برد الأكباد عند فقد الأولاد
للشيخ الحافظ المحدث
أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي
المتوفى سنة 842 هـ
ضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
دار ابن عفان
الطبعة الأولى
1418 هـ - 1997 م(/)
برد الأكباد عند فقد الأولاد
للشيخ الحافظ المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي. المتوفى سنة 842هـ.
ضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان(1/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
[قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن المرحوم تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد، الشهير بابن ناصر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته-]:
الحمد لله [الحاكم] العادل فيما قدره وقضاه، القادر القاهر بما أبرمه من أمره وأمضاه، فمن رضي بذلك أنعم عليه وأرضاه، ومن سخطه فله السخط ولقد أبعده وأقصاه، فبؤساً للذين لقضائه يتسخطون، وتعساً لمن بأحكامه يتبرمون، وهنيئاً لمن لأفعاله مسلمون ولأقداره مستسلمون، فهم بكل رضوان؛ وعلى كل حال قائلون: {إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}.
فنحمد الله على حلو القضاء ومره، ونشكره دائماً على ما أنفذ من أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ شهادة صابرٍ على(1/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
[قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن المرحوم تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد، الشهير بابن ناصر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته-]:
الحمد لله [الحاكم] العادل فيما قدره وقضاه، القادر القاهر بما أبرمه من أمره وأمضاه، فمن رضي بذلك أنعم عليه وأرضاه، ومن سخطه فله السخط ولقد أبعده وأقصاه، فبؤساً للذين لقضائه يتسخطون، وتعساً لمن بأحكامه يتبرمون، وهنيئاً لمن لأفعاله مسلمون ولأقداره مستسلمون، فهم بكل رضوان؛ وعلى كل حال قائلون: {إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}.
فنحمد الله على حلو القضاء ومره، ونشكره دائماً على ما أنفذ من أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ شهادة صابرٍ على(1/28)
فاصبر لبلوى وكن راضياً ... فإن هذا هو الدواء
سلم إلى [الله] ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاء
والتعزية سنةٌ سنيةٌ، وخصلةٌ مستحبةٌ مرضيةٌ، ولم أجد تعزيةً للمصاب أعظم من آياتٍ في الكتاب، تليها أخبارٌ وآثارٌ، ممزوجةً بحكاياتٍ وأشعار.
فلخصت من ذلك ما حضرني معزواً مخرجاً، ليكون للمشار إليه، ولكل مصابٍ فرجاً ومخرجاً، ولأشارك المصاب في ثوابه وبره، لما روينا عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عزى مصاباً فله مثل أجره)) خرجه الترمذي وابن ماجة وغيرهما.(1/29)
وعن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبةٍ إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) انفرد ابن ماجة بإخراجه.
وفي الباب عن أبي هريرة [وأبي برزة الأسلمي]، وجابر وغيرهم رضي الله عنهم.
وهذا حين الشروع في المراد وبالله التوفيق والسداد، وبه الهداية والرشاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: {ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين(1/30)
إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}.
وقال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين}.
وقال تعالى: {والله يحب الصابرين}.
وقال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ}.
قيل: يعطون عطاءً كثيراً أوسع من أن يحسب أو يحاط به.
والآيات الشريفات في ذكر الصبر [وثوابه] كثيرات.
وأما الأحاديث النبوية في فضل الصبر وثوابه والأمر به لمن آلمه نزول مصابه، فكثيرة جداً.
منها: حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياءً. والقرآن حجةً لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) خرجه مسلم في ((صحيحه)) والإمام(1/31)
أحمد في ((مسنده)) وابن ماجة في ((سننه)) والنسائي مختصراً في كتابه ((عمل اليوم والليلة)). وهو حديث عظيم الفوائد، جليل الأحكام. وهو أصلٌ من أصول الإسلام وفيه الإشارة إلى أن الصابر لا يزال مستضيئاً بنور الهداية، مستمراً على الصواب، مع ما في ذلك من حصول الأجر والثواب.
وخرج مسلم أيضاً من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن إصابته سراء شكر، كان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيراً له)).(1/32)
وعن سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أعجبكم إن المؤمن إذا أصاب خيراً حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبةٌ حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر على كل شيءٍ حتى اللقمة يرفعها إلى فيه)) خرجه النسائي.
وأقول:
يجري القضاء وفيه الخير نافلةً ... لمؤمنٍ واثقٍ بالله لا لاهي
إن جاءه فرجٌ أو نابه ترحٌ ... في الحالتين يقول الحمد لله
قال المبارك بن فضالة العدوي البصري سمعت الحسن [رحمه الله] يقول: كان أيوب عليه السلام كلما أصابته مصيبة قال: ((اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت مهما تبقي نفسي، أحمدك على حسن بلائك)).
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)).. .. .. ..(1/33)
[وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي].
وخرج الحاكم أبو عبد الله في ((مستدركه)) وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر)).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى قال: يا عيسى، إني باعثٌ من بعدك أمةً، إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. فقال: يا رب كيف يكون هذا؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي، خرجه الإمام أحمد وأبو بكر البزار في ((مسنديهما)) والطبراني في ((معجمه الأوسط)) والحاكم في ((مستدركه)) وصححه.
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن عظم الجزاء مع(1/34)
عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) خرجه الترمذي وابن ماجه.
وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)) خرجه الإمام أحمد في ((مسنده)).(1/35)
وقد صح عن أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأةٍ تبكي على صبي لها، فقال لها: اتقي الله واصبري. فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك؟ فقال: إنما الصبر عند أول صدمةٍ)) خرجاه في ((الصحيحين)) ومعنى ((إنما(1/36)
الصبر [عند أول صدمةٍ)) وفي رواية: ((]عند الصدمة الأولى)) أن كل ذي مصيبةٍ آخر أمره الصبر. ولكنه إنما يحمد عند حدتها، وفورة شدتها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان. ولو أقام على قبر ميته [مدة] زمان.
روينا أن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لما مات ضربت [امرأته] القبة على قبره سنةً، ثم رفعت فسمعوا صائحاً يقول: ألا [هل] وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا علقه البخاري في ((صحيحه)).(1/37)
وفي رواية ((لما تسلت وقلعت الخيمة، سمعوا هاتفاً يقول ولا يرون أحداً: أدركوا ما طلبوا. فأجابه: بل يئسوا فانصرفوا)).
والأحاديث في ذكر الصبر وفضله كثيرةٌ، اقتصرنا منها على هذه النبذة اليسيرة.
ومعنى الصبر لغةً: الحبس. ومداره على أركانٍ ثلاثةٍ: إمساك النفس عن التسخط بالقضاء، وحبس اللسان عن القول السيئ والبذيء. وتقييد الجوارح عن المعصية. كاللطم وشق الثياب، وتسويد الفناء. فإذا قام الإنسان بهذه الأركان حاز فضيلة الصبر، الذي هو نصف الإيمان، وانقلبت محنته محنةً عظيمةً، واستحالت بليته عطيةً جسيمةً، وصار ما كرهه محبوباً، وللأجور العظيمة حائزاً مصيباً.
خرج الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الزهادة في الدنيا: أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله. وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك)).(1/38)
وجاء عن علقمة عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى)) وعلقه البخاري في ((صحيحه)) عن علقمة بنحوه.
وعن أم الدرداء رضي الله عنها أنها كانت تقول: ((إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى لهم راضون به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء، يوم القيامة)).
وقال أحمد بن أبي الحواري حدثني [محمد بن] جعفر بن محمد [ابن الإمام] قال: ((ذكروا عند رابعة [رحمها الله تعالى] عابداً كان في بني إسرائيل، لا يطعم إلا في كل سنةٍ مرةً، ينزل من متعبده، فيأتي مزبلةً على(1/39)
باب الملك، فيتقمقم من فضول مائدته. فقال رجلٌ عندها: وما على هذا إذ كان في هذه المنزلة، أن يسأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟ فقالت رابعة: يا هذا إن أولياء الله إذا قضي لهم [قضاءً لم] يتسخطوه)).
وما ورد من المأثور فيما للمصاب من الأجور أحاديث جمةٍ مصرحة، بحصول الثواب والرحمة.
منها: ما خرجه البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ابتلى الله عبداً ببلاءٍ وهو على طريقةٍ يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء كفارةً وطهوراً، ما لم ينزل ما أصابه [من البلاء] لغير الله، أو يدع غير الله في(1/40)
كشفه)) خرجه أبو بكر بن أبي الدنيا [رحمه الله] في كتاب ((المرض والكفارات)).
وعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله. أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حق يمشي على الأرض وما عليه خطيئةٌ)) خرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي الدنيا. وصححه الترمذي وهو في ((صحيح أبي حاتم ابن حبان)) ولفظه: عن سعد قال ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه. ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئةٌ)).(1/41)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله [تعالى] وما عليه خطيئةٌ)) خرجه الترمذي والحاكم، وصححاه.(1/42)
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا هم ولا حزنٍ، ولا أذىً ولا غمٍ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرةً فهزها حتى تساقط ورقها، ما شاء الله أن يتساقط، ثم قال: المصائب والأوجاع أسرع(1/44)
في ذنوب ابن آدم مني في هذه الشجرة)) خرجه أبو يعلى الموصلي في ((مسنده)) وابن أبي الدنيا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعملٍ. فما يزال يبتليه مما يكره حتى يبلغه إياها)) خرجه أبو يعلى أيضاً، ومن طريقه خرجه ابن حبان في ((صحيحه)).
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أصاب رجلاً من المسلمين بليةٌ فما فوقها، حتى ذكر الشوكة إلا لإحدى خصلتين، إما ليغفر الله له من الذنوب ذنباً لم يكن ليغفر له بمثل ذلك، أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يكن ليبلغها إلا بمثل ذلك)) خرجه أبو بكر ابن أبي الدنيا.(1/45)
وقال أبو المليح: حدثنا محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده -وكان لجده صحبة- رضي الله عنه ((أنه خرج زائراً لرجلٍ من إخوانه فبلغه أنه شاكٍ قبل أن يدخل عليه. فقال: أتيتك زائراً وأتيتك عائداً ومبشراً، قال: كيف جمعت هذا؟ قال: خرجت وأنا أريد زيارتك فبلغني شكاتك. فكانت عيادة، وأبشرك بشيءٍ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سبقت للعبد من الله [عز وجل] منزلةً لم يبلغها -أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله [عز وجل] في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل)) خرجه أبو موسى المديني في ((التتمة)) وهو في مسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي، وخرجه الطبراني في ((معجمه الكبير)) والأوسط بنحوه.(1/46)
والإبتلاء في الأولاد، من أعظم الابتلاء، وأثقل الأنكاد، وهو نارٌ تستعر في الفؤاد، وحرقةٌ تضرم في الأكباد، ولهذا كان ثواب الصابر على ذلك جزيلاً، ويكون أجره في ميزانه يوم القيامة ثقيلاً.
خرج النسائي عن أبي سلمى رضي الله عنه راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/47)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بخٍ بخٍ بخمسٍ ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه)) وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((مستدركه)) وصححه الطبراني في ((معجمه الكبير)).(1/48)
وجاء من حديث ثوبان فيما خرجه البزار في ((مسنده) ) وحسن إسناده. ومن حديث سفينة فيما خرجه الطبراني في ((معجمه الأوسط)) بإسنادٍ جيدٍ.. .. .. ..(1/49)
[لكنه] من الأفراد.
وفي الحديث الطويل المروي عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إني رأيت البارحة عجباً. قال: ورأيت رجلاً من أمتي خف ميزانه، فجاءه أفراطه، فثقلوا ميزانه)) الحديث بطوله.(1/50)
وقال خلاد بن منصورٍ الواسطي: حدثنا داود بن أبي هندٍ قال: ((رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون إلى الحساب. قال: فقربت إلى الميزان فوضعت حسناتي في كفةٍ وسيئاتي في كفةٍ، فرجحت السيئات على الحسنات. فبينا أنا كذلك مغمومٌ، إذ أتيت بشيءٍ كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت مع حسناتي -يعني فرجحت- فقيل له: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقطٌ كان لك. قلت: فإنه قد ماتت لي صبيةٌ ابنةٌ لي. فقيل لي: تلك ليست لك، لأنك كنت تتمنى موتها)). داود بن أبي(1/51)
هند هذا رأى أنس بن مالكٍ، وكان أحد أعلام الأمة، صائم الدهر، قانتاً لله. توفي سنة أربعين ومائة.
وفي ((الصحيحين)) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةً من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم)) وخرجه الترمذي والنسائي. قال الترمذي: وفي الباب عن عمر(1/52)
ومعاذٍ وكعب بن مالكٍ، وعتبة بن عبدٍ، وأم سليمٍ، وجابرٍ، وأنسٍ وأبي ذر وابن مسعودٍ، وأبي ثعلبة الأشجعي، وابن عباسٍ [وعقبة بن عامرٍ، وأبي سعيدٍ، وقرة بن إياسٍ المزني] رضي الله عنهم. انتهى.
وخرج مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتت امرأةٌ النبي صلى الله عليه وسلم(1/53)
بصبيٍ لها فقالت: يا رسول الله ادع الله له، فلقد دفنت ثلاثةً. فقال: دفنت ثلاثةً؟ قالت: نعم. قال: لقد احتظرت بحظارٍ شديدٍ من النار)) وروينا من حديث علي بن عياشٍ حدثنا حفص حدثنا عاصمٌ عن أبي زرينٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من مسلمين يموت لهما ثلاثةٌ من الولد، إلا كان لهما حائطاً بينهما وبين النار)) ومن حديث عتبة بن عبدٍ السلمي رضي الله عنه قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجلٍ يموت له ثلاثةٌ من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة(1/54)
الثمانية، من أيتها شاء دخل)) وخرجه ابن ماجة والطبراني في ((معجمه الكبير)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلمين يموت لهما ثلاثةٌ من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله وأبويهما الجنة. [قال: يكونون على بابٍ من أبواب الجنة] يقال لهم: ادخلوا الجنة. فيقولون: حتى يجيء آباؤنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة [فيقولون: حتى يجيء آباؤنا]. فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم بفضل رحمة الله)).(1/55)
وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لنسوةٍ من الأنصار ((لا يموت لأحداكن ثلاثةٌ من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة. فقالت امرأةٌ منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو اثنين)).
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال ((جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله. قال: اجتمعن يوم كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله. ثم قال: ما منكن من امرأةٍ تقدم بين يديها من ولدها ثلاثةٍ، إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأةٌ: واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : واثنين واثنين [واثنين])) وخرجه النسائي.(1/56)
وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ عن أبيه رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قدم ثلاثةً [من الولد] لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصناً حصيناً. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدمت اثنين. قال: واثنين. فقال أبي بن كعبٍ سيد القراء رضي الله عنه: قدمت واحداً؟ قال: وواحداً، ولكن إنما ذلك عند الصدمة الأولى)) خرجه أحمد والترمذي وابن ماجة.(1/57)
وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة)).
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ((أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة رضي الله عنها: فمن كان له فرطٌ من أمتك؟ قال: ومن كان له فرطٌ يا موفقة. قالت: فمن لم يكن له فرطٌ من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي)) خرجه الترمذي وهو في ((مسند الإمام أحمد))، و((معجم الطبراني الكبير)).(1/59)
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ((العزاء)) من حديث ضمرة بن ربيعة، عن رجاء بن جميل الأيلي، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات ولم يقدم فرطاً لم يرد الجنة إلا تصريداً. قيل: يا رسول الله ما الفرط؟ قال: الولد أو ولد الولد، والأخ [الصالح] تؤاخيه فيه الله عز وجل، فمن لم يكن له(1/60)
فرطٌ. فأنا له فرطٌ)).
التصريد: السقي دون الري، ويستعمل في التقليل. يقال: صرد له العطاء إذا قلله.
وروينا عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن السقط ليراغم ربه [عز وجل] إذا أدخل أبواه النار. فيقال: أيها السقط المراغم ربه، أدخل أبويك الجنة، فيجرهما.. .. .. ..(1/61)
بسرره حتى يدخلهما الجنة)).
المراغمة: المغاضبة.(1/62)
وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته))، انفرد بإخراجه، وإخراج الذي قبله ابن ماجة.
وحديث معاذٍ خرجه أيضاً عبد بن حميدٍ في ((مسنده)) مطولاً، ولفظه: عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من [مسلمين] يموت لهما ثلاثةٌ من الولد، إلا أدخل الله والديه الجنة، بفضل رحمته إياهم. قالوا: واثنين يا رسول الله؟ قال: واثنين. قالوا: وواحدٌ يا رسول الله؟ قال: إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة)).(1/63)
والسرر: ما تقطعه القابلة من سرة المولود. ويقال له: سرٌ أيضاً.
وخرج ابن ماجة [أيضاً] عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لسقطٌ أقدمه بين يدي أحب إلي من فارسٍ أخلفه خلفي)).(1/64)
[وقال ليث بن أبي سليم عن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن الحميدي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه سأله رجلٌ فقال: يا رسول الله ما لي من ولدي؟ قال: ما قدمت منهم. قال: فمن خلفت بعدي؟ قال: لك منهم ما لمضر من ولده. قال: وقال حميد: لئن أقدم سقطاً أحب إلي من مائة مستلئمٍ)). المستلئم: الذي لبس لامته، وهي الدرع].
وخرج مسلمٌ عن أبي حسان، واسمه: مسلم بن عبد الله الأعرج!! قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه: (([أنه] قد مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثٍ تطيب به أنفسنا عن موتانا. قال: نعم، صغارهم دعاميص الجنة، فيلقى أحدهم أباه -أو قال أبويه- فيأخذ بثوبه أو قال بيده: كما آخذ [أنا] بصنفه ثوبك هذا، فلا(1/66)
يتناهى -أو قال ينتهي- حتى يدخله الله وأبويه الجنة)) قال: والدعموص: دويبة تغوص في الماء، وجاء في روايةٍ ((ينغمسون في أنهار الجنة)) [يعني يغوصون في الأنهار.
والغمس: الغوص. فهم يلعبون في أنهار الجنة] وصنفة الثوب(1/67)
-بكسر النون- طرته وهي جانبه الذي لا هدب له.
ويقال: [هي] حاشية الثوب [إلى] أي جانبٍ كان.
وخرج الإمام أحمد في ((مسنده)) عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه ((أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له [صغيرٌ]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتحبه؟ فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم . فقال: ما فعل ابن فلانٍ؟ قالوا: يا رسول الله مات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ فقال رجلٌ: يا رسول الله له خاصةً، أو لكلنا؟ قال: بل لكلكم)).
وخرجه النسائي وغيره، منهم الطبراني في ((معجمه)) ولفظه ((كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفرٌ من أصحابه، وفيهم رجلٌ له ابن صغيرٌ يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه إلى أن هلك الصبي، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة، يذكر ابنه ويحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالي لا أرى فلاناً؟ فقالوا: يا رسول الله، بنيه الذي رأيت هلك، فمنعه ذلك(1/68)
من حضور الحلقة، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عنه، فأخبره أنه [قد] هلك فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان: أيهما كان أحب إليك، أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك [إليه] يفتح لك؟ فقال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى أبواب الجنة فيفتحها لي أحب إلي [قال]: فذلك لك، قال: فقام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول الله جعلني الله فداك، هذا لفلان خاصةً، أو لمن هلك له فرطٌ من المسلمين كان ذلك له؟ قال: بل كل من هلك له فرطٌ من المسلمين كان ذلك له)).(1/69)
وعن حسان بن كريبٍ: أن غلاماً منهم توفي بحمص فوجد [عليه] أبوه أشد الوجد، فقال له حوشب -صاحب النبي صلى الله عليه وسلم - ألا أخبرك ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ابنك ((أن رجلاً من أصحابه كان له ابنٌ قد أدرك، فكان يأتي مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم توفي، فوجد [عليه] أبوه [أشد الوجد] قريباً من ستة أيامٍ، لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله إن ابنه توفي فوجد عليه. فقال [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه: أتحب لو أن ابنك الآن كأنشط الصبيان وأكيسه؟ أتحب لو أن ابنك عندك كأجرأ الفتيان جراءةً، أتحب لو أن ابنك عندك الآن كهلاً كأفضل الكهول وأسراه؟ أو يقال لك: أدخل الجنة بثواب ما أخذناه منك)) خرجه أبو نعيم في ((المعرفة)) وهو في ((معجم ابن قانع)) وغيره.(1/70)
وجاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ بلغه وفاة [ابن] امرأةٍ من الأنصار، فقام وقمنا. فلما رآها قال: ما هذا الجزع؟ قالت: يا رسول الله ما لي لا أجزع، وأنا رقوبٌ لا يعيش لي ولدٌ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الرقوب التي يعيش ولدها، أما تحبين أن ترينه على باب الجنة، وهو يدعوك إليها؟ قالت: بلى. قال: كذلك.(1/71)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ((أن رجلاً من الأنصار كان له ابن يروح إذا راح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتحبه؟ فقال: يا نبي الله نعم، فأحبك الله كما أحبه. فقال: إن الله تعالى أشد لي(1/72)
حباً منك له. فلم يلبث أن مات ابنه ذاك. فراح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقبل إليه ببثه فقال [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت العرش؟ قال: بلى يا رسول الله)) خرجه الطبراني في ((معجمه الكبير)).
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة)).(1/73)
وفي الحديث الطويل عن سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه أتاني الليلة آتيان وأنهما ابتعثاني -وفيه فأتينا على روضةٍ معتمةٍ فيها من كل نورٍ الربيع، وإذا بين ظهراني الروضة رجلٌ طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط)) وذكر الحديث.
وفيه: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما الولدان الذين حوله فكل مولودٍ مات على الفطرة)) الحديث خرجه البخاري مطولاً ومسلم والترمذي والنسائي.(1/74)
وخرج أبو نعيمٍ الأصبهاني من طريق الطبراني بإسنادٍ واهٍ عن صبيحٍ أبي العلاء عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين: أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون [من قبورهم]، ثم ينادي فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمراً. فيقولون: يا ربنا(1/75)
ووالدينا معنا؟ ثم ينادي فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: يا ربنا ووالدينا معنا؟ فيقول في الثالثة: ووالديكم معكم. فيثب كل طفلٍ إلى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم يومئذٍ من أولادكم الذين في بيوتكم)).
وما أحسن ما عزى بعضهم صاحباً له بولده فقال:
فإن كنت تبكيه طلاباً لنفعه ... فقد نال جناتٍ الخلود مسارعاً
وإن كنت تبكي أنه فات عوده ... عليك بنفعٍ فابنك قد صار شافعاً
وخرج الترمذي عن حماد بن سلمة عن أبي سنان -يعني: عيسى بن سليمان القسملي- قال: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالسٌ على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا سنانٍ. قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عزرب عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك(1/76)
واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً [في الجنة]، وسموه بيت الحمد)).(1/77)
[وخرجه الإمام أحمد في ((مسنده)) والطبراني في ((معجمه))].
وجاء عن زيد بن أسلم قال: ((مات ولدٌ لداود النبي عليه الصلاة والسلام، فحزن حزناً شديداً فأوحي الله تعالى إليه: ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: يا رب كان يعدل هذا عندي، ملء الأرض ذهباً. قال: فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً)).
وببعض ما أوردناه، وبما روي مما جاء في معناه، يتعزى عن مصابه من وفقه الله وهداه.
ولقد جاء عن جماعةٍ من العلماء والعباد تمنى تقديم الأولاد لما يعلمون ما في ذلك للمصاب من جزيل الأجر، وتضاعف الثواب.
قال أبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي: ((دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون له ثلاثة غلمانٍ كأنهم الدنانير حسناً، فجعلنا نعجب من حسنهم. فقال لنا: كأنكم تغبطوني بهم. قلنا: إي والله، لمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيتٍ له صغيرٍ، قد عشش فيه خطافٌ وباض. فقال: والذي نفسي بيده، لأن أكون نفضت يدي عن تراب قبورهم، أحب من أن يسقط عش هذا الخطاف، وينكسر بيضه)).(1/78)
وقال أبو مسلم الخولاني [رحمة الله عليه]: لأن يولد لي مولودٌ يحسن الله نباته، حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إلي، قبضه الله مني أحب إلي من [أن تكون لي] الدنيا وما فيها.
وروي أن عبد الله بن شوذب البخلي، كان له ابنٌ و[كان] قد قارب الحلم، فأرسل إلى قومه فقال: ادعوا وتؤمنون على دعائي. قالوا: نعم، فدعا الله جل ثناؤه أن يقبض ابنه ذلك، وليس له غيره، فأمن القوم، ثم قالوا: يا أبا فلانٍ، ما حملك على هذا، وليس لك ولدٌ غيره. قال: إني رأيت كأن الناس قد حشروا ليوم القيامة، فأصاب الناس حرٌ شديدٌ، وعطشٌ شديدٌ، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة، ومعهم الأباريق والكؤوس فيها(1/79)
الشراب، فأبصرت ابن أخٍ لي، فقلت له: يا فلان اسق عمك. فقال: يا عم إنا لا نسقي إلا آباءنا والأمهات. قال: فأحببت أن يجعله الله [لي] فرطاً. قال: فلما لبث الغلام أن مات)).
وقال محمد بن خلفٍ -المعروف بوكيعٍ- كان لإبراهيم الحربي ابنٌ، وكان له إحدى عشرة سنةً، قد حفظ القرآن، ولقنه من الفقه شيئاً كثيراً، قال: فمات. قال: فجئت أعزيه. فقال لي: كنت أشتهي موت ابني هذا. قال: قلت: يا أبا إسحق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبيٍ قد أنجب وحفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيدهم قلالٌ فيها ماءٌ، يستقبلون الناس يسقونهم، وكان اليوم [يوماً] حاراً، شديداً حره. قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء [قال] فنظر إلي، وقال: ليس أنت أبي. فقلت: فأيش أنتم؟ قال: فقال: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا، نستقبلهم، فنسقيهم الماء. قال: فلهذا تمنيت موته)).(1/80)
وليقل من أصيب بمصيبةٍ أو نوعٍ من البلاء، ما أمر به من الاسترجاع والدعاء، ومن ذلك:
ما صح من حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها. قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ، فيقول ما أمره الله [تعالى]: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، [إلا أخلف الله له خيراً منها]، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة، أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم )) الحديث خرجه [مسلمٌ].
وعن أم سلمة أيضاً رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أصاب أحدكم مصيبةً فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها وأبدلني خيراً منها)) خرجه أبو داود والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)).(1/81)
وخرج ابن ماجة عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها رضي الله عنهما قال: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أصيب بمصيبةٍ فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب)).
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه ((ما من مسلمٍ يصاب بمصيبةٍ فيذكرها، وإن قدم عهدها، فيحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدد الله [تبارك و] تعالى له عند ذلك، [فأعطاه] مثل أجرها يوم أصيب)).(1/82)
وجاء عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الضرب على الفخذ يحبط الأجر، والصبر عند الصدمة الأولى، وعظم الأجر على قدر عظم المصيبة، ومن استرجع بعد مصيبته جدد الله أجرها كيوم أصيب)).
[وقال] عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((نعم العدلان [ونعم(1/83)
العلاوة]: {الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} علقه البخاري عن عمر، وهو من رواية سعيدٍ بن المسيب عنه.
والعدلان: الصلاة والرحمة، والعلاوة: الهدى.
قال عبد الله بن مطرفٍ بن عبد الله بن بن الشخير، وقد مات له ولدٌ: ((والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربةً [من] ماءٍ، لرأيتها لتلك الشربة أهلاً، فكيف بالصلاة والرحمة والهدى)).
وروي عن ثابتٍ البناني قال: ((مات عبد الله بن مطرفٍ، فخرج [مطرفٌ] على قومه في ثيابٍ حسنةٍ، وقد ادهن، فغضبوا، وقالوا: يموت(1/84)
عبد الله، ثم تخرج في ثيابٍ مثل هذه مدهناً؟! قال: أستكين لها، وقد وعدني ربي [تبارك وتعالى] عليها ثلاث خصالٍ، كل خصلةٍ [منها] أحب إلي من الدنيا وما فيها [كلها]، قال الله تعالى: { الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}، أفأستكين لها بعد هذا))؟!.
وروي عن سعيدٍ بن جبير قال: ((ما أعطي أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة، قال الله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}، ولو أعطيها أحدٌ [لأعطيها] يعقوب صلوات الله [وسلامه] عليه ألم تسمع إلى قوله: {يا أسفى على يوسف}.
وروي عن الحسن البصري [رحمه الله] ((أنه جاءه رجلٌ فقال: يا أبا سعيدٍ! إنه كان لي ابنٌ صغيرٌ فمات، وإذا رأيت شيئاً مما كان يلعب به(1/85)
جزعت من ذلك جزعاً شديداً. فقد خفت أن يحبط بذلك أجري. قال: لن يحبط الله [تعالى] أجرك، فإذا رأيت شيئاً من ذلك، فقل: اللهم اجعله لي أجراً، اللهم اجعله لي فرطاً)).
ومما يؤثر: من صبر من أصيب بأحبابه، وتعزى بحسن العزاء عن مصابه، ما صح عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: ((مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه قال: فجاء فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك. فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها. قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيتٍ، فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب وقال: تركتيني حتى تلطخت ثم أخبرتيني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله: بارك الله لكما في [غابر] ليلتكما. قال: فحملت)) وذكر الحديث.
وفيه ((فولدت غلاماً، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه، وسماه عبد الله)) خرجاه في ((الصحيحين))، وهذا لفظ مسلمٍ مختصراً.
وفي رواية البخاري، قال سفيان بن عيينة ((فقال رجلٌ من الأنصار،(1/86)
فرأيت لهم تسعة أولادٍ كلهم قد قرأوا القرآن، يعني من أولاد عبد الله، [الذي ولد] من جماع تلك اللية، التي ما فيها الولد المذكور، وهو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه، ويقول: [يا أبا عميرٍ]، ما فعل النغير)).
والحديث المذكور علقه بزيادةٍ في آخره طاهر بن محمد بن الحداد في كتابه ((عيون المجالس)) عن معاوية بن قرة بنحوه.(1/87)
وفي آخره قال: ((فحمت بابن [له]، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صبارة بني إسرائيل. فقيل: يا رسول الله، وما كان من خبرها فقال: كان في بني إسرائيل امرأةٌ وكان لها زوجٌ، وكان لها منه غلامان [وكان زوجها أمرها بطعامٍ تصنعه ليدعو عليه الناس، ففعلت، واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان] يلعبان فوقعا في بئرٍ كانت في الدار، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة، فأدخلتهما البيت وسجتهما بثوبٍ، فلما فرغوا دخل زوجه فقال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت وإنها كانت تمسحت بشيءٍ من الطيب وتعرضت بالرجل حتى وقع عليها. ثم قال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت فناداهما أبوهما، فخرجا يسعيان، فقالت المرأة: سبحان الله، والله لقد كانا ميتين، ولكن الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري)).(1/88)
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولدٌ. فقيل له: إنك امرءٌ ما يبقى لك ولدٌ؟ فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء.
ويروى عن المعافى بن عمران عن شهاب بن خراشٍ، عن عبد الرحمن بن غنم قال: ((دخلنا على معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- وهو قاعدٌ عند [رأس] ابن له وهو يجود بنفسه، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذٌ وقال: مه، فوالله لعلم الله برضائي [بهذا] أحب إلي من كل غزوةٍ غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني سمعته يقول: من كان له ابنٌ، وكان عليه عزيزاً أو به ضنيناً فصبر على مصيبته واحتسبه، أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان، فما برحنا حتى قضى الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر،(1/89)
فرحنا نريد الصلاة فما جئنا إلا وقد غسله وحنطه وكفنه، وجاء رجلٌ بسريره غير منتظر لشهادة الإخوان، ولا لجمع الجيران. فلما بلغنا ذلك تلاحقنا فقلنا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن! هلا انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا؟ ونشهد ابن أخينا، فقال: أمرنا ألا ننتظر موتانا ساعةً ما توافق ليلٌ أو نهارٌ، والإذن فيهم من نعي الجاهلية. قال: فنزل في القبر ونزل معه آخر، فقلت: الثالث يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: إنما يقول الثالث الذين لا يعلمون. فلما سوى عليه التراب، أراد الخروج فناولته يدي لأنتشطه من القبر، فأبى وقال: ما أدع لك لفضل قوتي، ولكني أكره أن يرى الجاهل أن ذلك مني جزعٌ واسترخاءٌ عند المصيبة))، ثم أتى مجلسه فدعى بدهنٍ فادهن، وبكحلٍ فاكتحل، وببردةٍ فلبسها، وأكثر في يومه ذلك من التبسم ينوي به ما ينوي، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلفٌ من كل هالكٍ، وعزاءٌ من كل مصيبةٍ، ودركٌ لكل ما فات)) وذكر الحديث.
[و] قال نافعٌ مولى ابن عمر ((اشتكى ابنٌ لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاشتد وجده عليه، حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدثٌ، فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته وما رجلٌ أبدى سروراً منه. فقيل له في ذلك، فقال [ابن عمر]:(1/90)
إنما كان رحمةً له، فلما وقع أمر الله رضينا به)).
وروي عن سفيان الثوري قال: ((قال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك وهو مريضٌ: كيف تجدك؟ قال: في الموت، قال له: لأن تكون في ميزاني أحب إلي أن أكون في ميزانك. فقال له: والله يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي أن يكون ما أحب. قيل: فلما مات ابنه عبد الملك. قال عمر: يا بني، لقد كنت في الدنيا كما قال الله جل ثناؤه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ولقد كنت أفضل زينتها. وإني لأرجو أن تكون [اليوم] من الباقيات الصالحات، التي هي خيرٌ ثواباً وخيرٌ أملاً. والله ما سرني أني دعوتك من جانب البيت فأجبتني. ولما دفنه قام على قبره فقال: ما زلت مسروراً بك مذ بشرت بك. وما كنت قط أسر إلي منك اليوم، ثم قال: اللهم اغفر لعبد الملك بن عمر ولمن استغفر له)).(1/91)
وروى ابن المبارك في ((الزهد)) عن [عياض] بن عقبة الفهري ((أنه مات ابنٌ له فلما نزل في قبره قال رجلٌ: والله إن كان لسيد الجيش، فاحتسبه، فقال: وما يمنعني، وقد كان بالأمس من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
وروي أن شريحاً القاضي مات له ابنٌ، فجهزه وغسله ودفنه بالليل، ولم يشعر به أحدٌ، وجلس للقضاء من الغد، فجاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه. فقال: الآن فقد الأنين والوجع، فظن الناس أنه عوفي، فسروا بذلك فقال: احتسبناه في جنب الله عز وجل، وهو يضحك، فتعجب الناس من ذلك.
ومات ابنٌ لوكيعٍ بن الجراح، فخرج وروى للناس أربعين حديثاً، زيادةً على ما كان يروي كل يومٍ.
وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل بن عياضٍ رحمه الله [تعالى] ثلاثين سنةً ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً إلا يوم مات علي ابنه [رحمه الله] فقلت له في ذلك: فقال: إن الله سبحانه أحب أمراً، فأحببت ما أحب الله.(1/92)
وروى جعفرٌ السراج من حديث سعيد بن عثمان قال: دخل ذو النون على مريض] يعوده فرأى المريض يئن. فقال ذو النون: ليس بصادقٍ في حبه من لم يصبر على ضره [فقال المريض]: لا. ولا صدق في حبه من لم يتلذذ بضره.
وقيل لرجلٍ: كم لك ولدٌ؟ قال: تسعةٌ. فقيل له: إنما نعرف لك واحداً؟ فقال: كان لي عشرةٌ فقدمت تسعةً، وبقي لي واحدٌ، فلا أدري أنا له أم هو لي.
وروي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: كانت تجيء عجوزٌ من بكر بن كلابٍ، يتحدث قومها عن عقلها وسدادها، فأخبرني من حضرها، وقد مات ابنٌ لها وكان واحدها، وقد طالت علته وأحسنت تمريضه. فلما مات قعدت بفنائها وحضرها قومها، فأقبلت على شيخٍ منهم، فقالت: يا فلان ما حق من ألبس العافية، وأسبغت عليه النعمة، واعتدلت به الفطرة، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته. والحلول بعقوبته، ينزل الموت بداره، تعني: فيحول بينه وبين نفسه.
ثم أنشدت تقول:(1/93)
هو ابني وأنسي أجره لي وعزني ... على نفسه رب إليه ولاؤها
فإن احتسب أؤجر وإن أبك أكن ... كباكيةٍ لم يغن شيئاً بكاؤها
فقال الشيخ: إنا لم [نزل] نسمع أن الجزع إنما هو للنساء، فلا يجزعن رجلٌ بعدك. ولقد كرم صبرك، وما أشبهت النساء، فأقبلت عليه بوجهها، وقالت: إنه ما ميز أمرٌ بين جزع وصبرٍ، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما، أما الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة [وأما الجزع: فغير معوض عوضاً مع مأثمه] ولو كانا في صورة رجلين لكان الصبر أولاهما بالغلبة، وبحسن الصورة، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب، وكفى بما وعد الله عز وجل فيه لمن ألهمه الله إياه.
وقيل لأعرابيةٍ مات ابنها فصبرت: ما أحسن عزاءك! فقالت: إن فقدي إياه أمنني المصيبة بعده.
وأنشد بعضهم في معناه:
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيءٌ عليه أحاذر(1/94)
وقال غيره:
وقد كنت أرجو الخوف قبل وفاتهم ... فلما توفوا مات خوفي من الدهر
[وقال آخر]:
ألا فليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا
وقال معن بن أوسٍ من أبياتٍ:
واعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
وقال عبد الملك بن قريبٍ الأصمعي: خرجت أنا وصديقٌ لي إلى البادية، فضللنا الطريق فإذا نحن بخيمةٍ عن يمين الطريق فقصدنا نحوها، فسلمنا فإذا امرأةٌ ترد علينا السلام. قالت: من أنتم؟ قلنا: قومٌ ضالون رأيناكم فأنسنا بكم. فقالت:يا هؤلاء ولوا وجوهكم [عني] حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهلٌ، [ففعلنا] فألقت إلينا مسحاً. فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعته مرةً. فقالت: اسأل الله بركة المقبل. أما البعير فبعير ولدي، وراكبه فليس(1/95)
بولدي. قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا أم عقيل. أعظم الله أجرك في عقيلٍ ولدك. فقالت: ويحك مات ولدي؟! قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر. فقالت: انزل واقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام. فجعلنا نأكل ونعجب من صبرها. فلما فرغنا خرجت إلينا، وقالت: يا قوم هل فيكم أحدٌ يحسن من كتاب الله [عز وجل] شيئاً؟ قلت: نعم. قالت: اقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي.
قلت: يقول الله عز وجل: {وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} قالت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ [قلت: والله إنها لفي كتاب الله هكذا] فقالت: السلام عليكم. ثم صفت قدميها وصلت ركعاتٍ ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. [و] عند الله أحتسب عقيلاً.
ثم قالت: اللهم إني فعلت ما أمرتني [به] فأنجز لي ما وعدتني، ولو بقي أحدٌ لأحدٍ. قال: فقلت في نفسي: تقول لبقي ابني لحاجتي إليه،(1/96)
فقالت: لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته. فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها ولا أجزل. ذكرت [رحمها الله] ابنها بأحسن خصاله وأجمل خلاله، ثم لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يرد هالكاً، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله [عز وجل ذخيرةً نافعةً] ليوم الفقر والفاقة.
وقال الأصمعي أيضاً: رأيت بالبادية أعرابيةً جالسةً على قبر ابنٍ لها تندبه وهي تقول:
قبرٌ عزيزٌ علينا لو أن من فيه يفدي ... [أسكنت قرة عيني ومؤنس النفس لحدا]
[ما جار خلق ٌعلينا ولا القضاء تعدى] ... والصبر أحسن شيءٍ به الكريم تردى
وقال أبو بكرٍ محمد بن الحسن بن دريدٍ أخبرنا عبد الرحمن عن عمه [عن] يونس قال: ((بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض الطرق إذا بأعرابي قد أقبل فقال [له]: يا أعرابي من أين أقبلت؟ فقال: من عند وديعةٍ لي في هذا الجبل. قال: [و] ما وديعتك؟ قال: بنيٌ لي دفنته منذ سنتين، فأنا في كل يومٍ أزوره وأندبه، فقال عمر: سألتك بالله ألا أسمعتني بعض ذلك؟ فقال:(1/97)
يا غائباً ما يؤوب من سفره ... عاجله موته على صغره
[يا قرة العين كنت لي أنساً ... في طول ليلي نعم وفي سحره]
ما تقع العين أينما وقعت ... في الحي مني إلا على أثره
شربت كأساً أبوك شاربها ... لا بد يوماً له على كبره
يشربها والأنام كلهم ... من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له ... في علمه كان ذا وفي قدره
قد قسم الموت في العباد فما ... يقدر خلقٌ يزيد في عمره
قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى بل لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابي)).
وقال أبو العباس أحمد بن مسروقٍ: حدثنا محمد بن الحسين، حدثني موسى بن عيسى عن الوليد بن مسلمٍ عن أبي عمروٍ الأوزاعي: قال: حدثني بعض الحكماء، قال: خرجت وأنا أريد الرباط حتى إذا كنت بعريش مصر، إذا أنا بمظلةٍ وفيها رجلٌ وقد ذهبت عيناه، واسترسلت يداه ورجلاه وهو يقول: لك الحمد سيدي ومولاي. اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضلتني على كثيرٍ ممن خلقت تفضيلاً: فقلت: والله لأسئلنه أعلمه أو ألهمه إلهاماً، فدنوت منه وسلمت(1/98)
عليه، فرد علي السلام فقلت له: رحمك الله إني أسألك عن شيءٍ تخبرني به أم لا؟ فقال: إن كان عندي منه علمٌ أخبرتك به. فقلت: رحمك الله، على أي نعمةٍ تحمده، أم على أي فضيلةٍ من فضائله تشكره؟ فقال: أوليس ترى ما [قد] صنع بي؟ فقلت: بلى. فقال: والله لو أن الله [تبارك و] تعالى صب علي ناراً تحرقني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي. ما ازددت له [سبحانه إلا حباً، ولا ازددت له إلا] شكراً. وإن لي إليك حاجةً أفتقضيها لي؟ قلت: نعم، قل ما تشاء. فقال: بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي، ويطعمني عند إفطاري. وقد فقدته منذ أمس. فانظر هل تحسه لي؟ قال: فقلت في نفسي: عن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عز وجل. وقمت وخرجت في طلبه حتى إذا صرت بين كثبان الرمال، إذا أنا بسبعٍ قد افترس الغلام يأكله. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه. قال: فأتيته وسلمت عليه فرد علي السلام. فقلت: رحمك الله إن سألتك عن شيءٍ تخبرني [به]؟ فقال: إن كان عندي منه علمٌ أخبرتك به. قال: قلت: أنت أكرم على الله [عز وجل] وأقرب منزلةً، أم نبي الله أيوب عليه [الصلاة و] السلام؟ فقال: بل [نبي الله] أيوب [عليه الصلاة والسلام] أكرم على الله(1/99)
مني، وأعظم عند الله منزلةً، [فقلت]: ابتلاه الله فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس [به، وكان غرضاً لمرار الطريق]. واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به وسألتني أطلبه لك افترسه السبع، فأعظم الله أجرك [فيه] فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرةً من الدنيا، ثم شهق [شهقةً] وسقط على وجهه، فجلست ساعةً ثم حركته فإذا هو ميتٌ. فقلت: إنا لله و[إنا] إليه راجعون. كيف أعمل [في أمره، ومن يعينني على غسله وكفنه، وحفر قبره ودفنه.
فبينا أنا كذلك] إذا أنا بركبٍ يريدون الرباط، فأشرت إليهم، فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي، فقالوا: ما أنت وما هذا؟ فأخبرتهم بقصتي، فعقلوا رواحلهم وأعانوني حتى غسلناه بماء البحر، وكفناه بأثوابٍ كانت معهم، وتقدمت أنا فصليت عليهم مع الجماعة فدفناه في مظلته، وجلست عند قبره أنساً به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعاتٌ فغفوت غفوةً، فرأيت صاحبي في أحسن صورةٍ وأجمل زيٍ، في روضةٍ خضراء عليه ثيابٌ خضرٌ، قائماً يتلو القرآن. فقلت له: ألست صاحبي؟ قال: بلى. قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ فقال: اعلم أني وردت مع الصابرين لله عز وجل في درجةٍ لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء. وانتبهت.(1/100)
[و] هاتان نعمتان عظيمتان: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، من وفق لهما فقد وفق لخيرٍ عظيمٍ، ومن قام بهما فقد فاز بثوابٍ [جزيلٍ] جسيمٍ، وحصل له رضى الرب الرحيم.
وأقول:
ينال الرضى عبدٌ يقابل نعمةً ... بشكرٍ ويلقى الصبر في العسر ناصره
ومن رضي الرحمن عنه فإنه ... سعيدٌ بفضل الله دنيا وآخره
وتحقيق الصبر على المصيبة بأمور:
منها: رجاء ما وعد الله عليها من الثواب والأجور.
ومنها: أن فوق كل مصيبةٍ ما هو أشد منها، فيتفكر المصاب في مصيبته وما فوقها فيسلوا عنها ومنها: النظر في المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمنين. [و] قال رجلٌ لسهل بن عبد الله [التستري رحمه الله]: دخل اللص بيتي وأخذ متاعي. فقال: أشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد إيمانك، ما[ذا] كنت تصنع؟
وروي أن امرأةً من العرب مرت بابنين لها، وقد قتلوا. فقالت: الحمد لله رب العالمين. ثم قالت:
وكل بلوى تصيب المرء عافية ... ما لم يصب يوماً يلقى الله بالنار.
ومنها: العلم بأن المصائب كفاراتٌ مع أنها يسيرةٌ فانيةٌ. وهي تدفع عقوبات الآخرة مع أنها خطيرةٌ باقيةٌ.(1/101)
ومنها: أنه ما قدر يكون لا محالة، ومن ابتلي فقد حصل [له] ما قدر عليه وناله، وكفي شر ذلك ووباله.
وما أحسن ما روي في معناه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فقال: ما ابتليت ببلاءٍ إلا وكان لله عز وجل علي فيه أربع نعمٍ: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضى به، وإذ أرجو الثواب عليه.
وأنشد [سهل بن] عبد الله التستري رحمه الله [تعالى]:
وثقت نفس عارفٍ فاطمأنت ... رضيت بالذي قضي فتهنت
لاح نور الهدى لها مع يقينٍ ... فاستضاءت بذاك ثم استكانت
فرمت باللذيذ من كل عيشٍ ... وإلى قرب مالك الملك حنت
ومن أسباب السلو على المصائب، وأقوى [الأدوية] لفاقد الحبايب: العلم بأن الدنيا فانيةٌ وزائلةٌ، [ومن سرورها] وشرورها آفلةٌ.(1/102)
وهي مخلوقةٌ للذهاب والأفول، وكل ما فيها يتغير ويحول، ويضمحل ويفنى ويزول، لأنها إلى الآخرة طريقٌ، وهي مزرعةٌ للآخرة على التحقيق.
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان لسليمان بن داود عليهما السلام ولداً يجد به وجداً شديداً، فمات الغلام، فحزن عليه حزناً شديداً، ورؤي ذلك في قضائه ومجلسه، فبعث الله [تعالى] إليه ملكين في هيئة البشر. فقال: ما أنتما؟ فقالا: خصمان. قال: اجلسا بمجلس الخصوم. فقال أحدهما: إني زرعت زرعاً فأتى [هذا] فأفسده. قال سليمان عليه السلام: ما يقول هذا قال: أصلحك الله، إنه زرعٌ في الطريق، وإني مررت [به] فنظرت يميناً فإذا الزرع، ونظرت شمالاً فإذا الزرع، ونظرت قارعة الطريق فإذا الزرع، فركبت قارعة الطريق، فكان في ذلك فساد زرعه، فقال سليمان [عليه السلام]: ما حملك على أن تزرع بالطريق، أما علمت أن الطريق سبيل الناس، ولا بد للناس [من] أن يسلكوا سبيلهم؟ [فقال له أحد الملكين: أوما علمت يا سليمان أن الموت سبيل الناس، فلا بد للناس من أن يسلكوا سبيلهم] قال: فكأنما كشف عن سليمان الغطاء.(1/103)
وهذا من لطيف التعزية لمن حلت به رزيةٌ.
ومن أعظمها نفعاً وأقواه للجزع، دفعاً. ما صح من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن، ابناً لي قبض فائتنا فأرسل يقرأ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجلٍ مسمىً، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبلٍ، وأبي بن كعبٍ، وزيد بن ثابتٍ ورجالٌ، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، ونفسه تقعقع، قال: حسبته أنه قال: كأنها شنٌ، ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم ، فقال سعدٌ: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) خرجاه في ((الصحيحين)).(1/104)
وجاء عن عبد الرحمن بن غنمٍ عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: ((مات ابنٌ لي فكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : من محمدٍ رسول الله إلى معاذ بن جبلٍ، سلام [الله] عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثم إن أنفسنا وأموالنا وأهالينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل الهنية، وعواريه المستودعة يمتع الله بها إلى أجلٍ معدودٍ، [ويقبضها لوقتٍ معلومٍ] ثم افترض [عليه] الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك [هذا] من مواهب الله الهنية، وعواريه المستودعة، متعك الله [به] في غبطةٍ وسرورٍ، وقبضه بأجرٍ كثيرٍ، إن صبرت واحتسبت. لا تجمعن عليك، يا معاذ، أن يحبط جزعك أجرك، فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك، عرفت أن المصيبة قد قصرت واعلم أن الجزع لا يرد ميتاً ولا يدفع حزناً فليذهب أسفك، ما هو نازلٌ بك فكان قد. والسلام)).(1/105)
وخرجه أبو أحمد العسكري في كتابه (المواعظ) من طريق ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه [بنحوه].
ورويناه من طريقٍ عن عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيدٍ عن معاذ [بن جبلٍ] رضي الله عنه.
وروي: أن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: عزى الأشعث بن قيسٍ بولدٍ له توفي .فقال له: إن تجزع على ابنك فقد تستحق ذلك بالرحم.(1/106)
ولك بيعقوب عليه السلام قدوةٌ، وإن تصبر ففي الله خلفٌ. يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر، وأنت مأجورٌ، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزورٌ.
وأنشد بعضهم:
تعز بحسن الصبر عن كل هالكٍ ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبةً ... سلوت على الأيام سلو البهائم
وليس يذود النفس عن شهواتها ... من الناس إلا كل ماضي العزائم
وروي أن أعرابياً من بني كلابٍ، أنشد عمر بن عبد العزيز حين مات ابنه عبد الملك فقال:
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدمٍ ... لكلٍ على حوض المنية مورد
ومات لأبي الأحوص ابنٌ صغيرٌ، فأتاه سفيان وزائدة يعزيانه. فكان فيما قال له سفيان: بعد ما عزاه أن قال: إنه سبحانه أنعم عليك به -يعني: الولد- أن وهبه ما شاء أن يهب، ثم أنعم عليك أن قبضه إليه [فكان(1/107)
مذخوراً لك عنده، فلا تعد نعمته عليك مصيبةً]، فكأنك قد لحقت به، فسرك تقدمه إياك.
وروى الحاكم أبو عبد الله عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن: سمعت محمد بن عيسى الزاهد يقول: ((فيما بلغنا أن عبد [الرحمن] بن مهدي رحمه الله، مات ابنٌ له فجزع عليه جزعاً شديداً، حتى امتنع من الطعام والشراب، فبلغ ذلك محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، فكتب إليه:
أما بعد: فعز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من [فعل] غيرك، واعلم أن أمضى المصائب فقد سرورٍ مع حرمان أجرٍ، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزرٍ)).
وفي غير رواية الحاكم: ((فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك، قبل أن تطلبه، وقد بعد عنك ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأجزل لنا ولك بالصبر أجراً)).
وفي رواية الحاكم: وأقول:
إني معزيك لا أني على ثقةٍ ... من الحياة ولكن سنة الدين(1/108)
فما المعزي بباقٍ بعد ميته ... ولا المعزى ولو عاشا إلى حين
وعزى إسماعيل بن هارون رجلاً عن ابنه فقال: والله لمصيبةٌ في غيرك لك أجرها، خيرٌ من مصيبةٍ فيك لغيرك ثوابها.
وعزى موسى بن المهدي سليمان بن [أبي] جعفرٍ، عن ابن له مات، فقال: أيسرك وهو بليةٌ [وفتنةٌ]، ويحزنك وهو صلاةٌ ورحمةٌ؟! - يعني بالأول: قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ}. وبالثاني: قوله تعالى: {أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ}.
وقال محمد بن كناسة: كتب رجلٌ إلى أخيه يعزيه بابنه:
أما بعد، فإن الله تعالى وهب لك موهبة، جعل عليك رزقه ومؤنته، وأنت تخشى فتنته، فاشتد لذلك، فرحك، فلما قبض [الله] سبحانه وتعالى موهبته، وكفاك مؤنته، يعني: وأمنك فتنته، فاشتد لذلك حزنك.(1/109)
أقسم بالله لو كنت تقياً لعزيت على ما هنيت عليه، ولهنيت على ما عزيت عليه، فإذا أتاك كتابي هذا فاصبر نفسك عن الأمر الذي [لا صبر لك على عقابه، واصبر نفسك على الأمر الذي] لا غنى بك عن ثوابه.
واعلم: [أن] أيما مصيبةٍ وإن عظمت، لم يذهب فرح ثوابها، جزاءً يصيبك، فذلك الحزن الدائم.
وأنشد بعضهم:
وإذا تصبك مصيبةٌ فاصبر لها ... عظمت بلية مبتلى لا يصبر
وأنشد آخر:
وعوضت أجراً من فقيدٍ فلا تكن ... فقيدك لا يأتي وأجرك ذاهب
وكتب محمد بن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولدٍ له:
أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك لله عز وجل، حيث قبضه، كشكرك له حيث وهبه لك، فافعل، فإنه حيث قبضه منك أحرز لك هبته. ولو بقي لم تسلم من فتنته، أرأيت جزعك على ذهابه، وتلهفك على فراقه،(1/110)
أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك، أما هو فقد خلص من الكدر، وبقيت متعلقاً بالخطر. والسلام.
وعزى ابن السماك أيضاً رجلاً، فقال: إن [من] تمام الشكر على العافية، الصبر على الرزية، ومن قدم وجد، ومن أخر فقد.
وروي أن ابناً للشافعي رحمه الله مات، فأنشد يقول:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزية مالٍ أو فراق حبيبٍ
[وإن امرءٌ قد جرَّب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيبٍ]
وقال محمد بن الحسين بن عياشٍ: حدثني عبد الله بن وضاحٍ قال: وقف عبد الملك على قبر ابنه فقال:
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مالٍ أو فراق حبيبٍ
[وإن امرءٌ قد جرَّب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيبٍ]
وقال أبو بكرٍ ابن أبي الدنيا في كتاب ((العزاء)) حدثني الحسين بن عبد الرحمن أن رجلاً من قريشٍ، قال في ابنٍ له:
بني إن عدمتك في حياتي ... فلن أعدمك ذخراً في المعاد
وكنت حشاشتي وجلاء همي ... وإلفي والمفرج عن فؤادي(1/111)
قال: وقال أبو يعقوب الخريمي [يرثي ابناً له] في قصيدةٍ:
فلولا رجاء الأجر فيك وإنه ... ثوابٌ وإن عز المصاب عظيم
وإنك قربانٌ لدى الله نافعٌ ... وحظٌ لنا يوم الحساب جسيم
لأضعف حزني يا بني وأوشكت ... علي البواكي بالرنين تقوم
وأنشد بعضهم:
وما يغني التأوه إذ تولى ... وهل ما فت مرتجعٌ بآه
فإقراراً وتسليماً وصبراً ... على ما كان من قدر الإله
وفي الإبتلاء فوائد سنيةٌ، وحكمٌ ربانيةٌ، منها: ما ظهر بالإستقراء، [وعلم بعض ما فيه من النعماء، ومنها ما لم يظهر، لكن ادخر الله به] فضلاً غزيراً. قال الله عز وجل: {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.
[و] روى الإمام أحمد في ((الزهد)) من مراسيل الحسن: ((أن(1/112)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يعذب [الله] حبيبه، ولكن قد يبتليه في الدنيا)).
وأقول:
إذا اشتدت البلوى تخفف بالرضا ... عن الله قد فاز الرضى المراقب
وكم نعمةٍ مقرونةٍ ببليةٍ ... على الناس تخفى والبلايا مواهب
ومن فوائد الابتلاء: النظر إلى قهر الربوبية، والرجوع إلى ذل العبودية، فإنه ليس لأحدٍ مفرٌ عن أمر الله وقضائه، ولا محيد له عن حكمه النافذ وابتلائه، إنا لله ملكه وعبيده، يتصرف فينا كما يشاءه ويريده، وإنا إليه راجعون في جميع أمورنا وإليه المصير يجمعنا لنشورنا.
ومنها: حصول الإخلاص في الدعاء، وصدق الإنابة إلى الله [تعالى] والإلتجاء وشدة التضرع لمن لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو}.
قال بعض السلف: سنة الله استدعاء عباده لعبادته، بسعة الأرزاق، ودوام المعافاة، ليرجعوا إليه سبحانه بنعمته، فإذا لم يفعلوا ابتلاهم بالبأساء والضراء، لعلهم إليه يرجعون.(1/113)
ومن فوائد الابتلاء: تمحيص الذنوب والسيئات، وبلوغ الدرجات العلية في الجنات [وأعلا من ذلك كله: حصول رضى الله العظيم، الذي هو أفضل من الجنة] ونعيمها المقيم.
ومنها: معرفة قدر العافية لمن غفل عن إحصاء ذلك وعده، لأن الشيء لا يعرف إلا بضده، فيحصل بذلك الشكر الموجب للمزيد من النعم، لأن ما وسع الله بالعافية وأنعم، أكثر وأعظم، مما ابتلى وأسقم.
[و] روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجلٌ يقال له: معاذ الكبير، أصابته مصيبةٌ، فجزع منها، وأمر بإحضار النائحات، وكسر الأواني. فسمع حاتمٌ فذهب إلى تعزيته مع تلاميذه، وأمر تلميذاً له، فقال: إذا جلست فاسألني عن قوله [تبارك و]تعالى: {إن الإنسان لربه لكنودٌ} فسأله فقال: ليس هذا موضع السؤال. فسأله ثانياً وثالثاً. فقال: معناه: أن الإنسان لكفورٌ، عدادٌ للمصائب، نساءٌ للنعم، مثل معاذٍ هذا، إن الله [تعالى] متعه بالنعم خمسين سنةً، فلم يجمع الناس عليها شاكراً لله عز وجل، فلما أصابته [مصيبة] جمع الناس يشكو من الله تعالى. فقال معاذٌ: بلى إن معاذاً لكنودٌ، [و]عدادٌ للمصائب نساءٌ للنعم، فأمر بإخراج النائحات، وتاب عن ذلك.(1/114)
ومنها: حصول رحمة أهل البلاء الموجبة لرحمة الله، وجزيل العطاء: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).(1/115)
ومنها: الدخول في زمرة المحبوبين، المشرفين بمحبة رب العالمين، فهو سبحانه إذا أحب قوماً ابتلاهم.
ومنها: تيقظ المبتلى من غفلته، وطيب نفسه ببره، وإخراج صدقته. [و] روينا عن إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب. قال: اعتل الفضل بن سهلٍ ذو الرياستين علةً بخراسان فهنوه بالعافية، وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا أقبل على الناس. فقال: إن في العلل لنعماً ينبغي للعقلاء أن يعرفوها: تمحيصٌ للذنوب، وتعرضٌ لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة وإذكار للنعمة في حال الصحة، واستدعاءٌ للتوبة، وحضٌ(1/116)
على الصدقة، وفي قضاء الله [تعالى] بعد الخيار. قال: فنسي الناس ما تكلموا به، وانصرفوا بكلام الفضل.
ومن فوائد الابتلاء: مقت الدنيا لأنكادها. وبعث النفس على العمل ليوم معادها. فإنه إذا تفكر في ذهاب أحبابه علم أنهم شربوا بكأسٍ لا بد له من شرابه. قال محمد بن الحسن: دخلت على محمد بن مقاتلٍ، فقلت له: عظني. فقال: اعمل، فإن مت لم تعد أبداً. وانظر إلى الذاهبين هل عادوا؟
تذهب أيامنا على لعبٍ ... مناً بها والذنوب تزداد
أين أحبابنا وبهجتهم ... بطيب أيام عيشهم بادوا
ومن فوائد الابتلاء: منع صاحب البلية من خصالٍ غير مرضيةٍ، كالخيلاء والتكبر، والأشر والبطر، والتجبر، فكم من مبتلى بفقد العافية، حصلت له توبةٌ خالصةٌ شافيةٌ! وكم من مبتلىً بنفاد ماله، انقطع إلى الله تعالى ففاز بحسن حاله، وكم من مصابٍ بفقد الأولاد، صبر على الحكم النافذ على العباد، فحصلت له من الله الصلوات والرحمة والهداية للرشاد.
وبتحقيق ذلك: يحصل الفرح الشرعي بالمصيبة وما يدانيها، لا الفرح الطبعي، فإن الكراهة بالطبع لا شك فيها. ولا يلام المصاب على حزن قلبه، ودموع عينيه، وإنما النياحة [ونحوها]، من القول والفعل تحرم عليه.
جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رضى(1/117)
القلب والعين من الله عز وجل، ورضى اليد واللسان من الشيطان)).
وصح عن أبي مالكٍ الأشعري رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع في أمتي لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة.
وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطرانٍ، ودرعٌ من جربٍ)) خرجه مسلمٌ.(1/118)
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما نائحةٍ ماتت قبل أن تتوب ألبسها الله سربالاً من قطرانٍ، وأقامها للناس يوم القيامة)).
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((النائحة تخرج من قبرها شعثاء غبراء، عليها درعٌ من خزيٍ، وجلبابٍ من لعنةٍ،(1/119)
واضعةً يدها على رأسها تقول: واويلاه. وملكٌ يقول: آمين آمين. ثم يكون حظها من ذلك النار)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((إن هؤلاء النوائح يوم القيامة صفان في جهنم: صفٌ عن يمينهم وصفٌ عن يسارهم، ينحن على أهل النار كما تنبح الكلاب)).
وعن أبي سعيد [الخدري] رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة)).(1/120)
وصح عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: (([قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوفٍ، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشيةٍ فقال: قد قضى. فقالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال: ألا تسمعون أن الله عز وجل لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم)) الحديث.(1/121)
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: ((دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئراً لإبراهيم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ [رضي الله عنه]: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوفٍ! إنها رحمةٌ، ثم أتبعها بأخرى. فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).(1/122)
وجاء عن سلمة بن محاربٍ قال: ((وضع إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يجود بنفسه، فقال [النبي] صلى الله عليه وسلم : لولا أنه موعدٌ صادقٌ، ووعدٌ جامعٌ، وأن الماضي فرط الباقي، وأن الآخر لاحقٌ بالأول، لحزنا عليك يا إبراهيم، ودمعت عيناه، فقال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم : تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب عز وجل، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)).(1/123)
وروى الزبير بن بكارٍ، من طريق عبد الله بن محمد [بن عمر] بن علي بن أبي طالبٍ ((أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فخرج [به، وخرج] النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام سريره، ثم جلس على قبره، ثم دلي [في قبره] فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع في قبره، دمعت عيناه. فلما رأى أصحابه ذلك، بكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فأقبل عليه أبو بكرٍ رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله [تبكي] وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكرٍ، تدمع العين، ويوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب)).
وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لعمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرةً لا يطفئها إلا عبرةٌ، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته. فقال رجاء: اقضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأسٍ. فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: ((العين تدمع والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم(1/124)
لمحزونون)) قال: فأرسل سليمان عينيه، فبكى حتى قضى إرباً. ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي، ثم لم يبك بعدها.
فلما دفن ابنه أيوب، وحثى على قبره التراب. قال: يا غلام دابتي، ثم التفت إلى قبره، فقال:
وقفت على قبرٍ مقيمٍ بقفرةٍ ... متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق
وجاء أن إنساناً علوياً من طبرستان مات ابنه، فحضر الناس ليعزوه، فلم يخرج إليهم في اليوم الأول، ولا الثاني، ولا الثالث، ثم خرج إليهم بعد ذلك فقال لهم: ليس الموت بولدي ابتدى، ولا عليه اعتدى، ولا إليه انتهى. ولكني أتفكر في طول حسراته في الغربة علينا، وطول حسراتنا على غربته ووحدته. وبكى ساعةً، وأنشد:
واحسرتا للغريب في البلد ... النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
هذا فؤادي لقد ملي أسفا ... قطعه الشوق والنوى قطعا
يقول في نأيه وغربته ... عدلاً من الله كل ما صنعا
وروي أن بعضهم وقف على قبرٍ يندب صاحبه في جماعةٍ يبكون معه، فقال:(1/125)
يا موت ما أقساك من نازلٍ ... تنزل بالمرء على رغمه
تخطف العذراء من خدرها ... وتأخذ الواحد من أمه
لا صالحاً تبقي ولا طالحاً ... إلا تؤديه إلى ردمه
حكم عزيزٍ عالمٍ قادرٍ ... سبحانه ما جار في حكمه
وروى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في ((تاريخه)) عن سعيد بن المسيب قال: ((دخلنا مقابر المدينة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقام على قبر فاطمة رضي الله عنها. وانصرف الناس فقال:
لكل اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ ... وإن بقائي بعدكم لقليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليلٌ على أن لا يدوم خليل
أرى علل الدنيا علي كثيرةٌ ... وصاحبها حتى الممات عليل
وروى أبو محمد عبد الرحمن [بن عمر] بن النحاس، من طريق محمد بن سليمان قال: قال العتبي ((لما دفنت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، دفنها علي رضي الله عنه، ورجع وهو يقول:
لكل اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ ... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليل على أن لا يدوم خليل(1/126)
قال العتبي: وتمثل ببيت العطنش الضبي [يقول]:
أقول وقد فاضت دموعي غزيرةٌ ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخلائي لو غير الممات أصابكم ... جزعت ولكن ما على الموت معتب
وما يروى من بكاء السلف عند الفراق، وتمثلهم بالأشعار عند غلبة الأشواق كثيرٌ جداً.
وأحسن ما روي من ذلك منقولاً، وأجوده بكاءً، وأصدقه قيلاً، وأجمله رثاءً، وأعدله تمثيلاً، ما روي عن جعفر بن محمدٍ عن أبيه، عن علي رضي الله عنهم قال: ((لما رش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة عليها السلام فأخذت قبضةً من تراب القبر، فوضعته على عينها [وبكت] وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمدٍ ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا(1/127)
وقال أبو بكرٍ محمد بن الحسين الآجري في كتاب ((الشريعة)): بلغني أنه لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة عليها السلام، فوقفت على قبره، وأنشأت تقول:
أمسى بخدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه معدوم
لا عيب في حزني عليك لو أنه ... كان البكاء لمقلتي يدوم
ولقد أذكرني هذا الكلام المنظم المشار فيه إلى المصاب الأجل الأعظم، موت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبياتاً قلتها قديماً في معناه، نجعلها ختاماً لما قدمناه وهي:
ما الأمر في ذي الدار إلا منام ... كلٌ سيدري حين يأتي الحمام(1/128)
يقول يا ليت وأنى له ... والموت قد أطلق فيه السهام
يود لو أمهله لحظةً ... يتوب فيها عن ركوب الحرام
أنى له التوب!وقد حشرجت ... في الصدر منه النفس للإصطلام
يا نائمين انتبهوا طالما غر الأولى ... الماضين طول المقام
بينا هموا في غفلةٍ إذ أتى ... ما كفهم عن فعلهم والكلام
وأسكنوا في حفرةٍ أذهبت ... لحومهم لم تبق غير العظام
بل أمحقت تلك العظام التي ... وجوهها كانت تنير الظلام
يا حسن ما كنا جميعاً فمذ ... ترحلوا عنا أقام الغرام
وكلما مر حديثٌ لهم تضاعف ... الشوق وزاد الهيام
لله هذا الموت لم يبق ذا ... تقوى لتقواه ولا ذا اجترام
ولو يحاشي أحداً في الورى ... حاشى نبي الله ذا الاحترام
لكنه أنهله كأسه ... وهو حبيب الله خير الأنام
فماجت الأرض بمن فوقها ... لموته وانهل صوب الغمام
وكل عينٍ أنزفت دمعها ... وأهون الدمع عليه انسجام
وأصبح المسجد من فقده ... يبكي كذاك البيت ثم المقام
بل كل أرضٍ عمها فقده ... وقد علاها بعد نورٍ قتام
ولم يجد خلقٌ كأصحابه ... إذا ودعوه تحت تلك السلام(1/129)
وانصرفوا عنه وكل له ... حزن وهم لا يطيق الكلام
لله موت المصطفى إنه ... رزءٌ عظيمٌ لا يضاهي العظام
فموته الخطب الجليل الذي ... هان به رزء الجياد الكرام
لكنه حيٌ وفي روضة الوسيلة ... العظمى بأعلى مقام
عليه صلى الله من فضله ... وساق تسليماً إليه دوام
ثم على الآل وأصحابه ... والتابعين الأطيبين السلام
تم كتاب (برد الأكباد عن فقد الأولاد) والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والسلام.(1/130)