضى بعض تلك الحوائج و أخبر ببعض ما سئل عنه و هذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة و الأنبياء و الصالحين و الكواكب و الأوثان فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها قد تخاطب أحدهم ولا يراها ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال هذا المقام و كلما كان القوم أعظم جهلا و ضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كرامة و إنما هي من الشيطان و سببه شركه بالله تعالى و خروجه عن طاعة الله و رسوله إلى طاعة الشياطين فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عباد الأصنام و مثل هذه الأحوال لا تكون من كرامات أولياء الله تعالى
____________________
(2/480)
المتقين
ثم انقسموا حزبين حزبا رأوا فيمن يفعلها من الكفر و الفسوق و العصيان ما يخرجه عن كونه من أولياء الله تعالى المتقين و كذبوا بما ينقل عنه من ذلك و حزبا رأوا ذلك منه أو ثبت بالنقل المتواتر عن واحد أو عدد من ذلك ما يوجب حصول مثل ذلك لهؤلاء فيظنون أنهم من أولياء الله المتقين
ثم من هؤلاء من يقول من أولياء الله تعالى من له طريق إلى الله تعالى غير مبايعة الرسل
ومن هؤلاء من يفضل كثيرا من الأولياء على الأنبياء
و منهم من يقول هؤلاء يتصرفون بالقدرة و المشيئة تصرفا خرجوا به عن حكم وجوب طاعة الأنبياء عليهم و صاروا غير مكلفين بأمر الأنبياء و نهيهم و يذكرون حكايات يظنونها صدقا
منها أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار لما انهزم بعض أصحابه يوم أحد و حنين فقال لهم يا أصحابي أين تذهبون و تدعوني
____________________
(2/481)
فقالوا نحن مع الله من كان الله معه كنا معه ومرادهم أن كل من معه القدر معه وإن كان كافرا أو فاسقا من غير نظر في العاقبة ولا في وعد الله ووعيده
____________________
(2/482)
ويذكرون ما هو أعظم كفرا من هذه الحكاية وهو أن الله تعالى أطلع رسوله على سر الأسرار ليلة المعراج وأمره أن لا يخبر به أحد وأنه رأى أهل الصفة يتكلمون به فقال لهم من أين لكم هذا فقالوا أخبرنا الله به فقال يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر فقال أنا أمرتك أن تكتمه وأنا أخبرتهم به
وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء عن غير واحد من شيوخهم الكبار فبينت لهم كذب هذا حتى قلت لبعضهم الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة
____________________
(2/483)
المعراج أحد يذكر أنه من أهل الصفة
وأعظم من هذا كفرا ما يذكره بعضهم من أن الله أمر نبيه بزيارة أهل الصفة و أنه ذهب ليزورهم فلم يفتحوا له الباب وقالوا له اذهب إلى من أرسلت إليه فإنه لا حاجة لنا بك و أنه عاد إلى ربه فأمره أن يذهب إليهم و يتأدب معهم ويقول خادمكم محمد جاء ليزوركم
و كل هذا كفر من قائله و معتقده و نحو هذه الكفريات لا يقولها
____________________
(2/484)
إلا من هو أبعد الناس عن الإيمان بالله و رسوله و مع هذا فهي عند أصحابها من حقائق العارفين و أسرار أولياء الله المصطفين خواص الرب الذين هم أفضل من الأنبياء و المرسلين عند أصحابهم هؤلاء الكفار الذين هم أكفر من اليهود و النصارى
فهذه حكايات في آثار حصلت لبعض من استغاث ببعض المخلوقين الميتين و الغائبين و عندهم عادات وجدوا عليها سلفهم ممن كان له نوع من العلم و العبادة و الزهد فليس معهم بذلك حديث يروى ولا نقل عن صحابي ولا تابعي ولا قول إمام مرضي
ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم على ذلك تنبهوا و علموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام لكن هؤلاء كلهم ما فيهم من يعد نفي هذا و النهي عنه كفرا إلا مثل هذا الأحمق الضال الذي حاق به وبيل النكال فإنه من غلاة أهل البدع الذين
____________________
(2/485)
يبتدعون القول و يكفرون من خالفهم فيه كالخوارج و الروافض و الجهمية فإن هذا القول الذي قالوه لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين الأولين و الآخرين وقد طاف بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه وقد كان بعض الناس يوافقه على جواز التوسل بالنبي الميت لكنهم يوافقوه على تسميته استغاثة ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به ولا جعلوا هذا من السبب بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به بمعنى أنه يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله
و ما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي و غيره من المخلوقين بهذا المعنى لا تجوز مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما و استعانوا بمن كان له غرض وهوى من ذوي السلطان و جمعوا الناس و عقدوا مجلسا عظيما ضل فيه سعيهم و ظهر فيه جهلهم و خاب قصدهم و ظهر فيه الحق لمن كان يعاونهم من الأعيان و تمنوا أن ما فعلوه ما كان لأنه كان سببا لظهور الحق مع الذي عادوه وقاموا عليه و سببا لانقلاب الخلق إليه و كانوا كالحافر
____________________
(2/486)
حتفه بظلفه و الجادع ما رن أنفه بكفه مع فرط عصبهم و كثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم
وهذه الطريقة التي سلكها هذا و أمثاله هي طريقة أهل البدع الذين يجمعون بين الجهل و الظلم فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب و السنة و إجماع الصحابة و يكفرون من خالفهم في بدعتهم
كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن و ابتدعوا التكفير بالذنوب و كفروا من خالفهم حتى كفروا عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين و الأنصار و سائر المؤمنين نقل الأشعري في كتاب المقالات أن الخوارج مجمعة على تكفير علي رضي الله عنه
و كذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة و تقديمه في الإمامة و النص عليه و دعوى العصمة له و كفروا من خالفهم وهم جمهور الصحابة و جمهور المؤمنين حتى كفروا أبا بكر و عمر و عثمان ومن تولاهم هذا هو الذي عليه أئمتهم
____________________
(2/487)
و كذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات المتضمن في الحقيقة لنفي الخالق و لنفي صفاته و أفعاله و أسمائه و أظهرت القول بأنه لا يرى و أن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يتكلم هو بنفسه وغير ذلك ثم إنهم امتحنوا الناس فدعوهم إلى هذا و جعلوا يكفرون من لم يوافقهم على ذلك
و كذلك القدرية ابتدعت التكذيب بالقدر و أنكرت مشيئة الله النافذة و قدرته التامة و خلقه لكل شيء و كفروا أو منهم من كفر من خالفه
و كذلك الحلولية و المعطلة للذات و الصفات يكفر كثير منهم من خالفهم
فالذين يقولون إنه بذاته في كل مكان منهم من يكفر من خالفه و الذين يقولون إنه لا مباين للمخلوقات ولا عال عليها
____________________
(2/488)
فمنهم من يكفر من خالفه
و الذين يقولون ليس كلامه إلا معنى واحدا قائما بذاته و معنى التوراة و الإنجيل و القرآن واحد و القرآن العزيز ليس هو كلامه بل كلام جبريل أو غيره فمنهم من يكفر من خالفه
و الذين يقولون بقدم بعض أحوال العبد كالذين يقولون بقدم صوته بالقرآن أو قدم بعض أفعاله أو صفاته و قدم أشكال المداد فمنهم من يكفر من خالفه
و الذين يقولون بقدم روح العبد أو بقدم كلامه مطلقا أو قدم أفعاله الصالحة أو أفعاله مطلقا فمنهم من يكفر من خالفه
و الذين يقولون إن الله يرى بلا عين في الدنيا منهم من يكفر من خالفه
و الذين يهينون المصحف و ربما كتبوه بالنجاسة فمنهم من يكفر من خالفه
____________________
(2/489)
و نظائر هذا متعددة
وأئمة السنة وا 4 لجماعة و أهل العلم والإيمان فيهم العلم و العدل و الرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة و يعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } و يرحمون الخلق فيريدون لهم الخير و الهدى و العلم لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم و بينوا خطأهم و جهلهم و ظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق و رحمة الخلق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا
____________________
(2/490)
فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ومن قاتلهم يقاتل في سبيل الطاغوت كالصديق رضي الله عنه مع أهل الردة و كعلي ابن أبي طالب مع الخوارج المارقين ومع الغلاة و السبائية فأعمالهم خالصة لله تعالى موافقة للسنة و أعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواب بل بدعة و اتباع الهوى و لهذا يسمون أهل البدع و أهل الأهواء
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال أخلصه و أصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه و أصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا و الخالص أن يكون لله و الصواب أن يكون على السنة
____________________
(2/491)
فلهذا كان أهل العلم و السنة لا يكفرون من خالفهم و إن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه و تزني بأهله لأن الكذب و الزنا حرام لحق الله تعالى و كذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله
و أيضا فإن تكفير الشخص المعين و جواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها و إلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر
ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة و التابعين كقدامة بن مظعون و أصحابه شرب الخمر و ظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة اتفق علماء الصحابة كعمر و علي و غيرهما على أنهم
____________________
(2/492)
يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا و إن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحود كفروا
وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله إذا أنا مت فأسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فرد ما أخذ منه و أمر البحر فرد ما أخذ منه وقال ما حملك على ما فعلت قال خشيتك يا رب فغفر له فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته و أنه لا يعيده أو جوز ذلك و كلاهما كفر لكن كان جاهلا لم يتبين له الحق
____________________
(2/493)
بيانا يكفر بمخالفته فغفر الله له
و لهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر و أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطابا لعلمائهم و قضاتهم و شيوخهم وأمرائهم و أصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح و المعقول الصريح الموافق له وكان هذا خطابنا
فلهذا لم نقابل جهله و افتراءه بالتكفير بمثله كما لو شهد شخص بالزور على شخص أو قذفه بالفاحشة كذبا عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة وقد كفانا ذلك شيخه وغيره من الناس فبينوا من ضلاله و جهله ما ذكروه و ذموه و عابوه و تنقصوه به كما هو معروف عن شيخه الجزري و غيره من أهل العلم
____________________
(2/494)
والمقصود هنا أن قوله ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم فقد نقصهم بعبارته فهي كلمة حق أريد بها باطل
ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح فإن من نفى ما يستحقونه من الرتبة وما يصلحون له من الأسباب فهو مفتر كذاب لكن الشأن ليس هو المنفي من هذا الباب ولو لم تقابل دعواه إلا بالمنع لكفانا فإنه يقال له لا نسلم أن الاستغاثة بهم مشروعة في كل ما يستغاث فيه بالله ولا أنها وسيلة من وسائل الله في ذلك كله بل سلمنا أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد تكون سببا وقد لا تكون فإن الناس يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الشفاعة فيشفع لهمم و يستغيث به من أنذره في دفع العذاب فيقول ( ( لا أملك لك من الله شيئا ) ) كما في الحديث الصحيح ( ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ) )
وليس كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدر عليه أعطاه إياه إذ قد
____________________
(2/495)
يكون ذلك غير جائز كما في الصحيح أنه سأله الفضل بن عباس و ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب أنه يوليهما على الصدقات فلم يجبهما وقال ( ( إنها أوساخ الناس و إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) ) و كذلك سأله وفد هوازن السبي و المال فبذل لهم إحدى الطائفتين و سألته أم حبيبة أن يتزوج أختها فقال ( ( إنها لا تحل لي ) )
بل يقال لا نسلم أن التوسل بذاتهم مشروع بحال في الحياة
____________________
(2/496)
و الممات وليس في شيء مما ذكره دليل على موارد النزاع فإن مضمون ما ذكره جمل
أحدها أن الاستغاثة طلب الإغاثة و التخلص من الكرب و الشدة و أن الإغاثة تضاف إلى المخلوق كما يضاف إليه الإطعام و الاستعانة و الإعانة و الهداية و التعليم وهذا صحيح وليس فيه أن الميت يستغاث به كما أنه ليس فيه أنه يستطعم و يستسقى و يستهدى و يستنصر و يستغاث به ولا فيه أن ما كان من هذا الباب لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه يطلب من غيره
الجملة الثانية التي من كلامه أن من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به سواء كان بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما في معناهما وقول القائل أتوسل إليك يا إلهي برسولك و أستغيث برسولك عندك أن تغفر لي استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب و جميع الأمم
وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد ولا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب ولم يقل أحد قط استغثت برسولك عندك ولا هذا عند أحد لا العرب ولا
____________________
(2/497)
غيرهم وهو ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك فإنه يقال استغاثه و استغاث به كما يقال إنه استعانه و استعان به فالمستغاث به هو المسؤول و أما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول
الجملة الثالثة قوله إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته لأنه عند الله في مزيد دائم ثم لا ينقص جاهه وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة الإقسام به و التوسل بذاته فإن ذاته بعد الموت لم تنقص بل هي في مزيد دائم من ربه عز وجل بأبي هو و أمي لكن هذه المقدمة باطلة كما قد عرف
فأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه فما الدليل على أن الطلب منه ميتا كالطلب منه حيا وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل كما لا يقتضي أن يستفتى ولا يمكن أحد أن يذكر دليلا شرعيا على أن سؤال الموتى من الأنبياء و الصالحين و غيرهم مشروع بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة حتى إنه إذا قدر أن الله تعالى يكلفهم بأعمال يعملونها بعد الموت لم يلزم من ذلك جواز دعائهم كما لا يجوز
____________________
(2/498)
دعاء الملائكة و إن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك و الذريعة إلى الشرك
وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيي محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين
أحدهما أنه ليس هو استغاثة به بل توجه به
و الثاني أنه إنما توجه بدعائه و شفاعته فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقال في آخره اللهم فشفعه في فعلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء و كما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته صلى الله عليه وسلم
وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين على أنهم
____________________
(2/499)
توجهوا بذاته و أن ذلك يسمى استغاثة به فلزم من ذلك جواز ذلك بعد موته و فساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه فكيف إذا بطلتا
و ما ذكره من توسل آدم و حكاية المنصور فجوابها من وجهين
أحدهما أن هذا لا أصل له ولا تقوم به حجة ولا إسناد لذلك
و الثاني أنه لو دل لدل على التوسل بذاته لا على الاستغاثة به
و أما فتح الكوة لينزل المطر فهو أيضا باطل كما تقدم التنبيه عليه ومع هذا فليس من هذا
و كذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب
و أما اشتكاء البعير إليه فهذا كاشتكاء الآدمي إليه وما زال الناس يستغيثون به في حياته كما يستغيثون به يوم القيامة
وقد قلنا إنه إذا طلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه والطلب منه منه في حياته و الاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيه أحد
فما ذكره لا يدل على مورد النزاع ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة
____________________
(2/500)
ومعناها العام فجعل يتشبث بهما وهذا إنما يليق بمن قال لا يستغيث به أحدا حيا ولا ميتا في شيء من الأشياء ومعلوم أن عاقلا لا يقول هذا في آحاد العامة فضلا عن الصالحين فضلا عن الأنبياء والمرسلين فضلا عن سيد الأوليين والآخرين فإنه ما من أحد إلا ويمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء فكيف بأفضل الخلق وأكرمهم على الله تعالى ولكن النفي عاد إلى الشيئين إلى الاستغاثة به بعد الموت وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فكيف إذا اجتمعا جميعا فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
فهذه الجمل الثلاث ملخص كلامه وليس فيما ذكره ما يدل على مورد النزاع ولا ما يناقض جواب المجيب والحمد لله رب العالمين
فعلم أن منازعيه لم يخصوا الملائكة والرسول بنفي يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب
وأما قوله ولم يجعل الله تعالى لأحد تنقيص الرسل وأجمع السلف والخلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال
فيقال هذا حق لكنه كما قال علي بن أبي طالب رضى الله
____________________
(2/501)
تعالى عنه كلمة حق أريد بها باطل وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتا فقد آذاهم واعتدى عليهم وهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله
بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا ما يكرهونه فهو مستحق للذم والمقت
ومن ابتدع في دينهم مالم يأذن به الله وما يخالف ما جاؤوا به لزم أن يكون دينهم ناقصا وأنهم أتوا بالباطل وهذا مناقص بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيزهم وتوقيرهم ومن خالف ما جاؤوا به من توحيد الله تعالى وإفراده بالدعاء فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقادا وقولا وعملا فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد فالمخالف له من أعظم الناس مخالفة لهم وقد بين في الصارم المسلول أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة وكل مشرك فإنه مكذب بالرسل فمن
____________________
(2/502)
دخل في نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم مخالف لموجب رسالتهم
و إذا كان كذلك فما قال هذا المفتري و أمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل لو لم يرد ما يتضمن النهي عنها فكيف إذا علم أنه نهي عنها
أما المقام الأول فإنه لا يمكن أحدا أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة لا بهذا اللفظ ولا معناه
فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتا ولا يسألوه ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به ولا يدعوه لا رهبة ولا رغبة
ولا يقول أحد لميت أنا في حسبك وأنا في جوارك وأنا
____________________
(2/503)
أريد أن تفعل كذا وكذا
ولا أن يخطو إلى قبر ميت خطوات و أن يتوجه إلى جهة قبره و يسأل كما يفعل هذا كثير من النصارى و أشباه النصارى من ضلال هذه الأمة بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم
ولا يشرع لأحد أن يقول لميت سل الله تعالى لي أو ادع لي
ولا يشرع لهم أن يشكو إلى ميت فيقول أحدهم مشتكيا إليه علي دين أو آذاني فلان أو قد نزل بنا العدو أو أنا مريض أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوى سواء كان هذا السائل عند قبر الميت أو كان بعيدا منه و سواء كان الميت نبيا أو غيره
بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي أو صالح فيدعوا لنفسه ظانا أن الدعاء عند قبره يجاب
____________________
(2/504)
بل و لا يشرع لأمته أن يقسموا عليه بمخلوق من المخلوقات لا نبي ولا غيره سواء أقسموا عليه لحاجة أو غير حاجة
ولا يشرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله تعالى بذات ميت أصلا بل ولا بذات حي إلا أن يكون التوسل بما أمر الله به من الإيمان به و طاعته أو بدعاء المتوسل به و شفاعته
فأما إذا لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به ولا بدعاء الداعي له فليس هناك وسيلة شرعها الله تعالى و رسوله
فإذا كان النبي و الرجل الصالح له عند الله من الجاه والقدر و الحرمة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد أمرين
إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به و محبته و طاعته و موالاته و الصلاة عليه والسلام ونحو ذلك فهذه هي الوسيلة التي
____________________
(2/505)
أمر الله بها في قوله تعالى { اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }
فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فكل وسيلة طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم وكل طاعة للرسول وسيلة و { من يطع الرسول فقد أطاع الله } { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
والوجه الثاني أن يدعو له الرسول فهذا أيضا مما يتوسل به إلى الله تعالى فإن دعاءه وشفاعته عند الله تعالى من أعظم الوسائل
فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب ولا مستحب ولا الرسول دعا له فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه
ولكن بعض الذين دخلوا في دين الصابئين والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه بل الرحمة التي تفيض
____________________
(2/506)
على الرسول تفيض على المستشفع به من غير شعور من الرسول ولا دعاء منه ومثلوا ذلك بإنعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره فإن الشمس إذا وقعت على ماء أو مرآة وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة قالوا فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه وقالوا إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها
وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كإبن سينا وأبي حامد وغيرهم
وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام وهي من
____________________
(2/507)
المقاييس الفاسدة التي قال عنها بعض السلف ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وهي من أقوال من يقول إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم لا بكون الله يجيب الداعي وهي مبنية على أن الله تعالى ليس بفاعل مختار يحدث الحوادث بمشيئته واختياره
بل هؤلاء يقولون إن الرب سبحانه وتعالى يوجب العالم بذاته ويسمونه علة العلل ويقولون علة العلل ويقولون إنه علة تامة وإذا كان كذلك فلا بد للحوادث من سبب فجعلوا حدوثها سبب حركة الفلك وما يحدث عنها من الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية
ثم الإلهيون منهم يقولون إن الحركة بسبب الاستعدادات من
____________________
(2/508)
العالم السفلي لأن يفيض عليها من العقل الفعال الصور النوعية وأن يفيض على النفوس العلوم والأخلاق وغير ذلك
وهؤلاء يجوزون أن يعبد الإنسان الكواكب لأنه بتوجهه إليها يفيض إليه منها أمور وكذلك الأصنام لأنه بتوجهه إلى الصنم يكون متوجها إلى صاحبه فيفيض عليه أمور والنفوس المفارقة هي سعيدة فإذا توجه المتوجه إلى تلك النفوس والقبور التي دفن فيها بدنها فاض عليها منها ما يفيض
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء وبينا فساد قولهم بالعقل الصريح المطابق للنقل الصحيح بما ليس هذا موضعه
والكلام إذا كان في أحكام أفعال العباد لم يكن لأحد أن يتكلم إلا بدليل شرعي لا أن يدعو إلى دين غير دين الإسلام ولا ريب أن هذه الأقوال ونحوها تدعو إلى غير دين الإسلام
وقول هذا المفتري وأمثاله يجر إلى مثل هذا لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه بل هم على عادة تعودوها واتباع لشيوخ لهم فيهم نوع من علم ودين ليس لهم خبرة بحقيقة ما جاء به الرسول وعندهم
____________________
(2/509)
تعظيم الأنبياء والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين يعظمونهم تعظيم ربوبية من جهة ما يرجونه في حصول مطالبهم من جهتهم لا يعظمونهم لكونهم رسل الله الذين أمروا بطاعتهم فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به وأن يقتدي بهم فيما يشرع التأسي بهم فيه ويعرضون عن بعض طاعتهم والتأسي بهم ويقبلون على نوع من دعائهم وسؤالهم والإشراك بهم وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة الفلاسفة لكن الجميع فيهم شرك
ونحن في هذا الموضع ليس بنا حاجة إلى نفي تأثير هذه الأسباب فإنه ليس كل سبب أثر يكون مشروعا بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب إذا كان ضررها راجحا على نفعها كما ينهى عن
____________________
(2/510)
السحر ونحو ذلك وإن كان قد يمكن أن يقتل به كافرا ويطلع بذلك على بعض أخبار أعداء الإسلام وكذلك عباد الكواكب والأصنام قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم
ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب فقد يحصل أحيانا أن شيطانا يتمثل للداعي وقد يحصل بعض مطالبه لكن هذا كله منهي عنه لما ترتب عليه من الفساد ما يغمر ما يظن فيه من المنفعة
وهذه التأثيرات قد تحصل عند بعض القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه بخلاف من يقول إن الأثر الحاصل لا يكون إلا فيضا فهذا لا يكون إلا على قول القائلين بالقدم
وقد بينا في غير هذا الموضع أن هؤلاء الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن موجب بذاته هو علة تامة حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بلا محدث أصلا وأن حركة الفلك الحادثة شيئا بعد شيء ليس لها محدث أصلا وهم يقولون إنه متحرك حركة شوقية بقولهم في حركته من جنس قول القدرية في حركة الحيوان والقدرية أخرجوا فعل الحيوان أن يكون مخلوقا لله عز وجل وأثبتوا حادثا لا محدث له وهؤلاء الصابئة والفلاسفة أخرجوا حركة الفلك وجميع الحادثات من أفعال الحيوان وغيرها عن أن
____________________
(2/511)
تكون مخلوقة لله تعالى وأثبتوا هذه الحوادث بلا محدث
والناس ردوا على القدرية وقالوا إرادة العبد حادثة بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث وإذا قيل إن العبد أحدثها بلا إرادة لزم وقوع الحوادث من المختار بلا إرادة وإن قيل بإرادة فالقول فيها كالقول في الأولى وهؤلاء القدرية قالوا إرادة الرب يحدثها لا في محل بلا إرادة منه كما قال ذلك البصريون من المعتزلة وقالوا إرادة العبد يحدثها في نفسه بلا إرادة منه وكلاهما ممتنع
ثم يقال لهم حدوثها بعد أن لم تكن حادثة أمر حادث فلا بد له من محدث وقد يقال الإرادة أمر ممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمحدث والمرجح إن كان من العبد فالقول في حدوثه كالقول في الأول وذلك يستلزم التسلسل في أفعال العباد وأفعال العباد لها أول فيمتنع التسلسل فيها فلزم أن يكون المحدث المرجح لها خارجا عن العبد وكل ما يذكر سوى الرب تعالى منته إليه والمحدث المرجح هو الله تعالى
وقول الصابئة والفلاسفة أفسد من قول القدرية فإنه يقال إذا كان الرب عندكم علة تامة موجبا بذاته في الأزل لم يزل ولا يزال هكذا ومعلولة لازم لذاته لا يمكن تأخره عنه امتنع أيضا أن تصدر عنه حركة الفلك وغيرها من الحوادث وامتنع أن يصدر عنه ما يستلزم الحوادث والعالم مستلزم للحوادث فيمتنع صدوره عن العلة التامة لأن الحوادث
____________________
(2/512)
تحدث شيئا بعد شيء كما أن حركة الفلك تحدث شيئا بعد شيء والعلة التامة لا يحدث معلولها ولا شيء من معلولها شيئا بعد شيء بل جميع معلولها مقارن لها أزلا وأبدا لا يتأخر منه شيء عن الأول وإذا كان كذلك فالحوادث كأجزاء الحركة الفلكية يمتنع صدورها عن الموجب بذاته
وإذا قيل إن الحركة سببها الشوق الذي هو في الفلك للتشبيه بالأول قيل فتلك الإرادة والتصور الذي هو سر ما في الإرادة الذي هو سبب الحركة بتجدده هو أيضا من الحوادث المتعاقبة وهو نوع حركة نفسانية فلا بد لها من محدث فإذا كانت العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها امتنع صدورها عنه وإذا كان الفلك لا يخلوا عن الحوادث امتنع صدورها عنه لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولو قدر مقدر أن العالم لم يكن فيه حادث ثم تجددت الحوادث لكان القول فيما ليس بمتجدد كالقول في غيره فإن التقدير أنه هناك فاعل لا علة تامة والعلة التامة لا يتجدد عنها شيء بل معلولها مقارن لها وهذا إذا تصوره العاقل علم بالضرورة بطلان قول هؤلاء الذين هم من أبعد الناس عن المعقول الصريح كبعدهم عن المنقول الصحيح ثم هل تقوم بالرب الأمور
____________________
(2/513)
الاختيارية التي يسمونها الحوادث لهم في ذلك قولان كما للمتكلمين قولان
وطائفة من الأساطين القدماء يجوزون ذلك وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم ومنهم من لا يجوزه كابن سينا وأمثاله فمن لم يجوز ذلك ظهر فساد قوله بقدم العالم ظهورا بينا ومن جوزه أيضا فيمتنع عليه أن يقول بقدم شيء من العالم فإنه حينئذ إذا كان الرب تعالى يفعل شيئا بعد شيء بأفعال تقوم بذاته لم يكن قط علة تامة لمفعولاته بل كل ما يفعله ويحدثه هو فاعل له حين أحدثه وفعله والمؤثر التام يستلزم أثره كما أن الأثر يستلزم مؤثره التام
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن القدرة لا بد أن تكون مع مقدورها لا يجوز أن تكون معدومة عن وجود المقدور لكن تنازعوا هل يكون وجودها قبل مع بقائها والصواب هو التفريق بين القدرة المصححة التي يشترط في الفعل معها وجود الإرادة وبين القدرة الموجبة وهي مجموع ما يستلزم المقدور
____________________
(2/514)
وأما القدرية فقالوا إن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وإذا كان الحوادث يحدثها شيئا بعد شيء بحسب حدوثها لزم أن تقوم به الأفعال الاختيارية
وإذا كان كذلك بطل أصل قولهم الذي بنوا عليه قدم العالم حيث قالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وإذا كان كذلك قارنت موجبه فإذا كان نفس الحوادث يستلزم أن يكون فاعلا أفعالا متعاقبة بطل كونه وموجبا بذاته بمقارنة موجبه فبطل التلازم الذي ذكروه وجاز أن يكون محدثا للأفلاك وإن كان قد احدث قبلها شيئا آخر كما أخبر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
وكذلك في التوراة أنه ابتدأ خلق السماوات والأرض وكان الماء مستبحرا غامرا للأرض والرياح تهب فوقه وملخص ذلك أنه لو كان شيء من العالم قديما لكان موجبا بذاته يقارنه موجبه لا يتأخر عنه
والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يحدث في العالم شيء لأن العالم بجميع ما فيه موجب له فلو كان موجبه يقارنه في الأزل لزم أن لا يحدث في العالم شيء ولو وجد العالم دون الحوادث لوجد الملزوم
____________________
(2/515)
دون اللازم ولحدثت الحوادث بعد ذلك عن الموجد المستلزم لموجبه في الأزل وكلاهما ممتنع
وكل خبر في العالم فهو مستلزم لمقارنة الحوادث إذ يمكن أن تقوم به الحوادث فلو كان صادرا عن موجب بالذات لامتنع حدوث الحوادث مقارنة له أو حادثة بعده لأن صدورهما عن موجب بالذات ممتنع لا سيما والذات التي من شأنها أن تقوم بها الأفعال المتعاقبة فيفعل شيئا بعد شيء لا يكون فعل معين لازما لذاتها فلو كان في العالم شيء قديم تبين أنه إنما يلزم نوع الأفعال لا فعل مع معين
وأيضا فلزوم الفعل المعين لمفعول معين لذات تقوم بها الأفعال المتعاقبة وتنفعل شيئا بعد شيء غير معقول فإنها متى كانت كذلك امتنع أن يلازمها أزلا وأبدا فعل معين فإن ملازمة المعين ينافي كون فعلها شيئا بعد شيء
وإذا قيل يلزمها فعل معين ولا يلزمها شيء من الأفعال كانت أفعالها منقسمة إلى معين لازم لها وإلى نوع يحدث شيئا بعد شيء فهي للأول موجبة بذاتها والثاني فاعلة باختيارها فيكون موجبه بالذات المفعول وفاعل بالاختيار لمفعولات واجتماع هذين في الذات الواحدة تناقض لأن كونها فاعلة بعد اختيارها شيئا بعد شيء يناقض اتصالها
____________________
(2/516)
بالإيجاب بالذات مع أن الفعل المعين الملازم للذات لا يعقل ولا يقبل الفعل إلا الإحداث وإنما يقبل فيما كان لازما لها أن تكون صفة لها كالحياة لا أن يكون مفعولا لها فكونه مفعولا يناقض كونه معه لازما لا سيما إذا كان الفاعل فاعلا بالاختيار
والمقصود هنا أنه إذا لم يحصل من العبد فعل أمره الله تعالى به في حق الرسول ولم يحصل من الرسول شفاعة له فلا يتصور أن ينتفع بجاه الرسول منفعة أمر الله تعالى بها ودينه في دين الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم لكن على قول غير أهل التوحيد من المشركين القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه فإن المشرك قد يدعو إلها من دون الله فتخاطبه الشياطين وربما قضت له بعض الحاجات وهذا معروف في عباد الكواكب والأصنام وعباد الموتى من الصالحين وغير الصالحين
وأما على قول الصنف والثاني من المشركين الذين جمعوا في الحقيقة بين التعطيل والإشراك فأنكروا أن يكون خالقا للعالم بقدرته ومشيئته وهم مشركون فمن هؤلاء من يقول إنه قد يفيض عليه من الشفيع شيء بغير
____________________
(2/517)
دعاء الرسول لكن لا بد عند هؤلاء من توجه من العبد ولا يشترطون التقرب بما شرعته الرسل بل يمكن عندهم إذا سجد لتمثاله أو لقبره ودعاه من الله تعالى أن يحصل له ذلك كما يحصل له إذا توجه للشمس من سخونة شعاعها ما يحصل
والفرق بين الموحدين والمشركين أن الموحدين يقولون إن ما أمرت به الرسل من العبادات إنما يتقرب به إلى الله تعالى والأجر فيه على الله تعالى وإنما على الرسول البلاغ ليس عليه حصول الثواب ولا يشترط أن يكون واسطة في وجوده بل يخلق الله الثواب بغير واسطة الرسول وأما شفاعة الرسول فهي دعاء لله تبارك وتعالى وهؤلاء يقولون لا يحصل إلا بتوسطهم وإن فاض عنهم بغير قصد فهذا أصل ينبغي معرفته
فإن هذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهمم بتوسطهم كما يحصل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس
____________________
(2/518)
ونحن نقول إن كل ما شرعه الله تعالى ورسوله فهو من أعظم الوسائل إلى الله لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله فليس من الوسائل وكذلك سؤال أحدهم مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس مشروعا وأصل الدين أن لا يعبد إلا الله بما شرع وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله بغير أمر الله
المقام الثاني أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل فقد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال ( ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ) يحذر ما فعلوا وقال ( ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) )
فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة لكان قصدها للدعاء عندها مشروعا لم ينه أن يتخذ مسجدا فإن اتخاذ القبور مساجد يدخل فيه الصلاة وغيرها ويدخل فيه بناء المساجد عليها وكلاهما منه عنه بل محرم كما صرح به غير واحد من العلماء فإن النبي
____________________
(2/519)
صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك تحذيرا لأمته وهذا يقتضي توكيد التحريم
فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها كالدعاء في دبرها كما جاءت به السنة في الأدعية الشرعية فإنها مشروعة في آخر الصلاة كذلك الدعاء عقب الصلاة وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر
والطواف يجري مجرى الصلاة ولهذا يستحب الدعاء في آخره كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين ( ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ) والطواف تحية المسجد الحرام
____________________
(2/520)
وأما منى فعبادتها رمي الجمار ولهذا يرمونها يوم النحر ثم ينحرون كما يصلون في الأمصار ثم ينحرون فليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم وسائر الجمرات ترمى عقب الزوال قبل صلاة الظهر
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى ) )
____________________
(2/521)
فلما كان هذا من شعائر الصلاة والطواف كان الدعاء عندها مشروعا كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بين الجمرتين بقدر سورة البقرة
وأما جمرة العقبة فليس عندها وقوف ولا دعاء فإنها آخر منى والداعي يريد أن يتأخر عن الجمرة وما بعدها ليس من مني وكان الداعي في نفس عرفة ومزدلفة ومنة لا خارجا عنها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرفة ومزدلفة كلها موقف
____________________
(2/522)
وارفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر ) ) فلم يجعل الحدود الفاصلة بين المشاعر منها
____________________
(2/523)
وقد قال طائفة من السلف في قوله تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قالوا مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة ومني ومصلى أي مدعى وهذا لا ينافي عند كثير من العلماء ما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف صلى عند المقام وقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } لأن الآية قد تتناول هذا وهذا عند كثير من أهل العلم
ففي الجملة أحق البقاع بدعاء الله تعالى فيها المساجد التي يصلى فيها والمشاعر التي شرع الله تعالى فيها الدعاء والذكر وأمر أن
____________________
(2/524)
يكون الدين خالصا له كما قال تعالى { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }
فإذا كانت الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعا عند القبر وكما لا يذبح للميت ولا عند قبره بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العقر عند القبر وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة فإنها شبه ما ذبح لغير الله فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها لكانت إما من المساجد وإما من المشاعر التي يحج إليها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وهذا بل لعن الذين يتخذون القبور مساجد
وقال أيضا في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره ( ( لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ) فنهى أن يتخذ قبره عيدا وهذا معنى المشاعر فإن المشاعر تتخذ أعيادا أي يجتمع الناس عندها في أوقات معتادة و العيد اسم للوقت و للمكان الذي يعتاد الاجتماع فيه وقد يعبر به عن نفس الاجتماع المعتاد و لهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة عيدا وقال ( ( إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين ) )
____________________
(2/525)
وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه قال ما هذا قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل و إلا فليمض
فقد نهاهم عن اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهذا لا ينافي قول
____________________
(2/526)
عتبان بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم إن السيول تحول بيني وبين قومي فلو صليت في بيتي في مكان أتخذه مصلى فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عنده ركعتين لأن عتبان رضي الله عنه كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه و تبرك بكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه أولا كما أنه صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء و بنى مسجده و المسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره كما فضل المسجد الحرام و مسجد سليمان عليه السلام بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر
و أما ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى في سفره النزول في مكان النبي صلى الله عليه وسلم و الصلاة في مصلاه فمن الناس من رخص في مثل
____________________
(2/527)
ذلك بخلاف ما إذا اجتمع على ذلك الناس و من الناس من قال هذا أمر انفرد به ابن عمر و الخلفاء الراشدون و الأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم من ابن عمر و أعظم إتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم فلو كان هذا مستحبا لفعله هؤلاء
و أيضا فلما فتح المسلمون تستر وجدوا فيها قبر دانيال عليه السلام و كان أهل البلد يستسقون به فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا و ادفنه في الليل في واحد منها لئلا يفتتن به الناس فيستسقون به
____________________
(2/528)
فهذه كانت سنة الصحابة رضوان الله عليهم و لهذا لم يكن في زمن الصحابة و التابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد مبني على قبر ولا مشهد يزار لا بالحجاز ولا باليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق و لا خراسان
و قد ذكر مالك رحمة الله تعالى عليه أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بدعة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون وقال لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
فأما ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور فإنما هو دعاء للميت كالدعاء في الصلاة على جنازته
و السنة في الدعاء التعميم كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال ( ( يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض ) ) و لهذا يقال في دعاء الجنازة ( ( اللهم اغفر لحينا
____________________
(2/529)
و ميتنا و شاهدنا و غائبنا و صغيرنا و كبيرنا و ذكرنا و أنثانا ) ) لم يخص
____________________
(2/530)
الميت بالدعاء له
و كذلك يقال في السلام على الموتى ( ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنا إن شاء الله بكم لاحقون و يرحم الله المستقدمين منا و منكم و المستأخرين نسأل الله لنا و لكم العافية ) )
كما يقال في الصلاة السلام علينا و على عباد الله الصالحين
و كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر نبيا قال ( ( يرحمنا الله و فلانا ) )
____________________
(2/531)
____________________
(2/532)
و كما يقول الخطيب و أستغفر الله لي ولكم
و المقصود بالصلاة على الجنازة الدعاء للميت و غيره يدخل تبعا
و كذلك في زيارة القبور المقصود الدعاء للميت و غيره يدخل تبعا بخلاف من يكون قصده أن يدعو لنفسه بالميت أو عند الميت و هذا كله من الدعاء عند القبور
و أما دعاء الميت و سؤاله بلفظ الاستغاثة و غيرها كقول الداعي أطلب منك المغفرة و الرحمة أو قضاء الدين أو النصر على العدو فهذا مما نهى عنه القرآن قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }
وفي التفسير الصحيح عن مجاهد يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال عيسى بن مريم و عزير و الملائكة
____________________
(2/533)
وكذلك عن إبراهيم النخعي قال كان ابن عباس يقول في قوله { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } هو عزير و المسيح و الشمس و القمر
و كذلك روي عن شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال عيسى و أمه و العزير في هذه { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة }
____________________
(2/534)
وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني عن ابن مسعود قال كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن و يقولون هم بنات الله فأنزل الله تبارك و تعالى { أولئك الذين يدعون } معشر العرب { يبتغون إلى ربهم الوسيلة }
____________________
(2/535)
و في رواية عن الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون و الإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب }
____________________
(2/536)
و كذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال { الذين يدعون } الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمته و يخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا قال و هؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين
و كذلك ذكر العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة و المسيح و عزيرا
و ثبت أيضا في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال
____________________
(2/537)
كان ناس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن و بقي الإنس على كفرهم فأنزل الله تعالى { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } يعني الجن و هذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه
وهذه الأقوال كلها حق فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر و السلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفا فيقول هذا فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين
فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة و يرجو رحمته و يخاف عذابه وهذا موجود في الملائكة و الجن و الإنس وقد اختار الطبري قول من فسرها بالملائكة أو
____________________
(2/538)
بالجن لأنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون إلى ربهم الوسيلة بخلاف المسيح و العزير فإنهما لم يكونا موجودين على عهده فلم يكونا حينئذ ممن يبتغي الوسيلة إذ ابتغاء الوسيلة العمل بطاعة الله تعالى و التقرب إليه بالصالح من الأعمال فأما من كان لا سبيل له إلى العمل فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة
وهذا الذي قاله إن كان صوابا فهو أبلغ في النهي عن دعاء المسيح و عزير و غيرهما من الأموات من الأنبياء و الصالحين فإنه إذا كان الحي الذي يتقرب إلى ربه بالعمل لا يجوز دعاؤه فدعاء الميت الذي لا يتقرب بالعمل أولى أن لا يجوز و إن كانت الآية تعم هذا و هذا فهي دالة على ذلك فدلالتها ثابتة على كل تقدير و الصحيح أنها تعم هؤلاء و هؤلاء و ذلك أن هؤلاء كانوا في حياتهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة وهو لم يقيد ذلك بزمن النزول بل أطلق
وإذا قال القائل آدم و نوح و إبراهيم و موسى يعبدون الله ولا يشركون به علم أن المراد هذا دينهم قال تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار }
____________________
(2/539)
كان حكم النبيين بها قبل نزول الآية بدهر
و العرب تقول مضى حتى لا يرجونه وشربت الإبل حتى يجيء البعير فيقول برأسه كذا و منه قراءة من قرأ { وزلزلوا حتى يقول الرسول } وهذا ماض
وقد قال تعالى { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } و هذا قد مضى قبل نزول القرآن و الفعل مضارع لأنه حكى حالهم الماضي و لهذا تقول النحاة هذا حكاية حال كقوله { وكلبهم باسط ذراعيه }
فإن قيل المعروف في مثل هذا أن يقال كانوا يفعلونه كما قال تعالى { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا }
قيل لكن إذا كان في الكلام ما يبين المراد لم يحتج إلى ذلك لا سيما إذا ذكر ماض و حاضر و عمهم الخطاب فهنا يتعين حذف كان لأن
____________________
(2/540)
المقصود الإخبار عن حال هؤلاء الحاضرين و الحاضرون لا يخبر عنهم بكان كما تقول المؤمنون من الأولين و الآخرين يعبدون الله لا يشركون به
و الآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعى من دون الله وكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء و الصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة و الجن و معلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يقدره الله تعالى بأفعالهم ومع هذا فقد نهى الله عز وجل عن دعائهم و بين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع أيضا فلا يرفعونه ولا يحولونه من حال إلى حال كتغير صفته أو قدره ولهذا قال تعالى { ولا تحويلا } فذكر نكرة تعم أنواع التحويل
يقال كشف البلاء أي أزاله و رفعه ويقال كشف عنه أي
____________________
(2/541)
أظهره وبينه
فمن الأول قوله تعالى { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون }
و قوله تعالى { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون }
وقوله تعالى { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون }
و من الثاني قوله تعالى { يوم يكشف عن ساق } لم يقل يوم يكشف الساق وهذا يبين خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة وأن الشدة تسمى ساقا و أنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف عن الشدة أو يكشف الشدة
____________________
(2/542)
و أيضا فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار و الرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد
و الاستغاثة هي طلب كشف الشدة فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء و الصالحين أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه فلا يملك كشف
____________________
(2/543)
الضر ولا تحويله وقد قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } كان أحدهم إذا نزل بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فقالت الجن الإنس يستعيذوننا فزادوهم رهقا
وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق و هذا مما استدلوا به على أن كلام الله عز وجل غير مخلوق قالوا لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله و أمر بذلك
كقوله صلى الله عليه وسلم ( ( أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق
( ( و أعوذ بكلمات الله التامات كلها من غضبه و عذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين و أن يحضروا ) )
____________________
(2/544)
و ( ( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق و ذرأ و برأ و من شر ما ينزل من السماء و من شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض و ما يخرج منها و من شر فتن الليل و النهار
____________________
(2/545)
ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) )
قالوا و الاستعاذة لا تجوز بالمخلوق وقول القائل أعوذ بالله معناه أستجير بالله فإذا لم يجز أن يستغاث بمخلوق لا نبي ولا غيره فإنه لا يجوز أن يقال له أنت خير معاذ يستغاث به بطريق الأولى و الأحرى و لهذا قال بعض الشعراء لبعض الرؤساء الممدوحين ** يا من ألوذ به فيما أؤمله ** ومن أعوذ به فيما أحاذره **
____________________
(2/546)
** لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ** ولا يهيضون عظما أنت جابره **
فقول القائل لمن مات من الأنبياء أو غيرهم بك أستجير من كذا و كذا كقوله بك أستعيذ وقوله بك أستغيث في معنى ذلك إذ كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها و المستعيذ يطلب منع المستعاذ منه أو رفعه فإذا كان لخوف طلب منعه كقوله أعوذ بالله من عذاب جهنم أو عذاب القبر و إن كان حاضرا طلب رفعه كقوله في الحديث الصحيح أعوذ بعزة الله و قدرته من شر ما أجد و أحاذر فتعوذ بالله من شر الموجود و شر المحاذر
و الداعي يطلب أحد شيئين إما حصول منفعة و إما دفع مضرة فالاستعاذة و الاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء و الطلب وقول القائل لا يستعاذ به ولا يستجار به ولا يستغاث به ألفاظ متقاربة
____________________
(2/547)
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى و يذكر عنده فإنه سبحانه يستجار به و يستغاث به هناك وقد يتمسك المتمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به ومنه قول عمرو بن سعيد لأبي شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم و لا فارا بخربة
وفي الحديث الصحيح يعوذ عائذ بهذا البيت
و منه قول القائل ** ستور بيتك ذيل الأمن منك وقد ** علقتها مستجيرا أيها الباري ** ** وما أظنك لما أن علقت بها ** خوفا من النار تدنيني من النار **
ويسمى ذلك المكان المستجارة وقد كان من السلف من يدخل بين الكعبة و أستارها فيستعيذ و يستجير بالله و يدعوه و يتضرع إليه هناك
و يجوز مدح الله و الثناء عليه بالنظم و كذلك دعاؤه كما قال الأسود ابن سريع للنبي صلى الله عليه وسلم لما نظم شعرا في مدح الله تعالى فقال إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد فلم ينكر عليه ذلك
____________________
(2/548)
لكن روي أنه قال ولم يستنشده وروي أنه استنشده كما روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع قال قلت يا رسول الله إني مدحت الله بمدحة و مدحتك بأخرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( هات و أبدأ بمدحة الله تعالى ) )
____________________
(2/549)
و لكن ثبت عنه أنه كان يستنشد الشريد بن السويد الثقفي شعر أمية ابن أبي الصلت وهو يقول هيه هيه وذلك مثل قوله ** مجدوا الله فهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسى كبيرا ** ** بالبناء الأعلى الذي سبق النا ** س و سوى فوق السماء سريرا ** ** شرحبا ما يناله بصر العين ** ترى دونه الملائك صورا **
وقوله ** رجل وثور تحت رجل يمينه ** و النسر للأخرى وليث مرصدا **
____________________
(2/550)
____________________
(2/551)
و غير ذلك
و منه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني ابن رواحة ) )
و ذلك كقوله الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم ** شهدت بأن وعد الله حق ** و أن النار مثوى الكافرينا ** ** و أن العرش فوق الماء طاف ** وفوق العرش رب العالمينا ** ** و تحمله ملائكة شداد ** ملائكة الإله مسومينا **
وقوله ** و فينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع ** ** يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع ** ** أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع **
ومن ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة رضي الله عنهم يتمثلون
____________________
(2/552)
** اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا ** ** فأنزلن سكينة علينا ** و ثبت الأقدام إن لا قينا ** ** إن الأولى قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا **
و هذا النظم فيه دعاء الله تعالى بقوله ** فأنزلن سكينة علينا ** و ثبت الأقدام إن لاقينا **
و مثل هذا البيت قوله اللهم ويقال فيه لا هم إن العيش كما في قول عبد المطلب ** لا هم إن المرء يمنع رحله ** و حلاله فامنع حلالك **
____________________
(2/553)
و منه قول النبي صلى الله عليه وسلم ** إن تغفر الله تغفر جما ** و إي عبد لك ما ألما **
____________________
(2/554)
و منه قول الصحابة رضي الله عنهم ** اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار و المهاجره **
و كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل به لكن روي أنه قال ( ( فأغفر للمهاجرين
____________________
(2/555)
و الأنصار ) )
وهذا دعاء في الشعر وقد أقر الصحابة على قولهم فدل على جوازه و إن كان هو صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر فذلك من خصائصه كما قال تعالى { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن ينظم الشعر ولكن هل تمثل به أو لم يتمثل بشعر فيه نزاع ليس هذا موضعه
وليس كل الشعر مذموما بل منه ما هو مباح ممدوح
____________________
(2/556)
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إن من الشعر لحكمة ) )
و قد قال تعالى { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } فقد استثنى الله تعالى ممن ذمه من الشعراء من ذكره فدل ذلك على أنه ليس كل الشعراء مذمومين
وقد ثبت في الصحيح أنه كان ينصب لحسان بن ثابت منبرا و يأمره بهجاء المشركين ويقول ( ( اللهم أيده بروح القدس ) ) وفي رواية ( ( إن روح القدس معك ما نافحت عن رسوله ) )
____________________
(2/557)
وقد سمع شعر خزاعة لما قدموا عليه حين عدت بنو بكر على خزاعة و أنشدوه القصيدة المعروفة التي فيها ** إن قريشا اخلفوك الموعدا ** و نقضوا ميثاقك المؤكدا **
إلى آخرها
____________________
(2/558)
و كذلك سمع قصيدة كعب بن زهير المشهورة التي أولها بانت سعاد
إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي تدل على أن من الشعر ما يجوز إنشاؤه و استماعه
و مما يبين حكمة الشريعة و عظم قدرها و أنها كما قيل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق أن الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك
____________________
(2/559)
فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت و يدعو أحدهم الميت فيقول اغفر لي و ارحمني و نحو ذلك و يسجد لقبره
و منهم من يستقبل القبر و يصلي إليه مستدبرا الكعبة ويقول القبر قبلة الخاصة و الكعبة قبلة العامة وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة و زهدا وهو شيخ متبوع و لعله أمثل أتباع شيخه يقوله في شيخه
و آخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق و الاجتهاد في العبادة و الزهد يأمر المريد أو ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل
و جمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع و الدعاء و حضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله تعالى التي أذن أن ترفع و يذكر فيها اسمه
و آخرون يحجون إلى القبور و طائفة صنفوا كتبا و سموها مناسك حج المشاهد كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب بالمفيد أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك و ذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبة على من له معرفة بالنقل
و آخرون يسافرون إلى قبور المشايخ و إن لم يسموا ذلك منسكا و حجا فالمعنى واحد ومن هؤلاء من يقول وحق النبي الذي تحج إليه المطايا فجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله عز وجل
____________________
(2/560)
وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام وهذا الضال استعان بهذا الكتاب
وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه فإن كان هذا مستحبا فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده ولا يذهب إلى مكة فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل وهذا لا يفعله عاقل
وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة على طريقة ابن سبعين قيل عنه إنه كان يقول البيوت المحجوجة ثلاثة مكة وبيت المقدس والبندر الذي للمشركين بالهند وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق
____________________
(2/561)
ودين النصارى حق وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له أريد أن أسلك على يديك فقال على دين اليهود والنصارى أو المسلمين فقال له واليهود والنصارى ليسوا كفارا قال لا تشدد عليهم لكن الإسلام أفضل
ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت ومنهم من يرجح الحج إلى البيت لكن قد يقول أحدهم إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا كان كحجة
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم يعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المغرب والمشرق
ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج ويقول أحد المريدين لآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع فشاور الشيخ فقال لو
____________________
(2/562)
بعت لكنت مغلوبا
ومنهم من يقول من طاف بقبر الشيخ سبعا كان كحجة
ومنهم من يقول زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة
ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال كل خطوة إلى قبره كحجة ويوم القيامة لا تبع بحجة وأنكر بعض الناس ذلك فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه وزبره على إنكاره ذلك
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء وليسوا من عمار مساجد الله الذين قال الله فيهم { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله وعمار مساجد المقابر يخشون غير الله ويرجون غير الله حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل الفواحش ويقول أحدهم
____________________
(2/563)
لصاحبه ويحك هذا هلال القبة فيخشون المدفون تحت الهلال ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج
وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون بإبراهيم عليه السلام قال تعالى { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله والشيخ الحي المتعلق به كالنبي فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه وكانوا في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذوه رسولا وقد
____________________
(2/564)
يجيء الحديث العهد بالإسلام أو التابع لهم لحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك فيدخل ذلك السادن فيقول قد قلت للشيخ والشيخ يقول للنبي والنبي يقول لله والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني ولا يروج عليه
ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى { إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } فإنهم يأكلون أموال الناس بغير حق و يصدون عن سبيل الله ويعوضون بأنفسهم و يمنعون غيرهم إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه فيمتنع بسبب ذلك عن الدين الحق الذي بعث الله به رسله و أنزل به كتبه
____________________
(2/565)
و الله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد فإنها خالصة له
قال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين }
وقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
وقال تعالى { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا }
و لم يذكر بيوت الشرك كبيوت الأصنام و المشاهد ولا ذكر بيوت النار لأن الصوامع و البيع لأهل الكتاب فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ و التبديل كما أثنى على اليهود و النصارى و الصابئين الذين كانوا قبل النسخ و التبديل يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يعملون صالحا بخلاف بيوت الأصنام وبيوت النار و بيوت الصابئة المشركين كالذي يسمونه
____________________
(2/566)
هيكل العلة الأولى هيكل العقل هيكل النفس و هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس هيكل عطارد هيكل الزهرة هيكل القمر فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها
فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيت الكواكب و بيت المقابر لم يمدح الله شيئا منها ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }
فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ( ( لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) )
____________________
(2/567)
وفي رواية و الصالحين
وفي الصحيحين عنه أنه لما ذكر له كنيسة بأرض الحبشة و ذكر حسنها و تصاويرها فقال ( ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا و صوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) ) فجمع بين التصاوير و المقابر
وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا طمسته
____________________
(2/568)
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أخرج ما فيها من التماثيل
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها
وقد تنازع الفقهاء في الصلاة في الكنيسة وقال البخاري قال ابن عباس لا بأس بالصلاة في الكنيسة وقيل يكره مطلقا وقيل
____________________
(2/569)
يرخص فيها و الصحيح أنه إن كان فيها تماثيل كانت بمنزلة المساجد المبنية على القبور و بمنزلة دار الأصنام فالمصلي فيها مشابه لمن يعبد غير الله و إن كانت نيته الصلاة لله كما أن المصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها لما شابه من يعبد غير الله نهي عن ذلك سدا للذريعة
و أيضا فالملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة فكيف يصلى فيه و لهذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة حتى أزيلت الصور بخلاف الكنيسة التي لا صور فيها
فإن قيل تكره لكونها محل الكفر
قيل الصلاة في محل الكفر بمنزلة فتح دار الكفر و جعلها دار إسلام و بمنزلة صلاة المسلمين في دار الحرب وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا أن يتخذوا مسجدهم موضع بيت اللات بعد هدم اللات وكانوا
____________________
(2/570)
يسمونها الدبة ولهذا فضل ذاكر الله في الغافلين
وقيل إنه كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس فالعابد بين أهل الكفر و الغفلة أعظم أجرا من غيره
وإن قيل الصلاة فيها غضب لهم
قيل له الكنائس ليست ملكا لأحد وليس لهم أن يمنعوا من يعبد الله لأنا صالحناهم على هذا بل قد شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي
____________________
(2/571)
الله عنه أن يوسعوا أبوابها للمارة
و من ذلك أن هؤلاء المشركين من الصابئة و نحوهم لما كانوا يعبدون الكواكب و الملائكة وربما سموها العقول و النفوس و جعلوها وسائط بين الله و بين خلقه و أهل التوحيد لا يعبدون إلا الله تعالى و يطيعون رسله الذين أمروا بعبادته وحده لا شريك له فقالت الصابئة المشركون للحنفاء نحن نتخذ الروحانيين وسائط و أنتم تتخذون البشر وسائط فديننا أفضل من دينكم فأخذ يعارضهم طائفة من النظار كالشهرستاني في كتابه المعروف بالملل و النحل وغيره و يذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيات العلوية و ناظروهم مناظرة يعرف تقصيرهم فيها لأنهم بنوها على أصل فاسد وهو مقايسة وسائط المشركين بوسائط الموحدين الحنفاء
وهذا جهل بدين الحنفاء فإن الحنفاء ليس بينهم وبين الله تعالى واسطة في العبادة و الدعاء و الاستعانة بل يناجون ربهم و يدعونه و يعبدونه بلا واسطة و إنما الرسل بلغتهمم عن الله تعالى ما أمر به و أحبه من العبادات و غيرها و ما نهى عنه فهم وسائط في التبليغ و الدلالة وهم
____________________
(2/572)
مع المؤمنين كدليل الحاج مع الحجاج و كإمام الصلاة مع المصلين
فالرسل صلوات الله عليهم و سلامه يعرفون الناس طريق الله تبارك و تعالى كما يعرف الدليل الحاج طريق مكة شرفها الله تعالى ثم الناس يعبدون الله تعالى كما أن الحجاج يقيمون مناسك الحج
و الرسل أيضا يقتدى بهم في الأفعال التي يتأسى بهم فيها كما يقتدي المأمور بالإمام في الصلاة و كل مصل يعبد ربه منه إليه بلا واسطة و أولئك الصابئة من الفلاسفة غاية سعادة النفوس عندهم أن تصل إلى العقل الفعال و أصحاب رسائل إخوان الصفا صنفوا رسائلهم على أصول هؤلاء ممزوجة بما أخذوه من دين الحنفاء و أرادوا بزعمهم أن يجمعوا بين الحنفية و الصابئة فضلوا و أضلوا
و أما الحنفاء فعندهم أنه ما من عبد إلا سيكلمه ربه ليس بينه و بينه حاجب ولا ترجمان و عندهم أن الملائكة عباد الله يفعلون ما أمرهم
____________________
(2/573)
الله به
و من أثبت أن دون الله تعالى روحا يكون مبدعا للعالم فهو أكفر عند الحنفاء من مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء لا يثبتون دونه شيئا أبدع العالم ولما قال من قال منهم إن الملائكة بنات الله تعالى لم يجعلوا الملائكة مبدعة للعالم و أما هؤلاء الفلاسفة فيقولون إن الصادر الأول عن العقل الأول و إن كل ما سواه صادر عنه
فالعقل الأول هو رب كل ما سوى الله تعالى عندهم و كذلك كل
____________________
(2/574)
عقل هو مبدع ما سواه عندهم حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو عندهم مبدع ما تحت الفلك
و معلوم أن المسلمين و اليهود و النصارى و مشركي العرب و غيرهم لا يجعلون أحدا دون الله أبدع كل ما تحت السماء وهؤلاء يجعلون الملائكة التي أخبرت بها الرسل هي العقول و النفوس التي زعموها
و منهم من يجعل العقل الأول هو القلم و يجعل النفس هي اللوح
و منهم من يحتج بالحديث الموضوع أول ما خلق الله العقل مع أنهم حرفوا لفظه فرووه أول بالضم و إنما لفظه أول
____________________
(2/575)
ما خلق العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر وفي لفظ لما خلق الله العقل قال له ذلك فالحديث حجة على نقيض مذهبهم فكيف هو موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث
وقد بسطت الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وهذا قد يوجد في كلام أبي حامد وكثير من متأخري المتصوفة و المتكلمين أدخلوه في دين الحنفاء من دين المشركين حتى صنف بعضهم تصنيفا في ذلك مثل مصنف الرازي السر المكتوم في السحر و مخاطبة النجوم و آخرون صنفوا في الحروف و طبائعها و الدعاء بأسماء ذكروها
____________________
(2/576)
في أوقات كما صنف
ودعاء المقبور من أعظم الوسائل إلى ذلك وقد قدم بعض الشيوخ المشرق و تكلم معي في هذا فبينت له فساد هذا فقال أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) ) فقلت هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث
و بسبب هذا و أمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا
____________________
(2/577)
جحر ضب لدخلتموه ) ) قالوا يا رسول الله اليهود و النصارى قال ( ( فمن ) )
وفي الحديث الآخر الصحيح ( ( لتسلكن أمتي مسالك الأمم قبلها شبرا بشبر و ذراعا بذراع ) ) قالوا يا رسول الله فارس و الروم قال ( ( ومن الناس إلا هؤلاء ) )
فاتخاذ القبور مساجد هو من فعل اليهود و النصارى
و أما الخروج عن الملة بالكلية إلى دعوى الكواكب و اتخاذ العلويات وسائط في العبادة كمقالات الفلاسفة فهذا ليس من دين اليهود و النصارى ولا فارس و الروم المتنصرة بل هو من فعل الروم الصابئة و المشركين كالفلاسفة الذين كانوا بمقدونية و غيرها وهؤلاء كانوا مشركين إلى أن دخل إليهم دين النصارى و آخر ملوكهم هو بطليموس صاحب المجسطي كان بعد المسيح عليه السلام بمدة قليلة
و أما أرسطو فإنه كان قبل المسيح بأكثر من ثلاث مئة سنة فإنه كان
____________________
(2/578)
في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي تؤرخ به النصارى اليوم وكان بين المسيح و بين نبينا صلى الله عليه وسلم ست مئة سنة شمسية وست مئة و عشرين قمرية وكان هذا الإسكندر قبل المسيح بنحو من أربع مئة سنة
و كانت الصابئة من النبط الذي بالعراق و الجزيرة كالبطائح و حران و غيرهما من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة إبراهيم الخليل بعث إليهم وفي مولده قولان قيل بالعراق وقيل بحران وهذا قول أهل الكتاب وكذلك هو في التوراة التي عندهم يقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة كالهياكل التي للعلة الأولى و العقل و النفس و الكواكب وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة وأمثاله
وقد ذكر عبد اللطيف بن يوسف أن الفارابي كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه و ابن سينا إنما حذق فيها بما وجده من كتب الفارابي
فهؤلاء و أتباعهم حقيقة قولهم هو قول الصابئة المشركين الذين هم
____________________
(2/579)
شر من مشركي العرب
وهؤلاء عند من لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب لا تؤخذ منهم الجزية إلا أن يدخلوا في دين أهل الكتاب
و الناس لهم في تفسير الصابئة و أحكامهم اضطراب كثير ليس هذا موضعه و سبب ذلك أنهم أنواع مختلفة فكل طائفة تصف النوع الذي عرفته
و الفلاسفة لا يجمعهم مذهب ولا يجتمعون على شيء بل هم أجناس يختلفون كثيرا
و لكن هذه الفلسفة التي يسلكها الفارابي و ابن سينا و ابن رشد و السهروردي المقتول ونحوه فلسفة المشائين وهي المنقولة عن أرسطو الذي يسمونه المعلم الأول فإن له كتبا متعددة في المنطق و أجزائه وفي الطبيعيات مثل كتاب سمع الكيان الذي يتكلم فيه على الأجسام كلاما كليا و كتاب السماء و العلم و كتاب الآثار العلوية وغير ذلك و أما كلامه في الإلهيات فقليل جدا وفيه خطأ كثير 2
و كانوا يسمون ذلك علم ما بعد الطبيعة أو علم ما قبل الطبيعة
____________________
(2/580)
و يسمونه الفلسفة الأولى و الحكمة العليا لكونهم يتكلمون فيه على الأمور الكلية العامة كالوجود و انقسامه إلى جوهر و عرض و علة و معلول وقديم وحادث وواجب و ممكن و أما نفس معرفتهم بالله و ملائكته و أنبيائه فبعيدة جدا وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع
و المقصود هنا أن ما دخل في هؤلاء من دين الحنفاء الذي بعث الله به رسله فهو أقل مما دخل في الإسلام من دين اليهود و النصارى و لهذا لم يكن على عهد الصحابة و التابعين من أدخل شيئا من دين هؤلاء بل كان يوجد من ينقل عن أهل الكتاب و علمائهم مثل كعب و وهب و مالك بن دينار و محمد بن إسحاق و مثل ما ينقله عبد الله بن عمرو عن الكتب التي أصابها يوم اليرموك و إنما استجاز لهذا لما رواه البخاري في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( بلغوا عني ولو آية و حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ) )
فلما رخص في الحديث عن بني إسرائيل استجاز ذلك عبد الله بن عمرو و عبد الله بن عباس و غيرهما لكن لا تأخذون من ذلك دينا لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
____________________
(2/581)
كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة ثم يفسرونها بالعربية فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بالحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا و ما أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون ) ) و إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لأنا قد أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم
وقد أخبر الله تعالى أنهم يكذبون و يحرفون فما حدثوا به إذا لم نعلم صدقهم فيه ولا كذبهم لم نكذبه لجواز أن يكون مما أنزل ولم نصدقه لجواز أن يكون مما كذبوه
ولما كانت تلك الأحاديث الإسرائيليات قد كثرت صار بعض الناس يدخل في بعض خصائصهم ولم يكن قد ظهر في المسلمين شيء من آثار اليونان و الهند إلى أن عربت بعض كتب هؤلاء و هؤلاء حدث في الناس من التشبه بأولئك ما كان أعظم من التشبه بأهل الكتاب حتى آل الأمر إلى دولة العبيديين وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة و المجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة و أما في الباطن فملاحدة شر من اليهود
____________________
(2/582)
و النصارى و إلا من لم يصل منهم إلى منتهى دعوتهم فإنه قد يبقى رافضيا داخلا في الإسلام ولهذا قال فيهم العلماء
ظاهر مذهبهم الرفض و باطنه الكفر المحض وهم من أشد الناس تعظيما للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين و أبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك
ولقد كنت لما رأيت آثارهم أبين للناس أصل ذلك و حقيقة دينهم و أنهم من أبرأ الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا و نسبا
وقد صنف العلماء فيهم وفي أصولهم كتبا نظرية و خبرية
و منهم الإسماعيلية من أصحاب دور الدعوة
و أما النصيرية فهم من الغلاة الذين يعتقدون إلهية علي و الغلاة مع أنهم أكفر من اليهود و النصارى فأولئك الإسماعيلية في الباطن أعظم كفرا و إلحادا منهم وهذا باب واسع ليس هذا موضعه و إنما المقصود التنبيه على أن سبب الخروج عن الشريعة في كثير من البدع الشركية
____________________
(2/583)
أفضى الأمر بأقوام إلى أن خرجوا إلى دين المشركين بل المشركين المعطلين و كثير من الناس لا يعرف هذا يحسب أن هذا هو دين الله لأجل لبس الحق بالباطل وهذا مما نهى الله عنه وذم به أهل الكتاب حيث قال { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون }
الوجه الرابع أن يقال الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم دون الأمة الوسط أهل التوحيد المتبعين لشريعة الرسول
و بيان ذلك بأمور منها أن النصارى يقولون أنهم يعظمون المسيح و كذلك الغالية في علي أو الأئمة أو الشيوخ أو غيرهم وهم في الحقيقة منقصون لهم فإن المسيح عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له و أخبرهم أنه عبد الله
فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص
____________________
(2/584)
من أجورهم و يكونون سعداء أولياء الله تبارك و تعالى من أهل الجنة
و إذا غلوا فيه و اتخذوه ربا انقطع ثواب العمل الصالح الذي كان يحصل بتوحيدهم وطاعتهم وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم وإن كان هو سليما من العذاب لكن فوتوه الأجر الذي كان يحصل له بتوحيدهم و طاعتهم
و أما أهل الاستقامة فهم إذا وحدوا الله تعالى و عبدوه كما شرعته لهم الرسل و أطاعوهم صاروا أولياء الله تعالى مستيقنين لثوابه و حصل للرسول بالذي دعاهم مثل أجورهم و كان في هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة
الأمر الثاني أن أهل التوحيد و السنة يدعون لهم دائما فينتفعون بذلك الدعاء و أهل الشرك و البدعة يكلفونهم حوائجهم و أين من يحصل بسعيه منفعة لهم إلى من يكلفهم و يؤذيهم بسؤاله و اعتبر هذا بحال الصديق الذي كان يعاون الرسول بماله و نفسه ولا يسأله شيئا أين منزلته من منزلة من يسأله و يكلفه ولا يعاونه
الأمر الثالث أن أهل التوحيد و السنة يصدقونهم فيما أخبروا و يطيعونهم فيما أمروا و يحفظون ما قالوا و يفهمونه و يعملون به و ينفون
____________________
(2/585)
عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين و يجاهدون من خالفهم ويفعلون ذلك تقربا إلى الله تعالى طلبا للجزاء منه لا منهم و أهل الجهل و الغلو لا يميزون بين ما أمروا به و نهوا عنه ولا بين ما صح عنهم و ما كذب عليهم ولا يفهمون حقيقة مرادهم ولا يتحرون طاعتهم و متابعتهم بل هم جهال بما أتوا به معظمون لأغراضهم إما لينالوا منهم منفعة أو ليدفعوا بهم عن أنفسهم مضرة
فالسدنة الذين عند القبور و نحوهم غرضهم يأكلون أموال الناس بهم و أتباعهم غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس و أخذ أموالهم لهم و الصادق المحض المتدين منهم غرضه أنه إذا سألهم و استغاث بهم في دفع شدة أو طلب حاجة قضوها له فأي الفريقين أشد تعظيما أولئك أو هؤلاء
الأمر الرابع إن أولئك الغلاة المشركين إذا حصل لأحدهم مطلوبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح أو يكون فيه قبر كافر أو منافق و تارة يعلم أنه كافر و منافق ويذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة و إلى مواضع يقال لهم إنها تقبل النذر فهذا يقع فيه عامتهم
____________________
(2/586)
و أما الأول فيقع فيه خاصتهم حتى إن بعض أصحابنا المباشرين لقضاء القضاة لما بلغه أني أنهى عن ذلك صار عنده من ذلك شبهة ووسواس لما يعتقده من الحق فيما أذكره ولما عنده من المعارضة لذلك قال لبعض أصحابنا سرا
أنا جربت إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة
فقال له ذلك الرجل فأنا أذهب معك إليه ليعرفه منه
فذهبا إليه فوجدا مكتوبا عليه عبد علي فعلموا أنه إما رافضي و إما إسماعيلي
وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون في العبيديين أنهم أولياء الله تعالى صالحون فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة و خيار من فيهم الرافضة جعلوا يتعجبون و يقولون
____________________
(2/587)
نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم
فقلت لهم هذا من أعظم الأدلة على كفرهم
و طلبت من طائفة من سياس الخيل فقلت أنتم بالشام و مصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بهم
فقالوا في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود و النصارى و إذا كنا في أرض الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد
____________________
(2/588)
الإسماعيلية كالعليقة و المنقية و نحوهما و أما في مصر فيذهب بها إلى دير هناك للنصارى ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف
وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت فقلت هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد و الشافعي و ابن القاسم وغير هؤلاء
فقالوا لا
فقلت لأولئك اسمعوا إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين و بينت لهم سبب ذلك قلت لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم و البهائم تسمع أصواتهم كما ثبت في الحديث الصحيح
____________________
(2/589)
فإذا سمعت ذلك فزعت فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحل بطونها فتروث فإن الفزع يقتضي الإسهال
فيعجبون من ذلك وهذا المعنى كثيرا ما كنت أذكره للناس ولم أعلم أحدا قاله ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء
و المقصود أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا ويكون هذا عنده و الرسول من جنس واحد لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا وكلا هذين عنده من جنس من
____________________
(2/590)
يستغيث به
وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب بل يقال إنه قبر كافر كالمشهد الذي بسفع جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة وقبر أبي الذي في دمشق انفق العلماء على أنه كذب ومنهم من قال هما قبران لنصرانيين
وكثير من المشاهد متنازع فيها وعندها شياطين تضل بسببها من تضل ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن انه المقبور ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته أو بغير صورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين وهذا كثير في زماننا وغيره مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل
____________________
(2/591)
التي بالبراني بديار مصر بإخميم وغيرها يرصدون التماثيل مدة لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلون صلاة المسلمين ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان بتلك الصورة فيراها تتحرك فيضع فيها سمعه وغيرها فيرى شيطانا قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه وقد يمكنه من فعل الفاحشة به حتى يقضي بعض حوائجه
ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البودي وهو المخنث إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا له من ينكحه وينصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء وقربوا له ميتة وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله تعالى ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله تعالى ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء ويرون الدف يطير في الهواء ويضرب من مد يده إلى الخبز ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون ويغني لهم الأغاني التي كانت تغني آباؤهم الكفار ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه قد نقل إلى البيت البودي وقد لا يغيب
____________________
(2/592)
ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار ويقضي بعض حوائجهم ومثل هذا كثير جدا للمشركين
فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام وكثير من المشاهد كذب وكثير منها مشكوك فيه وسبب ذلك أن معرفة المشاهد ليست من الدين الذي تكفل الله بحفظه للأمة لعدم حاجتهم إلى معرفة ذلك
والمقصود أن هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يسووا بين الأنبياء وغير والأنبياء بل بين الأنبياء والكفار ويطلبون من هذا ما يطلبون من هذا فأي الفريقين أشد تعظيما للأنبياء هؤلاء أو من يوجب تعظيمهم واتباع شريعتهم ويفرق بين الحق الذي جاؤوا به وبين غيره ولا ينزل أحدا منزلتهم ولا يشبه بهم من ليس منهم فصل
قال وهذا الرجل المبتدع يأتي بألفاظ هي عين التنقيص بسوء فهمه ويحتج لها جهلا أو عنادا بألفاظ التنزيه تمويها منه أو جهلا
فقول أبي يزيد استغاثة المخلوق بالمخلوق كإستغاثة الغريق بالغريق إن صح عنه تنزيه للباري على أن غير هذه العبارة خير منها وإن
____________________
(2/593)
كنا نعلم أن المراد بها هو المراد بقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يفرج الكربة إلا الله
الجواب من وجوه
أحدها أن يقال المبتدع من شرع دينا لم يأذن به الله لا من أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه ومن أعظم المبتدعين من جوز أن يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه بالله عز وجل بل من جوز أن يسأل الميت ويدعى على أي وجه كان بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم المراد بها التوسل به وجعل توسل الصحابة هو توسلهم بذاته والإقسام به على الله تعالى ولم يعلم أن المراد بها التوسل بشفاعته ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفرا والشرك إيمانا وكفر من هو أحق بالإيمان من طائفته ونفى الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه
الثاني أن يقال دعواه أن الألفاظ التي ذكرت هي عين
____________________
(2/594)
التنقيص قد بين أنه من أعظم الكذب وأن التنقيص والشرك لما ذكره ألزم وأن المدعي أن هذا تنقيص كاذب بإتفاق المسلمين فإنه قد علم بالاضرار من دين المسلمين ان مثل هذا الكلام لا يحكم على صاحبه بالتنقيص ولا بما هذا الكلام أحسن منه
الثالث أن قول المجيب ليس هو قوله وحده بل هو قول جميع أئمة الدين وعلماء المسلمين فليس في علماء المسلمين من يقول إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه ولا من يقول إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه بل قول القائل إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا تطلب إلا منه متفق عليه بين علماء المسلمين وما علمت إلى ساعتي هذه أحدا من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من علماء المسلمين الموافقة على هذا وإنما عرف نزاع بعضهم في السؤال به
وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه وإنما فعلوا نظيره والفقيه قد يفعل شيئا على
____________________
(2/595)
العادة و إذا قيل له هذا من الدين لم يمكنه أن يقول ذلك ولهذا قال بعض السلف لا ينظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك فصل
قال و أما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر لأنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابت له صلى الله عليه وسلم
أرأيت رجلين قال أحدهما لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى يشير إلى التوحيد وقال الآخر إن الرسول لا يضر ولا ينفع وقال الأول إن الله هو السميع العليم إشارة للحقائق التي حصرها الرب سبحانه في نفسه بهذا الكلام وقال الآخر إن الرسول لا يسمع ولا يعلم أكان يشك مسلم في أن الأول موحد و الثاني كافر منقص ولا ينفعه تأويله
و الجواب من وجوه
أحدها أن ما ذكرته افتراء فإن أحدا لم يخص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النفي لا خطابا ولا كتابا ولا نفى كل ما يسمى استغاثة فلا النفي عام
____________________
(2/596)
ولا المنفي عنه مخصوص أنت ادعيت هذا وهذا على المجيب وكلاهما كذب وجواب السؤال ينطق بخلاف هذين وقد بين فيه أن يطلب من مخلوق لا الرسول ولا غيره وحينئذ فهذا التفصيل أبين من النفي المطلق الذي قاله أبو يزيد و غيره من المسلمين فإذا كان ذلك سائغا فهذا أولى
و الثاني أن يقدم أن المخصص بالذكر إذا كان التحقيق العموم كان ذلك تعظيما للمخصوص بالذكر فإذا قيل لا يعبد إلا الله تعالى لا الأنبياء ولا غيرهم ونحو ذلك كان هذا تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم وتبيينا أنه لا أحد أرفع منه من الخلق وخصائص الرب عز وجل منتفية عنه فعن غيره بطريق الأولى وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ) ) وفي رواية ( ( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ) )
____________________
(2/597)
فبين أن خلته للمخلوقين منتفية عن كل أحد حتى عن الصديق وهو أحقهم بها لو كانت ممكنة ولو خص بالذكر لفظا في سياق يفهم منه العموم كان حسنا كقوله تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }
و كذلك إذا كان سبب التخصيص حاجة المستمع إما لسؤاله عن ذلك وإما لحاجته إليه كقوله تعالى { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله } وقوله { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } فإن الحاجة داعية إلى ذكر المسيح لوقوع النزاع فيه فلو تنازع اثنان هل يخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحلف به دون سائر الأنبياء فقال أحدهما لا يحلف به لم يكن هذا تنقيصا بل هذا قول الجمهور وهو الصواب و كذلك إذا تنازع اثنان هل يخص بالاستغاثة به أو بالإقسام على الله به بعد موته فقال أحدهما لا يستغاث ولا يقسم به فإن هذا ليس من خصائصه لكان من هذا الباب
الثالث قوله عن أبي يزيد غير هذه العبارة خير منها قول باطل فإن ما قاله أبو يزيد رحمة الله تعالى عليه تلقاه الناس بالقبول وقال بعده أبو عبد الله القرشي قال استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة
____________________
(2/598)
المسجون بالمسجون وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ( ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فإستعن بالله تعالى ) )
وقوله لطائفة من أصحابه ( ( لا تسألوا الناس شيئا ) )
ومنه قوله تعالى { وإلى ربك فارغب }
و منه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفا ( ( هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون ) )
فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق و كأنه يقول هذا فيه جعل المخلوقين كلهم مثل الغريق ويدخل في ذلك الأنبياء وغيرهم وفي الناس من يمكنه إغاثة غيره فيقال أبو يزيد أراد والله أعلم الاستغاثة المطلقة التي لا تصح إلا بالله وهو أن يطلب من المخلوق مالا يقدر عليه إلا الله تعالى كإزالة المرض والانتصار على العدو وهداية القلب وهذا القدر يمكن المسؤول أن يتسبب فيه بأن يدعو الله تعالى له و يجيب الله دعاءه كما أنه قد يمكن بعض الغرقاء أن يمسك غيره و يخلصه إذا كان فيه قوة على ذلك وإن كان أراد كل ما يسمى استغاثة بحيث لا يطلب من المخلوق شيئا فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ( ( لا يسترقون ) )
____________________
(2/599)
وقوله ( ( إذا سألت فاسأل الله ) )
و حينئذ فالمسؤول كائنا من كان لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته فهو أحوج إلى معونة من الغريق إلى من يخلصه فإن الغريق غايته أن يموت وهذا إن لم يغثه الله تعالى لم يفعل شيئا قط بل هلك فافتقار الخلق إلى الخالق أعظم من افتقار الغريق إلى المنقذ و المسجون إلى من يرسله و لهذا قيل استغاثة المخلوق بالمخلوق أبلغ من هذا كالاستغاثة بالمعدوم
الرابع قوله وإن كنا نعلم أن المراد بها المراد بقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يفرج الكربة إلا الله تعالى فيقال هذا يقتضي تصويب هذا النافي وعلى قولك لا يكون هذا النفي صوابا لأنك قلت إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالله و حينئذ فهذا الإثبات يناقض ذلك السلب العام
وقد تقدم أن دعواه أن المثبت هو عين المنفي في كلام الله و رسوله خطأ بل ما نفاه الرب سبحانه عن غيره لم يثبته له و المنفي عن المخلوق ما اختص الرب به و كذلك قول أبي يزيد و غيره
و أما على ما ادعاه فالاستغاثة بالمخلوق عامة في كل شيء فلا يكون شيء من الأشياء يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيه فلا تنفى الاستغاثة عن غير الله تعالى إذا كانت ثابتة للمخلوق في كل شيء إلا
____________________
(2/600)
أن يقال المنفي هو الاستغاثة الكاملة أو التي يستقل بها المغيث كما يقال لا موجود إلا الله تعالى فيقال وهذه العبارة لا موجود إلا الله تعالى ليست عبارة منقولة عن السلف و الأئمة و النافي إذا أراد بالنفي الكمال مع القرينة جاز ذلك كما يقال لا عالم إلا فلان ولا حاكم إلا فلان و منه قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا }
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الله تعالى و رسوله لم ينفيا اسما من مسمى شرعي إلا لانتفاء بعض ما يجب فيه لا ينتفي لانتفاء الكمال المستحب بل ولا بنفي الكمال الواجب
كقوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } و نظائرها بالقرآن
و كقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لا صلاة إلا بأم القرآن ) )
____________________
(2/601)
و أما قوله ( ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) )
____________________
(2/602)
____________________
(2/603)
____________________
(2/604)
____________________
(2/605)
وقوله ( ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) )
____________________
(2/606)
وقوله ( ( من سمع النداء ولم يجب من غير عذر فلا صلاة له ) )
____________________
(2/607)
____________________
(2/608)
فهذا الأحاديث قد اختلف في صحتها واختلف في نفي الكمال بها في مذهب أحمد وغيره فإن قيل إنها صحيحة وجب العمل بموجبها
و كذلك قوله ( ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ) ) قد اختلف
____________________
(2/609)
____________________
(2/610)
____________________
(2/611)
____________________
(2/612)
في صحته فليس في هذا الباب حديث صحيح اتفق العلماء على أن المراد به نفي الكمال المستحب
وقول القائل لا يستغاث إلا بالله ولا يسأل إلا بالله ونحو ذلك فليس هو نفيا لمسمى شرعي بل لغوي وهو نفي معناه النهي كقوله لا يستعان إلا بالله ولا يسأل إلا الله تعالى ونحو ذلك و هذا النهي عام في كل شيء لكن النهي في أكثره نهي تحريم و بعضه نهي تنزيه
للإنسان أن لا يسأل أحدا إلا الله تعالى كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه بذلك وهو نهي تحريم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى و غير ذلك وهو أيضا نهي تحريم إذا طلب من المخلوق تمام مطلوبه فإن مطلوبه لا يقدر عليه إلا الله و إنما يقدر المخلوق على بعض أسباب مخلوقه وبهذا وجب على العبد أن لا يتوكل إلى على الله تعالى
____________________
(2/613)
فإنه لا يقدر غير الله على حصول مطلوبه إذ مطلوبه وإن كان له أسباب فالمخلوق المعين إنما يقدر على بعض أسبابة ثم ذلك المخلوق لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته
الخامس قوله و أما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر إلى آخره
فيقال له أولا ليس هذا قوله فإنه لا ينفي عنه أن يستغاث به فيما يليق بمنصبه بل قد صرح بجواز ذلك أيضا فإنه لا يخص الرسول بالذكر ولا بل إنما قيل هذا على سبيل العموم وهو أنه لا يستغاث بميت أصلا لا الرسول ولا غيره ولا يستغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق
ويقال ثانية دعواك أن هذا التخصيص كفر أحق بأن يكون كفرا بل يقال لك لا نسلم أنه باطل فضلا عن أن يكون كفرا وهذا عند التخصيص إذا قال لا يستغاث به بعد موته ونحو ذلك بمنزلة أن يقال لا يسأل ولا يدعى بعد موته أو لا يصلى على الرسول عند الذبح أولا تجب الصلاة على الرسول في الصلاة ونحو ذلك من العبارات النافية عن الرسول
____________________
(2/614)
وقد يكون اللفظ مطلقا لتقييده بسؤال السائل مثل أن يقال هل يصلى عليه عند الذبح فيقال لا يصلى عليه أو يقال هل يستغاث به بعد موته أو في مغيبه فيقال لا يستغاث به لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئا ولا يستشفع به بمعنى أنه ليس أهلا لذلك لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس إلا حيث يجوز التعريف خاصة وليس هذا موضع تعريض
ولو قدر أن مطلقا أطلقها وكنى بها معنى صحيحا و المستمع فهم منها الكفر لم يكفر المتكلم بذلك لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد
وكلام الله و رسوله و كلام العلماء مملوء بما يفهم الناس منه معنى فاسدا فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يخاطب جنس الناس كالمصنف لكتاب أو الخطب على المنبر ونحو هؤلاء فإن هؤلاء لا يكلفون أن يأتوا بعبارة لا يفهم منها مستمع ما معنى ناقصا فإن ذلك لا يكون إلا إذا علم مقدار فهم كل من يسمع كلامه ويقرأ كتابه وهذا ليس في طاقة بشر
____________________
(2/615)
و الله تعالى ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم فما يمكن بيان الرسول إلا على طريقة اللغة المعروفة وإن وقع خطأ في فهم بعض الناس والله تعالى أنزل كتابه بلسان العرب وهو لابد أن ينزله بلسان من الألسنة و أكمل الألسنة لسان العرب و أكمل البلاغة بلاغة القرآن باتفاق أهل العلم بذلك
وقد غلط في كثير من فهم القرآن من لا يحصيه إلا الله تعالى حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
فهم طائفة من قوله تعالى { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } أن المراد به الخيوط التي هي من جنس الحبال
____________________
(2/616)
وفهم بعضهم من قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } أن المراد دخولها و التعذيب فيها
و فهم بعضهم من قوله { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } أنه قد ناقش العبد الحساب و ينجو
____________________
(2/617)
و مثل ذلك كثير
السادس قوله إنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال فيقال له نفي الاستغاثة به في شيء مخصوص ووقت مخصوص لا يفهم أحد منه نفي التوسل به ولا نفي كونه سببا و إنما يفهم منه نفي الطلب منه لذلك الشيء أو في ذلك الحال وما ذكرته فيما تقدم من أن المتوسل به مستغيث به قول لم يقله أحد قبلك لا من العرب ولا من العجم وليس لأحد أن يفسر اللفظ بمعنى لا يعرفه أحد
السابع إن قوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى قول باطل فإن قول القائل لا يستغاث به نفي لكون هذا
____________________
(2/618)
مشروعا ولا سيما إذا كان في سياق الإفتاء و بيان الأحكام الشرعية و الصيغة خبر فإنه لم يرد نفي وقوع ذلك فإنه إنما أراد النهي عن ذلك وكون الفعل منهيا عنه ليس فيه ما ينافي إمكان الشرع فضلا عن أنه يقتضي نفي صلاحية
فإذا قيل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسجد له لم يقتض أن ذلك غير ممكن أن يشرعه الله تعالى فقد أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام وقد سجد ليوسف أبواه و إخوته و محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم ويوسف فكيف يفهم من هذا اللفظ أنه لا يصلح لما يصلح له آدم و يوسف عليهما السلام
و كذلك إذا قيل النبي لا يورث لم يكن هذا نفيا لإمكان أن يبيح الله تعالى أن يورث أو نفيا لاستحقاق شيئا يمكن أن يورث عنه
____________________
(2/619)
و كذلك إذا قيل كان الصحابة قد نهوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء لم يكن في هذا نفي لما يسأل عنه ولا نفي لإمكان أن يشرعه الله تعالى ورسوله كما قال تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } لا يقتضي نقصا بالمسؤول
وقوله { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل }
وقوله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة }
فنهي الأمم أن تسأل الأنبياء هذه المسائل لا يقال إنه نفي لصلاحية الرسل أن يكونوا وسيلة في حصول المسؤول وذلك نفي لصفة الكمال إذ ليس فيه إلا النفي عن السؤال وليس فيه نفي لصلاحية المسؤول أن يسأل ولا نفي قدرته على حصول المسؤول ولا شيء من هذا بل قد يكون النهي عن السؤال لمصلحة المنهي ولما في سؤاله من المفسدة
وقوله لا يستغاث به هو مثل قوله لا يسأل وهو نهي عن سؤاله وعن الاستغاثة لما في ذلك من مصلحة المنهي ومن مصلحة
____________________
(2/620)
الرسول ومن توحيد الرب عز وجل
وأيضا فقول القائل لا يصلح أن يستغاث به أو لا يصلح أن يكون وسيلة إلى الله تعالى في حصول الإغاثة قد يريد لا يصلح شرعا بمعنى أن هذا لم يشرع وقد يريد لا يصلح أي أن هذا غير ممكن في حقه فلو قدر أن نفي الاستغاثة نفي الصلاحية فالصلاحية لفظ مجمل
وبالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي ومع كونه لفظيا فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه ففيه جهل وظلم جهل بدلالة اللفظ في استعماله واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط وينكر على من استعمله في معناه ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي ارتكبه ويحمل كلامهم على المعنى الباطل لظنه أن اللفظ يحتمل مع أنهم قد صرحوا بنقيض ذلك المعنى بعبارة صريحة فبدع كلامهم وتمسك بمتشابهه الذي هو متشابه في ظنه مبتغيا للفتنة بذلك وليس مقصده معرفة مراد المتكلم وتأويله بل غرضه ما يقوله الناس عنه من إرادة العلو في الأرض والفساد بالظلم يبين هذا
____________________
(2/621)
الجواب الثامن وهو أنه قد ذكر المجيب في أول جوابه فقال قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع وأنه سيد ولد آدم وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به فيطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم فيشفع لهم وفيه أيضا تقرير ما كان أصحابه يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به وفي الجواب والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم
فإذا كانت هذه الألفاظ الصريحة فيه فلو قدر أن فيه إطلاق نفي الاستغاثة هل كان يقال إن فيه ما يقتضي نفي صلاحيته أن يكون وسيلة إلى الله تعالى في حصول الاستغاثة وقد بين فيه تقرير ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به وقرر فيه أن الناس يستشفعون به ويتوسلون بشفاعته في الدنيا والآخرة وأنه يستغاث به بمعنى أنه يطلب منه كما هو اللائق بمنصبه فإذا كان قد بين ثبوت هذه الأمور هل يمكن أن ينفي معها صلاحيته لبعضها
ومعلوم أن حصول أبلغ من الصلاحية له فإذا كانت هذه الأمور قد أثبتت فكيف ينفي معها الصلاحية لذلك والألفاظ بإثباتها صريحة
____________________
(2/622)
واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية غايته أن يكون محتملا لذلك ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله وصريحه يقدم على كنايته ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى أو غير نقيضه لم يحمل على نقيضه جزما حتى يترتب عليه الكفر إلا من فرط الجهل والظلم
التاسع أنه لو فرض أن معنى اللفظ ما ذكرته فإذا كان اللفظ المطلق لا يعرف معناه إلا من أداه بنفسه لم يكن كافرا بإجماع المسلمين وإن اعتقد أن ما نفاه هو مدلول اللفظ وما نفاه منتف عنه إجماعا أو في قول سائغ لم يكن هذا كافرا عند أحد المسلمين
العاشر قوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة كلام مجمل فيقال لك ما تعني به أتريد به أن النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح وغيرهما لا يكون بعد موته وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه أو أنه لا يكون حيا وميتا وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه
وقوله لا يكون وسيلة تريد به أن لا يتوسل به أي بذاته أو بدعائه
____________________
(2/623)
وشفاعته أو غير ذلك فإن أردت أن الميت نبيا كان أو غير نبي لا يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة بمعنى أن يطلب منه لا يكون وسيلة في طلب الغوث منه قيل لك هذا صحيح ولم قلت إن الأمر بالعكس ومن أين لك في الشرع أن يطلب من الميت وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة منه
بل وكذلك إن أردت أن الاستغاثة بالحي والميت لا تكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الغوث منه ومن أين لك أن الطلب من المخلوق يكون طالبا من الله تعالى
ومن الذي قال إن السائل بمخلوق والداعي له والمستغيث به نبيا كان المدعو أو غير نبي يكون المخلوق المستغاث به وسيلة إلى الله تعالى في ما طلب منه
وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال
بل من طلب من الرسول أو غيره فإنما يطلب منه مقدوره فيطلب منه الدعاء والشفاعة ويكون دعاؤه وشفاعته وسيلة في حصول المطلوب
____________________
(2/624)
لأن ذلك يكون طلبا من الله تعالى وأنت قد جعلت كلما يطلب من غير الله وسيلة من وسائل الله تعالى فما هذه الوسائل التي يكون المتوسل بها طالبا من الله تعالى فإن الطلب من الله تعالى معروف معلوم
فيقال دعا الله وسأله واستعانه واستغاث به وطلب منه ورغب إليه واستجار به واستعاذ به ونحو ذلك وليس هذا مخلوق يكون الاستغاثة به وسيلة في هذا الطلب وكأن هذا يجعل نفس الطلب من الصالح طلبا من الله تعالى ويقول إن الصالح لمنزلة عند الله تعالى من طلب منه شيئا فإن الله يعطيه ذلك كما إذا طلب من الله تعالى وهذا حال كثير من الجاهلين الضالين يستغيث أحدهم بشيخه في كل ما يهمه فإذا خاف أحدا وطلب حاجة استغاث بالشيخ أو الغائب أو الميت فيقول يا شيخ فلان أنا في حسبك يا سيدي فلان ونحو ذلك من العبارات
ومنهم من يقول هذا وقتك يا شيخ فلان أو يقول إن لم تحضر يا شيخ فلان وإلا فعل بنا وصنع وقد يقول إن كنت رجلا صالحا صاحب حال فأرني حالك ويقول إن كان لك جاه عند الله تعالى فهذا
____________________
(2/625)
وقت جاهك وقد يستغيث أحدهم بعدة مشايخ فيقول يا سيدي فلان وفلان وفلان
ثم من هؤلاء من يتصور له صورة إنسان يظنها الشيخ أو ملكا تصور على صورته وساره وكالمه ونحو ذلك ومنهم من يتصور له ذلك في صورة طائر ومنهم من يتصور له في صورة حيوان آخر وتكون تلك الشياطين تتصور بتلك الصور لأولئك المشركين الذين دعوا من دون الله آلهة أخرى وطلبوا منهم ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى كما كان المشركون يطلبون من الأوثان ما يطلب من الله تعالى وكما يطلب عباد الكواكب منها ما لا يطلب إلا من الله تعالى وكذلك عباد الأنبياء والملائكة قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
وهؤلاء لا يتصور أن يقضي لهم جميع مطالبهم ولا أكثرها كما
____________________
(2/626)
أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون فيه كله ولا في أكثره بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن كثير من الضالين الجاهلين يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين في كل ما يستغاث الله فيه ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها ولا أكثرها بل غاية ما يطلبون منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار ولا يحصل بل قد يحصل بعض المطالب كما يحصل لعباد الأصنام والكواكب وغيرهم من المشركين ويكون ما يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه من الأخبار فإنه يصدق في واحدة ويكذب في شيء كثير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لو أتوا بالأمر على وجهه لكان ولكن يخلطون بالكلمة الواحدة مئة عذبة ) )
____________________
(2/627)
فهذا القول الذي يقوله هذا هو مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين لكن هذا ليس يقوله مسلم ولا عاقل يتصور ما يقول بل هو من جنس قول النصارى دعاء المسيح دعاء الله لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد وأما بدون هذا فهو كلام غير معقول فإن الله تعالى أمر أن يدعى هو ويسأل هو ولم يجعل دعاء أحد من المخلوقين دعاء له بل قد نهى الله تعالى عن دعائه ولو كان هذا حقا لكان من دعا الملائكة والأنبياء دعاء لله فلا يكون مشركا والله تعالى قد جعلهم مشركين وقد قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }
فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله تعالى كالوكيل مع
____________________
(2/628)
موكله فإذا طلب من ا لوكيل الدعاء كانت المطالبة للموكل في المعنى لكن هذا ليس من أقوال الموحدين بل هو من أعظم شرك الملحدين والرسول صلى الله عليه وسلم لم يضمن للخلق أن يرزقهم ويحاسبهم ولا يجيب دعاءهم بل هذا كله أخبر أنه لله وحده
قال تعالى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب }
وقال { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
وقال { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون }
وقال تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }
فبين تعالى ان التحسب بالله وحده والرغبة إلى الله تعالى وحده
____________________
(2/629)
وأما الإيتاء فلله والرسول لأن الحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول كما قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فالله قد جعل الرسول مبلغا لكلامه الذي هو أمره ونهيه ووعده ووعيده
وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والزرق وقضاء الحاجات وكشف الكربات وهذا ليس من دين المسلمين بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده لشبهة الاتحاد والحلول ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل مع أنهم في غاية الجهل في ذلك فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم ولو كان الحلول ممكنا لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك بل موسى أحق بذلك ولهذا خاطبت من خاطبت من علماء النصارى وكنت أتنزل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلم يجدوا فرقا بل أبين لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا أن المخلوق أفضل من غيره
وإن أراد بقوله يقتضي سلب صلاحية الرسول لأنه يكون وسيلة إلى الله تعالى في طلب الإغاثة أنه لا يتوسل بذاته فلا يقسم به على الله
____________________
(2/630)
تعالى ولا يقال أسألك برسولك أو بجاه رسولك
فيقال أولا نفي الاستغاثة بهم لا يفهم أحد منها نفي السؤال به
ويقال ثانيا وهبوا أنه أراد هذا فما الدليل على جواز السؤال لله تعالى بذات المخلوقين أو مطلقا بعد موتهم ومن قال هذا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته ولهذا توسلوا بعده بالعباس ولو كان التوسل بذاته ممكنا بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس والأعمى إ نما توجه بدعائه وشفاعته وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم في الاستغاثة وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله تعالى فهم يتوسلون بشفاعته أما مجرد الذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف بل المنقول عنهم يناقض ذلك وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز وإن نقل عن بعضهم جوازه فقد قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
____________________
(2/631)
ويقال ثالثا وهب أن قائل ذلك أخطأ في هذا النفي لكن ليس كل مخطئ يكفر لا سيما إذا قاله متأولا باجتهاد أو تقليد
و إن أراد بقوله لا يكون وسيلة أي لا يكون الإيمان به و محبته و طاعته و موالاته و اتباع سنته و المجاهدة على دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله تعالى فهذا لم ينفه أحد و نفي الاستغاثة به لا ينفي هذه الوسائل وهذه وسائل في حصول الثواب و القرب من الله تعالى و سعادة الدنيا و الآخرة لا في مجرد الاستغاثة و محمد صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا و الآخرة بهذا الاعتبار ومن نفى كونه وسيلة إلى الله تعالى بهذا الاعتبار فهو الكافر حقا فإنه نفى رسالته التي هي أصل الإيمان
الحادي عشر قوله و هذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له صلى الله عليه وسلم فيقال له لا نسلم أن هذا نفي لشيء من صفات الكمال بل ولا نفي لشيء موجود بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر
ويقال له ثانيا هذا الوصف عندك ثابت لآحاد الناس بل قولك يقتضي أنه ثابت لكل مخلوق وما ثبت لآحاد الناس لم يكن من خصائص الرسل التي تعد من كمالاتهم فلا يقول عاقل إن ما شارك فيه عامة الناس يكون من كمالات الرسالة التي يكون نفيها قدحا في رسالته
____________________
(2/632)
ويقال ثالثا ولو قدر أنه وصف كمال فليس كل من نفى وصفا من أوصاف الكمال يكون كافرا إذا كان متأولا في ذلك دع من نفى وصفا من صفات كمال الرسول على سبيل التأويل وقد قال طوائف من السلف و الخلف أنه يقعده معه على العرش و أنكر ذلك آخرون
وقال قوم إنه كان يجوع و يربط الحجر على بطنه مع قدرته على حصول ما يأكل و نفى ذلك آخرون
وقال قوم إنه كتب بيده عام الحديبية خرقا للعادة و نفى ذلك آخرون
وقال ابن مسعود و الجمهور إنه خاطب الجن و رآهم و نفى ذلك ابن عباس و آخرون
وقال ابن عباس و طائفة إنه رأى ربه و نفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم بل نفس المعراج قال الجمهور إنه كان ببدنه و آخرون من السلف و الخلف قالوا إنه كان بروحه
وقال طائفة من العلماء إنه كان يملك الفيء و نفى ذلك
____________________
(2/633)
آخرون
وقال أكثر المنتسبين إلى السنة إنه و الأنبياء أفضل من الملائكة وآخرون قالوا الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء
وقال جمهور المسلمين إنه أفضل الأنبياء وتوقف في ذلك بعض الحنفية و غيرهم
و ادعى بعض الناس أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل به جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم ورد ذلك جمهور المسلمين و علماؤهم
وقال قوم من هذا النمط إن جميع الأنبياء تلقوا العلم بالله منه و أنه كان موجودا قبلهم ورد ذلك جمهور المسلمين و علماؤهم
وقال بعضهم إنه كان لا يسهو في الصلاة و إنما كان يتعمد ذلك ورد ذلك جمهور المسلمين و علماؤهم
وقال بعض الغلاة إنه كان يعلم علم الله ويقدر قدرته و كفر المسلمون من قال ذلك فضلا عن تكفير الثاني
____________________
(2/634)
و تنازع المسلمون في جواز الصغائر على الأنبياء و جمهورهم يجوزون ذلك
وهذا باب واسع فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات الكمال ولا يقول المثبت للنافي إنك كفرت فإن الكمال الثابت ليس محدودا يعلمه الناس كلهم وما من كمال إلا وفوقه كمال آخر و الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تعالى وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( كمل من الرجال ) ) إلى آخر الحديث فإن الكمال المطلق محال لغير ذي الجلال و هؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض فإذا نفي عن بعضهم نوع من الكمال لم يلزم أن ينفى عنه الكمال ولو كان كذلك لكان من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس ابن متى تنقيصا بيونس فيكون كافرا لأنه سلبه هذا الكمال
____________________
(2/635)
و أما قوله أرأيت رجلين قال أحدهما لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى يشير إلى التوحيد وقال الآخر إن الرسول لا يضر ولا ينفع وقال الأول إن الله تعالى هو السميع العليم إشارة إلى الحقائق التي حصرها الرب سبحانه وتعالى في نفسه بهذا الكمال وقال الآخر إن الرسول لا يسمع ولا يعلم أكان يشك مسلم في أن الأول موحد و الثاني كافر متنقص ولا ينفعه تأويله فإن سوء العبارة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وإن صح المقصود كما دل عليه كلام الإمام و غيره ألا ترى إلزام الله عز وجل للصحابة بتحسين الخطاب معه و إيراده بكيفية الأدب إلى آخره
فيقال أما المثال الأول فهو و إن كان أقرب إلى المطابقة فجوابه من وجوه
أحدها أنه إذا كان الكلام في سياق العموم بيان أنه أفضل الخلق مثل أن يقول لا يضر ولا ينفع إلا الله تعالى لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من دونه أو يقال إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع فكيف من دونه ونحو ذلك فهذا مثل قوله لا يضر ولا ينفع إلا الله تعالى
و أما إذا كان المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضر ولا ينفع و غيره يضر
____________________
(2/636)
وينفع فهذا هو التنقيص وهو نظير أن يقال الرسول لا يستغاث به بل يستغاث بغيره فهذا تنقيص بلا ريب فإنه يتضمن تنقيصه عن من الرسول أفضل منه وهذا تنقيص عن درجته بلا ريب
ويقال ثانيا لو قال لا يضر ولا ينفع من الذي قال إنه يكفر بذلك إذا عنى بذلك معنى قوله لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا وقد أمره الله تعالى أن يقول ذلك فهو أحرى أن لا يملك لغيره
وقد قال { إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } فأخبر أنه لا يملك من الله تعالى لا ضرهم ولا رشدهم
وقال الله تعالى له { ليس لك من الأمر شيء }
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال ( ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ) )
____________________
(2/637)
فهذا تخصيص له ينفي ذلك وهو من أصدق الرسل صلوات الله و سلامه عليهم ومن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما قاله فهو مؤمن ليس بكافر فإذا قال قائل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن بنته ولا عمه و لا عمته من الله تعالى شيئا فكيف من دونهم كان هذا من أحسن الكلام و أصدقه
ويقال ثالثا قول القائل عن مخلوق إنه لا يضر ولا ينفع تارة مريد به نفي الاستقلال بذلك على سبيل توحيد الربوبية بمعنى أن ما يجري على يديه من الضر و النفع فالله هو خالقه وهو الذي يجعله فاعلا بمشيئته أو يريد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بمشيئة الله تعالى و قدرته أو إرادته كما قال تعالى { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } فهذا صحيح فليس في المخلوقات بهذا الاعتبار شيء ينفع و يضر إذ ليس في المخلوقات شيء ما يستقل بإحداث ضرر غيره و نفعه ولا يفعل شيء إلا بإذن الله كما ليس فيها من يعطي و يمنع بهذا الاعتبار ولا ينبغي بهذا الاعتبار كما من أسمائه تعالى المعطي المانع الضار النافع
و كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة وفي غير هذا الموطن ( ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك
____________________
(2/638)
الجد ) )
و كان يقول في رقيته ( ( أذهب البأس رب الناس و اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ) )
وفي رواية ( ( لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما ) )
وتارة يريد به أن الضر و النفع المعتاد مثل الصحة و المرض والغنى و الفقر و الأمن و الخوف و اليسر و العسر لا يفعله رسول ولا غيره لا في حياته ولا بعد موته فهذا صحيح بخلاف ما ظنه المشركون الغلاة من النصارى و أشباههم الذين يظنون أن الأنبياء و الصالحين بعد موتهم أو في حياتهم ينزلون المطر و يدفعون العدو و ينبتون النبات و يشفون المرضى ونحو ذلك من الحوادث
و تارة يرى أنه ليس له دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة و أن طاعته
____________________
(2/639)
لا تنفع و معصيته لا تضر و نحو ذلك فهذا كفر صريح من أراده حكم بردته و كفره
لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن علم إيمانه لم يحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المنع الصحيح
و أما المثال الثاني فلا يشبه ما نحن فيه فإن قوله تعالى { وهو السميع العليم } إثبات لهذه الصفة و من الناس من يقول ليس في الآية حصر و من قال فيها حصر قال المحصور كمال هذه الصفة و ليس ذلك إلا لله فإذا قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمع ولا يعلم لم يفهم من هذا اللفظ نفي ما يختص به الرب سبحانه و تعالى ولا عموم النفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم و غيره و معلوم أن الملائكة و الإنس و الجن و البهائم تسمع و تعلم فإن الله تعالى قال { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } الآية و ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلب المعلم
ومن أطلق على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يسمع ولا يعلم فظاهر هذا اللفظ نفي ذلك عنه وهو كذب ظاهر
____________________
(2/640)
ثم قد يكون في سياق نفي علمه بالدين و سمعه لما أوحي إليه وهو كفر صريح
وقد يكون في سياق أنه لا يسمع ولا يعلم إلا ما أسمعه الله إياه و أعلمه إياه و أنه من تلقاء نفسه ليس له علم بشيء بل الله هو الذي أسمعه و أعلمه كما قال الله تعالى { وعلمك ما لم تكن تعلم } وكما قال تعالى { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } و كما قال تعالى { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } و كما قال تعالى { ووجدك ضالا فهدى } فهذا المعنى ليس بكفر بل هو صحيح
وقد يكون في سياق أن الله سبحانه هو المختص بكمال السمع و العلم و أن غيره لا يبلغ مبلغه في ذلك فهذا أيضا صحيح
فأما إطلاق أنه لا يسمع ولا يعلم فهو كذب و كفر بخلاف إطلاق أنه لا ينفع ولا يضر ولهذا يقول المسلم لا ينفعني ولا يضرني إلا الله
____________________
(2/641)
تعالى ولا يقول لا يسمع ولا يعلم إلا الله تعالى بل يقول لا يعلم ما في نفسي إلا الله تعالى أو لا يسمع كلام العباد كلهم إلا الله تعالى أو لا يسمع سر القول إلا الله تعالى ونحو ذلك فصل
قال فإن سوء العبارة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وإن صح المقصود كما دل عليه كلام الإمام و غيره ألا ترى إلزام الله تعالى للصحابة رضوان الله تعالى عليهم بتحسين الخطاب معه و إيراده بكيفية الأدب حيث قال لهم { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }
وقال عز وجل { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا }
وقال { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }
وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة و جعل الاستخفاف به كفرا كما قال عز
____________________
(2/642)
وجل { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ولا أعلم خلافا بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم لم يكونوا تعرضوا لله سبحانه بعبارتهم و إنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله صلى الله عليه وسلم استهزاء به سبحانه و بآياته فكفى بذلك تكفيرا
و الجواب من وجوه
أحدها أن يقال إنا لا نسلم أن ما فيه النزاع سوء عبارة بل هو من أحسن العبارات كما تقدم بيانه
2 الثاني أنه إن كان سوء العبارة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كفرا ففي حق الله أعظم كفرا ومن قال إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق كانت هذه العبارة أنه يطلب من المخلوق كما يطلب من الخالق وهذا يشعر أنه جعل المخلوق ندا للخالق وما أفهم الشرك كان من أسوأ العبارة فيجب أن يكون كفرا يلزم هذا القائل وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله و شئت فقال ( ( أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده ) )
____________________
(2/643)
وقال ( ( لا تقولوا ما شاء الله و شاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ) )
____________________
(2/644)
وقال ( ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) )
____________________
(2/645)
الثالث إن سوء العبارة ما حصل به سوء المعتبر و من جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله تعالى فقد آذى الرسول صلى الله عليه وسلم و أساء في حقه و سلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم هذا يطلب منه إنزال المطر وهذا يطلب منه غفران الذنوب وهذا يطلب منه النصر على الأعداء وهذا يطلب منه أن يتزوج وهذا يطلب منه الولد وهذا يطلب منه المعيشة وهذا يطلب منه الملك وهذا يطلب منه الولاية وهذا يطلب منه جارية حسناء وهذا يطلب منه قضاء دينه وهذا يطلب منه سكباجا وهذا يشتكي إليه ظهور البدع وهذا يشتكي إليه ما يظن أنه من البدع فنزلوا المخلوق منزلة الإله و طلبوا منه من جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ( من لا يسألنا أحب إلينا ممن سألنا ) ) و كانوا يسألونه ما يقدر عليه فكيف إذا طلبوا منه ما لا يقدر عليه مخلوق
وفي الجملة فمطالب الناس لا تنضبط في خيرها و شرها وقلتها و كثرتها فمن سلط الناس على الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون هذا كله منه فهو من أعظم الناس إساءة إليه و إن كان لا يقصد ذلك لكن عبارته أفهمته فهي من أسوأ العبارات
____________________
(2/646)
الرابع أن الكلام إذا كان في سياق توحيد الرب سبحانه ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله تعالى من الأنبياء و الملائكة فإن المقام أجل من ذلك وكل ما سوى الله تعالى يتلاشى عند تجريد توحيده ونبي الله صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه وإن كان نفس المسلوب
وهذا كما في الصحيحين من حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها من السماء و أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقالت لها أمها قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله لا أقوم إليه ولا
____________________
(2/647)
أحمده ولا إياكما لقد سمعتم فلا أنكرتم ولا غيرتم و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي
وفي رواية قالت نحمد الله لا نحمد أحدا
وفي رواية نحمد الله لا نحمدك
فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم و أبوها على مثل هذا الكلام الذي نفت فيه أن تحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أن تحمد أحدا إلا الله تعالى لأن الله تعالى هو الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه وسوء الأدب عليه كفر
____________________
(2/648)
قال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت علي بن الحمشاذ العدل يقول سمعت أحمد بن مسلمة يقول سمعت محمد ابن مسلم يقول سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لعبد الله بن المبارك قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت براءتها من السماء نحمد الله لا نحمدك إني لأستعظم هذا القول فقال عبد الله ولت الحمد أهله
وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام بن مسكين و المبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( عرف الحق لأهله ) )
____________________
(2/649)
رواه أبو عبيد في الأموال عن عبد الرحمن بن مهدي عن سلام
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بتجريد التوحيد فقال ( ( لا تقولوا ما شاء الله و شاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ) )
وقال له رجل ما شاء الله و شئت فقال ( ( أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده ) )
و ما أحدثه عز وجل بغير فعل منه أضافه إلى الله تعالى وحده كما
____________________
(2/650)
في الصحيحين لما تاب الله تعالى عن الثلاثة الذين خلفوا و آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بتوبتهم فجاء كعب إليه فقال ( ( يا كعب أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) ) فقال يا رسول الله أمن عند الله أم من عندك قال ( ( بل من عند الله ) )
و معلوم أنه لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان من عند الله تعالى بمعنى أن الله تعالى خلقه و أحدثه بتوسط فعل النبي صلى الله عليه وسلم فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار ولكن المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه فعل في هذه التوبة إلا أنه بلغ رسالة الله تعالى بالتوبة كما قال تعالى في مثل ذلك { تعملون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
____________________
(2/651)
و ما يتكلم به الإنسان من تلقاء نفسه و إن كان الله خالقه هو من عند الله باعتبار خلقه و تقديره فليس هذا المعنى هو ذاك فإن هناك مبلغ لكلام مرسله و الله تعالى يجعله مبلغا لا يجعله قائلا له من تلقاء نفسه ولهذا توعد الله تعالى من جعل القرآن قول البشر بقوله { سأصليه سقر } وقد قال تعالى { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } فجعله قول رسول من البشر كما جعله قول رسول من الملائكة في قوله { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } لأن لفظ الرسول يستلزم المرسل و يدل على أنه مبلغ له عن مرسله لا يتكلم به من تلقاء نفسه بخلاف من جعله قولا لمخلوق بشر أو ملك أو جني أو جعل شيئا منه قوله فإن هذا هو الذي توعده الله عز وجل
____________________
(2/652)
و أيما أبلغ قول عائشة رضي الله عنها لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله تعالى وقول الأسير أتوب إلى الله تعالى لا إلى محمد وقول القائل لا يستغاث بالرسول بل بالله أو لا يدعى الرسول و إنما يدعى الله تعالى ونحو ذلك
وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ براءتها و كان يحبها و يحب براءتها وقد خطب الناس قبل ذلك وقال ( ( من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ) )
لكن لما لم يجزم ببراءتها ولم يلطف بها اللطف الذي كان يلطف بها قبل ذلك لما حصل عنده من الريب بل كان إذا دخل يقول ( ( كيف تيكم ) ) ولما خطب قال ( ( يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى و إن كنت ألممت بذنب فأستغفري الله و توبي إليه فإن العبد
____________________
(2/653)
إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ) ) قالت أنتم ما برأتموني إنما برأني الله تعالى فهو الذي يستحق أن أحمده
وقد تنازع الناس في النبي صلى الله عليه وسلم هل كان يعلم براءة عائشة قبل نزول الوحي مع اتفاقهم على أنه لم يجزم بالريبة
فمن الناس من قال يعلم براءتها وكذلك علي ولكن لخوض الناس فيها و رميها بالإفك توقف قالوا وذلك أن نساء الأنبياء ليس فيهن بغي كما قالت طائفة من السلف ما بغت امرأة نبي قط لأن في ذلك من العار بالأنبياء ما يجب نفيه
وقال آخرون بل كان النبي صلى الله عليه وسلم حصل له نوع شك و ترجحت عنده براءتها و لما نزل الوحي حصل اليقين
قالوا والدليل على ذلك أنه استشار في طلاقها عليا و أسامة
____________________
(2/654)
قال أسامة أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا وقال علي لا يضيق الله عليك و النساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة ( ( ما علمت على عائشة أو ما رأيت ) ) فقالت ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله
فسؤاله لبريرة و استشارته لعلي و أسامة دليل على حصول الشك فيها وهو لما خطب ما جزم بالبراءة فقال فيما قال ( ( والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ) )
____________________
(2/655)
ولو كان جازما بالبراءة لقال إنهم كذبوا على أهلي و افتروا و إن أهلي لبريئة مما قيل و نحو ذلك
و نفي العلم ليس علما بالعدم لكن هذه العبارة تصلح لدفع المتكلم و نهيه و ذمه على قبول القول كما قال تعالى { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم }
و العدل الذي عرفت عدالته إذا لم يعلم فيه من له به خبرة ما ظن به إلا الخير كان عدلا عنده فإذا جرحه جارح لم يعلم صدقه بل ترجح عنده كذبه لم يقدح في عدالته ولم يوجب الجزم ببراءته
قال صاحب هذا القول ولولا نزول براءتها من السماء لدام الشك في أمرها و إن كان لم يثبت شيء ففرق بين عدم الثبوت مع حد القاذف و بين البراءة المنزلة من السماء من الله عز وجل و لهذا ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى
____________________
(2/656)
منه فقد كفر لأنه مكذب للقرآن و أصحاب هذا القول يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم تردد هل يطلقها أم لا لما حصل الشك لكون امرأة النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بغيا وكان عزمه أن يطلقها و العياذ بالله لو كان ما ذكر صحيحا لكن تأنى و انتظر أمر الله تعالى حتى بين الله الحق
ومن قال هذا يقول المحفوظات هن اللواتي يبقين عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطلقهن وقد يقال بل كل من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة و إن طلقها وقد تنازع الناس فيمن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم و طلقها أو مات عنها قبل الدخول هل تكون من أمهات المؤمنين على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد و غيره
قيل إنها تكون أما فإن حرمة الأمومة ثبتت بالعقد كما تثبت في أمهات الناس وقيل لا تكون من أمهات المؤمنين و الصحيح الفرق بين من
____________________
(2/657)
طلقها وبين من مات عنها فمن مات عنها فهي من أمهات المؤمنين ومن أزواجه في الآخرة بخلاف من طلقها فإنها تباح لغيره أن يتزوجها ولولا هذا لم يحصل لهن بالتخيير { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل امرأة كان طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم و أقره الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين على ذلك
الخامس أن يقال ما حد سوء العبارة التي تكون كفرا فإن هذا كلام مجمل لم يحصل قائله مراده به فإن أراد أن كل صفة هي ثابتة في نفس الرسول إذا نفاها عنه إنسان باجتهاده يكون مسيئا في العبارة لزم أن كل من أثبت له صفة يكفر من نفاها
فالقائلون بالعصمة يكفرون نفاتها و إن كانوا جمهور الأمة و كذلك
____________________
(2/658)
من أوجب له حقا كالصلاة عليه في الصلاة يكفر من نفى هذا الحق و إن كان جمهور الأمة
السادس أن يقال لا نسلم أن المقصود إذا صح يكفر المعبر بعبارة يقال إنها سيئة وهذا قول لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل هم مجموعون على نقيضه و أن المسلم إذا عنى معنى صحيحا في حق الله تعالى أو الرسول ولم يكن خبيرا بدلالة الألفاظ فأطلق لفظا يظنه دالا على ذلك المعنى و كان دالا على غيره أنه لا يكفر و من كفر مثل هذا كان أحق بالكفر فإنه مخالف للكتاب و السنة و إجماع المسلمين وقد قال تعالى { لا تقولوا راعنا } وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله تعالى عنها ولم يكفرهم بها و المطلق لمثل هذا على الله لا يكفر فكيف على الرسول صلى الله عليه وسلم
وقوله إن كلام الإمام أو غيره دل على ذلك ممنوع فإن إمام الحرمين أجل من أن يقصد مثل هذا و إن سلم أنه قال ذلك ولا ينفع هذا المحتج تسليم ذلك له فالكلام مع من قال هذا لو كان مجتهدا دع إذا كان القائل ممن ليس له وجه في مذهبه ولا يجوز لأحد أن يقلده ولا يفتي بقوله فيما هو دون هذه المسألة فكيف في مثل هذه المسألة المتعلقة
____________________
(2/659)
بالتكفير و الدعاء
و جهل مثل هذا المفتي بالشرع و أدلته يوقعه فيما لم يقله أحد من علماء المسلمين ولهذا يقع في فتاويه من العجائب ما لا يقوله أحد فإنه يحب أن يفتي بمجرد رأيه ونظره مع قله علمه لمسالك الأحكام و مدارك الحلال و الحرام و أقوال أئمة الإسلام
و أما قوله أترى إلزام الله تعالى للصحابة بتحسين الخطاب معه و إيراده لكيفية الأدب حيث قال لهم { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }
وقال تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا }
وقال { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }
فيقال له هذه كلها حجة عليك فإن الذين رفعوا أصواتهم فوق
____________________
(2/660)
صوته نهوا عن ذلك و حرم ذلك عليهم فكان ذلك سوء أدب ولم يكفروا بإجماع المسلمين بل كانوا معذورين فيما فعلوا قبل النهي فمن أطلق عبارة لها معنى صحيح ولو أنها مكروهة كيف يكفر
وهذه الآية نزلت في أبي بكر و عمر كما ثبت في الصحيح و من كفرهما فهو أحق بالكفر
وقد ثبت في الصحيح أن ثابت بن قيس بن شماس و كان يرفع
____________________
(2/661)
صوته خاف لما نزلت هذه الآية أن يكون من أهل النار فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو أحد المشهود لهم بالجنة كما شهد بها للعشرة و غيرهم و كذلك دعاؤه بإسمه لم يقل أحد من المسلمين أنه كان كفر ممن دعاه و كذلك الذين نادوه من وراء الحجرات كانوا من جفاة الأعراب وقالوا يا محمد اخرج إلينا فسموه بإسمه و إنما وصفهم الله تعالى بأن أكثرهم لا يعقلون ولم يقل إنهم مرتدون
و أما قوله وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة
فيقال بل الآية دلت على نقيض هذا فإنه قال { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فدلت على أن العمل لم يحبط لما تقدم من سوء الأدب ولكن يخاف إذا رفعوا أصواتهم أن يجرهم ذلك إلى كفر يحبط العمل وهم لا يشعرون فالمحبط ما يخاف حصوله لا ما وقع منهم وهذا كما يقال المعاصي بريد الكفر فإن رفع الصوت عليه و الجهر له كجهر بعضكم لبعض قد يفضي بصاحبه إلى الاستعلاء عليه
____________________
(2/662)
ونحو ذلك مما هو كفر
ثم يقال ما نحن فيه ليس من هذا الباب فإن الرافع قد فعل ما يعلم أنه مذموم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن رفع الإنسان صوته على غيره يعلم كل أحد أنه قلة احترام له و ليس أنه كمن تكلم بعبارة لا يعلم بها بأسا قصد بها معنى صحيحا ألا ترى أن الصحابة لما كانوا يقولون { راعنا } وهذه الكلمة قد يقصد بها معنى فاسد وهم لا يقصدون ذلك لكن كان ذريعة لغيرهم نهوا عنها ولم يقل إنكم كفرتم ولا قيل إن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون بل فرق الله تعالى بين قولهم راعنا و بين رفع الصوت عليه و سوء العبارة مع صحة القصد من باب قولهم راعنا وهذه الآية حجة على بطلان ما فهمه من كلام الإمام و غيره
ومن الحكايات المعروفة عن الشافعي رحمة الله تعالى عليه أن الربيع قال له في مرضه يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك فقال يا أبا محمد لو قوى ضعفي لهلكت فقال له الربيع لم أقصد إلا خيرا
____________________
(2/663)
فقال لو شتمتني صريحا لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير فقال الربيع كيف أقول قال قل برأ الله ضعفك
فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ وهو نفس الضعف و الربيع قصد أن يسمي الضعيف ضعفا كما يسمي العادل عدلا ثم لما علم الشافعي بحسن قصده أوجب أن يقول لو سببتني صريحا أي صريحا في اللغة لعلمت أنك لم تقصد إلا خيرا فقدم عليه علمه بحسن قصده ولم يجعل سوء العبارة منتقصا وقد يسبق اللسان بغير ما يقصد القلب كما يقول الداعي من الفرح اللهم أنت عبدي و أنا ربك ولم يؤاخذه الله تعالى
____________________
(2/664)
فصل
وأما قوله وجعل الاستخفاف به كفرا كما قال الله تعالى { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ولا أعلم خلافا بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم لم يكونوا تعرضوا لله تعالى بعباراتهم و إنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه و بآياته و كفى بذلك كفرا ثم ذكر ما نقله من الكتاب الذي صنفه المسمى بالصارم المسلول على شاتم الرسول
فيقال لا ريب أن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر و الاحتجاج بهذه الآية يدل على أن الاستهزاء بالله تعالى كفر و بآيات الله تعالى كفر و برسوله صلى الله عليه وسلم كفر من جهة أن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة فلم يكن ذكر الاستهزاء بآياته و برسوله شرطا في ذلك فعلم أن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم أيضا كفر وإلا لم يكن في ذكره فائدة و كذلك الاستهزاء
____________________
(2/665)
بالآيات
و أيضا فإن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم فإن من استهزاء بآيات الله تعالى التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مستهزئ بالرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة و من استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو مستهزئ برسالته حقيقة ومن استهزأ بآيات الله ورسوله فهو مستهزئ به ومن استهزأ بالله فإنه مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولى
و أما الذين نزلت فيهم هذه الآية فقد لكن هؤلاء الضالين أولى بالدخول في الاستهزاء بالله و آياته و رسوله من منازعيهم فإن كانت الآية تتناول المتأولين من أهل القبلة كانوا أحق بالدخول وإن
____________________
(2/666)
لم تتناول المتأولين كان منازعوهم أحق بالخروج منها لو كانوا مخطئين و أما مع كونهم مصيبين فلا وجه لتناول الآية لهم وذلك أن هؤلاء الضالين مستخفون بتوحيد الله يعظمون دعاء غيره من الأمور و إذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقوله { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } فاستهزئوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك
وقال تعالى عن المشركين { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } قال الله تعالى { بل جاء بالحق وصدق المرسلين }
وقال تعالى عن المشركين { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق }
و قالت عاد لهود عليه السلام { يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم }
____________________
(2/667)
ومازال المشركون يسوءون بالأنبياء و يصفونهم بالسفاهة و الضلال و الجنون إذا دعوهم إلى التوحيد لما في أنفسهم من تعظيم الشرك
قال تعالى { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون }
ثم قال تعالى { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } إلى قوله تعالى { ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين }
فأعظم ما سفهوه لأجله و أنكروه هو التوحيد و لهذا تجد من فيه
____________________
(2/668)
شبهة من هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله تعالى و إخلاص الدين له و أن لا يعبد الإنسان إلا الله تعالى ولا يتوكل إلا عليه استهزأ بذلك لما عنده من الشرك قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الخالق فهو مشرك
و يجب الفرق بين الحب في الله و الحب مع الله فالأول من تمام محبة الله تعالى و توحيده و الثاني شرك
فالأول يكون لله تعالى هو المحبوب له بذاته و يحب ما يحبه الرب تعالى تبعا لمحبته فيحب رسوله و كتابه و عباده المؤمنين كما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( ثل 4 اث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار ) )
____________________
(2/669)
و أما الحب مع الله تعالى فهو الذي يحب محبوبا في قلبه لا لأجل الله تعالى كحب المشركين أندادهم و هؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله تعالى و عبادته و يعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء حتى إن طوائف منهم يستخفون بحج البيت وبمن يحج البيت و يرون أن زيارة أئمتهم و شيوخهم أفضل من حج البيت وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلى السنة و آخرون يستخفون بالمساجد و بالصلوات الخمس فيها و يرون أن دعاء شيخهم أفضل من هذا و هذا موجود في الشيعة المنتسبين إلى يونس القيسني حتى ينشدون ** تعالوا نخرب الجامع ** و نجعل فيه خماره ** ** و نكسر المنبر ** و نجعل منه طنباره **
____________________
(2/670)
** و نخرق المصحف ** و نجعل منه زماره ** ** و ننتف لحية القاضي ** و نجعل منه أوتاره **
و يحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذبا
ومنهم من يقول كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده
ومنهم من يذبح الشاة و يقول باسم سيدي
ومنهم من يقول إن شيخه أفضل من الأنبياء و المرسلين
و منهم من يعتقد فيه الإلهية كما يعتقده النصارى في المسيح فإذا ذكروا شيخهم عظموه و ادعوا فيه الإلهية و أنشدوا له على لسانه
____________________
(2/671)
** موسى على الطور لما خر لي ناجى ** و صاحب الترب أنا جئته حتى جا **
و لهم أيضا ** و أنا صرخت في العرش حتى ضج ** ** و أنا حملت على علي حتى هج ** ** و إن البحار السبعة من هيبتي ترتج **
و يقولون نحن غلمان الملك و يسمون المسجد اصطبل البطالين و يقرؤون القرآن و ما أرسلناك إلا رحمة للمدمنين و ألوان من هذا الجنس الذي فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله مع تعظيمهم شيخهم و غلوهم فيه
و كذلك النصيرية و الإسماعيلية و نحوهم و كثير من طوائف متعددة يرى أحدكم استغاثته بالشيخ الميت إما عند قبره و إما عند قبر غيره
____________________
(2/672)
أنفع له من أن يدعو الله تعالى في المسجد عند السحر و يستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد
و من هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الحج إلى الكعبة و أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم و الاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله تعالى و دعائه
و كثير من هؤلاء يخربون المساجد و يعمرون المشاهد فتجد المسجد الذي بنى للصلوات الخمس معطلا مخربا ليس له كسوة إلا من الناس و كأنه خان من الخانات و المشهد الذي بني على الميت عليه الستور و زينة الذهب و الفضة و الرخام و النذور تغدو و تروح إليه فهل هذا إلا من استخفافهم بالله تعالى و آياته و رسوله و تعظيمهم للشرك
فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بنى له المشهد و الاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله تعالى و الاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بني لدعاء الخالق و إذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم
____________________
(2/673)
عندهم مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله تعالى حالهم في قوله تعالى { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون }
كما يجعلون لله زرعا و ماشية ولآلهتهم زرعا وماشية فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله تعالى فوضعوه فيه وقالوا الله غني وآلهتنا فقراء فيفضلون ما يجعل لغير الله تعالى على ما يجعل الله تعالى
و هكذا الوقوف و النذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما تبذل للمساجد و لعمارة المساجد و للجهاد في سبيل الله تعالى
وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع
____________________
(2/674)
ويتضرع و يدعو ويحصل له من الرقة و التواضع و العبودية و حضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس و الجمعة و قيام الليل و قراءة القرآن فهل هذا الأمر إلا حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله تعالى و رسوله
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم الأبيات يحصل له من الخضوع و الخشوع و البكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله تعالى فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين بل إذا سمعوا آيات الله تعالى اشتغلوا عنها و كرهوها و استهزؤوا بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب
____________________
(2/675)
من قوله تعالى { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون } وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسنة لا غية كأنهم صم وعمي وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم وسكتت ألسنتهم وسكنت حركاتهم حتى لا يشرب العطشان منهم ماء
ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه
ومنهم من يقول هذا في شغله وهذا في شغله
ومنهم من يقول كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا على الباب
وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال
____________________
(2/676)
فقلت صدق كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله تعالى فإن البدع والضلالة فيها من حضور الشيطان ما قد حصل في غير هذا الموضع
والذين يجعلون دعاء الموتى والأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعائهم الله تعالى أنواع متعددة
منهم من يقدم دعاءهم
ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات مثل
حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله تعالى فلم يغثه فاستغاث بشيخه فأغاثه
وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله تعالى فلم يخرجه فدعا بعض المشايخ الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام
وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري وآخر قال فتوسل بي وآخر قال قبر فلان الترياق المجرب
____________________
(2/677)
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه أو ملكا على صورته وإنما هو شيطان أغواه كما قد بسط في موضعه
ومنهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه فيتعسر أحدهم فيقول يا فلان وقد قال الله تعالى للموحدين { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا }
ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق ولا يكذب فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله تعالى وقد قال شعيب عليه السلام { يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله }
وقال تعالى { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله }
وقال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
____________________
(2/678)
وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } الاية
فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين عندهم يتضمن مثل هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به
وأيضا فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر وطاعة له فيما أمر واعتناء بمعرفة ما بعث به والتمييز بين ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }
____________________
(2/679)
وأما أولئك الضلال أشباه المشركين النصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة أو منقولات عمن لا يحتج بقوله إما أن يكون كذبا عليه وإما أن يكون غلطا منه إذا هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه فجعل حكم ذلك كله واحدا ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة أيضا ولم يكفه ذلك حتى جعل الطلب منه إنما طلبه من الله تعالى لا منه فالمستغيث به مستغيث بالله
____________________
(2/680)
تعالى ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة
واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية التي أدخل فيها من الشرك و الضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال بقضية خاصة جزئية كسؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة أن يدعو الله تعالى لهم و توجههم إلى الله تعالى بدعائه و شفاعته
و معلوم أن هذا الذي جاءت به السنة حق لا ريب فيه لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة و إبطال نقيضها إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي لا سيما مع الاختلاف و التباين وهذا كمن يريد أن يثبت حل جميع الملاهي لكل أحد و التقرب بها إلى الله تعالى بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي
____________________
(2/681)
صلى الله عليه وسلم يوم عيد مع كون وجهه كان مصروفا إلى الحائط لا إليهما أو يحتج على استماع كل قول بقوله تعالى { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }
ولا يدري أن القول هنا هو القرآن كما في قوله تعالى { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين }
ولا نسلم أن يسوغ استماع كل قول وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس مع الخائضين في آياته و خوضهم نوع من القول فقال تعالى
____________________
(2/682)
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الاية
وقال تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم }
وقال تعالى { وإذا مروا باللغو مروا كراما }
وقال تعالى { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } فصل
قال وقد أجمع العلماء كما حكاه من يرجع إليه على أن كل مسلم صدر منه سب الرسول أو تنقيصه وجب قتله و يحكم بكفره و ردته عن دين الإسلام على ذلك دلت نصوص من السنة و الكتاب و حكم جماعة من المتقدمين من أنه يقتل من غير استتابة كما نص العلماء أيضا أن التعريض بسبه أو تنقيصه كالصريح
____________________
(2/683)
فيقال هذا نقله من الكتاب الذي صنفه في شاتم الرسول استعاره من بعض من كان عنده ولهذا صار الناس يعدون هذا من قله الحياء فإن ذلك الكتاب ذكرت فيه في مسألة السب من دلائل الكتاب و السنة و أقوال العلماء من تعظيم الرسول و تعزيره و توقيره و استنباط ما يتعلق بذلك من الكتاب و السنة ما يعرفه من تأمله فصل
قال ومن نفى عنه أن يستغاث به فقد تنقصه عن رتبته ولا ينفعه تأويله لأن تأويله لا يخرجه عن كونه أساء الأدب على النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير على أن هذا الرجل لا يثبت التأويل و إنما يذهب إليه عند الخوف زندقة منه على ما علمته
فيقال له قد تقدم الجواب و تبين أن الذي تنقصه هو الذي يؤذيه و يعتدي عليه و يسلط السفهاء على أذاه و يكذب عليه ويبدل دينه الذي بعث به لا من يأمر بما أمر الله به من تعزيره و توقيره و تصديقه وطاعته ومحبته ورضاه وموالاته وبما يزيده درجة ورفعة في الدنيا و الآخرة من الصلاة و السلام عليه و فعل التوحيد و الطاعات التي تحصل له مثل
____________________
(2/684)
أجرها
وبين أيضا أنه لم ينف عنه كل ما يسمى استغاثة بل قد صرح بأنه يطلب منه كل ما يليق بمنصبه و أنه يستشفع به و يتوسل به كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون و كما يستشفع به يوم القيامة و أن المنفي هو دعاء الميت أو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق
و بين أيضا أن ما ذكره هذا الرجل في مسمى لفظ الاستغاثة و أن نفي ذلك يتضمن نفي كونه سببا في حصول غوث الله كلام باطل
و أما قوله فلا ينفعه تأويله إلى آخره فإنما يصح لو فسر لفظ بما يخالف ظاهره و المجيب قد بين مراده بألفاظ خاصة لا تحتمل معنيين فأي تأويل هنا يحتاج إليه فهذا من جملة افترائه فإن التأويل إنما يحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظا له ظاهر و أراد به غير ظاهره من غير بيان وهذا لم يقع فإن كان بعض الناس يظهر له من اللفظ ما لم يدل عليه فالتفريط منه ** وكم من عائب قولا صحيحا ** و آفته من الفهم السقيم **
وقد بينا في غير هذا أن عامة من يورد على ألفاظ الكتاب و السنة ويدعي أن ظاهرها ممتنع إنما أتى من سوء فهمه لا من قصور في بيان الله
____________________
(2/685)
و رسوله بل ممن تأول
مثل طائفة في قوله ( ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ) ) وهذا
____________________
(2/686)
معروف عن ابن عباس وقد روي مرفوعا ولم يثبت
فهذا اللفظ قالت طائفة إنه يحتاج إلى تأويل وليس كما قالوا فإنه قال فيه ( ( يمين الله في الأرض ) ) فقيل الخطاب في الأرض لم يطلق فيه وقال في إثباته ( ( فمن استلمه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ) ) والمشبه غير المشبه به ففي الحديث بيان أنه ليس بصفة الله تعالى وإنما هو بمنزلة اليمين في الاستلام و التقبيل و الحديث لا يدل ولا يفهم منه غير هذا
____________________
(2/687)
وكذلك قوله سبحانه مرضت عبدي فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك و أنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده فهذا صريح في أن الله تعالى لم يمرض و إنما يمرض عبده ولا يحتاج إلى تأويل و أمثال ذلك
و أما قوله و المجيب لا يثبت على التأويل و إنما يذهب إليه عند الخوف زندقة على ما علمته
فيقال له لا ريب أن المجيب لم يذهب في كلامه إلى تأويل أحد بل لفظه ظاهر في معناه بل قد يكون نصا
وقول القائل إنه يذهب إلى التأويل زندقة منه فهو جهل بمسمى الزندقة و كذب ظاهر باتفاق الناس وهو بالقائل أعلق أما كونه جهلا فإن الزنديق هو الذي يبطن الكفر و يظهر الإسلام فمن كان
____________________
(2/688)
مظهرا لقوله قد كتب بأجوبة من النسخ ما لا يحصيه إلا الله وقد وافقه عليها علماء الإسلام ولم يذهب أحد إلى خلافها وقد بين قوله في أعظم الأوقات خوفا و تعصبا عليه وناظر عليه و تبين للحاضرين حتى الأعداء سلامته من هذه القوادح و ظهور الجهل و الكذب و الظلم من منازعيه فكيف ينسب إليه إبطان خلاف ما يظهر
ولو قدر أن شخصا أبطن خلاف ما يظهر من الأقوال لم يكن زنديقا إلا إذا أبطن الكفر فمن أبطن قولا يعتقد أنه دين الإسلام و يناظر عليه لم يكن هذا زنديقا عند الفقهاء بل إن كان مخطئا فقد يكون مبتدعا وإن كان مصيبا و سكت خوف العدوان عليه لم يكن مبتدعا ولو دخل مسلم دار الرافضة و الخوارج فكتم حبه للصحابة رضوان الله عليهم لم يكن زنديقا ولو عرض لم يأثم بذلك
وقد ثبت في الصحيح أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال عن سارة إنها أختي عند الحاجة إلى التعريض
____________________
(2/689)
و كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه في الهجرة من هذا الرجل معك يا أبا بكر فيقول هذا رجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يريد الطريق و إنما يريد سبيل الخير
و كذلك عين المشركين يوم بدر لما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم و سأله فقال لا أخبركم حتى تخبروني من أنتم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إن أخبرتنا أخبرناك ) ) فأخبرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( نحن من ماء ) )
مع أن ما نحن فيه ليس من هذا الباب فإنه لم يحصل كتمان ولا تعريض بل صرح بالأمر على ما هو عليه و إنما المقصود بيان جهل هؤلاء
____________________
(2/690)
الضالين المعتدين
و أيضا فيخاف من الناس من يجزع إذا أوذي و يطلب الإقالة و يستغيث بالحاضرين حتى يدفعوا عنه ما طلبه ولي الأمر من قطع لسانه ومن نفي عن البلد فلا يدخله إلا سرا ودخل في قوله تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم }
فإن هذا المفتري سعى في منع من يذكر ما أمر الله به في المسجد فمنع من سكنى البلد الذي فيه المسجد و أخرج منه فلم يكن يدخل المسجد إلا خائفا و حصل له من الخزي ما لا يعرف لأحد مثله في زمانه وكان له شبه من أبي عامر الراهب الذي بنى له مسجد الضرار
____________________
(2/691)
و كان قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الحنفية ومال إلى النصرانية وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما تدعو يا محمد قال ( ( إلى ملة إبراهيم ) ) فقال إنك شبيها بغيرها فقال ( ( ما شبيها بغيرها ) ) فقال شبيها بغيرها فقال ( ( الكاذب أماته الله طريدا و شريدا وحيدا ) ) فقال أبو عامر آمين فمات طريدا شريدا وحيدا
من يقابل ولاة الأمر و غيرهم من الأكابر في أخذهم بالحق وإن
____________________
(2/692)
كرهوه ومن يطلب منهم أن يسكت عن حق متعلق بالدين فلا يسكت فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق ومن يهن هذا الحزب الجاهل الظالم ويبين جهله ومن كتب جوابه في هذه المسألة في أكثر الأمصار من لا يحصي عددهم إلا الله تعالى من ولاة الأمور وغيرهم
وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار وقال تعالى { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } إلى قوله تعالى { أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل }
وهؤلاء الذين يدعون الموتى من أهل البدع فمنهم من مسخ
____________________
(2/693)
خنزيرا من الرافضة وقد تواترت بذلك الحكايات وفيهم من يعبد الطاغوت فيصور تماثيل يتوجهون إليها ويدخلون في مداخل السحر وكما هو معروف عن غير واحد منهم وأما غضب الله ولعنته بسبب كثرة كذبهم وظلمهم وفسقهم فاعظم من أن يذكر
فصل
قال ولقد بالغ السلف في الاحتياط بجنابه صلى الله عليه وسلم حتى أفتى بعضهم بأن من سب فاطمة وعائشة أن يقتل
وقال على هذا مضت سيرة أهل العلم وأفتى بعض الشافعية أن من سب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا رضى الله عنهم فهو كافر وأفتى طائفة بكفر الرافضة ونقل عن أحمد أنه استفتى في من يشتم عثمان فقال هذا زندقة وروى عن أحمد رواية أخرى أنه قال من سب واحدا من الصحابة فقد كفر وذكرت ذلك لتعلم عظم الوقوع في الجناب النبوي عند العلماء
وقد صح وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح دم من نقصه وسبه ولم يختلف في ذلك الصحابة ولقد رووا أن ابن أبي سرح بعد وقيعته جاء به عثمان رضى الله عنه وكان أخاه من الرضاعة وقال بايعه يا رسول الله فأعرض
____________________
(2/694)
عنه ثم جاءه من الناحية الأخرى أيضا فقال بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم بايعه النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة وقال فيما روى ما صمت إلا ليقوم إليه أحدكم فيقتله فقال رجل من الأنصار يا رسول الله ألا ما أومأت إلي فأقتله فقال إن النبي لا يقتل بالإشارة وكان ذلك لتحريم خائنة الأعين عليه صلى الله عليه وسلم
وأباح قتل ابن خطل لأنه كان ينتقصه صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل عام فتح مكة فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه فقتل
____________________
(2/695)
مع أن الروايات إذا استقريت علم أنهما جاءا مسلمين مناقدين ولم يكن ذلك موجبا للعفو عنهما ففيه دليل على أن الساب اليوم وإن أسلم يقتل حتما كما هو مذهب مالك وجماعة ولا يلزم من أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن بعضهم أن يجوز أن نعفوا لأن القتل كان لحقه فله صلى الله عليه وسلم أن يترك حق نفسه
فيقال هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لكنه أزال بهجته وحذف من محاسنه ما يبين حقيقته فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله وهذا كلام المتشبع بما لم يعط ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور
وأما تقريره واستدلاله الذي لم ينقله عن غيره فهو جنس كلامه في مسألة الاستغاثة وجوابه في قسم مال بيت المال ونحو ذلك مما يخرج
____________________
(2/696)
به عن إجماع المسلمين ويضحك عليه العلماء الفاضلون ويوجب لذوي القضاء أن يحجروا عليه في الفتيا كما وقع هذا المسكين لما فيه من الجهل بمسالك الأحكام مع فرط الجراءة والإقدام على الكلام بالهوى والجهل في دين الإسلام بخلاف من منع خوفا منه إما لسياسة مملكة أو غير ذلك فصل
قال ومن هذا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفى عن نفسه أن ينفع أو يستغاث به أو نحو ذلك يشير إلى التوحيد وإفراد الباري بالقدرة لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك لوجهين
أحدهما أن المقصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول صلى الله عليه وسلم فله تركه إذا عبر عن نفسه وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف
والأمر الثاني أنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول صلى الله عليه وسلم في العبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه صلى الله عليه وسلم علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أفعاله وأقواله وغيره ليس كذلك
فيقال له هذا من الجهل في الاستدلال فإن ما ينفيه الرسول
____________________
(2/697)
صلى الله عليه وسلم عن نفسه هو صادق فيه وفي جميع ما يقول فإنه صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق وهذا خبر أخبر به و الخبر يكون إثباتا ونفيا وهو صادق فيما يثبته لنفسه وفيما ينفيه عن نفسه وعلينا أن نصدقه في ذلك وليس هذا من جنس عفوه عمن آذاه فإن ذلك ليس بخبر منه وإنما هو ترك استيفاء حق له وبعد موته لا يمكن عفوه فيجب استيفاء حقه لأن سبه فيه حق لله تعالى وبعد موته لا مسقط له فيتعين استيفاؤه و إذا انفرد بجواز العفو عن الساب دوننا لم يلزم أن ينفرد في إخباره بأن يخبر بالأمر على خلاف ما هو عليه وما قال أحد من المسلمين إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه بنفي أو إثبات ليس لنا أن نخبر بمثل خبره
بل إذا قال { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا }
نقول ما كان إلا بشرا رسولا
____________________
(2/698)
وإذا قال { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد }
و إذا قال ( ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) )
قلنا نشهد أن لا إله إلا الله و نشهد أن محمدا عبده و رسوله
وإذا قال ( ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ) )
قلنا إنما هو بشر ينسى كما ينسى البشر
و إذا قال { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك }
قلنا لم نقل إن عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا نقول إنه ملك
____________________
(2/699)
و إذا قال { لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله }
قلنا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله
و إذا قال ( ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ) قيل ولا أنت يا رسول الله قال ( ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) )
قلنا لن يدخل الجنة أحد بعمله فإذا قيل لنا ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتغمده الله برحمة منه و فضل فنخبر بمثل ما أخبر تصديقا له فإنه الصادق المصدوق
ومثل هذا كثير
و قول هذا الجاهل مات و دين النصارى فإن المسيح عليه
____________________
(2/700)
السلام لما أخبر عن نفسه أنه عبد الله تقول النصارى ليس لنا أن نقول في الأنبياء ما يقولونه في أنفسهم وقد قال الله تعالى { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك } إلى قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم }
وقال المسيح عليه السلام { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا }
فقول النصراني من جنس قول شبهته هو يقول ربي الله وهم يقولون هو الرب ليس رب و يقولون وليس لنا أن نقول فيه ما يقول في نفسه و هكذا الرافضي إذا احتججنا عليه بقول علي رضي الله عنه يقول ليس لنا أن نقول فيه قوله في نفسه
وفي الجملة فبعض الناس قد يقول على سبيل التواضع كلاما فيه مبالغة فيقال ليس لغيره أن يقول فيه هذا و أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينطق إلا بالحق و كلامه معه إذا كان تواضعا لله تعالى فهو أحق الخلق بالتواضع لربه عز وجل وليس هذا كتواضع الرجل للرجل
____________________
(2/701)
ثم ما ذكره في عفوه عن السيئات لا يقتضي العلم بهذا ولا هو دليل عليه
و أما قوله في الوجه الأول إن القصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول صلى الله عليه وسلم فله تركه إذا عبر عن نفسه وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف
فيقال له هذا من جهلك فإن التعبير عن المعاني بالألفاظ يتعلق باللغة ليس هذا من الحقوق ولا له مدخل في هذا بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه فإن كان اللفظ نصا أو ظاهرا حصل المقصود وإن كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح و الآخر فاسد تبين المراد وإن كان اللفظ يفهم منه معنى فاسد لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنى فاسدا لم يخاطب بذلك اللفظ إذا علم أنه يوهم معنى فاسدا لأن المقصود بالكلام البيان و الإفهام و أما إذا كان اللفظ دالا على المراد
____________________
(2/702)
و جهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم فالدرك على المستمع لا على المتكلم
وقوله إذا خالف موجب الأدب كفرناه
فيقال له كلا المقدمتين باطلة دعواك مخالفة موجب الأدب و دعواك كفر
و أما إخبارك عن نفسك أنك تكفره بما تعتقده إنه مخالف للأدب فأنت صادق في خبرك عن اعتقاد الباطل و جهلك المعروف كما يصدق الروافض إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لأبي بكر و عمر و عثمان و كما يصدق الخوارج إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لعثمان و علي و كما يصدق الكفار إذا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كاهن و مجنون و معلم و مفتري فهذا صدق يضر قائله لا يضر المقول له قال تعالى { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم }
لكن اعتقادك كفر من هم أعظم الناس إيمانا بالله و رسوله لا
____________________
(2/703)
يضرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ) كنت أحق بالكفر إلا أن تعذر بالتأويل وفي الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لا يرمي رجل رجلا بالكفر و الفسوق إلا ردت عليه إذا لم يكن لذلك أهلا ) )
وقوله في الوجه الثاني إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للنبي صلى الله عليه وسلم فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أقواله وأفعاله وغيره ليس كذلك
فيقال هذا مبني على صدور عبارة موهمة وقد تقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها بل نص لا يحتمل معنيين فضلا عن كونها توهم غير ما أريد بها
____________________
(2/704)
وأيضا فغير الرسول صلى الله وعليه وسلم إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام
وأيضا فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
ثم غاية هذا أن يكون بحثا لفظيا والبحوث اللفظية لا توجب خلافا معنويا فضلا عن التكفير اللهم إلا على قول هذا الجاهل إن المتكلم إذا عنى معنى صحيحا بعبارته وتوهم منها بعض الناس نقصا كان ذلك كفرا وهذا لا يقوله إلا من انسلخ من العقل والدين لا سيما إذا كان التقصير إنما هو من المستمع لا تقصير في عبارة المتكلم
ثم يقال هذا كله ليس مما نحن فيه فإن ما ذكره المجيب لا يحتاج إلى هذا ولا يتوقف على نقل عبارته بعينها بل تلك المعاني بائنة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة سواء كان اللفظ بعينه منقولا أو لم يكن والتعبير عن تلك المعاني شائع بما يدل عليها دلالة بينة كالدلالة على سائر المعاني
____________________
(2/705)
ومما يجب معرفته أن الأسماء والألفاظ التي تعلق بها الأحكام الشرعية من الأمر والنهي والتحليل والتحريم والاستحباب والكراهة والمدح والذم والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة هي الألفاظ الموجودة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ومعاني تلك الألفاظ وذلك مثل لفظ الإيمان والإخلاص والعبادة والكفر والشرك والهدى والضلال والرشاد والغي والعبادة والتوكل والشكر والصبر والنبوة والرسالة والتوكيل ونحو ذلك فأما الألفاظ التي لم توجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تعلق لها بشيء من ذلك إلا إذا تبين أن معانيها موافقة لمعاني ألفاظ الكتاب والسنة
والله تعالى في كتابه وسنة رسوله قد أوجب لنفسه حقا لا يشركه فيه غيره وأوجب حقا له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخشاه ونتقيه فصل
قال وبالجملة فللأنبياء مع أنفسهم وفيما بينهم عبارات ومخاطبات ومعاملات لا يقاس بها معه من دونهم ألا ترى ما في
____________________
(2/706)
الحديث الصحيح في محاجة موسى لآدم وذكر أشياء في روايات ساقها مسلم منها قوله أنت آدم الذي أغويت الناس و أخرجتهم من الجنة و منها قوله أنت أبونا خيبتنا و أخرجتنا من الجنة الحديث و ليس لواحد منا أن يقول في آدم صلى الله عليه وسلم ولا أحد من النبيين مثل ذلك القول ولا قريب منه و كيف لطم موسى عين ملك الموت عليه السلام و أثبت بعض العلماء أنه لطم حقيقة
و روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا
____________________
(2/707)
ثلاث كذبات ) ) الحديث مع أن الثلاث وجه المجاز فيها ظاهر صحيح قوله إنه سقيم باعتبار الاستقبال ولا بد لكل بشر أن يسقم غالبا ولو بمقدمات الموت مع جواز إطلاعه على ذلك أو بتأويل القائلية
وقوله بل فعله كبيرهم هذا وجه المجاز أنه سبب للتكسير الذي وقع لما فيه من التصوير المنكر أو هو تهكم يؤيده قوله فاسألوهم
و أما الكلمة في سارة فقد صرح بالمعنى إذ قال لها أخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام
و حديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضا بما يرونه خلاف الأدب منهم وكل هذه الأمور لا ينقاس بها معهم من دونهم فربما كان الشيء من المثيل أو المساوي أدبا أو أمرا محتملا ولا يكون ممن دونه كذلك فليحفظ الناظر مواقع الحكمة في أحكام المراتب في الأشخاص و الأفعال و الأقوال و سائر الأحوال
و الجواب من وجوه
____________________
(2/708)
أحدها أن يقال هذا الكلام لا يدل على مورد النزاع فإن أحدا لم يقل إن حكم النبي مع النبي أو مع الملك حكم من هو دونه ولا حكم بعض الأنبياء حكم بعض بل ولا الملائكة
قال تعالى { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وقال تعالى عن الملائكة { وما منا إلا له مقام معلوم } وقال تعالى { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }
ولكن ليس في ثبوت فضيلتهم على من دونهم وعدم مساواتهم لهم في كل شيء أنهم لا يشاركونهم في شيء من الأحكام بل الأصل عند جماهير السلف و الخلف أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام ثبت في حق الأمة ما لم يقم دليل التخصيص فما وجب عليه وجب عليهم وما أبيح له أبيح لهم إلا أن يقوم دليل على التخصيص ولهذا قال تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج } الآية فبين أن في تزويجه بامرأة دعيه من الحكمة رفع الحرج عن المؤمنين في تزويجهم بنساء أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا
____________________
(2/709)
ولولا أن الإحلال له يستلزم الاستحلال للأمة لم يرتفع الحرج بمجرد ذلك ولهذا لما خصه بإحلال شيء قال { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } فجعل إباحة الواهبة نفسها له خالصة له من دون المؤمنين
ومن هذا ما ثبت في الصحيح أنه بلغه أن قوما تنزهوا عن أشياء فعلها فقال ( ( والله إني لأخشاكم لله و أعلمكم بحدوده ) )
____________________
(2/710)
____________________
(2/711)
وفي حديث آخر أن رجلا قال ويلتنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل الله له ما يشاء فغضب من ذلك وقال ( ( إني لأتقاكم لله و أعلمكم بحدوده ) )
____________________
(2/712)
لأن هذا ونظائره متعددة وهذا الأصل متفق عليه بين أئمة الإسلام ولكن قد يقال نفس الخطاب له أو للواحد من الأمة خطاب عام للعادة الشرعية في ذلك أو يثبت الاشتراك بالاعتبار بأدلة أخرى أو ذلك معلوم بالاضطرار من الدين هذا مما تنازع فيه أهل النظر وإذا كان كذلك فما يثبت جوازه له من الأقوال يثبت جوازه لغيره ما لم يقم دليل المنع وما ذكره من مطلق التفصيل ليس دليلا على المنع باتفاق المسلمين
الوجه الثاني أن يقال خبره عن نفسه وغيره سواء كان نفيا أو إثباتا وما أخبر به فهو صدق يجب تصديقه ومن أخبر به كان صادقا داخلا فيمن جاء بالصدق وصدق به
ومن قسم أخباره إلى ما لنا أن نخبر به وما ليس لنا أن نخبر به فقد قال قولا مبتدعا لا دليل له عليه بل هو معلوم البطلان ثم إنه لا يمكنه أن يذكر حدا فاصلا بين ما يجوز موافقته فيه من الأخبار وما لا يجوز
____________________
(2/713)
بل لا يشاء كل جاهل وضال أن يقول فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من الأخبار التي ليس لنا أن نخبر بها بحال يبديه إلا ادعى ذلك حتى سد على الناس أن يخبروا بالأخبار الصادقة التي أخبروا بها وقد يتعدى ذلك إلى الأمر فيقول ليس كل ما أمر به يؤمر به من غير تفصيل معلوم بدليل الشرع
وحينئذ فإذا لم يقم يخبر بخبره ويأمر بأمره كان ذلك ذريعة إلى إبطال كثير من رسالته ونبوته وهذا فيه من الكفر وإبطال دينه ما هو من اعظم الردة عن دين الإسلام وليس هذا بمنزلة سوء الأدب في الخطاب بل هذا كفر صريح وردة عن الإسلام وهذا لازم لهؤلاء الجهال فإن قولهم يستلزم الردة عن الدين والكفر برب العالمين
ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله تعالى الذي هو الكفر الذي لا يغفره الله تعالى فإن الله تعالى قال في كتابه
____________________
(2/714)
{ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا }
وقال غير واحد من السلف هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم
وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير وقصص الأنبياء كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث وكما ذكره مصنفو القصص مثل وثيمة وغيره
وقد أمره الله تعالى أن يقول { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } فيقول الضال هذا يقوله هو عن نفسه وأما نحن فليس لنا أن نقول هو بشر بل نقول كما قال فلان وفلان من
____________________
(2/715)
زعم أن محمدا بشر كله فقد كفر وهذا يقوله قوم منهم وهو تشبه بقول النصارى في المسيح يقولون ليس هو بشر كله بل المسيح عندهم يتناول اللاهوت والناسوت الإلهية والبشرية جميعا وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت في الأنبياء والصالحين كما تقوله النصارى في المسيح
الوجه الثالث أن يقال مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا فإن ما نفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين وهو أنهم لا يطلب منهم بعد الموت شيئا ولا يطلب منهم في الغيبة شيئا لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله عز وجل وهذا كله معلوم
____________________
(2/716)
وكذلك لفظ الاستجارة وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك
الوجه الرابع أنه ليس فيما ذكره حجة على أن ما يسوغ للأنبياء لا يسوغ لغيرهم فإنه إنما ذكر خطاب موسى لآدم ولطم عين ملك الموت
فيقال له
أولا هل هذا سائغ لغير موسى من الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم والمسيح وغيرهما أم ليس سائغا
وإن ساغ لهؤلاء فهل يسوغ هذا لداود وسليمان ويونس وغيرهم
فإن قال نعم هذا سائغ لهؤلاء كلهم طولب بدليل ذلك ولا يمكنه على هذا التقرير منع جوازه لغيرهم إلا أن يذكر دليلا خاصا على أن هذا من خصائص الأنبياء وليس له على ذلك دليل
وإن قال لا يسوغ هذا لنبي آخر ولا يسوغ لنبي معين من الأنبياء
____________________
(2/717)
قيل فحينئذ فلا حجة لك فيه على أنه لا يقتدى بالأنبياء فيما يسوغ لهم فإن هذا حينئذ ليس مما يسوغ لكل الأنبياء وما خص به بعض الأنبياء لم يعتد به غير الأنبياء بطريق الأولى وحينئذ فلا يكون هذا من موارد الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء بل من موارد الفرق بين نبي ونبي
ومن الناس من يقول إن موسى عليه السلام كان يحتمل منه ما لا يحتمل من مثل يونس كجر رأس هارون ولحيته وإلقاء الألواح ولطم عين ملك الموت ومعاتبة ربه ليلة المعراج في رفع محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك لما كان له من عظيم المجاهدة مع فرعون وقومه ولما
____________________
(2/718)
كان له من عظيم المنزلة عند ربه عز وجل وحينئذ فإذا كان هذا سائغا لبعض الأنبياء ولا يسوغ لهم كلهم لم يكن مما نحن فيه
الوجه الخامس أن يقال الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء قولان
فالسلف و الأكثرون يقولون بجواز ذلك وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه
وكثير من الناس منع ذلك بالكلية
وكل من الفريقين يقول إنه قد يخص بعض الأنبياء بأمر لا يشركه فيه جميع الأنبياء والمؤمنين وحينئذ فقول موسى لآدم ما قال إما
____________________
(2/719)
يكون مما أقر عليه أو لا يكون مما أقر عليه
فإن قيل بالأول وقيل إنه مختص به أو بأمثاله من الرسل فلا كلام
وإن قيل إنه سائغ لجميع الأنبياء فلا بد من دليل على أنه من خصائصهم وإن قيل إنه لم يقر عليه وهو الأظهر فإن آدم أجابه عن ذلك وبين له أن هذا الذي جرى عليكم كان مقدورا عليكم ومكتوبا عليكم فحج آدم موسى
وإذا كان موسى محجوجا كان موسى قد عرف أنه لا حجة له على آدم وأن لم يكن له أن يعاتبه على ذلك فيكون موسى رجع عن هذا وما رجع عنه النبي وما لم يقر عليه لم يقتد به باتفاق المسلمين
____________________
(2/720)
كالمنسوخ وأولى
وكذلك لطمه لملك الموت إن كان مأذونا له فيه أو معفو عنه وهو من خصائصه أو من خصائص الرسل فلا كلام فيه
وإن قيل إن هذا سائغ للأنبياء كلهم فلا بد من دليل الاختصاص بالأنبياء
وأما إن قيل إن موسى رجع عن تلك اللطمة لما اختار الموت وأجاب إلى ما طلب منه الملك من إجابة ربه كان هذا مما رجع عنه موسى ومثل ذلك ليس مما يقتدى فيه بالأنبياء وذلك أن موسى لطمه بغضا للموت فلما رجع إليه وخيره بين أن يضع يده على متن ثور فما وارت يده من شعره فإنه يعيش بعدده سنة وبين الموت اختار الموت
الوجه السادس أن قول موسى إن آدم أغوى الناس
____________________
(2/721)
وأخرجهم من الجنة وإنه خيبهم وأخرجهم من الجنة إما أن يقول إنه صدق وإما أن يقول لم يكن كذلك وإنما قال باجتهاد وتأويل
فإنه صدق لا خطأ فيه قيل فمن الذي منع غير موسى أن يقول الصدق الذي لا خطأ فيه
وقول القائل ليس لواحد منا أن يقول الصدق الذي لا خطأ فيه الذي قاله الأنبياء دعوى مجردة لا يثبت بها حكم ولكن صاحب هذا الكلام يتكلم بحاله وما يخطر له من غير اعتصام بالأدلة الشرعية
وإن قيل إن موسى عليه السلام قاله مجتهدا متأولا ولم يكن الأمر كذلك أو قال بحسب اعتقاده ولم يكن الأمر كذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لم أنس ولم تقصر الصلاة ) ) فإنه قال معتقدا أنه أتم الصلاة فقال له ذو اليدين بل قد نسيت فقال أكما قال ذو اليدين
____________________
(2/722)
قالوا نعم
وكذلك لما قال في النخل ما أظنه يعني التلقيح يغني شيئا ثم قال لهم إنما أخبرتكم عن ظني فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله تعالى
وفي لفظ أنتم أعلم بأمر دنياكم وأما ما كان من أمر دينكم فإلي
وأما لطم موسى عين ملك الموت فليس هو إخبار نبي وإنما هو فعل من الأفعال فليس مما نحن فيه
____________________
(2/723)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ) ) فيقال له أتقول إنه لا يجوز لنا أن نصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال ( ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ) ) بالمعنى الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء كان أم ليس لنا ذلك
فإن قلت لنا ذلك بطلت حجتك وإن قلت ليس لنا أن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى كان هذا ممنوعا وهو من جملة ما يرد عليك وإن لم يذكر عن ذلك حجة بل ولا نقله هذا عن إمام من أئمة المسلمين ونحن قد ذكرنا دلاله الكتاب والسنة والإجماع عن الأخبار الصادقة التي أخبرت بها الأنبياء نفيا وإثباتا لنا أن نخبر بها كما أخبروا بها
الوجه السابع أن يقال هذه الكلمات هي من باب المعاريض والمعرض يقصد معنى والمستمع يفهم غيره والكلام مبدأه
____________________
(2/724)
عناية المتكلم ومنتهاه إفهام المستمع فالمعرض إذا عنى حقا والمستمع فهم باطلا كان الكلام صدقا باعتبار العناية كذبا بإعتبار الإفهام ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه لمثل البيع والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق ويجوز للمظلوم التعريض في الأيمان وغيرها
وأما من ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره قيل يجوز له التعريض وقيل لا يجوز مع اليمين ويجوز بدونها
____________________
(2/725)
فقول إبراهيم عليه السلام إني سقيم قيل أراد سقيم القلب من كفركم
وقوله أختي أراد أختي في الدين كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث الصحيح حيث قال فإنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك
وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } قيل إنه قصد تعليقه بالشرط وهو قوله { إن كانوا ينطقون }
ومن هذا قول نائب يوسف { إنكم لسارقون } فإن يوسف
____________________
(2/726)
أمره بالنداء لكن مراد يوسف سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه
وما ذكره هذا الذي يلبس الحق بالباطل كحاطب ليل من التأويلات ليس مما ينبني عليه مسألتنا فإنه ليس في شيء من ذلك أنه لا يجوز أن يخبر بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى والناس قد ذكروا هذه التأويلات وغيرها فتأويل المتأول إني سقيم أي سأسقم إما لأن الظاهر مرضه أو لإطلاعه على ذلك هو تأويل وقول غيره أريد سقيم القلب تأويل ثان وهو أقرب من كون الصفة الحاضرة والأول أقرب من كون السقم أراد به البدن لكن يقال استعمال السقم والمرض في سقم القلب ومرضه هو حقيقة بخلاف قوله { إني سقيم } بمعنى وإني سأسقم فإن هذا لا يفهم إلا بقرينة فيكون ذلك التأويل أولى
وأما التأويل الآخر بمعنى القابلية فبعيد فإن الموجود لا يوصف
____________________
(2/727)
بكل ما يقبله من المعدومات إذا لو كان كذلك لجاز أن يقال عن كل مخلوق إنه معدوم وعن كل مؤمن إنه كافر وعن كل كافر إنه مؤمن وعن كل غني إنه فقير وعن كل عفيف إنه فاجر وعن كل سليم إنه أشل وأقطع
والتأويلان المذكوران في قوله { بل فعله كبيرهم هذا } أن الأكبر سبب للتكسير تأويل فاسد فإن السبب في كل منكم قام به من التصوير لا سيما قوله { بل فعله كبيرهم } يقتضي أنه لم يفعله إلا كبيرهم فلا يكون السبب إلا التصوير الذي قام به وهذا باطل قطعا فإن التصوير القائم بكل صنم موجب لكسره لا يحتاج إلى تصوير صنم أكبر منه وأما التهكم فهو أحسن
وكذلك قوله من قال إنه نوى التعليق بقوله { إن كانوا ينطقون } وقوله وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضا بما يرونه خلافا للأدب منهم فهذا كلام متناقض وهو كلام من نظر في كلام شارحي
____________________
(2/728)
الحديث ولم يميز بين حق ذلك و باطله وأخذ من ذلك ما ظنه موافقا لدعواه فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها ولا له معرفة بطرق الاستدلال فلا ذاكر لكلام منقول ولا مبين لمعنى مقبول ولا نقل ولا توجيه لا ذكر ولا أثر
والعلم شيئان إما نقل مصدق وإما بحث محقق وما سوى ذلك فهذيان مسروق وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم من الهذيان وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده ومنه ما لا ينقله على وجهه ومنه ما يضعه في غير موضعه
وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه فمن العجائب لا
____________________
(2/729)
يحقق جنس الأدلة حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان ولهذا كان أصول الفقه مقصوده معرفة الأدلة الشرعية جنس الدليل ومرتبة الدليل وهذا فيه كناية الخلاص من كناية تراد الحق أدنى إلى الخلاص كناية تراد وقد قيل إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبقه إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد ولا هي
____________________
(2/730)
من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول
فأنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة انه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا يغيرها كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام
وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين وكان هذا وأمثاله في ناحية
____________________
(2/731)
أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم وقال بعض الشعراء ** يا خائفين من التتر ** لوذوا بقبر أبي عمر **
أو قال
____________________
(2/732)
** عوذوا بقبر أبي عمر ** ينجيكم من الضرر **
فقلت لهم هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة الله عز وجل في ذلك ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا وإن كثيرا من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتالا شرعيا أجروا على نياتهم فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال تعالى يوم بدر { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم }
____________________
(2/733)
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر يقول ( ( يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث ) )
____________________
(2/734)
____________________
(2/735)
وفي لفظ أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
____________________
(2/736)
____________________
(2/737)
فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ونحن نتكلم على ما ذكر وإن لم يختص بمسألتنا لما
____________________
(2/738)
فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله
أما حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام فإن هذا الحديث فهم منه كثير من الناس المتقدمين والمتأخرين أن آدم احتج بالقدر على فعل الذنب فصاروا أحزابا
حزب من أهل الكلام كذبوا بالحديث كأبي علي الجبائي وغيره وقالوا نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن سابق علم الله وكتابه لا يكون حجة لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور وهذا يناقض ذلك فيكون كذبا على النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/739)
وحزب من الصوفية والعامة شر من هؤلاء جعلوا هذا الحديث حجة على دفع الذم والعتاب عن الكفار والفساق والعصاة وسموا هذا حقيقة وهو حقيقة القدر
وقال منهم طائفة من شهد القدر ارتفع عنه الملام وقالوا آدم كان شاهد القدر
ودخل في ذلك طائفة من أعيان الشيوخ والعلماء فظنوا أن الخواص يرتفع عنهم الذم والعتاب بشهود القدر دون العامة
ومنهم من قال هذا عين الجمع وهو أن لا يرى الفاعل إلا واحدا
ومنهم من جعل هذا من أفضل مقامات العارفين ومن لوازم سلوك السالكين
ومنهم من جعل هذا منتهى سير العارفين وسموا ملاحظة هذا فناء في توحيد الربوبية أو اصطلاما ونحو ذلك
____________________
(2/740)
فالذين جعلوا هذا منتهى للوصول رفعوا استحسان الحسنات واستقباح القبائح وقالوا استحسان الحسنات واستقباح السيئات يكون لأصحاب البقاء والفرق لا لأهل الجمع والاصطلام والفناء في التوحيد
والذين جعلوه مقاما أو لازما للسالك فقالوا بعد هذا مقام أعلى منه وهو مشهد الفرق الثاني وقد كان بين الجنيد وأبي حسين النوري وأصحابهما كلام في الفرق الثاني واضطربوا كما ذكر ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في كتاب طبقات النساك وذكر أن كلامهم في الفناء والجمع لم يشتركوا فيه إلا في العبادة وأن هذا يشير إلى معنى غير المعنى الذي يشير إليه هذا وأنه لم يحصل ما يعبر عنه بالفرق الثاني
____________________
(2/741)
وذكر أن أبا الحسن النوري لما قدم بغداد بعده أن كان خرج عنها وكان قد خرج هو وغيره في محنة الصوفية التي جرت لما قام عليهم غلام خليل سنة بضع و ستين و مئتين و كتب منه نحو سبعين نفسا و اتهمهم بالزندقة فوضعوا منهم جماعة في الحبس و سافر بعضهم و اختبأ بعضهم وكان فيهم من هو مظلوم و منهم من هو متعبد وكان غلام خليل فيه عبادة وزهد وفيه نوع قلة معرفة أيضا ولهذا يقال إنه كان يضع الأحاديث في الفضائل وهذا قد بسطه أبو سعيد بن الأعرابي وغيره ذكر ذلك مختصرا
وذكر أبو سعيد أن النوري لما رجع سأله أصحاب الجنيد عن الفرق الذي بعد الجمع ما علامته وما الفرق بينه وبين الفرق الأول
قال فسألوه عن هذا المعنى لا أدري بهذا اللفظ أم بغيره إلا أني قد حفظت المعنى و أثبته
____________________
(2/742)
قال و كنت إذا مررت به بالرقة سنة سبعين قال من بقي من أصحابنا فأخبرته فسألني عن جماعة ثم سألني عن الجنيد وما يتكلم فيه ومن يجتمع إليه فأخبرته وقلت إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني و الصحو فقال لي اذكر لي شيئا منه فذكرت له بعض ما كنت أظنه فضحك ثم قال لي أي شيء تقول في هذا ابن الجلحي فقلت ما أجالسهم فقال فأبوا أحمد القلانسي فقلت مرة يوافقهم وربما خلافهم إلى معاني الجمع فقال أي شيء تقول أنت فقلت ما عسى أن أقول أنا ولكن ما تقول في هذا يا أبا الحسين فإني أحب أن أسمع منك في هذا خاصة شيئا فقال لا أو تقول أنت فتحملني حرصي على أن أسمع منه إن قلت أن قلب ما كان عندي في ذلك الوقت أنا أحسب يا أبا الحسين أن هذا الذي يسمونه فرقا ثانيا هو عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع و إنما هو أحد
____________________
(2/743)
عيون الجمع فقال هو كذلك أنت إنما سمعت هذا من أبي أحمد القلانسي فأخبرته أني ما سمعته من أبي أحمد فلما قدمت بغداد حدثت أبا أحمد بذلك
وقد كان أبو أحمد يعارضه بذلك ولا يقطع به وربما وافقهم فأعجبه قول أبي الحسين وكذلك كان عند أبي الحسين
فأما أبو أحمد فربما قال هو صحو و خروج عن الجمع وربما قال هو شيء من الجمع
ثم قال أبو الحسين ببغداد لما شاهدهم ليس هو عين من عيون الجمع ولا صحوا من الجمع وفرقا ثانيا ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون و حملوا الشيء على عقولهم فهم يسددون بجهلهم ليس معهم مما يذكرون إلا هذا العلم وهذا الوصف و كأنهم قد اصطلحوا عليه وكان يومئ إلى أنهم يتكلمون من غير حقيقة و إنما هو شيء يأخذه بعضهم عن بعض فيزيد بعضهم من بعض بقدر فصاحتهم في العبارة دون
____________________
(2/744)
الحقيقة ولهذا كان قوله أول ما قدم بغداد
قال أبو سعيد ثم باتوا معه ليلة لم أكن معهم كان ابن عطاء وريم فأقبل ابن عطاء يسأله فإذا أصابه بشيء عكسه عليه ابن عطاء ثم يسأله عما ينشئه فإذا أجابه قال هذا ضد الجواب الأول يا أبا الحسين قياسا و تشبيها فكان منه إليه كلام فيه جفاء وكذلك فعل أيضا فقالوا إنه يقول الشيء و ضده ولا يعرف هذا القول سوفسطا ومن قال بقوله وكان بينهم وحشة بذلك وكان يكثر منهم التعجب وقالوا للجنيد ذلك فأنكر عليهم حينئذ وقال لا تقولوا مثل هذا لأبي الحسين ولكنه رجل به علة قد تغير دماغه ثم إنه انقبض عن جميعهم بعد تلك الليلة و أظهر لمن اتهمه منهم الجفاء و ترك مجالستهم ثم غلبت العلة و ذهب بصره ولزم الصحاري و الجبانات و المقابر وكانت له في ذلك أحوال طويلة كثيرة يطول شرحها و ذكرها
قال ولم أحضره عند موته وكان جماعة من أصحابنا يقولون من
____________________
(2/745)
رأى أبا الحسين بعد قدومه الرقة ولم يكن رآه قبل ذلك فكأنه لم يره لتغيره بعد قدومه إلا أنه مات وهم عنده يتكلون في شيء سكوتهم عنه أولى بهم لأنه ليس شيئا عندهم يعرفونه و إنما يتوهمون فيتكهنون فيه و يتعسفون بطولهم وقد كانوا عند غير قبره ممن لا أسميه كذلك قال أبو سعيد فإذا كان أولئك كذلك فكيف بمن حدث بعدهم ممن أخذ عنهم
قال و منعني من الطبقة التي كانت بعد هؤلاء أشياء كثيرة إلا أن جملة ذلك و إن كانوا قوما صالحين فاضلين فما يدرون ما كان يقول أولئك في هذه المعاني التي أشرنا إليها ولا ما كانوا يشيرون إليه إلا بالتوهم و البلاغات و ذكر كلاما طويلا
قلت الصوفية بعد هؤلاء هم على هذا الاضطراب
منهم من قال بالفرق الثاني كالجنيد و أصحابه و هؤلاء هم المصيبون المسددون
و منهم من نفاه
و منهم من تردد فيه
____________________
(2/746)
و منهم من قال إنه أكبر من المتكلم فيه و سبب ذلك أن الإنسان يشهد أولا الفرق حسه و عقله و هواه من غير نظر إلى أن الله خالق كل شيء وهذا هو الفرق الأول فإذا توجه إلى الله رأى أن الله تعالى خالق كل شيء وربه و مليكه كل ما في الوجود بمشيئته و قدرته وهذا شهود صحيح بحيث يغيب عن نفسه وعن غيره و يفنى بمشهوده عن شهوده و بمذكوره عن ذكره و بمعروفه عن معرفته فلا يبقى ناظرا إلا إلى توحيد الربوبية وهو أن الله خالق كل شيء
و هذا المشهد ليس فيه تفريق بين المأمور و المحظور ولا بين المعروف و المنكر ولا بين أوليائه و أعدائه ولا بين المؤمنين والكفار ولا بين ما يلائم الإنسان و ما يخالفه وهذا لا يتصور أن يدوم بقاء العبد فيه فإن نفسه لا بد أن تفرق بين ما يلائمها وبين ما يضرها كما تفرق بين الخبز و التراب وبين الماء و البول لكن من قال بأن الفناء هو الغلبة منهم من جعل ذلك نزولا من العبد من عين الجمع إلى الفرق و منهم من يقول بل القيام بالفرق هو لصلاح العامة لا لنفسه و منهم من يسمي هذا تلبيسا ويقول هذا للأنبياء وربما قال الفرق لأجل المارستان يصلح به العامة الذين هم كالمجانين
قد يقول هؤلاء الكمال أن يكون الجمع في قلبك مشهودا
____________________
(2/747)
و الفرق في لسانك موجودا و أن يكون باطنك حقيقة و ظاهرك شريعة
و منهم من يقول الفرق بين هذه الأشياء الضرورية التي لا بد منها للإنسان بخلاف غيرها
و منهم من يقول هذا الفناء و الاصطلام ليس هو الغاية بل هو مقام عال لا بد للسالك من سلوكه إياه ومن لم يقم فيه لم يصل إلى حقيقة المعرفة
وهذا غلط فإن هذا من عوارض الطريق لا من لوازمه فإن حاصله عدم شهود الحقائق على ما هي عليه وهذا نوع من نقص الشهود و العلم و رؤية الأمر على ما هو عليه
ولكن يعرض لبعض المتوجهين إذا رأى أن الله خالق كل شيء يجمع في رؤيته هذا ولم يشهد الفرق فإنه سبحانه و إن خلق الأشياء كلها بمشيئته و قدرته فقد أمر بطاعته و نهى عن معصيته وهو
____________________
(2/748)
يحب ما أمر به و يبغض ما نهى عنه وهذا هو الفرق الشرعي ليس هو الفرق الطبعي وهذا الفرق فرض على كل مسلم لا يكون مؤمنا إلا به وصاحب هذا يشهد أن لا إله إلا الله فيعلم أن الله تعالى هو المعبود دون ما سواه و أنه أرسل الرسل يأمرون الناس بطاعته و ينهونهم عن معصيته
ومن لم يشهد هاتين الشهادتين لم يكن مسلما وأما مجرد رؤية الله خالق كل شيء فهذا ما كان يقر به المشركون عباد الأصنام فمن وقف في الجمع لا يفرق بين مأمور و محظور لم يكن مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله تبارك وتعالى لكن هؤلاء يقولون نحن نثبت الفرق العائد إلى حظ الإنسان بأن فعل المأمور سبب للثواب وفعل المحذور سبب للعقاب و الثواب و العقاب حظ للعبد و الكامل
____________________
(2/749)
الخالي عن حظوظه الذي لا يريد إلا ما يريد ربه هو صاحب الفناء وهو الذي لا يستحسن حسنته ولا يستقبح سيئته فالفرق لا يعود إلى الله تعالى ولا إلى صاحب الفناء
و أصل غلط هؤلاء أنهم لم يثبتوا لله تعالى إلا الإرادة العامة المتناولة لكل مقدور
و معلوم أنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق سببا بالنسبة إلى الله تعالى لكن هذا غلط من المثبت لملة إبراهيم ودين الرسل كما بسط في غير هذا الموضع
و كثير من هؤلاء التبس عليهم هذا الموضع وهم متناقضون فيه فإن الجمع العام لا يتصور أن يقوم فيه أحد دائما بل لا بد أن كان مسلما أن يوجب ما أوجبه الله و رسوله و يحرم ما حرمه الله و رسوله وإلا لم يكن مسلما فلا بد من فرق بحسب دينه و إن لم يكن له دين فرق بحسب هواه وطبعه فمن لم يفرق فرقا رحمانيا فرق فرقا نفسانيا و شيطانيا
____________________
(2/750)
ومن لم يفرق فرقا شرعيا فرق فرقا طبعيا
وقول أبي سعيد بن الأعرابي ومن وافقه إن هذا الفرق عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع وإنما هو أحد عيون الجمع يعني به و الله أعلم أن شاهد الفرق ما أمر الله به و نهى عنه مع مشاهدته لذلك و توحيد الإلهية بأن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و محبته لما أمر الله به و بغضه لما نهى الله عنه فهو يشهد أن الله رب ذلك كله و أنه الذي جعل المسلم مسلما و جعل آل إبراهيم أئمة يدعون إلى الخير و آل فرعون أئمة يدعون إلى النار فهو في هذا الفرق يشهد الجمع و يشهد مع ما قام بقلبه من الفرق بين المأمور و المحظور أن الله خالق كل شيء و ربه و مليكه و أنه هو الذي جعله يعبده و يطيعه وهو المان عليه بذلك لا يكون كمن يشهد الفرق بين الطاعة و المعصية ولم يشهد أن الله هو الذي من عليه بالطاعة ويسرها عليه فشهوده الجمع بلا فرق يورث تعطيل الأمر و النهي حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة و شهود الفرق بلا جمع يورث تعطيل التوكل
____________________
(2/751)
و الشكر و يورث العجب و تعظيم النفس و كلاهما نقص عما تحت الجمع من عبودية الله تعالى ومن تحقق قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فلا بد من الفرق في عين الجمع ومن الجمع في شهود الفرق
و أيضا فإن الله تعالى مع خلقه لكل شيء بمشيئته و قدرته فهو يحب ما أمر به و يرضاه و يبغض ما نهى عنه و يسخطه فلا بد مع شهود المشيئة العامة من شهود المحبة و الرضى الخاص و كثير من الناس القدرية و الجهمية الجبرية ومن دخل معهم في التصوف جعلوا الإرادة نوعا واحدا و جعلوها هي المحبة و الرضى
قالت القدرية و الله لا يحب الكفر و الفسوق و العصيان فيكون في ملكه ما لا يشاء ولم يخلقه
وقالت الجهمية بل كل ما وقع فهو بمشيئة الله تعالى
____________________
(2/752)
و المشيئة هي الإرادة وهي المحبة و الرضى فكل ما وقع فإنه يحبه و يرضاه ولكن يريد ويحب و يرضى المأمور به مأمورا به دينا يثيب عليه ويريد و يحب و يرضى المنهي عنه منهيا عنه معاقبا عليه
فالفرق بينها يعود إلى أنه يريد ويحب ويرضى أن ينعم هؤلاء ويعذب هؤلاء من غير فرق يعود إليه ولا يحب بعض المخلوقات ويبغض بغضا كما لا يشاء بعضها دون بعض فعنده لا يحب بعض المخلوقات دون بعض
والجهمية الجبرية والقدرية المعتزلة ومن وافقهم مشتركون في أنه ليس بين المأمور والمحظور فرق يعود إلى الرب تعالى والقائلون بالجمع من غير فرق يشاركون هؤلاء ورأوا أنه لا فرق بالنسبة إلى الرب تعالى ولكن الفرق يعود إلى العبد من حيث إن أحد العملين يقتضي حصول لذة له والآخر يقتضي حصول ألم له وهذا من حظوظ العباد
ثم قال غلاة هؤلاء وهذا الفرق من العبد نقص لأنه فرق يعود إلى نفسه فالعبد له سعي في حظ النفس وأما الكمال فهو أن يفنى
____________________
(2/753)
العبد بمراداته جملة ولا يبقى له حظ و أن لا يشهد إلا ربه و إرادة الرب عز وجل عندهم هي المشيئة المتناولة لكل شيء وهي المحبة و الرضى عندهم ولهذا قالوا إنه حينئذ لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة
و معلوم بالاضطرار من دين الرسل أن هذا ليس بمجرد ولا حال الأنبياء و الأولياء بل هم متفقون على استحسان ما أحبه الله تعالى واستقباح ما نهى الله عنه و الحب في الله و البغض في الله و ذلك أوثق عرى الإيمان
فصار العالم منهم بخلق الله تعالى و أمره و شرعه وقدره الذين يفرقون بين مشيئة الله و محبته و رضاه كالجنيد و نحوه يقولون بالفرق الثاني و الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني و آخرون يترددون فتارة يشهدون المشيئة العامة فقط ولا يقولون بالفرق و تارة يثبتون محبة الله تعالى و رضاه فيقولون بالفرق الثاني
____________________
(2/754)
و القول بهذا الفرق لا ينافي الجمع العام فإن مشيئة الله تعالى متناولة لكل شيء وما وجد شيء محبوب أو مكروه فالمشيئة متناولة له فلهذا صار منهم من يقول إن هذا الفرق عين من عيون الجمع و إن أحدا لا يخرج من الجمع الذي هو المشيئة العامة فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن و إنما يرى الخروج من هذا المعتزلة و نحوهم من المكذبين بالقدر القائلين أن يكون في ملكه ما لا يشاء و أنه لا يقدر على هدى ضال ولا ضلال مهتد و نحو ذلك
و هؤلاء ضلوا في مسألة القدر كما ضلت بها المعتزلة فالمعتزلة كذبوا بالقدر رعاية للأمر و النهي و هؤلاء أبطلوا الأمر و النهي رعاية للقدر
وهؤلاء يحتجون بقصة آدم و موسى و احتجاجهم عليه بالقدر
____________________
(2/755)
وهو حجة داحضة فإن الله قد عاتب إبليس و أهبط آدم من الجنة وأهلك قوم نوح و عادا و ثمود و غيرهم ولو كان القدر عذرا لم يعاقب كافرا و آدم تاب من الذنب فلو كان محتجا بالقدر لم يتب
و صار آخرون يتكلمون على حديث موسى بتأويلات فاسدة كقول بعضهم إن هذا الاحتجاج كان في غير دار التكليف كما ذكره هذا الضال
فيقال لهؤلاء الإحتجاج بالقدر لا يسوغ في دار تكليف ولا غيره فإنه قول باطل وقول الباطل لا يسوغ بحال
و أيضا فموسى قد لام آدم فكيف يقع الملام في غير دار تكليف و تناظرا و تحاجا و دار السلام منزهة عن الحجاج و الخصام
وقال بعضهم إنه كان أباه فما كان ينبغي له لوم أبيه
____________________
(2/756)
وقال بعضهم كان تائبا و التائب لا يلام
وقال بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى
و هذا كله باطل فإن الحديث فيه أن آدم احتج بالقدر وقال لم تلوموني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق فحج آدم موسى
و سبب هذا الغلط أنهم فهموا من الحديث أن آدم جعل القدر حجة للمذنب وهو غلط قبيح على هو دون آدم و موسى فكيف عليهما
وهذا آدم يقول { ربنا ظلمنا أنفسنا } الآية
و موسى يقول { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي }
و يقول { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا } الآية
____________________
(2/757)
و كيف يجوز لمثل هذين النبيين الكريمين أنهما يجوزان هذا وعوام الناس يعرفون أن هذا باطل إلا من كان مصطلما قد سلب حقيقة العقل
و الذي يظن أن الله يسوي بين الذين آمنوا و عملوا الصالحات و المفسدين في الأرض وبين المتقين و الفجار و بين المسلمين و المجرمين فإن الجمع في توحيد الربوبية يتناول هؤلاء كلهم فإن لم يحصل مع ذلك فرق فالجمع بين أهل البر و التقوى و يشهد القلب إلهية الرب التي يستحقها لأجلها أن يعبد دون ما سواه و أن تطاع رسله كان مسويا بين هؤلاء
و لكن نكتة الحديث أن موسى لام آدم لأجل المصيبة التي لحقت الذرية من أجله فإنه بسبب ذلك خرجوا من الجنة و صاروا في دار الشفاء و لهذا قال لماذا أخرجتنا و نفسك من الجنة وكان لومه له لأجل المصيبة التي أصابتهم لا لمجرد الذنب من جهة حق الله تعالى كما يقول الولد لوالده الذي أذهب ماله حتى افتقر هو و أولاده أنت الذي
____________________
(2/758)
أذهبت هذا المال حتى صرنا فقراء و احتجنا إلى الناس و أنت الذي نقلتنا إلى بلاد الغربة و نحو ذلك فقال له آدم هذه المصيبة كانت مكتوبة عليك مقدرة قبل أن أخلق هي و سببها وهو الذنب فإنه كان مكتوبا علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
و العبد مأمور عند المصائب بالتسليم لله كما قال تعالى { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }
قال طائفة من السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى و يسلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
( ( المؤمن القوي خير و أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك و استعن بالله ولا تعجز و إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا و كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ) )
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( إن الله يلوم على العجز ولكن
____________________
(2/759)
عليا بالكيس فإن غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل ) )
____________________
(2/760)
وقد قال الله تعالى لنبيه { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من الخطيئات
وكان الجنيد رحمه الله أفقه القوم و أعلمهم بالدين فلهذا بين الفرق الثاني و أمر باتباع الأمر و لزوم الشرع و رعاية العلم بخلاف من لم يحقق هذين الفرقين و اختطفه قدر فإنه قد يتعدى فيه إما حالا و أما مآلا مثل كثير من الشيوخ الغالطين في هذا الباب
ثم انضم إلى ذلك أنه لم يفرق بين إرادة الله تعالى و محبته
____________________
(2/761)
و رضاه بل يرى أن جميع الحوادث خيرها و شرها بالنسبة إليه سواه صادرة عن تلك الإرادة و أنه لا يحب الحسنات و يرضاها إلا بمعنى أنه ينعم أهلها ولا يبغض السيئات و يسخطها إلا بمعنى تعذيب أهلها
____________________
(2/762)
و رأى أن هذا الفرق يعود إلى المخلوق لا إلى الخالق فهذا إذا رأى
____________________
(2/763)
أن في كمال العبودية فناء عن إرادته و أنه لا يريد إلا ما يريده الحق و عنده ليس له إرادة إلا هذه لزم من هذا أنه لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ما دام هذا الفناء لكن دوامه فيه ممتنع لأن العبد مجبول على حب ما يلائمه و بغض ما ينافيه فإن لم يشهد ما يتصف به الرب سبحانه من الحب و البغض و الرضا و السخط فيحب ما يحبه الله و يبغض ما يبغضه و يرضى ما يرضاه و يسخط ما يسخطه الله وإلا فرق باعتبار نفسه فيحب و يبغض لمجرد ذوقه ووجده و حبه و بغضه لا بحب الله و بغضه و أمره و نهيه فإن هذه الحقيقة تخالف الشريعة و يجعلون القيام بها لأجل الظاهرة و العامة لا من حقيقة شهودها الخاصة و يسمون هذا تلبيسا وهو مقام الأنبياء وهذا من أغاليط كثير من الشيوخ وهو في الحقيقة خروج عن ملة إبراهيم وغيره من الرسل و بالله التوفيق وهو حسبنا و نعم الوكيل و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه و سلم سنة ( 1326 )
____________________
(2/764)