العقيدة وأثرها في بناء الجيل
بقلم: الدكتور عبد الله عزام
الطبعة: الأولى
نشر وتوزيع
مركز شهيد عزام الإعلامي
بيشاور-باكستان
خلاصة عقيدة السلف
وهي عقيدة المؤلف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا به، وتوحيدا بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا، أما بعد:
فهذه عقيدتنا وهي عقيدة الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة (أهل السنة والجماعة) وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره.
الإيمان بالأسماء والصفات:
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل نؤمن ونعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنحن نثبت لله عز وجل أسماءه الحسنى وصفاته العليا التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة.(1/1)
ونعتقد أن السلف (رضوان الله عليهم) وأهل السنة والجماعة يعلمون معنى الصفات ولكنهم يفوضون علم الكيفية والكنه إلى الله عز وجل، فنحن نعتقد كما اعتقدوا أن الله عز وجل موصوف بهذه الصفات حقا لا مجازا على الوجه الذي يليق بجلاله، من غير أن يشابه خلقه شيء من صفاته.
وكما قال مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ، فنحن نؤمن أن لله يدا ليست كأيدينا، وله بصر ليس كأبصارنا، ونؤمن بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فنقول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
الاستواء والفوقية:
ونحن نؤمن أن الله عز وجل مستو على عرشه بائن عن خلقه فوق السماء السابعة (ولا نقول الاستواء بمعنى الاستيلاء أو الهيمنة) ، مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن أن يحد بزمان أو مكان.
المعية: وهو معنا بسمعه وبصره وعلمه.
الإيمان بالقدر:(1/2)
ونؤمن أن الله خالقنا وخالق أفعالنا مع كون العبد مختارا في أفعاله، ونؤمن أن الله فعال لما يريد.. ألا يكون شيء إلا بإرداته عن تقديره، ولا يصدر عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدد، ولا يتجاوز ما خطه له في اللوح المحفوظ، وعقيدتنا وسط بين القدرية التي تسند الفعل إلى العبد وتجعله خالقا لفعله من خير أو شر، ونخالف الجبرية فلا نقول العبد مجبور على فعله من خير أو شر، بل كما قلنا نعتقد أن الله خالقنا وخالق أفعالنا والعبد مختار بفعله.
الإيمان: نحن نعتقد أن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، تزيده الطاعة وتنقصه المعصية.
الذنوب والكبائر: وعقيدتنا وسط بين المرجئة والحرورية (الخوارج) والمعتزلة، فنحن لا نقول كالخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر، ولا نقول كالمرجئة أن الإيمان لا يضر معه معصية، ولا نقول كالمعتزلة أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، بل نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، وإن مات ولم يتب فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(1/3)
الصحابة: وعقيدتنا وسط بين الروافض (الشيعة) والخوارج، فنحن نعتقد بفضل الصحابة كلهم، ولا نغلو في أهل البيت، وبخلاف الخوارج فإنهم قد كفروا عثمان وعليا وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص، ونؤمن أن أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي كرم الله وجهه، ثم بقية العشرة (سعد وسعيد وطلحة والزبير وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف) ، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة (بيعة الرضوان) ، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم.
ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، ونستغفر لهم، ونذكر محاسنهم، ونكف عن مساوئهم، ونسكت عما شجر بينهم، ونقر بفضلهم، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، أو يعمل عملا لا يحتمل إلا الكفر، مثل السجود للصليب، ونرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء.
الأولياء: ونقر بكرامات الأولياء، والمؤمنون المتقون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن والسنة.(1/4)
التشريع بغير ما أنزل الله:
ونرى بأن التشريع بغير ما أنزل الله كفر ينقل عن الملة، ونرى القضاء في ظل القوانين الوضعية باطلة لا تلحقها الإجازة ولا التصحيح، ونعتقد أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة (منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم) إلى أن يقاتل آخر أمته الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.
وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار إذا ماتوا موحدين -وإن لم يكونوا تائبين- فهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذبهم بعدله.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا نشهد على مسلم بكفر ولا نفاق ولا شرك ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، وندع سرائرهم إلى الله تعالى، ولا نصدق كاهنا ولا عرافا، ونكره أصحاب البدع، ونرى أن الاستغاثة بالأموات وطلب الحاجات منهم شرك، وأما التوسل بأي أحد من الخلق فهو غير جائز ويجب تركه.
ونرى أن البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها ووضع السرج فوقها والرايات وتعليق الستور عليها وإقامة السدنة حولها من البدع المحرمة التي يجب محاربتها.(1/5)
ونؤمن بفتنة القبر، ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، وبقيام الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا، وينصب الموازين، وتنشر الدواوين، ونؤمن بالصراط المنصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم، ونؤمن بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم وبشفاعته، وأنه أول شافع، وأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان وأنهما الآن موجودتان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين وخير الخلق أجمعين.
وأن الله تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، ونؤمن أن العرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، فمن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا.
ونعتقد أن القرآن منزل من عند الله، وهو كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه سبحانه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمين وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(1/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} . (طه: 25-26) .
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . (آل عمران: 8) .
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . (البقرة: 286) .
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} . (الكهف: 10) . {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . (البقرة: 201) .
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان:74)
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 41)(1/7)
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم حقائق ضخمة غائبة عن الأذهان في كتيب صغير، مع أن الحياة كلها تدور على محور هذه الحقائق، ويقوم الكون كله على معرفة هذه المبادئ والالتزام بها، ولقد نوهت في مقدمة هذا الكتيب بأهمية العقيدة في الحياة البشرية، وأن شقاء البشرية راجع إلى انفلاتها من حوزة هذه العقيدة.
ثم أتبعت المقدمة بتسعة فصول: كان الفصل الأول منها حول معاني العقيدة والتوحيد، وبينت فيه أن الكون كله يوحد الله ويعبده.
ثم تلاه الفصل الثاني: الذي يبين أن ضنك البشرية راجع إلى تحريف العقيدة، وأن الصراع بين العلم والدين مرده إلى عدم معرفة العقيدة الصحيحة.
ثم جاء الفصل الثالث: ليبين بعض خصائص العقيدة، ويضع الإنسان في مستقره الأساسي منها.
ثم تلاه الفصل الرابع: الذي يبين صفات الله عز وجل، وحاولت فيه إقامة معبر بين رأي السلف والخلف في الصفات.(1/8)
ثم أتبعه الفصل الخامس: الذي يبين القضية الكبرى التي جاء هذا الدين ليقررها وهي الرضا بحكم الله.
وجاء الفصل السادس في مكانه المكين: الذين يبين أن رفض شريعة الله خروج من حوزة هذا الدين.
وأما الفصل السابع: فهو التأويلات التي تتردد على ألسنة الناس لآيات التشريع، وتنقل نصوصا ليست في موضع النزاع وتريد أن تطبقها على واقع مختلف تماما عن الواقع الذي قيلت فيه.
وتلاه الفصل الثامن: الذي جاء فيه براهين قاطعة بإحصائيات عددية ووقائع حسية أن الشقاء اليوم هو بسبب البعد عن هذه العقيدة.
واختتمت الفصول بتاسعها الذي أوردت فيه نماذج ممن ربتهم هذه العقيدة وصنعتهم هذه المبادئ وأخرجتهم هذه القيم إلى الوجود منارات يهتدي بهم المدلجون، ويقتفي أثرهم كل من أراد السعادة والنجاة.(1/9)
المقدمة
المنهج الرباني في بناء النفس الإنسانية
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . (آل عمران: 83) .
العقيدة: هي الضابط الأمين الذي يحكم التصرفات، ويوجه السلوك، ويتوقف على مدى انضباطها وإحكامها كل ما يصدر عن النفس من كلمات أو حركات، بل حتى الخلجات التى تساور القلب والمشاعر التي تعمل في جنبات النفس، والهواجس التي تمر في الخيال، هذه كلها تتوقف على هذا الجهاز الحساس.
وباختصار: فالعقيدة هي دماغ التصرفات، فإذا تعطل جزء منها أحدث فسادا كبيرا في التصرفات، وانفراجا هائلا عن سوي الصراط.
ولذا فقد عني القرآن الكريم ببناء العقيدة، فلا تكاد تخلو أية سورة -مكية كانت أو مدنية- من شد الإنسان بكليته إلى ربه، وربط كل تصرف بهذه العقيدة التي تمثل القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها، وبخاصة السور المكية التي أفردت لبناء هذه العقيدة، فلقد كانت العقيدة هي الموضوع الوحيد الذي عالجته السور المكية.(1/10)
وعلى هذا فإن كل الانحرافات التي نعانيها في سلوكنا -أفرادا أو جماعات- راجعة بكليتها إلى الانحراف في التصور العقدي، فالناس في هذه الأيام بحاجة إلى بناء العقيدة من جديد، وإلى تصحيح التصور الاعتقادي، فلا بد من إفراد الله -سبحانه- بالألوهية، ولا بد من أن تستقر عظمة الله عز وجل في الأعماق، وأن يعمر النفوس حبه، ولا مناص من أن تحيا القلوب وهي تستشعر هيبته وجلاله.
ويقوم هذا الدين على:
1- حقيقة الألوهية.
2- حقيقة العبودية.
3- الصلة بين العبد وربه.
هذه أمور ثلاثة لا بد من استقرارها في النفوس: معرفة الله وقدره، ومعرفة العبد وحده، والصلة بين الخالق والمخلوق.
وعلى هذا فإنه من العبث تتبع فروع الشرع وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين، ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكنة ونأمة وحركة في هذا الكون.(1/11)
والحق أن الناس اليوم غابت عنهم حقيقة هذا الدين العظيم، ومثل كثير منهم -حتى الذين يقيمون الشعائر التعبدية- كمثل الأعمى الذي أمسك بذنب الفيل ويحسب أنه يمسك بين يديه جسم الفيل، حتى إذا طلبت منه أن يصف لك الفيل انبرى يصوره بأنه شعرات مرتبطة بعضلة قاسية، ولو اجتمع أهل الأرض لإقناعه أن الفيل سوى ذلك ما استطاعوا أن يصرفوه عن ظنه.
وقد أصبح اليوم لدينا شيء مألوف أن نرى شخصا يداوم على العبادات وهو في نفس الوقت يزاول أعمالا تخرجه من إطار هذا الدين، كالاستهزاء بسنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بفرضية وردت في محكم التنزيل، وهو لا يعلم أنه بالاستهزاء إنما يهزأ من أوامر الله، ويسخر منها، وهذا الذي اتفق أهل الذكر من هذه الأمة، أنه يعني ردة المستهزئ وخروجه من الإسلام.
ومن هذا القبيل سب الدين، أو سب الله أو رسوله، فمن فعلها حكم عليه بالردة، وقد قال بذلك مالك والشافعي وأحمد والليث وإسحق مستندين إلى قوله تعالى:
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (1) . (التوبة: 12) .
_________
(1) راجع الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) . تفسير آية: (وطعنوا في دينكم) .(1/12)
وقد غاب عن أذهانهم كذلك ما يترتب على هذه الكلمة من نتائج.
أقول: إن كلمة الطعن في الدين وما يترتب عليها من بينونة زوجته منه رأسا، واعتبار العقد مفسوخا مباشرة، ومن خروجه من إطار الدين، وسقوط حجة الإسلام، وحرمانه من الإرث من أقاربه المسلمين، وحرمان أبنائه من الإرث منه، وغير ذلك من الأحكام خافية على معظم الناس، وكأين من رجل يسب دين زوجته ثم يبقى متصلا بها ينكحها، ولا شك أن هذا كالزنا تماما وأن أولاده حكمهم حكم أبناء الزنا.
أعود لأقرر الحقيقة الكبرى أن الناس لا يعرفون حقيقة هذا الدين، ويخلطون بين مناهج متعددة في حياتهم، قسم ضئيل من منهاج حياتهم من دين الله، وأما معظم المنهاج الذي يوجه حياتهم فهو من صنع هواه أو هوى غيره من البشر.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} . (الفرقان: 43-44) .(1/13)
وعلى هذا فإني أرى أن التركيز على مسائل فرعية من الشريعة بالنسبة للناس أمر غير منطقي، بل محاولة عابثة لاستنبات البذور في الهواء، ولا يمكن أبدا بتجميع أغصان نضرة مع بعضها في الهواء أن يتكون منها شجرة ذات جذور ضاربة في أعماق الأرض، لا بد من سلوك المنهاج الرباني الذي رسمه الله لهذا الخلق. فلا بد من زرع البذرة في التربة، ثم تعهدها حتى تستوي قائمة على أصولها، ثم تمتد بفروعها وأفنانها. وهكذا بالنسبة لهذا الدين العظيم لا بد من اقتفاء السبيل الذي رسمه الله لهذا الكائن حتى يحمل هذا الدين. لا بد من بناء الأساس بغرس البذرة في أعماق الأرض -أي غرس العقيدة في أعماق القلب-.
والعقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله، ومن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس.(1/14)
ومن هنا: فإن محاولة تتبع فروع الشريعة بالتفصيل والتعليل هو اشتغال بالمهم قبل الأهم، ولا يمكن أن تؤتي هذه المحاولة أكلها التي نرجو، والثمار التي نأمل. ومن الأولى أن نتبع المنهاج الرباني في بناء هذا الدين للنفس البشرية، وذلك بترسيخ العقيدة أولا في الأعماق، ثم مطالبة النفس بعدها بأوامر الشريعة كلها، إذ المنهاج الرباني في تربية النفس جزء من العقيدة ذاتها.
ولا ننسى أن الداعية إلى رب العالمين لا بد أن يتمثل فيه المنهاج الإلهي كاملا، ولا بد أن يكون مصحفا يمشي على الأرض، يتحرك فيتحرك بحركته القرآن، فالداعية يطالب بالشريعة كاملة، ولكنه في الوقت نفسه لا يطالب الناس بفروع الشريعة قبل أن يعلمهم هذا الدين، ويشد أنظارهم إلى إطاره الكامل الشامل، وبعد أن يرسموا في أذهانهم الصورة الكاملة للإطار، يدخل معهم داخل الإطار ليعلمهم تفاصيل هذا الدين وتفريعاته. وهكذا قام الإسلام أول مرة في النفوس البشرية، وهكذا يقوم في كل مرة يحاول فيها بناء هذه النفوس بالإسلام، ولا مناص من اقتفاء هذا السبيل، ولا مفر من انتهاجه.(1/15)
فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله، واتباعها فرض لازب في رقابنا، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في بناء النفس فرض كذلك، وكل محاولة لإقامة هذا الدين بغير المنهاج الرباني لا بد أن تبوء بالفشل، وذلك لأن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين، وكل منهاج بشري نستعمله لإيصال حقيقة هذا الدين إلى الناس هو فاشل لا محالة، وهو عبث وملهاة ولعب.
لا بد من اتباع المنهج الرباني القيم الذي رسمه رب العالمين، وسلكه سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم لإيصال دين الله إلى قلوب البشر، ولا بد من البدء بالعقيدة من تعريف الناس بإلههم الحق، وبحقيقة وجودهم على هذه الأرض، والمهمة المنوطة بهم إبان مرورهم بهذه الدنيا، من المسؤول عنهم؟ أي منهاج يجب أن يحكمهم؟ صلة هذا الإنسان بالكون من حوله، مكانة هذا الكائن من الكون، وبعبارة أقصر. إقرار جلال الله ورهبته وهيبته في أعماق قلب الإنسان وطريقة الوصول إلى رضاه.(1/16)
ومن ثم وفي هذا الوقت فإني لا أرى تتبع الجزئيات من هذا الدين في سلوك الناس، كالشرب باليمين، وترك التدخين، والشرب جالسا، إلى غير ذلك من هذه التفاصيل التي لا تحتملها ولا تطيق الدوام عليها إلا نفوس بنيت على العقيدة، وجبلت بعظمة الإيمان.
لا بد أن نبدأ مع النفس البشرية من حيث هي، بحيث نلتقطها من هذا الحضيض الذي هبطت إليه، ثم نسير معها صعدا نعطيها الإيمان جرعة جرعة، نواكبها في نموها ونقيل لها عثراتها، ونردها من هنا، ونهذبها من هناك، حتى تشب قائمة على عودها، صلبة لا تهزها الزلازل، ثابتة لا تجتثها الأعاصير.
وهنا فقط نطلب منها كل ما يريده الله منها، فتنفذ وهي راضية مستسلمة مطمئنة أن الخير كله فيما نفذت، لأن الخير كله منحصر في منهاج الله، والشر كل الشر في الخروج عن منهاج الله:
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . (طه: 123-124) .(1/17)
وأعود فأذكر أن النفوس التي تقدم الإسلام للناس لا مناص لها من أن تكون شريعة تدب على الأرض، وتأخذ بالعزائم، ولا بد لها من أن تكون المرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين أصوله وفروعه، إذ لا بد لها من أن يكون لحمها ودمها هو هذا الدين الذي إليه تدعو، والمنهاج الذي تهتف بالناس أن ينهجوا.
{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . (إبراهيم: 25) .
المؤلف(1/18)
الفصل الأول
التعريف بالعقيدة والتوحيد
نعنى بالعقيدة: الإيمان بأركانه الستة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... قال يا رسول الله ما الإيمان؟ .. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله» (1) .
وفي حديث عمر الذي أخرجه مسلم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» (2) .
والعقيدة لغة فعيلة: من عقد بمعنى معقودة (بمعنى اسم المفعول) عقد الحبل والبيع والعهد يعقده: شده، والعقد: العهد (3) .
فكأن العقيدة هي العهد المشدود والعروة الوثقى، وذلك لاستقرارها في القلوب ورسوخها في الأعماق.
_________
(1) صحيح مسلم (ص13) ط / صبيح.
(2) انظر شرح الأربعين النووية (ص91) ط / قطر.
(3) القاموس المحيط، باب الدال. فصل العين (ج1ص513) .(1/19)
أما الشهادتان: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهما القاعدة الأساسية والأولى التي يقوم عليها صرح هذا الدين، وهو الطريق الوحيد الذي يوصل سالكه دار السلام:
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (المائدة: 15-16) .
وهذه القاعدة -توحيد الله في الألوهية- هي الركن الأساسي بل الأساس المكين الذي قام عليه كل دين نزل من عند الله:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء: 25) .
وهذه القاعدة (لا إله إلا الله) تعني في أبسط صورها أن هذا الكون منبثق عن إرادة هذا الإله الواحد، بأمره يسير، وبقدره تدبر أموره، وكل خلق من مخلوقاته أمره بيده، لا يخرج عن إرادته، ولا يند عن مشيئته:
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . (طه: 50) .(1/20)
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} . (الأعلى: 1-3) .
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} . (يس: 26) .
هذه نقطة لا تغيبن عن بالنا، أن كل شيء في الكون صنع بيد الله العزيز الحكيم.
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} . (السجدة: 7) .
وأما النقطة الثانية فهي، أن كل مخلوق في هذا الكون جندي من جنود الله، يؤمر ويطيع، ويدعى فيلبي.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . (آل عمران: 83) .
- {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . (فصلت: 26) .
فالسماوات والأرض وما فيهن جنود مطيعة لرب العالمين.
- {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . (الروم: 26) . أي مطيعون خاشعون.(1/21)
- {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحديد: 1)
- {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.} (الإسراء: 44) .
ولذا فالجبال والماء والأرض والسماء كلها مخلوقات لله، وجند من جنوده.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . (الفتح: 4) .
- فلقد وجه رب العالمين الأمر إلى النار فأطاعت:
{يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . (الأنبياء: 69) .
- ونادى الجبال فأصغت:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} . (سبأ: 10) .
- وأما الثالثة: فقد يسخر الله بعض جنوده لطاعة عبد من عبيده.(1/22)
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . (سبأ: 12-13) .
ويقول لموسى عليه السلام:
{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} . (الأعراف: 160) .
وأما المسألة الرابعة: فكل كائن من مخلوقات الله له منهاج رباني يسير عليه لا يستطيع الخروج عنه قيد أنملة ولا شعرة، فالشمس لا يمكنها أن تخرج عن المدار الذي أمرها الله أن تدور فيه، ولو خرجت زاوية واحدة عن محورها لتحطمت وحطمت الكثير، وكذلك القمر، والأرض، وهذا هو ناموس الله في هذا الكون لكل خلق عدا الثقلين: الإنس والجن.(1/23)
وقد تتجلى مظاهر هذه العبودية أحيانا لعبد من عبيد الله بإرادة الحاكم الآمر، ومن ذلك ما يحدثنا الإمام أبو الحسين مسلم بإسناده عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن (1) . وإن أخبار حنين جذع النخل (بكائه) لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم متواترة معنويا.
_________
(1) مختصر صحيح مسلم للمنذري تحقيق الألباني 2 / 361.(1/24)
هذا وقد يكشف الله طرفا من هذه العبودية لغير الأنبياء، فقد تتجلى بإسفار ووضوح لعباده الصالحين، ومن ذلك ما يروى أنه: لما بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي في حرب المرتدين إلى البحرين فسلكوا مفازة، وعطشوا عطشا شديدا، حتى خافوا الهلاك، فنزل وصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، اسقنا! فجاءت سحابة كأنها جناح طائر، فقعقعت عليهم وأمطرت، حتى ملأوا الآنية وسقوا الركاب، ثم انطلقنا حتى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، وفي رواية أتينا على خليج من البحر ما خيض فيه قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعد، فلم نجد سفنا، وكان المرتدون قد أحرقوا السفن، فصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، أجزنا، ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال: جوزوا باسم الله، قال أبو هريرة: فمشينا على الماء، فوالله ما ابتل لنا قدم، ولا خف ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف. وفي هذا يقول عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعانا الذى شق البحار فجاءنا ... بأعظم من فلق البحار الأوائل (1) .
_________
(1) انظر أسباب سعادة المسلمين وشقائهم في ضوء الكتاب والسنة للكاندهلوي (ص60) .(1/25)
ثانيا: وأما الإيمان بالملائكة فهو جزء من عقيدتنا، ويخبرنا القرآن أن الملائكة موكلون بحفظ البشر وحمايتهم، وهم مكلفون بإحصاء أعمالهم وتسجيلها.
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} . (الطارق:4)
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . (ق: 18)
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 10، 11)
فالملائكة حفظة للبشر، يحصون عليهم أعمالهم، ويقدمون كتب أعمالهم إلى رب العالمين، ومنهم موكل بقبض أرواح البشر، وهم كذلك يستغفرون للذين آمنوا، ويحضرون مجالس الرحمة والذكر والتلاوة كما في الأحاديث الصحيحة، وهنالك ملكان حافظان يلازمان الإنسان حيث حل وأينما سار، لا يفارقانه أبدا إلا في بعض المواطن كالخلاء مثلا.(1/26)
ثالثا: وأما الإيمان بالكتب السماوية فهو جزء من العقيدة، الإيمان بصحف إبراهيم، والتوراة المنزلة على سيدنا موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، والقرآن الكريم على سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، هذا مع الانتباه الشديد إلى مسألتين:
1- الأولى: نحن نؤمن أن هذه الكتب بأصلها من عند الله إلا أن يد البشر امتدت إليها تعبث وتحرف وتؤول وتغير، كما أخبرنا القرآن الكريم عن أهل الكتاب.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) .
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . (آل عمران: 78) .(1/27)
فهذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يخبرنا أن البشر قد عبثوا بالكتب الربانية ولم يبق على وجه هذه البسيطة كتاب بكلماته وحروفه كما أنزل من عند الله إلا القرآن.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . (الحجر: 9) .
2- وأما المسألة الثانية فهي أن القرآن هو المنهاج الرباني الأخير للبشر، وهو آخر أمر يسأل الله عنه البشر يوم القيامة، فنزل القرآن ناسخا لما قبله، مهيمنا على ما قبله من الكتب:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} . (المائدة: 48) .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . (الفتح: 28) .
ولا يقبل دينا إلا هذا الدين، ولن يحاسب يوم القيامة أحدا بعد نزول القرآن إلا عما ورد فيه من أوامر ونواه.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . (آل عمران: 85) .(1/28)
رابعا: وأما الإيمان بالرسل: فالعقيدة الإسلامية تعتبر أن الإيمان بكل رسول مرسل هو جزء منها، بحيث يعتبر من يجحد رسالة أي رسول خارجا من إطار هذا الدين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . (البقرة: 285) .
فمن كفر بأي رسول فقد كفر بأصل الرسالات وكفر بالقرآن، لأنه صرح بأسماء الرسل في النصوص القطعية الدلالة والثبوت.(1/29)
خامسا: وأما الإيمان باليوم الآخر، فهو كذلك من القواعد المكينة في هذا الدين، ويكون حجر الأساس في كل دين نزل من عند رب العالمين:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} . (البقرة: 62) .
فالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح هذه القاعدة بأركانها الثلاثة هي عماد كل دين.
وهذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم يعتبر أن الحياة جسر إلى الآخرة، وأن الإنسان يمر بأطوار ومراحل، فمن رحم الأم إلى هذه الأرض إلى القبر، فالبعث فالحشر فالميزان فالصراط، ثم إلى جحيم أو إلى نعيم مستقر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والحق أن الإيمان بالآخرة هو صمام الأمان في هذه الأرض، وهو الضابط الوثيق الذي يحرس الأخلاق، والحارس الأمين الذي يضمن تنفيذ الشريعة في هذه الدنيا، فهو الذي يمنع لحظة العين أن تمتد إلى محرم، ويمنع النفس أن تهجس بهواجس الشر، ويردع الفم أن يهمس ولو بكلمة واحدة لا يرضاها ربه، لأنها كلها مسجلة معروضة محصية عليه أنفاسه وكلماته وحركاته.(1/30)
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا / 3.
(الإسراء 13-14) .(1/31)
سادسا: وأما القدر فهو المحرك الأصيل للنفس البشرية، وهو الدافع الحقيقي للعمل في ميدان الحياة، وأول ما يطالعنا من نصوص القدر الرزق والأجل، فقد ذكرت في أكثر من موضع في الكتاب العزير مع إقرار أنها ثابتة محددة، ولا يغادر المرء هذه الأرض قبل أن ينال كل رزقه ويستنفد جميع أجله، فلن يموت إلا بقدر، ولن يستطيع أحد أن ينقص من رزقه قرشا واحدا مهما علا جاهه، وعظم سلطانه.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (الأنعام: 17) .
«واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (1) .
والأجل المحدود والرزق المحدود مع العلم القطعي أن الله عز وجل بيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله، وله من في السماوات ومن في الأرض، وأنه إليه ترجع الأمور.
_________
(1) حديث حسن صحيح رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس مرفوعا. انظر شرح متن الأربعين النووية، ط / قطر، صفحة (37) .(1/32)
هذه الأمور كلها كانت تدفع بأحدهم في أتون المعركة تاركا وراءه أهله دون معيل ولا كفيل إلا الله. وحسبك كلمة أبي بكر يوم تبوك إذ جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع ماله، فقال له صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله.
ولذا فإنا نرى أن آيات العقيدة جاءت منبثة في معرض آيات القتال والجهاد، خاصة الآيات التي تقرر أن الحياة والموت بيد الله:
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران:145)
إن استقرار هذه العقيدة في أعماق النفس يجعلها عزيزة فلا تذل، تقف أمام كل قوى الأرض، لا ترهب سلطانا ولا تستخذي أمام صولة الملك وإغراء المال، هذه العقيدة ترفع صاحبها من أوحال الأرض ومستنقع الطين، فيقف في المرتقى السامي ينظر إلى الأرض من علو مع التواضع، وبالعزة مع المحبة والتضامن، دون استطالة ولا بغي على الناس، يود لو يرفعهم إلى هذا المستوى الذي رفعه الله إليه.(1/33)
بهذه العقيدة أضحى الرعيل الأول من الصحب الكرام يعيشون بحسهم وأرواحهم في الآخرة، مع أن أجسادهم تدب على هذه الأرض، هم يتحركون فوق هذه المعمورة، مع أن أنظارهم مشدودة بقوة إلى الجنة، إلى الحساب.. وحسبي في هذا الشأن أن أورد مثلا واحدا، ولكنه يدل كيف كان ذلك الرهط الكريم يفكر ويعيش ويتحرك.(1/34)
روى الطبراني بإسناده عن الحارث بن مالك الأنصارى «أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: يا حارث عرفت فالزم -ثلاثا -» (1) . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول صلى الله عليه وسلم له بالمعرفة من حال نفسه ما يصور مشاعره، ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة، فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزا، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها، وذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزا.
هذا مثل من كثير يبين كيف تترجمت العقيدة في نفوس الصحابة، وتجسدت في أناس من لحم ودم، يدبون على الأرض فيتحرك بحركتهم القرآن.
_________
(1) في ظلال القرآن (ج9ص142) .(1/35)
والآن دعنا نصغ إلى أحد أعيان القرن الثالث الهجري لنرى كيف يحيا بهذه العقيدة، دعنا نستمع إلى الإمام أحمد (1) . وقد دخل عليه رجل فقال: عظني يا إمام، فقال له: إن كان الله قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا؟ وإن كانت النار حقا فالمعصية لماذا؟ وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا؟ وإن كان الحساب حقا فالجمع لماذا؟ وإن كان كل شيء بقضاء الله وقدره فالخوف لماذا؟ وإن كان سؤال منكر ونكير حقا فالأنس لماذا؟ فخرج الرجل من عند الإمام وعاهد نفسه أن يرضى بقضاء الله وقدره.
_________
(1) انظر إملاءات في العقيدة للدكتور محمد أمين المصري (ص71) دمشق.(1/36)
والآن لنفتح معا صفحات أخرى لنرى كيف بدل اليهود والنصارى هذه العقيدة.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30)
ولو فتحت الكتاب المقدس لوجدته حافلا بهذه اللوثات الوثنية، ففي الإصحاح الثالث: (فنادى الرب الإله آدم، وقال له أين أنت؟) سبحانك يا رب وتعاليت عما يقولون علوا كبيرا.
إنه لا يعرف أين آدم، فمن هذا الإله؟! أو ليس يعلم السر وأخفى كما حدثنا القرآن؟
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7) .
ألم يسمعوا قوله تعالى:(1/37)
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . (الملك: 13-14) .
ماذا حصل من جراء التحريف والتغيير في الكتب السماوية وفي العقيدة الربانية؟
لقد حصل الشقاء الذي نعانيه وتعانيه البشرية كلها اليوم، لقد أدخل رجال الدين اليهودي والنصراني كلاما من عند أنفسهم، وهذا ما صرح به القرآن:
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . (البقرة: 79) .(1/38)
وكان مما أدخلوه عقيدة التثليث، وكذلك معلومات بشرية تعتمد على التجارب البشرية في الجغرافية والفلك وغيرها، وكتبوا كتبا في الجغرافية سموها (الجغرافية النصرانية) (1) . وكفروا كل من يخالفها، وأخذت الكنيسة تبحث عن علماء الفلك والجغرافيا الذين أعلنوا اكتشافاتهم العلمية، فأنشأت الكنيسة محاكم التفتيش، فاختبأ العلماء -الذين هم ملحدون في نظر الكنيسة- في الغابات والمغاور، وعاقبت من النصارى الذين يحملون هذه الآراء الجغرافية والفلكية المخالفة لنظر الكنيسة حوالي ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفا أحياء، كان منهم العالم الطبيعي (برونو) سنة (1600) ، وكذلك العالم الطبيعي الشهير جاليلو سنة (1642) ، لأنه يعتقد بدوران الأرض، وعذبت كوبر نيكوس.
حتى قال أحد العلماء النصارى: (لا يمكن لرجل أن يكون مسيحيا ويموت حتف أنفه) (2) . أي يموت موتا طبيعيا، بل لا بد أن يقتل أو يحرق.
ماذا كانت النتيجة؟ العداء بين العلم والدين.
بدأ العلماء يفكرون كيف يخلصون من سلطان الكنيسة وسطوتها واستطالتها؟
_________
(1) انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي (571) .
(2) انظر هذا كله في (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) للندوي ص 571، وارجع إلى (التطور والثبات في حياة البشرية) لمحمد قطب ص (61) .(1/39)
(لا بد من إسقاط إله الكنيسة حتى تسقط الكنيسة، لأن الكنيسة تستطيل باسم الله) . وقد سبق الإنكار محاولة للإصلاح بمحاربة بعض تعاليم الكنيسة، كالتي قام بها لوثر المتوفى سنة (1546) ، كلفن المتوفى سنة (1564) ، وأخذوا يحاربون تعاليم البابا التي كانوا يسمونها تعاليم الشيطان، مثل عقيدة التثليث، وكذلك بيع صكوك الغفران، والاعتراف بالخطيئة، وقامت حرب ضروس بين هذين وبين البابا.
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأ العصر الذي سموه (عصر التنوير أو عصر سيادة العقل) وظهر فيه ن-يشته: الذي أعلن سيطرة العقل على الدين سنة (1714م) ، وظهر (هيجل) : الذي حاول أن يؤيد الدين بتخبط، إذ أن الله عند هيجل عقل -سبحانه وتعالى عما يشركون-.
وزاد الصراع بين الدين والعلم ببزوغ فجر القرن التاسع عشر الذي سمي بعصر (الوضعية) أو عصر سيادة الحس، الذي يعتبر الواقع أو الطبيعة هو مصدر المعرفة، وسادت الطبيعة على الدين والعقل، وأن عقل الإنسان هو وليد الطبيعة، وطريق الإنسان يبتدئ بالفردية وينتهي بالجماعة التي يجب أن يذوب فيها الفرد، والطبيعة هي التي تنفش الحقيقة في العقل.(1/40)
وأشهر أبطال هذا العصر (أوجست كونت) (1) . ولكن لا ندري كيف تنقش الحقيقة في العقل، وهل الحقيقة التي تنقشها الطبيعة في عقل البقرة والقرد كالتي تنقشها في عقل كونت وغيره؟
وقد ظهر في هذا العصر (دارون) الذي وضع كتابه أصل الأنواع سنة (1859م) ، وكتابه الآخر أصل الإنسان سنة (1817م) ، وزاد النزاع واحتدم الخصام بين دارون وبين الكنيسة التي كفرته، ووقف الناس بادئ ذي بدء مع الكنيسة، ولكن الموقف أخذ يتحول تدريجيا لصالح دارون، وقد وجد الناس أن هذه فرصة سانحة للتخلص من الغول البشع الذي يضطهد الناس باسم الدين (2) .
وأنكر دارون تدخل الله في عملية النشوء والارتقاء، وقال: (إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت) .
ثم جاء (ماركس) ليعلن الإلحاد من خلال أبحاثه في الاقتصاد، فهو يرى أن الدين والقيم الروحية والأخلاقية والسلوك هو عبارة عن انعكاس عن المادة، وتاريخ العالم هو تاريخ البحث عن الطعام، وحدد في (المنيفستو) البيان الشيوعي المطالب الرئيسية للإنسان: المأكل والمسكن والإشباع الجنسي) (3) . والدين عنده هو أفيون الشعوب.
_________
(1) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي (972) وكذلك ص (813) .
(2) التطور والثبات في حياة البشرية ص (61) .
(3) الفكر الإسلامي الحديث لمحمد البهي (623) فما بعدها.(1/41)
ثم جاء (فرويد) ليعلن صرخته في عالم الجنس.. وقال بأن الغرائز هي التي تحكم الإنسان، وأن الروح لا وجود لها على الإطلاق، والحياة كلها جنس، حتى الدين والأخلاق فإنها انبثاق جنسي، فالطفل يحب أمه جنسيا، ثم يجد الأب حائلا دونها فينشأ عنده (عقدة أوديب) ، والطفلة تعشق أباها جنسيا، ولكن أمها تحول بينها وبين أبيها، فينشأ لديها (عقدة ألكترا) !!
ومن المعلوم أن الصهيونية العالمية كانت وراء هؤلاء.
تقول بروتوكولات حكماء صهيون (1) .
(لقد رتبنا نجاح دارون وماركس ونيتشه بالترويج لآرائهم، وإن الأثر الهدام للأخلاق الذي تنشئه علومهم في الفكر غير اليهودي واضح لنا بكل تأكيد) .
وبعد هذه المعارك المتواصلة بين الكنيسة وبين هؤلاء انزوى رجال الكنيسة بين جدرانها الأربعة، ورجعت كسيفة حزينة، وسقط إله الكنيسة في نفوس الناس، هذا الذي كانت تخضع الناس باسمه، والسبب في هذا بسيط جدا: (إن دين الله السماوي وعقيدته الصافية لم تدخل المعركة، إنما دخل المعركة آراء البشر الفجة المرتجلة، وأخذت تقاوم حقائق علمية وإحصائيات دقيقة تدعمها التجارب والبراهين) .
_________
(1) البروتوكول الثاني. انظر بروتوكولات حكماء صهيون (الخطر اليهودي) ترجمة التونسي، صفحة (231) .(1/42)
يقول الأستاذ محمد البهي (1) . (ومن هذا يتضح أن صراع العقل مع الدين هو صراع الفكر الإنساني مع مسيحية الكنيسة، وإن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية) .
والآن ما هو موقف الكنيسة؟ لقد عادت تجري وراء الناس وتلهث على أثرهم، ترجوهم أن يحضروا ساعة أو أقل في الأسبوع مع الإعلانات والمغريات، ودونك إحدى الإعلانات (2) . المعلقة بباب إحدى الكليات لإقامة حفلة كنسية. يوم الأحد أول أكتوبر سنة (1950م) في الساعة السادسة مساء: عشاء خفيف، ألعاب سحرية، ألغاز، مسابقات، تسلية، رقص! أسمعت؟ عادت ترجو الناس أن يجتمعوا داخل الكنيسة ولو على الرقص والتسلية!!
ولكن رغم أن الكنيسة هزمت إلا أن العداء بقي قائما بين العلم والدين، وبقي هذا العداء الذي أتعب البشرية وأشقاها، ولا زلنا نعاني آثاره، وندفع ضريبته من راحتنا وأبنائنا وأجيالنا، لا زلنا ندفع الثمن بما نعيشه من حيرة واضطراب ونكد وشقاء.
_________
(1) انظر الفكر الإسلامي الحديث لمحمد البهي فصل الدين مخدر صفحة (592) فما بعدها.
(2) الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب صفحة (18) .(1/43)
والآن دعنا نتعرف (على خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها في حياة البشر) :
1- إن أولى خصائص هذه العقيدة أنها ربانية من عند الله، وأنها لم تتغير ولم تتبدل، وهذا يطمئن النفس أنها خير لأنفسنا، وأن السعادة تكمن في تنفيذها، وأن الشقاء يترتب على تركها:
أ. فالخير والبركة والسعادة ووفرة الإنتاج كلها من بركات تطبيق الشريعة المبنية على هذه العقيدة:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . (الأعراف: 96)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} . (المائدة: 66)
ب. وما دامت ربانية من الله عز وجل فإنها مبرأة من النقص، سالمة من العيب، بعيدة عن الحيف والظلم، لأن الله له المثل الأعلى في السماوات والأرض {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} .. (النساء: 82) .(1/44)
ج-. ومادامت ربانية فهي التي تشبع جوعة الفطرة للعبادة لا يسدها إلا منهاج الله، ولا تملأها النظم الفلسفية، ولا السلطان السياسي، ولا الثراء المالي.
وهذه الجوعة الفطرية للجوع إلى قوة عليا تبرز بادية للعيان أمام الأعاصير والكوارث والمحن، فهذا (ستالين) الذي كان يقول: (لا إله والحياة مادة، والدين علقة تمتص دماء الشعوب) يضعف أمام هول الحرب العالمية الثانية، فإذا به يخرج القساوسة من السجن حتى يدعوا له بالنصر.
ومرة ثانية أمام شدة المرض يرسل وراء القسيس حتى يصلي له ويستغفر.(1/45)
د. ومادامت ربانية فالناس أمامها سواء لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فالله خالق الناس أجمعين فكلهم عبيده، وهو لا يفضل لونا على لون. الأبيض على الأسود -كما هو الحال في القانون الأمريكي-، ولا يفضل الرجال على النساء من باب قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) وليس من باب قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34) فتأمل الفرق.. ولا يحابيهم سبحانه -لأن الرجل والمرأة كلهم خلقه- ولا يفضل طبقة على طبقة كالأشراف على العبيد، ولا يفضل جنسا على جنس، كتفضيل العرق الآري والجنس الأبيض على غيره (وألمانيا فوق الجميع) ، ولذا فهي العقيدة الوحيدة التي تنصف الناس وتعدل بينهم، والناس يقفون فيها على قدم المساواة حاكمهم ومحكومهم سواء.(1/46)
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . (الأنعام: 115)
2- ومن خصائص هذه العقيدة أنها ثابتة:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . (الروم: 30)
وثبات العقيدة ناتج عن أنها منزلة من عند الله، وقد انقطع الوحي بالتحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى من الجنة، وبقيت النصوص ثابتة إلى يوم الدين لا ينسخها ناسخ ولا يبدلها كافر.
والإنسان يتحرك ويتطور وينمو، ولكن داخل إطار العقيدة الثابت الذي يتسع لحركة الإنسان ونموه، وإذا خرج الإنسان من الإطار الثابت فإنه يسبح كالنجم الذي يفلت من مداره، ويسير إلى نهايته التي تؤدي إلى اصطدامه بكوكب آخر، فيتحطم ويحطم معه غيره.(1/47)
ولا بد من شيء ثابت يرجع الناس إليه، حتى يطمئنوا ويستريحوا ويكون عندهم مقياس يعرفون طول الأشياء وعرضها ووزنها، أما الذين يقولون بأن كل شيء متطور في الحياة حتى الدين والأخلاق والنظم، فهذا يؤدي إلى فوضى كبيرة، فلا نعرف الحكم على أي شيء، ولأضرب مثلا: الزنا مثلا ثابتة حرمته وبشاعته في الديانات التي نزلت من عند الله، فلا يختلف في هذه القضية اثنان. فإذا كان المقياس الذي حكمنا به على الزنا أنه قبيح ثابت، فإن الزنا يبقى بشعا، ويستقر في ذهن الأجيال أن هذا الحكم ثابت لا يتغير، فتتربي قلوبهم على كراهية الزنا واحتقاره.
أما إذا كان القانون والدين غير ثابتين، وكانا متطورين، فإنه يعني أن الزنا كان بشعا في فترة من الفترات، ولكن الزنا الآن في عرف الذين يقولون بتطور الأخلاق مثل (فرويد) ضرورة بيولوجية لا بد منها.(1/48)
وكذلك ستر العورات وتغطية اللحم باللباس -خاصة من قبل النساء- كان أمرا طبيعيا وثابتا في الأخلاق والأديان، ويبقى ثابتا إلى يوم الدين، أما في الأخلاق المتطورة فلقد كان ستر العورة مستحسنا في عصر من العصور، ثم جاء القرن العشرين ورأى أن ستر العورة شيء مستقبح، وأصبح أصحابه ينادون بكشف العورة من أجهزة إعلامهم وأبواقهم التي تفوح منها رائحة الخبث والكيد والغدر بهذا الكائن الإنساني الذي يريدون تحطيمه.
وثبات العقيدة يضع ميزانا ثابتا يقيس الناس، فالميزان واحد، الكيلو في هذا الميزان تساوي (1000) غم، فإذا جئنا نزن شخصا فإننا نضعه في هذا الميزان الواحد ونضع مقابله كيلوات حتى نعرف وزنه، وهنا يكون الحكم صحيحا على وزن جميع الناس، لأن الوزن واحد والعيار واحد، فإذا جاء قوم وغيروا الميزان وقالوا عن الكيلو أنها قنطار، فإن الشخص الذي يزن سبعين كيلو غراما في الميزان الأول هو نفسه يزن سبعين قنطارا في الميزان الثاني، والشخص هو الشخص.(1/49)
وعندما يختلف الميزان لا يمكن أن يكون الحكم صحيحا، ولذا فإن الرجل عند الناس يكون مبجلا مطاعا محترما لأنه ثقيل في ميزانهم، ولكن عندما نضعه في ميزان الله الثابتة فإنه قد لا يزن شيئا، فمثلا الوليد بن المغيرة كانت قريش تعتبره زعيما وتقول:
{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . (الزخرف: 31)
ولكن الله يقول عنه وعن أمثاله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 10-11)
ويقول:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . (الأنفال: 55)
فقريش لا تقطع أمرا إلا بعد استشارته واستنصاحه، والله يسميه دابة، والمؤمنون يعتبرونه دابة بل أقل من الدابة:
{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . (الأعراف: 179)
3- وثبات العقيدة يجعل أصلا يرجع الناس إليه حاكمهم ومحكومهم على السواء، والناس يستريحون ويسعدون، لأن الحاكم لا يستطيع أن يظلم الناس ويقول قبل أن يظلمهم غيرت القانون، ولا يستطيع المحكومون أن يقولوا للحاكم نحن لا نعرف القانون لأنه جديد.(1/50)
ولكنه إذا كان ثابتا فإن الناس يتربون منذ نعومة أظفارهم على معرفته، ويكون النظام حيا في نفوسهم ويعيش في حسهم.
فلا يستطيع الحاكم في الدين الرباني أن يدعي أن الظروف طارئة، ولا أن يقول: أحكام عسكرية يوقف بها تطبيق دين الله، وتحت هذه الأسماء ووراء هذه الشعارات تسفك الدماء، وتداس الكرامة، وتنتهك الحرمة، وهذا هو شأن جميع الأنظمة الوضعية الأرضية، أو بتعبير أدق (الأديان الأرضية) التي اخترعها البشر من عند أنفسهم، وأبرز ما تكون هذه الظاهرة في الأنظمة العسكرية والانقلابات الثورية، ففي كل انقلاب قانون جديد، وفي كل مرة تنصب المشانق وتعلق على أعواد في الأسواق، ودعك عن التحقيقات مع النساء في الظلام، والناس الذين يدفنون أحياء أو يوضعون في براميل النيتريك، حتى يذوبوا ثم يطالب أهلهم بهم لأنهم فروا من السجن!!
وفي كل مرة يغير فيها النظام تفقد البلد أعز أبنائها، وأقدر كفاءاتها، وأعلى طاقاتها، وأثمن ما لديها وهم العينات من الشباب والمفكرين والقادة وغيرهم.(1/51)
4- وثبات العقيدة الربانية يجعل الناس جميعا تحت ظل الدستور والحكم، وليس هنالك حاكم فوق القانون ومحكوم تحت القانون، ونظام يسري على الحاكم، ونظام يسري على المحكوم.
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي ...
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23)
أما الخليفة والأمير والحاكم فهم جميعا خلق الله، ويعبدون الله بتنفيذ هذا القانون الرباني، فما داموا من خلق الله فهم عبيد وليسوا آلهة لا يسألون.
وهذا الواقع التاريخي الإسلامي يدل على هذا، فهذا يهودي يشتكي عليه الخليفة علي رضي الله عنه إلى القاضي شريح بشأن درعه فيحكم شريح لليهودي بالدرع.
ورجل آخر يشتكي هارون الرشيد إلى القاضي أبي يوسف فيستشهد الرشيد بشهادة جعفر البرمكي فيردها أبو يوسف قائلا: لقد سمعت جعفرا يقول لك: أنت سيدي وأنا عبدك، فإن كان عبدك حقا فشهادة العبد لسيده لا تجوز، وإن كان كاذبا فشهادة الكاذب لا تجوز.
ومن هنا فقد كانت الطمأنينة تلف المجتمع كله بردائها الحاكم والمحكوم سواء، وهم سعداء بهذا، لا يستطيع الحاكم أن يرفض دين الله فضلا أن يغيره أو يبدله بدين جديد من عنده.(1/52)
وعلى هذا فالتطور يؤدي إلى الاستبداد السياسي والظلم، ويعيش الناس في قلق دائم من تغير القوانين وتبديل الدساتير، زيادة عن التعب النفسي وعدم الطمأنينة من قبل الناس، لأنهم يعلمون أن هذه الأنظمة ليست من عند الله، فإطاعتها ليست عبادة، بل تقديم أية مادة قانونية على ما ورد في القرآن مع الرضا القلبي كفر، لأنك تفضل كلام البشر على القرآن، أي على كلام رب العالمين، فأنت تفضل البشر على رب البشر، ومن فعل هذا فقد خرج من هذا الدين، أما دين الله ونظامه فإطاعته عبادة، ومقابل إطلاق يد الراعي في تغيير الأحكام كما يشاء، هو بدوره يطلق للرعية العنان في اقتناص الشهوات والانطلاق بالسعار الجنسي إلى أقصاه، وبالنزوات الحيوانية التي لا ترفع عن مستوى البهيمة.
فهذه نتيجة طبيعية ومنطقية وواقعية لتطور النظم والأفكار.
(انطلاق حيواني للشهوات من قبل الرعية، يقابله انطلاق استبدادي للسلطة) .(1/53)
فقد اختلفت آراء الناس في هذه الصفات على أربعة أقوال:
الرأي الأول: (رأى المشبهة أو المجسمة) : الذين يثبتون لله الصفات، ولكن يقولون -تعالى الله عن ذلك- بأن له جوارح، فله أيد كأيدينا، وعين كأعيننا، ووجه كوجوهنا، ومن هؤلاء: داود الجواربي، وهشام بن الحكم الرافضي، وهذا كفر يخرج من الملة، لأنه عبادة وثن، وترد عليهم الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
يقول ابن القيم (1) .
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبه عابد الأوثان
كلا ولا نخليه عن أوصافه ... إن المعطل عايد البهتان
من شبه الله العظيم بخلقه ... فهو النسيب لمشرك نصراني
أو عطل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفار وليس ذا إيمان
الرأي الثاني: (رأي المعطلة وهذا رأي الجهمية) (2) . هؤلاء ينفون صفات الله عز وجل، ويزعمون أن الله -سبحانه- لا يسمع ولا يتكلم ولا يبصر، لأن ذلك لا يكون إلا بالجوارح، وهذه الطائفة كافرة خارجة من الملة.
وقد قال السلف: (المعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما) .
قال ابن القيم (3) . أصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل وهو ثلاثة أقسام:
1- تعطيل الصانع عن المصنوع.
2- تعطيل الصانع -سبحانه- عن كماله المقدس: أسمائه وصفاته وأفعاله.
_________
(1) انظر شرح قصيدة ابن القيم (2 / 212) ، وكذلك الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية ص (13) .
(2) نسبة إلى الجهم بن صفوان المقتول سنة (821هـ) وقد تلقى عن الجعد بن درهم. انظر العقيدة الواسطية تحقيق مصطفى العالم ص (22) .
(3) انظر الروضة الندية / العقيدة الواسطية ص (30) .(1/54)
3- تعطيل معاملته عما يجب على العباد من حقيقة التوحيد.
وقال ابن القيم:
كلا ولا نخليه عن أوصافه ... إن المعطل عابد البهتان
القول الثالث: (مذهب السلف في الصفات وهو إثباتها) : وهذا المذهب يمر الصفات كما وردت في القرآن أو السنة، فعندما يواجهون مثل آية: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يقولون نثبت لله يدا، نؤمن بهذا، ونصدق به ولا نسأل كيف؟ ولا نعطل.
ولقد لخص الإمام (الخطابي) هذا المذهب ودلل عليه بعبارة جزلة موجزة رصينة وما أجملها! فنوردها يقول: (مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه، ويتبع مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف.
وقد يعبرون عنها بقولهم: تمر كما جاءت ولا يتعرض لها بتأويل، ومرادهم: إنه يجب إثبات الصفات دون التكييف، وقد يظن من ينسب لهم أنهم أرادوا التفويض، أو أنها من المتشابه، وهذا ظن خاطئ) (1) .
_________
(1) المصدر السابق ص (32) .(1/55)
ويقول ابن تيمية: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله ص من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) .
وقال بعضهم: (صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والإثبات، غير مدركة من حيث الكيف والتحديد) (1) .
التحريف: تغيير النص لفظا أو معنى.
التكييف: السؤال بصيغة كيف.
التمثيل: إثبات المثل للشيء مساويا له من كل الوجوه.
التشبيه: إثبات المثل للشيء مساويا له من بعض الوجوه.
وقد روى أبو القاسم اللالكائي في أصول السنة عن محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما- قال: (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا) (2) .
_________
(1) شرح العقيدة الواسطية لمصطفى العالم ص (12) .
(2) رسالة العقائد للبنا، انظر مجموعة الرسائل من (984) .(1/56)
وقال أبو حنيفة (1) . وله يد ووجه ونفس، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال أن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف) .
وقال أحمد بن حنبل (2) . في مثل «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» ، «إن الله يضع قدمه» ..) .
(نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول ص حق إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد قوله، ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حدود ولا غاية ليس كمثله شيء.
وقد أفتى الإمام مالك بأن الذي يقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ويشير بيده، أو يتلو: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويشير إلى عينه أو أذنه فإنه يقطع العضو المشار إليه منه، لأنه شبه الله بنفسه.
ويقول فخر الإسلام البزدوي: (إثبات اليد والوجه حق عندنا، لكنه معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن الوصف بالكيف، وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه، فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات على الوجه المعقول فصاروا معطلة) .
_________
(1) شرح الفقه الأكبر (63) .
(2) مجموعة الرسائل للبنا (984) .(1/57)
القول الرابع: (مذهب الخلف) : وأصحاب هذا المذهب يرون جواز تأويل بعض الصفات تنزيها لله عز وجل، مع أنهم يتفقون مع السلف على أن المراد بالآيات غير ما يتبادر إلى ذهن الإنسان مما يدركه.
قال أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (دفع شبه التشبه) قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} قال المفسرون: يبقى ربك، وكذلك قالوا في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي إلا هو.
ويرى ابن الجوزي أن الأخذ بظاهر الآيات تشبيه وتجسيم، إذ أن ظاهر اللفظ هو ما وضع له، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة، ويقول بأن مذهب السلف هو السكوت عن الآيات وليس أخذها على ظاهرها.(1/58)
مذهبنا في عقيدة الصفات وهو مذهب أهل السنة والجماعة:
مذهبنا الذي ندين به هو مذهب السلف: إثبات الصفات العليا والأسماء الحسنى، وتوحيدها دون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل.
ونرى أن السلف كانوا يثبتون الصفات ولا يفوضون فيها.
ونرى أن السلف لا يعتبرون الأسماء والصفات من المتشابه، بل كانوا يعلمون معناها، ولكنهم لا يسألون كيف، لأن الكيف مجهول، فنحن نقول كما قال الإمام مالك:
(الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وكذلك النزول، ولا نقول الاستواء هو الهيمنة، ونقول كذلك: لله يد ليست كأيدينا، ولا نقول يده قدرته.
ونقول: إن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم.
ولا نقول (إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم) .
ونقول: إن مذهب السلف هو مذهب أهل السنة والجماعة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
أما الخلف: الذين يؤولون كالأشعرية فهم من أهل السنة والجماعة إلا في تأويل الصفات، فهم ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة.(1/59)
ونحن نعتقد أن الأشاعرة ليسوا كفارا خارجين من الملة بتأويلهم، ولكنهم مخطئون سيما إذا علمنا أن كثيرا من علماء المسلمين عبر التاريخ كانوا يؤولون، وبينهم مجموعة كبيرة من أعلام الحديث الشريف والتفسير والفقه.
وقد كان الدافع لهم بالتأويل هو تنزيهه عز وجل، فنرجو الله أن يثبتنا على الحق، وأن يغفر لأهل الزلل والانحراف ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وقد رجع إلى مذهب السلف كثير من الصادقين، منهم أبو الحسن الأشعري (330 هـ) الذي كان من قادة المعتزلة، ثم رجع وألف أكثر من ثلاثمائة كتاب في الرد على المعتزلة.
وقد بين عقيدته في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) و (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) .
يقول الأشعري (1) .
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا..، وأن لله وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
_________
(1) الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ص (9) .(1/60)
الفصل الخامس
الرضا بحكم الله هو الركن الركين في العقيدة
شروط العبودية الأول: التحاكم إلى شريعة الله.
إن الحالة التي تردت إليها البشرية، والدرك الذي انتكست فيه الفطرة الإنسانية، والفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. كل ذلك بسبب الخروج عن قاعدة التحاكم إلى كتاب الله.
الاحتكام إلى الكتاب الذي يملك العلاج الوحيد لما تعانيه البشرية، ليس نافلة، ولا تطوعا، إنما هو الإيمان، ولا إيمان مع غيابه..
جاء في محكم التنزيل:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)
هذه الآية الكريمة تمثل القاعدة الكبرى في هذا الدين، هذه القاعدة التي لا يكون بدونها إيمان، ولا إسلام، وهي قضية المسلم الكبرى يوم أن تنزل هذا القرآن، وهي قضيته الأساسية والكبرى كذلك في كل زمان، وهي قضية العصر الراهنة التي يجب أن تشغل اهتمام كل مسلم.(1/61)
إن التحاكم إلى الكتاب والسنة هو الإسلام فحسب، ولذا فلقد جاءت هذه الآية بهذا القسم المزلزل الذي ترتعش حياله الأوصال وترتجف عند سماعه الجبال، وهذه الحقيقة بديهية من المفروض ألا تغيب عن بال بشر، وذلك لأننا عبيد لله، نعيش في ملك الله.
نحن خلق من خلقه، ولذا يجب أن ينفذ فينا شرعه، ويطبق علينا حكمه، وإلا فهو تمرد على خالق الأرض والإنسان، وهو تصرف بغير إذن المالك، بل مناوأة للسيد في ملكه وحكمه وعبيده، ومن ثم تصبح القضية خروجا وفسوقا وكفرا بمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء:
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23) .
فدين الله هو:أوامره ونواهيه، وهي في جوانب العقيدة، كما أنها تتمثل في إقامة الشعائر -بالعبادات وغيرها- وأخيرا فهي تكون في جانب الشرائع والقوانين، وهذه الجوانب كلها متكاملة إذا غاب أي جزء من هذه الأجزاء فقد تخلف هذا الدين عن الوجود، لأن الإسلام كالجهاز المتناسق الذي يتوقف إذا رفع منه أي جزء أو أضيف إليه جزء غريب على كيانه.(1/62)
ولله المثل الأعلى، فدينه الذي كمل على صورته النهائية بالشريعة التي تنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم لا يتعايش مع أي منهج من صنع البشر، ولا يقبل أي دم غريب عليه، فإن أخذ به البشر على شكل منهاج كامل ورضوا أن يتحاكموا إليه مطمئنين راضين، فهم داخلون في إطاره ويعدون داخلين في دائرته، وإن هم تمردوا عن إطاعة أية جزئية منه -مهما كان سبب التمرد- فهم خارجون عليه، باغون في الأرض بغير الحق، يريدون أن يشاركوا الله في ألوهيته وفي تصرفه في ملكه وعبيده، فهم مشركون بالله بهذه الاعتبار.
والآن لنرجع إلى هذه الآية من الناحية الأصولية:
إن ظاهر هذه الآية يدل: على أنه من لم يتحاكم إلى شريعة الله راضيا مستسلما فليس بمؤمن، ولم ترد هنالك أدلة أقوى أو تساوي هذا الدليل، بل لم ترد أدلة دونه في الدلالة والإثبات تستطيع أن تخرج هذا المعنى الظاهر عن ظاهره.
يقول ابن حزم: (هذا نص لا يحتمل تأويلا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان (1) .
ولقد نقل الشيخ ابن حجر عن بعض العلماء في معنى قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} أي لا يستكملون الإيمان (2) . وهذا القول مردود من عدة نواح:
_________
(1) الملل والنحل لابن حزم (4 / 71) .
(2) انظر الدر النضيد من أقوال الحفيد (461) .(1/63)
1- فهو مردود من ناحية اللغة: إذ أن (النعت لا يثبت بدون المصدر) (1) . كما يقول القاضي أبو زيد الدبوسي في التقويم، إذ لو كانت الآية: فلا وربك لا يؤمنون إيمانا حتى يحكموك.. لجاز أن يثبت النعت وتقدر عندها (كاملا) ، أما وقد غاب المصدر فإن الوصف لا يثبت على رأي الدبوسي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو ترك للمعنى الظاهر بلا مبرر، ولا ضرورة لتقدير مضمرات، وترك ظاهر اللغة إلى التأويل بلا قرينة ترجحه غير جائز.
2- وهو مردود من الناحية الأصولية والفقهية: فالمفعول المضمر عند الحنفية من قبيل المقتضى الذي ثبت لضرورة صدق الكلام، والعموم هو زيادة عن الضرورة فلا يثبت، وإذا انتفى العموم انتفى التخصيص، لأن تخصيص ما ليس فيه عموم محال، ولذا لو قال: إن أكلت فامرأتي طالق" ثم قال نويت طعاما خاصا، فإنه لا يصدق ديانة ولا قضاء عند الحنفية بخلاف المتكلمين (2) .
وذكرنا أنه لو قال لامرأته (أنت طالق) ونوى ثلاثا فلا تصح نيته عند الحنفية وتقع طلقة واحدة -رجعية- بينما تصح النية عند الشافعي (3) .
وعلى هذا فالحنفية لا يجيزون تقدير الصفة في هذه الآية.
_________
(1) تقويم الأدلة للدبوسي (734) .
(2) المتكلمون في الأصول هم: ما عدا الحنفية.
(3) انظر هذه المسألة في الشامل -البردوي (4:60) - وكذلك تقويم الأدلة للدبوسي (742) مخطوطان في دار الكتب المصرية، وانظر كذلك الأسنوي مع الإبهاج: المنهاج (2: 66) والأسنوي والبدخشي: المنهاج (2: 37) وفصول البدائع (2: 581-581) .(1/64)
جاء في فتح القدير للكمال بن الهمام: (فيمن حلف لا يغتسل أو لا ينكح، وعنى من جنابة امرأة دون امرأة لا يصدق أصلا) (1) .
وأظن أن الرأي الظني لا يقوى على تخصيص النص، ولذا فلقد قال الفخر الرازي الشافعي عند هذه الآية: (ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق، وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية، قلما يوجد في شيء من التكاليف، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس) (2) .
3- وهو مردود من جهة سياق الآية: لأن الأخذ بالمعني (الإيمان الكامل) يبتر النص ويشوهه، إذ أن الحشد الكبير من الآيات قبل الآية تؤكد معنى الآية الواضح، وهو أنه: إما تحاكم إلى شريعة الله ورسوله فهنا إيمان وإسلام، وإلا فلا إيمان ولا إسلام.
فقد ابتدأ السياق بآية تحدد شرط الإسلام وحد الإيمان، ابتدأ بآية:
_________
(1) انظر الوصول إلى قواعد الأصول (45) مخطوط في دار الكتب المصرية.
(2) تفسير مفاتيح الغيب للرازي (3:352) .(1/65)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)
يقول ابن كثير عند هذه الآية: (فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر) (1) .
أرأيت كلام ابن كثير؟ إنه يعتبر أن عدم التحاكم إلى شريعة الله خروج عن الإيمان مهما ادعى بعد ذلك مدع أنه مؤمن.
ولذا جاءت الآية التالية تقطع وتحسم هذا الأمر لتقول:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 60-61)
_________
(1) تفسير ابن كثير (1 / 815) وكذلك تفسير القاسمي (4 / 131) .(1/66)
وإذن فالزعم في أمر هذا الإيمان لا يكفي، ولذا فالتحاكم إلى الطاغوت (1) . أي غير شرع الله- ليس إيمانا بل هو ضلال بعيد، ثم بين الله سبحانه أن علامة النفاق هو عدم التحاكم إلى شريعة الله والصد عنها، ثم ذكر الله عز وجل أن الرسل ما أرسلوا إلا ليطاعوا وليسوا فقط للبلاغ: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.
وتأتي الآية أخيرا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} في مكانها الطبيعي لتركز هذا الأمر في النفوس ولتقطع أي تساؤل بهذا الوضوح وبهذه النصاعة والقوة.
والآن دعنا نقف لننظر خطورة هذه القضية في حياة البشرية.
إن الحالة التي تردت إليها البشرية، والدرك الذي انتكست فيه الفطرة الإنسانية، والفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، والشقاء والنكد الذي مزق النفوس في كل مكان على وجه هذه الأرض راجع كله إلى سبب واحد: هو الخروج عن هذه القاعدة الأساسية في سعادة البشرية وهي قاعدة التحاكم إلى كتاب الله. ورد مقاليد الأمور إلى صاحبها الحقيقي سبحانه:
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشورى: 12)
_________
(1) يقول ابن القيم في أعلام الموقعين 1 / 35؛ ثم أخبر سبحانه من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.(1/67)
فالاحتكام إلى الكتاب -الذي يملك العلاج الوحيد لما تعانيه البشرية- ليس نافلة ولا تطوعا، إنما هو الإيمان، ولا إسلام ولا إيمان بدونه، ولا إسلام مع غيابه:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36)
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (النور: 47)
والآيات في هذا الموضوع متوافرة.(1/68)
الفصل السادس
رفض الشريعة خروج من الملة
عبودية الإنسان لخالقه
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
بينت آنفا خطورة قضية التحاكم في حياة البشرية، وتنسمنا بعض النفحات من الشذى الطيب ونحن نتفيا ظلال هذه الآية، وبينت قول ابن حزم بأن هذه الآية على عمومها، وبأنها نص لا يحتمل تأويلا ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
كذلك فإني رددت على قول بعض العلماء بأن المعني: لا يستكملون الإيمان، وجماع الأمر في هذه القضية: إنه ليس لأحد مع الله ورسوله قول، وكل كتب الأصول تفتتح أولى صفحاتها بإجماع الأصوليين والأئمة القائل: (أجمع المسلمون على أن الله هو الحاكم وحده"، وهذا الذي صرح به القرآن بأكثر من آية قطعية الدلالة، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقد وردت هذه الآية بهذا اللفظ الذي يحصر ويقصر الحكم بيد الواحد القهار مرتين في سورة يوسف.
ويقول الشافعي: (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلملم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) (1) .
_________
(1) مفتاح الجنة، الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص (42) .(1/69)
ولقد عاش ابن كثير -المفسر المؤرخ المحدث- أول محنة لمحاولة تنحية كتاب الله عن توجيه الأمة المسلمة لاستبداله بقانون جنكيز خان الذي أسماه؛ الياس أو الياسق" -أي السياسات الملكية-، فأطلق كلمته صريحة مدوية قائلا: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا، وقدمها عليه؟! لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين) (1) .
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم كيف كانت عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، فقد «دخل عدي عليه صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: 31)
فقال: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: بلى: إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» (2) .
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (31 / 811-911) وكذلك انظر عمدة التفسير لأحمد شاكر (4 / 371) .
(2) رواه الترمذي، انظر تفسير ابن كثير (2 / 171) .(1/70)
وعلى هذا فالتحاكم إلى كلام البشر عن رضى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من الأعناق، فكل من رضي بترك كلام الله وبتحكيم كلام غيره، أو تقديم كلام أي بشر على القرآن والسنة فلا حظ له في دين الإسلام، وهذا هو الكفر بعينه لا غبش فيه ولا لبس ولا خفاء.
فالله هو الحاكم، كتابه هو المهيمن، والناس ليس لهم أية وظيفة مع القرآن والسنة سوى التطبيق والتنفيذ، كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (1) . فالله هو الحاكم بكتابه في اختلافات الناس كما جاء في تفسير الجلالين، وأن سبب نزول الآية يؤيد ما نراه من أن من لم يحكم بدين الله أو لم يتحاكم إلى شريعة الله فليس مؤمنا، ومن لم يرض بحكم الله ورسوله فليس بمسلم وإن كان يقيم الشعائر التعبدية.
_________
(1) انظر فتح الباري 9 / 323 وكذلك مفاتح الغيب للرازي (3 / 352) .(1/71)
يروي البخاري بإسناده عن عروة قال: «خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شريج (1) . من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجهه ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (2) . ثم أرسل الماء إلى جارك واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه (3) . الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} » .
وإذا كان الرجل من الأنصار فهو يقيم الشعائر ولو ظاهرا، ومع ذلك فالآية نفت عنه الإيمان.
وفيما يلى نورد أقوال بعض المفسرين حول هذه القاعدة العظيمة -التحاكم إلى الله ورسوله-.
قال القاضي: (4) . يجب أن يكون التحاكم إلى الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر، ويدل عليه من وجوه:
_________
(1) مسيل الماء من الحرة إلى السهل. النهاية (2 / 654) .
(2) قال السهيلي الجدر الحاجز يحبس الماء وجمعه جدور. المصباح المنير (721) وقال ابن الأثير في النهاية: هو هاهنا المسناة وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار وقيل هو الجدار. النهاية (1 / 642) .
(3) أحفظه: أغضبه.
(4) القاضي هو أبو يعلى الحنبلي.(1/72)
الأول: أنه تعالى قال: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله كما أن الكفر بالطاغوت إيمان الله.
الثاني: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .. إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم (1) .
وقال القاسمي: وقال بعض المفسرين: في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه والرضا بما شرعه، وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام".
_________
(1) انظر تفسير القاسمي (5 / 5531) وكذلك مفاتيح الغيب للرازي (3 / 352) .(1/73)
قال الحاكم: (وتدل على أنه من لم يرض بحكمه كفر، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر (1) .
لا قصاص فيه ولادية) .
وها هنا فرع، وهو أن يقال: إذا تحاكم رجلان في أمر، فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة فإنه يكفر، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة (2) .
وعلى هذا فكل من رضي بالقوانين الأرضية وبالشرائع القانونية التي شرعوها بغير إذن من الله، بل هي مصادمة للنصوص القرآنية والنبوية، أقول: كل من رضي بها أو تحاكم إليها غير مكروه، أو تدخل في تقنينها أو إقرارها أو تنفيذها راضيا فهو ممن ينسحب عليهم حكم الآية، ويخرج بهذا العمل من دائرة الإيمان، سيما وأن البخاري يروي أنها نزلت في رجل من الأنصار، وهو قطعا يقيم الشعائر ويعلن إسلامه، ومع ذلك فقد كان القسم رهيبا وجازما في أن هذا الذي لا يتحاكم إلى شرع الله ورسوله ليس مؤمنا (3) .
_________
(1) تفسير القاسمي (5 / 5531) .
(2) انظر تفسير القاسمي (5 / 5531) .
(3) قد يقول قائل: لماذا لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري؟ فالجواب: إما أن يكون منافقا فيقبل ظاهره، أو جاهلا فيعذر بجهله.(1/74)
ويقول سيد قطب عند هذه الآية: (وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم، إذ يقسم الله سبحانه بذاته العلية أنه لا يؤمن مؤمن حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلمفي أمره كله، ثم يمضي راضيا حكمه مسلما بقضائه، ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .(1/75)
ومرة أخرى تجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه وتعالى بنفسه ويقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس، وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا، ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا، فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام، جاءت في صورة قسم مؤكد، مطلقة من كل قيد، وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيم شخصه، إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه، وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مكان بعد وفاته، وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وهو الذي قاتلهم علهيم قتال المرتدين، بل قاتلهم على ما دونه بكثير، وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله في حكم الزكاة، وعدم قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بعد الوفاة.(1/76)
وإذا كان يكفي لإثبات (الإسلام) أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله، فإنه لا يكفي في (الإيمان) هذا ما لم يصحبه الرضا النفسي والقبول القلبي وإسلام القلب والجنان في اطمئنان.
هذا هو الإسلام.. وهذا هو الإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان.. قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان (1) .
_________
(1) في ظلال القرآن سيد قطب (5 / 130) .(1/77)
وبعد أن نقلنا الكثير من آراء المفسرين حول هذه الآية التي يكمن في طاعتها الحل الوحيد لمشاكل البشرية، لا يبقى بعدها قول لقائل أن هذا عموم قد يدخله التخصيص -من أن الإيمان ليس على عمومه بل الإيمان الكامل هو المقصود-، فالتخصيص الذي يمكن أن يدعيه المدعون لا بد له من دليل يسنده حتى يستطيع إخراج الآية من ظاهرها، وهو العموم إلى الخصوص، إذ أن تأويل الظاهر لا بد له من دليل أقوى من قوة الظاهر.. وأما القياس فلا يستطيع إخراج هذه الآية عن عمومها.. ولقد سبق ونقلنا قول الرازي: (ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق) (1) . ويقول الفخر كذلك (.. قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط، أولها: حتى يحكموك فيما شجر بينهم) (2) .
وحسبنا أننا وقفنا بجانب ظاهر الآية ومع عمومها القوي الذي لا يقوى القياس على تخصيصه، ويدعمنا في كل هذا سبب نزول الآية وسياقها بين الآيات التي حشدت لتركيز مفهوم الحاكمية، وكذلك أقوال المفسرين.
_________
(1) مفاتيح الغيب للفخر الرازي (3 / 352) .
(2) مفاتيح الغيب للفخر الرازي 3 / 352.(1/78)
والآن لنلتفت حولنا لنرى العجب العجاب في هذه الأرض التي كانت تحكم بالإسلام، ولنرى أبناءها في غالبيتهم العظمى بين اثنين:
أحدهما: رجل يتحاكم إلى الطاغوت وقد ترك التحاكم إلى الشرع الرباني، وهو لا يعي حقيقة هذه المصيبة الطامة التي يخرج بها المرء من دين الله، والثاني: إنسان يتحاكم إلى الطاغوت، ولكنه أعلن عداءه لهذا الدين، وإن كانت تشهد له شهادة الولادة والأرض أنه من المسلمين.(1/79)
وهذا الأمر قد تسلل إلى المسلمين في غفلة منهم، وفي غيبة الحكم الإسلامي والإمام المسلم، بعد أن فعل يهود الدونمة في سلانيك فعلتهم في إسقاط الخليفة - السلطان عبد الحميد -، وتم هذا بتنظيم رهيب اشتركت فيه الجمعيات السرية اليهودية، وقد رفعت رايات وشارات وعناوين مختلفة، ماسونية، وجمعية تركيا الفتاة، وجمعية الاتحاد والترقي، وقد أوقعت في شباكها كثيرا ممن ينتمون إلى هذا الدين، حتى وقع في حبائلها رجال ممن تقلدوا إمامة الأمة الروحية، وزعامتها الدينية، حتى نال أحد كبار العلماء من الأزهر في تلك الفترة وسام الصدف والبلح من المحفل الماسوني اللبناني، بل أغرب من ذلك لقد أنشئ المحفل الماسوني الأول في مصر على يد رجل يظن بأنه داعية إسلامي عظيم، وكان إنشاء المحفل الماسوني الثاني على يد تلميذه (1) .
_________
(1) الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر لمحمد حسين، أستاذ الأدب العربي في جامعة الإسكندرية.(1/80)
ولقد أصبح الآن واضحا وضوحا لا جدال فيه أن الماسونية والصهيونية صنوان، بل توأمان لأم واحدة، وهي اليهودية التي تمسك بيدها خيوط المخطط الذي تريد به إفساد البشرية وهدم الأديان في الأرض، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلقد جازت الحيلة على المسلمين البسطاء، وأصبح الدين الجديد -القانون الوضعي- الذي حل محل دين الله في الأرض قانونا يدرسه أبناؤنا، وأقيمت الجامعات والمعاهد، وتتصدر هذه الجامعات الكلية التي تدرس (الدين الجديد) وهي كلية الحقوق، ودخلها الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين يدرسون هذا الدين، ويتخصصون فيه، ويصبحون هم بالتالي سدنته وكهنته وحماته، وبتخطيط عجيب يتسلم هؤلاء إدارة المحاكم وزمام الدولة، وقيادة الأمة والمؤسسات الحيوية في كل بلد كان في يوم ما دارا للإسلام!!
وأصبح هؤلاء هم القضاة والحكام في أحوال الناس ودمائهم وأعراضهم.. وضاع دين الله في الأرض إلا من شعائر يؤديها بعض الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين (1) .
_________
(1) راجع هذا الأمر في عمدة التفسير لأحمد شاكر.(1/81)
وبإمكاننا أن نقول: كل من رفض التحاكم إلى شريعة الله، أو فضل أي تشريع على تشريع الله، أو أشرك مع شرع الله شرائع أخرى من وضع البشر وأهوائهم، وكل من رضي أن يستبدل بشرع الله قانونا آخر فقد خرج من حوزة هذا الدين، وألقى ربقة الإسلام من عنقه، ورضي لنفسه أن يخرج من هذه الملة كافرا.
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-: (إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك.. إن هؤلاء لا يقرءون القرآن.. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين.. فليقرءوا القرآن كما أنزله الله وليأخذوا قول الله بجد: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (1) .
وأجمل ما ننهي به هذا الفصل بكلمة للأستاذ أحمد شاكر إذ يقول عند آية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} . ما يلي:
_________
(1) في ظلال القرآن ج- (8) ص (65) .(1/82)
(أفيجوز لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد -أعني التشريع الجديد-؟ أويجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا الدين واعتقاده والعمل به عالما أو جاهلا؟ أويجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري؟ إن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلانا أصليا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.
ان الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام -كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه وكل امرئ حسيب نفسه) (1) .
_________
(1) عمدة التفسير لأحمد شاكر (4 / 47) .(1/83)
1- الحقيقة الأولى: إن اعتبار كلام علية الصحابة كأبي بكر وعمر مساويا في بلاغته للقرآن الكريم كفر صريح يخرج من الملة، كما أجمع على هذا أهل القبلة جميعا، فكيف إذا نسبت مساواة البلاغة في المعاني أو اللفظ لنابليون وكابيتان وجوسران أو جوستنيان، حيث توضع قوانينهم في مصاف شريعة الله التي ارتضاها دينا للبشرية، بل تقدم هذه القوانين الوثنية الأرضية على دين رب العالمين.
يقول ابن عباس (1) . يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وقال أحمد بن حنبل (2) . عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)
أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
_________
(1) انظر إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد للشيخ حمد بن على بن عتيق، وكذلك انظر كتاب فتح المجيد شرح التوحيد، ص (583) .
(2) المصدر السابق.(1/84)
2- الحقيقة الثانية: إن إنكار معلوم من الدين بالضرورة كفر يخرج من الملة (1) . فمن ادعى أن صلاة العصر ثلاث ركعات فهو كافر خارج من الإسلام.. ومن رأى أن فريضة الصيام سيان وقعت في رمضان أو شوال فهي جائزة مسقطة للفرض فهو كافر خارج من الإسلام.
والذي يرى أن عقوبة السارق سواء كانت بقطع اليد أو السجن فهذا لا بأس به فهو كافر خارج من الإسلام، فكيف إذا رأوا أن القطع وحشية وهمجية؟؟؟ كما أعلن هذا مقرر مجلس الأمة المصري.
_________
(1) المعلوم من الدين بالضرورة الذي يعرفه الناس ولا يختلفون عليه، كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، وصلاة العصر أربع ركعات، والطهارة للصلاة.(1/85)
3- تحليل الحرام وتحريم الحلال في أية جزئية كفر يخرج من الإسلام.. يقول ابن تيمية: (من ادعى حل النظرة فقد كفر بالإجماع، ومن حرم الخبز فقد كفر بالإجماع) .(1/86)
وقد ذكر البرقاوي في حديث صحيح عن ابن عباس: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود: أنا شهيد، قال: قد كنت أديت الشهادة، ثم قال لعمر: إني أنشدك الله! فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأوعده عمر، فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير لمؤمنين، إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله فأقامت هند على زوجها الشهادة، فقال عمر: إني جالدك. فقال قدامة: والله لو شربت -كما يقولون- ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولم يا قدامة؟ قال:(1/87)
لأن الله سبحانه يقول:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 93)
فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله.(1/88)
ثم أقبل على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فسكت عمر عن جلده، ثم أصبح يوما فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا. فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي! والله لأجلدنه، ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك (باطل أهلك) ائتوني بسوط غير هذا، قال: فجاءه أسلم بسوط ثان، فأمر عمر بقدامة فجلد، فغاضب عمر قدامة وهجره، فحج وقدامة مهاجر لعمر (مقاطع لعمر) ، حتى قفلوا عن حجهم ونزول عمر بالسقيا (1) . ونام بها، فلما استيقظ عمر قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فائتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له (2) .
وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا، (ذكره الكيا الطبري) .
_________
(1) السقيا: مكان بين المدينة ووادي الصفراء.
(2) انظر تفسير القرطبي ج- (6) ص (892-992) ، وانظر أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (2 / 956) . (وقال ابن العربي: روى البخاري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة) (2 / 952) .(1/89)
ومحل شاهدنا هنا أن قدامة لم يقتل لأنه تأول الآية خطأ كما قال له عمر: (أخطأت التأويل يا قدامة " ولم يقل إن الخمر حلال، وإن كان قد جاء في بعض الروايات أن عليا رضي الله عنه قال لعمر: اسأل قدامة فإن كان يستحل الخمر فإنه يقتل مرتدا وإلا فإنه يجلد، وهي نفس الرواية الواردة آنفا عن قوم من الشام.
فمن استحل الحرام فإنه يرتد فيستتاب أولا، وإن أقر يقتل مرتدا، هكذا أجمع عمر وعلي بحضور الصحابة ولم يعرف لهما مخالف.
أما المخطئ في التأويل، فإنه يفهم بقول أبي بكر بن العربي (1) . بعد قصة قدامة؛ فهذا تأويل فاسد، وقد خفي الأمر على قدامة وعرفه من وفقه الله له كعمر وابن عباس) .
فحق التحليل والتحريم والتشريع خالص لله -عزو جل-، فمن نازعه فيه هذا الحق فإنه يخرج من عبوديته لله عز وجل ويخلع ربقة الإسلام من عنقه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)
_________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (2 / 166) .(1/90)
4- الاستهزاء بآية من القرآن أو بالسنة أو بجزء ثابت من السنة يخرج من الإسلام.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (التوبة: 65-66)
فقد نص القرآن على كفر الذين يستهزئون بالقرآن أو بالسنة.. وعليه يكفر من وصف دين الله بالرجعية، أو الجمود، أو التقوقع أو قال عنها شريعة الغاب.
لأنه بهذا العمل ينصب نفسه إلها يحكم على شرع رب العالمين وينتقده، وعلى هذا يكفر (1) . البعثيون والشيوعيون والقوميون، لأنهم يصفون الإسلام بالرجعية والجمود.
_________
(1) الكفر هنا: كفر يخرج من الملة، لأنه كفر اعتقاد وليس كفر عمل.(1/91)
5- اعتبار الإسلام غير صالح لكل زمان ومكان كفر يخرج من الملة، وعليه يكفر البعثيون والشيوعيون الذين يرون أن الإسلام غير قادر على إدارة المجتمعات المعاصرة، ولا يستطيع مواكبة الأمم في تطورها، أو يعتبرون نظامه الاقتصادي قاصرا عن إغناء المجتمع وإثرائه وتقديم متطلباته، فيقولون: نأخذ بالنظرية الماركسية أو الاشتراكية العلمية في دنيا الاقتصاد، وهذا لا يتعارض مع الإسلام ولا يصطدم مع الإيمان، ولا يعلمون أن هذا العمل اتهام لرب العالمين أن ماركس استطاع أن يصنع نظاما اقتصاديا خيرا من نظامك، وهذا لا يقول به أحد ويبقى في دين الله لحظة، بل يخرج فورا من دين رب العالمين.(1/92)
والآن دعنا نعرض للتأويلات التي أوردها بعض العلماء، لقد تعقبوا الآيات بأربع تأويلات:
1- الأولى: اعتبار الإيمان الوارد في الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .. هو الإيمان الكامل، أي أن الآية لا تنفي الإيمان مطلقا عمن لا يحكمون شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفي الإيمان الكامل، أي لا يكون إيمانه كاملا. وقد تعقبنا هذا القول ورددنا عليه لغويا وأصوليا ومن خلال السياق القرآني.
2- الثانية: قولهم في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} كفر لا يخرج من الملة، وكفر دون كفر.
3- الثالثة: الحكم بالكفر على من جحد أو فعل الحرام معتقدا ومستحلا، وأما غيره فلا يكفر.
4- الرابعة: قولهم في آيات الحكم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .. {الظالمون} .. {الْفَاسِقُونَ} أنها نزلت في أهل الكتاب.
ونرجو الله عز وجل أن يلهمنا الحق وأن يعيننا على بيانه واتباعه وإيضاح وجهات النظر (الثانية والثالثة والرابعة) .
التأويل القائل: كفر دون كفر.(1/93)
يستند الذاهبون إلى هذا التأويل على قول ابن عباس وتلاميذه، ومن هذه النصوص:
1- عن طاووس عن ابن عباس (1) . إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} كفر دون كفر.
2- وقال ابن عباس: هي به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.
3- قال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
4- قال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة (2) .
الرد على هذا الاستدلال:
نحن لا نرد على ابن عباس -فمعاذ الله- أن نسيء الأدب مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن نقدم بين أيديهم، وإنما هو توضيح لمن استدل برأي ابن عباس -رضي الله عنهما، فالذي آراه- وبالله التوفيق-:
_________
(1) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي صحيح: الأثر (35021) ، انظر تفسير الطبراني (01 / 653) تحقيق أحمد شاكر، وانظر المستدرك (3 / 313) ، وانظر تفسير ابن كثير (2 / 16) .
(2) انظر تفسير الطبري (01 / 653) تحقيق أحمد شاكر، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (2 / 526) .(1/94)
1- لم يكن في ذهن ابن عباس -رضي الله عنه- صورة مسلم يقول (لا إله إلا الله) بحق ثم يرضى أن يسوي كلام رب العالمين بكلام أحد من خلقه فضلا عن أن يقدم كلام كافر على كلام الله، فهذا الشخص لا أظن أن أحدا من الصحابة أو التابعين يشك في كفره، وعندما جاء المنافق إلى عمر يرفع إليه قضية حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله عنه، قتله عمر وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه (1) . لأن هذه العملية تقديم لحكم عمر على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح.
2- الصورة التي يتكلم عنها الصحابة رضوان الله عليهم: صورة قاض ارتشى ولم يطبق شرع الله في قضية من القضايا، وليس صورة إنسان يبدل تشريع الله ويحل محله شرعا بهواه، والدليل على هذا قول ابن مسعود (2) . الذي رواه عنه علقمة والأسود، فقد سألاه عن الرشوة فقال: من السحت، فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، فهذا القاضي لا يقول أحد بكفره كفرا يخرجه من الملة، بل هو كفر دون كفر أو كفر عملي وليس اعتقاديا.
_________
(1) انظر تفسير القاسمي (5 / 5531) .
(2) انظر تفسير الطبري تحقيق أحمد شاكر 10 / 753، وتفسير ابن كثير (2 / 16) ، وانظر أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (2 / 526) .(1/95)
3- لقد كان ابن عباس يعيش قضية الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويكفرون خيرة الصحابة، ولذلك لا بد من هذا القول الذي يرد على الخوارج بنظرتهم المتطرفة.
وعليه فلم يكن كلام الصحابة والتابعين في الأمر الذي يحياه المسلمون اليوم، من تغيير جذري في تشريعهم الإسلامي وإحلال آراء وأهواء الكفار مقامه دينا جديدا، يحكم في الأعراض والأموال والدماء.
وأول صورة واضحة شخصت في المجتمع الإسلامي لإحلال قانون مقام دين الله كانت أثناء الغزو التتري، عندما أراد هولاكو أن يطبق الياسا (الياسق) مكان القرآن والسنة، وكان ابن كثير آنذاك يعيش المشكلة، عندها أفتى بها بقول فصل، فعند آية:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)(1/96)
يقول ابن كثير (1) . (ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من أحكام شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) .
التأويل الثالث: الكفر بالجحود والاستحلال.
يرى هذا الفريق من العلماء الذين قالوا: إن في الآية إضمارا، ويكون المعني: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.. قاله ابن عباس ومجاهد.
_________
(1) تفسير ابن كثير (2 / 76) .(1/97)
وقال ابن مسعود والحسن: (هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلا له) (1) .
قال ابن العربي (2) . (إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين) .
وهذا الفريق يريد أن يقول: ما لم يصرح الذي يعطل شرع الله بكفره، ويقول أنه ترك الشرع جحودا وإنكارا فلا يكفر.
الرد:
1 - إن دعوى الإضمار تحتاج إلى دليل، فلا يجوز الانتقال من الظاهر إلى المؤول، ولا من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة ترجح هذا الانتقال، فالأصل أن يؤخذ النص على ظاهره حتى يأتي الدليل الذي ينقله.
2- أما ضرورة التصريح باللسان فليس ضروريا لتكفير صاحب العمل إذا كان العمل لا يحتمل إلا الكفر. فقد اتفق العلماء على تكفير من سجد إلى صنم دون سؤاله عما في قلبه، وكذلك اتقفوا على تكفير من ألقى المصحف في مكان قذر، فإحلال أديان البشر جملة وتفصيلا مقام دين الله عمل لا يحتمل إلا الكفر، ولا يحتاج: إلى سؤال صاحبه عما إذا كان يستحله أو لا يستحله.
_________
(1) 1، 2 انظر تفسير القرطبي (ج- 6 / 091) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2 / 526) .(1/98)
يقول الأستاذ حسن البنا في الأصول العشرين (1) . (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض-برأي أو معصية- إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر) (2) .
فإقامة قانون نابليون -أو غيره- مقام دين الله، وجعله حكما فصلا في السياسة والاجتماع والأعراض والأموال والدماء عمل لا يحتمل تأويلا غير الكفر. ليست القضية اعترافا بشرع الله ثم بعد ذلك قد يخالف قاض في التطبيق لهوى أو رشوة أو قرابة، وإنما القضية إقصاء لدين الله نهائيا من واقع الحياة، والاعتراف بشرع جديد وفرضه بالحديد والنار على رقاب المسلمين بوجوب طاعته والإذعان له.
_________
(1) مجموعة الرسائل / رسالة التعاليم ص (11) .
(2) مجموعة الرسائل الأستاذ البنا ص (11) .(1/99)
3- ولعلك لو تفحصت في الأدلة التي استدلوا بها تستطيع أن ترد على استدلالهم، فاستشهادهم بقول ابن مسعود والحسن (1) . (هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلا له" فجملة (أى معتقدا ذلك ومستحلا له) ليست من كلام ابن مسعود والحسن، وإنما هي من كلام القرطبي، فسقط الاستدلال بقول ابن مسعود والحسن، بل إن كلام ابن العربي الذي أوردوه شاهدا لهم هو شاهد لنا.. فيقول ابن العربي: (إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر) (2) .
ولاحظ كلام ابن العربي: فهو تبديل له يوجب الكفر. فالتبديل هو الكفر وليس في مجال التطبيق، والذي يقع الناس اليوم في مصيبته هو التبديل، تبديل دين بدين، وإحلال شريعة مقام شريعة، وإقامة مبدأ ونظام مكان مبدأ الله ونظامه، وهذا يوجب الكفر، كما قال ابن العربي نفسه.
التأويل الرابع: آيات الحاكمية في أهل الكتاب وليس فينا.
واستدل من ذهب إلى هذا التأويل بالنصوص الآتية:
_________
(1) تفسير القرطبي (ج- 6 / 190) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2 / 526) .(1/100)
1- عن الضحاك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .. {الظَّالِمُونَ} .. {الْفَاسِقُونَ} ، قال نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب.
2- عن أبي صالح: ليس في أهل الإسلام منها شيء: هي في الكفار.
3- أتى أبا مجلز: 6، 7، 8 (1) . (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي " أناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .. {الظَّالِمُونَ} . . {الْفَاسِقُونَ} أحق هو؟ قال: نعم: فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل إليه، قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا، فقالوا: لا والله ولكنك تفرق (تخاف) . قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك.
4- وهذا رأي البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة والحسن (2) .
الرد على هذا الاستدلال:
_________
(1) انظر تفسير الطبري (10 / 346-350) ، وانظر تفسير ابن كثير (2 / 16) .
(2) تفسير ابن كثير 2 / 16.(1/101)
1 - جاء النص عاما بلفظ (من) ولفظ (من) اسم الشرط للعموم والقاعدة تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، فآية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سرقة المجن، وآية الملاعنة نزلت في زوجة هلال بن أمية، وآية الظهار نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت.
فإذا أردنا أن نربط كل آية بسببها فإن تطبيق القرآن لا يتعدى الظروف والأشخاص والعصر الذي نزل فيه!!. ولكن القرآن شرعة الله للبشرية إلى يوم الدين، جاء بألفاظ عامة ونصوص مطلقة حتى تصلح للتطبيق فيما يواجه البشرية من قضايا وما يجد لها من مشكلات.
2- إن دعوى تخصيص هذه الآيات بأهل الكتاب قضية تحتاج إلى دليل راجح، لأن التخصيص خروج عن الظاهر بلا داع ولا مبرر.
3- هنالك أقوال كثيرة للصحابة والتابعين تدل على عموم هذه الآيات:(1/102)
أ. سأل رجل حذيفة بن اليمان (1) . عن هذه الآيات: قال الرجل: ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة! كلا والله، لتسلكن طريقهم قدى (قدر) الشراك، وفي رواية والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة، أي أن حذيفة رضي الله عنه يستغرب كيف يغيب عن المسلمين الذي يريدون أن يقصروا ويخصصوا هذه الآيات بأهل الكتاب، أن نتيجة تعطيل شريعة الله واحدة وهي الكفر والخروج من الشريعة ذاتها، فليس من العدل أن يحكم المرء بالكفر على اليهود لأنهم عطلوا شريعة التواراة، بينما لا يحكم بنفس الحكم على المسلمين الذين عطلوا شريعة القرآن، فقال: إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة) ، أي لهم الكفر بنبذ شريعتهم، أما أنتم فلكم الإيمان وإن نبذتم شريعتكم!! {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} .
ب. عن الشعبي قال: (الكافرون: في المسلمين) و (الظالمون: في اليهود) و (الفاسقون: في النصاري) (2) . وهذا اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وأبي شبرمة وأبي بكر بن العربي.
ج-. عن الحسن: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة.
د. عن إبراهيم: نزلت في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة.
_________
(1) انظر تفسير الطبري (01 / 642-053) .
(2) انظر تفسير القرطبي (6 / 091) وأحكام القرآن لابن العربي (2 / 521) .(1/103)
هـ-. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار.
وقال السدي: 4، 5، 6، 7 (1) . ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا وجار -وهو يعلم- فهو من الكافرين، وعليه فلا يستطيع أحد أن يخصص هذه الآيات بأهل الكتاب، ثم يمضي وكأنها لا تعني المسلمين من قريب أو بعيد.
ولقد علق الأستاذ محمود شاكر (2) . تعليقا نفيسا على من احتج بهذا الدليل، فقال بعد أن ساق رواية أبي مجلز:
(وإذن فلم يكن سؤالهم -الخوارج؛ بنو سدوس"- عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام.. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفيرالقائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه ... ، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها..، هذه واحدة.
_________
(1) انظر الطبري (01 / 643-053) ، تفسير القرطبي (6 / 091) أحكام القرآن لابن العربي (2 / 526) ، تفسير ابن كثير (2 / 16) .
(2) انظر تفسير الطبرى (01 / 843) .(1/104)
وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله منها فإنه: إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما: أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة والمغفرة، وإما: أن يكون حكم بها متأولا حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بالكتاب والسنة، وإما: أن يكون كما كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده، حاكم حكم بقضاء في أمر جاحدا لحكم من أحكام الشريعة أو مؤثرا لأحكام أهل الكفر على حكم الإسلام فذلك لم يكن قط) (1) .
_________
(1) تفسير الطبري (01 / 843) .(1/105)
وبعد هذا نخلص إلى القول:
إن كل من رضي بالقوانين والأحكام التي تصطدم مع شريعة الله (لحظة واحدة) فإنه يخرج من الإسلام في هذه اللحظة، سواء كان هذا الراضي بالأديان الجديدة حاكما، أو مقننا (مشرعا) ، أو مستشارا، أو قاضيا، أو من عامة الناس.
أما غير هؤلاء الراضين فحكم الذين يعملون بهذه الأحكام الأرضية أو يتحاكمون إليها فنرجو الله أن يلهمنا بقول الحق والصواب، والذي استقرت عليه نفسي واطمأن إليه قلبي أن الناس أمام هذه الأديان الجديدة فئات:
1- الحاكم الذي يأمر باستبدال دين الله وإحلال قوانين الكفر مكانه يخرج من الملة بهذا العمل، لأنه يفضل ويؤثر ويقدم كلام البشر على كلام الله، ويرى أن قانون الكفر هذا أفضل للمجتمع من قانون الله، وهؤلاء يقول الله فيهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (المائدة: 60)(1/106)
فإيمانهم زعم وكذب وليس حقيقة، لأن حقيقة الإيمان تتنافى مع التحاكم إلى الطاغوت (أي كل قانون غير قانون الله) ، الذي يجب الكفر به ونبذه ومحاربته.
2- المشرع (المقنن) المقنن الذي يصوغ قانونا يخالف دين الله إنما هو يصوغ دينا جديدا، وبهذا يخرج من الإسلام بهذا العمل، بل يشارك الله في ألوهيته عندما يصوغ دينا وقانونا دستورا للناس بغير ما أنزل الله.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: 31)
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ربوبية الرهبان والأحبار بأنها تحريم الحلال وتحليل الحرام.. ففي حديث عدي بن حاتم ... «إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم» (1) .
3- المجلس التشريعي: الذي يشرع بغير ما أنزل الله قانونا يصادم الله في أمره يخرج من الإسلام. فلا يجوز لمسلم في المجلس أن يوافق على جزئية تخالف أمر الله، وإلا فإنه يخرج من الإسلام.
_________
(1) رواه أحمد والترمذي وحسنه، انظر كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ حسن ص (983) ، وانظر عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (11 / 932) .(1/107)
4- القضاة: الذين ينفذون غير شرع الله هؤلاء لا يخرجون من الإسلام -والله أعلم-، ولكن عملهم حرام وباطل، وأجرتهم حرام وباطلة، لأنه راتب على عمل محرم، كمن يعمل مديرا لبنك ربوي، أو مسؤولا عن خمارة أو نادي قمار، أما إذا رضوا عن غير شرع الله فإنهم يكفرون، لأن الراضي بغير شرع الله يخرج من الملة مهما كان (1) .
5- المحامي: اختلف العلماء والمطلعون في العصر الحديث في حكم المحامى الذي يترافع أمام محاكم غير شرعية، قالت غالبيتهم: إن عمل المحامي جائز شرعا بشروط:
أ. أن يدرس القضية جيدا ويعتقد أنه يخلص حقا لموكله.
ب. أن لا يشترك في قضية حكمها في القانون يصادم الشرع، كالزنا والسرقة والربا والقتل.
ج-. أن ينسحب من القضية لمجرد ما تبين له أن موكله ليس صادقا.
وقال بعضهم: إن عمل المحامي حرام لأنه يترافع أمام الطاغوت، ويوقر الحكم بأحكام الكفر، ويبجل القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وقد تدخل المبالغات والزيادات والتهويلات في مرافعاته، وهذا الذي تميل إليه النفس.
_________
(1) يقول أحمد شاكر: (إن ولاية القضاء في ظل هذا الياسق العصري -القانون- باطلة بطلانا أصليا لا تلحقها الإجازة ولا التصحيح) عمدة التفسير (4 / 471) .(1/108)
6- عامة الناس الذين يتحاكمون: لو كان للناس خيار أن يتحاكموا إلى محكمة تحكم بالإسلام وأخرى تحكم بالكفر، فإن الفرد يأخذ حكم محكمته التي يتحاكم إليها، كما فعل الناس أيام هولاكو، عندما نصب قاضيين ومحكمتين في كل مكان (محكمة الياسا: القانون التتري) (ومحكمة القرآن) ، فكل من تحاكم إلى الياسا كانوا يكفرونه ويخرجونه من الملة.
قال ابن كثير (1) . (.. فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها على شرع الله، لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين) . ولكن أحكام الطاغوت الآن مفروضة على الناس جميعا، وتفصل في شؤون حياتهم كلها، ولا بد للناس كي يخلصوا حقوقهم من أن تهضم أن يرفعوا إلى الطاغوت قضاياهم، فالناس لهم حكم المضطر الذي يرفع عنه الإثم-والله أعلم-، وإن كان الأولى والأفضل أن يتركوا حقوقهم حتى لا يتحاكموا إلى الطاغوت، وهذا الذي مال إليه المودودي والبنا. -أعاذنا الله وعافانا من التحاكم إلى الطاغوت-، وفيأنا الله ظلال شريعته.
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (31 / 811-911) .(1/109)
ونختم كلامنا في هذا الموضوع بكلمة نفيسة لابن تيمية حول حكم الذي يتحاكمون إلى قوانين البادية والعشائر والطاغوت، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكم بخلاف ما أنزل الله فهم كفار) (1) .
وأجمل ما ننهي به هذا البحث كلمة رائعة لرجل خبر القانون الوضعي وعاشه وهو الشهيد عبد القادر عودة -رحمه الله-.
_________
(1) الإيمان للدكتور محمد نعيم نقلا عن كتاب منهاج السنة النبوية لابن تيمية. ومجموعة التوحيد ص (391) .(1/110)
والمسلم لا يعتبر مسلما حتى يحكم الإسلام في شؤونه وما يشجر بينه وبين غيره، طبقا لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
ومن لم يحكم بما أنزل الله، أو تحاكم إلى غير شريعته، فهو كافر ليس في قلبه ذرة من الإسلام وإن تسمى باسم مسلم، وانتسب إلى أبوين مسلمين، وادعى لنفسه الإسلام، ذلك حكم الله جل شأنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
وإذا كان هذا حكم الإسلام الذي عطلته ولا تزال تعطله الحكومات في البلاد الإسلامية، فإن كل ذي عقل يستطيع أن يدرك بسهولة مدى حظ هذه الحكومات من الإسلام، وأن يقول غير متحرج أن هذه الحكومات تدعو المسلمين إلى الكفر وتحملهم عليه (1) .
_________
(1) الإسلام وأوضاعنا القانونية صفحة (17) .(1/111)
والآن تعال معي لأريك في الصورة المقابلة (الشخصية المسلمة والمجتمع المسلم) .
الشخصية المسلمة التي بنتها العقيدة، فتجد صاحبها: مطمئن النفس، هادئ البال، قرير العين، ليس بالقلق ولا بالحيران، حتى كان يقول أحدهم: (نحن في سعادة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها) ، وقيل للعالم عبد الله بن مبارك (من الملوك؟ قال: الزهاد، قالوا فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون بدينهم، قالوا: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذين يصلحون دنيا غيرهم بتضييع دينهم) .
ولعلك تتذوق معي حلاوة الأبيات التي كانت تتغنى بها رابعة العدوية:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وفي هذا المعنى يروي صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (1) .
والمسلم الذي استقرت العقيدة في أعماقه لا يقلق لأسباب منها:
_________
(1) صحيح مسلم (5962) ط / دار إحياء التراث العربي.(1/112)
1- ليس هناك أسئلة في الكون تحيره: فهو يعلم أن الله واحد، وأن هذا الكون كله من خلق الله {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وهو يعلم أن الإنسان قبضة من طين ونفخة من روح، خلقه رب العالمين بيديه، وبدأ رحلته من الجنة ونزل إلى الأرض، وأن له طريقا مستقيما توصله إلى منازله الأولى:
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم (1) .
هذا الطريق المستقيم هو اتباع القرآن والسنة، وأن له عدوا عنيدا سبب إخراجه من الجنة، وهكذا كل الأسئلة التي تحير الفلاسفة والمفكرين أخبره عنها ربه، فأراحه وطمأنه من مصدر موثوق صادق يجيب له عن جميع استفساراته.
2- إنه يعلم أن هذه الدنيا ليست النهاية، والجزاء ليس في هذه الأرض، وأن إلى ربك المنتهى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (النجم: 39-41)
فما فاته في الدنيا سيعوض عليه في الآخرة، والحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كساعة من نهار.
{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة: 38)
_________
(1) قاله ابن القيم انظر (طريق الهجرتين وباب السعادتين) صفحة (15) ، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم صفحة (31) .(1/113)
وهذا كله يسكب الطمأنينة في قلبه، والسعادة في أعماقه، وهذا يجعله يترفع على الصغائر وسفساف القول والعمل، ويهتم بما عظم من الأمور.
وهذا يربي عنده التضحية والبذل، حتى أنه ليبذل روحه في سبيل الله طمعا فيما هو أكبر من النفس والأرض وهو الجنة، ولعلك تذكر معي ما قاله خالد بن الوليد رضي الله عنه لملك الروم: (جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة) .
وهذه التربية الإسلامية العالمية هي التي جعلت المرأة من بني عبد الدار عندما أخبرت باستشهاد زوجها وأخيها وأبيها تقول: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هو بخير.. قالت: (كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل) أي هينة.
وهذه العقيدة التي ربت أمينة قطب -الكاتبة الإسلامية المعاصرة شقيقة المرحوم الأستاذ سيد قطب -، هذه المرأة التي تقدم لخطبتها أمير فرفضت، وتقدم سفير فأبت، وآثرت أن تخطب أحد المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة سنة (1963م) ، وانتظرته عشر سنوات -أطول خطبة في التاريخ كما نظن-، وفي عام (1973م) خرج زوجها من السجن وتزوجت.
3- وهو مطمئن لأنه يعلم أن الرزق محدود والأجل مقدر:(1/114)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145)
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات: 22)
والاطمئنان إلى أن كل شيء في هذا الكون بقدر، وأن الله عز وجل وراء كل حدث، وفوق كل نفس وهو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وغالب على أمره، ولا معقب لحكمه وإليه يرجع الأمر كله ولله خزائن السماوات والأرض يعز من يشاء ويذل يشاء) .
وهذا الاعتقاد يجعل الإنسان أعز من على الأرض.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر: 10)
وهذا الاعتقاد هو الذي أخرج أمثال ابن تيمية الذي تحدى حكام زمنه -الذين زجوا به في سجن القلعة- قائلا: (ماذا تصنعون بي؟ إن قتلي شهادة، وإن سجني خلوة، وإن نفيي سياحة) .
ولهذه العقيدة أبناؤها البررة في كل زمان، فلنصغ إلى العز بن عبد السلام من وراء القرون، وهو يرد على رسول الملك الصالح إسماعيل الذي رجاه أن يعتذر للسلطان ويقبل يده حتى يعيد إليه مناصب القضاء فقال: (والله لو قبل يدي ما قبلت، يا قوم أنتم في واد ونحن في واد الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به) .(1/115)
وفي هذا العصر كان من أبنائها البررة الأستاذ سيد قطب، الذي كانت تعرض عليه مناصب الدنيا من وراء القضبان، ولكنه آثر الزنزانة على البريق الخادع واللألاء الكاذب وكان يقول: (إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفا واحدا تقر به طاغية) .
وكان يقول: (لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل) .
والعقيدة ذاتها هي التي جعلت محمد صالح عمر (الوزير السوداني المعروف) يطأ الدنيا بقدميه، ويؤثر حياة المغاور والخيام، فوق ربى فلسطين مجاهدا حتى خر شهيدا فوق جزيرة أبا.(1/116)
أولا: كان لسعيد بن المسيب التابعي العظيم رأي في البيعة لولي العهد، لا يراها في وجود الوالي لحديث فهمه على وجه صح عنده، واعتقد أنه مقصود الحديث، وقد آذاه الولاة في سبيل هذا، وثبت على رأيه إلى أيام عبد الملك بن مروان أراد أن يبايع لابنه الوليد، وكتب لولاة الأمصار بأخذ البيعة له، قال يحيى بن سعيد: كتب هشام بن إسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان، إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن اعرضه على السيف، فإن مضى فاجلده جلدة وطف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، وقالوا: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالا ثلاثا فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل، لا، ولا نعم، قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل وكان إذا قال لا لم يستطيعوا أن يقولوا نعم، فإنه يقبل منك إذا طلبك في مجلس فلم يجدك. قال: فأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة وحي على الصلاة؟ ما أنا بفاعل، قالوا: فانتقل من مجلسك(1/117)
إلى غيره، فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: أفرقا من مخلوق؟!.. لقد كان الجواب مفحما متضمنا سر هذه الصلابة بجانب الحق، إنه عدم الخوف من البشر.(1/118)
ثانيا: ومن ذلك أيضا أن أبا حنيفة ترك لحم الغنم لما فقدت شاة في الكوفة إلى أن علم موتها، سبع سنين تورعا منه لاحتمال أن تبقى تلك الشاة الحرام فيصادف أكل شيء منها فيظلم قلبه، إذ هذا شأن أكل الحرام، وإن انتفى الإثم للجهل بعين الحرام (1) .
_________
(1) أخلاق العلماء لمحمد سليمان ص (001) .(1/119)
ثالثا: وفي (ترجمة إمام الحرمين) إن أباه (أبا محمد الجويني) كان في أول أمره ينسج بالأجر، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطعمها من كسب يده أيضا إلى أن حملت بإمام الحرمين، وهو مستمر على تربيتها بكسب الحل، فلما وضعته أوصاها ألا تمكن أحدا من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوما وهي متألمة، والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها، فرضع منها قليلا، فلما رآه شق عليه، وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح بطنه وأدخل أصبعه في فيه، ولم يزل يفعل ذلك حتى قاء جميع ما شربه وهو يقول: يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير لبن أمه، ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان يلحقه بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة فيقول: هذا من بقايا تلك الرضعة!(1/120)
رابعا: قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي وأتى سفيان الثوري، فلما دخل عليه سلم تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة، و؛ الربيع " قائم على رأسه، متكئا على سيفه يرقب أمره، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق وقال له: يا سفيان، تفر ها هنا وها هنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوان؟ قال سفيان: إن تحكم في يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاة الكوفة على ألا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة تولاه شريك النخعي، فقال الشاعر (1) .
تحرز سفيان وفر بدينه ... وأمسى شريك مرصدا للدراهم
_________
(1) محمد سليمان في كتابه أخلاق العلماء ص (061) .(1/121)
خامسا: وكم يهزني موقف سعيد الحلبي أمام إبراهيم باشا -وهو صاحب الهيل والهيلمان والسلطان-، عندما دخل إبراهيم المسجد بقي الشيخ سعيد جالسا مادا رجله، وأقبل الناس جميعا يحيون ويصافحون، ووقف إبراهيم باشا طويلا أمام الشيخ سعيد الذي لم يقبض رجله، وسار وهو يغلي غيظا وقد استشاط غضبا، فأخذ صرة من النقود وقال لحاجبه: ادفعها للشيخ، فعندما وضعت في حجر الشيخ سعيد قال للحاجب: (قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده) (1) .
أما المجتمع الذي صنعته هذه العقيدة: فإنه مجتمع آمن، كل فرد من أفراده آمن على عرضه: فالزنا من أكبر جرائمه، يستحق عليها المحصن عقوبة الموت رجما بالحجارة.
وهو من آمن من أن يمس جنابه بكلمة، سواء كانت كلمة قذف في عرض، إذ أن هذه الكلمة توجب جلد ثمانين أمام الناظرين، ولا يمس طرفه بكلمة معيبة.
وهو آمن على ماله: فالسرقة كبيرة، ومن سرق من ماله مقدار ربع دينار فإن هذا المبلغ يعرض يد السارق للقطع، وهو آمن من أن يعرض ماله للضياع عن الطرق المحرمة، فالربا محرم، والاحتكار ممنوع، والغش منفي بتاتا، والقمار رجس من عمل الشيطان.
_________
(1) مقدمة كتاب ربانية لا رهبانية لأبي الحسن الندوي.(1/122)
وهو آمن على نفسه: فكل يد تمتد لتسفك دمه ظلما فلن يكتب لهذه اليد البقاء، إذا أصر أولياؤه على الثأر من القاتل، فهذا المجتمع فيه:
{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45)
وهو آمن على نفسه وماله وعرضه من الحاكم، فالحاكم والمحكوم مقيدون بأحكام الشرع، لا يستطيعون أن يخرجوا عليها.
2- وهو مجتمع متحاب: أفراده كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
مجتمع إذا صاحت امرأة مستغيثة في عمورية هب الخليفة لنجدتها من بغداد، وتحرك الجيش بأسره لمجرد صرخة ألم انطلقت من فم مسلمة.
مجتمع يقول فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن أتقدم إلى سيف فيقطع عنقي -في غير معصية- أحب إلي من أن أتأمر على أناس فيهم أبو بكر) .
مجتمع يقول فيه الشافعي عن الإمام أحمد بن حنبل:
قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته ... فلفضله فالفضل في الحالين له(1/123)
ويقول أحمد عن الشافعي: (لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للجسد وهل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض؟!) (1) .
ويقول أحمد بن حنبل: (ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) (2) .
ويقول الشافعي: (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة) (3) .
وهو مجتمع نظيف ليس فيه من الزبد ما يطفو على وجهه، ولا من الأقذار والمشاكل ما يعكر صفوه، مجتمع لا ترفع فيه قضية واحدة خلال عام كامل في زمن أبي بكر.
وهو مجتمع غني.. يجمع يحيى بن سعيد صدقات إفريقيا في زمن عمر بن عبد العزيز الزكاة وينادي شهرا كاملا ليأتي مستحقوها لأخذها ولم يتقدم أحد، فأمره عمر أن يشتري رقيقا ويعتقهم.
وهو مجتمع متراص متضامن لا خلل فيه ولا جيوب، فلا يستطيع أي جسم غريب أن يتخلل فيه أو أن يعيث فسادا، ولقد حاول ملك غسان أن يراود كعب بن مالك في أزمته التي وصفها القرآن:
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} (التوبة: 118)
_________
(1) أخلاق العلماء لمحمد سليمان ص (23) .
(2) أخلاق العلماء ص (23) .
(3) أخلاق العلماء ص (23) .(1/124)
في هذا الوقت الذي قاطعته المدينة بأسرها، كما يقول كعب في رواية البخاري عنه: «ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي» ... ) (1) .
يقول كعب: (فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه في المدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وأن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء، قال: فيممت به التنور فسجرته به) (2) .
إنه مجتمع عجيب حقا، يعجز ملك غسان أن يستميل إلى جانبه رجلا منبوذا منه، تنكرت له الأرض التي عليها يعيش، وتنكر له الناس الذين عاش وشب بين ظهرانيهم.
وهو مجتمع أفراده على قلب رجل واحد منهم، ملتفون حول قائدهم، يتحركون بإشاراته، ويضحون لمجرد نظرة من الأمير.
هذا المجتمع الذي قاطع كعب بن مالك -حتى عن رد السلام والكلام، قاطعه حتى لم يعد يحظى بكلمة واحدة من أي فرد من أفراده، وذلك بمجرد كلمة سمعها المجتمع من الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) فتح الباري لابن الحجر (9 / 214) .
(2) تفسير ابن كثير (2 / 893) .(1/125)
ودعنا نستمع إلى الإمام الأعظم - أبي حنيفة - وهو يعبر بكلماته القليلة عن معنى الطاعة في أعماقه للأمير، فلقد منعه المنصور من الإفتاء، وفي إحدى الليالي جرح إصبع ابنته، فجاءت تسأله عن تأثير الدم على وضوئها، فقال: اسألي حمادا، فلقد منعني أميري من الإفتاء، وما كنت لأعصي أميري بالغيب.
فيا أبناء هذا الجيل، هذه لمحة موجزة أشد الإيجاز عن العقيدة وأثرها في بناء النفس وإنشاء المجتمع، عرضنا فيها لأركان العقيدة، وعن أثر الانحراف الخطير في حياة المجتمع إذا تخلل الانحراف إلى العقيدة، ولقد نبهنا أن ما تعانيه البشرية اليوم من ضنك وشقاء وبؤس كان سببه عبث أيدي البشر بالعقيدة الربانية، حتى حصل هذا الانفصام النكد بين الدين والعلم، وأصبح العلم عدوا لدودا للغيب والدين، ولكن العلم والحمد لله أخذ يتراجع أمام ضغط الحقائق، ولم يعد يستطيع التمحل والمماحكة أمام الاكتشافات العلمية خاصة في ميداني النفس والفلك.(1/126)
يا أبناء هذا الجيل.. لا مفر من العودة إلى ظلال هذه العقيدة، ولا بد لكم أن تفيئوا إليها، هذا إذا كنتم تفكرون في الخلاص من شقائكم وبناء أنفسكم، وإلا تسلكوا هذه الجادة فإنكم هالكون لا محالة، خاسرون دنياكم وأخراكم بكل تأكيد.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11)
والبشرية بأسرها لا يمكن لفطرتها أن تحتمل هذا الشقاء، ولقد أضناها السير في هذه المفازة المهلكة، لا بد أن تعود بعد أن جربت جميع الأنظمة من اشتراكية وقومية ورأسمالية فتحطمت جميعا تحت مطارق الفطرة، وكان الإنسان هو الضحية والفداء.
عودوا واحملوا الإسلام وقدموه للبشرية المنكودة التي تنتظر من ينقذها.
التفوا حول من تثقون به ممن يحمل هذا الدين علما وعملا وحياة عقيدة وعبادة ودستور حياة.
وأوصيكم وصية بسيطة أن تتعرفوا على كتاب الله، وحب ذا لو حمل كل واحد منكم مصحفا صغيرا في جيبه، حتى يتعرف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليه ويقرأها.(1/127)
وبودي لو اشترى كل واحد كتابا مبسطا للحديث الشريف، وليكن مثلا رياض الصالحين، عليكم بمطالعة كتب المودودي، وكتب الأستاذ سعيد حوى، وكتب سيد قطب، ومحمد قطب، والندوي.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(1/128)
جريدة المراجع:
أولا: التفسير
1- تفسير ابن كثير: ابن كثير القرشي.
2- تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي.
3- تفسير الرازي المسمى (مفاتيح الغيب) فخر الدين الرازي.
4- تفسير القاسمي: جمال الدين القاسمي.
5- تفسير القرطبي المسمى (الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله القرطبي.
6- عمدة التفاسير: أحمد شاكر.
7- في ظلال القرآن: سيد قطب.
8- تفسير الطبري.(1/129)
ثانيا: الحديث الشريف
1- شرح الأربعين النووية.
2- صحيح مسلم.
3- فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني.
4- مختصر صحيح مسلم للمنذري: تحقيق الألباني.
5- مفتاح الجنة الاحتجاج بالسنة: جلال الدين السيوطي.
6- النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير.
7- تحفة الأحوذي شرح صحيح الترمذي.(1/130)
ثالثا: معاجم لغوية
1- القاموس المحيط: للفيروز آبادي.
2- المصباح المنير: الفيومي.(1/131)
رابعا: كتب العقيدة
1- الإبانة عن أصول الديانة: أبو الحسن الأشعري.
2- إملاءات في العقيده: الأستاذ محمد أمين المصري.
3- تلبيس إبليس: ابن الجوزي.
4- الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية: عبد العزيز بن سليمان.
5- شرح قصيدة ابن القيم.
6- شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري.
7- العقيدة الواسطية إخراج مصطفى العالم.
8- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة: الغزالي.
9- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
10- الإيمان للدكتور محمد نعيم.
11- إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد لمحمد بن علي بن عتيق.
12- الملل والنحل لابن حزم.(1/132)
خامسا: أصول الفقه
1 - الأسنوي مع الإبهاج بشرح المنهاج: الأسنوي والسبكي.
2- الأسنوي والبدخشي بشرح المنهاج: الأسنوي والبدخشي.
3- إعلام الموقعين: ابن القيم.
4- تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع: القاضي الدبوسي / مخطوط.
5- الشامل بشرح أصول البزدوي: مخطوط.
6- المسوده في أصول الفقه: آل تيميه.
7- الوصول إلى قواعد الأصول.(1/133)
سادسا: كتب التاريخ
1- البداية والنهاية لابن كثير.
سابعا: كتب فكرية إسلامية وعامة
1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: د. محمد محمد حسين.
2- أسباب سعادة المسلمين وشقائهم للكاندهلوي.
3- الإسلام على مفترق الطرق: محمد أسد.
4- الإسلام ومشكلات الحضارة: سيد قطب.
5- بروتوكولات حكماء صهيون: ترجمة التونسي.
6- التطورات والثبات في حياة البشرية: محمد قطب.
7- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ابن القيم.
8- الحجاب: أبو الأعلى المودودي.
9- خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب.
10- طريق الهجرتين وباب السعادتين: ابن القيم.
11- العدالة الاجتماعية: سيد قطب.
12- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: د. محمد البهي.
31- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: أبو الحسن الندوي.
41- مجموعة الرسائل للإمام حسن البنا.
15- الإسلام وأوضاعنا القانونية لعبد القادر عوده.(1/134)