تَأْوِيلُ الصِّفَاتِ
فِي
كُتُبِ غَرِيْبِ الحَدِيْثِ
للشَّيخ بدر الزّمان مُحمَّد شفيع النّيبالي .
ـ حفظه اللَّهُ ـ
قام بتنسيق البحث ونشره : سَلمان بن عبد القادر أبو زيد
غفر اللَّهُ له ولوالدَيه ولجميع المسلمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، ومن تبعهم ، ودعا بدعوتهم ، وسلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد ، فإن من واجب المسلم أن تكون عنايته بعقيدته أكثر من عنايته بالأعمال المفروضة عليه من الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، وغير ذلك ، لأن الأعمال لا تؤتى جناها إلا إذا وجدت مع العقيدة الصحيحة الثابتة ، السالمة من الشوائب .
ومن الأمور المهمة في العقيدة صفات الله جل وعلا . فإثباتها كما وردت ، وإجراء اللفظ على ظاهر معناه بدون خوض في إدراك حقيقته ، ومعرفة كيفيته هو الأصل . وأما حمل اللفظ على معنى بعيد ، غير متبادر ، وإجراء المجاز فيه فهو تعطيل الله تعالى عما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد هذا التعطيل في معظم كتب غريب الحديث عند بيان معاني الكلمات المتعلقة بالصفات .
وكنت قد سجلت بعض ملاحظتي حول هذه الظاهرة الزائغة أثناء مطالعتي لكتاب النهاية لابن الأثير
( 606 هـ ) ، فأحببت أن أصوغها في مقالة ، وألفت بها أنظار المستفيدين من كتاب النهاية ، ومصادره(1) ليكونوا على حذر من هذه التأويلات الفاسدة التي دخلت في كتب الغريب من جهة المعتزلة ، والأشاعرة ، وغيرها وكادت أن تقع موقعا حسنا في قلوب المستفيدين منها . ومن هنا يجدر بي أن أذكر ملخص أقوال أئمة أهل السنة في باب الصفات ، ثم أناقش ما ورد في كتب غريب الحديث من تأويلها ، فأقول :
__________
(1) وهي كتاب الغريبين للهروي ، والمجموع المغيث لأبي موسى ، والفائق للزمخشري وغير ذلك .(1/1)
قال الترمذي :" وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم ، وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء . والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، وابن المبارك ، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء وقالوا : تروى هذه الأحاديث ، ونؤمن بها ، ولا يقال : كيف ؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت ، ويؤمن بها ، ولا تفسر ، ولا يتوهم ، ولا يقال : كيف ؟ ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه "(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية نقلا عن الوليد بن مسلم أنه قال : " سألت مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا : أمروها كما جاءت - وفي رواية - قالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف "(2).
ونقل عن مالك أنه قال : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة "(3).
وقال في الذين يئولون الكلمات عن معناها الظاهر لتنزيه الله تعالى عن النقص والعيب إلى معنى آخر : " أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل : مثلوا أولا ، وعطلوا آخرا "(4).
وقال في بيان المذهب الحق نقلا عن الخطابي : " فإن فذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله "(5).
__________
(1) الترمذي مع التحفة ( 3 / 336 ) .
(2) الفتوى الحموية الكبرى ( 24 ) .
(3) الفتوى الحموية الكبرى ( 24 ) .
(4) الفتوى الحموية الكبرى ( 17 ) .
(5) الفتوى الحموية الكبرى ( 34 ) .(1/2)
وجعله أصلا للباب : " فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسله نفيا وإثباتا ، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه "(1).
قال الله تعالى : ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [ سورة الأعراف الآية 180 ] .
وقال سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : " وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر " .
وذكر السلف فقال : " فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ، ولم يجحدوا صفاته ، ولم يشبهوها بصفات خلقه ، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى "(2).
فهذه النصوص تدل على إثبات الصفة كما وردت ، والاعتقاد بها حسب معرفة معناها في لسان العرب من غير أن تشبه بصفات الخلوق ، أو تعتقد لها كيفية .
وأما التأويل الذي نراه في كتب غريب الحديث في أبواب العقائد عامة وباب الصفات خاصة فالحق أنه تعطيل لصفات الله تعالى ، ولم يدخل في كتب الغريب إلا من جهة تأثر اللغويين بكلام الجهمية والمعطلة ، فليحذر الذين يستفيدون منها أن تصيبهم فتنة ، فيعتقدوا بما جاء عندهم من تأويل الصفات ، فيزيغوا عن الحق .
وقد أكثر اللغويون بالتأليف في غريب الحديث ، ومع هذا ما وجدت - حسب علمي - أحدا منهم أهتم بالتنبيه على هذه الظاهرة الزائغة عن الحق ، وأبان الصواب ، في كتاب مفرد أو شبه مفرد ، فذلك الذي حملني على أن أشر إلى بعض ما تسرب إلى كتب غريب الحديث من هنات في باب العقيدة سهوا من مؤلفيها - ونستغفر الله لنا ولهم - ونصوبها بالأدلة الصريحة الواضحة إن شاء الله ، وهي كما يلي :
( 1 ) قدم الله ورجله :
__________
(1) الرسالة التدمرية ( 4 ) .
(2) تيسير العزيز الحميد ( 646 ) .(1/3)
نقل ابن الأثير عن الهروي(1) حديثا في صفة النار : " وحتى يضع الجبار فيها قدمه "(2) وعند الزمخشري جاء ذكر الرب أولا ثم أورده بلفظ : " فيضع قدمه عليها "(3).
وقال الهروي بعد ذكر الحديث : " روي عن الحسن : يجعل الله تعالى فيها الذين قدمهم من شرار خلقه ، فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدم للجنة "(4).
ومثله رواه عنه الأزهري ، وابن سيده كما نقله عنه ابن منظور(5).
وروى القرطبي عن النضر بن شميل في معنى الحديث : " أي من سبق في علمه أنه من أهل النار "(6).
وقال الزمخشري : " وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع ، فكأنه قال : يأتيها أمر الله عز وجل فيكفها عن طلب المزيد فترتدع "(7) وقال القاضي عياض في مادة " جبر " :
" قيل : هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله لها ، فكانت تنتظره ، وقيل : الجبار هنا الله تعالى ، وقدمه : قوم قدمهم الله تعالى لها ، أو تقدم في سابق علمه أنه سيخلقهم لها ، وهذا تأويل الحسن البصري ، كما جاء في كتاب التوحيد من البخاري هو أن الله ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها "(8) وقيل معناه يقهرها بقدرته حتى تسكن . . وعند أبي ذر في تفسير سورة ( ق ) : حتى يضع رجله . . وإذا أضفنا ذلك إلى أحد الجبابرة كان على وجهه ، وإلا كان بمعنى الجماعة التي خلقهم الله لها ، والرجل : الجماعة من الجراد ، أو يتأول فيه كما يتأول في القدم "(9).
__________
(1) وعنده بدون لفظ " الجبار " .
(2) انظر النهاية ( 4 / 25 ) .
(3) انظر الفائق ( 3 / 165 ) .
(4) كتاب الغريبين ( 3 / 17 ) .
(5) انظر تهذيب اللغة ( 9 / 45 ) واللسان ( قدم ) .
(6) تفسير القرطبي ( 17 / 19 ) .
(7) الفائق ( 3 / 165 ) .
(8) البخاري ( ومعه الفتح ) ( 13 / 434 ) .
(9) المشارق ( 1 / 138 ) .(1/4)
ونقل ابن الجوزي عن الحسن - كما سبق عند الهروي - وعن الخطابي - ولم أجده في غريبه - قوله : إنما أريد بذلك الزجر لها والتسكين من غربها كما يقال للأمر تريد إبطاله : وضعته تحت قدمي " ثم حسنه ابن الجوزي بقوله : " وهذا وجه حسن "(1). وذكر ابن الأثير ما عند الهروي ، وأضاف إليه قول الزمخشري ، والخطابي من غير عزو(2).
ويتلخص مما سبق عدة أقوال للمؤلفين :
( 1 ) القدم : الذين قدمهم الله من شرار خلقه .
( 2 ) القدم : هم الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار .
( 3 ) وضع القدم : يراد به الزجر والتوبيخ عن طلب المزيد ، والقهر على النار بالقدرة ، وإبطال طلبها.
( 4 ) الجبار : هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله للنار .
( 5 ) الرجل : رجل أحد الجبابرة .
( 6 ) الرجل : الجماعة الذين خلقهم الله للنار .
هذه هي بعض أقوال العلماء في تأويل هذا الحديث ، وقد عرض بعضها الآخر الحافظ ابن حجر(3).
وقد وردت أحاديث عديدة في إثبات هذه الصفة لله تعالى فذكر بعضها :
عن أبي هريرة رفعه - وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان - « يقال لجهنم : هل امتلأت ؟ وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط .»
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « فأما النار فلا تمتلئ ، حتى يضع رجله ، فتقول : قط قط قط فهنالك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا .»
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج ، ثم يقال : هل امتلأت ؟ فتقول : هل من مزيد ؟ ثم يطرح فيها فوج آخر فيقول : هل امتلأت ؟ فتقول : هل من مزيد ؟
__________
(1) غريب ابن الجوزي ( 2 / 225 ) .
(2) انظر النهاية ( 4 / 25 ) .
(3) انظر فتح الباري ( 8 / 596 ) .(1/5)
حتى إذا أوعبوا فيها وضع الرحمن قدمه فيها فانزوى بعضها إلى بعض ، ثم قال : قط ؟ قالت : قط قط.»
عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « فيدلي فيها رب العالمين قدمه.»
سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : إن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال : « يلقى في النار أهلها ، وتقول : هل من مزيد ؟ ويلقى في النار ، وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يأتيها تبارك وتعالى فيضع قدمه عليها .»
عن ابن عباس ـ رضي اللَّهُ عنه ـ : " إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته : ? لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? [ سورة هود الآية 119 ] فلما بعث الناس وأحضروا ، وسيق أعداء الله إلى النار زمرا ، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجا فوجا ، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها ، ولا يملؤها شيء قالت : ألست قد أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين ، فوضع قدمه ، فقالت : حين وضع قدمه فيها : قد قد ، فإني قد امتلأت ، فليس لي مزيد ، ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها ، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل ، فامتلأت فما فيها موضع إبرة "(1).
وفي رواية عنه : " . . . حتى إذا لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها وهي لا يملؤها شيء أتاها الرب فوضع قدمه عليها . . . ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره . . . "(2).
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في إثبات صفة القدم لله تعالى ، ويظهر ذلك فيما يلي :
__________
(1) تفسير الطبري ( 26 /169) .
(2) تفسير الطبري ( 26 / 169 ـ170) .(1/6)
( 1 ) إتيان الرب تبارك وتعالى ، يشير إلى أن القدم صفه له ، لأنه إن كان إسما لمن قدمهم للنار من شرار خلقه ، كان تقديم إدخالهم في النار أولى من تأخيرهم إلى آخر الدخول ، وما كان لإتيان الرب معنى إلا إذ أوله المأول بإتيان أمر الرب على حذف المضاف ، بالرأي ودون دليل ، فلم تظهر لهذا الأمر فائدة أيضا ، لأن من دخل النار لم يدخل إلا بأمره .
( 2 ) تفسير القدم بالرجل في الرواية الثانية يظهر أن اللفظين يثبتان صفة حقيقية واحدة لله تعالى .
( 3 ) قول ابن عباس : " حتى وجدت ( أي النار ) مس ما وضع عليها " و " حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره " صريح في إثبات القدم حيث ذكر له أن النار وجدت منه مسا حينما وضع عليها ، ذلك بعدما نفد من كان عليه دخول النار .
( 4 ) جاء في الحديث بعد ذكر وضع الرجل والقدم ، وامتلاء النار وانزواء بعضها إلى بعض : ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا ، قال الحافظ ابن حجر : " فإن فيه إشارة إلى أن الجنة يقع امتلاؤها بمن ينشئهم الله لأجل ملئها ، وأما النار فلا ينشئ لها خلقا بل يفعل فيها شيئا عبر عنه بما ذكر يقتضي لها أن ينضم بعضها إلى بعض "(1).
وفيما سبق ذكرنا ما أثبت الله لنفسه على لسان نبيه من صفة القدم إجراء للفظ على ظاهره ولا نتخيل فيها مشابهة المخلوقين فنئولها ، ولا ندرك حقيقتها فنكيفها ، ولا يحملنا عدم معرفة كنهها أن ننكرها .
وبعد هذا ينبغي أن ننظر إلى تأويل المئولين لنعرف مدى معارضة نصوص الأحاديث فنقول :
__________
(1) فتح الباري ( 8 / 597 ) .(1/7)
أما التأويل الأول والثاني - وهما أن يراد بالقدم : الذين قدمهم الله من شرار خلقه ، وهم الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار - فيندفعان بسياق الأحاديث ، فسياقها أن النار تذكر الله تعالى رعده بملئها فتطب المزيد فيدخل فيها أهل النار أفواجا ، ثم حينما لم يبق من أهل النار أحد وهي لا تزال تطلب المزيد أتاها الرب تعالى فوضع قدمه عليها ، وحينما وجدت مس قدم الله تعالى تضايقت وامتلأت .
ووجه الرد على التأويلين أنه حينما لم يبق من أهل النار أحد إلا دخلها ، والنار لا زالت تطلب المزيد ، من يكون الذين قدمهم الله من شرار خلقه ، ومن سبقوا في علمه تعالى أنهم من أهل النار ؟ وألفاظ الأحاديث لبيان نفادهم هكذا : " حتى إذا أوعبوا فيها " " حتى إذا لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها ، وهي لا يملؤها شيء " ، فحينئذ " أتاها الرب فوضع قدمه عليها " . فهل يعقل أن يقال : لم يبق من أهل النار أحد إلا دخلها في جملة ، ثم يقال في جملة بعدها : ثم يلقى في النار من قدمهم الله من شرار الخلق ، أو يسوغ أن يقال : ثم يلقى فيها الذين سبق في علم الله أنهم من أهلها ؟ فالحق أن المراد من القدم صفة من صفات الله تعالى .
وأما التأويل الثالث وهو ما أشبه فيه قول الزمخشري والخطابي ، فصار وضع القدم عندهما مثلا للزجر والردع عن طلب المزيد ، وعند غيرهما رمزا للقهر على النار بالقدرة ، فهذا التأويل - كما يبدر لي - يضمر في طيه أربعة تأويلات ، فإن قول الزمخشري : فكأنه قال : " يأتيها أمر الله عز وجل فيكفها عن طلب المزيد فترتدع " مشتمل على تأويل في ثلاثة أشياء :
الأول : أنه قدر المحذوف ، فأول إتيان الرب بإتيان أمره .
الثاني : أنه أول وضع القدم بالزجر والتوبيخ والكف عن طلب المزيد .
الثالث : أنه أول انزواء النار بعضها إلى بعض وقولها قط قط بارتداعها .
والرابع : هو التأويل الذي أوله بعضهم بأن وضع القدم رمز للقهر على النار وإبطال طلبها المزيد .(1/8)
فهذه التأويلات وما أشبهها مما أوله المئولون باطلة لأنهم لم يأتوا لها ببرهان ،
ولم يبينوا سبب إخراج هذه الكلمات عن ظواهرها ، وكل هذا ظن منهم أن ظواهر هذه الكلمات إذا أثبتت صفات للرب مثلا كان عيبا فيه ، ولا تليق هذه بجلاله تعالى فينزه عنه ، فبدأوا يئولون كل كلمة ثابتة أثبتت ما يخالف رأيهم ، فجاعوا بالطامات حيث شحنوا الكتب بالتأويلات ، أما ترى أن هذه الجملة الواضحة : " حتى يأتيها ربنا ، فيضع قدمه عليها فتنزوي " اشتملت على قطعات ثلاث ، وترى التأويل لكل قطعة .
ومن هنا يظهر أنه لا يبقى كلام على مراد القائل لم يسلم من التأويل .
ومع هذا يمكن الرد على كل تأويل بصريح النص فيرد التأويل الأول بقوله تعالى : ? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ? [ سورة الفجر الآية 22 ] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " يعني لفصل القضاء بين خلقه . . فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء ، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا "(1).
ويرد التأويل الثاني والثالث بما ثبت عن ابن عباس وغيره ، وقد سبق تفصيل ذلك قريبا في هذا المقال .
وإجمال القول فيه أن تأويل وضع القدم بالزجر والقهر ، ينتفي بقول ابن عباس : " حتى وجدت ( أي النار ) مس قدم الله تعالى ذكره " بعدما ذكر وضع قدمه عليها .
ويرد التأويل الثالث - أعني تأويل انزواء النار بارتداعها عن طلب المزيد - ما جاء في حديث ابن عباس السابق بلفظ : " فتضايقت حين جعل عليها ما جعل " ، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ : « هناك تمتلئ ويدنو بعضها إلى بعض »(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير ( 4 / 511 ) .
(2) التوحيد ( 92 ) .(1/9)
وأما التأويل الرابع - وهو تأويل الجبار - في قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « حتى يضع الجبار فيها قدمه »(1). بأنه أحد الجبابرة أو أنه إبليس لأنه أول من تكبر(2) فتأويل بعيد لما سبق من ألفاظ الأحاديث وهي : « فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها » و « وضع الرحمن قدمه فيها » و « حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره » بدل لفظ الجبار .
وأما التأويل الخامس - وهو كون الرجل لأحد الجبابرة - ففرع عن ثبوت التأويل الرابع ، فإذا بطل الأصل بطل الفرع .
وأما التأويل السادس - وهو إرادة الجماعة الذين خلقوا للنار بالرجل - فيبطل بما بطل به التأويل الأول والثاني .
وأما ما استدل به القاضي عياض - على تأييد ما نقل عن الحسن البصري من التأويل - من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد ولفظه : « وأن الله ينشئ للنار من يشاء ويلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ثلاثا ، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ » فلا يؤيد التأويل المذكور لوجوه :
الأول : قال الحافظ بن حجر : " وقد قال جماعة من الأئمة ، إن هذا الموضع مقلوب ، وجزم ابن القيم بأنه غلط ، واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه ، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله : ? وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ? [ سورة الكهف الآية 49 ] ثم قال : " وحمله على أحجار تلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب " .
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة ( 92 ) .
(2) انظر فتح الباري ( 8 / 596 ) .(1/10)
الثاني : وأضاف الحافظ فقال : " ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار ، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء ، فهو إنشاء الإدخال ، لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق ، بدليل قوله : " فيلقون فيها وتقول : هل من مزيد ، وأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : حتى يضع فيها قدمه ، فحينئذ تمتلئ ، فالذي يملؤها حتى تقول : حسبي هو القدم كما هو صريح الخبر "(1).
الثالث : وهناك وجه آخر وهو أن وضع القدم ذكر بعد الإنشاء والإلقاء ، فينبغي أن يكون الإنشاء ووضع القدم متغايرين ، لأن الإنشاء لا يخلو من ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق ، وهو لا يراد لما سبق نقله عن ابن حجر .
الثاني : أن يكون الإنشاء الإدخال ، فلا يفيد في تأييد التأويل المنقول عن الحسن .
الثالث : أن يكون الإنشاء بمعنى إنشائهم بما عملوا في الدنيا من موجبات النار ، فلا يفيد أيضا للتأييد المذكور ، فيستقل القدم بمعنى مغاير للإنشاء وهو أن يكون صفة لله تعالى .
وأخيرا أذكر طريق السلف في الصفات فقد قال ابن حجر : " هو أن تمر كما جاءت ، ولا يتعرض لتأويله ، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله "(2). وهذا اختيار جماعة من اللغويين الأوائل الكبار أمثال أبي عبيد ومشايخه ، والأزهري وغيرهم ، فقد نقل الأزهري بعد ذكر حديث وضع القدم تأويل الحسن ثم علق عليه فقال : " وأخبرني محمد بن إسحاق السعدي عن العباس الدوري أنه سأل أبا عبيد عن تفسيره وتفسير غيره من حديث النزول والرؤية ، فقال : " هذه أحاديث رواها لنا الثقات عن الثقات حتى رفعوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وما رأينا أحدا يفسرها ، فنحن نؤمن بها على ما جاءت ولا نفسرها " ، أراد أنها تترك على ظاهرها كما جاءت "(3).
__________
(1) فتح الباري ( 13 / 437 ) .
(2) فتح الباري ( 13 / 436 ) .
(3) تهذيب اللغة ( 9 / 45 ـ 46 ) .(1/11)
وقال البغوي : " قلت : والقدم والرجلان(1)،(2) المذكوران في هذا الحديث من صفات الله سبحانه وتعالى ، المنزه عن التكييف والتشبيه ، وكذلك كل ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة كاليد والإصبع والعين والمجيء والإتيان ، فالإيمان بها فرض ، والامتناع عن الخوض فيها واجب "(3)
( 2 ) أصابع الرحمن :
ذكر الزمخشري حديث : « قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبه كيف يشاء . »
فقال : " هذا تمثيل لسرعة تقلب القلوب ، إن ذلك معقود بمشيئته وذكر الأصابع مجاز كذكر اليد واليمين "(4) .
وقال القاضي عياض : " وقوله : « يضع السماوات على إصبع . . . » الحديث ، قيل : الإصبع صفة سمعية لله تعالى ، لا يقال فيها أكثر من ذلك كاليد ، وهذا مذهب الأشعري وبعض أصحابه ، وقد يحتمل أن يكون إصبعا من أصابع ملائكته ، أو خلقا من خلقه سماه إصبعا ، وقيل : هي كناية عن القدرة وعن النعمة ، وقيل : قد يكون المراد ضرب المثل من أنه لا تعب عليه ولا لغوب في إظهار المخلوقات كلها ذلك اليوم "(5).
وأورد ابن الأثير الحديث الذي عند الزمخشري ثم شرح نحو شرحه ، وأضاف إليه فقال : " وتخصيص ذكر الأصابع عن أجزاء القدرة والبطش لأن ذلك باليد ، والأصابع أجزاؤها "(6).
وملخص الأقوال الواردة هنا كما يلي :
( 1 ) ذكر الأصابع مجاز والمراد بها تمثيل المشيئة .
( 2 ) الإصبع صفة لله تعالى ، تثبت كما وردت من غير معرفة كنهها ، وكيفيتها ، ولا تجحد تشبيها بصفات المخلوقين .
( 3 ) المراد من الإصبع إصبع بعض ملائكته ، أو يراد بها بعض المخلوقين سمي إصبعا .
__________
(1) هكذا وردت بالتثنية .
(2) وذكر الحديث بالإفراد .
(3) شرح السنة ( 15 / 257 ) .
(4) الفائق ( 2 / 282 ) وانظر لثبوت اليد واليمين صفة لله تفسير الطبري ( 24 / 25 ـ 28) التوحيد لابن خزيمة ( 53 ـ 75 ، 82 ـ 89 ) مختصر الصواعق ( 322 ـ 334 ) .
(5) المشارق ( 1 / 47 ) .
(6) النهاية ( 3 / 9 ) .(1/12)
( 4 ) هي كناية عن النعمة وعن القدرة .
( 5 ) أريد بها ضرب المثل لإظهار عدم التعب .
وبعد ما عرضنا أقوالهم المعارضة في تأويل الإصبع يجدر بنا أن نسوق نصوصا وردت فيها هذه الكلمة ، ونعرف مدى اهتمام الشارع بإثبات الصفات وتعطيل المئولين إياها ، وهي فيما يأتي :
عن عبد الله بن عمرو عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء »
عن عبد الله « أن يهوديا جاء إلى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقال : يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع .
وفي رواية عند الطبري : « ثم يهزهن » ، ثم يقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ : ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ? [ سورة الأنعام الآية 91 ] » وفي رواية الطبري المذكور : ثم قرأ هذه الآية : ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ? [ سورة الأنعام الآية 91 ] الآية .
وفي رواية عنه : « فضحك رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تعجبا وتصديقا له .»
قال ابن كثير بعد تفسير هذه الآية : " وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة ، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف "(1).
ثم ذكر أحاديث الأصابع .
وقال ابن خزيمة في " باب إثبات الأصابع لله عز وجل " بعد ذكر أحاديث الأصابع : " والصواب والعدل في هذا الجنس مذهبا ، مذهب أهل الآثار ومتبعي السنن ، واتفقوا على جهل من يسميهم مشبهة ، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه . . . كيف يكون مشبها من يثبت لله أصابع على ما بينه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم للخالق البارئ "(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير ( 4 / 63 ) .
(2) التوحيد لابن خزيمة ( 82 ـ 83 ) .(1/13)
قلت : لأنه لا مشابهة بين أصابع الرحمن ، وأصابع الإنسان سوى اتفاقهما في الاسم ولا يكون تشبيها إلا إذا قسنا أصابعه بأصابعنا ، فأما إذا أثبتناها له من غير تمثيل ولا تكييف يكون كإثباته لذاته " نفسا " ولبعض مخلوقاته " نفسا " حيث قال على لسان عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام : ? تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ? [ سورة المائدة الآية 116 ] .
فيقال : نفس لا كنفس ، ومثله يقال : أصابع لا كأصابع ، ويدان لا كيدين ، وهكذا في كل ما ثبت عن الله تعالى في وصف نفسه ، وكذا فيما أثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأما ما لم يثبت فالخوض فيه ضلال .
( 3 ) ضحك الله تعالى :
قال بيان الحق النيسابوري ( 553 هـ ) في معنى : « يضحك الله إلى رجلين . . . »(1) : معنى الضحك : الرضا بفعلهما جمل(2).
وهذا تأويل مخالف لأحاديث الضحك الكثيرة ، منها ما رواه ابن مسعود في آخر أهل النار خروجا ، وفيه :
« أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ قال : يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فضحك ابن مسعود ، فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ ، فقالوا : مم تضحك ؟ قال : هكذا ضحك رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين حين قال : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ »(3)، ومنها ما رواه أبو رزين عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال : « ضحك ربنا من قنوط عباده ، وقرب غيره ، قال : قلت : يا رسول الله أو يضحك الرب عز وجل ؟ قال : نعم ، قال : لن نعدم من رب يضحك خيرا » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6 / 39 رقم 2826 .
(2) الغرائب 119 / أ .
(3) مسلم 3 / 43 . وانظر التوحيد لابن خزيمة ( 231 ) ..(1/14)
وسئل أبو عمر الزاهد غلام ثعلب - الذي ألف كتابا في غريب مسند الإمام أحمد(1)- عن معنى الضحك في هذا الحديث ، فقال :
" الحديث معروف ، وروايته سنة ، والاعتراض بالطعن عليه بدعة ، وتفسير الضحك تكلف وإلحاد"(2). يريد أبو عمر بذلك أن معنى الضحك في الحديث واضح ، لا خفاء به ، فمن ترك المعنى المتبادر ، والمفهوم الظاهر منه ، ولجأ إلى تفسيره بما لا يلائم الظاهر فقد تكلف في التأويل وألحد في صفة من صفات الله تعالى .
هذا ، وما قدمناه كنماذج لتأويل الصفات الذي أدى إلى التعطيل ، أخذا من كتب غريب الحديث ، يكفي لإظهار ما فيها أو في معظمها من أفكار التجهم والاعتزال - والعياذ بالله - فليحذر الذين يستفيدون منها ، وينقلون عنها ، وليدركوا ما في النقول قبل نقلها والموافقة عليها .
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى صحابته أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (3).
__________
(1) انظر تاريخ بغداد 2 / 358 .
(2) طبقات الحنابلة 2 / 69 .
(3) مجلة البحوث الإسلامية )) عداد : 31 ،ص : 259.(1/15)