الرد على
منكر صفتي الوجه واليد
تأليف
سعيد بن ناصر الغامدي
قام بصفه ونشره [شبكة الدفاع عن السنة]
1425هـ
سبب التأليف
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على أعرف الخلق بربه محمد بن عبدالله ، وعلى آله وأصحابه الذين هم أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً .
أما بعد : فقد اطلعت على رسالة موجهة إلى بعض أهل السنة فيها اعتراضات بدعية ، وإشكالات كلامية حول صفات الباري – جلا وعلا- وخصوصاً حول صفتي الوجه واليد لله تعالى ، فأقول مستمداً العون من الله فلا حول ولا قوة إلا به .
أساس اعتراض المبتدع المعطل على إثبات الصفات لله تعالى
أولاً : اعترض صاحب الرسالة المذكورة على جواز إطلاق صفتي اليد والوجه لله ليخلص منها إلى بقية المسائل حسب قوله أي ليخلص منها – بحسب ما فهمت – إلى نفي بقية الصفات .
ثانياً : يقوم اعتراضه أساساً على أن اليد والوجه من الجوارح والله منزه عن ذلك .
وسبب ذلك أن هذا المعترض قد افترض التشبيه والمماثلة بين الله تعالى وخلقه في ذهنه ، ثم أراد أن يتخلص من هذا فنفى عن الله ما أثبته لنفسه ، وهذه هي علة المعطلة وبابهم الذي ولجوا منه ، حيث اعتقدوا أن ظاهر كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من المحال الباطل ، ففهموا التشبيه أولاً ثم انتقلوا عنه إلى محذور آخر وهو التعطيل ، فعطلوا حقائق الصفات إما بإبطالها بالكلية وإما بالتأويل بناء منهم على ذلك الفهم ، وفي ذلك نسبة للمتكلم الكاملِ العلم الكامل البيان التامِ النصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد ، وأن أصحاب الكلام والتأويل هم الذين أجادوا التعبير وأحسنوا العبارة فتكلموا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة الوحي الشريف ، فكأنهم بذلك أعلم من الشارع أو أنصح للناس .(1/1)
وكل ذلك جاء من تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرمتها والتلاعب بمعانيها وتقاذفها بشتى أنواع التأويلات التي تختلف من فرقة إلى فرقة ومن متكلم إلى متكلم ، فكأن نصوص الوحي ملقاة في سوق أهل التأويل ينادون عليها من يزيد ؟! فالرافضي له تأويل ، والباطني له تأويل ، والجهمي له تأويل ، والمعتزلي له تأويل ، والزيدي له تأويل ، والأشعري له تأويل ، والماتريدي له تأويل ، فأي تأويل من هذه التأويلات – بل التحريفات – هو الحق والصواب . ؟ .
وكل مؤول يزعم أنه المحق ، وأن تأويله هو التعبير عن مراد الله تعالى ، وأنه هو صاحب التنزيه إلى آخر ما هنالك من الدعاوى العريضة المتضمنة للتكذيب والاتهام للوحي ومن جاء به بأنه أتى بما ظاهره الفساد والشر وأن الهدى هو في إخراجه عن حقائقه وحمله على وحشي اللغات ومستكرهات التأويل ، فكأنه يقول بلسان حاله إذا أخبركم الله عن صفاته العلى بشيء فلا تعتقدوا حقيقته وخذوا معرفة المراد من آراء الرجال ومعقولها والعياذ بالله .
مؤدى قول من يعترض على إثبات صفات الله تعالى على حقيقتها(1/2)
فكأن الذي جاء عن الله ورسوله في أعظم أركان الإيمان هو الإيمان بالله ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله جاء ملتبساً مشتبهاً حقه بباطله وأن ظاهره البطلان والفساد وأن الحق في إخراجه عن ظاهره بالتأويلات الفاسدة والمجازات الباطلة ومستنكرات اللغة ، فكيف يتوهم من لله ورسوله ولدينه ولكتابه في قلبه وقار أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمسك عن بيان الحق في هذا الأمر العظيم ولم يتكلم فيه بالصواب ، بل تكلم بما ظاهره خلاف الصواب ، حتى احتاج الأمر إلى تأويلات أهل التعطيل والتحريف ؟ ثم هل يعقل أن يكون خير الأمة وأفضلها وأعلمها ، وأسبقها إلى كل فضل وعلم وهدى ومعرفة قد قصروا في هذا الباب فجفوا عنه ، أو تجاوزوا فضلوا فيه ، أو سكتوا عن بيان الحق حتى جاءت عصور المتكلمة والمناطقة والفلاسفة وأتباعهم فبينوا ما عجز عن الصحابة وهم أهل العلم والإيمان وأرباب اللغة والبيان ؟ وهذا هو مؤدى قول كل من يعترض على إثبات الصفات على حقيقتها وظاهرها وحملها على المجاز والاستعارة والتأويل الصارف لها عن مراد المتكلم بها ، وفي هذا القدح في علم المتكلم بالوحي وفي بيانه وفي نصحه ، وتقرير ذلك أن يقال :
إما أن يكون المتكلم بنصوص الصفات عالماً أن الحق في تأويلات المعطلة النفاة أو لا يعلم ذلك ، فإن كان لا يعلم ذلك – مع كون الحق فيها كما يزعم المؤولة والنفاة – كان ذلك قدحاً في علمه .
وإن كان يعلم أن الحق فيها فلا يخلو من حالين :
الأول : أن يكون قادراً على التعبير بعبارة أهل التأويل والتعطيل التي يدّعون أنها هي عين التنزيه لله تعالى ، ومع ذلك لم يتكلم بها بل تكلم بخلافها فكان ذلك قدحاً في نصحه .(1/3)
الثاني : أن يكون غير قادر على التعبير بعباراتهم التي يزعمون أنها هي الأليق بصفات الله كان ذلك قدحاً في فصاحته وبيانه ، والله تعالى قد وصف رسله بكمال البيان وكمال النصح فقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1)
سبب قبول بعض الناس للتعطيل والتأويل
أسباب قبول ضعيفي العلم للتعطيل والتأويل مع كونه يخالف صحيح النص ، وصريح العقل ، وسليم الفطرة ، وقويم البيان الذي علّمه الله الإنسان وفطره على قبوله ، ومع كونه يخالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقته وطريقة أصحابه من بعده ومن تبعهم بإحسان من أهل القرون الفاضلة .
وهذه هي الأسباب :
أن أصحاب التأويل والتعطيل يأتون بها في زخرف من القول ، يغرون به النفوس الجاهلة فتسرع إلى قبوله واستحسانه وتبادر إلى اعتناقه واعتقاد صوابه ، لما في ظاهره من حُلة الفصاحة والبلاغة والعبارة الجذابة الرنانة ، كصاحب السلعة الفاسدة لا يعرض فسادها بل يموهها ويدلس على الناس ، أو بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء جميل اللون حسن الشكل ، ولكن الطعام مسموم .
__________
(1) سورة إبراهيم : 4 .(1/4)
وكذلك كل من أراد ترويج باطله فإنه لا يتم له ذلك إلا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهل بحقيقته ، كما قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (1) فهم يزخرفون باطلهم الذي هو مخالف لأمر الله وهدي أنبيائه بالأقوال الجذابة المبهرجة التي تغر ضعاف العقول فيقبلون على الباطل ويصغون إليه ، وهذا حال أكثر الخلق سواء منهم من ابتلي بمرض الشبهات أو بمرض الشهوات حتى إنك لتجد الفجار يسمون الخمور مشروبات روحية ، والزنى علاقات غرامية ، والتبرج والسفور فنوناً جميلة ، والربا فوائد مالية ، وتجد المبتدعة يسمون التعطيل والتأويل تنزيها ، كما تجد الإسماعيلية يسمون تحريفهم للقرآن إدراكاً للباطن ، والصوفية الملحدة يسمون اتحادهم ووحدتهم حقيقة ، والرافضة ينسبون مذهبهم الفاسد إلى آل البيت الأطهار ، إلى غير ذلك من زخرف القول وغروره .
__________
(1) سورة الأنعام : 112 .(1/5)
أن أصحاب الشبه والابتداع يخرجون المعنى الذي يريدون إبطاله بالتأويل والتعطيل في صورة قبيحة رديئة تنفر منها القلوب والأسماع ، إيهاماً للسامع وتزويراً للحقيقة وإبطالاً للحق الصريح ، فتجدهم يسمون إثبات الصفات التي جاء بها الوحي المعصوم تشبيهاً وتمثيلاً وتجسيماً ، ويسمون إثبات استواء الله على عرشه فوق سماواته تحيزاً ، ويسمون إثبات العرش جهة ، ويسمون إثبات الوجه واليدين والقدم لله تعالى جوارح وأبعاضاً ، ويطلقون على صفاته اسم العَرَض ، ويسمون إثبات أفعاله تعالى حوادث ، والحكمة والغاية في أفعاله تعالى أعراضاً ، إلى غير ذلك من الأسماء الشنيعة والألقاب المحدثة التي يدلسون بها على عقول الأغرار ، حيث يقولون لهم إن ربكم منزّه عن التشبيه والتجسيم والتحيز والجهات والجوارح والأبعاض والأعراض والحوادث والأغراض ، فلا يشك من في قلبه تعظيم لله أن الله منزه عن ذلك ، ولكنه لا يعلم أنه تحت هذه العبارات أفاعٍ وحيَّات ، لأن المؤولة والمعطلة قد اصطلحوا على تسمية سمع الله وبصره وعلمه وقدرته ومشيئته أعراضاً ، وعلى تسمية وجهه العظيم ويديه المبسوطتين أبعاضاً وجوارح ، وعلى تسمية علوّه على خلقه واستوائه على عرشه تحيزاً ، وعلى تسمية نزوله وإتيانه ومجيئه – سبحانه – وتكلمه بقدرته ومشيئته إذا شاء ورضاه بعد غضبه بعد رضاه حوادث ، وأطلقوا على أهل السنة الألقاب القبيحة فسموهم حشوية ومشبهة ومجسمة ونوابت ونواصب ومجبرة ، إلى آخر ما هنالك من ألفاظ مستنكرة وألقاب شنيعة يراد من إطلاقها صرف الناس عن الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسار عليه الأصحاب والأتباع ، وفي ذلك يقول إمام أهل السنة أبو عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله : " لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنّعين " (1) .
__________
(1) إبطال التأويلات لأبي يعلى ص 175 مخطوط .(1/6)
أن يسند المبتدع بدعته إلى نبيل من نبلاء المسلمين ممن له في العلم مقام ، أو ممن له قدر عند المسلمين كآل البيت ، فيقول الغِرّ الجاهل ما دام العالم الفلاني قد قال هذا أو الفاضل الفلاني قد نطق بهذا فلا شك أن كلامه هو الحق والصواب ، وهكذا يَعْظُمُ كلامه أو ما نسب إليه في نفس من لا يفرّق بين كلام من يُحْتجُ به وكلام من يُحْتجُ له ، فيقدّمه على كلام الله وكلام رسوله ويقول هو أعلم بالله ورسوله منا ، وهذا هو الغالب على أكثر العقول التي ليس معها سوى إحسان الظن بالقائل من غير حجة شرعية ولا برهان علمي ، وهذا من جنس أفعال الذين عارضوا دين الرسل بما كان آباؤهم وأسلافهم فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ماجاءت به الرسل من الهدى والخير ، وهذا شأن كل مقلد متعصب لمن يعظمه وإن خالف قوله أو فعله الحق .
يضع المبتدعة كأهل التأويل والتعطيل مقدمات وإرهاصات لتثبيت البدعة وتمكينها ، منها أن أهل السنة أصحاب ظواهر ، وأنهم قوم جهال لا عقول لهم وإنهم يعتمدون على الظواهر السمعية وينكرون الأدلة العقلية ، ومنها أن نصوص الصفات يجب حملها على المجاز والكناية والاستعارة ، لأن ذلك أليق بها وأوفق للتنزيه وأبعد عن التشبيه وألطف في التعبير ، ومنها أن أدلة الكتاب والسنة أدلة لفظية لا تفيد علماً ولا يقيناً وإنما يستفاد العلم واليقين من أدلة المنطق وقواعد علم الكلام ، ومنها تقديم العقل على النقل إذا تعارضا ، ومنها حمل ألفاظ القرآن – تعسفاً – على بعض أوجه النحو واللغة بحجة أنه لفظ مشترك أو عبارة مشتبهة .
فإذا حصلت هذه الأسباب أو بعضها وتمكنت من قلب من أشرب البدعة أو جرى في ميدان أهلها رأيته يتقلب في ضلالات التأويل والتحريف والتبديل والعياذ بالله .
تفصيل الرد على المعترض(1/7)
تفصيل الرد على المعترض : بعد أن أورد قول الله تعالى : ( يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (1) وقوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (2) وقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (3) قال : " فإذا وردت ألفاظ في الآيات الكريمة فيجب حملها على معانيها العربية ، فالألفاظ الواردة في الآيات السابقة ظاهرها الجوارح ، وألفاظ الجوارح لها معانٍ خلاف ظاهرها ، فقد تكون للكناية وقد تكون للتمثيل فتطلق على الله مجازاً وإلا وقعنا – والعياذ بالله – في التشبيه أي تشبيه الله بخلقه .... إلخ " (4)
أقول : إذا تأملنا ما سبق إيضاحه من أحوال المبتدعة وموقفهم من نصوص الوحي وأسباب ذلك وما يلزمهم من لوازم فاسدة تبين مصداق ذلك في قول هذا المعترض.
__________
(1) سورة المائدة ، 64 .
(2) سورة البقرة ، 115 .
(3) سورة الزمر ، 67 .
(4) إبطال التأويلات لأبي يعلى ، ص 175 مخطوط .(1/8)
أما هذه الآيات فمعلوم أن القرآن منذ أنزل والرسول يتلوه والصحابة يسمعونه والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة المفضلة يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار في أعصار عديدة وأمصار كثيرة ، وهم يسلَّمون بظاهر هذه الآيات ولم ينقل عن أحد منهم أنه طلب صرف القلب والفكر عن تدبر معاني هذه الآيات على وجهها الذي وردت به ، مع اعتقادهم أنها ثابتة لله على الوجه اللائق به مع نفي المماثلة وقطع الكيف ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال بأن المعنى الظاهر غير مراد بل المراد معاني أخرى ، فكيف يجوز بعد ذلك أن نقبل أقوال الذين تلوثوا بآراء الفلاسفة والمناطقة ونعرض عن المأثور عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعهم رضي الله عنهم ؟ ! ثم أين الدليل الذي يجوز بناءً عليه صرف ظاهر الآيات عن معانيها الحقيقية المقصودة من لفظ الشارع ؟ ثم لماذا حمل المتأول والمعطل النص على المعنى الباطل الذي لايليق بالله وهو أن يكون له تعالى وجه كوجه المخلوق أو يد كيده ؟ إن حمله للنص على هذا المعنى الباطل لهو دليل الزيغ والفساد ، فإنه فَهِمَ من النص المعنى الباطل الذي لا يجوز إرادته ، ثم أخرجه بالتأويل عن معناه الحق الذي قائله ، فأساء في الأولى وأساء في الأخرى وأساء الظن بالقائل والناقل وعطل الباري عن كماله الذي وصف به نفسه .
إن هذا الزعم الباطل يلزم منه أن الله تعالى وصف نفسه بما ظاهره الشناعة والفساد ، ونعت للناس نفسه بما يحتمل الباطل والضلال – والعياذ بالله – فأي طعن في القرآن وقائله أعظم من هذا الطعن ؟
معنى قول الله تعالى (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )
قوله : " فمثلاً قوله تعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (1) أي توليت خلقه أنا لم يشاركني أحد في خلقه ، جاء هذا التعبير لذلك طبقاً لما نفهمه ... " .
__________
(1) سورة ص ، 75 .(1/9)
في هذه الآية أضاف الباري – سبحانه – الفعل لنفسه ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء ، وجعل ذلك خاصية خص بها صفيّة آدم – عليه السلام – دون البشر ، كما خص موسى بأنه كلَّمه بلا واسطة ، وهذا مما يحيل تأويل اليدين في الآية بالنعمة أو القدرة أو الإِتقان ، ولو أراد الله سبحانه وتعالى ما أوله المتأول لقال : ما منعك أن تسجد لما توليتُ أنا ولم يشاركني أحد في خلقه ؟ وحينئذ لا تكون هذه الخاصية لادم عليه السلام وحده ، ويستطيع إبليس أن يقول : وأنا يا رب كذلك توليت خلقي ولم يشاركك في خلقي وإيجادي أحد .
الصيغ التي وردت في القران للفظ اليد :(1/10)
والمتأمل في القرآن العظيم يجد أن لفظ اليد جاء على ثلاثة أنواع مفرداً ومثنىً ومجموعاً ، فالمفرد كقوله تعالى (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(1) والمثنى كقوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (2) والمجموع كقوله تعالى (عَمِلَتْ أَيْدِينَا) (3) فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليهما فقال (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ولما ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعدها بالباء وهذه يفهم منها مثل مايفهم من قوله " عملنا وخلقنا " في المراد بالجمع ، أما قوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) لو كان المراد منها مجرد الفعل لم يكن لذكر اليدين بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى ، فكيف وقد دخلت عليها الباء ؟ فكيف إذا ثنيت ؟ فالفعل إذا أضيف إلى يد ذي اليد ثم عُدّي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو مما باشرته يده ، فعن حكيم بن جابر قال " أُخبرت أن ربكم عزوجل لم يمس بيده إلا ثلاثة أشياء غَرسَ الجنة بيده وخَلقَ آدم بيده وكَتبَ التوراة بيده " (4) ، وكما جاء في الصحيحين وغيرها في حديث الشفاعة الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن أهل الموقف يأتون آدم يوم القيامة فيقولون : " يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك" (5) ، وكما جاء في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي أن الملائكة قالوا : " يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وبنكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة . فقال الله تعالى : " لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيديَّ ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان " (6)
__________
(1) سورة الملك ، 1 .
(2) سورة ص ، 75 .
(3) سورة يس ، 71 .
(4) أخرجه الآجّريُّ في الشريعة ص 303 بسند صحيح وعبدالله بن أحمد في السنة ص 68 وصححه الذهبي في العلو . ( انظر مختصره ص 130 ).
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب : ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه 4/134 .
(6) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، ص 317 .(1/11)
.
فكل هذه الأحاديث والآثار تبين المقصود من تخصيص آدم في الآية بكونه مخلوقاً بيد الله جل وعلا ، ولم يقل المسلمون الذين سمعوا هذه الآية وتلقوا هذه الأحاديث كما قالت المبتدعة بأن اليد المراد بها القوة أو العناية أو الإتقان ، ولو كان ذلك مما تبادر إلى أذهانهم أو مما فهموه ، من نبيهم الصادق الفصيح الناصح - صلى الله عليه وسلم - لأخبرونا به ، كما أخبرونا بتأويل وتفسير كثير من الأحكام ومسائل العبادات والمعاملات ، التي وقع بينهم فيها اختلاف في النظر والاستنباط ، ولكن ولله الحمد لم يقع بينهم في مسائل الصفات أي اختلاف لا في إثباتها ولا في معانيها فكان ذلك منهم إجماعاً لايصح الخروج عليه .
الأدلة من السنة على إثبات اتصاف الله باليد :(1/12)
ثم يقال : ليست هذه الآية الوحيدة التي ثبت بها اتصاف مولانا العظيم بصفة اليد ، بل هناك نصوص أخرى من الكتاب والسنة ، فمن ذلك ما جاء في الصحيحين وسنن أبي داود والأسماء والصفات للبيهقي وابن ماجة والدارمي وأحمد في مسنده أن النبي قال : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " . وعند الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعاً " المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين " ، وكذا في حديث أبي هريرة قال آدم : " اخترتُ يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين " ، وفي حديث ابن عباس مرفوعاً " أول ما خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يدي ربي يمين " . وفي الصحيحين وعند الترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند وابن أبي عاصم في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع " ، وفي صحيح مسلم وابن خزيمة في كتاب التوحيد وبعضه في جامع الترميذي ، لّما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى أهل الجنة منزلة قال الله : " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها " .(1/13)
وفي صحيح مسلم والأسماء والصفات للبيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في استفتاح الصلاة : " لبيك وسعديك والخير كله في يديك " ، وفي صحيح مسلم ومسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ، وفي الصحيحين وغيرهما عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " تكون الأرض يوم القيمامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة " ، وفي الحديث المتفق على صحته وفي السنن ما عدا أبي داود وعند الدارمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " ، وفي مسند أحمد وشرح السنة للبغوي وعند ابن أبي عاصم بسند صحيح على شرط مسلم من حديث أنس وفيه : قال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صدق عمر " .
أما الأدلة من نصوص القرآن فمنها قوله تعالى : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(1) وقوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون)(2)
قال ابن عمر : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً على المنبر فقال : " إن الله تعالى إذا كان يوم القيمامة جمع السموات والأرض في قبضته ثم قال هكذا ومد يده وبسطها ثم يقول أنا الله الرحمن " (3) .
__________
(1) سورة المائدة ، 64 .
(2) سورة الزمر ، 67 .
(3) رواه البيهقي في الأسماء والصفات وله شاهد في صحيح مسلم بنحوه .(1/14)
والنصوص في هذا الباب كثيرة تدل كلها أن لله يدين لا تشابه ما في الأذهان ولا ما في الأوهام ، فأما أهل السنة فتلقوها بالقبول وزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض من شبهات أهل الفلسفة والكلام فزادتهم رجساً إلى رجسهم وتولوا وهم يجمحون ، وفي أودية التأويل والتعطيل يهيمون .
الرد على تحريف المبتدع لقوله تعالى : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)
قال المعترض : " وقد تأتي هذه الألفاظ ولها معان مشتركة فمثلاً الآية الكريمة ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (1) تستعمل اليد هنا بمعنى النعمة ، لأن لفظة اليد في لغة العرب قد تستعمل كناية عن الجود وذلك كما في الآية المذكورة – إلى أن قال : فاليهود – لعنهم الله – أرادوا بكلامهم يد الله مغلولة بمعنى أنه بخيل ، لأن غل اليد في لغة العرب : كناية عن البخل ، وبسط اليد في اللغة كناية عن الجود ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (2) والمراد أن أنفق قصداً لا إسرافاً ولا إقتاراً " .
قلت : أما قوله بأن هذه الألفاظ لها معان مشتركة فلا ريب أنه قد جاء في لغة العرب اليد بمعنى القدرة وبمعنى النعمة وبمعنى القوة وبمعنى الملك ، ولسنا هنا في محل تقرير ذلك في لغة العرب ولكن الذي نحن بصدده في كلام المعترض ما يلي :
أن الكلام عن صفة اليد لله سبحانه وتعالى والمعترض ينفي أن تكون كذلك بل هي عنده لفظ يدل على معنى غير الصفة ، مع ما ثبت في القرآن وتواتر في السنة أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله .
إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم تستعمل في النعمة ولا في القدرة عند العرب ، ولكن المستعمل في لغة العرب في هذا الباب أنواع منها :
__________
(1) سورة المائدة ، 64 .
(2) سورة الإسراء ، 29 .(1/15)
استعمال الواحد في الجمع كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (1) ، (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً) (2) فيؤدي الواحد عن جميع جنسه فليس المراد إنساناً أو كافراً بعينه بل جميع الإنس وجميع الكفار ، كقول العرب " ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " .
استعمال لفظ الجمع في الواحد كقوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ) (3)
استعمال لفظ الجمع في الإثنين كقوله تعالى : (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (4) .
ولايوجد في لغة العرب استعمال لفظ الواحد في الإثنين ، ولا استعمال لفظ الإثنين في الواحد ، فلا يصح في لغة العرب أن يقال عندي رجل ويعني رجلين ، ولا عندي رجلان ويعني به الجنس ، ولا أن يقال " ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس " بمعنى ما أكثر الدراهم ، لأن اللفظ إذا ثني في لغة العرب فلا يدل إلى على اثنين بأعيانهما . فقوله تعالى : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (5) لا يجوز أن يراد به النعمة لأن نعم الله لا تحصى فلا يصح أن يعبر عن النعم الكثيرة بصيغة التثنية ، وكذلك قوله (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (6) لا يجوز أن يراد به القدرة لأن القدرة صفة واحدة ولا يجوز أن يعبر بالإثنين عن الواحد .
__________
(1) سورة العصر ، 2 .
(2) سورة الفرقان ، 55 .
(3) سورة آل عمران ، 173 .
(4) سورة التحريم ، 4 .
(5) سورة المائدة ، 64 .
(6) سورة ص ، 75 .(1/16)
يقال للمعترض : هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد وأن يعنى بها القدرة أو النعمة ، أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل أو إتقان الفعل لكن ما الموجب لصرف هذا اللفظ عن حقيقته ؟ فإن قال : لأن اليد جارحة وهذا ممتنع على الله تعالى قيل له : نعم يجب منع وصفه سبحانه بأن له يداً من جنس أيدي المخلوقين ، ولكن لم لا يجوز أن يكون له " يد " تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات ؟ . مع أنه لا يوجد في العقل ولا النقل ما يمنع ذلك ، فيمتنع حينئذ أن يصرف اللفظ عن حقيقته الظاهرة إلى مجازه لو كان هذا المجاز صحيحاً .
يقال للمعترض : هل في كتاب الله أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو في المأثور عن أحد من سلف الأمة أنهم قالوا : إن المراد باليد خلاف الظاهر أو أن الظاهر غير مراد ؟ وهل في كتاب الله آية تدل دلالة واضحة على انتفاء وصفه باليد ؟ فإن استدل بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (1) ، وقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (2) وقوله : (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) (3) فيقال له هذه الآيات إنما تدل على انتفاء التشبيه والتمثيل والتجسيم ، أما انتفاء يد تليق بجلاله فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه ، هذا من جهة النقل ، أما من جهة العقل فليس في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري سبحانه ليس له " يد " ألبته فلا حجة عقلية للنافي ، بل العقل يدل على إثبات الكمال لمن هو أهله ، فإذا لم يكن في العقل ولا في النقل ما ينفي حقيقة اليد ، بل فيهما ما يثبت ذلك فيكون كلام المعترض مما لا يسوغ عقلاً ولا نقلاً .
__________
(1) سورة الشورى ، 11 .
(2) سورة مريم ، 65 .
(3) سورة الإخلاص ، 4 .(1/17)
يقال للمعترض :في تأويله لقوله تعالى (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (1) وقوله (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (2) إنه لا يوجد في كلام العرب مطلقاً أن يقال يد فلان مبسوطة ، وفلان فعل ذلك بيده إلا ويكون له يد على الحقيقة ولا يجوز أن يكون لا يد له ، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها ، فهم لا يقولون " يد " الهوى ولا " يد " الماء ، ولكنهم يصفون الكريم ببسط اليد والبخيل بضمها لأن الإعطاء والمنع يكون ببسط اليد ومدها وقبضها وإمساكها فلا بد أن يكون له " يد " على الحقيقة ، وهذا من الحقائق العرفية التي يفهم منها أنه إذا قيل هو مبسوط اليد أن له يداً على الحقيقة ، وكذلك عندما تقول العرب : " عندي له يد " أو " لفلان عنده أياد " ويريدون بذلك النعمة فإنما هو تسمية للشيء باسم سببه ، كما يسمون المطر والنبات سماءً ، وكذلك إطلاقهم اليد بمعنى القدرة تسمية للشيء باسم مسببه لأن القدرة هي تحريك اليد ، فيقال فلان له يد في كذا وكذا ، فنتج من ذلك كله أنه ما من إطلاق أطلقه العرب في لفظ اليد إلا وأريد به فعل من له يد على الحقيقة .
الفرق بين الصفة ولازمها :
إن المعترض كسائر المؤولة الذين لم يفرقوا بين الصفة ولازم الصفة ، فجعل لازم الصفة هو المراد من لفظ الصفة ، وهذا تعدٍ على القائل بحمل كلامه على غير مراده ، ومخالفة للغة التي نزل بها الوحي وحمل لها على الاغتساف . فقد يقال بأن من معاني قوله تعالى : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(3) العطاء والبذل والجود والكرم (4)
__________
(1) سورة المائدة ، 64 .
(2) سورة ص ، 75 .
(3) سورة المائدة ، 64 .
(4) تفسير الطبري 10/451-453 .(1/18)
وهذا لازم فعل من له يد ينفق بها فعجباً من أمر من يثبت أثر الصفة ولازمها وينفي أصل هذا الأثر واللازم !! قال المعترض في أثناء حديثه عن تأويل صفة اليد لله تعالى : " وتأتي في معنى آخر في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)(1) فأين يد الله إذا حملنا لفظة اليد هنا بمعنى الجارحة حال تخلق الجنين من تلك الأنعام في بطون أمهاتها . ثم أضاف : ومن معاني اليد في لغة العرب " النعمة … القوة … الملك … " .
فنقول رداً عليه :
هذا القول مندرج ضمن ما مضى الحديث عنه من مناهج المؤولة وطرائقهم في تحريف الكلام وأسباب ذلك والرد عليه .
وصف اليد في هذه الآية وردت بلفظ الجمع لأنها أضيفت إلى ضمير الجمع كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ)(2) وقوله تعالى(بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(3) وهذه هي طريقة العرب في لغتها ، فإنهم عند إضافة الشيء إلى إسم الجمع ظاهراً أو مضمراً فإنهم يجمعونه مشاكلة للفظ ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)(4) وقوله تعالى(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(5) ، وقوله تعالى :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)(6) وهذا نظير المشكلة التي ترد في لغتهم في لفظ المفرد عند إضافته للمفرد كقوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(7) وقوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)(8) مثل قول القائل : أفعل هذا بيدي وأحمله على عيني ، وفي الجمع يقولون على لسان من له أمر وشأن : بأيدينا كان هلاك العدو ، وبأعيننا تكون رعاية الصديق .
__________
(1) سورة يس ، 71 .
(2) سورة الأنبياء ، 61 .
(3) سورة الروم، 41 .
(4) سورة يس ، 71 .
(5) سورة القمر ، 14 .
(6) سورة هود ، 37 .
(7) سورة الملك ، 1 .
(8) سورة آل عمران ، 26 .(1/19)
والفرق بين هذه الآية وهي قوله تعالى(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)(1) وقوله(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(2) أنه أضاف الفعل في الآية الأولى إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)(3) وفي الآية الثانية أضاف الفعل إلى نفسه المقدسة فقال (لِمَا خَلَقْتُ) ثم قال (بِيَدَيَّ) ويستفاد من هذا الفرق أن صيغة التثنية تدل على العدد المحصور وتقتضي أن تكون له يدان فقط وصيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه وهي تدل على اتصافه جل وعلا بصفة اليد (4) .
ومن لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس كقوله تعالى : (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(5) والمراد قلباكما ، وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) (6) أي : يديهما ، وكذلك قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)(7) المراد بها اليدان المقدستان لله جل وعلا كما في قوله تعالى (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(8) وقوله تعالى : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (9) .
__________
(1) سورة يس ، 71 .
(2) سورة ص ، 75 .
(3) سورة البقرة ، 95 .
(4) انظر مجموع الفتاوى 3/45-46 و 6/366 .
(5) سورة التحريم ، 4 .
(6) سورة المائدة ، 38 .
(7) سورة يس ، 71 .
(8) سورة ص ، 75 .
(9) المائدة ، 64 .(1/20)
أن العرب إذا قالت عملته يداك فإن ذلك يتضمن أمرين : أحدهما إثبات اليد ، والثاني إضافة العمل إليها وقد يقع التجوز في مثل هذا القول ولكنهم لايطلقونه – في الغالب – إلا لجنس من له يد حقيقة فلا يقولون يد الشمس ولا يد الضوء فإذا افترضنا أن معنى الآية هو القدرة أو القوة أو الملك أو النعمة مجازاً كما يدعي المؤول أو المعطل ، فإنا نقول : لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة (1) وحتى قول العرب " يداك أوكتا وفوك نفخ " فإنه لايقال في الغالب إلا لذي اليد ، وإن تجوزوا به لغير ذي اليد أو لمن اقترف عملا بغير يده ، فإن من المؤكد أن هذا المثل لم يطلق ابتداء عند العرب إلا لمن كانت له يدان .
معنى قول الله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) والرد على المبتدع :
إذا تبين ما سبق فإن ظاهر قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً)(2) أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها من المخلوقات وأن خلقه لها ليس كخلقه لآدم عليه الصلاة والسلام الذي قال في حقه (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(3) حيث أضاف الفعل إلى ذاته وعداه بالباء إلى اليد ، أما في قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) (4) فأضاف العمل إلى اليد والمراد صاحبها ، وهذا يتضمن إثبات صفة اليد وإثبات إضافة العمل إليها ، مع إثبات تميز آدم عليه السلام بأن الله باشر خلقه بيده سبحانه وتعالى .
***********
الرد على المبتدع في نفيه صفة الوجه لله تعالى
__________
(1) أنظر المصدر السابق 6/370 .
(2) سورة يس ، 71 .
(3) سورة ص ، 75 .
(4) سورة يس ، 71 .(1/21)
قال المعترض في نفيه صفة الوجه لله تعالى : " والمراد بلفظة الوجه الواردة في قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(1) أي الجهة التي أمركم بالتوجه إليها ، ووجهه ذاته ونفسه ، فلا تدل على الجارحة ، لأن النفس والذات لا تعرف إلا بالوجه . ألا ترى أننا لو اعتقدنا أو فسرنا الوجه هنا بالجارحة لوقعنا في التشبيه بالمخلوقين ، لأنه قد ورد في القرآن في آية أخرى لفظة الوجه بمعنى آخر غير الجارحة ، وذلك أن القرآن قد حكى في سورة يوسف قول إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)(2) ومعنى لفظة الوجه أنهم أرادوا إقبال أبيهم عليهم إقبالة واحدة لايلتفت إلى غيرهم – إلى أن قال – وكذا : أن الرجل إذا أراد أن يقبل على الشيء أقبل بوجهه " .
معنى قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)
أقول وبالله التوفيق : تفسيره لقوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(3) بالجهة منقوض بعدة أوجه :
الوجه الأول : أنه لا يعرف في لغة العرب ولا في ألفاظ الشرع ولا في العرف أن لفظ الوجه يراد به الجهة أو القبلة إذ لكل منهما اسم يخصه ، أما تسمية القبلة وِجْهة فقد ورد في تفسير بعض أهل العلم لقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)(4) والوجهة والجهة غير الوجه من حيث اللغة ، أما من حيث الإستعمال الشرعي فإنه لايعرف في نصوص الوحي تسمية القبلة أو الجهة " وجه الله " .
__________
(1) سورة البقرة ، 115 .
(2) سورة يوسف ، 9 .
(3) سورة البقرة ، 115 .
(4) سورة البقرة ، 148 .(1/22)
الوجه الثاني : من المعروف أن القبلة التي نصبها الله تعالى لعباده هي قبلة واحدة ، أمر المصلون بالتوجه إليها حيثما كانوا كما قال تعالى : (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ)(1) فلو كان المراد بوجه الله تعالى في قوله (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(2) جهة القبلة كما يقول المعترض لكان كل جهة يولي إليها العبد وجهه فهي قبلة له ، وليس للبيت الحرام أية مزية ، وهذا لايصح أبداً ، إذ لا يعقل أن يحدد الله للمسلمين قبلة هي المسجد الحرام ويقول لهم : (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ)(3) ثم يقول لهم أي جهة توجهتم إليها فهي جهة القبلة .
__________
(1) سورة البقرة ، 144 .
(2) سورة البقرة ، 115 .
(3) سورة البقرة ، 144 .(1/23)
الوجه الثالث : قوله تعالى (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(1) هذه الآية وما قبلها وما بعدها ليس فيها تعرض للقبلة ولا لجهتها ولا لحكم استقبالها ، بل سياقها جاء لبيان عظمة الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل مخلوق وأنه – سبحانه – محيط بالعالم كله علويه وسفليه فذكر في أول الآية إحاطة ملكه وتصرفه فقال (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)(2) فهو مالك الجهات وما بينها وما حولها ، ثم ذكر بعد ذلك عظمته سبحانه وتعالى وأنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء فأينما ولّى العبد وجهه وقصده وإرادته فثّم وجه الله ، ثم ختم سبحانه كلامه في هذه الآية بإسمين دالين على السعة والإحاطة فقال (إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(3) تقريراً للمعنى السابق في الآية وتبياناً له على أتم وجه ، ولذلك عقب بعدها بالرد على من جعل له ولداً فقال : (وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117))(4) فبعد أن بين سبحانه عظمته وسعته وأنه أكبر من كل شيء رد على المشركين وأهل الكتاب الذين جعلوا له شركاء من خلقه وأشركوا في عبادته ، وزعموا أن الملائكة بناته أو أن له ولداً سبحانه وتعالى عما يصفون وقد سبق هذه الآية تكبيت للمشركين الذين منعوا عباده من ذكره في المساجد وسعوا في خرابها .
__________
(1) سورة البقرة ، 115 .
(2) سورة البقرة ، 115 .
(3) سورة البقرة ، 115 .
(4) سورة البقرة ، 116 ، 117 .(1/24)
الوجه الرابع : لو كان المراد بوجه الله الجهة أو القبلة لكان قد أضاف سبحانه إلى نفسه جميع القِبَلْ إضافة تشريف ومحبة ورضى ، وعلى ذلك فلا يكون لتخصيص البيت الحرام أي معنى ، ولا يكون لوصف الله تعالى لليهود بالسفه في قوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا)(1) أي معنى ، ومثل هذا يقال في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ…)(2)
فإذا كان المراد بوجه الله في قوله (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) (3) جهة القبلة فلا داعي حينئذ لكل هذه الأحكام والأخبار والأوصاف ، مما يدل دلالة واضحة على أن السياق غير السياق والمعنى غير المعنى ، ولا يصح أن يقال بأن هذه الآية منسوخة أو مخصوصة لأنها خبر عن عظمة الله وملكه للمشرق والمغرب ، وخبر عن اتصافه بصفة ذاتية من صفاته وعن سعته وعلمه ، والأخبار لا يدخلها النسخ ولا التخصيص .
__________
(1) سورة البقرة ، 142 .
(2) سورة البقرة ، 145 .
(3) سورة البقرة ، 115 .(1/25)
الوجه الخامس : لو قلنا تنزِلاً أن قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(1) يراد بها الجهة والقبلة ، كما قال بذلك بعض أهل العلم فيكون ظاهر الآية محتملاً لكلا الأمرين ، فأينما ولى العبد وجهه في صلاةٍ توليةً مأموراً بها فهي قبلة الله وثمَّ وجه الله . وغاية ما في هذا الأمر أن يكون لفظ الوجه في هذه الآية لفظاً مشتركاً قد استعمل في الجهة تارة وفي الصفة تارة ، فمن أين يلزم من ذلك أن يكون وجه الرب ذو الجلال والإكرام مجازاً ؟ أو أن لا يكون له وجه على الحقيقة كما بقول هذا المعترض ، بخلاف ما يقوله بعض أهل العلم الذين فسروا هذه الآية بالجهة فإنهم يثبتون لله وجهاً يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تشبيه .
الوجه السادس : إن المصلي إذا توجه تلقاء القبلة فثم وجه الله وهو مستقبل وجه الله لأن الله تعالى محيط بالعالم كله كما قال تعالى : (وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً)(2) فأينما ولى العبد فإن الله مستقبله ، فهو سبحانه عال على خلقه فوق جميع مخلوقاته وهو مستو على عرشه ، مباين لخلقه ، وعرشه فوق السموات كلها فهو تعالى واسع محيط بكل شيء ، وعبده المستقبل للقبلة المأمور بها مستقبل ربه تعالى ، والله مقبل على كل مصلٍ بوجهه كما جاء في الصحيحين " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قِبَلَ وجهه فإن الله قِبَلَ وجهه " وعلى هذا المعنى يمكن أن ينزّل قول من قال من أهل العلم بأن المراد بالآية الجهة والقبلة ، لا كما يتذرع نفاة الصفات حيث يَخْلُصون من هذا المعنى إلى تعطيل صفة ذاتية من صفات الله تعالى .
الرد على المعترض في قوله : " ووجهه ذاته ونفسه " :
__________
(1) سورة البقرة ، 115 .
(2) سورة النساء ، 126 .(1/26)
الوجه السابع : قول المعترض " ووجهه ذاته ونفسه " هذا القول مناقض لقوله السابق أن المراد بالوجه الجهة ، لأن الجهة مخلوقة وذاته ونفسه سبحانه وتعالى غير مخلوقه ، وهذا الإضطراب من المعترض دليل على فساد قوله وزيف حجته ، والسبب في ذلك أن همّه منصب على نفي وتعطيل هذه الصفة بأي وجه من الوجوه فجعلها مرة الجهة التي هي مخلوقة لله وجعلها في الأخرى ذات الله ونفسه التي ليست بمخلوقة .
الوجه الثامن : لو كان المراد بالآية نفسه وذاته لقال الله تعالى : فأينما تولوا فثمّ الله، أو فثّم ذات الله ، أو فثمّ نفس الله ، فلما عدل عن كل هذا وأتى بلفظ (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(1)علمنا أنه – سبحانه – يريد إخبارنا بصفة من صفاته العظيمة .
الرد على المعترض في إلزامه أهل السنة بأن الوجه جارحة :
الوجه التاسع : قول المعترض " لو فسرنا الوجه بالجارحة لوقعنا في التشبيه بالمخلوقين " وقد سبق الرد على هذه الشبهة التي ولج منها سائر المؤولة والمعطلة لتحريف كلام الله ، غير أنه يمكن أن يقال لهذا المعترض إن كان ممن يثبت لله سبعاً من الصفات : لم لا تقول في السمع والبصر مثل قولك في هذه الصفة ؟ فإن قال : له سمع وبصر يليق به ، قلنا : وله وجه يليق به ، لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر ، وإن كان المعتزلة النفاة قلنا له : هل لله وجود ؟ ، فإن نفى كفر ، وإن أثبت قلنا : له وللإنسان وجود كذلك ، فسيقول لله وجود يليق بجلاله ليس كوجود المخلوقين ، فنقول له : وله وجه ويدان وسمع وبصر وصفات تليق بجلاله ليست كجوارح المخلوقين .
الوجه العاشر : استدل بقوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)(2) على نفي الوجه .
__________
(1) سورة البقرة ، 115 .
(2) سورة يوسف ، 9 .(1/27)
ونقول له هذا الدليل عليك وليس لك ؛ لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام له وجه على الحقيقة ، وإن كان المراد باللفظ لازمه ، وذلك أن الصفة يلزمها لوازم يجب أو يصح إثباتها ، مثل الفعل والإدراك لازمه للحياة فإن كل حي فعال مدرك فلا يصح بحال إثبات اللازم ونفي أصله ، كأن نثبت لإنسان ما بأنه يفعل كذا ويدرك كذا وننفي مع ذلك كونه حياً ، ومثل هذا قول إخوة يوسف عليه السلام يخل لكم وجه أبيكم ، إذ لا يصح أن نقول بأن المراد منه إقبال أبيهم عليهم ورعايته لهم ثم نقول وليس لأبيهم وجه على الحقيقة .
معنى قوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) والرد على تحريف المبتدع :
قال المعترض : " … قوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(1) أي يبقى الله ، وكذلك قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (2) فمعناها كل شيء يهلك إلا ذات الله تعالى . فلو حملناها على ظاهرها بالجارحة " أي العضو" لكنا قد بعَّضنا الله تعالى ، أي نجعل بعضه يفنى وبعضه يبقى ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) (3) ووجه الله هو الله ويقال في لغة العرب : هذا وجه الأمر ووجه الرأي ووجه الطريق وكما يقول مسكين مكة : " أي وجه عربي كريم ينقذني من الهوان ".
وفي هذا القول عدة مآخذ تتجلى من خلال الأمور التالية :
وجه الله في الكتاب والسنة على حقيقته :
__________
(1) سورة الرحمن ، 27 .
(2) سورة القصص ، 88 .
(3) سورة الإنسان ، 9 .(1/28)
الأمر الأول : أن وجه الرب جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة فهو على الحقيقة ، ولا يصح صرفه إلى المجاز أو أي معنى من المعاني المشتركة إلا بدليل ، وذلك لأن ترك حقيقة اللفظ يفضي إلى التعطيل وتشبيه الله بالمعدومات كما هو لازم مذهب القرامطة الباطنية وملاحدة أهل الفلسفة ، وبرهان ذلك ما تجده في تأويلات هؤلاء لهذه الآية فالمعتزلي له رأي في تأويلها كما حكى المعترض ، والباطني له قول ، والحلولي له قول ، والإتحادي له قول ، وليس قول أحدهم بمتفق مع قول الآخر ، بل هي في غاية التناقض والتعارض ، بل إنك لتجد بين طوائف المعتزلة من الأقوال في هذه الآية وأمثالها ما تعجب من شدة تناقضها ، وخصوصاً عند كلامهم هم والمتفلسفة والمتصوفة في مسألة قيام الممكنات والمحدثات بالواجب القديم – على حد قولهم – حيث يخرجون بعد ذلك إما إلى مذهب الجهمية أو إلى مذهب الإتحادية والحلولية وإما إلى مذهب زنادقة أهل الفلسفة ، وسبب كل هذه الضلالات والترهات أنهم أعرضوا عن هدي الله المستقيم وعن بيانه القويم وعارضوه بمقررات عقلية ومقدمات كلامية وجعلوها في منزلة أعلى من الوحي المعصوم وأعظم من كلام أفصح العرب وأنصح الناس للناس وأعرفهم بربه - صلى الله عليه وسلم -، حتى قالوا إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل على النقل ، ومؤدى ذلك أن اليونان أصحاب الوثنية الأولى ، أصدق من الله قليلاً وأفصح من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بياناً ، وأحكم من شرعة الإسلام منهجاً نعوذ بالله من الضلال ، ومن عرف هذه الطرائق وما في حشوها من الكذب على الله والتقدم بين يدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - تيقن خطرها على الدين ، خذ على هذا مثلاً بالإمام العلامة محمد بن إبراهيم بن الوزير قدس الله روحه ، الذي نشأ أولاً على مذهب الزيدية وعلى عقيدة المعتزلة ثم أنجاه الله باتباع السنة واقتفاء الأثر ، فكتب عن ضلالات المعتزلة وكشف فضائح اعتقادات الزيدية في(1/29)
العواصم والقواصم وفي ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان ، ومثله العلامة الشوكاني والصنعاني .
قاعدة في المعاني التي يفسر بها كلام الله تعالى
الأمر الثاني : قاعدة في المعاني التي يفسر بها كلام الله تعالى ن وهذه المعاني إما أن تكون حقاً وإما أن تكون باطلاً ، فالباطل لايجوز أن يفسر به كلام الله ، والحق إن كان هو الذي دل عليه الوحي فُسَّرَ به ، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة بين اللفظ والمعنى ، مثل المناسبة التي تكون بين الرؤيا المنامية والتعبير لها ، وإن كانت هذه المناسبة خارجة عن وجوه دلالة اللفظ ، وهذا هو مسلك الباطنية واصحاب التفسير الإشاري من الصوفية في نصوص الوحي ، فلا بد أن تكون دلالة اللفظ على المعنى – فيما يتعلق بنصوص الوحي على الخصوص – سمعية مستعملة في ذلك المعنى ولايكتفى بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى ، لأن الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها كثيرة لايحصيها إلا الله تعالى وخصوصاً عند الذين لا يعتبرون المناسبة بين اللفظ والمعنى فيقولون كل لفظ يصلح وضعه لكل معنى كما تقول القرامطة والباطنية ، وكما يقول أهل الحداثة وزنادقة العلمانية في عصرنا هذا ، وعلى ذلك فحمل كلام الله على معاني لا مناسبة بينها وبين اللفظ ، أو على مناسبة ضعيفة أو محتملة لا دليل عليها ، كل ذلك من الجرأة على مراد الله ومن الكذب عليه(1) وبناءً على ذلك فإننا إذا تأملنا كلام المعترض على صفات الله نجده من هذا القبيل في أكثر ما قال .
إختلاف المعطلة في المراد بلفظ الوجه :
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 2/72 .(1/30)
الامر الثالث : اختلف المعطلة في المراد بلفظ الوجه في الآية المذكورة فمنهم من قال : لفظ الوجه زائد والتقدير ويبقى ربك ، ومنهم من قال : الوجه بمعنى الذات كما حكى المعترض ، وقالت فرقة : المراد ثوابه وجزاؤه فجعلوه مخلوقاً منفصلاً ، وهذه الأقوال وأمثالها – نعوذ بالله العظيم أن يجعلنا من أهلها – فاسدة من وجوه :
أحدها : أنه خروج عن الأصل والظاهر بلا موجب ولادليل ولابرهان .
الثاني : أن بعضهم جعل لفظ الوجه مجازاً وبعضهم نفاه وكلهم اجتمعوا على أن يقال ليس لله وجه ولا حقيقة لوجهه ، وهذا تكذيب صريح لما أخبر به عن نفسه وأخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الثالث : أن حجة هؤلاء المعطلة أن في إثبات الوجه لله تعالى تشبيهاً له بخلقه وهذا يلزمهم في إثباتهم لصفة الحياة والإرادة ، بل يلزم هذا المعترض على وجه الخصوص ، حيث أثبت لله ذاتاً ونفساً ، فيقال له : وكذلك المخلوق له ذات ونفس فَلِمَ أثبتها لله ولم تتوهم التشبيه ؟ فسيقول : له ذات لا تشبه الذوات فنقول : وله صفات لا تشبه الصفات ، وله يد ووجه وسمع وبصر تليق بجلاله ولا تشبه صفات المخلوقين فهذه عظة بالغة وحجة دامغة .
الرابع : أنه لو ساغ نفي صفة الوجه عن الله تعالى كما يدعي المعطل لساغ لمعطل آخر أن ينفي صفة العزة لله وصفة القدرة لله فإن الذي قال :" أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم " هو - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : " أعوذ بعزة الله وقدرته " فكما ادعى المعطل الأول نفي صفة الوجه في الدعاء النبوي الأول ، فيمكن لمعطل آخر أن ينفي صفة العزة والقدرة ويقول إن المراد أعوذ بالله . وهكذا يتسلسل الشر والبلاء فيدعي معطل آخر نفي السمع والبصر والإرادة إلى آخر ما هنالك من تعطيل يلزم منه تكذيب الشارع واتهامه بأبشع التهم والنقائص .
دلالة الإضافة في الاية على أن المراد بالوجه الصفة الحقيقية لله تعالى :(1/31)
الأمر الرابع : أن في قوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)(1) إضافة الوجه إلى ذات الله ، وإضافة النعت إلى الوجه حيث ذكره مرفوعاً فقال ذو الجلال والإكرام ، ولو كان مجروراً لكان نعتاً للرب تعالى مثل قوله تعالى : (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)(2) فدل ذلك على أن المنعوت في الآية الأولى هو الوجه الذي هو صفة ذاتية لله تعالى ، وأنه هو المقصود بالإخبار عنه وبالوصف بالجلال والإكرام إذ السياق يقتضيه واللغة تدل عليه وأدلة الشرع الأخرى تؤيده(3) .
معنى الوجه في لغة العرب وأوجه استعماله :
الأمر الخامس : أنه لا يعرف في لغة العرب أن وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه ، وغاية ما يتعلق به المعطل أن يقول : وجه الأمر ووجه الرأي ووجه الطريق ، وقد مر معنا في الأمر الثاني قاعدة المعاني والألفاظ وأنه لا يصح تفسير كلام الله بالمعاني الباطلة ولا تفسيرها بالألفاظ المشتركة إلا بدليل سمعي ، هذا من جهة ومن جهة أخرى يقال للمعطل المشبه لله بالعدم هذه الألفاظ التي تستدل بها ليس الوجه فيها بمعنى الذات ، بل هذا مبطل لقولك ، فإن الوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، وأول ما يواجه منه ، فإذا أضيف إلى شيء فبحسب المضاف إليه ، فوجه الأمر والرأي ما يظهر أنه صواب ، ووجه النهار أوله ما يظهر منه ولا يقال لكل النهار وجهاً بل يقولون لآخره صدراً ، ووجه الطريق أوله أو أول ما يبدو منه ، وقول مسكين مكة : أين وجه عربي كريم ، يخاطب جود من له وجه على الحقيقة ، فالوجه في كل هذه الأمثلة وغيرها يفهم على حقيقته ولكنه بحسب المضاف إليه فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمناً ، وإن أضيف إلى جماد كان بحسبه ، وإن أضيف إلى حيوان كان بحسبه .
وإن أضيف إلى إنسان كان بحسبه ، وإن أضيف إلى من ليس كمثله شيء كان بحسبه .
__________
(1) سورة الرحمن ، 27 .
(2) سورة الرحمن ، 78 .
(3) انظر التوحيد لابن خزيمة 1/52 .(1/32)
أما قول المعترض أن قوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(1) هو مثل قول العرب وجه الأمر ووجه الرأي ووجه الطريق فإنها فضيحة في الدعوى وتناقض في الحجة ، لأن كلام بني آدم والطريق مخلوقة ، وفي قوله هذا ما يلزم منه تشبيه الله بأوجه المخلوقات الفانية ، أما كلام أهل السنة أهل العلم والإِيمان فيثبتون له وجهاً لا يشبه الوجوه كما أن له ذاتاً لا تشبه الذوات .
التفسير بلازم الصفة لا يقتضي نفي الصفة
الأمر السادس : لو صح أن المراد بقوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ذاته ونفسه ، وأن المراد بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(2) أي إلا ما كان لوجهه ، أو إلا دينه وإرادته وعبادته أو إلا ذاته أو إلا هو (3) وغير ذلك كقول من قال إلا ملكه ، أقول لو افترضنا أن هذه التفسيرات للآيتين صحيحة فإنه لا يلزم منه نفي صفة الوجه عن الله تعالى ، إذ غايته أن تكون هذه التفسيرات – إن صحت – تفسيرات بلازم الصفة وهذا لا يقتضي نفي الصفة كما سبق أن ذكرنا .
الرد على استدلال المعترض بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)
الأمر السابع : قول المعترض : إن مفاد قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(4) أن كل شيء يهلك إلا ذات الله تعالى ، فلو حملناها على ظاهرها بالجارحة أي العضو لكنا قد بعضنا الله تعالى أي نجعل بعضه يفنى وبعضه يبقى .
__________
(1) سورة الرحمن ، 27 .
(2) سورة القصص ، 88 .
(3) انظر تفسير الطبري 11/127 والفتاوى 2/427 – 434 البغوي 5/186 ، تفسير صديق خان 7/181 ، 9/177 .
(4) سورة القصص ، 88 .(1/33)
هذا قول فاسد ، لأن العرب تعبر بهذا كثيراً فتقول : سلمت يمينك ويريدون السلامة للكل ، وكذلك هذه الآية جاء اللفظ فيها على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة والكل ، فتكون الآية إخبار من الله سبحانه بأنه الدائم الباقي الحي الذي لا يموت فعبر بالوجه الذي هو صفة ذاتية من صفاته جل وعلا عن الذات(1) :
الأحاديث المثبتة لصفة الوجه لله تعالى :
الأمر الثامن : لو افترضنا جدلاً أن هذه الآيات التي ذكرها المعترض ليس فيها إثبات صفة الوجه لله تعالى ، فإننا نقول لهذا المعترض وأين أنت عن بقية نصوص الوحي المعصوم التي فيها إثبات هذه الصفة العظيمة لله تعالى ، وإليك بعض هذه النصوص :
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون " (2)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه يوم الطائف : " أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " (3).
وقول جابر بن عبدالله لما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ)(4) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بوجهك قال : (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بوجهك قال : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال : هاتان أهون (5) .
وعن سعد بن أبي وقاص في قصة مرضه بمكة بعد الفتح وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعة ودرجة " (6).
__________
(1) انظر ابن كثير 5 / 306 .
(2) رواه أبو داود وغبره .
(3) ذكره الهيثمي في الزوائد 6 / 35 وعزاه للطبراني .
(4) سورة الأنعام ، 65 .
(5) أخرجه البخاري والترميذي وهذا لفظ ابن خزيمة في التوحيد 1 / 28 .
(6) رواه في الصحيحين والترميذي وأبي داود والموطأ .(1/34)
حديث معاذ الطويل الذي فيه ذكر الدعاء الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه : " وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك " ، فهل يجوز في عقل من له عقل أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه رؤية ما لا وجود له ؟ وهل يجوز أن يطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -على ربه ما يتوهم منه مشابهة المخلوقين أو مماثلة الجوارح المحدثة ؟ إن في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه لذة النظر إلى وجهه الكريم أوضح دليل وأظهر بيان على أن لله وجهاً يتلذذ بالنظر إليه من أعطاه الله هذا النعيم ومنًّ عليه بهذه النعمة العظيمة التي هي أعلى نعيم أهل الجنة ، أسأل الله أن يمن علينا بهذه الكرامة .
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً " من صام يوماً في سبيل الله ابتغاء وجه الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه " (2) .
وعن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل شقيق بن سلمة أن شبث بن ربعي صلى إلى جنب حذيفة فبزق بين يديه فقال حذيفة : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك ثم قال : إن المسلم إذا دخل في صلاته أقبل الله إليه بوجهه يناجيه فلاينصرف حتى ينصرف عنه أو يحدث حدثاً " (3)
__________
(1) صحيح البخاري ومسلم وجامع الترمذي وسنن النسائي .
(2) رواه أبو داود والنساءي وأحمد في مسنده وابن خزيمة 1 / 31 .
(3) رواه البخاري ومسلم و أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ والبيهقي في الأسماء والصفات وابن خزيمة في التوحيد .(1/35)
وعن الحارث الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا – عليه السلام – بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن " فذكر الحديث بطوله وقال فيه : وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله يقبل بوجهه إلى عبده " (1)
وعن عبدالله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم في جنة عدن إلا رداء الكبرياء على وجهه " (2)
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل الليل وعمل الليل قبل النهار حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (3) ومعنى سبحات وجهه : جلاله ونوره وبهاؤه .
__________
(1) أخرجه الترمذي وأحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحة وفي كتابه التوحيد .
(2) اخرجه البخاري ومسلم والترميذي وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب التوحيد .
(3) رواه مسلم وأحمد وابن خزيمة في التوحيد .(1/36)
فتأمل هذا المعنى العظيم ، إذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لاحترق العالم العلوي والسفلي فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وجلاله ؟ (1) وإنما كانت تحرق سبحات وجهه لو كشفها كل شيء في الدنيا لأن الله كتب الفناء عليها ، وركَّبَ ما ركب من جوارح الخلق للفناء فلا تحتمل هذا النور العظيم بل تحترق وتندك كما اندك الجبل الذي تجلى له الله وخر موسى عليه السلام صعقاً ، فإذا كان يوم القيامة رُكَّبت الأبصار والجوارح للبقاء فاحتملت النظر إلى وجهه العظيم وإلى سبحاته ونور وجهه من غير أن تحترق أو تفنى ، اللهم ارزقنا ذلك واجعلنا ممن ينالون الزيادة بالنظر إلى وجهك الكريم (2) .
خلاصة القول في إثبات صفة الوجه لله تعالى
وخلاصة القول : أن من تدبر سياق الآيات والأحاديث التي فيها ذكر وجه الله الأعلى ذي الجلال والإكرام وذي النور والجمال جزم ببطلان قول المعطلة الجهمية الذين تبنى أقوالهم المعتزلة ، وتأثر بهم بعض المؤولة الأشعرية .
__________
(1) انظر الصواعق 3 / 1083 .
(2) انظر مجموع الفتاوى 10 / 6 ومختصر الصواعق 2 / 160 ورد الدارمي على بشر 526 .(1/37)
وفي الذي ذُكر من النصوص أكبر برهان على أن لمعبودنا عز وجل وجهاً هو صفة من صفاته الذاتية التي وصف نفسه بها ووصفه بها رسوله وأجمع على ذلك سلف الأمة ، ونحن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق ، وأن وجه ربنا – الأول الذي ليس قبله شيء – لا يزال باقياً لا يفنى ولا يبيد ، كما أن ذاته العلية لا تفنى ولا تزول ، أما وجوه المخلوقات فقد كُتب عليها الهلاك وهي موجودة من عدم غير موصوفة بالنور والجلال والضياء التي وصف الله بها وجهه الكريم ؛ وأن وجوه الخلق تدركها الأبصار في الدنيا لكونها محدثة مخلوقة بعد أن لم تكن ، ثم تصير رميماً ثم ينشئها الله كرة أخرى ، فكيف يقول من له أدنى عقل أن وجه الباقي كوجه الفاني ، حيث لا اتفاق بينهما إلا في الاسم أما حقيقة المسمى فبينها من البون ما لا يعلم قدره إلا الله .(1/38)
وكالفرق الذي بين ذات الله وذوات خلقه يكون الفرق بين صفات الله وصفات خلقه ، ولو أن كل توافق في الاسم يقتضي تشبيهاً لكان كل من قال أن لبني آدم وجهاً وللخنازير والكلاب وجوهاً اقتضى ذلك تشبيه الآدمي بالخنزير والكلب ، بل لو قيل للمعطل إن وجهك يشبه وجه الحمار وسمعك يشبه سمع الخنازير وبصرك يشبه بصر القرد لكان ذلك عنده من أعظم الشتائم ، حتى ولو احتج قائل هذا القول بأن سبب قوله هذا أن للمخاطب وجهاً وسمعاً وبصراً ولهذه الحيوانات وجوهاً وأسماعاً وأبصاراً ويقتضي هذا التوافق في الأسماء التوافق في المسميات ، ولا يوجد عاقل يسمع هذا التشبيه بين الآدمي والحيوانات بحجة اتفاقها في الأسماء إلا ورمى صاحبه بالكذب أو قلة العقل أو الجنون ، ولست أحسب أن جهمياً معطلاً لو قال له أعز الناس عنده وجهك يشبه وجه الخنزير إلا غضب منه أشد الغضب ولم يقبل حجته لو قال : لك وجه وللخنزير وجه وذلك يقتضي التشابه بجامع الاشتراك في الاسم ، فكيف يقول المعطل ذلك في حق الله ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ؟ وكيف يزعم أن إثبات الوجه واليدين والسمع والبصر يقتضي تشبيهه بخلقه ؟ تعالى الله عما يقول المعطلة والمشبهة علواً كبيراً .
الرد على احتجاج المعطل بقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
بقي أن أذكر في ختام هذا المبحث أن احتجاج المعطل بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (1) على نفي صفات الله احتجاج باطل لأمور منها :
أولاً : لأن الله عقب بعد نفي المماثلة بينها وبين خلقه بإثبات صفتي السمع والبصر مما يدل دلالة واضحة على أنه لا منافاة بين الإثبات والتنزيه .
__________
(1) سورة الشورى ، 11 .(1/39)
ثانياً : أن هذه الآية تستلزم وصف الله تعالى بصفات الكمال التي فات بها مشابهته للمخلوقين ، واستحق بقيامها به أن يكون ليس كمثله شيء وهكذا كونه ليس له سمي في قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (1) أي مثيل يساميه ويشابهه في صفاته وأفعاله ، ولو كان مسلوب الصفات كالاستواء والوجه واليدين – كما يزعم – المعتزلة والجهمية لكان كل عدم مثلاً له في ذلك ، فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات وأثبت لها مماثلة المعدومات ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
أما احتجاجه بنفي الظاهر من ألفاظ الصفات فإنا نقول له : الظاهر أمر مشترك بين شيئين
أحدهما : أن يكون المراد به المماثلة كأن تكون اليد جارحة مثل جوارح العباد أو الوجه أو السمع أو البصر أو أن كونه في السماء مثل كون الماء في الإناء ، فلا شك أن هذا ظاهر باطل وهو غير مراد الآيات والأحاديث ، وأهل السنة يكفّرون من يقول بذلك من المشبهة أو المجسمة ، ولكن هذا المعترض أخطأ تبعاً للمعطلة حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر من آيات الصفات وأحاديثها ، فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة ، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بسياق الكلام ، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى هي السابقة إلى عقول المؤمنين ، بل اليد والوجه عندهم كالذات والقدرة والإرادة ، فكما أن ذواتنا وقدرتنا وإرادتنا ونحوها من الصفات أعرض تدل على حدوثنا يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوها أجساماً محدثة يمتنع أن يوصف الله تعالى بمثلها .
المراد بالظاهر في باب الصفات :
__________
(1) سورة مريم ، 65 .(1/40)
المعنى الثاني للظاهر : أن هذه الصفات إنما هي صفات لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته ، فيعلم أن العلم صفة ذاتية للموصوف ولها خصائص ، وكذلك صفة الوجه واليدين له تعالى ، ومن قال إن الظاهر بهذا المعنى غير مراد فقد أخطأ لأنه ما من اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه الخالق غير الذي يتصف به المخلوق(1) .
فظواهر نصوص الصفات هو ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني اللائقة بالله تعالى مع نفي مشابهته لخلقه ، والظواهر عموماً تختلف بحسب السياق والإضافة ، مثل لفظ ( القرية ) يراد بها القوم في سياق ويراد بها مساكن القوم في سياق آخر ، وصفات الله تعالى تفهم معانيها على الوجه اللائق به جل وعلا ، كما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وفي الختام :
أسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أتباع رسوله المتبعين لعقيدته السائرين على منهجه وأن يجنبنا البدع والمحدثات وأن يبعدنا عن الترهات والأغلوطات إنه ولي ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
وكتبه : سعيد بن ناصر الغامدي
أبها / 1 / 11 / 1413 هـ
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 6 / 56 .(1/41)