براءة الأصحاب من دم الأحباب
د. بدوي مطر
bhmatar@yahoo.com
الفهرس
على سبيل التقديم ... 7
الفتنة في اللغة ... 10
الفتنة في القرآن ... 11
الفتنة في الحديث النبوي الشريف ... 14
الحديث الشريف والصحابة ... 17
صحابة ظلمتهم أقلام الفتنة ... 19
عائشة رضي الله عنها ... 21
عثمان بن عفان رضي الله عنه ... 22
على بن أبي طالب رضي الله عنه ... 29
الزبير بن العوام رضي الله عنه ... 31
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ... 31
معاوية رضي الله ... 33
عمرو بن العاص رضي الله ... 36
الإمامان الحسن والحسين رضي الله عنهما ... 40
قالوا عن الفتنة ... 42
إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الفتنة التي سيقتل فيها عثمان. ... 42
كتاب (العواصم من القواصم) ... 44
كتاب ( زاد الميعاد) ... 45
كتاب (من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه) ... 45
كتاب (تاريخ الاسلام للذهبي) ... 46
كتاب (أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) ... 46
كتاب (رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان) ... 50
الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه ... 54
(البداية والنهاية) ... 54
(المنتظم في التاريخ) ... 63
( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيته وعصره) ... 64
دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة ... 67
مشاورة الخليفة للولاة ... 68
محاورة الخليفة للأحزاب ... 69
الخطوة الأخيرة للهجوم على الخليفة ... 72
علي يحاور الأحزاب ... 73
الخطاب المشبوه ... 73
استسلام الخليفة لقدره وموقف الصحابة ... 75
استشهاد عثمان 35 هجرية ... 76
جنازته والصلاة عليه ودفنه ... 78
موقف محمد بن أبي بكر ... 79
(شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ... 79
بداية اللغط في حق علي رضي الله عنه ... 81
حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه ... 83
أولاً: معاوية بن أبي سفيان ... 85
ثانيًا: عبد الله بن عامر بن كريز ... 86
ثالثًا: الوليد بن عقبة ... 87
رابعًا: سعيد بن العاص ... 89(1/1)
خامسًا: عبد الله بن سعد بن أبي السرح ... 89
سادسًا: مروان بن الحكم ووالده ... 90
العلاقة بين أبي ذر الغفاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهما ... 92
الرواية الصحيحة في العلاقة بين الصحابين الجليلين ... 92
وفاة أبي ذر - رضي الله عنه - وضم عثمان عياله إلى عياله ... 93
موقف عمار بن ياسر ... 94
ضرب الخليفة لعمار ... 94
اتهام عمار بالمساهمة في الفتنة وإثارة الشغب ضد عثمان ... 94
موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان ... 95
الفتنة في عهد الإمام علي رضي الله عنه ... 96
بيعة على رضي الله عنه ... 100
موقف طلحة والزبير رضي الله عنهما. ... 104
أخبار ملفقة عن طلحة والزبير ... 105
موقعة الجمل 36هجرية ... 106
مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب ... 108
خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى الكوفة ... 110
تساؤلات على الطريق ... 110
محاولات الصلح ... 112
أثر السبئية في معركة الجمل ... 113
الجولة الأولى من موقعة الجمل ... 114
الجولة الثانية من موقعة الجمل ... 115
موقعة الجمل في البداية والنهاية ... 116
موقعة الجمل في شذرات الذهب في أخبارمن ذهب ... 117
موقعة الجمل في تاريخ الإسلام للذهبي ... 118
مقالة عمارعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ... 120
معركة صفين (37هـ) ... 122
تسلسل الأحداث التي قبل المعركة ... 123
المراسلات للصلح بين علي ومعاوية ... 125
القتال على الماء ... 125
الموادعة بينهما ومحاولات الصلح ... 125
ليلة الهرير يوم الجمعة(ثالث أيام القتال) ... 126
الدعوة إلى التحكيم ... 126
مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين ... 128
عدد القتلى ... 132
تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم ... 132
موقف لمعاوية مع ملك الروم ... 132
قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين ... 133
نهى أمير المؤمنين على عن شتم معاوية ولعن أهل الشام ... 133
نشأة الخوارج والتعريف بهم ... 135(1/2)
انحياز الخوارج إلى حروراء ومناظرة ابن عباس لهم ... 136
معركة النهروان (38هـ) ... 137
ذو الثدية أو المخدج وأثر مقتله على جيش علي رضي الله عنه ... 139
أويس القرني رضي الله عنه ... 139
التحكيم ... 140
نص وثيقة التحكيم ... 142
قصة التحكيم المشهورة وبطلانها ... 144
التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة ... 148
الاستشراق والتاريخ الإسلامي ... 149
علماء تصدوا لكشف الزيف والأكاذيب ... 149
الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية ... 150
الأيام الأخيرة من حياة الإمام علي ... 152
صفة مقتله رضي الله عنه ... 155
الفتنة في عهد الحسن بن على رضى الله عنهما ... 158
البداية والنهاية ... 158
استعداد الحسن لقتال معاوية ... 160
التراجع عن القتال ... 161
الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما ... 161
وفاته رضي الله عنه ، وحقيقة من دس له السم ... 163
وفاة الحسن في البداية والنهاية ... 166
قصة خروج الحسين بن على رضي الله عنهما ... 167
مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة ... 168
قصة المبايعة ليزيد من كتاب البداية والنهاية ... 171
أولى خطبة ليزيد ... 177
موقف الحسين من بيعة يزيد ... 177
خروج الحسين إلى مكة ... 178
موقف الحسين من الحكم الأموي: ... 179
أهل الكوفة يستقدمون الحسين رضي الله عنه ... 180
بعث مسلم بن عقيل ... 181
المواجهة بين مسلم وبن زياد ... 183
القبض على مسلم وقتله ... 183
موقف الصحابة من خروج الحسين ... 185
بعث الحسين قيس بن مسهر إلى أهل الكوفة ... 187
خروج الحسين رغم ما حدث ... 188
اختيارات الحسين ... 189
مقتل الحسين رضي الله عنه ... 190
موقف يزيد من قتل الحسين ومن ذريته ... 201
قاتل الحسين ... 203
مصير قتلة الحسين رضي الله عنه ... 203
1 ـ عبيد الله بن زياد. ... 203
2 ـ عمر بن سعد ... 204
3 ـ شمر بن ذي الجوشن ... 204
الخلاصة ... 205
وختاماً ... 215(1/3)
المراجع ... 220
على سبيل التقديم
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علىالحبيب المصطفي محمد بن عبد الله ، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الغمة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.
الحمدلله على نعمةالإسلام وكفى بها نعمة، نشهد أنه لا إله إلا الله ربنا وأن الإسلام ديننا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبينا ورسولنا، علي هذه الشهادة نحيا و نموت ، وعليها نبعث إنشاء الله .
أما بعد...
فإن الهدف الأول لإصدار هذا الكتاب هوالمشاركة في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي شاعت بيننا والتي أحاطت بعض الصحابة الإجلاء ، الذين شملتهم أحداث الفتنة الكبرى والتي أعقبت مقتل عثمان رضي الله عنه بسيل من الإتهامات ، كما أنه يساعد في الرد على بعض الأسئلة التي كانت تراودنا وظلت على الدوام بلا إجابة ، وكانت جلها تدور حول مغزى تصرف هؤلاء النفر من الصحابة الذين ندين لهم بالاعتذار.
وفي هذا المقام لابد من توجيه الشكر العميق لمشايخنا أصحاب الكتب التي شكلت كتاباتهم القيمة محور التحول بالنسبة لنا تجاه أحداث الفتنة وشخوصها ، ولذا فقد كنت حريصا أشد الحرص على ذكر اسم الكتاب ومؤلفه بجواره ، وذلك في مقدمة كل فقرة من فقرات كتابنا المتواضع.
وأجدني ممتنا بشدة ومقدرا كل التقدير وبصورة خاصة لجهود وكتابات الدكتور / على محمد الصلابي ، الذي كان كتابه ( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيته وعصره) نقطة تحول بالنسبة لي ، فدعائي له من الأعماق أن يغفر الله له ولوالديه ، وأن يثيبه خير الجزاء في الدنيا والآخرة .(1/4)
ومما لاشك فيه أن الحديث عن صحابة رسو ل الله صلى الله عليه وسلم يعد حديثا ذا شجون ، فهو من زاوية يجعلنا نعيش عالمهم السعيد وهم يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم ويصلون خلفه ، يآكلونه ويشاركونه الشراب ، يستمعون للوحي طازجا ، ولسيل الحكمة من فم المعصوم صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فلا نملك بالطبع إلا أن نغبطهم ونود لو أننا قد عشنا حياتهم .
ومن زاويةأخرى يبدو الشجون مفعما بالألم حين نستعيد ما جرى فيما بينهم ، لاسيما في أحداث الفتنة التي هزت عرش الدولة الإسلامية ومازالت حتى الآن تلهبنا بنارها.
إن الخلاف بين الصحابة الأجلاء لا يعنينا في حد ذاته ، بل إننا مطالبون بالكف عن سرده لمجرد الحديث فيه ، لكن الإشكال يقع حين نعلم بإننا لا نعيش وحدنا فوق ظهر هذا الكوكب ، وليس هذا فحسب بل إن أعداء الإسلام قديما وحديثا لم يكفوا عن الخوض في هذه الفتنة وبالتالي يتعرضون لشخوص الصحابة للنيل منهم .
ولهذا يجب علينا أن نتحلى بالعلم والمنطق والحكمة أيضا حين يفرض علينا مثل هذا الحوار، وبداهة لا يمكننا القول لأعدائنا بأننا مطالبون بعدم الخوض في هذا الموضوع طبقا للأحاديث النبوية الشريفة التي تنهاناعن ذلك ، وإلا أتهمونا بالجهل وعدم المنطق ، ومما لاشك فيه أن ذلك سيمنحهم فرصة ذهبية للنيل من ديننا وترويج المزيد من الشائعات والروايات المغلوطة ليحققوا مطلبهم في ضرب الدين ولكن هيهات هيهات..!
والرأي الصواب في هذا الشأن هو عدم الخوض على الإطلاق في هذه النقطة فيما بيننا حتى لا نقع في المحظور، ولكن إن فرض علينا جدلا من جانب أعدائنا فليكن العلم والمنطق رائدنا ، وحب الصحابة الأجلاء هو دافعنا الوحيد لممارسة هذا الجدل .(1/5)
وإنه لشيئ مخجل أن نقارن بين الحالة التي كان عليها هؤلاء الصحابة الأجلاء وحالنا التي نحن عليه الآن ، هم بنوا الإسلام ونحن نهدمه ، هم علموا العالم الدين على الوجه الأكمل والإنسانية في أبهى صورها، ونحن نلهث وراء الغرب نلعق أحذيتهم ونتباهي بتقليدهم في كل ما هو تافه ومشين ، هم تمسكوابالقرآن فزادهم الله عزة ، ونحن تخلينا عن القرآن بل غضضنا الطرف عن نفايات كتابية أسموها الفرقان الحق ، يكيلون فيها الشتم والسب الصريح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولم نحرك ساكنا لوقف هذه المهزلة التي أكتملت سطورها بأن قام الغرب الصليبي الحاقد بتدريسه بجامعاته المنتشرة ببلادنا ومنها بلاد تجاور البيت الحرام ، نحن بذلك لم ننتصر لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فلم نزدد إلا ذلا وعارا، وهنا في عيونأعداءنا بعد أن سب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على صفحات الجرائد في كل أنحاء العالم ولم نصدرإلا أصواتا زاعقة سرعان ما تلاشت ، ليعود الحقد الصليبى من جديد لسب ديننا ونبينا ولذنا بصمت مشين وكأن الإسلام ونبيه العظيم صلى الله عليه وسلم لا يمتان لنا بشيئ ، ولذا فمسلسل الإهانة الصليبى والخيانة المحلي مستمر، وها هو عالمنا الإسلامي يضرب دولة تلو دولة ويتم تقسيمه وفق هوى أعدائنا لنعيش فتنة مريرة مهينة لايعلم مداها إلا الله ، وهاهي جرافات العدو الصهيوني قد بدأت بالأمس( 7 فبراير2007 ) بهدم سور بجوار حائط البراق بحجج واهية تمهيدا لهدم المسجد الأقصى برمته إحياء لوهم اسمه هيكل سليمان .
إن معايشة حياة هؤلاء الصحابة الأجلاء عبر الكتب هروب حميد لماض تليد نتمنى أن يعود ، والغوص في تفاصيل حياتهم وسلوكهم يجعلنا لانكاد نصدق أننا أبناء دين واحد . من المؤكد أن هناك عوامل خبيثة كانت وراء هذه الهوة التي تتسع بيننا وبينهم يوما بعد يوم ، وهذا الشيئ الخبيث يتمثل في عدة عوامل :
أول هذه العوامل :(1/6)
ابتعادنا عن الدين وسنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم فتخلى الله عنا ، فضللنا الطريق المستقم وتشعبت بنا السبل.
ثاني هذه العوامل:
عداوة الغرب الدينية لنا متمثلة في حروبه الصليبية التي يشنها علينا بين الفترة والأخرى والتي لن تنتهي كما يزعمون إلا بتوجيه ضربة قاصمة للإسلام والمسلمين لا نقوم بعدها أبدا.
ثالث هذه العوامل :
الخيانة والعمالة التي يشكلها الطابور الخامس من أبناء ديننا وجلدتنا خاصة من يملكون مقاليد الأمورفي بلادهم ، ضاربين عرض الحائط بالدين ، وباحثين فقط عن عرض زائل في دنيا زائلة يتمثل في منصب رئاسي ، أوحسابات في البنوك ، أو شهرة إعلامية ، أوطمعا في هذه التفاهات جميعها .
وأنا على يقين أننا لو تمسكنا بسيرة صحابي واحد من هؤلاء الصحابة الإجلاء لانصلح حال أي أمة إسلامية.
إن إصلاح الحال ليس بمستحيل ، لكنه يحتاج لإخلاص مع الله ، وعودة لسنة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ووقتها ستهون الحياة في أعيننا، ونودع الوهن الذي ذكره الرسول العظيم في الحديث الشريف الذي يقول :
" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها , فقال قائل : و من قلة نحن يومئذ ? قال : بل أنتم يومئذ كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل و لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن , فقال قائل : يا رسول الله و ما الوهن ? قال حب الدنيا و كراهية الموت " .
تشخيص نبوي لاينطق عن الهوى ، وروشتة علاج لامناص عنها لو أردنا الإصلاح بحق، فهل نفيق ............!
**********************************************
الفتنة في اللغة
وبداية يجب علينا أن نعرف ماهو مفهوم الفتنة أوماهو معناها لغويا.
جاء ضمن ما جاء في تعريف القاموس المحيط للفتنة :
ـ ومنه: العَيْشُ فَتْنانِ، أي: لَوْنانِ، حُلْو ومُرٌّ، والإِحْراقُ،
ـ والفِتْنَةُ، بالكسر: الخِبْرَةُ،
ـ ومنه: {بأَيِّكُمُ المَفْتُونُ}،(1/7)
وإِعْجابُكَ بالشيءِ، وفَتَنَه يَفْتِنُه فَتْناً وفُتوناً وأفْتَنَه، والضلالُ، والإِثْمُ، والكُفْرُ، والفَضِيحَةُ، والعذَابُ، وإِذابَةُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والإِضْلالُ، والجُنونُ، والمِحْنَةُ، والمالُ، والأَوْلادُ، واخْتِلافُ الناسِ في الآراء.
ـ وفَتَنَه يَفْتِنُهُ: أوْقَعَهُ في الفِتْنَةِ،
ـ كفَتَّنَه وأفْتَنَه، فهو مُفْتَنٌ ومَفْتُونٌ، ووَقَعَ فيها.
ـ والمَفْتونُ: المجنونُ.
وجاء في مختار الصحاح:
أن الفتنة هي الاختبار والامتحان ، وفتن الذهب أي أدخله النار لينظر جودته .
قال تعالى : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " أي حرّقوهم .
قال الخليل : الفتنة هي الإحراق.
قال تعالى : "يوم هم على النار يفتنون "
وافتتن الرجل أي أصابته فتنة ، فذهب ماله وعقله.
وجاء في المعجم الوجيز:
أن الفتنة هي الابتلاء.
قال تعالى :" ونبلوكم بالشر والخير فتنة"
وهي الاضطراب ، وبلبلة الأفكار وهي العذاب والضلال
*********************************************
الفتنة في القرآن
جاء ذكر الفتنة في القرآن في الآيات الشريفة التالية :
1 ـ "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب " (7) آل عمران
2 ـ "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا" (91)النساء
3 ـ "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين" (47)التوبة
4 ـ "لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون(48)التوبة(1/8)
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " (49)التوبة
5 ـ "ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا " (14)الأحزاب
6 ـ "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق .." (102البقرة)
7 ـ "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " (193) البقرة
8 ـ "وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون" (71)المائدة
9 ـ "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب "(25)الأنفال
10 ـ "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم "(28)الأنفال
11 ـ "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير "(39)الأنفال
12 ـ "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير "(73) الأنفال
13 ـ "فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين " (85) يونس
14 ـ "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " (60)الإسراء
15 ـ "كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون "(35)الأنبياء
16 ـ "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين "(111)الأنبياء(1/9)
17ـ "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " (11)الحج
18ـ "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " (53)الحج
19ـ "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " (63)النور
20ـ "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " (20)الفرقان
21ـ "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين "(10)العنكبوت
22ـ "إنا جعلناها فتنة للظالمين "(63)الصافات
23ـ "فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون "(49)الزمر
24ـ "إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر "(27)القمر
25ـ "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم "(5)الممتحنة
26ـ"إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " (15)التغابن
27ـ "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا.. " ( الآية 31) المدثر
28ـ " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم" (110)النحل
29ـ "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق "(10)البروج
الفتنة في الحديث النبوي الشريف
ولقد حملت لنا الأحاديث النبوية الشريفة العديد من التحذيرات حتى لا نقع في الفتنة، ومنها على سبيل المثال:(1/10)
ما جاء في كتب تخريج الحديث النبوي الشريف للشيخ ناصر الدين الألباني ما يلي :
1 ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال:" إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا " وشبك بين أصابعه قال فقمت إليه فقلت كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك، قال : "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة "( حسن صحيح ) _ الصحيحة 205 و 888 و 1535 .
2 ـ عن حذيفة : ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تضرك الفتنة " ( صحيح ) _ المشكاة 6233 .
3 ـ عن خالد بن دهقان سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله اعتبط بقتله قال الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله يعني من ذلك ( صحيح مقطوع ) . قال أبو داود : وقال : فاعتبط يصب دمه صبا *
4 ـ" ألا إن الفتنة ههنا ، ألا إن الفتنة ههنا ( قالها مرتين أو ثلاثا ) ، من حيث يطلع قرن الشيطان" ، ( يشير بيده ) إلى المشرق ، وفي رواية : العراق ) ] . ( صحيح ) .
5 ـ" اكسروا قسيكم _ يعني في الفتنة _ واقطعوا أوتاركم ، والزموا أجواف البيوت ، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم "ـ (صحيح ) .(1/11)
6 ـ " إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفا من خشب ". ( صحيح بمجموع طرقه ) عن عديسة بنت أهبان قالت : لما جاء علي بن أبي طالب ههنا ( البصرة ) دخل على أبي ، فقال : يا أبا مسلم ألا تعينني على هؤلاء القوم ؟ قال : بلى ، قال فدعى جارية له فقال : يا جارية أخرجي سيفي ، قال : فأخرجته فسل منه قدر شبر فاذا هو خشب ! فقال : إن خليلي وابن عمك عهد إلي : إذا كانت الفتنة بين المسلمين ، فاتخذ سيفا من خشب ، فإن شئت خرجت معك ، قال : لا حاجة لي فيك ، ولا بسيفك . ( حسنه الترمذي ) . ويشهد له حديث سهل بن أبي الصلت قال : سمعت الحسن يقول : إن عليا بعث إلى محمد بن مسلمة ، فجيء به ، فقال : ما خلفك عن هذا الأمر ؟ قال دفع إلي ابن عمك _ يعني النبي صلى الله عليه وسلم _ سيفا فقال : "قاتل به ما قوتل العدو ، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضا ، فاعمد به إلى صخرة فاضربه بها ثم الزم بيتك ، حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة "،قال : خلوا عنه . ( حسن).(1/12)
7 ـ رواية مسلم : 3431 حدثنا زهير بن حرب وإسحق بن إبراهيم قال إسحق أخبرنا و قال زهير حدثنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"
فدنوت منه فقلت له أنشدك الله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال سمعته أذناي ووعاه قلبي فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) قال فسكت ساعة ثم قال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله .(1/13)
8 ـ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو معاوية وأبي عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال كنا جلوسا عند عمر فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال حذيفة فقلت أنا قال إنك لجريء قال كيف قال سمعته يقول :" فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فقال عمر ليس هذا أريد إنما أريد التي تموج كموج البحر فقال ما لك ولها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا قال فيكسر الباب أو يفتح قال لا بل يكسر قال ذاك أجدر أن لا يغلق قلنا لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب قال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق سله فسأله فقال عمر * ( صحيح ) _ تخريج فقه السيرة 643 : وأخرجه البخاري ومسلم .
9 ـ صلى رسول الله ( ص ) الفجر ثم أقبل على القوم فقال:" اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في مدنا وصاعنا اللهم بارك لنا في حرمنا وبارك لنا في شامنا" فقال رجل وفي العراق فسكت ثم أعاد قال الرجل وفي عراقنا فسكت ثم قال" اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في مدنا وصاعنا اللهم بارك لنا في شامنا اللهم اجعل مع البركة بركة والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب الا وعليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها" وفي رواية الى قوله :وفي العراق وزاد فأعرض عنه فقال:" فيها الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان". واسناده صحيح وأخرجه أحمد مختصرا بلفظ قال رأيت رسول الله ( ص ) يشير بيده يؤم العراق ها "ان الفتنة ههنا ثلاث مرات "من حيث يطلع قرن الشيطان" واسناده صحيح.(1/14)
10ـ حدثنا عمران بن موسى الليثي حدثنا عبد الوارث بن سعيد حدثنا محمد بن جحادة عن عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم " ( صحيح ) _ الارواء 2451 ، الصحيحة 1535 .
11ـ عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا قال كونوا أحلاس بيوتكم"( صحيح ) . ( أحلاس : البسط ، والمراد ملازمة البيوت والمنازل )
**********************************************
الحديث الشريف والصحابة
ولا يمكننا الحديث عن الصحابة إلا وتتدفق على الفور في دمائنا مشاعرالعرفان بالجميل لهؤلاء النفر الذين تحملوا مشقة الدعوة وحمل راية الإسلام خفاقة في كل أرجاء المعمورة . ما من شك في أنهم بشرمثلنا يخطئون ويصيبون فلا عصمةإلا للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولقد وردت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحذرنا من الوقوع في حق الصحابة منها على سبيل المثال :
1 ـ عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ( صحيح ) _ الترمذي 4134 : وأخرجه البخاري ومسلم .(1/15)
2 ـ" من سب أصحابي ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ( صحيح بشواهده ) وروي عن أنس مرفوعا به وزاد : " لايقبل الله منه صرفا ولا عدلا" قال : والعدل الفرائض ، والصرف التطوع . وله شاهد مرسل وغيره راجعه في الكتاب
3 ـ " دعوا لي أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ". ( صحيح ) . عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم . فقال : فذكره .
4ـ " بحسب أصحابي القتل " . ( صحيح ) . وله شاهد من حديث سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون بعدي فتن يكون فيها ، ويكون ، قلنا : إن أدركنا ذلك هلكنا ، قال : بحسب أصحابي القتل . وفي رواية : يذهب الناس فيها أسرع ذهاب . ( واسناده حسن ) .
5 ـ" احفظوني في أصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشوا الكذب ، حتى يشهد الرجل ، وما يستشهد ، ويحلف وما يستحلف " . ( صحيح ) .
6 ـ " أحسنوا إلى أصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يستحلف عليها ، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد ، فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة ؛ فليلزم الجماعة ؛ فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، ولا يخلون رجل بامرأة ؛ فإن ثالثهما الشيطان ، ومن كان منكم تسره حسنته ، وتسوؤه سيئته ؛ فهو مؤمن ". ( صحيح )
7ـ حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطبنا عمر بن الخطاب بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا مثل مقامي فيكم فقال:" احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل وما يستشهد ويحلف وما يستحلف" ( صحيح ) _ الروض أيضا ، الصحيحة 431 و 1116(1/16)
8 ـ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وعلي بن محمد قالا حدثنا وكيع حدثنا إسمعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : "وددت أن عندي بعض أصحابي" قلنا يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر فسكت قلنا ألا ندعو لك عمر فسكت قلنا ألا ندعو لك عثمان قال :نعم .
فجاء فخلا به فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ووجه عثمان يتغير" قال قيس فحدثني أبو سهلة مولى عثمان أن عثمان بن عفان قال يوم الدار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فأنا صائر إليه وقال علي في حديثه وأنا صابر عليه قال قيس فكانوا يرونه ذلك اليوم * ( صحيح ) _ المشكاة 6070 ظلال الجنة 1175 و 1176
9ـ"إن الله نظر في قلوب العباد فلم يجد قلبا أنقى من أصحابي ولذلك اختارهم فجعلهم أصحابا فما استحسنوا فهو عند الله حسن وما استقبحوا فهو عند الله قبيح"
10 ـ "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم."
11 ـ "إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم ".
12 ـ "سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوء من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من إختلافهم فهو عندي على هدى"
. لكن قوله : احفظوني في أصحابي . صحيح ثبت في حديث آخر ، وهو مخرج في الصحيحة 1116 .
أخرج أحمد، واللألكائي في السنة، وأبو القاسم بن بُشران في أماليه، وابن عساكر عن البهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شتم المقداد رضي الله عنه، فقال عمر: عليَّ نذر إن لم أقطع لسانك فكلَّموه وطلبوا إليه. فقال عمر: دعوني حتى أقطع لسانه حتى لا يشتم بعدُ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/17)
وعند ابن عساكر عن البهي قال: كان بين عبد الله بن عمر بين المقداد رضي الله عنهم شيء، فنال منه عبد الله، فشكاه المقداد إلى أبيه، فنذر عمر ليقطعنَّ لسانه. فلَّما خاف ذلك من أبيه تحمل على أبيه بالرجال، فقال: دعوني فأقطعَ لسانه فتكون سنةً يُعمل بها من بعدي، لا يوجد رجل شتم رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قُطع لسانه. كذا في منتخب كنز العمال.
***********************************************
صحابة ظلمتهم أقلام الفتنة
والفتنة التي نحن بصدد الحديث عنها الآن تمس بشذاها وشررها صحابة أجلاء على رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وعثمان ، وعلي ، والزبير وطلحة ، معاوية ، وعمرو بن العاص ، والحسن والحسين رضي الله عنهم .
إن الصورة التي انطبعت في أذهان الكثيرين منا من خلال الروايات الرائجة في الكثير من الكتب التي تناولت الحديث عن الفتنة ، نجد فيها أن عثمان رضي الله عنه شخصا تافها لا رأي له فهو مجرد ألعوبة في يد مستشاريه ، وأن معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مجرد شخصين انتهازيين يستحلان قتل الآخرين في سبيل مصالح دنيوية زائلة ، ولذا فقد قاتلا علي رضي الله في صفين ليسلبوه الخلافة ظلما وبهتانا ، وتسببافي قتل آلاف المسلمين فقط من أجل السلطة ، والسيدة عائشة أم المؤمنين خرجت لتحرض الناس أول الأمر على قتل عثمان ، وحين قتل خرجت مع الزبير وطلحة رضي الله عن الجميع لقتال علي في موقعة الجمل حقدا عليه حين نصب خليفة للمسلمين.(1/18)
فأم المؤمنين لم تنس موقف الإمام علي منها في موضوع الإفك حين أشار على النبي صلى الله عليه وسلم ليتزوج بغيرها فالنساء كثير ، وطلحة والزبير أخرجاها لقتال علي وهي المأمورة في الاستقرار في البيت بأمر الله والرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم وهما من العشرة المبشرين بالجنة ينكثان العهد مع علي رضي الله عنه وينقضان بيعتهما له في أمر الخلافة، وحين علمت السيدة عائشة بأنها مرت بمنطقة ماء الحوأب في الطريق إلى البصرة ، وتذكرت تحذير الرسول الكريم لها بهذا الموقف وفكرت في العودة اقسم لها الصحابة الأجلاء بأن هذا المكان ليس ماء الحوأب ،بل إن إحدى الروايات تقول إن عبد الله بن الزبير قد أتى لهابخمسين شاهد زور ليثنيهاعن العودة.
وحين يلوم أحدهما الزبير بن العوام على خروجه لموقعة الجمل يقول لمحدثه في انكسار إن ابنه عبد الله قد مال به إلى آل أمه بعد أن كان الزبير أول الإسلام يميل إلى آل المطلب .
وحين نتخطى مرحلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نجد أن الحسن يتم قتله على يد زوجته جعدة بنت الأشعث بأمر أو إغراء من معاوية ،الذي وعدها بتزويجها من ابنه يزيد إن هي دست السم للحسن رضي الله عنه ، وحين فعلت ما أمرها به معاوية رضي الله عنه لم ينفذ وعده معها وعيرها بخيانتها لزوجها.
أما الحسين رضي الله عنه فإن يزيد بن معاوية أمر بقتله ، وفي كربلاء سيقت نساء البيت النبوي عرايا بعد أن نزعت ثيابهن وطيف بهن وعرضن كالسبايا ، وأن أجساد الحسين ومن مات معه من الشهداء قد ديست بالجياد ومثل بها ، وحين وصلت رأس الحسين إلى يزيد راح يعبث بها بقضيب كان في يده.(1/19)
صورة غاية في البشاعة والحقد، وقلوب يبدو أن الإسلام لم يعمرها ولوليوم واحد ، صحابة تناسوا رسولهم صلى الله عليه وسلم، وزوجة للنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باحترامها تبدو بهذه الصورة المختلة ، ألا يحق لنا بعد ذلك أن نعود القهقري إلى الكتب القيمة والموثقة نتلمس فيها ومنها الحقيقة ونرسم في أذهاننا الصورة الحقة لهؤلاء النفر من الصحابة الأجلاء بعيدا عن أي زيف وتزوير..؟
رواه أبو نعيم في الحلية.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
ـ "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة"
ولذا فقد رأيت أن نتذكر معا بعض مناقب هؤلاء الصحبة كاستهلال لهذا الملف قبل الولوج إلى لب الأحداث:
عائشة رضي الله عنها
زوج الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم ، وتلك بعض مناقبها:التي جاءت في (كتاب أم المؤمنين ) لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع وتقديم وتحقيق محمد مال الله:
1 - عن ابن شهاب قال أبو سلمة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً:
ـ" يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام." فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى." تريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
2 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ـ" كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام."
3 - عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
ـ”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“.(1/20)
4 - عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: "يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر"
5 - عن الحكم سمعت أبا وائل قال: " لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال:
" إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها".
6 - عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء. فلما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: "جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل فيه للمسلمين بركة."
***********************************************
عثمان بن عفان رضي الله عنه
يكفيه فخرا جمعه للقرآن ، وزواجه من رقية وأم كلثوم أبنتي الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر كتاب ( سيرة عثمان بن عفان شخصيته وعصره ) للدكتور / علي محمد الصلابي بعض مناقبه فقال :
1- افتح له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه:
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «افتح له، وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان.
2- اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان:(1/21)
عن أنس - رضي الله عنه - قال: صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال:
ـ «اسكن أحد -أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان»
3- اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد:
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على حراء، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ـ«اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»
4- حياء عثمان - رضي الله عنه -:
عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم وآله وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مضطجع على فراشه لابسٌ مِرْط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك»، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ـ «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته»
5- استحياء الملائكة من عثمان:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسوى ثيابه. قال محمد -أحد رواة الحديث، ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال:
ـ"ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة"(1/22)
6- أصدقها حياء عثمان:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ـ «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرأها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
وذكر الشيخ محمد رضا الأديب المصري في كتابه (عثمان بن عفان) بعض مناقبه فقال:
1 ـ اختصاصه بكتابة الوحي .
عن فاطمة بنت عبد الرحمن عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال : إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان فإن الناس قد شتموه فقالت : لعن اللَّه من لعنه، فواللَّه لقد كان عند نبي اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وأن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لمسند ظهره إليَّ، وأن جبريل ليوحي إليه القرآن، وأنه ليقول له : اكتب يا عثيم فما كان اللَّه لينزل تلك المنزلة إلا كريمًا على اللَّه ورسوله . أخرجه أحمد وأخرجه الحاكم وقال : ( قالت : لعن اللَّه من لعنه، لا أحسبها قالت : إلا ثلاث مرات، لقد رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو مسند فخذه إلى عثمان، وإني لأمسح العرق عن جبين رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأن الوحي لينزل عليه وأنه ليقول : ـ "اكتب يا عثيم"
فواللَّه ما كان اللَّه لينزل عبدًا من نبيه تلك المنزلة إلا كان عليه كريمًا .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كان رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كَاتبَ سر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم .
2 ـ من كراماته .
[ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 131 ] .(1/23)
عن نافع : أن جهجاهًا الغفاري تناول عصا عثمان وكسرها على ركبته فأخذته الأكلة [ الأَكَلَة : الحكَّة ] في رجله، وعن أبي قلابة، قال : كنت في رفقة بالشام سمعت صوت رجل يقول : يا ويلاه النار، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين، أعمى العينين، منكبًا لوجهه، فسألته عن حاله فقال : إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار، فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها فقال : ( ما لك قطع اللَّه يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار ) ، فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هاربًا فأصابني ما ترى ولم يبق من دعائه إلا النار، قال : فقلت له بعدًا لك وسحقًا، أخرجهما الملأ في سيرته، وعن مالك أنه قال : كان عثمان مرَّ بحش كوكب [ حش كوكب : موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة ] فقال : إنه سيدفن هنا رجل صالح فكان أول من دفن فيه .
3 ـ تجهيزه جيش العسرة.
[ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121 ]
يقال لغزوة تبوك غزوة العُسرة، مأخوذة من قوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) [ التوبة : 117 ] .(1/24)
ندب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ الناس إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة، وحثهم على النفقة والحملان، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصدِّيق ـ رضي اللَّه عنه ـ، فجاء بماله كله 40 . 4000 درهم فقال له ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ : ( هل أبقيت لأهلك شيئًا ؟ ) قال : أبقيت لهم اللَّه ورسوله . وجاء عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ بنصف ماله فسأله : ( هل أبقيت لهم شيئًا ؟ ) [ رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ( 1 : 11 ) . ] . قال : نعم، نصف مالي . وجاء عبد الرحمن بن عوف ـ رضي اللَّه عنه ـ بمائتي أوقية، وتصدق عاصم بن عَدِيّ بسبعين وسقًا من تمر، وجهَّز عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ ثلث الجيش جهزهم بتسعمائة وخمسين بعيرًا وبخمسين فرسًا . قال ابن إسحاق : أنفق عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . وقيل : جاء عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ بألف دينار في كمه حين جهز جيش العُسرة فنثرها في حجر رسول اللَّه فقبلها في حجر وهو يقول : ( ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) . وقال رسول اللَّه :
ـ " من جهز جيش العُسرة فله الجنة "
[ رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب : مناقب عثمان بن عفان أبي عمر القرشي ـ رضي اللَّه عنه ـ ] .
4 ـ حفره بئر رومة .
[ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 121 ]
واشترى بئر رومة من اليهود بعشرين ألف درهم، وسبلها للمسلمين . كان رسول اللَّه قد قال :
ـ "من حفر بئر رومة فله الجنة " [ تذكرة الحفاظ ج 1/ص 9 ] [ ص 30 ] .(1/25)
وهذه البئر في عقيق المدينة : روي عن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أنه قال : ( نعم القليب قليب المُزَني ) ، وهي التي اشتراها عثمان بن عفان فتصدق بها . وروي عن موسى بن طلحة عن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أنه قال : ( نعم الحفير حفير المزني ) ـ يعني رومة ـ، فلما سمع عثمان ذلك ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها على المسلمين فجعل الناس يستقون منها . فلما رأى صاحبها أنه امتنع منه ما كان يصيب منها باعها من عثمان بشيء يسير فتصدق بها كلها .
5 ـ علمه وقراءته القرآن.
رواه ابن حجر العسقلاني في تغليق التعليق ( 937 ) ] .
كان عثمان أعلم الصحابة بالمناسك، وبعده ابن عمر .
وكان يحيي الليل، فيختم القرآن في ركعة، قالت امرأة عثمان حين قتل : لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن في ركعة، وعن عطاء ابن أبي رباح : ( إن عثمان بن عفان صلى بالناس، ثم قام خلف المقام، فجمع كتاب اللَّه في ركعة كانت وتره فسميت بالبتيراء ) ، وكان يضرب المثل به في التلاوة.
6ـ زيادته في المسجد النبوي .
[ أوردها ابن كثير في عام 26 هـ، والطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 606 : ( في عام 29 هـ، وسَّع عثمان الحرم وبناه بالفضة ـ الكلس ـ ) ، وكما ذكر ابن كثير ذلك في البداية والنهاية في الجزء السابع، السيوطي تاريخ الخلفاء ص 124 ] ( سنة 29 هـ/ 650 م ) :
كان المسجد النبوي على عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ مبنيًَّا باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمرًا وبناه على بنائه في عهد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب .(1/26)
وروى يحيى عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال : لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين، كلَّمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب . فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فأجمعوا على أن يهدمه [ ص 31 ] ويزيد فيه، فصلَّى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال : ( أيها الناس إني أردت أن أهدم مسجد رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول : ( من بنى مسجدًا بنى اللَّه له بيتًا في الجنة ) [ رواه مسلم في كتاب المساجد، باب : 24، والترمذي في كتاب الصلاة، باب : 120، والبخاري في كتاب الصلاة، باب : من بنى مسجدًا، وابن ماجه في كتاب الإقامة، باب : من بنى مسجدًا، والدارمي في كتاب الصلاة، باب : من بنى مسجدًا، وأحمد في ( م 1/ص 20 ) ] ، وقد كان لي فيه سلف، وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه ) ، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح، فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم الدهر ويصلي الليل، وكان لا يخرج من المسجد، وأمر بالفضة المنخولة تعمل ببطن نخل، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة 29 هـ، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة 30 فكان عمله عشرة أشهر .
وقد جعل عثمان طول المسجد مائة وستين ذراعًا وعرضه مائة وخمسين .
7 ـ زيادته في المسجد الحرام.(1/27)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 595، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص 481، السيوطي، تاريخ الخلفاء 123، الذهبي، تاريخ الإسلام ج 3/ص 315 . ] ( سنة 26 هـ/ 647 م ) : كان المسجد الحرام فناء حول الكعبة، وفناء للطائفين، ولم يكن له على عهد النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وأبي بكر ـ رضي اللَّه عنه ـ جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية، فلما استخلف عمر بن الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ، وكثر الناس وسع المسجد واشترى دورًا وهدمها وزادها فيه واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام .
فلما استخلف عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ ابتاع منازل ووسعه بها أيضًا، وبنى المسجد الحرام، والأروقة، فكان عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ أول من اتخذ للمسجد الأروقة [ ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43 ] . وكانت كسوة الكعبة في الجاهلية الأنطاع [ الأنطاع : بُسط من الأديم أي الجلد ] والمغافر، فكساها رسول اللَّه الثياب اليمانية، ثم كساها عمر وعثمان القُباطي [ القُباطي : ثياب من كتان نُسجت في مصر . [ القاموس المحيط، مادة : قبط ] .
8 ـ تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة .
في سنة 26 هـ كلَّم أهل مكة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ أن يحول الساحل من الشُعَيْبة، وهي ساحل مكة قديمًا في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جُدَّة لقربها من مكة . فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها، وأمر بتحويل الساحل إليها ودخل البحر [ ص 33 ] واغتسل فيه وقال : إنه مبارك، وقال لمن معه : ادخلوا البحر للاغتسال، ولا يدخل أحد إلا بمئزر، ثم خرج من جدة على طريق عسفان إلى المدينة، وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرًا إلى الآن لمكة المشرفة .
9 ـ أكل عثمان الليَّن من الطعام.(1/28)
عن عمرو بن أمية الضُمري، قال : إن قريشًا كان من أسن منهم مولعًا بأكل الخزيرة [ الخزيرة : اللحم البائت يقطَّع صغارًا في القدر، ثم يطبخ بالماء الكثير، والملح فإذا أميت طبخًا ذُرَّ عليه الدقيق فعصد به . [ القاموس المحيط، مادة : خزر ] ، وإني كنت أتعشى مع عثمان خزيرًا من طِبْخ من أجود ما رأيت قط، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان : كيف ترى الطعام ؟ فقلت : هذا أطيب ما أكلت قط، فقال : يرحم اللَّه ابن الخطاب، أكلتَ معه هذه الخزيرة قط ؟ قلت : نعم، فكادت اللقمة تفرث [ تفرث : أي تتفتت . [ القاموس المحيط، مادة : فرث ] بين يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن، ولا لبن فيها، فقال عثمان : صدقت، إن عمر ـ رضي اللَّه عنه ـ أتعب واللَّه من تبع أثره، وأنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظَلفًَا [ الظلف : الشدة والغلظ في المعيشة . [ القاموس المحيط، مادة : ظلف ] . أما واللَّه ما أكله من مال المسلمين ولكني أكله من مالي، أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالًا وأجدَّهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه وقد بلغت سنًَّا، فأحب الطعام إليًّ ألينه ولا أعلم لأحد عليَّ في ذلك تبعة .
وعن عبد اللَّه بن عامر قال : كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان، فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدَّرَمك [ الدَّرَمَك : هو دقيق الحواري، وهو تحريف الدرمق ] وصغار الضأن كل ليلة وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولًا، ولا أكل من الغنم إلا مسانَّها . فقلت لعثمان في ذلك، فقال : يرحم اللَّه عمر ومن يطيق ما كان عمر يطيق ! .
10ـ كرمه ـ رضي اللَّه عنه.
كان لعثمان على طلحة خمسون ألفًا، فخرج عثمان يومًا إلى المسجد فقال له طلحة : قد تهيأ مالك فاقبضه . قال : هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك .(1/29)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن ابن مهدي يقول: كان لعثمان رضي الله عنه شيئان ليس لأبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما مثلهما: صبره على نفسه حتى قُتل مظلوماً، وجمعه الناس على المصحف.
***********************************************
على بن أبي طالب رضي الله عنه
جاء في كتاب (سيرة الإمام الشهيد أمير المؤمنين للشيخ عبدالرحمن السحيم )
أن الإمام على كان:
أول الصبيان إسلاماً .
أسلم وهو صبي ، وقُتِل في الإسلام وهو كهل .
من أقرب العشرة المبشرين بالجنة ،فهو ابن عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنهما .
قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم :
ـ "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى . قال : اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه . اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاد ."
رواه الإمام أحمد وغيره .
وروى الإمام مسلم في فضائل علي رضي الله عنه قوله رضي الله عنه : والذي فلق الحبة ، وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .
وروى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في حق عليّ رضي الله عنه : ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه ؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ، خَلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/30)
ـ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا انه لا نبوة بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً . فأُتي به أرمد ، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : "اللهم هؤلاء أهلي"
روى عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً .
شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك ، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة :" ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ،إلا أنه لا نبي بعدي "
وجاء في كتاب( الإصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي بن حجر)
أخرج الترمذي بإسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ" ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي."
وفي مسند أحمد بسند جيد عن علي قال قيل يا رسول الله من تؤمر بعدك قال:
ـ" إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم وإن تؤمروا عليا وما أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم"
**********************************************
وفي كتابي (تاريخ الإسلام للذهبي ، والرياض النضرة لأبو جعفر أحمد بن عبدالله الطبري)
جاء ما يلي عن طلحة والزبير:
الزبير بن العوام رضي الله عنه
هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، شهد بدراً والمشاهد كلها، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وكان من السابقين إلى الإسلام. وهو أول من سل سيفه في سبيل الله.(1/31)
وعن عروة - وهو في الصحيح - أن عائشة قالت: يابن أختي كان أبي - تعني أبا بكر- والزبير من الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح.
وقال عروة: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، إحداهن في عاتقه، إن كنت لأدخل أصابعي فيها، ضرب اثنتين يوم بدر، وواحدة يوم اليرموك.
وقال عروة: قال عمر بن الخطاب: لو عهدت أو تركت تركة، كان أحبهم إلي الزبير، إنه ركن من أركان الدين.
************************************************
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
قال الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة".
وعن عائشة، وأم إسحاق ابنتي طلحة قالتا: جرح أبونا يوم أحد أربعاً وعشرين جراحة، وقع منها رأسه شجة، وقطع نساه وشلت أصابعه.
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلحة ممن قضى نحبه" رواه الطيالسي في "مسنده
وعن علي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة".
رواه الترمذي.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: ثنا سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة التيمي، حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، أن أباه أتاه مال من حضرموت سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: مالك؟ فقال: تفكرت فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته، قالت: فأين أنت عن بعض اخلائك، فإذا أصبحت فاقسمها، فقال: إنك موفقة -وهي أم كلثوم بنت الصديق- فقسمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى علي منها، وأعطى زوجته ما فضل، فكان نحو ألف درهم.
وقال الإمام علي رضي الله عنه في حق طلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم كما جاء في كتاب تاريخ الاسلام الذهبي:(1/32)
قال أبو بكر الهذلي: قال علي رضي الله عنه يوم الجمل: أتدرون من حاربت، حاربت أمجد الناس، وأنجد الناس - يعني عبد الله بن عامر -، وأشجع الناس، - يعني الزبير -، وأدهى الناس، يعني طلحة.
وقال ليث، عن طلحة بن مصرف، إن علياً انتهى إلى طلحة وقد مات، فنزل وأجلسه، ومسح الغبار، عن وجهه ولحيته، وهو يترحم عليه ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال الزبير: إن طلحة يسمي أولاده بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون: عبد الله بعبد الله بن جحش، والمنذر بالمنذر بن عمرو، وعروة بعروة بن مسعود، وحمزة بحمزة، وجعفر بجعفر بن أبي طالب، ومصعب بمصعب بن عمير، وعبيدة بعبيدة بن الحارث، وخالد بخالد بن سعيد، وعمرو بعمرو بن سعيد بن العاص قتل باليرموك.
**********************************************
معاوية رضي الله
وتلك بعض فضائله :
جاء في كتاب (رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان) للشيخ الجليل أبو عبد الله الذهبي:
1 ـ روى الترمذي في فضائل معاوية أنه لما تولى أمر الناس كانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه ، فقالوا كيف يتولى معاوية و في الناس من هو خير مثل الحسن و الحسين . قال عمير و هو أحد الصحابة : لا تذكروه إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (اللهم اجعله هادياً مهدياً و اهد به )
رواه الإمام أحمد في المسند (4/216) و صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/236) ، و زاد الإمام الآجري في كتابه الشريعة (5/2436-2437) لفظة : ( ولا تعذبه )
2 ـ أخرج الإمام أحمد ، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان ، قال
ـ " هلموا إلى الغداء المبارك "ثم سمعته يقول :
ـ " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب " . فضائل الصحابة (2/913) إسناده حسن لغيره .(1/33)
3 ـ روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأني حطأة وقال :
( اذهب وادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت هو يأكل ، قال : ثم قال لي : اذهب فادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : "لا اشبع الله بطنه "
قال الحافظ الذهبي في التذكرة (2/699) : لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
ـ " اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة و رحمة"
4 ـ وقد كان لمعاوية رضي الله عنه شرف قيادة أول حملة بحرية ، وهي التي شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملوك على الأسرة .
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت : نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ، ثم استيقظ يبتسم ، فقلت : ما أضحكك ؟ قال :
ـ" أناس من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة "
قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ، ففعل مثلها ، فقالت قولها ، فأجابها مثلها ، فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال :
ـ " أنت من الأولين "
فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين ، فنزلوا الشام ، فَقُرِّبت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت . البخاري مع الفتح ( 6 / 22 ) وأخرج البخاري أيضاً من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـ " أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا"
قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله أنا فيهم ؟
قال : "أنت فيهم " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :
ـ " أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر – أي القسطنطينية – مغفور لهم"
فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : " لا " . البخاري مع الفتح ( 6 / 22 ) . ومسلم ( 13 / 57 ) .(1/34)
ومعنى أوجبوا :أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة. قاله ابن حجر في الفتح ( 6 / 121 )
في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر . انظر الفتح ( 6 / 120 ) .
5 ــ قال الخلال : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال : قلت لأحمد بن حنبل : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي "؟ قال : بلى ، قلت : وهذه لمعاوية ؟ قال : نعم ، له صهر ونسب ، قال : وسمعت ابن حنبل يقول : مالهم ولمعاوية ، نسأل الله العافية .
6 ـ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تذكروا معاوية إلا بخير . البداية والنهاية لابن كثير.
7 ـ وعن علي رضي الله عنه أنه قال بعد رجوعه من صفين : أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فقدتموها ، رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل . ابن كثير في البداية ( 8 / 134
8 ـ وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قال : لله در ابن هند – يعني معاوية رضي الله عنه – إنا كنا لَنَفْرَقه – من الفَرَق : وهو الخوف والفزع – وما الليث على براثنه بأجرأ منه ، فيتفارق لنا ، وإن كنا لنخادعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه ، فيتخادع لنا ، والله لوددت أنا مُتعنا به مادام في هذا الجبل حَجَر ، وأشار إلى أبي قبيس . أورده ابن كثير في البداية ( 8 / 138 ) .
9 ـ وحين سئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة ، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟ . وفيات الأعيان ، لابن خلكان (3 /33) ، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466) .(1/35)
و قد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله أيضا: معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ، يعني الصحابة . انظر البداية والنهاية لابن كثير (8/139) .
10 ـ و أخرج الآجري بسنده إلى الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً و قال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على وحيه عز وجل . كتاب الشريعة للآجري ( 5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي ، برقم (2785) . بسند صحيح .
11 ـ وقد سئل رجل الإمام أحمد عن خال له ينتقص معاوية رضي الله عنه ، وأنه – أي الرجل – ربما أكل مع خاله ، فقال له الإمام أحمد مبادراً : لا تأكل معه . السنة للخلال ( 2/ 448 ) .
12 ـ وقال الربيع بن نافع الحلبي ( ت 241هـ ) رحمه الله : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه . البداية والنهاية (8/139) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة ، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة ، وهو أول الملوك ، كان ملكه ملكاً ورحمة . مجموع الفتاوى ( 4 / 478 )
***********************************************
عمرو بن العاص رضي الله
عمرو بن العاص رضي الله عنه وتلك بعض مناقبه:
جاء الآتي في كتاب (رجال حول الرسول للمرحوم خالد محمد خالد) :
في خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.
روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:
" ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا"..!
وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..(1/36)
حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:
" سبحان الله..!!
ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
ولقد كام أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر، قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:
" لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!
ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.
واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..
اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..
ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
ودخل على القائد وقال له:
لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..(1/37)
وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..
وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..
ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،
وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..
وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..
وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
".. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..
ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..
ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ".. ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
" اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر،
والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!
وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..
وكتب عنه العقاد كتابه ( عمرو بن العاص ) وتحدث فيه عن عبقريته ودهائه وبعض صفاته فأورد ما يلي ضمن ماذكره :
" وظل الرجل يسائل نفسه عن حفاوة النبي به طوال حياته ، فروى الحسن البصري أن بعضهم سأل عمرا، أرأيت رجلا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه ، أليس رجلا صالحا؟ قال : بلى . فقال محدثه : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك وقد استعملك قال فوالله ما أدري أحبا كان لي منه أو استعانة بي ؟؟!"(1/38)
ونقول نحن إن أملاً ورجاءاً كانا يعتملان في عقله وقلبه ورغبة حارة حملته كلماته الحائرة في أن يكون بالفعل أهلا لحب الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم وثقته.
وفي موضع آخر يبين عمرو بن العاص عن حميته للدين ورغبته في انتصار الإسلام ورفع رايته متخطيا أسوار الدم والنسب ، يقول العقاد :
"اشترك عمرو وأخوه هشام في حرب الشام . وأخوه هذا من علم الناس في الصلاح وصدق البلاء ، فإذا ثلمة في الطريق يتخطف المدافعون من يهجم عليها بالسيوف ، فهابها العرب وأحجموا عنها ، وطال ترددهم لديها، فإذا هشام يقدم عليها وهو ينادي في الجيش : يا معشر المسلمين إلّيّ إليّ !أنا هشام بن العاص ! أمن الجنة تفرون؟ ومازال يتقدم حتى خرّ قتيلاً متعرضا في تلك الثلمة المرهوبة.
فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يدوسوه كرامة له ولأخيه ، فكان عمرو أول من تقدم فداسه وهو يصيح بجنده : وإنما هي جثة، ثم وطأه وتبعه الناس ، حتى تقطع وهو مشغول عنه بما هو أجدى وأعظم ، وبعد الهزيمة عاد إليه وجعل يحمل لحمه وأعضاءه وعظامه بيديه ثم حمله في نطع فواراه ..!
وعن دهائه قال العقاد :
1 ـ " أحصى العرب دهاتهم في الإسلام ، فعدوا أربعة هو منهم ، وجعلوا لكل منهم مزية يمتاز بها في دهائه فقالوا :إن معاوية للروية ، وعمرو بن العاص للبديهة ، والمغيرة للمعضلات ، وزياد لكل صغيرة وكبيرة "
2 ـ " خرج يعس بالليل وهو أمير على مصر ، فسمع أناسا يقعون فيه ويتوعدونه ، وعلم أنه لو تركهم إلى غده لم يعرفهم ولم يظفر بهم جميعا فأقبل عليهم إقبال الخائف الطريد ، وأوهمهم أنه يلوذ بهم ويضرع إليهم ألا يسلموه إلى الأمير لأنه يتعقبه ويمعن في طلبه ، فاستبقوا في تقييده وساقوه إلى باب القصر لا يتخلف أحد منهم طمعا في المثوبة . فأوصلهم إلى حيث أراد.(1/39)
3 ـ قتل الروم رجلا من المسلمين حول الأسكندرية ، واحتزوا رأسه وانطلقوا به إلى داخل الحصن ، فأقسم أبناء قبيلته لا يدفن إلا برأسه . قال عمرو : تنغضبون كأنكم تنغضبون على من يبالي بغضبكم ! احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا ، ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم . فلما فعلوا إذا برأس صاحبهم يسقط عليهم ، فقال : دونكم الآن فادفنوه برأسه .
وأورد العقاد قول مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر في رواية النجوم الزاهرة في وصفه لعمرو فقال :" وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت أنصع ظرفا منه ، ولا أكرم جليسا ، ولا أشبه سريرة بعلانية منه "
**********************************************
الإمامان الحسن والحسين رضي الله عنهما
أبنا الإمام علي وفاطمة الزهراء ابنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم فهما من أصحاب الكساء .
ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني إلى طعام دعوا له قال : فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم ، وحسين مع غلمان يلعب ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه قال : فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال : حسين مني وأنا من حسين اللهم أحب من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط.
وقد ثبت فى الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطب رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتضنهما وأخذهما معه إلى المنبر وقال :
ـ" صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة" .
عن أنس قال: كان الحسن بن على أشبههم وجها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أسامة بن زيد قال :
كان النبى ص يأخذنى فيقعدنى على فخده ويقعد الحسن على فخده الأخرى ثم يضمنا ثم يقول:
ـ " اللهم ارحمهما فأنى ارحمهما"(1/40)
عن البراء بن عازب قال رأيت النبى صلى الله عليه وسلم والحسن بن على عاتقه وهو يقول:
ـ " اللهم إنى أحبه فأحبه"
ورد عن عائشة وأم سلمة أمى المؤمنين أن رسول الله اشتمل على الحسن والحسين وأمهما وأبيهما فقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)
وقال أبو القاسم البغوى :
جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يده تحت رقبته ثم ضمه إلى إبطه ثم جاء الآخر فجعل يده إلى الأخرى فى رقبته ثم ضمه إلى إبطه وقبل هذا ثم قبل هذا ثم قال :
ـ "اللهم إنى أحبهما فأحبهما "
ثم قال :
ـ " أيها الناس إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة"
عن ابن عباس قال خرج رسول الله وهو حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل يا غلام نعم المركب ركبت فقال رسول الله : "ونعم الراكب هو"
وكان على يكرم الحسن إكراما زائدا ويعظمه ويبجله وقد قال له يوما :
ـ يا بنى ألا تخطب حتى أسمعك ..!
فقال :
ـ إنى أستحى أن أخطب وأنا أراك .
فذهب على فجلس حيث لا يراه الحسن ثم قام الحسن فى الناس خطيبا وعلى يسمع فأدى خطبة بليغة فصيحة فلما انصرف جعل على يقول:
ـ " ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ."
و قالوا وقاسم الله ماله ثلاث مرات وخرج من ماله مرتين وحج خمسا وعشرين مرة ماشيا.
كان الحسن من الكرم على جانب عظيم ويروى أنه سمع رجلا إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم فقام إلى منزله فبعث بها إليه .
وذكروا أن الحسن رأى غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلبا هناك لقمة فقال له:
ـ ما حملك على هذا ؟
فقال :
ـ إنى أستحى منه أن آكل ولا أطعمه.
فقال له الحسن:
ـ لا تبرح من مكانك حتى آتيك .
فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذى هو فيه فأعتقه وملكه الحائط فقال الغلام بعد أن تصدق بالحائط :
ـ وهبت الحائط لمن وهبتني له.(1/41)
هذه هي الشخصيات الرائعة التي وضعت للإسلام بنيته الأساسية ، وانتصرت له محليا ، ثم رفعت لواءه شرقا وغربا حتى دقت أبواب الهند والسند وتعدت سور الصين العظيم ، وعلمت أوربا الحضارة ومبادئ حقوق الإنسان التي يتشدقون بها الآن هم وأذنابهم .
***********************************************
قالوا عن الفتنة
إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الفتنة التي سيقتل فيها عثمان.
أولاً : جاء في كتاب( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيتة وعصره) للدكتور / علي محمد الصلابي غفر الله له ولوالديه ما يلي :
1 ـ - من نجا من ثلاث فقد نجا:
عن عبد الله بن حوالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ «من نجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات-: موتى، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه».
ومعلوم أن الخليفة الذي قتل مصطبرا بالحق هو عثمان، فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وفي الحديث -والله أعلم- لفتة عظيمة إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسيًّا ومعنويًا، أما حسيًا فذلك يكون في الفتنة من تحريض وتأليب وقتل وغير ذلك، وأما معنويًا فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحديث عاما للأمة، وليس خاصا بمن أدرك الفتنة.
2- يقتل فيها هذا المقنع يومئذ:
عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال:
ـ «يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما»
قال: فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان .
3- هذا يومئذ على الهدى:
عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها، فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "هذا يومئذ على الهدى."
فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: "هذا"
4- تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق:(1/42)
عن مرة البهزي قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بهز -من رواة الحديث-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " تهيج فتنة كالصياصى، فهذا ومن معه على الحق"
قال: فذهبت فأخذت بمجامع ثوبه، فإذا هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
5- هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى:
عن أبي الأشعث قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية - رضي الله عنه -، فتكلموا وكان آخر من تكلم مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة ففربها، فمر رجل مقنع فقال:
ـ «هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى»
فقلت: هذا يا رسول الله؟ وأقبلت بوجهه إليه فقال: «هذا»، فإذا هو عثمان.
6- عليكم بالأمين وأصحابه:
عن أبي حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام، فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا» أو قال «اختلافا وفتنة»
فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال:
ـ«عليكم بالأمين وأصحابه»
وهو يشير إلى عثمان بذلك.
7- فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه:(1/43)
عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت إحدانا على الأخرى, فكان آخر كلام كلَّمه أن ضرب منكبه وقال: «يا عثمان، إن الله -عز وجل- عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثا. فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته. قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إليَّ به، فكتبت إليه به كتابا.
8- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه:
عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي بعض أصحابي» قلت: أبو بكر؟ قال: «لا»، قلت: عثمان؟ قال: «نعم»، فلما جاء قال: «تنحَّ»، فجعل يساره, ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه.
كتاب (العواصم من القواصم)
ثانيا : جاء في كتاب (العواصم من القواصم ) تأليف القاضي أبي بكر العربي ، والذي حققه وعلق على حواشيه محب الدين الخطيب ما يلي :
فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم ، قدم عثمان ، فكان عند الظن به : ما خالف له عهداً ، ولا نكث عقداً ، ولا اقتحم مكروهاً ولا خالف سنة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن عمر شهيد ، وبأن عثمان شهيد ، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه.
وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، دخل به في باب " أول من . . . وهو علم كبير جمعه الناس .(1/44)
ولما صحت إمامته قتل مظلوماً وليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
ما نصب حرباً ، ولا جيش عسكراًولا سعى إلى فتنة ، ولا دعا إلى بيعة.
ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله ولا كان يرجوها لنفسه ، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير عثمان ، فكيف بعثمان رضي الله عنه ! .
وقد سموا من قام عليه ، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها فوعظوا وزجروا ، وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد ، وتوعدهم حتى تابو، فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد ، فأرسلهم : فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة ، وألبوا الجماعة ، وجاءوا إليه بجملتهم.
فاطلع عليهم من حائط داره وذكرهم ، وورعهم عن دمه .
وخرج طلحة يبكي ويورع الناس ، وأرسل عليّ ولديه ، وقال الناس لهم: إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله " ، فلما جئنا قعد هذا في بيته ـ يعنون علياً ـ وخرجت أنت تفيض عينيك ، والله لا برحنا حتى نريق دمه.
وهذا قهر عظيم ، وافتئات على الصحابة ، وكذب في وجوههم وبهت لهم ، ولو أراد عثمان لكان مستنصراً بالصحابة ، ولنصروه في لحظة وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين ، فوعظوهم ، فاستشاطوا فأراد الصحابة الهم فأوعزهم إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبداً ، فاستسلم ، وأسلموه برضاه .
كتاب ( زاد الميعاد)
ثالثا : جاء في( زاد الميعاد )ابن قيم الجوزية مايلي :
والفتنة التى يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التى أوقعها بين أصحاب علىّ ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهى الفتنة التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم: (سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، القَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، والقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ منَ المَاشى، والماشى فيها خَيْرٌ من السَّاعِى) وأحاديثُ الفتنة التى أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين، هى هذه الفتنة.(1/45)
كتاب (من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه)
رابعا : ذكر في كتاب (من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه) تأليف: محمد زياد بن عمر التكلةالآتي :
قال ابن تيمية في المنهاج (4/409-410): "إن الفتن إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزين، ويظن أن فيها خيرا.."، إلى أن قال: "والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت، وصارت عبرة لهم ولغيرهم".
كتاب (تاريخ الاسلام للذهبي)
خامسا : وجاء في كتاب (تاريخ الاسلام للذهبي) ما نصه :
قال قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن مرة البهزي قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق".
قال: فذهبت وأخذت بمجامع ثوبه فإذا هو عثمان.
ورواه الأشعث الصنعاني، عن مرة. ورواه محمد بن سيرين، عن كعب ابن عجزة، وروي نحوه عن ابن عمر.
وروى أحمد في "مسنده" من حديث مطرف قال: قلت للزبير: يا أبا عبد الله ما شأنكم ضيعتم عثمان حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟! فقال الزبير: إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"، لم نكن نحسب أنا أهلها، حتى وقعت منا حيث وقعت.
وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: قال علي: إني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة، والزبير من الذين قال الله: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين".
وقال شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى عليّ، فقال له: اتق الله فإنّك ميّت، فقال: لا والذي رأس الخوارج إلى عليّ، فقال له: اتق الله فإنّك ميّت، فقال: لا والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، ولكنّي مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه وأشار بيده إلى لحيته عهد وقضاء مقضيّ، وقد خاب من افترى.
كتاب (أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها)(1/46)
سادسا : ذكر في كتاب (أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها)لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع وتقديم وتحقيق محمد مال الله:
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها. وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.
أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها.. وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السُّنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب، بل يجوز أن يُذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه. وهذا مُتّفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تُمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب المُكفِّرة وغير ذلك.
وما يُذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وبما أنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يُوجب النار لا محالة.
فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبيّن لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تَبلّ خِمارها.(1/47)
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل عليّ وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان عليّ غير راضٍ بقتل عثمان ولا معيناً عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم، فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن عليّ أنهم حملوا عليه، فحمل دفعاً عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار.
وإذا قال أحدهم أن الله تعالى يقول: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [النساء: 29] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضاً ، وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا“
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار“ قيل: يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ”كان حريصاً على قتل صاحبه“
فلو قال قائل: إن علياً ومن قاتله قد التقيا بسيفيهما، وقد استحلُّوا دماء المسلمين، فيجب أن يلحقهم الوعيد.
لكان جوابه: إن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئاً، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين:
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال: "فقد فعلت". فقد عُفِيَ للمؤمنين عن النسيان والخطأ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه، وإذا غُفِرَ خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين، فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقرَّ في بيتها أولى.(1/48)
وأيضاً فلو قال قائل: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال :
ـ "لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلاّ أبدلها الله خيراً منه". وكما جاء في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
ـ "إنها طيبة (يعني المدينة) وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد."
وفي لفظ:" تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة."
وقال: إن علياً خرج عنها ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله، ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة.
لكان الجواب: إن المجتهد إذا كان دون عليّ لم يتناوله الوعيد، فعليّ أولى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده، وبهذا يُجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها. وإذا كان المجتهد مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة.
وأماالقول بإن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان، وتقول في كل وقت: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك.
فيقال:
أولاً: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
ثانياً: المنقول الثابت عنها يُكذِّب ذلك، ويُبيّن أنها أنكرت قتله، وذمَّت من قتله، ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركته في ذلك.(1/49)
ثالثاً: هب أن أحداً من الصحابة – عائشة أو غيرها – قال في ذلك على وجه الغضب، لإنكاره بعض ما يُنكر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما ولياً لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظن كفره، وهو مخطئ في هذا الظن. وفي حديث عليّ أن حاطباً كتب إلى المشركين يُخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعليّ والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب". فلما أتيا بالكتاب، قال: "ما هذا يا حاطب"؟ فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضاً بالكفر، ولكن كنت امرءاً مُلصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، كان مَن معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: ”إنه شهد بدراً، وما يُدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم“. وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ }
كما ثبت في الصحيحين عن عليّ وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكان من أهل بدر والحديبية. وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "كذبتَ، إنه قد شهد بدراً والحديبية".(1/50)
فإن عثمان وعلياً وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئاً إلى مماليكه، وكان ذنبه في مكاتبة المشركين، وإعانتهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تُضاف إلى هؤلاء، ومع هذا فالنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتله، وكذَّب من قال: إنه يدخل النار، لأنه شهد بدراً والحديبية، وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر. ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فسماه منافقاً، واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما، ولا في كونه من أهل الجنة.
وأما القول بإن عائشة قد خالفت أمر الله في قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [الأحزاب: 33] فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقراء في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سافر بهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره، وكان عمر يوكّل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك.
وأما القول بأن عائشة لما سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: عليّ. فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعليّ في ذلك؟(1/51)
وأما القول بإن عائشة وطلحة والزبير اتهما عليّاً بأنه قتل عثمان وقاتَلوه على ذلك – كذب بيِّن، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيّزوا إلى عليّ، وهم يعلمون أن براءة عليّ من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه، فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعليّ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبُّون عنهم.
وجماهير أهل السنة متفقون على أن علياً أفضل من طلحة والزبير، فضلاً عن معاوية وغيره. ويقولون: إن المسلمين لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه، كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”تمر مارقة على حين فُرقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق“. فهؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم عليّ وأصحابه، فعُلِمَ أنهم كانوا أولى بالحق من معاوية.
كتاب (رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان)
سابعا :جاء في كتاب (رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيا ن) للشيخ أبو عبد الله الذهبي
تحت عنوان موقفنا مما شجر بين الأصحاب من فتن وقتال ما يلي :
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة ، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب و الخلافات على سبيل التوسع و تتبع التفصيلات ، و نشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة و الانتصار لأخرى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/406) :
ـ و كذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب و هم كانوا مجتهدين ، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ، و ما كان لهم من السيئات ، و قد سبق لهم من الله الحسنى ، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة .(1/52)
و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق ، فاختلفت فيه اجتهاداتهم ، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم ، و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم ، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأول و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله وقد أفضوا إلى ما قدموا ، فنترضى عنهم جميعاً و نترحم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم .
قال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و محبتهم و ذكر محاسنهم و الترحم عليهم و الاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم و ما شجر بينهم ، و اعتقاد فضلهم و معرفة سابقتهم ، قال الله تعالى{ و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}[الحشر/10] و قال تعالى{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}[الفتح/29] و قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . البخاري مع الفتح (7/25) و مسلم برقم (6435) .
و يقول الإمام الذهبي رحمه الله في السير(10/92-93) :
ـ كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم ، و قتالهم رضي الله عنهم أجمعين و ما زال يمر بنا ذلك في الدواوين و الكتب و الأجزاء ، و لكن أكثر ذلك منقطع و ضعيف و بعضه كذب .. فينبغي طيه و إخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب ، و تتوفر على حب الصحابة و الترضي عنهم ، و كتمان ذلك متعين عن العامة و آحاد العلماء .. إلى أن قال : فأما ما نقله أهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه ، ولا كرامة فأكثره باطل و كذب و افتراء .
و فضيلة الصحبة و لو للحظة ، لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء ، و الفضائل لا تؤخذ بالقياس .(1/53)
و قد أخرج ابن عساكر في تاريخه (59/141) في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال : جاء رجل إلى عمي فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رب معاوية ربٌ رحيم و خصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
و قال الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة (5/2485-2491) باب ذكر الكف عما شجر بين أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رحمة الله عليهم أجمعين :
ـ ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و فضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ، أن يحبهم و يترحم عليهم و يستغفر لهم ، ويتوسل إلى الله الكريم لهم – أي بالدعاء و الترحم والاستغفار و الترضي – ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا ، ولا يذكر ما شجر بينهم ، ولا ينقّر عنه ولا يبحث .
إن موضوع النزاع و الخلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه يجب أن ينظر إليه من زاويتين :-
الأولى :
إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان ، لأن كل من قتل من المسلمين بأيدي إخوانهم منذ قتل عثمان رضي الله عنه إنما يقع إثمه عليهم ، فهم الذين فتحوا باب الفتنة و كل ما وقع بعد ذلك فإثمه و وزره عليهم ، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها ، و هم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل و صفين و ما تفرق عنها من أحداث و آراء و مواقف فتحت باب الخلاف و الفرقة بين المسلمين .
الثانية :(1/54)
إن ما حدث من جانب الصحابة رضي الله عنهم في هذه الفتنة يحمل على حسن النية و الاختلاف في التقدير و الاجتهاد ، كما يحمل على وقوع الخطأ و الإصابة ، و لكنهم على كل حال كانوا مجتهدين و هم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة و الخطأ ، و إن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية ، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا ، و إنما كان اجتهاداً من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/340-342) بتصرف .
و قد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه.
و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال :
ـ قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و غبنا و علموا و جهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، و اختلفوا فوقفنا . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/322) في تفسير سورة الحجرات .
و يقول النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (18/219-220) :
ـ و اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد - يعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار - و مذهب أهل السنة و الحق إحسان الظن بهم ، و الإمساك عما شجر بينهم ، و تأويل قتالهم و أنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا ، بل اعتقد كل فريق أنه المحق و مخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله ، و كان بعضهم مصيباً و بعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد و المجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه .(1/55)
و يورد شيخ الإسلام في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى (35/50 و 54 و 56 و 69) رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج و الرافضة و المعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق ، فيقول :
ـ و أهل السنة و الجماعة و أئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة بل يمكن أن يقع الذنب منهم ، والله يغفر لهم بالتوبة و يرفع بها درجاتهم ، و إن الأنبياء هم المعصومون فقط ، أما الصديقون و الشهداء و الصالحون فليسوا معصومين ، و هذا في الذنوب المحققة ، و أما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون ، فإذا اجتهدوا و أصابوا فلهم أجران ، و إذا اجتهدوا و أخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم ، و جمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين و بين أصحاب الجمل و صفين ممن يعد من البغاة المتأولين ، و هذا مأثور عن الصحابة و عامة أهل الحديث ، و الفقهاء و الأئمة .
يقول ابن حجر في الفتح (13/37 ) :
ــ و اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً ، و أن المصيب يؤجر أجرين .
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة ، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض ، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني و غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : :"إذا ذكر أصحابي فأمسكوا" . أنظر : السلسة الصحيحة (1/75) .
*************************************************
والآن آن الأوان للولوج إلى تلك الحقبة التاريخية التي تضمنت أحداث الفتنة لكي نتعرف على الوجه الحقيقي والتفسير الصحيح لما صدر عن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم .
الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه
(البداية والنهاية)(1/56)
جاء في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير(بتصرف)
في سنة ثلاث وثلاثين سير امير المؤمنين جماعة من قراء اهل الكوفة الى الشام وكان سبب ذلك انهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر فكتب الى عثمان في
أمرهم فكتب اليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام أنه قد أخرج اليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم ، فأجابه المترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة فاحتملهم معاوية لحلمه و أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام إلى الجزيرة ،وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص وكانوا عشرة وقيل تسعة ، فاجتمع بهم عبدالرحمن بن خالد بن الوليد وكان نائبا على الجزيرة فهددهم وتوعدهم فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الاقلاع عما كانوا عليه فدعا لهم وسير مالكا الأشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه فقبل منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبدالرحمن بن خالد بن الوليد فقدموا عليه حمص فأمرهم بالمقام بالساحل وأجرى عليهم الرزق .
وفي هذه السنة سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضى الله عنه فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالىء الأعداء في الحط والكلام فيه وهم الظالمون في ذلك وهو البار الراشد رضى الله عنه وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتوليه جماعة من بنى أمية من اقربائه واغلظوا له في القول.(1/57)
وفي سنة أربع وثلاثين تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة وهم في معاملة عبدالرحمن بن خالد بن الوليد بحمص ، فبعث عثمان رضي الله عنه إلى امراء الأجناد فاحضرهم عنده ليستشيرهم فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام وعمرو بن العاص أمير مصر وعبدالله ابن سعد بن أبي سرح أمير المغرب وسعيد بن العاص أمير الكوفة وعبدالله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة فاشار عبدالله بن عامر ان يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر فلا يكون هم احدهم إلا نفسه ،وأشار سعيد بن العاص بأن يستاصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم ،وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم وأن لا يلتفت إلى هؤلاء وما تالبوا عليه من الشر فانهم أقل وأضعف جندا ،وأشار عبدالله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم ويأمن غائلتهم ويعطف به قلوبهم إليه وأما عمرو بن العاص فقام فقال أما بعد يا عثمان فانك قد ركبت الناس ما يكرهون فاما أن تعزل عنهم ما يكرهون واما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه ،فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه وتألف قلوب أولئك بالمال وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو فجمع بين المصالح كلها ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الاشعري وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة فأجابهم عثمان إلى ما سالوا ازاحة لعذرهم وازالة لشبههم وقطعا لعللهم .(1/58)
وقيل إن سبب تألب الاحزاب على عثمان أن رجلا يقال له عبدالله بن سبأ كان يهوديا فاظهر الاسلام وصار إلى مصر فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه مضمونه أن محمد خاتم الانبياء وعلى خاتم الاوصياء وهو أحق بالإمرة من عثمان ، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة فتمائلوا على ذلك وتكاتبوا فيه وتواعدوا أن يجتمعوا في الانكار على عثمان وأرسلوا اليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوى رحمه وعزله كبار الصحابة فدخل هذا في قلوب كثير من الناس فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم ذكره.
وقال الواقدي أن الناس طلبوا من علي بن ابي طالب أن يدخل على عثمان فدخل عليه فقال له إن الناس ورائي وقد كلموني فيك ووالله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه، فاعتذرعثمان عما كان يعطي اقرباءه بأنه من فضل ماله فقام مروان بن الحكم فقال :إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف ، فأسكته عثمان وعنفه.
ودخلت سنة خمس وثلاثين وفيها مقتل عثمان وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر ولى عليها عبدالله بن سعد بن ابي سرح ،وكره أهل مصر عبدالله بن سعد بن أبي سرح بعد عمرو بن العاص واشتغل عبدالله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب وفتحه بلاد البربر والاندلس وافريقية وأنشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه والانكار عليه وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة حتى استنفرا نحوا من ستمائة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب لينكروا على عثمان فساروا إليها تحت اربع رفاق .(1/59)
واقبل معهم محمد بن ابي بكر وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء وكتب عبدالله بن سعد بن ابي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة المعتمرين فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن ابي طالب أن يخرج اليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة ،فانطلق علي بن ابي طالب إليهم وهم بالجحفة وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره فردهم وأنبهم وشتمهم فرجعوا على أنفسهم بالملامة وقالوا هذا الذي تحاربون الأمير بسببه وتحتجون عليه به ويقال إنه ناظرهم في عثمان وسألهم ماذا ينقمون عليه فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى وحرق المصاحف وانه أتم الصلاة وأنه أولى الاحداث الولايات وترك الصحابة الأكابر وأعطى بني أمية اكثر من الناس.
فأجاب علي عن ذلك أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن ولم يحمه لإبله ولا لغنمه وقد حماه عمر من قبله ،وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف وأبقى لهم المتفق عليه كما ثبت في العرضة الأخيرة ،وأما إتمامه الصلاة بمكة فانه كان قد تأهل بها ونوى الاقامة فأتمها، وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة وولى أسامة بن زيد بن حارثة وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالإمارة ، وأما إيثاره قومه بنى أمية فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر قريشا على الناس ، ويقال انهم عتبوا عليه في عمار ومحمد بن ابي بكر فذكر عثمان عذره في ذلك وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما ، وعتبوا عليه في ايوائه الحكم بن أبي العاص وقد نفاه رسول الله صلى إلى الطائف فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف ثم رده ثم نفاه إليها .(1/60)
فلما تمهدت الأعذار وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم فصفح عنهم رضى الله عنه وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث اتوا ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان فإخبره برجوعهم عنه وسماعهم منه وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما وقع من الأثرة لبعض أقاربه ويشهدهم عليه بأنه تاب من ذلك وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله وأنه لا يحيد عنها كما كان الأمر أولا في مدة ست سنين الأول فاستمع عثمان هذه النصيحة وقابلها بالسمع والطاعة .
وخطب الخطبة التى نزع فيها وإعلم الناس من نفسه التوبة فرق الناس له وبكى من بكى فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس وجاءه مروان بن الحكم فقال والله لاقامة على خطيئة يستغفر منها خير من توبة خوف عليها، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس فقال عثمان قم فاخرج اليهم فكلمهم فاني استحي أن أكلمهم .
فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال فيما قال( ما شأنكم كانكم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنا ارجعوا إلى منازلكم فوالله ما نحن مغلوبين على مابأيدينا ) فجاء على مغضبا حتى دخل على عثمان فقال (والله ما مروان بذى رأي في دينه ولا نفسه وأيم والله إنى لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك) فلما خرج علي دخلت نائلة على عثمان فقالت (سمعت قول علي أنه ليس يعاودك وقد أطعت مروان حيث شاء ) قال : فما أصنع ؟.. قالت: ( تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك فانك متى أطعت مروان قتلك ،ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة فارسل إلى علي فاستصلحه فان له قرابة منك وهو لا يعصى) قال فارسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه وقال : لقد أعلمته أني لست بعائد.(1/61)
لما بلغ اهل الأمصار خبر مروان وغضب علي على عثمان بسببه ووجدوا الامر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة أهل البصرة وتراسلوا وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة وعلى لسان علي وطلحة والزبير يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين وإنه أكبر الجهاد اليوم وخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة امراء وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجا ومعهم ابن السوداء قبحه الله ،وخرج أهل الكوفة في عدتهم من أربع رفاق ،وخرج أهل البصرة في عدتهم أيضا في أربع رايات. أهل مصر مصرون على ولاية علي بن ابي طالب ،وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير ،وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة ،لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة وبعثوا قصادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤا للحج لا لغيره وجاءت طائفة من المصريين إلى علي فصاح بهم وطردهم ،وأتى البصريون طلحة فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم ،وكذلك كان رد الزبير على اهل الكوفة فرجع كل فريق منهم إلى قومهم وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم .
وساروا أياما راجعين ثم كرو عائدين إلى المدينة فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان وقالوا للناس:
( من كف يده فهو آمن ) فكف الناس ولزموا بيوتهم وأقام الناس على ذلك أياما هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون ولا على ما هم عازمون وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس فيصلي وراءه أهل المدينة وأولئك الآخرون وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويلومنهم على رجوعهم حتى قال على لأهل مصر: (ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم ؟)
فقالوا :(وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا)(1/62)
وكذلك قال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير ، فلما كان في بعض الجمعات وقام عثمان رضي الله عنه على المنبر وفي يده العصا التي كان يعتمد اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه وأنزله عن المنبر فطمع الناس فيه من يومئذ فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى قتل .
وقد استمر الحصر أكثر من شهر وقيل اربعين يوما حتى كان آخر ذلك ان قتل شهيدا رضى الله عنه .
كان فلما كان قبل ذلك بيوم قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار وكانوا قريبا من سبعمائة فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه فقال لهم :( أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله)
وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير وقال لرقيقه :( من أغمد سيفه فهو حر)
فبرد القتال من داخل وحمى من خارج ،واشتد الأمر وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده وشوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار بعد أن عزم عليهم في الخروج الحسن بن علي ، وعن ابن عمر أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس قال:( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال يا عثمان افطر عندنا ) فأصبح صائما وقتل من يومه .
قتله رضي الله عنه:(1/63)
قال خليفة بن خياط حدثنا ابن علية ثا ابن عوف عن الحسن قال أنبأني رباب قال بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال ما يريد الناس قال ثلاث ليس من إحداهن بد قال ما هن قال يخبرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول هذا أمركم فاختاروا من شئتم ، وبين أن تقتص من نفسك ، فأن أبيت فأن القوم قاتلوك فقال أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله وأما أن اقتص لهم من نفسي فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي ولا تصلون بعدي جميعا ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا .
قال وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا فأخذ بلحيته فعال بها حتى سمعت وقع أضراسه فقال: ما أغنى عنك معاوية وما أغنى عنك ابن عامر وما أغنت عنك كتبك.
قال: اسل لحيتي يا ابن أخي.
قال فأنا رأيته استعدي رجلا من القوم بعينه يعين أشار إليه فقام إليه بمشقص فوجى به رأسه قلت ثم مه قال ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه
قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله عن العيص بن القاسم عن رجل عن خنساء مولاة أسامة بن زيد وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان أنها كانت في الدار ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فبجأ بها في حلقه فقال:
ـ " مهلا يا ابن أخي فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به"
فتركه وانصرف مستحييا نادما فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه فدخلوا وخرج محمد راجعا فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه فقطر دمه على المصحف حتى لطخه ثم تعاوروا عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت:
ـ "يا بنت شيبة أيقتل أمير المؤمنين"
وأخذت السيف فقطع الرجل يدها وانتهبوا متاع الدار ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله ونحاه عن المصحف وقال :
ـ "ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن ولا مضجع كافر أكرم"(1/64)
قال والله ما تركوا في داره شيئا حتى الأقداح إلا ذهبوا به .
وروى الحافظ ابن عساكر أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الأنصراف ولم يبق عنده سوى أهله تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم إلا محمد بن أبي بكر وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشى عليه وصاح النسوة فانزعروا وخرجوا ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل فلما رآه قد أفاق قال: ـ "على أي دين أنت يا نعثل"
قال :
"على دين الإسلام ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين"
فقال :
ـ "غيرت كتاب الله"
فقال : "كتاب الله بيني وبينكم"
فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: " إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا"
وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار وهو يقول يا ابن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.
وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب حمارا ويكنى بأبي رومان وقال قتادة أسمه رومان وقال غيره كان أزرق أشقر وقيل كان أسمه سودان بن رومان المرادي وعن ابن عمر قال كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا قال ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه ثم وضع ذباب السيف في بطنه واتكى عليه وتحامل حتى قتله وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد وكان أمر الله قدرا مقدورا وكان ذلك في الكتاب مسطورا .
وروى ابن عساكر عن ابن عون أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبيه وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال أما ثلاث منهن فلله وست لما كان في صدري عليه(1/65)
وقال الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي وإسحاق بن داود الصواف التستري قالا ثنا محمد بن خالد بن خداش ثنا مسلم بن قتيبة ثنا مبارك عن الحسن قال حدثني سياف عثمان أن رجلا من الأنصار دخل على عثمان فقال:
ـ" ارجع يا ابن أخي فلست بقاتلي"
قال: وكيف علمت ذلك؟
قال: لأنه أتى بك النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.
ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء .
ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.
قال : وما يدريك يا نعثل
قال : لأنه أتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة فحربت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فوثب على صدره وقبض على لحيته ووجأه بمشاقص كانت في يده هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة وثبت من غير وجه أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى: "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم"
من خلال هذه الروايات المتعددة للقتل ، وباقي أحداث التمرد بدءاً من خروج الأحزاب الغاضبة من الأمصار وحتى الوصول إلى المدينة وارتكاب جريمة القتل النكراء في حق الخليفة ، تلك الروايات التي نقلتها العديد من الكتب والمراجع التراثية الأخرى ، ترتسم الصورة الخاطئة لأحداث الفتنة ، فأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه رجل إمعة، وهو مضيع لحق الأمة التي جعله الله خليفته عليها إرضاءاً لأهله وذوي قرباه.
أما مروان فهو رجل دنيوي متعصب لأهله ولايهمه أمر المسلمين في كثيرأو قليل، ويبدو دور كبار الصحابة باهتا متخاذلا في الدفاع عن خليفتهم، ونرى محمد بن أبي بكرقاتلا للخليفة بيده ، وفي روايات أخرى نراه يتراجع حين يستمع لعتاب عثمان له ، بل في إحدى الروايات نجده يدفع عنه الداخلين إليه بشر حتى غلبوه .(1/66)
فهل يعقل أن يكون عثمان رضي الله عنه على هذا القدر من التفاهة والتسطح ؟..إن كان الجواب على هذا السؤال بالنفي ، فكيف راجت مثل هذه الصورة السيئة عنه رضي الله عنه وأرضاه؟..وإن كانت الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب فكيف تتوائم هذه الصورة مع ملامح الشخصية التقية النقية التي ذكرنا بعض ملامحها في بداية الكتاب ، تلك الشخصية التي أحبها الرسول العظيم وزوجه ابنتين من بناته وقال له ما معناه لو كانت لديه ابنة ثالثة لكان زوجها له..؟
عن ابن سعد عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال:
ـ "«يا محمد بن مسلمة جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة»"
فلما قتل عثمان رضي الله عنه وكان من أمر الناس ما كان؛ خرج إلى صخرة في فنائه فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره.
(المنتظم في التاريخ)
وجاء في كتاب (المنتظم في التاريخ) لمؤلفه أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ما يلي :
ولما رأى القوم أن الناس قد ثابوا إلى عثمان وضعوا على علي بن أبي طالب رقيبًا في نفر فلازمه ورقيبه خالد بن ملجم وعلى طلحة رقيبًا فلازمه ورقيبه سودان بن حمران وعلى الزبير رقيبًا فلازمه ورقيبه قتيرة وعلى نفر بالمدينة وقالوا لهم : إن تحركوا فاقتلوهم فلما لم يستطع هؤلاء النفر غشيان عثمان بعثوا أبناءهم إلى عثمان فأقبل الحسن بن علي فقال له : مرنا بأمرك فقال : يا ابن أخي أوصيك بما أوصي به نفسي واصبر وما صبرك إلا بالله وجاء ابن الزبير فقال له مثل ذلك وجاء محمد بن طلحة فقال له مثل ذلك .
ومن هنا تبدو القيمة التاريخية والدينية والمعلوماتية لكتب مثل كتب الدكتور الصلابي وغيره من العلماء الأجلاء الذين بذلوا جهودا مشكورة لتصحيح الصورة ومحو تلك الأكاذيب.
جاء في كتاب الدكتور / محمد علي الصلابي:(1/67)
( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيته وعصره)
أسباب فتنة مقتل عثمان
أولاً: الرخاء وأثره في المجتمع
لما جاء عهد عثمان وتوسعت الفتوحات شرقا وغربا، وبدأت الأموال تتقاطر على بيت المال من الغنائم والأسلاب, وامتلأت أيدي الناس بالخيرات والأرزاق، ترتب علي ذلك انشغال الناس بالدنيا والافتتان بها، وصارت مادة للتنافس والبغضاء.
ثانيًا: طبيعة التحول الاجتماعي في عهد عثمان
لما توسعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح حصل تغير في تركيبة المجتمع واختلالات في نسيجه؛ فورثت الدولة الإسلامية ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة ، ورقع غير منسجمة، فصار المجتمع غير متجانس في نسيجه التركيبي ، فحصلت تغيرات في نسيج المجتمع البشري المكون من جيل السابقين وسكان البلاد المفتوحة، والأعراب ومن سبقت لهم ردة، واليهود والنصارى، وأدىذلك إلى ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات .
ثالثًا: مجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما
كان مجيء عثمان - رضي الله عنه - مباشرة بعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واختلاف الطبع بينهما مؤديا إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه:( يرحم الله عمر، ومن يطيق ما كان عمر يطيق)
رابعًا: خروج كبار الصحابة من المدينة
كان عمر يخاف على الصحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة وتوسعهم في القطاع والضياع، فكان يأتيه الرجل من المهاجرين وهو ممن حبس في المدينة فيستأذنه في الخروج فيجيبه عمر: (لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك)(1/68)
وأما عثمان فقد سمح لهم بالخروج ولان معهم. يقول الشعبي: فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس، فكان أحب إليهم من عمر فكان من نتائج هذا التوسع أن اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس .
خامسًا: العصبية الجاهلية
يقول ابن خلدون:.. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم، وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم ...فلما انحصر ذلك العباب( الوحي ونزول الملائكة) وتنوسى الحال بعض الشيء، وذل العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنبض، ووجدوا الرياسة عليهم من المهاجرين والأنصار وقريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطوات، والاستبطاء عليهم الطاعات، والتجني بسؤال الاستبداد منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان.
سادسًا: توقف الفتوحات
حين توقفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أمام حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها سواء في جهات فارس وشمالي بلاد الشام أم في جهة أفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب: أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقا من حقوقهم؟ وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان - رضي الله عنه - بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من الناس.
سابعًا: المفهوم الخاطئ للورع(1/69)
الورع في الشريعة طيب؛ وهو أن يترك ما لا بأس به مخافة مما فيه بأس. ... ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراما أو مفروضًا، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة؛ فقد استغل أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات أو المصالح خروجا على الإسلام وتغييرا لسنة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة فاستباحوا أو أعانوا من استباح دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم.
ثامنًا: طموح الطامحين
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة -رضي الله عنهم- من يعتبر نفسه جديرا بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أن الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى وجد الطامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفسا فإنهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية .
تاسعًا: تآمر الحاقدين
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد والذكاء والدهاء ما استطاعوا أن يدركوا نقاط الضعف التي يستطعيون من خلالها أن يوجدوا الفتنة, ووجدوا من يستمع إليهم بآذان مصغية، فكان من آثار ذلك ما كان فقد عرفنا سابقا وجود يهود ونصارى وفرس، وهؤلاء جميعا معروف باعث غيظهم وحقدهم على الإسلام والدولة الإسلامية، ولكننا هنا نضيف من وقع عليه حد أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، عاقبه الخليفة أو ولاته في بعض الأمصار وبالذات البصرة والكوفة ومصر والمدينة، فاستغل أولئك الحاقدون من يهود ونصارى وفرس وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته, فتكونت لهؤلاء جميعا طائفة وصفت من جميع من قابلهم بأنهم أصحاب شر.
عاشرًا: التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان - رضي الله عنه -(1/70)
كان المجتمع مهيأ لقبول الأقاويل والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيأة، ونسيج المجتمع قابلا لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطعن في الأمراء بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى استمالوا الناس إلى صفوفهم، ووصل الطعن إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نفسه باعتباره قائد الدولة.
حادي عشر: استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف حيث ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيرا، والتحريض والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس، والطعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب واختلافها على لسان الصحابة رضي الله عنهم؛ عائشة وعلي وطلحة والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الأحق بالخلافة، وأنه الوصي بعد رسول الله ×، وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر، مما يدل على التدبير المسبق. وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاءوا إلا بدعوة الصحابة، وصعَّدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل.
ثاني عشر: أثر السبئية في أحداث الفتنة
إن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وهي كذلك أيضا عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن وفان فولتن, وليفي ديلافيدوجولد تسيهر ورينولد نكلسن ودوايت رونلدسن. على حين يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال كيتاني, وبرنارد لويس وفريد لندر المتأرجح.. علما بأننا لا نعتد بهم في أحداث تاريخنا.
دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة(1/71)
جاء ابن سبأ بمقدمات صادقة في خطته، وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذَّج والغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على مَنْ حوله حتى اجتمعوا عليه؛ فطرق باب القرآن بتأوله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجَبٌ ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذِّب بأن محمدا لايرجع، وقد قال تعالى:" إ"ِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ" [القصص: 85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ،كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلي - رضي الله عنه - بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان رضي الله عنه، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيِّه وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وأدعوهم إلى هذا الأمر وبث دعاته، وكاتب من كان استفسد من الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعون فيها عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك.
وفي مصر أخذ ابن سبأ ينظم حملته ضد عثمان - رضي الله عنه -, ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة ، وقد غشهم بكتب ادعى أنها وردت من كبار الصحابة، حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعا؛ حيث تبرأوا مما نسب إليهم من رسائل تؤلب الناس على عثمان ووجدوا عثمان مقدرا للحقوق .(1/72)
...وكانت شبكة أعداء الإسلام تتألف من الموتورين من اليهود والنصارى والمجوس الذين جندوا الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء و الحاقدين ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم. وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام .
وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص .
سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له:
ـ عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريدك واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك.
قال لهم سعيد:(1/73)
ـ لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد؟
مشاورة الخليفة للولاة
ـ واستقر رأي الخليفة علىاستدعاء ولاته للمشاورة وتباينت الآراء كما ذكرنا من قبل ،
ويذكر الدكتور /الصلابي موقفا لمعاوية آنذاك مفاده:
ـ وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها.
قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي.
قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة.
قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة.
قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين.
قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
إذن فمعاوية رضي الله عنه لم يكن سلبيا في موقفه تجاه الدفاع عن الخليفة كما روج المروجين، كما أن هناك روايات أخرى تفيد أن جيوشا من الأمصار هبت لنجدة الخليفة المحصور، مما حدا بالمتمردين أن يعجلوا بالقتل تفعيلا للفتنة وإجهاضا لأي مساع لردعهم والحيلولة دون حدوثها .
كما أن ملامح شخصية عثمان رضي الله عنه تبدو كالعهد به تقية نقية ترعىحرمة الزمان والمكان ولاتبيع جوار الحبيب محمد حتى ولوبالروح ، وليس هذا فحسب بل أنه أبدى استعداده للموت ولا يضيق على أهل المدينة في أرزاقهم ..؟(1/74)
إن ذي النورين رضي الله عنه رفض في رواية أخرى الذهاب إلى مكة ـ كما أشارعليه بعض الصحابة ـ لنفس الأسباب السابقة . رفض الفرار، ورفض استباحة مكة من قبل هؤلاء المتمردين احتراما للمكان الطاهر، بل رفض أيضا أن يرفع أحد كائنا من كان السلاح دفاعا عنه ، وصرح لغلمانه أن من كف يده وأغمد سلاحه فهو حر .
فعل ذو النوري هذا واستسلم لقدره وأبى بشدة أن يجرح مسلم واحد بسببه.
أي طهر هذا الذي نراه؟.. وأي إيثارنسمعه من فم ذي النورين الذي ضرب أروع الأمثلة في كيفية تصرف أولي الأمر وقت الأزمات؟..وأي إيمان نلمسه وتصديق لقول الحبيب محمدا حيا وميتا؟..لقد نبأه الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه بما سيلقاه في يومه هذا ، فوعي ما سمع ورضي بقضاء الله ، وتمسك بالقميص الذي ألبسه إياه الحبيب المصطفي صلوات الله وسلامه عليه ورضي بالشهادة ، وبالتالي فاز بالجنة..!
محاورة الخليفة للأحزاب
وبينماجاءت رواية البداية والنهاية لابن كثير أن الإمام علي هو من حاور الأحزاب الغاضبة في شأن مآخذهم التي أخذوها على عثمان رضي الله عنه ، يذكر لنا الدكتور / الصلابي نفس الحادثة ويخبرنا أن الخليفة عثمان رضي الله عنه هو من اخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة وحاورهم ، ولا نجد تضاربا في ذلك فربما حاور كل من الخليفتين رضوان الله عليهما الأحزاب أو من ينوب عنهم كل على حده ، وفي وقتين مختلفين .
قال الدكتور الصلابي في هذا المقام :(1/75)
ـ كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة. وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها.
فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين.
ورفض عثمان - رضي الله عنه - دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا.(1/76)
ودعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان - رضي الله عنه - بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد :
1- قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
2- وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
3- وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.(1/77)
4- وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
5- وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه.
6- وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم.(1/78)
7- وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.
8- وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينةأو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها في أيديهم.
. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، ولكن عثمان آثر أن يتركهم، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم .
الخطوة الأخيرة للهجوم على الخليفة
ويضيف الدكتور الصلابي فيقول :(1/79)
ثم اتفق أهل الفتنة بعد ذلك فيما بينهم على القيام بخطوتهم العملية النهائية في مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة وإلا يقتل، وقرروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج، وأن يعلنوا للآخرين أنهم خارجون للحج، فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة من معظم أهلها -المشغولين بالحج- وقاموا بمحاصرة عثمان تمهيدا لخلعه أو قتله.
وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة, خرج المتمردون من مصر في أربع فرق لكل فرقة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم شيطانهم عبد الله بن سبأ ، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما ذهب إليه الآجري حيث قال: وقد برأ الله -عز وجل- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وطلحة والزبير رضي الله عنهم من هذه الفرق، وإنما أظهروا ليموهوا على الناس وليوقعوا بين الصحابة، وقد أعاذ الله الكريم الصحابة من ذلك.
علي يحاور الأحزاب
ونزل المتآمرون في ذي المروة، قبل مقتل الخليفة بما يقارب شهرا ونصفا، فأرسل عثمان إليهم عليا - رضي الله عنه - ورجلا آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي - رضي الله عنه - فقال لهم:
ـ تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك.
وفي رواية أنهم شادوه، وشادهم مرتين أو ثلاثا، ثم قالوا:
ـ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا فاصطلحوا علىخمس:
1ـ المنفي يعود.
2 ـ والمحروم يعطى.
3 ـ ويوفر الفيء.
4 ـ ويعدل في القسم.
5 ـ ويستعمل ذو الأمانة والقوة.(1/80)
وكتبوا ذلك في كتاب، وأن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة .
وهكذا اصطلح عثمان - رضي الله عنه - مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها
وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطا آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان - رضي الله عنه -، وبرز ذلك فيما يأتي:
الخطاب المشبوه
في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم -يُظهر أنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان - رضي الله عنه - وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها. ونفى عثمان - رضي الله عنه - أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه.
وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان، وذلك لعدة أمور:
1- إن حامل الكتاب المزور قد تعرض لهؤلاء المصريين ثم فارقهم، وهو لم يفعل ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه، ويثير شكوكهم فيه، فلو كان من عثمان لخافهم حامل الكتاب المزعوم، وأسرع إلى والي مصر ليضع بين يديه الأمر فينفذه.(1/81)
2- كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين -الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة؛ وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا بل إن عليًّا يجزم: هذا والله أمر أبرم بالمدينة.
3- كيف يكتب عثمان إلى ابن أبي السرح بقتل هؤلاء وابن أبي السرح كان عقب خروج المتمردين من مصر متجهين إلى المدينة كتب إلى الخليفة يستأذنه بالقدوم عليه، وقد تغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة، وفعلا خرج ابن أبي السرح من مصر إلى العريش وفلسطين فالعقبة، فكيف يكتب له عثمان بقتلهم وعنده كتابه الذي يستأذنه به منه بالقدوم عليه؟
4- إن عثمان - رضي الله عنه - قد نهى عن قتل المتمردين عندما حاصروه وأبى على الصحابة أن يدافعوا عنه، ولم يأمر بقتال الخارجين دفاعا عن نفسه، فكيف يكتب مثل هذا الكتاب المزور وقد خرجوا عنه من المدينة مظهرين التوبة والإنابة.
5- تخلف حُكيم بن جبلة والأشتر النخعي (وهما من زعماء المتآمرين)-بعد خروج المتمردين- في المدينة يشير إشارة واضحة إلى أنهما هما اللذان افتعلا الكتاب، إذ لم يكن لهما أي عمل بالمدينة ليتخلفا فيها، وما مكثا إلا لمثل هذا الغرض، فهما صاحبا المصلحة في ذلك. وليس لمروان بن الحكم أية مصلحة، والذين يتهمون مروان في هذا إنما ينسبون إلى الخليفة الغفلة عن مهامه، وأن في ديوان الخلافة من يجري الأمور ويقضي بها دون علمه، وبذلك يبرئون ساحة أولئك المجرمين الناقمين، الغادرين، ثم لو أن مروان زور الكتاب لكان أوصى حامل ذلك الكتاب أن يبتعد عن أولئك المنحرفين، ولا يتعرض لهم في الطريق حتى يأخذوه وإلا لكان متآمرا معهم على عثمان، وهذا محال.(1/82)
6- إن هذا الكتاب المشئوم ليس أول كتاب يزوره هؤلاء المجرمون، بل زوروا كتبا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون, وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
ونقول نحن بتواضع ودهشة ، لحسم هذا الأمر لماذا لم تقم أي جهة باستجواب حامل هذا الخطاب الهام ـ والذي ترتب على ظهوره إلى ساحة الأحداث فوران الفتنة وتصاعدها إلى أقصى مدى لها ـ للوقوف على الحقيقة..؟
ومن المثير للدهشة أيضا أن أياً من كتب التراث لم تحمل مثل هذا السؤال!.. مع أنه السؤال الوحيد الذي كان من المفترض أن يسأل وتتناقله الروايات بدلا من الخوض في نيات الناس وضمائرهم أو سبهم واتهامهم بلا دليل..!
ولعل التفسير الوحيد لهذا هوتعمد عدم الخوض في هذه النقطة إمعانا في الفتنة وتغييبا للحقيقة وهي لعمري مقصد المغرضين قديما وحديثا .
استسلام الخليفة لقدره وموقف الصحابة
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن عليا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، فقال: ـ"جُزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي."
ويقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير. وبذلك يظهر زيف ما أتهم به الصحابة مهاجرين وأنصارا من تخاذل عن نصرة عثمان - رضي الله عنه -، وكل ما روي في ذلك فإنه لا يسلم من علة إن لم تكن عللا قادحة في الإسناد والمتن جميعا.(1/83)
ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان - رضي الله عنه - على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربا من المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان - رضي الله عنه - يرفض كل هذه العروض.
هام : هل يعقل بعد ما قرأ آنفا أن يكون كبار الصحابة قد تخاذلوا وتهاونوا في حق خليفتهم وأسلموه لأعدائه..؟
موقف أمهات المؤمنين وبعض الصحابيات:
1ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما:
كان موقف السيدة أم حبيبة أم المؤمنين من المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، ذلك أنه لما حوصر عثمان - رضي الله عنه - ومنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنا لعمرو بن حزم الأنصاري - من جيران عثمان - إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أولهم إنجادا له علي وأم حبيبة. جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، و مالت راحلتها، فتعلقوا بها وقد كادت تقتل.
2- صفية زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وما فعلته السيدة أم حبيبة فعلت مثله السيدة صفية رضي الله عنها؛ فلقد روي عن كنانة قال: كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبا من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء.
3- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:(1/84)
ولما حدث ما حدث للسيدة أم حبيبة أعظمه الناس جدا، فخرجت عائشة -رضي الله عنها- من المدينة وهي ممتلئة غيظا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني وخرجت للحج مع أمهات المؤمنين، ولم يكن هذا الخروج هربا محضا، وإنما كان محاولة منهن لتخليص عثمان - رضي الله عنه - من أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر، أخو السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج فأبى.
فقالت السيدة عائشة: أما والله لو استطعت أن يحرمهم الله ما يجولون لأفعلن.
استشهاد عثمان 35 هجرية
تحركت بعض جيوش الأمصار لنجدة الخليفة، وكادت أيام الحج تنقضي سريعا وتوشك جماعات من هؤلاء أن تزحف إلى المدينة للتصدي لهؤلاء الخارجين الذين قرروا الإسراع بقتل عثمان رضي الله عنه.
وفي آخر أيام الحصار - وهو اليوم الذي قتل فيه- نام - رضي الله عنه - فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم ثم قال:
ـ " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عثمان أفطر عندنا"
فأصبح صائما وقتل من يومه.
هاجم المتمردون الدار فتصدى لهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه من كف يده منهم فهو حر.
وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته:
ـ أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه.(1/85)
وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟ فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة، فثار أهل الدار -وعثمان يصلي- حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة، فأبلوا أحسن البلاء وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله تعالى: "طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى" [طه: 1-3]
وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [آل عمران: 137].
وأصيب يومئذ أربعة من شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج من الدار، وخلى بينه وبين المحاصرين، فلم يبق في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حام من الناس، وفتح - رضي الله عنه - باب الدار .
وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر - رضي الله عنه - المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائما.
ألا يجب علينا أن نتوقف طويلا أمام هذا المشهد الدرامي الذي بلغ أسمى درجات الطهر. .؟!(1/86)
نحن أمام انسان ارتفع بروحه إلى درجة ملائكية نادرة . ترى كم منا من يمكنه استقبال موته بهذه الكيفية وبهذا الهدوء واليقين؟..كم منا من يمكنه أن يودع الدنيا هذا الوداع المستحيل ويجعل آخر عهده بها أن يكون كتاب الله آخرما تصافحه عيناه، وأن يكون رنين تلاوة آياته الشريفة آخرما ينطقه لسانه ، وأن يكون صوت رسول الله عليه الصلاة والسلام ونبؤته ملؤ عقله وروحه؟..كم منامن يمكنه أن يفارق أحبابه وفلذات أكباده بإرادته وبمثل رحابة الصدر التي بدا عليه ذو النورين ، ولا يفكر إلا في صحبة الحبيب محمد بدار الخلد ..؟
يمكننا نحن الآن فقط أن نتخيل هذا الشيخ المهيب ونبكي من أجله ، وأن نلعن قاتليه ، ولكن لحظتها كان للمتربصين به موقف مغاير تماما لما كان عليه خليفتنا الشهيد رضي الله عنه ، ولما نحن عليه الآن.
يقول الدكتور الصلابي واصفا لحظة الغدر الخسيس في كتابه عن ذي النورين :
فإذا برجل من المحاصرين يخنقه قبل أن يضربه بالسيف ، فقتل - رضي الله عنه - والمصحف بين يديه، وعلى أثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى:
"فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [البقرة: 137].
جنازته والصلاة عليه ودفنه(1/87)
قام نفر من الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان، والذي يرجح أن الذي صلى عليه كان الزبير بن العوام لرواية الإمام أحمد في مسنده؛ فقد بينت تلك الرواية أن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - صلى على عثمان ودفنه, وكان أوصى إليه. وقد دفن - رضي الله عنه - ليلا، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بين المغرب والعشاء, رضوان الله عليه، وأما ما رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن الماجشون قال: سمعت مالكا يقول: قتل عثمان - رضي الله عنه - فأقام مطروحا على كناسة بني فلان ثلاثا، فالرواية السابقة ضعيف سندها، وباطل متنها، فأما السند ففيه علتان:
أ- ضعف عبد الملك بن الماجشون الذي كان يروي المناكير عن الإمام مالك.
ب- أن هذه الرواية مرسلة؛ حيث إن الإمام مالكا لم يدرك مقتل عثمان - رضي الله عنه -، لأنه لم يولد إلا سنة 93هـ.
وأما متن هذه الرواية فباطل، وفيه يقول ابن حزم: من قال إنه - رضي الله عنه - أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب, وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى، وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة، وهم شر من وارته الأرض، فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين، فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام, ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا بين أظهرهم على مزبلة ثلاثة أيام لا يوارونه
موقف محمد بن أبي بكر(1/88)
إن قاتل عثمان - رضي الله عنه - رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وبينت أنه سدوسي الأصل، أسود البشرة، لقب بـ (جبلة) لسواد بشرته.
وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه، فهذا باطل، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجح براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان، منها:
أ- أن عائشة -رضي الله عنها- خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل فيما بعد.
ب- لعن علي - رضي الله عنه - لقتلة عثمان - رضي الله عنه - وتبرؤه منهم، يقتضي عدم تقريبهم وتوليتهم، وقد ولي محمد بن أبي بكر مصر، فلو كان منهم ما فعل ذلك.
ج- ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قالت: هل أندى محمد بن أبي بكر بشيء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه، فقال عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي فخرج، ولم يند من دمه بشيء.
د ـ وأخرج خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجال ثقات عن الحسن البصري -وكان ممن حضر يوم الدار - أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذا أو قعدت مني مقعدا، ما كان أبوك ليقعده فخرج وتركه.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما علم بمقتل عثمان: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله تعالى: "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ" [الحشر: 16، 17].
(شذرات الذهب في أخبار من ذهب)(1/89)
أما كتاب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) لعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي فقد ذكر الفتنة فقال :
( سنة34 وفي آخرها حاصر المصريون أمير المؤمنين عثمان نحو شهرين وعشرين يوما ًثم اقتحم عليه أراذل من أوباش القبائل فقتلوه والصحيح أنه لم يتعين قاتله وكانوا أربعة آلاف واشتهر عنه أنه قال لأرقائه عن أغمد سيفه فهو حر فأغمدوها إلا واحداً قاتل حتى قتل.
وكانوا مائة عبد وقيل أربعمائة وأن عليا رضي الله عنه أرسل إليه ابنه الحسن وقال له أن شئت أتيتك للنصر فقال إن رسول الله قال لي إن قاتلتهم نصرت عليهم أن لم تقاتلهم أفطرت عندنا الليلة وأنا أحب أن أفطر عند رسول الله وجاءه عبد الله بن سلام لينصره فقال له أخرج إليهم فإنك خارجاً خير لي من داخل فخرج فقال لهم أيها الناس إن لله سيفاً مغموداً عليكم وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فتطردوا جيرانكم ويسل سيف الله المغمد فلا يغمد إلى يوم القيامة فقالوا اقتلوا اليهودي.
ولا شك أن الدماء المهراقة عقب قتله والملاحم بين علي ومعاوية عقوبة من الله بقتل عثمان وانفتح باب الشر من يومئذٍ وقد صحت الأحاديث بأن له الجنة على بلوى تصيبه وأنه شهيد سعيد وقتلوه يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة والمصحف بين يديه فتنضخ الدم على قوله تعالى (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم ) وعمره يومئذٍ بضع وثمانون أو وتسعون سنة ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة وأيام ودفن بالبقيع بموضع يعرف" بحش كوكب" وكان قد اشتراه ووقفه زاده في البقيع وكان إذا مر به يقول" يدفن فيك رجل صالح"
وهكذا قتل الخليفة ، ووري التراب وأسدل الستار عن حقبة في تاريح الإسلام لتبدأ حقبة أخرى خطط لها الأعداء بدقة
بحيث يظل لهيب الفتنة متقدا على الدوام .(1/90)
إن الشبهات التي صنعها أعداء الخليفة ذي النورين حول شخصه بالقدح، أثاروا مثلها حول الخليفة الجديد وأعني به الإمام علي كرم الله وجهه ، ولكن هذه المرة بالمدح ، وبقدحهم في عثمان وبمدحم علي ـ رضي الله عنهما ـ كانوا يسيرون وفق خطتهم الجهنمية للإجهاز على الإسلام ووحدة المسلمين كما ستتضح الصورة عبر الصفحات القادمة .
فقد بدأ اللغط والخوض في حق علي رضي الله عنه واتهامه بدم عثمان لعدة أسباب ـ هو منها برئ ـ مثل :
جاء في كتاب صفوة الصفوة :
عن سليمان بن موسى أن عثمان بن عفان دعي إلى قوم كانوا على أمر قبيح فخرج إليهم فوجدوهم قد تفرقوا ورأى أمرا قبيحا فحمد الله إذ لم يصادفهم واعتق رقبة.
بداية اللغط في حق علي رضي الله عنه
1 ـ قيام محمد بن أبي بكر بدور في تأليب الناس بمصر ومشاركته في حصر عثمان ، وجدير بالذكر أن محمد بن أبي بكر تربي في حجر وبيت علي رضي الله عنه ، حيث أنه كان ابنا للسيدة أسماء بنت عميس من الصديق رضوان الله عليه ، وحين مات الصديق تزوج بها الإمام علي وقام بتربية محمد.
2 ـ تعظيم الأحزاب للإمام علي واستماعهم له وقبول توبيخه لهم.
3 ـ اتفاق أهل مصر من الأحزاب على تولية الإمام علي الخلافة بدلا من عثمان .
4 ـ رفض الإمام علي الانتقام من قتلة عثمان رضي الله عنه فور توليه الخلافة مباشرة لحكمة ارتأها .
5 ـ انتقال الإمام علي من المدينة إلى الكوفة مع هذه الأحزاب الخارجة بعد أن تقلد منصب الخلافة .
ويمكننا الرد على ذلك فنذكر بمواقفه الآتية:
1 ـ رده للأحزاب ومناظرته لهم حين عتبوا على عثمان رضي الله عنه
2 ـ رفضه لقول أهل مصر من الأحزاب بأحقيته بتولي الخلافة وتعنيفه لهم .
3 ـ طلبه من الخليفةأن يسمح له بالدفاع عنه حين حوصر ، وحين أبى عثمان رضي الله عنه دفع بالحسن والحسين لمرافقة عثمان تحسبا لما قد يحدث ، ويكفي أن آخرمن خرج من عند الخليفة بعد أن أمر الجميع بالانصراف عنه كان الحسن بن علي .(1/91)
4 ـ و ما ذنب الإمام علي في كونه مطاعا ومحبوبا من الناس ، ومنهم الأحزاب وهوعلي بن أبي طالب بكل ما يحمل من تاريخ وعظمة دفاعا عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم ..؟
5 ـ وقد تبدت مع الأيام صحة وجهة نظر الإمام علي في ضرورة التمهل في القود من قتلة الخليفة ( انظر موقعة الجمل وحوار القعقاع مع السيدة عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا )
6 ـ حين سمع السيدة عائشة رضي الله عنها أثناء موقعة الجمل تدعو على قتلة عثمان شاركها في الدعاء عليهم ، كما أنه وفي أول الأمر تبرأ إلى الله من دم الخليفة وهو في ذلك صادق .
7 ـ أثناء موقعة الجمل وانصرافه بعد أن توصل القعقاع إلى الصلح مع السيدة عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا وهم بالإنصراف طلب ألا يأتي معه وألا ينضم بجيشه أحدا ممن شارك في قتل الخليفة بأي صورة من الصور.
8 ـ أما انتقال الإمام علي إلى الكوفة فكان لعدة أسباب منها خلو المدينة من معظم كبار الصحابة ،والعدد القليل من سكان المدينة الذي استجاب لدعوة الإمام لحرب أهل الشام ، وأهمها أن هؤلاء الأحزاب الذين خرجوا على الخليفة وقتلوه آخرالأمر كانوا يبدون حبهم للإمام وكانوا يشكلون عصب الجيش الذي خرج لقتال أهل الشام .
ويقول العقاد في كتابه ( عبقرية الإمام ) معلقا على هذه النقطة :
"كان التنافس عنده ـ عندالإمام علي ـ علىأشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة ، لا يرضي أهل المدينة بما يرضي أهل مكة ، ولا يرضي أهل الكوفة بما يرضي به هؤلاء وهؤلاء.حتى ضاق به المقام في الحجاز وأوى إلى الكوفة مأوى " المستجير من الرمضاء بالنار"(1/92)
وكانت قبائل البادية تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة ، وينظرون إليهم نظرة المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة ، وكان أحجى بالولاة أن يخفوها ويتلطفوا في اصلاحها ، أو تبديلها ما استطاعوا لها من إصلاح وتبديل ، ولكنهم على نقيض ذلك كانوا يباهون بها ويجهرون بحديثها حتى قال سعيد بن العاص والي الكوفة :
(" إنما السواد بستان لقريش ! " )
قد يكون ما نقله وفسره العقاد بطريقته الخاصة لايتضمن الحق كل الحق ، لاسيما وأن له مواقف حادة ضد معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ووصفهما صراحتة بأنهما من أهل الدنيا وربما سخروا الدين لتحقيق مآربهما ـ وهذا ما لا نتفق معه بشأنه، ولكني أعتقد أن كلامه يعطي بعض التفسير بشأن الفتنة والسبب الذي حدا بالإمام علي للخروج من المدينة
نقاط هامة يجب الوقوف عندها
حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه
هذه النقطة على وجه التحديد كانت مثار خلاف شديد ، وقد كانت من أول المآخذ التي أخذها المتمردون على ذي النورين ، فما هو قدر الصواب والخطأ فيما أثير حولها..؟
ويجيب على هذا السؤال بدقة الدكتور/علي محمد الصلابي فقال ضمن ما قاله:(1/93)
ـ يكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه وسيطرتهم على أزِمَّة الحكم في عهده، حتى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة. وأقارب عثمان الذين ولاهم - رضي الله عنه -: أولهم معاوية، والثاني عبد الله بن أبي السرح، الثالث الوليد بن عقبة، الرابع سعيد بن العاص، الخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه فلننظر أولا من هم ولاة عثمان - رضي الله عنه -، هم: أبو موسى الأشعري، القعقاع بن عمرو، جابر المزني، حبيب بن مسلمة، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، أبو الأعور السلمي، حكيم بن سلامة، الأشعث بن قيس، جرير بن عبد الله البجلي، عيينة بن النهاس، مالك بن حبيب، النسير العجلي، السائب بن الأقرع، سعيد بن قيس، سلمان بن ربيعة، خنيس بن حبيش، الأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن ربيعة، ويعلى بن مُنَية، وعبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلي بن ربيعة بن عبد العزى. هؤلاء هم ولاة عثمان - رضي الله عنه -، يعني لو أخذنا إحصائية لوجدنا أن عدد الولاة ثمانية عشر واليا، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية، وبخاصة إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يولي بني أمية أكثر من غيرهم، ثم يقال بعد ذلك: إن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلهم في وقت واحد، بل كان عثمان - رضي الله عنه - قد ولى الوليد بن عقبة ثم عزله فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، وأيضا لم يتوف عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة إلا ثلاثة وهم: معاوبة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص، ولكنه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترضَ بوال أبدا؛ إذ عزل عثمان - رضي الله عنه - لأولئك الولاة(1/94)
لا يعتبر مطعنا فيهم بل مطعن في المدينة التي ولوا عليها
إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد ابن سعيد على صدقات بني مذجح، وأبان بن سعيد على بعض السرايا ثم على البحرين، فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده؛ فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقره عمر، ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية.
إن الولاة الذين ولاهم عثمان - رضي الله عنه - من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان، وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان, ومنهم من تقلد مهام الولاية قبل ذلك في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما.(1/95)
وكان محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما قد تأثوا لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان وأشاروا عليه أن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم، فتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه، وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه. وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم. وأما ما روي من اتهام عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بالتأليب على عثمان - رضي الله عنه - فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة.
وعند هذه النقطة بالذات يجب علينا فحص الملف الشخصي لهؤلاء النفرالذين طالتهم ألسنة الموتورين للوقوف على جلية الأمر.
أولاً: معاوية بن أبي سفيان
1- من القرآن الكريم
اشترك معاوية - رضي الله عنه - في غزوة حنين، قال تعالى: "ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" [التوبة: 26].(1/96)
فمعاوية - رضي الله عنه - من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
2- من السنة:
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاويةوتلك فضيلتين تفرد بهما:
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب»
.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا».قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم»، فقلت -أي أم حرام-: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا. قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر.
3- ثناء أهل العلم على معاوية - رضي الله عنه - :
أ- ثناء عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عليه:
قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه.
ج- ثناء أحمد بن حنبل
سئل الإمام أحمد: ما تقول - رحمك الله- فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصبا؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس
هـ- ثناء ابن تيمية على معاوية - رضي الله عنه -:
قال عنه ابن تيمية: «... فإن معاوية ثبت عنه بالتواتر أنه أمَّرَه النبي عليه الصلاة والسلام كما أمر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته».
و- ثناء ابن كثير عليه:(1/97)
قال عنه ابن كثير: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. وقال أيضا: كان حليما, وقورا، رئيسا، سيدا في الناس، كريما، عادلا, شهما. وقال عنه أيضا: كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر، رحمه الله تعالى.
4 - روايته للحديث:
يعد معاوية - رضي الله عنه - من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، لكونه صهره وكاتبه صلى الله عليه وسلم. هذا وقد روى معاوية - رضي الله عنه - مائة وثلاثة وستين حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة. وكانت سيرة معاوية - رضي الله عنه - مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة، مما جعل الناس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم - حكامكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم – تدعون لهم - ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم»
ثانيًا: عبد الله بن عامر بن كريز
ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في السنة الرابعة للهجرة. وعندما اعتمر الرسول الكريم × في السنة السابعة للهجرة عمرة القضاء، ودخل مكة حمل إليه عبد الله بن عامر، قال ابن حجر: «... فتلمظ وتثاءب، فتفل رسول الله في فيه، وقال: «هذا ابن السلمية؟» قالوا: نعم، فقال: «هذا أشبهنا» وجعل يتفل في فيه ويعوذه، فجعل يبتلع ريق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لمسقى. فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.(1/98)
وأشاد ابن سعد به قائلا: كان عبد الله شريفا، سخيا كريما كثير المال، والولد، محبا للعمران.
وقال عنه ابن حجر: كان جوادا كريما ميمونا.. جريئا شجاعا, وكان يعتبر من أجود أهل البصرة, ومن أجود أهل الإسلام.
وكان لعبد الله بن عامر أثر حميد في الفتوحات؛ فقد تمكن من القضاء على آمال الفرس بشكل تام، عندما قضى على آخر رمق من الأمل الفارسي القديم، وذلك بقضائه على آخر ملوكهم يزدجر بن شهريار بن كسرى، وخرزاد مهر أخي رستم اللذين تزعما المعارضة الفارسية ضد المسلمين.
وهو الذي شق نهر البصرة،
وقال فيه الذهبي: وكان من كبار أمراء العرب وشجعانهم وأجوادهم، وكان فيه رفق وحلم.
ثالثًا: الوليد بن عقبة
كان الوليد بن عقبة من رجال الدولة الإسلامية على عهد أبي بكر وعمر اللذين كانا يتخيران للأعمال ذوي الكفاءة والأمانة من الرجال، وأول عمل له في خلافة الصديق أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس وشهد له بظهر الغيب قاضي من أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علما وفضلا وإنصافا، وهو التابعي الجليل الإمام الشعبي؛ فقد أثنى على غزوه وإمارته. وقد كان الوليد - رضي الله عنه - أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، وقد أمضى خمس سنين وليس في داره باب. وقد قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه، والولاية اجتهاد.
أ ـ هل ثبت بأن الوليد نزلت فيه الآية "إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ"؟
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات: 6].(1/99)
يتناقل الرواة في ذلك قصة تقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدقا، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، وأبوا في أداء الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم، وأخبر بارتدادهم، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم، فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، ونزلت الآية. وقد جاءت روايات عديدة وليس للقصة سند موصول صحيح، وأقل ما يوصف به سند القصة أنه ضعيف.
ومما يعكر على رواية إرسال الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ويعارضها حديث موصول السند إلى رجال ثقات، أن الوليد بن عقبة كان يوم الفتح صغيرا ومن كان في سنه لا يرسله النبي صلى الله عليه وسلم عاملا، فعن فياض بن محمد الرقي، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد الله الهمداني (أبي موسى) عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم فجيء بي إليه، وإني مطيب بالخلوق، ولم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق.
إن القصة لعبت بها الأهواء المذهبية؛ فالوليد أموي عثماني، والذي أقحم اسم الوليد في قصة سبب نزول الآية شيعي رافضي (محمد بن السائب الكلبي)، قال عنه ابن حجر: كان يعد من شيعة أهل الكوفة، وقال ابن حجر: كان بالكوفة كذابان، أحدهما الكلبي، والآخر السدي ونحن لا ننكر أن تكون الآية نزلت في سياق قصة بني المصطلق، ولكن الذي ننكره أن يكون الوليد هو الموصوف بالفاسق في الآية، ذلك أن منطوق "إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ" بصيغة التنكير يدل على الشمول؛ لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط عمت كما تعم إذا وقعت في سياق النفي.
ب ـ حد الوليد بن عقبة في الخمر:(1/100)
وأما حد الوليد في الخمر فقد ثبت في الصحيحين أن عثمان حده بعدما شهدت عليه الشهود، فهو ليس مأخذا على عثمان، بل كان من مناقب عثمان حيث ذكر البخاري هذه الحادثة في باب (مناقب عثمان)إن تلك الحادثة لم تطرأ في عهد عثمان فحسب، بل لها سابقة في عهد عمر بن الخطاب قدامة بن مظعون له صحبة وشرب الخمر، وهو أمير على البحرين من قبل عمر فحده وعزله.
وقد ذكر بعض المؤرخين أنه لم يثبت على الوليد شربه الخمر، قال الحافظ في الإصابة: ويقال إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق .
وقد أشار إلى هذا ابن خلدون فقال: وما زالت الشائعات -أي على عمال عثمان- من قبل المشاغبين تنمو، ورمى الوليد بن عقبة - وهو على الكوفة - بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله. وما حكاه الطبري ببعض تفاصيل: إن أبناءً لأبي زينب وأبي مورع وجندب بن زهير نقبوا على ابن الحيسمان داره وقتلوه، فشهد عليهم بذلك أبو شريح الخزاعي الصحابي وابنه، -وكان جارا لابن الحيسمان- فاقتص منهم الوليد، فأخذ الآباء على أنفسهم أن يكيدوا للوليد، وأخذوا يترقبون حركاته فنزل به أبو زبيد الشاعر، وكان نصرانيا وأسلم على يد الوليد, وكان الضيف متهما بشرب الخمر، فأخذ بعض السفهاء يتحدثون بذلك في الوليد لملازمته أبا زبيد، ووجد أبو زينب وأبو مورع خير فرصة يغتنمانها، فسافرا إلى المدينة وتقدما إلى عثمان شاهدين على الوليد بشرب الخمر، وأنهما وجداه يقئ الخمر، فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها، فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: نقيم حدود الله ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي.(1/101)
ج ـ قال محب الدين الخطيب: وأما الزيادة التي وردت في رواية مسلم من أنه أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، وفي بعض طرق أحمد أن صلى أربعا، فلم تثبت في شيء من شهادة الشهود، فهي من كلام حضين الراوي للقصة، ولم يكن حضين من الشهود ولم يروها عن شاهد ولا عن إنسان معروف، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، فلا اعتداد بهذا الجزء من كلامه.
رابعًا: سعيد بن العاص
ولي الكوفة بعد الوليد بن عقبة، كان من فصحاء قريش, ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن؛ فعن أنس بن مالك قال: «... فأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها (أي الصحف) في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش» وقد أقيمت عربية القرآن على لسان سعيد بن العاص؛ لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم. أدرك من الحياة النبوية تسع سنين، وقتل أبوه يوم بدر مشركا، قتله علي بن أبي طالب.
خامسًا: عبد الله بن سعد بن أبي السرح
درج المؤرخون في الغالب إذا ذكروا اسم عبد الله بن أبي السرح وتولية عثمان له على ولاية مصر على أن يقولوا: لقد ولى عثمان على مصر عبد الله بن أبي السرح أخاه من الرضاعة. وإيراد عبارة (أخاه من الرضاعة) مقرونة بالتولية تعتبر إيحاء من بعض المؤرخين باتهام عثمان - رضي الله عنه -, وأنه لهذه الأخوة من الرضاعة ولاه على مصر، وهذا الذي يراه المؤرخ غير صحيح، ويبدو أن عبد الله بن سعد تمكن من ضبط خراج مصر حتى زاد ما كان يجمعه من الخراج على ما كان يجمعه عمرو بن العاص قبله، ولعل مرد ذلك إلى اتباع عبد الله بن سعد لسياسة جديدة في المصروفات اختلفت عن سياسة عمرو، وبالتالي زادت أموال الخراج المتوافرة في مصر.(1/102)
وقد قام عبد الله بن سعد أثناء ولايته بالجهاد في عدة مواقع، فكانت له فتوح مختلفة لها شأن عظيم، فكان من غزواته غزوة أفريقية سنة 27هـ وفتوحه فيها, وقتله ملكها جرجيروانتهت الغزوة بصلح مع بطريرك أفريقيا على تأدية الجزية للمسلمين. وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ، كما كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة أو غزوة الحبشة ويعتبر عبد الله بن سعد بحق أول قائد مسلم تمكن من اقتحام النوبة، وقاتل أهلها وفرض عليهم الجزية، واستقرت الحال على ذلك في أيامه بين أهل النوبة والمسلمين.
كذلك من أهم أعمال عبد الله بن سعد العسكرية غزوة ذات الصواري، وقد انتصر فيها المسلمون على الروم.
يقول عنه المقريزي: ومكث أميرا مدة ولاية عثمان - رضي الله عنه - كلها محمودا في ولايته.
وقال فيه الذهبي: ولم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه، وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم. ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان - رضي الله عنه - اعتزلها عبد الله بن سعد وسكن عسقلان، أو الرملة في فلسطين.
وروى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب قال: خرج ابن أبي السرح إلى الرملة بفلسطين، فلما كان عند الصبح قال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح.
فتوضأ ثم صلى، فسلم عن يمينه ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه.
سادسًا: مروان بن الحكم ووالده
كان مروان بن الحكم من أخص أقرباء عثمان به، وأوثقهم صلة بمركز الخلافة وألصقهم بالأحداث التي عصفت بالوحدة الإسلامية في عهد عثمان - رضي الله عنه -، فكان منه بمنزلة كاتم سر الدولة، أو حامل ختم الملك أما ادعاء توريطه عثمان وإثارة الناس عليه لتنقل الخلافة بعد ذلك إلى بني أمية، فافتراض لا دليل عليه إن عثمان لم يكن ضعيف الشخصية حتى يتمكن منه كاتبه إلى الحد الذي يتصوره الرواة.(1/103)
إن خبر طرد النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه ضعيف سندا ومتنا، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية فأوضح تهافته وضعفه.
وعُرف عن مروان بن الحكم العلم والفقه والعدل، فقد كان سيدا من سادات شباب قريش لما علا نجمه أيام عثمان بن عفان
وقد شهد له الإمام مالك بالفقه، واحتج بقضائه وفتاواه في مواطن عديدة من كتاب الموطأ, كما وردت في غيره من كتب السنة المتداولة في أيدي الأئمة المسلمين يعملون بها.
وكان الإمام أحمد يقول: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب. وكان مروان من أقرأ الناس للقرآن كما كان له رواية للحديث الشريف؛ حيث روى عن بعض مشاهير الصحابة، وروى عنه بعضهم، وكما روى عنه بعض التابعين. وكان حريصا على تحري السنة والعمل بها.
يقول ابن كثير: وقد ولى مروان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فكان شديدا على أهل الفسوق بها، حربا على مظاهر الترف والتخنث، عادلا مع رعيته، حذرا من مجاملة ذوي قرباه، أو من يحاول منهم استغلال نفوذه؛ فقد لطم أخوه عبد الرحمن مولى لأهل المدينة يعمل حناطا أثناء فترة ولاية مروان على المدينة، فشكا الحناط إلى مروان، فأتى بأخيه عبد الرحمن، وأجلسه بين يدي الحناط وقال له: الطمه.
وذكر عن بعض أهل العلم أنه قال: كان آخر كلام تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار وقال ابن القيم: أحاديث ذم الوليد، وذم مروان بن الحكم كذب.
فهل جامل عثمان ذوي قرباه على حساب المسلمين لمجرد انتمائهم لعائلته فقط؟
لو كان عثمان - رضي الله عنه - أراد أن يجامل أحدا من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد ابن أبي حذيفة أولى الناس بهذه المجاملة، ولكن الخليفة أبي أن يوليه شيئا ليس كفئًا له بقوله: يا بني، لو كنت رضا ثم سألتني العمل لأستعملتك، ولكن لست هناك. ولم يكن ذلك كراهية له ولا نفورا منه، وإلا لما جهزه من عنده وحمله وأعطاه حين استأذن في الخروج إلى مصر.(1/104)
وأما استعمال الأحداث فكان لعثمان - رضي الله عنه - في رسول الله أسوة حسنة، فقد جهز جيشا لغزو الروم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم تمسك الصديق - رضي الله عنه - بإنفاذ هذا الجيش، لكن بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أسن منه، فكلموا عمر في ذلك ليكلم أبا بكر، فغضب أبو بكر لما سمع هذه المقالة وقال لعمر: يا عمر، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله.
- رضي الله عنه - ويقول علي: (ولم يولِّ -أي عثمان- إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة).(1/105)
إن عثمان - رضي الله عنه - لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة وغير المحققة عن عهد عثمان، وخصوصا الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاما لا تعتمد على التحقيق أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة؛ فقد تورط الكثير منهم في الروايات الضعيفة والرافضية، وبنوا أحكاما باطلة وجائرة في حق الخليفة الراشد عثمان بن عفان؛ مثل: طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وراضى عبد الرحيم في كتابه (النظام الإداري والحربي)، وصبحي الصالح في كتابه (النظم الإسلامية)، ومولوي حسين في كتابه (الإدارة العربية)، وصبحي محمصاني في كتابه (تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء)، وتوفيق اليوزبكي في كتابه (دراسات في النظم العربية والإسلامية)، ومحمد الملحم في كتابه (تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري)، وبدوي عبد اللطيف في كتابه (الأحزاب السياسية في فجر الإسلام)، وأنور الرفاعي في كتابه (النظم الإسلامية)، ومحمد الريس في كتابه (النظريات السياسية)، وعلي حسني الخربوطي في كتابه (الإسلام والخلافة)، وأبي الأعلى المودودي في كتابه (الملك والخلافة)، وسيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية)، وغيرهم. لقد كان عثمان بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأولون، ولم ينصفه المتأخرون.
العلاقة بين أبي ذر الغفاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهما
الرواية الصحيحة في العلاقة بين الصحابين الجليلين
وأصح ما روي في قصة أبي ذر - رضي الله عنه - ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب قال:(1/106)
مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه -، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [التوبة: 34]
قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك, وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليَّ حبشيا لسمعت وأطعت.
إن قصة أبي ذر في المال جاءت من اجتهاده في فهم الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ صدق الله العظيم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" [التوبة: 34، 35]
وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذر، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، واستدلوا على ذلك بالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة».(1/107)
وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث أن ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا. قال الحافظ: ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا؛ لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك؛ لأنه عفى عنه بإخراج ما وجب منه فلا يسمى كنز .
أما ما يشاع من أن الخليفة عثمان رضي الله عنه قد منعه الفتيا فذاك كذب محض.ولو كان عثمان نهاه عن الفتيا مطلقا لاختار له مكانا لا يرى فيه الناس، أو حبسه في المدينة، أو منعه من دخول المدينة، ولكن أذن له بالنزول في منزل يكثر مرور الناس به؛ لأن الربذة كانت منزلا من منازل الحجاج العراقيين.
وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويات الصحيحة والحسنة، التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة وأن عثمان أذن له؛ بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام ليجاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام
ـ إنا أرسلنا إليك لخير لتجاورنا بالمدينة. وقال له أيضا: كن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح .
ولم تنص على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجرأنه ليس بالقوي وفيه رفض، فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة والحسنة ....؟!
و لما قيل للحسن البصري، عثمان أخرج أبا ذر؟ قال: لا، معاذ الله.
وكان ابن سيرين إذا ذكر له أن عثمان - رضي الله عنه - سير أبا ذر، أخذه أمر عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيره عثمان.
وفاة أبي ذر - رضي الله عنه - وضم عثمان عياله إلى عياله
في غزوة تبوك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال:
«دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»(1/108)
وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر». فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده».
ومضى الزمان وجاء عهد عثمان وأقام أبو ذر في الربذة، فلما حضرته الوفاة أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا ؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده» فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا . ثم حملوهم حتى أقدموهم إلى مكة ونعوه إلى عثمان - رضي الله عنه - ، فقال الخليفة عثمان رضي الله عنه حينئذ( يرحم الله أبا ذر، ويغفر له نزوله الربذة) وضم عياله إلى عياله.
موقف عمار بن ياسر
ضرب الخليفة لعمار
يقول القاضي أبو بكر بن العربي في عواصمه ضمن تفنيده لما نسب إلى عثمان من افتراءات:(1/109)
ـ" وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، إن أخلاق عثمان - رضي الله عنه - في سنه وإيمانه وحيائه ولين عريكته ورقة طبعه وسابقته وجليل مكانته في الإسلام أجَلّ من أن تنزل به إلى هذا الدرك من التصرف مع رجل من أجلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, يعرف له عثمان سابقته وفضله مهما كان بينهما من اختلاف في الرأي.
أفيرضى عثمان لنفسه وهو الذي أبى على الناس أن يقاتلوا دونه، ورضي بالموت صابرا محتسبا حقنا لدماء المسلمين واتقاء للفتنة العامة أن يصنع بعمار -وهو أعلم بسابقته وفضله في الإسلام- ما ذكرت الروايات المزعومة بأنه أمر غلمانه بأن يضربوه حتى أغمى عليه، ثم يقوم عثمان في هذه الحال فيطأه في بطنه؟ ثم هل ترضى أخلاق عثمان وحياؤه بأن يدعو بدعوة الجاهلية فيعير عمارا بأمه سمية وهي من أهل السابقة والفضل، وعثمان يعرف شرف انتساب عمار إلى أمه سمية رضي الله عنها، أول شهيدة في الإسلام..؟! "
اتهام عمار بالمساهمة في الفتنة وإثارة الشغب ضد عثمان
تتنوع التهم المنسوبة إلى عمار - رضي الله عنه - في تحريكه لأمر الفتنة، وتحريضه على عثمان، وسعيه بين العامة للتمرد عليه، فمنها ما يذكر من إرسال عثمان - رضي الله عنه - له إلى مصر لاستجلاء ما يحدث فيها مما نقل إليه عن تمرد العامة هناك، وأن السبئيين استطاعوا استقطاب عمار والتأثير عليه.
ولقد ثبت أن المؤرخين قد اعتمدوا في نسبة هذه الافتراءات إلى عمارعلى روايات لم تسلم إحداها من الطعن في صحة أسانيدها أو في استقامة متونها.
موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان(1/110)
لم يثبت أن ابن مسعود خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك. وقال:
ـ" إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه"
وكتب بذلك إلى عثمان.
وقد ورد عن ابن كثير رجوع ابن مسعود إلى الوفاق.
وأكد الذهبي ذلك فقال: وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد.
ولا يلتفت إلى ما كتبه طه حسين في قضية المصحف وعلاقة عثمان مع ابن مسعود وما ساقه بأسلوب مسموم، فيه أفكار أخذها من أساتذته المستشرقين. الذين اعتمدوا على روايات ضعيفة ورافضية في تشويه علاقة الصحابة ببعضهم رضي الله عنهم جميعا.
إن ابن مسعود الذي ترك صلاة القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة، هل يتوقع - رضي الله عنه - منه أن يصعد المنبر ويحرض الناس على الخلاف، وهو القائل:
ـ" إن الخلاف شر."
إن مؤرخي الروافض زوَّروا روايات ونسبوها لابن مسعود وموقفه من عثمان رضي الله عنهم، وأظهروا في تلك الأكاذيب الصحابة قوما متنازعين متباغضين، متعنتين متفاحشين في القول، وهي روايات ساقطة لا تثبت أمام النقد الهادئ الموضوعي، ويرفضها الذوق المؤمن والعقل الفطن، وقد زعمت الرافضة كذبا وزورا بأن ابن مسعود كان يطعن على عثمان ويكفره، ولما حكم عثمان ضربه حتى مات، وهذا كذب بيِّن على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة سار عبد الله بن مسعود من المدينة إلى الكوفة، ولما وصل إليها حمد الله وأثنى عليه ثم قال:(1/111)
ـ "أما بعد، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مات فلم نر يوما أكثر نشيجا من يومئذ، وإنا اجتمعنا أصحاب محمد فلم نأل عن خيرنا ذي فُوق، فبايعنا أمير المؤمنين عثمان فبايعوا."
وهذه الكلمات الواضحة أكبر دليل على تلك المكانة الرفيعة لعثمان بن عفان في قلب ابن مسعود وعند جميع الصحابة، أولئك الذين مدحهم الله تعالى ورضي عنهم، وهم خير من فقه قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" [الأحزاب: 70]. فقول عبد الله بن مسعود صدق لا يعدو الحقيقة، كما أنه نابع عن قناعته وصادر عن محض إرادته، ما قاله خوفا ولا خشية، ولم يقذف به هكذا رخيصا للاستهلاك والتغرير، أو ليحوز مكانة ومنصبا في الخلافة الجديدة. إذن فمن بدهيات الأمور وأولياتها أن ليس ثمة حقد أو بغضاء في قلب أحدهما على الآخر، وإن حدث شيء فإنما هو من أجل الحق وصالح المسلمين، ويندرج تحت فقه النصيحة وآدابها وتأديب الخليفة لرعيته، وأما ما زعم الروافض ومن سار على نهجهم من أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم.
************************************************
الفتنة في عهد الإمام علي رضي الله عنه
جاء في مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ما يلي :
عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :
ـ " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ." متفق عليه . ( صحيح ) وعن زر بن حبيش قال قال علي رضي الله عنه والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا بيغضني إلا منافق . رواه مسلم .( متفق عليه )
وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:
ـ " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ."
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال:(1/112)
ـ " أين علي بن أبي طالب ؟"
فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال:
ـ " فأرسلوا إليه ."
فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال:
ـ " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" متفق عليه .
عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ـ "إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن ." رواه الترمذي . ( صحيح)
عن سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية "ندع أبناءنا وأبناءكم" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال:
ـ" اللهم هؤلاء أهل بيتي "رواه مسلم . ( صحيح )
وعن عائشة قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال :
ـ "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (رواه مسلم )
وعن زيد بن أرقم قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال :
ـ "أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي وفي رواية كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة ." رواه مسلم . ( صحيح )
وجاء في تاريخ الطبري :
عن إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده قال :(1/113)
ـ كنت أمرأ تاجرا فقدمت أيام الحج فأتيت العباس فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي وخرج غلام فقام يصلي معه فقلت يا عباس ما هذا الدين إن هذا الدين ما أدري ما هو قال هذا محمد بن عبدالله يزعم أن الله ارسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بن خويلد آمنت به وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به قال عفيف:
ـ " فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون رابعا"
تلك بعض الأحاديث التي جاءت في مناقب أهل البيت النبوي ، وإن المرء لتصيبه الدهشة في مقتل حين يستشعرهااليوم بعد كل هذه السنين الطويلة من البعثة النبوية ، ويجد أن الآخرين وهم حديثي العهد بها قد أغفلوها ليسقط الحسين وآله في كربلاء وليمة لسيوف الغدر والحقد ..؟!
جاء في كتاب حياة الصحابة للكندهلوي:
1ـ أخرج يعقوب بن سفيان عن مُجمِّع بن سمعان التيمي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسيفه إلى السوق فقال:
" من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إِزاراً ما بعته."
2 ـ وأخرج أبو القاسم البغوي عن صالح بن أبي الأسود عمَّن حدثه أنه رأى علياً رضي الله عنه قد ركب حماراً ودلَّى رجليه إلى موضع واحد ثم قال:
ـ" أنا الذي أهنتُ الدنيا." كذا في البداية.
3 ـ دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية فقال له: صِفْ لي علياً، فقال: أَوَ تُعْفيني يا أمير المؤمنين؟ قال لا أُعفيك، قال:(1/114)
ـ "أما إِذْ لا بدَّ؛ فإنَّه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلاً ويحكم عدلاً، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنسُ بالليل وظلمته، كان والله غزير العَبْرة، طويل الفكرة، يقلِّبُ كفّه ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما قَصُر. ومن الطعام ما جَشُب، كان والله كأَحدنا يُدنينا إِذا أتيناه، ويُجيبنا إِذا سأَلناه، وكان مع تقرُّبِه إِلينا وقربهِ منا لا نكلمه هيبة له، فإِن تبسم فَعَنْ مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّمُ أَهل الدين، ويُحبُّ المساكين، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا ييأَسُ الضعيف من عدله، فأَشْهدُ بالله لقد رأيتُه في بعض مواقفه وقد أَرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميلُ في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأَني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا: يتضرع إِليه ثم يقول للدنيا: إِليَّ تَغَرَّرْتِ؟ إِليَّ تشوَّفتِ؟ هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بتَتُّكَ ثلاثاً. فعرُك قصيرٌ، ومجلسُك حقيرٌ، وخطرُك يسير، آه، آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشةِ الطريق."
فَوَكَفَتْ دموع معاوية على لحيتها يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء فقال:
ـ" كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُك عليه يا ضرار؟"
قال:
ـ "وَجْد مَنْ ذُبح واحدها في حِجْرها، لا ترقأُ دمعتها، ولا يسكن حزنها"
4 ـ عن خيثمة واللألكائي وأبي الحسن البغدادي والشيرازي وابن مَنْده وابن عساكر عن سُويد بن غَفْلة قال: مررتُ بقوم يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما. فأتيت علياً رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال:
" لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه "
ثم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة فقال:(1/115)
ـ "ما بال أقوام يذكرون سيدَي قريش وأبوَي المسلمين بما أنا عنه متنزه، وممَّا يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقب؟ والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لا يبحهما إلا مؤمن تقي، ولا يُبغضهما إلا فاجر رديء، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والوفاء يأمران وينهيان ويعاقبان، فما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأياً، ولا يحب حبهما حباً، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راضٍ والناس راضون، ثم وُلي أبو بكر الصلاة، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولاَّه المسلمون ذلك وفوَّضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان، وكنت أولَ من يُسمَّى له من بني عبد المطلب وهو لذلك كاره، يود أن بعضنا كفاه، فكان والله خير من بقي، أرأفه رأفة، وأرحمه رحمة، وأكيسه ورعاً، وأقدمه إسلاماً، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفة ورحمة، وبإبراهيم عفواً ووقاراً، فسار بسيرة رسول الله حتى قبض الله عليه.(1/116)
ثم وَلي الأمر من بعده عمر بن الخطاب، واستُأمر في ذلك الناس، فمنهم من رضي ومنهم من كره، فكنت ممن رضي. فوالله ما فارق عمر الدنيا حتى رضي نم كان له كارهاً، فأقام الأمر على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وناصر المظلوم على الظالم. ثم ضرب الله بالحق على لسانه حتى رأينا أن مَلَكاً ينطلق على لسانه، وأعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قِواماً، وقذف في قلوب المؤمنين الحب له وفي قلوب المنافقين الرهبة له، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل فظاً غليظاً على الأعداء، وبنوح حَنقاً ومغتاظاً على الكافرين. فمن لكم بمثلهما؟ لا يُبلغ مبلغهما إلا بالحبِّ لهما واتباع آثارهما، فمن أحبهما فقد أحبني، ونم أبغضهما فقد أبغضني وأنا منه بريء. ولو كنت تقدمتُ في أمرهما لعاقبت أشد العقوبة، فمن أُتيت به بعد مقامي هذا فعليه ما على المفتري. ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ثم الله أعلم بالخير أين هو. أقول قولي هذا ويغفر الله لي ولكم."
بيعة على رضي الله عنه ( 35 هجرية)
ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية:
بايعه الناس قبل أن يدفن عثمان وقيل بعد دفنه وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبدول وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه وجاؤوا معهم بطلحة والزبير فقالوا له إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير ولم يزالوا به حتى أجاب.
وقال الدكتورالصلابي في كتابه: ( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيتة وعصره):(1/117)
ـ تمت بيعة على رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين. قام كل من بقى بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبايعة على رضي الله عنه بالخلافة، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان، رضي الله عنه، ولم يكن رضي الله عنه، حريصًا عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقى من الصحابة بالمدينة، وخوفًا من ازدياد الفتن وانشارها.
روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد ابن الحنفية قال:
ـ كنت مع على رحمه الله وعثمان محصر قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام على رحمه الله، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفًا عليه فقال: خلَّ لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قتل الرجل رحمه الله، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولابد للناس من خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم على: لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا، فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علىَّ فإن بيعتي لا تكون سرًا، ولكن أخرج إلى المسجد, فبايعه الناس.(1/118)
وفي رواية أخرى عن سالم ابن أبي الجعد عن محمد ابن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ولا نجد أحدًا أحق بها منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال على: لا تفعلوا فإني لكم وزيرًا خير مني أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس.
ومن هذه الآثار الصحيحة بعض الدروس والعبر والفوائد منها:
- زهد على رضي الله عنه في الخلافة وعدم طلبه لها أو طمعه فيها، واعتزاله في بيته حتى جاءه الصحابة يطلبون البيعة.
- إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامة في المدينة على بيعته، ويدخل في هؤلاء أهل الحل والعقد، وهم الذين قصدوا عليًا وطلبوا منه أن يوافق على البيعة، وألحوا عليه حتى قبلها، وليس للغوغاء وقتلة عثمان كما في بعض الروايات الضعيفة والموضوعة.(1/119)
- إن الشبهة التي أدخلوها على بيعة على، كون الخوارج الذين حاصروا عثمان، وشارك بعضهم في قتله، كانوا في المدينة، وأنهم أول من بدءوا بالبيعة وأن طلحة والزبير بايعا مكرهين، وهذه أقاويل المؤرخين، لا تقوم على أساس وليس لها سند صحيح، والصحيح أنه لم يجد الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان كالرابع قدرًا وعلما وتقى ودينًا، وسبقًا وجهادًا، فعزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأي ذلك فرضًا عليه، فانقاد إليه، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي، لأدى ذلك إلى فتن واختلافات في جميع الأقطار الإسلامية، فكان من مصلحة المسلمين أن يقبل على البيعة مهما كانت الظروف المحيطة بها،ولم يتخلف عن على أحد من الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وقد خلط الناس بين تخلف الصحابة عن المسير معه إلى البصرة وبين البيعة؛ أما البيعة فلم يتخلف أحد عنها، وأما المسير معه فتخلفوا عنه لأنها كانت مسألة اجتهادية, كما أن عليًا لم يلزمهم بالخروج معه.
وقد بلغت الروايات الصحيحة والشواهد في بيعة على إحدى عشرة رواية.
ويضيف الدكتور الصلابي:
ـ انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على أن عليًا رضي الله عنه كان متعينًا للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لبيعة المهاجرين والأنصار له، لما رأوا لفضله على من بقى من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلامًا، وأوفرهم علمًا، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسبًا، وأشجعهم نفسًا وأحبهم إلى الله ورسوله، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديًا وسمتًا، فكان رضي الله عنه متعينًا للخلافة دون غيره، وقد قام من بقى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة له بالخلافة بالإجماع، فكان حينئذ إمامًا حقًا وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالته، وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم منهم:(1/120)
1- نقل محمد بن سعد: بويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمار بن ياسر، وأسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصارى، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
2 ـ وقال أبو الحسن الأشعرى: ونثبت إمامة على بعد عثمان، رضي الله عنه، بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد لأنه لم يدع أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد اجتمع على فضله وعدله.
4- وقال أبو نعيم الأصبهاني: سلم من بقى من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكرًا وأرفعهم قدرًا، لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة، يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون.
5- وقال أبو منصور البغدادي:أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة على رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه.
6- وقال الزهرى: وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل، وكان أفضل من بقى من الصحابة، فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة، وبايعه مع سائر الناس من بقى من أصحاب الشورى
7- وقال عبد الله الجوينى: وأما عمر وعثمان وعلي- رضوان الله عليهم – فسبيل إثبات إمامتهم وإجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع..ولا اكثرات بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه، فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخر.
وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة على رضي الله عنه من وجوه:(1/121)
1- تخلف عنه ( في رواية أخرى ) من الصحابة جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم.
2- إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان.
3- أن أهل الشام؛ معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه.
وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه:
الوجه الأول: أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوة غير صحيحة إذ أن بيعته لم يتخلف أحد عنها، وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذُكر لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره .
أما سعد بن أبي وقاص فقد نقل بيعته ابن سعد، وابن حبان، والذهبي وغيرهم، وكذلك البقية قد بايعوا كما ذكرنا الإجماع في ذلك فيمن حضر من الصحابة في المدينة.
الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لابد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل متعذر.
الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة على وعثمان وغيرهما من الصحابة، وكذلك حصل الإجماع على خلافة على بمبايعة سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد وعمار ومن حضرهم من البدريين وغيرهم من الصحابة، ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايع من غيرهم رضي الله عنهم جميعًا.
قال الحسن البصرى: والله ما كانت بيعة على إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان: هذا لا يصح في شرط البيعة وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة ويقع الحكم بعد ذلك.(1/122)
الوجه الخامس: أن معاوية – رضي الله عنه – لم يقاتل عليًا على الخلافة ولم ينكر إمامته وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ولكنه كان مخطئا في اجتهاده ذلك، فله أجر الاجتهاد فقط وقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع على – رضي الله عنه – كان في قتل قتلة عثمان ولم ينازعه في الخلافة.
ولقد ذكر هذاالذهبي عن الزهري قوله:
ـ لما بلغ معاوية قتل طلحة والزبير، وظهور علي، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى والطلب بدم عثمان، فبايعوه على ذلك أميراً غير خليفة.
أخرج الدِيَنَوري وابن عساكر عن كُمَيل بن زياد قال: خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما أشرف على الجبَّان التفت إلى المقبرة فقال:
ـ يا أهل القبور، يا أهل البِلى، يا أهل الوحشة: ما الخبر عندكم؟ فإن الخبر عندنا قد قُسمت الأموال، وأُيتمت الأولاد، واستُبدل بالأزواج، فهذا الخبر عندنا؛ فما الخبر عندكم؟.
ثم التفت إليَّ فقال:
ـ يا كُمَيل لو أُذن لهم في الجواب لقالوا: إنَّ خيرالزاد القتوى. ثم بكى وقال: يا كميل، القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر.
موقف طلحة والزبير رضي الله عنهما.
يقول الدكتورالصلابي عن بيعتهما ما يلي :(1/123)
(عن أبي بشير العابدى قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان، رضي الله عنه، واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا عليًا، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به..فاختاروا، فقالوا والله ما نختار غيرك..إلخ الرواية وفيها تمام البيعة لعلي – رضي الله عنه – والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تاريخه وهى دالة على مبايعة الصحابة- رضي الله عنهم – لعلي رضي الله عنه، واتفاقهم على بيعته بمن فيهم طلحة والزبير، كما جاء مصرحًا به في الرواية السابقة، وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة والزبير بايعا مكرهين، فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه
فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن عليًا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك, فبسط علىّ يده فبايعه.
وعن عبد خير الخيوانى أنه قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى هل كان هذان الرجلان – يعنى طلحة والزبير – ممن بايع عليًا؟ قال: نعم.
كما نص على بطلان ما يدعي من أنهما بايعا مكرهين الإمام المحقق ابن العربي وذكر أن هذا مما لا يليق بهما، ولا بعلي، قال- رحمه الله-: فإن قيل بايعا مكرهين «أي طلحة والزبير»، قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحد واثنين تنعقد البيعة بهما وتتم.
إن الروايات التي تقول بأن طلحة والزبير أكرهوا على البيعة باطلة وهناك روايات صحيحة أشارت – كما ذكرت – إلى بيعتهما لعلي رضي الله عنهم، وهناك رواية صحيحة أوردها ابن حجر عن طريق الأحنف بن قيس وفيها أن عائشة وطلحة والزبير، رضوان الله عليهم، قد أمروا الأحنف بمبايعة على رضي الله عنه بعدما استشارهم فيمن يبايع بعد عثمان رضي الله عنه .
أخبار ملفقة عن طلحة والزبير(1/124)
تعد هذه الأخبار الملفقة عن هذين الصحابين الجليلين جزء من مسلسل ذم الصحابة والتشهير بهما من قبل أعداء الإسلام، وعلينا أن نتساءل كيف يكون تصرفهما على هذا الشأن ،وقد جاء في ذكر مناقبهما في الرياض النضرة ما يلي:
عنزيد بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لطلحة والزبير: "أنتما حوارياي كحواريي عيسى بن مريم". أخرجه الحافظ الدمشقي والبغوي في معجمه.
عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فذهب لينهض على صخرة فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره حتى صعد على الصخرة؛ قال الزبير: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أوجب طلحة" أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأبو حاتم واللفظ للترمذي.
عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد، قال: ذلك كله يوم طلحة، قال أبو بكر: كنت أول من جاء يوم أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجراح: عليكما؛ يريد طلحة، وقد نزف، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا فيه بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرج أبو حاتم معناه ولفظه.
وكان يلقب بطلحة الخير، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقيل: في وقعة بدر، حين غاب عنها في حاجة المسلمين، وطلحة الفياض، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة ذات العشيرة، وطلحة الجود، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين. حكاه ابن قتيبة وصاحب الصفوة ومشكل الصحيحين والفضائلي والطائي وغيره.(1/125)
وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت عند الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبة، رأيتك تختلف، فقال: رأيتني يا بني؟ قلت نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟" فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال:" فداك أبي وأمي. أخرجاه وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
قال أبو عمر وغيره: شهد الزبير بدراً والحديبية والمشاهد كلها، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين قال عمر فيهم: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهاجر الهجرتين.
ذكر في كتاب صفوة الصفوة ما يلي:
عن أبي مريم، عن علي، قال:انطلقت أنا والنبي عيه السلام حتى أتينا الكعبة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس وصعد على منكبي فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفا فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال لي اصعد على منكبي. قال فنهض بي فانه ليخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى استمكنت منه. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اقذف به" . فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله. صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس رواه أحمد.
موقعة الجمل 36هجرية
يقول الدكتور الصلابي في كتابه( سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيتة وعصره):(1/126)
قدم طلحة والزبير إلى مكة ولقيا عائشة – رضي الله عنهم جميعًا – وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر من مقتل عثمان تقريبًا، أي في ربيع الآخر من عام36هـ، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة، رضي الله عنها، للخروج والمطالبة بدم الخليفة المقتول .
لقد توافرت مجموعة من العوامل في مكة جعلتهم يفكرون في طريقة جادة لتحقيق مطلبهم، ومن هذه العوامل:
1 ـ أن بنى أمية قد هربوا من المدينة واستقروا في مكة.
2 ـ أن عبد الله بن عامر – أمير البصرة في عهد عثمان- كان في مكة وهو يحث على الخروج ويعرض المعونة المادية.
3ـ أن يعلى بن أمية الذي خرج من اليمن لإعانة الخليفة عثمان وصل إلى مكة، وقد قتل الخليفة ومع من المال والسلاح والدواب شيء لا بأس به.
كانت السيدة عائشة والزبير وطلحة ومن معهم يسعون لإيجاد رأى إسلامي عام في مواجهة الطغمة السبئية التي قتلت عثمان، وأصبحت ذات شوكة لا يستهان بها، وذلك من خلال تعريف المسلمين بما أتى هؤلاء السبئيون والغوغاء من أهل الأمصار ، فلقد بات واضحًا عند الصحابة من الفريق الذي كان يرى رأي عائشة – رضي الله عنها- أن الغوغاء والسبئيين لهم وجود في جيش علىّ، وأنه لأجل ذلك فإن عليًا- رضي الله عنه – يصعب عليه مواجهتهم، خشية منه على أهل المدينة، ومن ثم فإنه ينبغي عليهم أن يحاولوا السعي لإفهام المسلمين، وتقوية الجانب المطالب بإقامة الحدود، لتتم إقامتها بأقل الخسائر في دماء الأبرياء.وتم الاتفاق على التوجه للبصرة بعد تحديدها كمكان مثالي للبدأ بالأخذ بالثأر.
روى الطبري أن عثمان بن حنيف – وهو والى البصرة من قبل أمير المؤمنين على بن أبى طالب – أرسل إلى عائشة – رضي الله عنها – عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقالت رضي الله عنها :(1/127)
ـ "خرجت في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ" [النساء:114]. فنهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به وتحضكم عليه ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره."
وروى ابن حبان أن عائشة – رضي الله عنها – كتبت إلى أبى موسى الأشعري – والى علىّ على الكوفة-:
ـ " فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم، والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين."
ولما أرسل علىُّ القعقاع بن عمرو لعائشة ومن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بنى، إصلاح بين الناس.
وبعد انتهاء الحرب يوم الجمل جاء علىٌّ إلى عائشة – رضي الله عنها – فقال لها: غفر الله لك. قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. فتقرر أنها ما خرجت إلا للإصلاح بين الناس.
وفيه رد على من طعن في عائشة – رضي الله عنها – من الشيعة الرافض في قولهم: إنها خرجت من بيتها وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى" [الأحزاب:33]، فإن سفر الطاعة لا ينافي القرار في البيت وعدم الخروج منه إجماعًا، وهذا ما كانت تراه أم المؤمنين – عائشة – في خروجها للإصلاح للمسلمين وكان معها محرمها ابن أختها عبد الله بن الزبير.
ويقول ابن العربي:(1/128)
ـ "وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ" [النساء:114]. والأمر بالإصلاح، مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد."
مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب
ثبت مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب من طرق صحيحة؛ فعن يحيى بن سعيد بن القطان، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس ابن حازم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه:
ـ «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب».
ومن طريق شعبة عن إسماعيل ولفظ شعبة: أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب.
فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله عز وجل أن يُصلح بك بين الناس.
وبهذا اللفظ أخرجه يعلى بن عبيد عن إسماعيل، وهو عند الحاكم وقال الألباني: إسناده صحيح جدًا وقال: صححه من كبار أئمة الحديث: ابن حبان، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر. فهذه الروايات الصحيحة، ليس فيها شيء من شهادة الزور أو التدليس الذي يتنزه عنه مقام الصحابة والذي زعمته الروايات الضعيفة.(1/129)
وهناك روايات أخرى وردت في هذا الموضوع، كلها باطلة سندًا ومتنًا، ومغزى هذه الروايات وهدفها هو الطعن على كبار الصحابة وفضلائهم، وبيان أن مقصدهم من خروجهم هذا، هو تحقيق مطامع دنيوية شخصية من مال ورئاسة وغيرها، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنهم لا يتورعون في سبيل ذلك عن إشعال الحرب والفتنة بين المسلمين، وتركز الروايات على الصحابيين الجليلين طلحة والزبير – رضي الله عنهما , كما يريد مفتري هذه الروايات أن يبين ويؤكد أن هذين الصحابيين ومن معهما من أفراد المعسكر يتجرءون على انتهاك حرمات الله؛ فهم يقسمون ويحلفون لأم المؤمنين بأيمان مغلظة أن هذا ليس ماء الحوأب، وزيادة على ذلك أتوا بسبعين نفسًا – وفي رواية بخمسين نفسًا – يشهدون على صدق قولهم، فكان هذا العمل – كما افترى المسعودي الشيعي الرافضي – أول شهادة زور في الإسلام.
عندما وصل طلحة والزبير وعائشة – رضي الله عنهم – ومن معهم إلى البصرة نزلوا جانب الخريبة, ومن هناك أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، كان كثير من المسلمين في البصرة وغيرها، يودون ويرغبون في القود من قتلة عثمان – رضي الله عنه – إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا من اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفقه النساء مطلقًا، ومطلبهم الشرعي لا غبار عليه ولا ينكره صحابي واحد، جعل الكثير من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم.(1/130)
وأقبل حُكَيم بن جبلة بعدما خطبت عائشة – رضي الله عنها – في أهل البصرة، فأنشب القتال وأشرع أصحاب عائشة وطلحة والزبير – رضي الله عنهم – رماحهم وأمسكوا ليمسكوا، فلم ينته حكيم ومن معه، ولم يثن، وظل يقاتلهم، وطلحة والزبير كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها, وعلى الرغم من ذلك، فإنه عائشة – رضي الله عنها – ظلت حريصة على عدم إنشاب القتال، فأمرت أصحابها أن يتيامنوا بعيدًا عن المقاتلين، وظلوا على ذلك حتى حجز الليل بينهم, ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان – رضي الله عنه- وحصره من نزاع القبائل كلها، فلقد كانوا قد عرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، ووافقوا أصحاب عائشة، فاقتتلوا قتالاً شديدً، وظل منادى عائشة – رضي الله عنها – يناديهم ويدعوهم إلى الكفّ فيأبون, وجعلت – رضي الله عنها – تقول: لا تقتلوا إلا من قاتلكم. لكن حكيمًا لم يُرَع للمنادى، وظل يُسَعَّر القتال، عندئذ وبعد ما تبينت للزبير وطلحة – رضي الله عنهما – طبيعة هؤلاء الذين يقاتلون، وأنهم لا يتورعون ولا ينتهون عن حرمة، وأن لهم هدفًا في إنشاب القتال، قالا: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحدًا.
خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى الكوفة
لم يكن الصحابة – رضي الله عنهم – في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب من المدينة، فقد تبين ذلك حينما همّ علىّ بالنهوض إلى الشام،, فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة فقال:
ـ" إن الرجال والأموال بالعراق"
وحين بلغه خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة استنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وحدث تثاقل من بعض أهل المدينة بسبب وجود الغوغاء في جيش على، وطريقة التعامل معهم، فكان كثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلابد من التروي حتى تنجلي الأمور أكثر.(1/131)
ولقد حاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثنى عزم أمير المؤمنين علىّ عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يراه أبدًا، كان علىّ يعلم هذه الأشياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـ" وايم الله لقد أخبرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم."
تساؤلات على الطريق
أ- ما سأله أبو رفاعة بن رافع بن مالك العجلان الأنصاري لما أراد الخروج من الرّبذة.
فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوى فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذًا. فسمع تلك السلسلة من الأسئلة والإجابات فاطمأن إليها وارتاح لها، وقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول،
ب ـ أهل الكوفة يسألون عليًا.
لما قدم أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فيِ ذي قار، قام إليه أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن سبب قدومهم، ، فقال له على رضي الله عنه:
ـ علىَّ الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.(1/132)
جـ- أبو سلامة الدألانى، ممن سأل أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عز وجل بذلك؟ قال: نعم. قال: فترى لك حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إني لأرجو ألاّ يقتل أحد نقىّ قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنة.
أخرج البيهقي عن يحيى بن سعيد عن عمه قال: لما تواقفنا يوم الجمل، وقد كان علي رضي الله عنه حين صفَّنا نادى في الناس: لا يرمينَّ رجل بسهم، ولا يطعن برمح، ولا يضرب بسيف، ولا تبدؤوا القوم بالقتال، وكلِّموهم بألطف الكلام، وأظنه قال: فإن هذا مَقامٌ من فَلَج فيه فَلَج يوم القيامة. فلم نزل وقوفاً حتى تعالى النهار حتى نادى القوم بأجمعهم يا ثَأراتِ عثمان، فنادى علي رضي الله عنه محمد بن الحنيفة وهو أمامنا ومعه اللواء فقال: يا ابن الحنفية ما يقولون؟ فأقبل علينا محمد بن الحنفية فقال: يا أمير المؤمنين: يا ثأرات عثمان، فرفع علي رضي الله عنه يديه فقال:
ـ " اللهمَّ كبَّ اليوم قتلة عثمان لوجوههم."
وأخرج ابن عساكر عن أبي إسحاق قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن عثمان رضي الله عنه في النار. قال: ومن أين علمت؟ قال: لأَنَّه أحدث أحداثاً، فقال له علي:
ـ أتراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟
قال: لا.
قال:
ـ أفرأي هو خير من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنتيه؟ وأخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان إذا أراد أمراً يستخير الله أو لا يستخيره؟
قال: لا. بل كان يستخيره.
قال:
ـ أفكان الله يخير له أم لا؟
قال: بل يخير له
قال:
ـ فاخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الله له في تزويجه عثمان أم لم يختر له؟
ثم قال:
ـ لقد تجردتُ لك لأضرب عنقك فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك لضربت عنقك.
محاولات الصلح(1/133)
القعقاع بن عمرو التميمي: أرسل أمير المؤمنين علىٌّ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنهما في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الاختلاف والفرقة. وذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة – رضي الله عنها- وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بنى من أجل الإصلاح بين الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها.
ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة: من أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان، رضي الله عنه، ولابد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياء للقرآن. قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة من قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حرقوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه من بنى سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بنى سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر، من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم، نصرة لبنى سعد، وهذا ما حصل مع على، ووجود قتلة عثمان في جيشه.(1/134)
تأثرت أمُّ المؤمنين ومن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة؛ فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: أقول: «هذا أمر دواؤه التسكين، ولابد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًا واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة».
اقتنعوا بكلام القعقاع المقنع الصادق المخلص، ووافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم على، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر إن شاء الله. عاد القعقاع إلى على في «ذي قار» وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًا بما جرى معه، فأُعجب على بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه.
أثر السبئية في معركة الجمل
ويتضح – بما لا يدع مجالاً للشك – حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على الإصلاح وجمع الكلمة؛ وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس. وقبل الحديث عن جولات المعركة نشير إلى أن أثر السبئية في معركة الجمل مما يكاد يجمع عليه العلماء:
أ- جاء في أخبار البصرة لعمر بن شبَّة أن الذين نسب إليهم قتل عثمان خشوا أن يصطلح الفريقان على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم حتى كان ما كان.(1/135)
ب- قال الإمام الطحاوى: فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من على ولا من طلحة، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين.
جـ- وقال الباقلانى: وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم، والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين، ويبدءوا بالحرب سحرة في المعسكرين ويختلطوا، ويصيح الفريق الذي في عسكر على: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر على، فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم دافعًا لمكروه عن نفسه .
د- ونقل القاضي عبد الجبار: أقوال العلماء، باتفاق رأي على وطلحة والزبير وعائشة – رضوان الله عليهم – على الصلح، وترك الحرب، واستقبال النظر في الأمر، وأنّ من كان في المعسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك، وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، فدبّروا في إلقاء ما هو معروف، وتمّ ذلك.
هـ- ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: وقدم علىّ على البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجرت الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإنّ واحدًا في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف.
و- ويقول ابن حزم: وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علىّ، فدفع أهله عن أنفسهم، كل طائفة تظن – ولا شك – أن الأخرى بدأتها القتال، واختلط الأمر اختلاطًا، ولم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه.(1/136)
فإذا الزبيرَ رضي الله عنه – وهو طرف أساسي في المعركة – يكشف لنا عن حقيقة الأمر: إن هذه لهى الفتنة التي كنا نحدّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك؛ إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدرى أمقبل أنا فيه أم مدبر.
ويشير إلى ذلك طلحة فيقول: بينما نحن يد واحدة على من سوانا، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضًا.
وفي الطرف الآخر يؤكد أصحاب على رضي الله عنه على الفتنة فيقول عمار – رضي الله عنه – في الكوفة عن خروج عائشة: إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنها مما ابتليتم )
يقسم الدكتور الصلابي موقعة الجمل إلى جولتين فيورد مايلي ( بتصرف ):
الجولة الأولى من موقعة الجمل
كانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر من جمادى الثانية، سنة ست وثلاثين، في منطقة «الزابوقة» قرب البصرة
ونادى على في جيشه،كما نادى طلحة والزبير في جيشهما.وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير، وعرض عليه أن يقتل عليًا، وذلك بأن يندس مع جيشه، ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن بمؤمن، أو أن الإيمان قيَّد الفتك, فالزبير، رضي الله عنه، ليس له غرض في قتل على أو أي شخص آخر بريء من دم عثمان، وقد دعا أمير المؤمنين علىٌّ الزبير، فكلمه بألطف العبارة، وأجمل الحديث.وقيل ذكره بحديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له – أي الزبير - «لتقاتلنه وأنت له ظالما »- وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح.
وبعض الروايات ترجع السبب في انصراف الزبير – رضي الله عنه – قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر في الصف الآخر وهو الذي قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تقتل عمار الفئة الباغية»
ـ وبعضها يرجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه من هذه الفتنة – كما يسميها .
وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى أن ابن عباس، رضي الله عنهما، ذكره بالقرابة القوية من على.(1/137)
ـ وربما كانت عوامل متعددة ومتداخلة أسهمت في خروج الزبير من ساحة المعركة.
فالزبير، رضي الله عنه، كان على وعى لهدفه – وهو الإصلاح – ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع، ثم قتل غيلة على يد ابن جرموز، أما طلحه فقد أصابه سهم غارب ،جعله ينزف حتى مات.
وبخروج الزبير من ميدان المعركة، وبموت طلحة، رضي الله عنهما، وبسقوط القتلى والجرحى من الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى من معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش على، وكان على رضي الله عنه يراقب سير المعركة ويرى القتلى والجرحى في الجانبين، فيتألم ويحزن، وأقبل علىٌّ على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكى ويقول له: يا بُنى، ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عامًا. فقال الحسن: يا أبت، لقد كنت نهيتك عن هذا، فقال على: ما كنت أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟.!
الجولة الثانية من موقعة الجمل
وصل الخبر إلى أم المؤمنين بما حدث من القتال، فخرجت على جملها ومعها كعب الذي دفعت إليه مصحفًا يدع الناس إلى وقف الحرب، تقدمت أم المؤمنين وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس؛ فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل، وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش على قائلاً: يا قوم، أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه. وخشي السبئيون في مقدمة جيش على أن تنجح محاولة كعب فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فلقي وجه الله، ومات والمصحف في يده.
وكان على من الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ولما رأت عائشة عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت:
ـ " أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. "(1/138)
وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان وتلعنهم، وضج أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان وأشياعهم، ولعنهم، وسمع علىٌّ الدعاء عاليًا في جيش البصرة فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال على: ادعوا معي على قتلة عثمان وأشياعهم والعنوهم. وضجّ جيش على بلعن قتل عثمان والدعاء عليهم وقال على:
ـ "اللهم لعن قتلة عثمان في السهل والجبل."
وقتل حول الجمل كثير من المسلمين وقد أصيبت عائشة بحيرة شديدة وحرج فهي لا تريد القتال ولكنه وقع رغمًا عنها، وأصبحت في وسط المعمعة، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب، وكان كل من أخذ بخطام الجمل قتل، فجاء محمد بن طلحة (السجاد) وأخذ بخطامة وقال لأمه أم المؤمنين: يا أماه ما تأمرين؟ فقالت: كن كخيري ابني آدم – أي كف يدك – فأغمد سيفه بعد أن سلة فُقتل رحمه الله.
أدرك أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – بما أوتى من حنكة وقوة ومهارة عسكرية فذة – أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فأمر على نفرًا من جنده منهم محمد بن أبى بكر «أخو أم المؤمنين» وعبد الله بن بديل أن يعرقبا الجمل ويخرجا عائشة من هودجها إلى الساحة ، فعقروا الجمل, واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام على، فأمر به على، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل, وصدق حدس على – رضي الله عنه – العسكري، فما إن أخرجت أم المؤمنين من الميدان، حتى ولوا الأدبار منهزمين.
عن أبي البختري قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرُّوا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخوانا بَغَوا علينا.
موقعة الجمل في البداية والنهاية
وهذا بعض ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية معلقا على أحداثها:(1/139)
ـ " وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين ومن قتل من عسكر علي فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام واختار لها أربعين إمرأه من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت :
ـ "يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه على معتبتي لمن الأخيار"
فقال علي :
ـ "صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والاخرة"
وسار علي معها مودعا ومشيعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها
كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه حريصًا على وحدة الصف، واحترام رعايا الدولة، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين على الذي سأل عن مروان بن الحكم وقال هو آمن فليتوجه حيث شاء، ولكن مروان إزاء هذا الكرم والنبل، لم تطاوعه نفسه أن يذهب حتى بايعه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في الدعاء أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن أعبَد قال: قال علي رضي الله عنه: يا ابن أعبد هل تدري ما حق الطعام؟ قلت: وما حقُّه؟ قال تقول: بسم الله، اللهمَّ بارك لنا فيما رزقنا. ثم قال: أتدري ما شكره إذا فرغت؟ قلت: وما شكره؟ قال تقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا.
موقعة الجمل في شذرات الذهب في أخبارمن ذهب(1/140)
وذكرعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
ـ " سنة ست وثلاثين ، فيها وقعة الجمل وتلخيصها أنه لما قتل عثمان صبراً توجع المسلمون وسقط في أيدي جماعة وعنوا بكيفية المخرج من تقصيرهم فيه فسار طلحة والزبير وعائشة نحو البصرة وكانت عائشة قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها فرجعت إلى مكة وطلبوا من عبد الله بن عمر أن يسير معهم فأبى وقال مروان لطلحة والزبير على أيكما أسلم بالإمارة وأنادي بالصلاة فقال عبد الله بن الزبير على أبي وقال محمد بن طلحة على أبي فكرهت عائشة قوله وأمرت ابن اختها عبد الله بن الزبير فصلى بالناس ولما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم اعترضهم من المدينة ليردهم إلى الطاعة وينهاهم عن شق عصا المسلمين ففاتوه فمضى لوجهه وأرسل ابنه الحسن وعماراً يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة فخطب عمار وقال في خطبته إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها ولما قدمت عائشة وطلحة والزبير البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها ووصل علي خلفهم واجتمع عليه أهل البصرة والكوفة فحاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار بالتحريش ورموا بينهم بالنار حتى اشتعلت الحرب وكان ما كان وبلغت القتلى يومئذٍ ثلاثة وثلاثين ألفاً وقيل سبعة عشر وقتل عشرة من أصحاب الجمل ومن عسكر علي رضي الله عنه نحو ألف وقطع على خطام جمل عائشة سبعون يداً من بني ضبة وهي في هودجها ثم أمر علي بعقره وكان رايتهم فحمى الشر وظهر علي وانتصر وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة ولما ظهر علي جاء إلى عائشة فقال غفر الله لك قالت ولك ما أردت إلا الإصلاح ثم أنزلها في دار البصرة وأكرمها واحترمها وجهزها إلى المدينة في عشرين أو أربعين امرأة ذوات الشرف وجهز معها أخاها محمداً وشيعها هو وأولاده وودعها رضي الله عنهم(1/141)
وقتل يومئذٍ طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي قيل رماه مروان بن الحكم لحقد كان في قلبه عليه وكان هو وهو في جيش واحد .
وولده محمد بن طلحة السجاد كان له ألف نخلة يسجد تحتها في كل يوم ومر به علي صريعاً فنزل ونفض التراب عن وجهه وقال: ـ "هذا قتله بره بأبيه"
وقتل يومئذٍ الزبير بن العوام القرشي الأسدي أحد العشرة قتله ابن جرموز غدراً بوادي السباع وقد فارق الحرب وودعها حين ذكره على قول النبي وأنت ظالم له ولما جاء ابن جرموز إلى علي ليبشره بذلك بشره بالنار وروى ابن عبد البر عن علي كرم الله وجهه أنه قال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من أهل هذه الآية (ونزعنا ما صدورهم من غل ) ولا ينكر ذلك إلا جاهل بفضلهم وسابقتهم عند الله وقد روى عن النبي قال يكون لأصحابي من بعدي هنات يغفرها الله بسابقتهم معي يعمل بها قوم من بعدهم يكبهم الله في النار على وجوههم."
موقعة الجمل في تاريخ الإسلام للذهبي
وجاء في كتاب تاريخ الإسلام للذهبي ما يلي :
وقال الثّوريّ، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال: لمّا ظهر عليّ يوم الجمل قال: أيّها النّاس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثمّ إنّ أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتّى ضرب الدّين بجرانه، ثمّ إنّ أقواماً طلبوا الدّنيا فكانت أمور يقضي الله فيها. إسناده حسن.(1/142)
قال خليفة: قدم طلحة، والزبير، وعائشة البصرة، وبها عثمان بن حنيف الأنصاري والياً لعلي، فخاف وخرج منها، ثم سار علي من المدينة، بعد أن استعمل عليها سهل بن حنيف أخا عثمان، وبعث ابنه الحسن، وعمار بن ياسر إلى الكوفة بين يديه يستنفران الناس، ثم إنه وصل إلىالبصرة، وهو أحد الرؤوس الذين خرجوا على عثمان كما سلف، فالتقى هو وجيش طلحة والزبير، فقتل الله حكيماً في طائفة من قومه، وقتل مقدم جيش الآخرين أيضاً مجاشع بن مسعود السلمي.
ثم اصطلحت الفئتان، وكفوا عن القتال، على أن يكون لعثمان بن حنيف دار الإمارة والصلاة، وأن ينزل طلحة والزبير حيث شاءا من البصرة، حتى يقدم علي رضي الله عنه.
وقال سعيد بن جبير: كان مع علي يوم وقعة الجمل ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهدوا بيعة الرضوان
اصطف الفريقان، وليس لطلحة ولا لعلي رأسي الفريقين قصد في القتال، بل ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطائفتين بالنبل، وشبت نار الحرب، وثارت النفوس، وبقي طلحة يقول: أيها الناس انصتوا، والفتنة تغلي، فقال:
ـ " أف فراش النار، وذئاب طمع"
وقال:
ـ" اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى، إنا داهنا في أمر عثمان، كنا أمس يداً على من سوانا، وأصبحنا اليوم جبلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان مني في أمر عثمان مالا أرى كفارته، إلا بسفك دمي"
فقال مجالد، عن الشعبي قال: رأى علي طلحة في بعض الأودية ملقى، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال:
ـ "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية"
ثم قال:
ـ" إلى الله أشكو عجزي وبجري"
قال الأصمعي: معناه: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي.
مقالة عمارعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
كثر الغمز واللمز من المغرضين في تفسير هذه المقولة ، لكن الدكتورالصلابي غفر الله له ولوالديه يرد بقوله :(1/143)
قال عمار: "والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم هي"
وليس في قول عمار هذا ما يطعن به على عائشة – رضي الله عنها – بل فيه أعظم فضيلة لها، وهي أنها زوجة نبينا في الدنيا والآخرة، فأي فضل أعظم من هذا؟! وأما قوله في الجزء الأخير من الأثر: ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها. فليس بمطعن على أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وبيان ذلك من وجوه:
أ- أن قول عمار هذا يمثل رأيه، وعائشة – رضي الله عنها – ترى خلاف ذلك، وأن ما هي عليه هو الحق، وكل منهما صحابي جليل، عظيم القدر في الدين والعلم، فليس قول أحدهما حجة على الأخر.
ب- أن غاية ما في قول عمار هو مخالفتها أمر الله في تلك الحالة الخاصة، وليس كل مخالف مذمومًا حتى تقوم عليه الحجة بالمخالفة ويعلم أنه مخالف، وإلا فهو معذور إن لم يتعمد المخالفة، فقد يكون ناسيًا أو متأولاً فلا يؤخذ بذلك.
جـ- أن عمارًا – رضي الله عنه – ما قصد بذلك ذم عائشة ولا انتقاصها، وإنما أراد أن يبين خطأها في الاجتهاد نصحًا للأمة، وهو مع هذا يعرف لأم المؤمنين قدرها وفضلها, وقد جاء في بعض روايات هذا الأثر عن عمار أن عمارًا سمع رجلاً يسب عائشة، فقال: اسكت مقبوحًا منبوذًا، والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها.
جاء في كتاب حياة الصحابة للكندهلوي :(1/144)
1ـ أخرج الطبراني عن رِبْعي بن حِرَاش قال استأذن عبد الله ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم وقد عَلِقت عنده بطون قريش وسعيد ابن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد، والله لأُلقِيَنَّ على ابن عباس مسائل يعيَى بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أَبي بكر؟ قال: (رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تالياً، وعن المَيْل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً وإِليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً. فاق أَصحابه ورعاً وكفافاً وزهداً وعفافاً وبرّاً وحِياطة زهادة وكفاءة، فأعقبَ الله مَنْ ثَلَبه اللعائن إِلى يوم القيامة)
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: (رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحلَّ الإيمان، ومعاذَ الضعفاء، ومعقلَ الحنفاء، للخَلْق حصناً، وللناس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً حتى أَظهر الله الدين وفتح الديار، وذُكِر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخَنى وقوراً، وفي الشّدة والرخاء شكوراً، ولله في كل وقت وأَوان ذكوراً، فأَعقب الله من يبغضه اللعنة إِلى يوم الحسرة).قال معاوية رضي الله عنه: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: (رحم الله أبا عمرو، كان والله أَكرم الحَفَدة، وأَوصلَ البررة، وأَصبرَ الغزاة، هجّاداً بالأَسحار. كثيرَ الدموع عند ذكر الله، دائمَ الفكر فيما يعنيه الليلَ والنهارَ، ناهضاً إِلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية، فرّاراً من كل مُوبقة، وصاحب الجيش والبئر، وخَتَن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبَّه الندامة إلى يوم القيامة).(1/145)
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: (رحم الله أَبا الحسن كان والله علمَ الهدى، وكهفَ التقى، ومحل الحجى، وطَوْدَ البهاء، ونور السُّرَى في ظلم الدُّجَى، داعياً إلى المَحَجَّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأُولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلِّقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجَوْر والأَذى. وحائداً عن طرقات الرَّدَى، وخيرَ من آمن واتقى، وسيِّدَ من تقمَّص وارتدى، وأَفضلَ من حجَّ وسعى، وأسمحَ من عدل وسوَّى، وأَخطبَ أَهل الدنيا إِلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحِّدٌ؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تَرَ عيني مثله ولا ترى إِلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنةُ الله والعباد إِلى يوم القيامة).
قال: فما تقول في طلحةَ والزبير؟ قال: (رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفَين، برّين، مسلمَين، طاهرَين، متطهِّرَين، شهيدَين، عالَمَين، زَلا زلَّة والله غافرٌ لهما إِن شاء الله بالنُّصرة القديمة والصُّحبة القديمة والأفعال الجميلة).
قال معاوية: فما تقول في العبَّاس؟ قال: (رحم الله أَبا الفضل كان والله صِنوَ أَبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّة عين صفيِّ الله، كهف الأقوام، وسيّد الأعمام، وقد عَلا بصراً بالأمور ونظراً بالعواقب. قد زانَه علمٌ، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأسباب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبَّ وهب عبدُ المطلب، أفخر من مشى من قريش وركب.
2 ـ أخرج الطبراني عن عامر بن سعد قال: بينما سعد رضي الله عنه يمشي إذ مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقال له سعد:
ـ إنك تشتم أقواماً قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفنَّ عن شتمهم أو لأدعُونَّ الله عز وجل عليك.
قال: يخوفني كأنه نبي.
فقال سعد:
ـ اللهمَّ إن كان يشتم أقواماً قد سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالاً .(1/146)
فجاءت بُخْتِيَّة، فأفرج الناس لها فتخبطته، فرأيت الناس يتبعون سعداً يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق.
وعند الحاكم عن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن رجلاً نال من علي رضي الله عنه، فدعا عليه سعد بن مالك، فجاءته ناقة أو جمل فقتله فأعتق سعد نَسَمة وحلف أن لا يدعو على أحد
معركة صفين (37هـ)
تعد معركة صفين فصلا هاما من فصول الفتنة ، فها نحن نرى المسلمين وقد وقفوا متحاربين في معسكرين ، يقود أحدهم الإمام علي ، والآخر يأتمر بأمر معاوية رضي الله عن الجميع .
صورة مأساوية أخرى تضاف إلى تلك الصور التي يحملها ضميرنا بكل ألم ومرارة ، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانوا بالأمس القريب يدا واحدة على عدوهم ، نراهم في هذه المعركة وقد تربص كل معسكر بالمعسكر الآخر، الرماح موجهة لصدور إخوان الأمس ، والأيدي التي اعتادت أن ترمي العدو بالنبال هاهي توجه نصالها نحو نحورهم ونحور إخوانهم .
فشلت كل المشاورات ، وراحت جهود الوساطة بين الطرفين في محاولات الاصلاح وتوفيق ذات البين أدراج الرياح، وبدا إبليس اللعين مع بطانته منتشيا بلحظة انتصار نادرة ، وراح ينفث في نارالفرقة ليزيدها اشتعالا بعد أن نسج خيوط التمزق بحرفية يحسد عليها. فعثمان الذي استحق القتل أول الأمر أو أول المؤامرة ، يجب أن يكون في وسطها شهيدا ليؤخذ بثأره .
مفارقة مليئة بالألم ، ومسلسل استهداف الإسلام في أعز بنيه ـ وهم صحابة الرسول عليهم رضوان الله ـ وفي أعز ما يملك ـ وهو وحدة الكلمة ـ يمضي على قدم وساق بلا ملل ولا كلل .
قميص ملطخ بالدماء الطاهرة لذي النورين ، وأصابع زوجته الفاضلة الوفية يطيران وسط طوفان الغضب من المدينة إلى الشام ، ليستقر فوق خشبات المنبر بالمسجد الكبيربدمشق، ألا يصلحان وقودا للنار؟..والمسلمون الذين فجعوا في خليفتهم على يد الغوغاء كيف يمكنهم حمل شعلة الغضب وصب جامها فوق رؤوس القتلة ..؟!(1/147)
أسئلة مشروعة ، وغضب له مبرره القوي ، ودعوى للقصاص لابد منها ، ولكن ...
متى تطرح هذه الأسئلة ؟.. ولمن توجه..؟
وهذا الغضب العارم المبرر متى وكيف يمكن التنفيث عنه ..؟
ودعوى القصاص التي لامناص عنها من يطرحها ؟.. ومن يقوم بتنفيذها ..؟
أسئلة أخرى كانت في حاجة إلى الحكمة في طرحها ، وإلى الأناة في الرد عليها،ولكن هيهات هيهات ...
إن الفرق الكبير والجوهري بين موقعة الجمل وموقعة صفين هو أن المتحاربين في موقعة الجمل كان كل معسكر حريص على أرواح المعسكر الآخر، ولذا بعد قليل من المشاورات واللقاءات تم الصلح ، ولكن السبئية وأذنابهم فعلوا فعل إبليس كما أسلفنا فدارت دائرة الحرب ، وحتى أثناء الحرب كان لصوت الحكمة نصيب فتراجع طلحة والزبير ، لكن في صفين كان الوضع على النقيض من ذلك تماما .
ويرصد لتا الدكتور الصلابي الوضع بدقة فيقول :
تسلسل الأحداث التي قبل المعركة
خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها, وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان شامية فورد النعمان على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضًا على الأخذ بثأره فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر ولا غرابة بعد هذا إطلاقًا أن نرى إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام بالإصرار على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة
دوافع معاوية في عدم البيعة: امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص على – رضي الله عنه – من قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة, وقالوا: لا نبايع من يؤوى القتلة وتخوفوا على أنفسهم من قتلة عثمان الذين كانوا في جيش على، فرأوا أن البيعة لعلى لا تجب عليهم، وأنهم إذا قاتلوا على ذلك كانوا مظلومين.(1/148)
وكان معاوية – رضي الله عنه – يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولى دمه، والله يقول: " وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا" [الإسراء:33]
لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان وأنه قتل مظلومًا على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس.
لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبى سفيان بيعة على بن أبى طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليس لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.
قال الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام:
حدثني خلاد بن يزيد الجعفي، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الشعبي -أو أبي جعفر الباقر شك خلاد- قال: لما ظهر أمر معاوية دعا علي رضي الله عنه رجلاً، وأمره أن يسير إلى دمشق، فيعتقل راحلته على باب المسجد، ويدخل بهيئة السفر، ففعل الرجل، وكان قد وصاه بما يقول، فسألوه: من أين جئت؟ قال: من العراق: قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت علياً قد حشد إليكم ونهد في أهل العراق.
فبلغ معاوية، فأرسل أبا الأعور السلمي يحقق أمره، فأتاه فسأله، فأخبره بالأمر الذي شاع، فنودي: الصلاة جامعة، وامتلأ الناس في المسجد، فصعد معاوية المنبر وتشهد ثم قال: إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم، ولم يرفع إليه أحد طرفة، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك الرأي وعلينا أم فعال -يعني الفعال- فنزل معاوية ونودي في الناس: "اخرجوا إلى معسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أحل بنفسه"
المراسلات للصلح بين علي ومعاوية
ومن كتاب عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب الدكتور الصلابي ـ بتصرف:(1/149)
ـ ومن المعروف أن الإمام قد بعث على رضي الله عنه كتبًا كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طُومارًا مع رجل، فدخل به على علىّ فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القَوَد,كلهم موتور تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال على: اللهم إنيّ أبرأ إليك من دم عثمان.
بعد معركة الجمل أرسل أمير المؤمنين علىٌّ جرير بن عبد الله إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، فلمّا أعطاه كتاب علي طلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم.
فخرج على رضي الله عنه بجيشه حتى وصل قرب قرقيسياء ، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم على نحوه.
القتال على الماء
وصل جيش على رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعًا فسيحًا سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعًا ما، فوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى على رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل على إلى الأشعت بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين انتصر فيها الأشعت واستولى على الماء ـ وقد وردت رواية تنفى وقوع القتال في أصله ـ وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين المسلمين، إذ استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفَين.
الموادعة بينهما ومحاولات الصلح(1/150)
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعًا في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه.
وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبى مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين .
ثم عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، إلا أن عليًا أعلن في جيشه أن غدًا الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ معاوية يخبره بذلك.
يقول شاهد عيان:
ـ اقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعضًا، ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم، ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكادمنا بالأفواه.
ليلة الهرير يوم الجمعة(ثالث أيام القتال)
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه، ثم يقومون فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك، وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام.
الدعوة إلى التحكيم
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعت بن قيس زعيم كندة في أصحابه ليلة الهرير فقال:(1/151)
ـ " قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ؛ فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحرب، ولكني رجل مسن، وأخاف على النساء والذرارى غدًا، إذا نحن فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ."
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال:
ـ أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلن أهل فارس على أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهي، ثم قال لأصحابه:
ـ اربطوا المصاحف على أطراف القنا.(1/152)
وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال ـ وإنما كانت رغبة كلا الفريقين ـ ولن يضير معاوية أو عمرًا شيء أن تأتي أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة، إنما يزعج ذلك السبئية الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركامًا من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل – كالمناداة لتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة – جريمة ومؤامروحيلة، ونسبوا لأمير المؤمنين على أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح، على أنه قال: وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنًا ومكيدة. ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص – رضي الله عنه – حتى لم تعد تجد كتابًا من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهما، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدين وغيرهم كثير، مما ساهم في تشويه الحقائق.
إن رواية أبى مخنف تفترض أن عليًا رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد.
وهذه الرواية تحمل سبًا من على لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك، فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين على؟! ويكفى للرواية سقوطًا أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه، ولا تقف أمام روايات أخرى لا يتهم أصحابها بهوى مثل ما يرويه الإمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبى ثابت قال:(1/153)
ـ " أتيت أبا وائل أحد رجال على بن أبى طالب فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علىًّ المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" [آل عمران:23]، فقال على:
ـ نعم، أنا أولى بذلك.
وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار وينسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين؛ ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرارالفتنة.
إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة على والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاها جماعيًا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات.
إن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه قَبِل وقف القتال في صفين، ورضي التحكيم وعدَّ ذلك فتحًا ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف، وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم والاستجابة له أسهمت فيها عدة عوامل منها:(1/154)
أ- أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لإيقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية أو المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتفيد وجهات نظر كل منهما، فلم تُجد هي الأخرى شيئًا، وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى على رضي الله عنه يطالبه بوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقى منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقى .
ب- تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلبًا يرنو إليه الجميع.
جـ- الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش على في اتجاه الموادعة، وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا عن الموادعة ، وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص، والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من ابتكار عمرو بن العاص، بل رُفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضى البصرة بسهم وقُتل.
د- الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، قال تعالى: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ" [النساء:59]
مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين
كان عمّار بن ياسر، رضي الله عنه، قد جاوز الرابعة والتسعين عامًا، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم، ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام. فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة.(1/155)
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فقال ضمن ما قاله رضي الله عنه:
ـ من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسبًا، فإني لأرى صفًا يضربكم ضربًا يرتاب منه المبطلون، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، ولعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل.
وأضاف: أزفت الجنة وزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسبًا.
فكان عمارعاملاً مهمًا من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفًا وضراوة وتضحية في القتال، حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم.
ويعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار، رضي الله عنه، والذي بشره بمقتله على يد الفئة الباغية من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في السيرة النبوية لابن هشام أثناء بناءالمسجد بالمدينة ما يلي:
عمّار والفئة الباغية : قال : فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللَّبِن ، فقال يا رسول الله قتلوني ؟ يحملون علىّ ما لا يحملون . قالت أم سلمة زوجٍ النبي صلى الله عليه وسلم : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفُض وَفْرَته بيده : وكان رجلا جَعْدا، وهو يقول:
ـ "ويح ابن سُمَية ليسوا بالذين يقتلونك. إنما تقتلك الفئةُ الباغية "
وقد جاء في البخاري عن أبى سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: كنا نحمل لبنة؛ وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن.
وقال ابن عبد البر:
ـ تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تقتل عمارًا الفئة الباغية»،(1/156)
وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافا سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع هذا الحديث عن عمار.
وقد كان لمقتل عمّار، رضي الله عنه – أثر في معركة صفين، فقد كان علمًا لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار، واستمر في القتال حتى قُتل, وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية أيضا، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبا الأعور السلمي، عند شريعة الماء يسقون. وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عَمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده:
ـ لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «تقتله الفئة الباغية»
.فقال عمرو لمعاوية:
ـ لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
فقال معاوية:
ـ اسكت فوالله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به
فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام انتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو ابن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتله الفئة الباغية». فقام عمرو بن العاص فزعًا يرجع حتى دخل على معاوية فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قُتل عمار. قال معاوية: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «تقتلك الفئة الباغية».فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحن قتلناه؟! إنما قتله على وأصحابه، وجاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا .
وفي رواية صحيحة أيضًا، جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمّار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته؛ فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطب به أحدكم نفسًا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله يقول: «تقتله الفئة الباغية».(1/157)
قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبى شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حيًا ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل .
من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – حريص على قول الحق والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عمارًا، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة؛ ولا شك أن مقتل عمّار – رضي الله عنه – قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية – رضي الله عنه – أوّل الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمارًا هم الذين جاءوا به إلى القتال. وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعًا لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب، وقد قال رضي الله عنه: ـ"وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة"
وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من أصح الأحاديث.
وقال القرطبى:
ـ وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل.. على رضي الله عنه، كان إمامًا حقًا في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه، وقال أيضًا: وقد أجاب على رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه.
وقال ابن كثير:
ـ فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جدًا، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء.
وقال ابن تيمية:
ـ وهذا القول لا أعلم له قائلاً من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقه.
وعن عمار يقول الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام:(1/158)
وقال حارثة بن مضرب: قرئ علينا كتاب عمر: إني بعثت إليكم -يعني إلى الكوفة- عمار بن ياسر أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بهما على نفسي.
وعن ابن عمر قال: رأيت عماراً يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر، هلموا إلي، وأنا أنظر إلى أذنه وقد قطعت، فهي تذبذب، وهو يقاتل أشد القتال.
وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عمار بن ياسر اشترى قتا بدرهم، فاستزاد حبلاً، فأبى، فجاذبه حتى قاسمه نصفين، وحمله على ظهره وهو أمير الكوفة.
وقد روي أنهم قالوا لعمر: إن عمار غير عالم بالسياسة، فعزله.
قال الشعبي: قال عمر لعمار: أساءك عزلنا إياك؟ قال: لئن قلت ذاك، لقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني.
وقال نوفل بن أبي عقرب: كان عمار قليل الكلام، طويل السكوت، وكان عامة أن يقول: عائذ بالرحمن من فتنة، عائذ بالرحمن من فتنة، قال: فعرضت له فتنة عظيمة.
وعن ابن عمر قال: ما أعلم أحداً خرج في الفتنة يريد الله إلا عمار ابن ياسر، وما أدري ما صنع.
وقال أيوب، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "قاتل عمار وسالبه في النار".
أخرج أبو نعيم في الحلية، وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبْزَى رضي الله عنه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال وهو يسير إلى صفين على شط الفرات: اللمَّ إنَّه لو أعلم أنه أرضى لك عن أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردّى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد ناراً عظيمة فأقع فيها فعلت. اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أُلقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إلا أريد وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيبني وأنا أريد وجهك.
عدد القتلى(1/159)
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى، فذكر ابن أبى خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفًا، من أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألف مقاتل، كما ذكر ابن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفًا أو أكثر، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقة، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة ومهما كان القتال عنيفًا، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية آلاف وخمسمائة، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة.
تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم
وقد وقف علىٌّ على قتلاه وقتلى معاوية فقال:غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعًا, وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين على ومعاوية، خرج على فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلىّ وإلى معاوية.
موقف لمعاوية مع ملك الروم
قال ابن كثير:
ـ "وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحرهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب على تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لاصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك مع جميع بلادك ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت"
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة وهذا يدل على عظمة نفس معاوية وحميته للدين.
قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين(1/160)
قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام فاجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.. فاعترضه على إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف على وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي. وذكر القصة – أيضًا – ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلى في الروض الأنف. وقول على: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرحِمَ إلى أن قال:... ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع على – رضي الله عنه – يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر السهمي كما رواه ابن الكلبي وغيره:
والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي: فراوي الرواية الأولى نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان:
نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جلد، تركوه، قال عنه العقيلى: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير.
وقال أبو خيثمة: كان كذابًا.
وقال عنه ابن حجر:
كان رافضيًا غاليًا..ليس بثقة ولا مأمون.
وأما الكلبي؛ هشام بن محمد بن السائب الكلبي؛ فاتفقوا على غلوه في التشيع، قال الإمام أحمد:
ـ "من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه."
وقال الدار قطني: متروك.
وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة, وتعد هذه القصة أنموذجًا لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار – رضي الله عنهم – في غفلة من أهل السنة .
نهى أمير المؤمنين على عن شتم معاوية ولعن أهل الشام(1/161)
روى أن عليًا- رضي الله عنه – لما بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عما يبلغني عنكما، فأتيا فقالا:
ـ يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟.
قال:
ـ بلى وربّ الكعبة المسدّنة.
قالا:
ـ فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟
قال:
ـ كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَّ من جهله ويرعوى عن الغيّ من لجج به.
وأما ما قيل من أن عليًا كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليًا وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنّ الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا أكثر حرصًا من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (من لعن مؤمنًا فهو كقتله) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بطعّان ولا بلعّان» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة»).كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته.
اعتذار عبد الله بن عمرو إلى الحسن بن علي
وأخرج البزّار عن رجاء بن ربيعة قال: كنت جالساً بالمدينة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في حلقة فيها أبو سعيد وعبد الله بن عمرو، فمر الحسن بن علي فسلَّم، فرد عليه القوم وسكت عبد الله بن عمرو، ثم اتَّبَعه فقال: وعليك السلام ورحمة الله، ثم قال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء، والله ما كلمته منذ ليالي صِفِّين؛ فقال أبو سعيد:
ـ ألا تنطلق إليه فتعتذر إليه؟
قال: نعم.(1/162)
فقام فدخل أبو سعيد فاستأذن فأذن له، ثم استأذن لعبد الله بن عمر فدخل، فقال أبو سعيد لعبد الله بن عمرو: حدَّثنا بالذي حدَّثتنا به حيث مرّ الحسن.
فقال: نعم، أنا أحدثكم إنه أحب أهل الأرض إلى أهل السماء.
فقال له الحسن:
ـ إذ علمت أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلم قاتلتنا أو كثَّرت يوم صِفِّين؟
قال: أما إني والله ما كثَّرت سَواداً ولا ضربت معهم بسيف، ولكني حضرت مع أبي أو كلمة نحوها. قال:
ـ أما علمت أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله؟
قال: بلى، ولكني كنت أسرد الصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكاني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل قال:
ـ " «صم وأفطر، وصلِّ ونم، فإني أنا أصلِّي وأنام وأصوم وأفطر». قال لي: «يا عبد الله. أطع أباك»، فخرج يوم صِفِّين وخرجت معه. قال الهيثمي رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح غير هاشم بن البريد وهو ثقة. انتهى.
نشأة الخوارج والتعريف بهم
حين تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين؛ وهو أن يُحكِّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علىّ أبا موسى الأشعري، رضي الله عنهم جميعًا، وكُتبت بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ
عرَّف أهل العلم الخوارج بتعريفات منها ما بيَّنه أبو الحسن الأشعري:
ـ أن اسم الخوارج يقع علىتلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وبيَّن أن خروجهم على عليّ هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم, حيث قال رحمه الله تعالى: والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على عليّ لما حكم.(1/163)
ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج, ومن تلك الألقاب الحرورية, والشراة, والمارقة, والمحكمة وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة, فإنهم ينكرونه أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
ومن أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه أبوسعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمًا, إذ أتاه ذو الخويصرة هو رجل من تميم, فقال: يا رسول الله, اعدل, فقال: «ويلك, ومن يعدل إذا لم أعدل, قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل», فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه, فقال: «دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم, يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى رصافه, فما يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى نفسه, وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء, وقد سبق الفرث والدم, آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة, أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس»
انحياز الخوارج إلى حروراء ومناظرة ابن عباس لهم
انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش علي رضي الله عنه أثناء عودته من صفين إلى الكوفة, قدر عددها في رواية ببضعة عشر ألفًا .
وكان أمير المؤمنين عليّ حريصًا على إرجاعهم إلى جماعة المسلمين, فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم قال لهم: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه, قالوا:
ـ ثلاث, قلت: ما هن؟ قالوا:
أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله, وقال الله: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ" ما شأن الرجال والحكم؟, قلت: هذه واحدة, وأما الثانية:(1/164)
فإنه قاتل ولم يَسب ولم يغنم, فإن كانوا كفارًا لقد حل سبيهم, ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتلهم, قلت: هذه اثنتان
فما الثالثة؟, قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين, فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟, قالوا: حسبنا هذا, قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترجعون؟, قالوا: نعم, قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله, فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم, فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه, أرأيتم قول الله تبارك وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنْكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ" [المائدة:95], وكان من حكم الرجال, أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين, وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى, بل هذا أفضل, قلت: وفي المرأة وزوجها" وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا" [النساء:35], فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة, أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم, قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم, أفتسبون أمكم عائشة, تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟, فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم, وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" [الأحزاب:6], فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج, أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.(1/165)
فقال: وأما محا نفسه من أمير المؤمنين, فأنا آتيكم بما تضرون, إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين, فقال لعلي: «اكتب يا علي ما صالح عليه محمد رسول الله», قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امح يا علي, اللهم إنك تعلم أني رسول الله, امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله», والله لرسول الله خير من علي, وقد محا نفسه, ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة, أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم, فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم, فقاتلوا على ضلالتهم.
وقال لهم علي: لكم عندنا ثلاثًا:
لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد.ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا.ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.
واجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين واستقروا بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة.
ولما تفرق الحكمان على غير رضا, كتب أمير المؤمنين علي إلى الخوارج أن الحكمين تفرقا على غير رضا، فارجعوا إلى ما كنتم عليه وسيروا بنا إلى قتال أهل الشام، فأبوا ذلك.
معركة النهروان (38هـ)
كانت الشروط التي أخذها أمير المؤمنين علي على الخوارج أن لا يسفكوا دمًا، ولا يروعوا آمنًا، ولا يقطعوا سبيلاً، وإذا ارتكبوا هذه المخالفات فقد نبذ إليهم الحرب, ونظرًا لأن الخوارج يكفِّرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله, فقد بدؤوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام.(1/166)
وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات, ومما صح من هذه الروايات ما حدث به شاهد عيان كان من الخوارج ثم تركهم حيث قال: صحبت أصحاب النهر, ثم كرهت أمرهم, فكتمته خشية أن يقتلوني, فبينما أنا مع طائفة منهم, إذ أتينا على قرية وبيننا وبين القرية نهر, إذ خرج رجل من القرية مذعورًا يجر رداءه, فقالوا له: كأننا روعناك؟, قال: أجل, قالوا: لا روع لك, فقلت: والله يعرفونه ولم أعرفه, فقالوا: أنت ابن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال: نعم, قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن النبي صلى الله عليه وسلم؟, قال:
سمعته يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فقال: «القاعد فيها خير من القائم, والقائم فيها خير من الماشي, والماشي فيها خير من الساعي, فإن أدركتك فكن عبد الله المقتول».
فأخذوه وسُرِّيَّة له معهم, فمر بعضهم على ثمرة ساقطة من نخلة, فأخذها فألقاها في فيه, فقال بعضهم: ثمرة معاهد فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه فقال بعضهم: خنزير معاهد فبم استحللته؟, فقال عبد الله بن خباب: ألا أدلكم علىما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟ قالوا: نعم, قال: أنا.
ولكنهم قدموه إلى النهر فضربوا عنقه، يقول الراوي: فرأيت دمه يسيل على الماء, كأنه شراك نعل اندفر بالماء حتى توارى عنهم, ثم دعوا بالسرية وهي حبلى، فبقروا عما في بطنها،يقول الراوي: لم أصحب قومًا هم أبغض إليّ صحبة منهم, حتى وجدت خلوة فانفلت.
أثار هذا العمل الرعب بين الناس وأظهر مدى إرهابهم ببقر بطن هذه المرأة وذبحهم عبد الله كما تُذبح الشاة, ولم يكتفوا بهذا بل صاروا يهددون الناس قتلاً، حتى إن بعضهم استنكر عليهم هذا العمل قائلين: ويلكم ما على هذا فارقنا عليًا.(1/167)
بالرغم من فظاعة ما ارتكبه الخوارج من منكرات بشعة, لم يبادر أمير المؤمنين علي إلى قتالهم،بل أرسل إليهم أن يسلموا القتلة لإقامة الحد عليهم،فأجابوه بعناد واستكبار: كلنا قتلة!
فسار إليهم بجيشه الذي قد أعده لقتال أهل الشام في شهر محرم من عام 38هـ, وعسكر على الضفة الغربية لنهر النهروان, والخوارج على الضفة الشرقية منه.
وقال رضي الله عنه في يوم النهروان: أمرت بقتال المارقين.. وهؤلاء المارقون.
وأمر علي رضي الله عنه جيشه أن لا يبدؤوا بالقتال، حتى يجتاز الخوارج النهر غربًا،وأرسل علي رضي الله عنه رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا, وأرسل إليهم البراء بن عازب رضي الله عنه يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا، ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله، واجتازوا النهر, وعندما بلغ الخوارج هذا الحد وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء، ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق وأصروا على القتال، قام أمير المؤمنين بترتيب الجيش وتهيئته للقتال.
وأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم:
ـ من جاء إلى هذه الراية فهو آمن, ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن ، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا. فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا أربعة آلاف، فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي،
وزحف الخوارج إلى علي يقولون: لا حكم إلا لله, الرواح الرواح إلى الجنة ، فنهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول, وقُتل أمراؤهم.
فقتلى أصحاب علي فيما رواه مسلم في صحيحه, وعن زيد بن وهب: رجلان فقط. وفي رواية بسند حسن قال: وقتل من أصحاب علي اثنا عشر أو ثلاثة عشر.وأما قتلى الخوارج, فتذكر الروايات أنهم أصيبوا جميعًا, ويذكر المسعودي أن عددًا يسيرًا لا يتجاوز العشرة, فروا بعد الهزيمة الساحقة.
ذو الثدية أو المخدج وأثر مقتله على جيش علي رضي الله عنه(1/168)
ظهرت روايات مختلفة في تحديد شخصية ذي الثدية, وهذه الرواية منها ما هو ضعيف الإسناد ومنها ما هو قوي, وقد جاء في الأحاديث النبوية أوصاف ذو الثدية، فمن ذلك أنه أسود البشرة،وفي رواية حبشي, وأنه مخدج اليد،أي ناقص اليد, ويده صغيرة مجتمعة،فهي من المنكب إلى العضد فقط, أي بدون ذراع, وفي نهاية عضده مثل حلمة الثدي وعليها شعيرات بيض, وعضده ليست ثابتة, كأنها بلا عظم إذ إنها تدردر أي تتحرك تذهب وتجئ،أما مخدج اليد, أو مودون اليد أو مثدون اليد، فكلها بمعنى واحد وهو ناقص اليد,كان علي رضي الله عنه يتحدث عن الخوارج منذ ابتداء بدعتهم، وكثيرًا ما كان يتعرض إلى ذكر ذي الثدية،وأنه علامة هؤلاء، ويسرد أوصافه, وبعد نهاية المعركة الحاسمة أمر علي رضي الله عنه أصحابه بالبحث عن جثة المخدج، لأن وجودها من الأدلة على أن عليًا رضي الله عنه على حق وصواب، وبعد مدة من البحث مرت على عليّ وأصحابه وجد أمير المؤمنين علي جماعة مكومة بعضها على بعض عند شفير النهر قال: أخرجوهم، فإذا المخدج تحتهم جميعًا مما يلي الأرض، فكبر عليّ ثم قال: صدق الله، وبلغ رسوله وسجد سجود الشكر, وكبر الناس حين رأوه واستبشروا.
أويس القرني رضي الله عنه
جاء في كتاب ( تاريخ الإسلام ) للذهبي:
قال هشام الدّستوائيّ، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أسير بن جابر قال: كان عمر إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه غلاّ موضع درهم؟ قال: نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم، فقال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثمّ من قرن، كان به برص فبرا منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل "(1/169)
فاستغفر لي، فاستغفر له، ثمّ قال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصوا بك خيراً؟ فقال: لأن أكون في غبراء النّاس أحب إليّ، فلمّا كان في العام المقبل حجّ رجل من أشرافهم، فسأله عمر عن أويس، كيف تركته؟ قال: رثّ البيت قليل المتاع، قال عمر: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " يأتي عليكم أويس مع أمداد اليمن، كان به برص فبرأ منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فلمّا قدم الرجل أتى أويساً فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، وقال: لقيت عمر بن الخطّاب؟ قال: نعم، قال: فاستغفر له، قال ففطن له النّاس، فانطلق على وجهه.
قال أسير بن جابر: فكسوته برداً، فكان إذا رآه إنسان قال: من أين لأويس هذا. رواه مسلم بطوله.
وقال شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لمّا كان يوم صفّين، نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب عليّ: " أفيكم أويس القرنيّ "؟ قالوا: نعم، فضرب دابّته حتى دخل معهم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ـ"خير التّابعين أويس القرنيّ "
هام : وجود عمار رضي الله عنه في جيش علي وقتله على يد جنود معاوية ، بالإضافة إلى وجود المخدج في قتلى الخوارج بالنهروان ، بالاضافة إلى وجود الصحابي الجليل أويس القرني في جيش الإمام علي يدل بما لايدع مجالا للشك بأن الحق كان يمضي في ركاب علي رضي الله عنه.
ويعلق الدكتور الصلابي على موضوع التحكيم بقوله :
التحكيم(1/170)
تعد قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير من الكُتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصًا أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا ، ووصفوا عمرو بن العاص، رضي الله عنه، بأنه كان صاحب مكر وخداع.
وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها؛ وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها. وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث إن أصله حق لا شك فيه.
إن حياة أبى موسى، رضي الله عنه، منذ إسلامه قضاها في نشر الإسلام وتعليم الناس العلم، وخاصة القرآن الذي اشتهر بقراءته، والجهاد في سبيل الله والحرص عليه، والفصل في الخصومات، ونشر العدل وضبط الولايات عن طريق القضاء والإدارة، ولا شك أن هذه المهامّ صعبة وتحتاج إلى مهارات وصفات فريدة من العلم والفهم والفطنة والحذق والورع والزهد، وقد أخذ منها أبو موسى بنصيب وافر، فاعتمد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الأربعة من بعده رضوان الله عليهم, فهل يتصور أن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم؟!
إن اختيار أبى موسى –رضي الله عنه – حكمًا عن أهل العراق من قبل علىّ- رضي الله عنه – وأصحابه ينسجم تمامًا مع الأحداث، فالمرحلة التالية هي مرحلة الصلح وجمع كلمة المسلمين، وأبو موسى الأشعري كان من دعاة الصلح والسلام، كما كان في الوقت نفسه محبوبًا، مؤتمنًا من قبائل العراق، وقد ذكرت المصادر المتقدمة أن عليًا هو الذي اختار أبا موسى الأشعري، يقول خليفة في تاريخه:(1/171)
ـ وفيها – سنة 37هـ- اجتمع الحكمان: أبو موسى الأشعري من قبل علىّ، وعمرو بن العاص من قبل معاوية.
ويقول ابن سعد:
ـ فكره الناس الحرب وتداعوا على الصلح، وحكّموا الحكمين، فحكَّم علىٌّ أبا موسى، وحكّم معاويةُ عمرو بن العاص.
ولهذا يمكن القول إن الدور المنسوب للقراء في صفين من مسئولية وقف القتال والتحكيم، وفرض أبى موسى حكمًا ليست إلا فرية تاريخية اخترعها الإخباريون الشيعة الذين ما انقطعوا عن تزوير وتشويه تاريخ الإسلام بالروايات الباطلة, وكان يزعجهم أن يظهر علي رضي الله عنه بمظهر المتعاطف مع معاوية وأهل الشام, وأن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليديين ومن جهة أخرى يحملون المسئولية لأعدائهم الخوارج ويتخلصون منها, ويجعلون دعوى الخوارج تناقض نفسها, فهم الذين أجبروا عليًا على قبول التحكيم, وهم الذين ثاروا عليه بسبب قبول التحكيم.
كما أن شخصية عمروبن العاص رضي الله عنه الحقيقية أنه رجل مبادئ، غادر المدينة حين عجز عن نصرة عثمان وبكى عليه بكاءً مُرًا حين قتل، فقد كان يدخل في الشورى في عهد عثمان من غير ولاية، ومضى إلى معاوية, رضي الله عنهما, يتعاونان معًا على حرب قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد لقد كان مقتل عثمان كافيًا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين, وكان لابد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرأوا على حرم رسول الله وقتلوا الخليفة على أعين الناس, وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟. وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عمرًا همه السلطة والحكم.(1/172)
هذه هي الصورة الصادقة عن عمرو رضي الله عنه والمتتالية مع شخصيته وخط حياته وقربه من عثمان، أما الصورة التي تمسخه إلى رجل مصالح وصاحب مطامع وراغب دنيا فهي الرواية المتروكة الضعيفة, رواية الواقدي عن موسى بن يعقوب، وقد تأثرت بالروايات الضعيفة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين, فأهووا بعمرو إلى الحضيض, كالذي كتبه محمود شيت خطاب وعبد الخالق سيد أبو رابية, وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد ويستخف بقارئه, ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنهما انتهازيان صاحبا مصالح ولو أجمع الناقدون التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقاد شيئًا, فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة:
ـ " وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار وصحة هذه الكلمات وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين, كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما ولولاه لما كان بينهما اتفاق."
قال الذهبي في تاريخه ، قال أبو صالح السمان: قال علي لأبي موسى: أحكم ولو على حز عنقي.
نص وثيقة التحكيم
كتب يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين
" بسم الله الرحمن الرحيم
1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما, فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2- قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.(1/173)
4- وإن عليًّا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا.
5- على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله, أن يتخذا القرآن إمامًا ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًاوما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله الجامعة،لا يعتمدان لها خلافًاولا يبغيان فيها بشبهة.
6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضى به راض أو سخط ساخط, وإن الإمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8- فإن توفى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9- وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.
10- وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
11- وقد وجبت القضية على ما سميناه في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا،فإن خالفا وتعديا, فالأمة بريئة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة.
12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل والسلاح موضوعة والسبل آمنة والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بين أهل العراق والشام.
14- ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراض منهما.
15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأي الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها،وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.(1/174)
16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب.
17- وعلى الأمة عهد الله وميثافه في هذا الأمر، وهم جميعًا يد واحدة على ما أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا"
وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين, ابنا علي، وعبد الله بن عباس،وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب, والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث وآخرون.
قصة التحكيم المشهورة وبطلانها
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم, وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها, فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها, وقلما تجد أحدًا وقف عندها فاحصًا محققًا، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل، وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، إذ أن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه:
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة من هذه الروايات...... رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه, وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص, فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أذرح, وحكموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضون بحكمهما, فحكم علي أبا موسى الأشعري, وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس, فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل, واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كانوا معه, وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله, ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه.(1/175)
ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين, واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية, فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليًا ومعاوية, ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية, فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما, وبايع أهل الشام معاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به, وهو أبو مخنف لوط بن يحيى, ضعيف ليس بثقة, وإخباري تالف غالى في الرفض.
2 ـ وردت رواية تنقض تلك الروايات تمامًا, وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصرًا بسند رجاله ثقات, وأخرجه ابن عساكر معلولاً, عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له:
ـ إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا, ولا والله ما كان ما قالوا, ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه من النفر الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة, وإن يستغن عنكما فطال ما استغنى أمر الله عنكما ، وقد روى أبو موسى عن تورع عمرو ومحاسبته لنفسه, وتذكره سيرة أبي بكر وعمر, وخوفه من الأحداث بعدهما.
3ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه, فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي
فقد أخرج يحيى بن سليمان الجعفي بسند جيد, عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًا في الخلافة, أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر, ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا وأنا ابن عمه ووليه أطالب بدمه؟ فأتوا عليًا فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له, فأتوا عليًا فكلموه فلم يدفعهم إليه(1/176)
فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختيار خليفة أو عزله .
وجاء في كتاب (دفع البهتان عن معاوية بن أبي سفيان )تأليف أبو عبد الله الذهبي
يقول إمام الحرمين الجويني في لمع الأدلة:
ـ " إن معاوية و إن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته و لا يدعيها لنفسه ، و إنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ، و كان مخطئاً "
أما شيخ الإسلام فيقول :
ـ بأن معاوية لم يدّع الخلافة و لم يبايع له بها حتى قتل علي ، فلم يقاتل على أنه خليفة ، و لا أنه يستحقها ، و كان يقر بذلك لمن يسأله . مجموع الفتاوى ( 35/72) .
و يورد ابن كثير في البداية و النهاية (7/360)
عن ابن ديزيل - هو إبراهيم بن الحسين بن علي الهمداني المعروف بابن ديزيل الإمام الحافظ (ت 281 هـ) انظر : تاريخ دمشق (6/387) و سير أعلام النبلاء (13/184-192) و لسان الميزان لابن حجر (1/48) - ، بإسناد إلى أبي الدرداء و أبي أمامة رضي الله عنهما ، أنهما دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ! علام تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك و من أبيك إسلاماً ، و أقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحق بهذا الأمر منك . فقال : أقاتله على دم عثمان ، و أنه آوى قتلة عثمان، فاذهبا إليه فقولا : فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام
و يقول ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ( ص 325) :
و من اعتقاد أهل السنة و الجماعة أن ما جرى بين معاوية و علي رضي الله عنهما من الحرب ، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي .. فلم تهج الفتنة بسببها ، و إنما هاجت بسبب أن معاوية و من معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي .(1/177)
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتاب الوحي ، و من أفاضل الصحابة ، و أصدقهم لهجة ، و أكثرهم حلماً فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي و يريق دماء المسلمين من أجل ملك زائل ، و هو القائل : (والله لا أخير بين أمرين ، بين الله و بين غيره إلا اخترت الله على ما سواه ) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/151) .
ويقول ابن حزم في هذا الصدد:
ـ بأن عليًا قاتل معاوية لامتناعه عن تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجب طاعته ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك، وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط وفهم الخلاف على هذه الصورة –وهي صورته الحقيقية- بيَّن إلى أي مدى تخطئ الروايت السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين.
إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية, ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما, وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان, وليس هذا من أمر الخلافة في شيء.(1/178)
4- إن الشروط التي يجب توافرها في الخليفة هي العدالة والعلم, والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح وأن يكون قرشيًا وقد توافرت هذه الشروط في علي رضي الله عنه, فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة –ولا شك في ذلك- وقد بايعه المهاجرون والأنصار؛ أهل الحل والعقد, وخصومه يقرون له بذلك, فقول معاوية السابق يدل عليه بأن «الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة, فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة, فإن عقد الإمام لازم،لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه, ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى
وإذن فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات؛ كل من لم يرض بإمامه خلعه, فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده, وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة, وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك, فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته, وما ظهر منه قط إلا العدل, والجد, والبر والتقوى والخير.
5- إن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة, وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة لهم, فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة, لاشك أن الأحوال ستزداد سوءًا, والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا؟ ولهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.(1/179)
6- إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى: وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك, فكان ذلك إذنًا في أن الخلافة لا تعدو هؤلاء إلى غيرهم ما بقى منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص, وقد اعتزل الأمر ورغب عن الولاية, والإمارة, وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره..؟
7- أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم: والسؤال: ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم, فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك, مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي, أعلم الناس بأمر الشام أنه قال:
ـ كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير, فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي.
قال الطبري في آخر حوادث سنة أربعين:
ـ وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء .
ـ وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع..... . وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول, فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»
والنصوص في هذا المعنى كثيرة. ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك.(1/180)
8ـ ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة وإلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان, ولم يكن معاوية مدعيًا للخلافة, ولا منكرًا حق علي فيها كما تقرر سابقًا, وإنما كان ممتنعًا عن بيعته, وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون, مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقى واليًا فيها زهاء عشرين سنة, وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه «أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين»: قال أبو بكر محمد الطيب الأشعري –الباقلاني- في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه –علي بن أبي طالب- وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه, أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما, أو إلى أن يبينا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة, ونص كتاب علي –عليه السلام- اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه, ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان, وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق, وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما.. والكتاب والسنة يثبتان إمامته.
التحذير من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة
1- الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة: من الكتب التي شوهت تاريخ صدر الإسلام كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة, ولقد ساق الدكتور عبد الله عسيلان في كتابه «الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي» مجموعة من الأدلة تبرهن على أن الكتاب المذكور منسوب إلى الإمام ابن قتيبة كذبًا وزورًا ومن هذه الأدلة:(1/181)
2- نهج البلاغة: ومن الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة بالباطل كتاب نهج البلاغة؛ فهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه, فقد جمع بعد أمير المؤمنين بثلاثة قرون ونصف قرن بلا سند, وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصًا فيما يوافق بدعته, فكيف إذا لم يسند كما فعل في النهج؟ وأما المتهم –عند المحدثين- فهو أخوه علي, فقد تحدث العلماء فيه فقالوا:
3- كتاب الأغاني للأصفهاني: يعتبر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كتاب أدب وسمر وغناء, وليس كتاب علم وتاريخ وفقه, وله طنين ورنين في آذان أهل الأدب والتاريخ, فليس معنى ذلك أن يسكت عما ورد فيه من الشعوبية والدس, والكذب الفاضح والطعن والمعايب.
4- تاريخ اليعقوبي, ت 290هـ: هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح العباسي من أهل بغداد, مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لقب بالكاتب العباسي, وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة, الإمامية, فهو لا يعترف بالخلافة إلى لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة, ويسمي عليًا بالوصي, وعندما أرَّخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف عليهم لقب الخلافة وإنما قال تولى الأمر فلان, ثم لم يترك واحدًا منهم دون أن يطعن فيه, وكذلك كبار الصحابة, فقد ذكر عن عائشة, رضي الله عنها, أخبارًا سيئة, وكذلك عن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.(1/182)
5 ـ المسعودي (ت: 345هـ) كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر: هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي, والمسعودي رجل شيعي, فقد قال فيه ابن حجر: كتبه طافحة بأنه كان شيعيًا معتزليًا, وقد ذكر أن الوصية جارية من عهد آدم تنقل من قرن إلى قرن حتى رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم أشار إلى اختلاف الناس بعد ذلك في النص والاختيار, فقد رأى الشيعة الإمامية الذين يقولون بالنص وقد أولى الأحداث المتعلقة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتابه مروج الذهب اهتمامًا كبيرًا أكثر من اهتمامه بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب المذكور, وركز اهتمامه بالبيت العلوي وتتبع أخبارهم بشكل واضح في كتابه مروج الذهب, وعمل بدون حياء ولا خجل على تشويه تاريخ صدر الإسلام.
الاستشراق والتاريخ الإسلامي
إن من أعظم الفرق أثرًا في تحريف التاريخ الإسلامي الشيعة الرافضة بمختلف طوائفها وفرقها, فهم من أقدم الفرق ظهورًا, ولهم تنظيم سياسي وتصور عقائدي, ومنهج فكري –منحرف- وهم أكثر الطوائف كذبًا على خصومهم, كما أنهم من أشد الناس خصومة للصحابة ، فسب الصحابة وتكفيرهم من أساسيات معتقدهم وأركانه, خاصة الشيخين أبا بكر وعمر ويسمونهما الجبت والطاغوت, وقد كان للشيعة أكبر عدد من الرواة والإخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم ومفترياتهم وتدوينها في كتب ورسائل عن أحداث التاريخ الإسلامي, خاصة الأحداث الداخلية, كما كان للشعوبية والعصبية أثر في وضع الأخبار التاريخية والحكايات والقصص الرامية إلى تشويه التاريخ الإسلامي, وإلى إعلاء طائفة على طائفة, أو أهل بلد على آخر, أو جنس على جنس, وإبعاد الميزان الشرعي في التفاضل وهو ميزان التقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13].
علماء تصدوا لكشف الزيف والأكاذيب(1/183)
وقد كان من فضل الله وتوفيقه أن قيض مجموعة من العلماء النقاد الذين قاموا بجهد في نقد الرواة والمرويات فبينوا الزائف من الصحيح, ودافعوا عن عقيدة الأمة وتاريخها, وجهد علماء السنة في بيان الأحاديث المكذوبة بالنص عليها وبيان الرواة الضعاف والمتهمين وأصحاب الأهواء, وفي رسم المنهج في نقد الروايات وقبولها, جهد كبير وموفق, من أبرز من تصدى لإيضاح المغالط التاريخية ورد زيف الروايات المكذوبة:
1 ـ القاضي ابن العربي في كتاب «العواصم من القواصم»,
2 ـ والإمام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله, خاصة كتابه القيم «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية»,
3 ـ الحافظ الناقد الذهبي في كثير من مؤلفاته التاريخية مثل كتاب «سير أعلام النبلاء, وتاريخ الإسلام, وميزان الاعتدال في نقد الرجال»,
4 ـ وكذلك الحافظ ابن كثير المفسر المؤرخ في كتابه «البداية والنهاية»
5 ـ وأيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه, «فتح الباري في شرح صحيح البخاري, ولسان الميزان, وتهذيب التهذيب والإصابة في معرفة الصحابة».
الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية
أما الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية وتشويه سير رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين فهي كثيرة ونذكر منها:
الاختلاق والكذب.
الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة فيزيدون فيها وينقصون منها حتى تتشوه وتخرج عن أصلها.
وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه ومقصده, والتأويل والتفسير الباطل للأحداث.
إبراز المثالب والأخطاء وإخفاء الحقائق المستقيمة.
صناعة الأشعار وانتحالها لتأييد حوادث تاريخية مدعاة لأن الشعر العربي ينظر له كوثيقة تاريخية ومستند يساعد في توثيق الخبر وتأييده.(1/184)
وضع الكتب والرسائل المكذوبة ونحلها لعلماء وشخصيات مشهورة, كما وضعت الرافضة كتاب «الإمامة والسياسة» الذي نسبته إلى أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لشهرته عند أهل السنة وثقتهم به كما مر معنا.
وقد تلقف هذه الأكاذيب والتحريفات في القرن الماضي علماء الغرب وكتابه من المستشرقين والمنصرين - إبان غزوهم واستعمارهم للبلدان الإسلامية- فوجدوا فيها ضالتهم, وأخذوا يعملون على إبرازها والتركيز عليها مع ما زادوه من عندهم ـ بدافع من عصبيتهم وكرههم للمسلمين- من الكذب مثل اختراع حوادث لا أصل لها, أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشوية, أو التفسير الخاطئ تبعًا للتصور والاعتقاد الذي يدينون به, ثم شايع هؤلاء طائفة غير قليلة العدد من تلاميذ المستشرقين في البلاد العربية والإسلامية, وأخذوا طرائقهم ومناهجهم في البحث, وأفكارهم وتصوراتهم في الفهم والتحليل وتفسير التاريخ, وحملوا الراية بعد رحيلهم عن بلاد المسلمين, فكان ضررهم أشد وأنكى من ضرر أساتذتهم المستشرقين, ومن ضرر أسلافهم السابقين من فرق البدع والضلال, وذلك أنهم ادعوا –كأساتذتهم- اتباع الروح العلمية المتجردة والمنهج العلمي في البحث, والحقيقة أن غالبهم لم يتجرد إلا من عقيدته, أما التجرد بمعنى الإخلاص للحق وسلوك المنهج العلمي السليم في إثبات الوقائع التاريخية, كالمقارنة بين الروايات, ومعرفة قيمة المصادر التي يرجعون إليها, ومدى أمانة الناقلين, وضبطهم لما نقلوا, وقياس الأخبار واعتبارهم بأحوال العمران البشري وطبائعه(فلا أثر له عند القوم, فلم يتقنوا من المنهج العلمي إلا الأمور الشكلية مثل الحواشي وترتيب المراجع وما شابهها, وربما كان هذا هو مفهوم المنهج العلمي عندهم يقول محب الدين الخطيب: إن الذين تثقفوا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم غرباء عن هذا الماضي, وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء نيابة من المتهمين, بل لقد أوغل(1/185)
بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة بماضي العروبة والإسلام جريًا وراء المستشرقين في ارتيابهم حيث تحس الطمأنينة وميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم الدلائل عليه.
ومن أهم الوسائل التي اتبعها المستشرقون وتلاميذهم في تشويه وتحريف حقائق التاريخ الإسلامي
التدخل بالتفسير الخاطئ للأحداث التاريخية على وفق مقتضيات أحوال عصرهم الذي يعيشون هم فيه وحسبما يجول بخواطرهم, دون أن يحققوا أولاً الواقعة التاريخية حتى تثبت ودون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت, والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها, فإنه قبل تفسير الحادثة لابد من ثبوت وقوعها وليس وجودها في كتاب من الكتب كافيًا لثبوتها لأن مرحلة الثبوت مرحلة سابقة على البحث في تفسير الواقعة التاريخية, كما ينبغي أن يكون التفسير متمشيًا مع منطوق الخبر التاريخي, وموضوع البحث, ومع الطابع العام للمجتمع, أو العصر والبيئة التي حدثت فيها الواقعة, كما يشترط ألا يكون هذا التفسير متعارضًا مع واقعة أو جملة وقائع أخرى ثابتة, كما أنه لا ينبغي أن ينظر في التفسير إلى عامل واحد – كما هو ديدن كثير من المدارس التاريخية المعاصرة- وإنما ينظر فيه إلى جملة العوامل المؤثرة في الحديث وخاصة العوامل العقيدية والفكرية.. ثم إن التفسير التاريخي للحوادث بعد هذا كله لا يعدو كونه اجتهادًا بشريًا يحتمل الصواب والخطأ, ولقد أبرز البعض تاريخ الفرق الضالة وعمد إلى تضخيم أدوارها وتصويرها بصورة المصلح المظلوم, وبأن المؤرخين المسلمين قد تحاملوا عليها, فالقرامطة والإسماعيلية, والرافضة الإمامية والفاطمية والزنج وإخوان الصفا, والخوارج كلهم في نظرهم واعتبارهم دعاة إصلاح وعدالة وحرية ومساواة, وثورتهم كانت ثورات لإصلاح الظلم والجور, فهذا الشغب والإرجاف على(1/186)
التاريخ الإسلامي ومزاحمة سير رجاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة أمر لا يستغرب من قوم لا يدينون بالإسلام, فهم من واقع عقيدتهم يكيدون له بكل جهد مستطاع, ليلاً ونهارًا, وسرًا وجهارًا ولا يتوقع من مطموسي الإيمان وملل الكفر إلا مناصرة إخوانهم في الضلال, ولكن الأمر الذي قد يحدث استغرابًا عند البعض أن يحمل راية التشويه والتحريف بعد سقوط دولة الاستشراق كتاب يحملون أسماء إسلامية ومن أبناء المسلمين, ويقومون بنشر مثل هذه السموم على بني جلدتهم ليصرفوا بها الأغرار عن الصراط المستقيم, ولقد عمد هؤلاء إلى التشبث بالروايات المشبوهة والضعيفة, والساقطة يلتقطونها من كتب الأدب وقصص السمر والحكايات الشعبية والكتب المنحولة والضعيفة, فهذه الكتب هي مستنداتهم في الغالب مع ما يجدونه من الروايات المكذوبة في الطبري والمسعودي, مع أنهم يعلمون أنها لا تعتبر مراجع علمية يعتمد عليها, لقد وقع الاعتداء على التاريخ الإسلامي –خاصة تاريخ الصدر الأول- بالتشويه عن طريق اختيار مواقف مختارة والتركيز عليها, كالمعارك والحروب مع تصويرها على غير حقيقتها حتى تزول عنها صفة الجهاد في سبيل الله, أو التركيز على الأحداث والفتن الداخلية بقصد إظهار خلافات الصحابة, رضي الله عنهم, وعرضها وكأنها نموذج للصراعات والمكائد السياسية في وقتنا الحاضر, وبالتجهيل وهو إهمال كل ما هو مدعاة للاقتداء والأسوة الحسنة, وبالتشكيك, وهو توجيه السهام إلى التاريخ ورجاله وإلى المؤرخين المسلمين أنفسهم والتشكيك في معلوماتهم وصدقهم, وبالتجزئة وهي محاولة تجزئة التاريخ الإسلامي إلى أوصال وأشتات وكأنها لا رابط بينها كالتوزيع الإقليمي والعرقي ونحوه, فكل هذه الوسائل والحملات تسعى إلى تدمير تاريخنا الإسلامي ومحو معالمه النيرة وإبعاده عن مجال القدوة الحسنة والتربية الصحيحة.
الأيام الأخيرة من حياة الإمام علي(1/187)
لكل بداية نهايتها، وهاهوالإمام علي كرم الله وجهه يخطو خطواته الأخيرة من حياته المليئة بالدم والدموع ، يمضي صاحب الانتصارات الباهرة في صدر الإسلام وبداياته مفعماً باليأس من قوم دأبوا على مخالفته ، يمضي وقد ناء كاهله بحب شيعته ، وكره من خرجوا عليه ، وكلتا الفرقتين خرجتا من معسكره فلا رحمه من أحبه ، وما ترك له من كرهه فرصة لالتقاط الأنفاس .
وكأن قدر هذا الفارس أن يظل هكذا مصدوما إلى النهاية ، صدم بموت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وكان يجد معه وبقربه الأمان كل الأمان ، وبعدها صدم بموت زوجته الحبيبة فاطمة الزهراء بنت الحبيب محمد صلوات الله عليه وسلم ، وظلت الأعين تغمزه ين الفينة والأخرى والألسن تلمزه لعباً على أوتار السلطة والخلافة ، ينسجون الحكايات ويخترعون ويتقولون على لسانه ما لم يقل وما لم يخطر له ببال ، فنار العصبية لم تخمد تماما في قلوب البعض.
وحتى بعد أن جاءته الخلافة ، جاءته مغموسة بالدماء وهو لها كاره ، لكنه قبلها بروح الفارس الذي يموت دون واجبه ، وبروح المسلم الحق الذي يبدي مصلحة الأمة على نفسه
قبل الإمام الخلافة ظنا منه أنه يمكنه الحفاظ على وحدة الأمة . كان مخلصا في قصده ، نبيلا في سلوكه ، وفعل ماأمكنه الله أن يفعل ، وفي آخر المطاف وجد القائد نفسه في موقف لايحسد عليه ، فجنوده يعصونه تباعا ، ويفرون إلى خصمه ، والهدف الذي قبل الخلافة من أجله لم يتحقق ، فلم يجد راحته إلا في تمني الموت .
يقول الدكتور الصلابي عن هذه المرحلة الحرجة في حياة الإمام( بتصرف ) :
روى عن الشعبي في هذا الخصوص قوله:
لما قتل على أهل النهروان، خالفه قوم كثير، وانقضت عليه أطرافه، وانتقض أهل الأهواز، وطمع أهل الخراج في كسره وأخرجوا سهل بن حنيف عامل علي بن أبي طالب من فارس.(1/188)
وفي الجانب الآخر كان معاوية -رضي الله عنه- يعمل بشتى الوسائل سرا وعلانية على إضعاف جانب أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، واستغل ما أصاب جيشه من تفكك وخلاف، فأرسل جيشا إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- سيطر عليها وضمها إليه
وقد استطاع معاوية -رضي الله عنه- أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم به، ولما يرونه من علو أمر معاوية، وتفرق أمر علي -رضي الله عنه- إذ يقول في إحدى خطبه:
ـ " إلا أن بسرا قد اطلع من قبل معاوية، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم، وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم، استعملت فلانا فغل وغدر وحمل المال إلى معاوية، واستعملت فلانا آخر فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية، حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت علي علاقته، اللهم إني أبغضتهم وأبغضوني فأرحهم مني وأرحني منهم"
ومع ذلك فلم يستسلم أمير المؤمنين على -رضي الله عنه- لهذه المصائب، وهذا التقاعس والتخاذل فبذل جهده في انتهاض همة جيشه بكل ما أوتي من علم وحجة وفصاحة وبيان، وجاء في إحدى خطبه وهويلوم جنده ويبين لهم ما اصابه من جراء تقاعسهم ما يلي:(1/189)
ـ " فيا عجبا والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحاحيث صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون, ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا يسبخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فإذا أنتم والله من السيف أفر يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسا ، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب.. لله أبوهم، وهل أحد منهم أشد لها مراسا مني، وأقدم فيها مقاما؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنذا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع"
وبالرغم من كل هذه المحاولات والجهود المضنية لم يستطع -رضي الله عنه- أن يحقق ما يريد، إذ لم يستطع أن يغزوا الشام بسبب التفكك والتصدع الذي حدث في داخل جيشه، وتفرق كلمتهم وظهور الأهواء .
قال الطبري في تاريخه:
ـ" وفي سنة -40هـ- جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو"(1/190)
ويبدو أن هذه الهدنة لم تستمر، فمعاوية أرسل بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز في العام الذي استشهد فيه علي -رضي الله عنه-ولما لم يتمكن علي -رضي الله عنه- من تجهيز الجيش بما يصبوا ويريد، ورأى خذلانهم كره الحياة وتمنى الموت، وكان يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه عز وجل أن يعجل منيته، فمما روى عنه أنه خطب يوما فقال:
ـ " اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، ومللتهم وملوني، فأرحني منهم وأرحهم مني، فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم، ووضع يده على لحيته وقد ألح علي -رضي الله عنه- في الدعاء في أيامه الأخيرة، فعن جندب قال: ازدحموا على علي -رضي الله عنه- حتى وطئوا على رجله فقال: إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، فأرحني منهم وأرحهم منيوفي رواية أخرى عن أبي صالح قال: شهدت عليا وضع المصحف على رأسه حتى تقعقع الورق فقال: اللهم إني سألتهم ما فيه فمعنوني، اللهم إني قد مللتهم وملوني،وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير أخلاقي، فأبدلهم بي شرا مني، وأبدلني بهم خيرا منهم، ومث قلوبهم ميثة الملح في الماء ، وفي رواية فلم يلبث إلا ثلاثا أو نحو ذلك، حتى قتل رحمه الله.
تفيد بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأن عليا سيكون من الشهداء.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله:
ـ «اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»(1/191)
وهناك أحاديث أخص من هذا الحديث، تخبر أن عليا سيستشهد بأرض العراق وتبين كيفية اغتياله أيضا يقول أبو الأسود الدؤلي سمعت عليا يقول: أتاني عبد الله بن سلام وقد أدخلت رجلي في الغرز، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: العراق، فقال: أما إنك إن جئتها ليصيبك بها ذباب السيف، فقال علي: وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، قال أبو الأسود: فعجبت منه، وقلت: رجل محارب يحدث بمثل هذا عن نفسه.
وحدث بهذا الحديث في ينبع قبل توليه الخلافة، من عاده في مرضه، وهو أبو فضالة الأنصاري البدري، -رضي الله عنه-: إني لست ميتا في مرضي هذا، أو من وجعي هذا، إنه عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني لا أموت حتى تخضب هذه -يعني لحيته- من هذه - يعني هامته .
وعن عبد الله بن داود قال سمعت الأعمش، عن مسلمة بن سهيل عن سالم بن أبي جعدة عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- على المنبر يقول:
ـ ما ننتظر إلا شقيا، عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخضبن هذه من دم هذا، قالوا: أخبرنا بقاتلك حتى نبير عترته، قال: أنشد الله رجلا قتل بي غير قاتلي.
وقد جمع البيهقي هذه الأحاديث ونحوها في كتاب (دلائل النبوة) ، وجمعها الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية
صفة مقتله رضي الله عنه(1/192)
أتفق ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري ثم الكندي حليف بني حنيفة من كندة والبرك بن عبد الله التميمي ، وعمرو بن بكر التميمي ايضا اجتمعوا فتذاكروا قتل على إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا ماذا نصنع بالبقاء بعدهم كانوا لا يخافون في الله لومة لائم فلو شرينا أنفسنا فأتينا ائمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا فقال ابن ملجم أما أنا فأكفيكم على ابن أبي طالب وقال البرك وأنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر وأنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت أمرأة منهم يقال قطام بنت الشجنة قد قتل على يوم النهروان أباها وأخاها وكانت فائقة الجمال مشهورة به وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسى حاجته التي جاء لها وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادما وقينة وأن يقتل لها علي بن أبي طالب قال فهو لك ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجلا من قومها يقال له وردان ليكون معه ردءا واستمال عبد الرحمن ابن ملجم رجلا آخر يقال له شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري فأجابه .(1/193)
وواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت وقال هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة وهم ابن ملجم ووردان وشبيب وهم مشتملون على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها على فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة ويقول الصلاة الصلاة فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه ولما ضربه ابن ملجم قال لاحكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك وجعل يتلو قوله تعالى( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد)
ونادى علي عليكم به وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس ومسك ابن ملجم وحمل على إلى منزله وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف وقال علي رضي الله عنه إن مت فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به.
فقال جندب بن عبد الله :
ـ يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن..؟
فقال :
ـ لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر.
ولما احتضر على جعل يكثر من قول لا إله إلا الله لا يتلفظ بغيرها وقد قيل إن آخر ماتكلم به( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )
وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ووصاه بما وصاهما به وأن يعظمهما ولا يقطع أمرا دونهما وكتب ذلك كله في كتاب وصيته رضي الله عنه وأرضاه، و قبض في شهر رمضان سنة أربعين ،وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن رضي الله عنه .(1/194)
وأما البرك بن عبد الله فإنه في تلك الليلة التي ضُرب فيها علي قعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه، فوقع السيف في إليته، فأمر به معاوية فقتل وأما عمرو بن بكر فجلس لعمرو بن العاص تلك الليلة، فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة، وكان صاحب شرطته، وكان من بني عامر بن لؤي، فخرج ليصلي، فشد عليه فقتله وهو يرى أنه عمرو فضربه فقتله، فأخذه الناس فانطلقوا به على عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: من هذا؟ قالوا:عمرو قال:فمن قتلت؟ قالوا خارجة بن حذافة، قال: أما والله يا فاسق وما ظننته غيرك، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، فقدمه عمرو فقتله .
استقبال معاوية خبر مقتل علي
ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلموكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام، فقال له: دعني عنك ..!
جاء في كتاب" أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها" لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع وتقديم وتحقيق محمد مال الله:
" الخوارج الذين مرقوا من عسكر عليّ رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه. ولهذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم، وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم.
والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل، وأقرب إلى الكفر والنفاق، لكنهم أعجز منهم وأذل، وكلا الطائفتين من عسكر عليّ، وبهذا وأمثاله ضعف عليّ وعجز عن مقاومة من كان بإزائه"(1/195)
أخرج ابن الأعرابي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بالمسجد وقد أطاف به أصحابه؛ إذ أقبل علي رضي الله عنه فسلم ثم وقف، فنظر مكاناً يجلس فيه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجوه أصحابه أيُّهم يوسع له، وكان أبو بكر رضي الله عنه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فتزحزح أبو بكر عن مجلس وقال: ها هنا أبا الحسن. فجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فرأين السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أبي بكر فقال:
ـ " «يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل»."
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أم موسى قالت: بلغ علياً رضي الله عنه أن ابن سبأ يفضله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهمَّ علي بقتله، فقيل له: أتقتل رجلاً إنما أجلَّك وفضلك؟ فقال: لا جَرَم لا يساكنني في بلدة أنا فيها.
وأخرج العِشَاري عن الحسن بن كَثِير عن أبيه قال: أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال: أنت خير الناس، فاقل: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، قال: ما رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: أما إنك لو قلت إنك رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقتلتك، ولو قلت رأيت أبا بكر وعمر لحددتك.
************************************************
الفتنة في عهد الحسن بن على رضى الله عنهما
ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة.
بايعه الناس يوم مات على رضي الله عنه.
تنازل عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما في ربيع الأول من سنة واحد و أربعين من الهجرة ، و سمي ذلك العام بعام الجماعة .
وكانت وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه سنة في51هـ ، مات مسموما .
البداية والنهاية
ذكر ابن كثير في ( البداية والنهاية ـ بتصرف) ما يلي :(1/196)
الحسن بن علي هوأبو محمد القرشى الهاشمى سبط رسول الله ص ابن ابنته فاطمة الزهراء وريحانته وأشبه خلق الله به فى وجهه . ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، فحنكه رسول الله بريقه وسماه حسنا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا .
جاء في الاصابة لابن حجر العسقلاني :
وروى الترمذي من حديث أسامة بن زيد قال طرقت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال :
ـ"هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما"
وعند أحمد من طريق زهير بن الأقمر بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قتل علي إذ قام رجل من الأزد آدم طوال فقال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعه في حبوته يقول:
ـ" من أحبني فليحبه فليبلغ الشاهد الغائب"
جاء في كتاب أسد الغابة لابن الأثير :
قال الدولابي: وحدثنا الحسن بن علي بن عفان، أخبرنا معاوية بن هشام، أخبرنا علي بن صالح، عن سماك بن حرب، عن قابوس بن المخارق قال: قالت أم الفضل: يا رسول الله، رأيت كأن عضواً من أعضائك في بيتي، قال: "خيراً رأيت، تلد فاطمة غلاماً فترضعيه بلبن قثم"، فولدت الحسن فأرضعته بلبن قثم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني، ما سميتموه"? قلت: سميته حرباً، قال: "بلى هو حسن"، فلما ولد الحسين سميناه حرباً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني، ما سميتموه"? قلت: سميته حرباً، قال: "بل هو حسين". فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني، ما سميتموه"? قلت: سميته حرباً، قال: "بل هو محسن"، ثم قال: "سميتهم بأسماء ولد هارون: شبر وشبير ومشبر".(1/197)
عن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم عن أبي الحوراء قال: قال الحسن بن علي: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم، أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت".
عن أبي الحوراء قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم? قال: أذكر من رسول الله أني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فتركتها في فمي، فنزعها بلعابها، وجعلها في تمر الصدقة، فقيل: يا رسول الله، ما كان عليك من هذه التمرة? قال: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة"، وكان يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة".
وقيل أنهم سألوا الإمام لما ضربه ابن ملجم أن استخلف فقال:
ـ " ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى بغير استخلاف فان يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"
فلما توفى وصلى عليه ابنه الحسن لأنه أكبر بنيه رضى الله عنهم ودفن كما ذكرنا بدار الإمارة على الصحيح من أقوال الناس ، فلما فرغ من شأنه كان أول من تقدم إلى الحسن بن على رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة فقال له:
ـ ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه .
فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه الناس بعده وكان ذلك يوم مات على .
والثابت بأن خلافته كانت خلافة راشدة حقة لأن مدته في الحكم كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً ، فقد روى الترمذي بإسناده إلى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ" الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك "(1/198)
وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال : إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي. وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة .
استعداد الحسن لقتال معاوية
وكان قيس بن سعد على إمرة أذربيجان تحت يده أربعون الف مقاتل قد بايعوا عليا على الموت فلما مات على ألح قيس بن سعد على الحسن فى النفير لقتال أهل الشام فعزل قيسا عن إمرة أذربيجان وولى عبيد الله بن عباس عليها ولم يكن فى نية الحسن أن يقاتل أحدا ولكن غلبوه على رأيه فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله فأمر الحسن بن على قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة فى اثنى عشر ألفا بين يديه وسار هو بالجيوش فى أثره قاصدا بلاد الشام ليقاتل معاوية وأهل الشام فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه .
التراجع عن القتال
فبينما هو فى المدائن معسكرا بظاهرها إذ صرخ فى الناس صارخ ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قتل فثار الناس فانتهبوا أمتعة بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا كان جالسا عليه وطعنه بعضهم ، فكرههم الحسن كراهية شديدة ولما رأى الحسن بن على تفرق جيشه عليه مقتهم ، وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبى سفيان.
الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما
قال البخارى :
عن أبى موسى قال سمعت الحسن البصري يقول :
ـ استقبل والله الحسن بن على معاوية بن أبى سفيان بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها. .!
فقال معاوية:
ـ " إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لى بأمور الناس من لى بضعفتهم من لى بنسائهم ..؟"
فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر قال اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فكلما وقالا له وطلبا إليه فقال لهما الحسن بن على:(1/199)
ـ إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت فى دمائها .
قالا فانه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسالمك .
قال :فمن لى بهذا ..؟
قالا :نحن لك به.
فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به فصالحه على أن يكون للحسن الأمر بعد معاوية. (وهناك قول آخر هو أن يترك الأمر شورى بين المسلمين بعد موت معاوية رضي الله عنه )
قال أبو بكرة:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن على إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول:
ـ " إن ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ."
وقال ابو الحسن على بن المدينى كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية فى الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين .
وقد ذكرصاحب (ردالبهتان عن معاوية بن أبي سفيان) الشيخ أبو عبد الله الذهبي في كتابه ما يلي :
ذكر ابن سعد في الطبقات في القسم المفقود الذي حققه الدكتور محمد السلمي ( 1 / 316 – 317 ) رواية من طريق ميمون بن مهران قال : إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين ، بايعهم على الإمارة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . قال المحقق إسناده حسن .
وفي ورواية أخرى أخرجها ابن سعد أيضاً وهي من طريق خالد بن مُضرّب قال :
سمعت الحسن بن علي يقول : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم ، قالوا : ما هو ؟ قال:
ـ " تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت " طبقات ابن سعد ( 1 / 286 ، 287). وقال المحقق : إسناده صحيح .
هذا ويستفاد من هاتين الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه ، وذلك تحقيقاً منه لنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم .(1/200)
أخرج البخاري في صحيحه ( 5 / 361 ) من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
وقد علق ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث بقوله :
وبعد نزول الحسن لمعاوية اجتمع الناس عليه ، وسمي ذلك العام عام الجماعة ، ثم لم ينازعه أحد من أنه الخليفة الحق يومئذ . انظر : تطهير الجنان ( ص 19 ، 21 – 22 ، 49 ) .
وأخرج الطبراني رواية عن الشعبي قال :
شهدت الحسن بن علي رضي الله عنه بالنخيلة حين صالح معاوية رضي الله عنه ، فقال معاوية :
ـ إذا كان ذا فقم فتكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي .
فقام الحسن فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه - قال الشعبي : وأنا أسمع – ثم قال:
ـ أما بعد فإن أكيس الكيس – أي الأعقل – التقي ، وإن أحمق الحمق الفجور ، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرداة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم ، أو يكون حقاً كان لامرئ أحق به مني ففعلت ذلك { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }[الأنبياء/111] . المعجم الكبير ( 3 / 26 ) بإسناد حسن . وقد أخرج هذه الرواية كل من ابن سعد في الطبقات ( 1 / 329 ) و الحاكم في المستدرك ( 3 / 175 ) و أبو نعيم في الحلية ( 2 / 37 ) والبيهقي في الدلائل ( 6 / 444 ) وابن عبد البر في الاستيعاب ( 1 / 388 – 389 ) .
وبعد أن تم الصلح بينه و بين الحسن جاء معاوية إلى الكوفة فاستقبله الحسن و الحسين على رؤوس الناس ، فدخل معاوية المسجد و بايعه الحسن رضي الله عنه و أخذ الناس يبايعون معاوية فتمت له البيعة في خمس و عشرين من ربيع الأول من سنة واحد و أربعين من الهجرة ، و سمي ذلك العام بعام الجماعة .
وفاته رضي الله عنه ، وحقيقة من دس له السم(1/201)
كانت وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه سنة ( 51هـ ) مسموماً ، وصلى عليه سعيد بن العاص رضي الله عنه والي المدينة من قبل معاوية .
ولم يرد في خبر وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه بالسم خبر صحيح أو رواية ذات أسانيد صحيحة .. وفي ما يلي أقوال أهل العلم في هذه المسألة :-
1- قال ابن العربي رحمه الله في العواصم ( ص 220 – 221 ) : فإن قيل : دس – أي معاوية - على الحسن من سمه ، قلنا هذا محال من وجهين :-
أحدهما : أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلّم الأمر .
الثاني : أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله ، فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه ، في زمن متباعد ، لم نثق فيه بنقل ناقل ، بين أيدي قوم ذوي أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغي ، فلا يقبل منها إلا الصافي ، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم .
2- قال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة ( 4 / 469 ) : وأما قوله : إن معاوية سم الحسن ، فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به ، وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم .
- قال الذهبي رحمه الله في تاريخ الإسلام ( عهد معاوية ) ( ص 40 ) : قلت : هذا شيء لا يصح فمن الذي اطلع عليه .
4- قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ( 8 / 43 ) : وروى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال : إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا ؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح ، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى .
5- قال ابن خلدون في تاريخه ( 2 / 649 ) : وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث ، فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية من ذلك .(1/202)
6 ـ وقد علق الدكتور جميل المصري على هذه القضية في كتابه : أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري ( ص 482 ) بقوله : .. ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد .. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك ؛ لأننا لا نلمس لها أثراً في قضية قيام الحسين ، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية
قلت : وقد حاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجدوا علاقة بين البيعة ليزيد وبين وفاة الحسن بالسم .
ثم إن الذي نُقِلَ لنا عن حادثة سم الحسن بن علي رضي الله عنه روايات متضاربة ضعيفة ، بعضها يقول أن الذي دس السم له هي زوجته ، وبعضها يقول أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك ، وبعضها يتهم معاوية رضي الله عنه بأن أوعز إلى بعض خدمه فسمه ، وبعضها يتهم ابنه يزيد ، وهذا التضارب في حادثة كهذه ، يضعف هذه النقول ؛ لأنه يعزوها النقل الثابت بذلك ، والرافضة خيبهم الله ، لم يعجبهم من هؤلاء إلا الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه يلصقون به التهمة ، مع أنه أبعد هؤلاء عنها .
وقلت أيضاً : إن هذه الحادثة – قصة دس السم من قبل معاوية للحسن – تستسيغها العقول في حالة واحدة فقط ؛ وهي كون الحسن بن علي رضي الله عنه رفض الصلح مع معاوية وأصر على القتال ، ولكن الذي حدث أن الحسن رضي الله عنه صالح معاوية وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها ، فعلى أي شيء يقدم معاوية رضي الله عنه على سم الحسن .
ولعل الناقد لمتن هذه الرواية يتجلى له عدة أمور :-
1 ـ هل معاوية رضي الله عنه أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير ، الذي فيه وضع حد لحياة الحسن بن علي غيلة ، و ما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما ؟!(1/203)
2 ـ هل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد ، وبالتالي تكون زوجة له ، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس ، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة ، إن أمه فاطمة وجده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً ، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ، إذاً ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير ؟!
3 ـ لقد وردت الروايات التي تفيد أن الحسن قال : لقد سقيت السم مرتين ، وفي رواية ثلاث مرات ، وفي رواية سقيت السم مراراً ، هل بإمكان الحسن أن يفلت من السم مراراً إذا كان مدبر العملية هو معاوية أو يزيد ؟! نعم إن عناية الله وقدرته فوق كل شيء ، ولكن كان باستطاعة معاوية أن يركز السم في المرة الأولى ولا داعي لهذا التسامح مع الحسن المرة تلو المرة !!
4 ـ و إذا كان معاوية رضي الله عنه يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة ، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة ، ولن تقتصر التصفية على الحسن فقط .
5 ـ وإن بقاء الحسن من صالح معاوية في بيعة يزيد ، فإن الحسن كان كارهاً للنزاع وفرقة المسلمين ، فربما ضمن معاوية رضاه ، وبالتالي يكون له الأثر الأكبر في موافقة بقية أبناء الصحابة .
6 ـ ثم إن هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي رضي الله عنه ، قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول ، فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حداً لصراع المسلمين ، وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهراون وهم الذين طعنوه في فخذه ، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها.
وفاة الحسن في البداية والنهاية
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير الأتي :(1/204)
رأى الحسن بن على فى منامه أنه مكتوب بين عينيه : " قل هو الله أحد " ، ففرح بذلك فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال:
ـ " إن كان رأى هذه الرؤيا فقل ما بقى من أجله ".
قال فلم يلبث الحسن بن على بعد ذلك إلا أياما حتى مات.
وقال أبو بكر بن أبى الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن صالح العتكى ومحمد بن عثمان العجلى قالا ثنا أبو أسامة عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن ابن على فقام فدخل المخرج ثم خرج فقال:
ـ لقد لفظت طائفة من كبدى أقلبها بهذا العود ولقد سقيت السم مرارا وما سقيت مرة هى أشد من هذه .
ثم عدنا إليه من الغد وقد أخذ فى السوق فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال:
ـ أى أخى من صاحبك ..؟
قال:
ـ تريد قتله ..؟
قال: نعم
قال:
ـ لئن كان صاحبى الذى أظن لله أشد نقمة وفى رواية فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا وإن لم يكنه ما أحب أن تقتل بى بريئا ورواه محمد بن سعد عن ابن علية عن أبى عون .
ووقف أبوهريرة قائما على مسجد رسول الله يوم مات الحسن بن على وهو ينادى بأعلا صوته :
ـ يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا.
جاء في كتاب صفوة الصفوة :
عن رقبة بن مصقلة قال: لما نزل بالحسن بن علي الموت قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار. فأخرج، فقال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فأني لم أصب بمثلها؛ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
**********************************************
قصة خروج الحسين بن على رضي الله عنهما
ولد الإمام الحسين رضي الله عنه لبضع ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة على أصح تقدير وقيل غيره.
جاء في الاستيعاب للحافظ ابن عبد البر:
ولد الحسين بعد الحسن بسنة وعشرة أشهر .
وكان قتل الحسين يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين.
جاء في كتاب أسد الغابة لابن الأثير :(1/205)
هوالحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي الهاشمي، أبو عبد الله ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم، وشبهه من الصدر إلى ما أسفل منه، ولما ولد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أذنه، وهو سيد شباب أهل الجنة، وخامس أهل الكساء، أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء العالمين، إلا مريم عليهما السلام.
عن الدولابي، أخبرنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، أخبرنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، أخبرنا عمرو بن حريث، عن عمران بن سليمان، قال: "الحسن والحسين من أسماء أهل الجنة لم يكونا في الجاهلية".
جاء في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني:
وفي الصحيح عن بن عمر حين سأله رجل عن دم البعوض سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ "هما ريحانتاي من الدنيا "يعني الحسن والحسين .
جاء في كتاب (سيرةآل بيت النبي )لحمزة النشرتي وآخرين:
مر الحسين يوما بمساكين يأكلون فدعوه علىعادة العرب فنزل وأكل معهم ثم قال لهم :قدأجبتكم فأجيبوني ، ثم دعاهم إلى الغداء في بيته.
وكان رضي الله عنه كلما أصيب عزيز عليه من أولئك الأعزاء ( في كربلاء) حمله إلىجانب إخوانه ، وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه وينسون في حشرجة الصدر ماهم فيه، فيطلبون الماء ويحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت ، ويعرض به عن الحياة ويقول في أثر كل صريع :
ـ لاخيرفي العيش من بعدك.
جاء في كتاب صفوة الصفوة :
عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: حج الحسين بن علي رضي الله عنه خمسا وعشرين حجة ماشيا ونجائبه تقاد معه.
ومن المهم قبل الحديث عن خروج الحسين رضي الله عنه أن نلم بعض الشئ بسيرة يزيد بن معاوية.
مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة
جاء في كتاب ( دفع البهتان عن معاوية بن أبي سفيان ) لأبي عبد الله الذهبي:(1/206)
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد ، و تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشب عليها عندما يكبر ، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية ، و كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق بابنه يزيد - انظر ترجمتها في : تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء - (ص397 - 401) – من أن تتولى تربيته في فترة طفولته ، وكان رحمه الله وحيد أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة و الفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد .
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
و عندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث - تهذيب التهذيب لابن حجر (10/207) - ، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل العلم . مثل حديث : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، و حديث آخر في الوضوء ، و روى عنه ابنه خالد و عبد الملك بن مروان ، و قد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة ، و هي الطبقة العليا . البداية و النهاية لابن كثير (8/226-227) .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية .(1/207)
وأفتتت اللجنةالدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ( فتوى رقم1466) " وأما يزيد بن معاوية فالناس فيه طرفان ووسط، وأعدل الأقوال فيهاأنه كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات،ولم يولد إلا في خلافة عثمان رضي الله عنه ، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ماجرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة،ولم يكن صاحبا ولا من أولياء الله الصالحين،قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة ، وأما بالنسبة للعنه فالناس فيه ثلاث فرق ، فرقة لعنته، وفرقة أحبته ، وفرقة لا تسبه ولا تحبه ،وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد ، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين ، وهذا القول الوسط مبني على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه ، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريما أو تنزيها ،فقد ثبت في صحيح بخاري عن عمر في قصة عبد الله بن حمارالذي تكرر منه شرب الخمر، وجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لعنه بعض الصحابة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن المؤمن كقتله " متفق عليه.
جاءفي كتاب ( رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان ) لأبي عبد الله الذهبي ما يلي :
ـ و اعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء(الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير،وابن عباس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر) ليست لها أثر ، و أن البيعة قد تمت ، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة . راجع : الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/149-151) و قد ذكر كيفية انعقاد البيعة و شروطها فعرضها عرضاً دقيقاً .
ـ وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد .
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير معلقا على خروج أهل الحرة :(1/208)
ـ لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال أما بعد فانا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإنى سمعت رسول الله يقول إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الاشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم فى هذا الأمر فيكون الفيصل بينى وبينه.
ـ وقال أبو جعفر الباقر لم يخرج أحد من آل أبى طالب ولا من بنى عبد المطلب أيام الحرة
وفي كتابه ( استشهاد الحسين ) يقول الدكتور الصلابي( بتصرف ):
كما نرى فقد كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى وأن يتولى الأمة أصلحها.
بويع له بالخلافة بعد أبيه فى رجب سنة ستين فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة فأقر نواب أبيه على ولم يكن ليزيد همة حين ولى إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة :
ـ "بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة أما بعد فان معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له فعاش بقدر ومات بأجل فرحمه الله فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام"
وكتب إليه فى صحيفة :
ـ "أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام "
قصة المبايعة ليزيد من كتاب البداية والنهاية
جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير عن مبايعة معاوية ليزيد ما يلي:
سنة ست وخمسين وفيها دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولى عهده من بعده .(1/209)
ركب معاوية إلى مكة معتمرا فلما اجتاز بالمدينة مرجعه من مكة استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة(عبد الله بن عمر، وابن عباس ،والحسين رضي الله عنه ،وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر) فأوعده وتهدده بانفراده فكان من أشدهم عليه ردا واجلدهم فى الكلام عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا لما تهددهم وتوعدهم فاتسقت البيعة ليزيد فى سائر البلاد .
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده فلما مات الحسن قوى أمر يزيد عند معاوية ورأى أنه لذلك أهلا وذاك من شدة محبة الوالد لولده ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة فى هذا المعنى .
ولهذا قال لعبد الله ابن عمر فيما خاطبه به :
ـ "إنى خفت أن أذر الرعية من بعدى كالغنم المطيرة ليس لها راع."
فقال له ابن عمر:
ـ " إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف "
وقد عاتب سعيد بن عثمان بن عفان معاوية فى ولايته يزيد وطلب منه أن يوليه مكانه ، وقال له سعيد فيما قال :
ـ "إن أبى لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف وقد قدمت ولدك على وأنا خير منه أبا وأما ونفسا "
فقال معاوية له:
ـ " أما ما ذكرت من إحسان أبيك إلى فانه أمر لا ينكر وأما كون أبيك خير من أبيه فحق وأمك قرشية وأمه كلبية فهى خير منها وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحب إلى منكم كلكم"
وأثرعن معاوية أنه قال يوما فى خطبته :
ـ "اللهم إن كنت تعلم أنى وليته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته وإن كنت وليته لأنى أحبه فلا تتمم له ما وليت"(1/210)
وحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد فى الصيد فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس النهرى وكان على شرطه دمشق ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما :
ـ " أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز وإن سأله أهل العراق فى كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولى عليهم عاملا فليفعل فعزل واحد وأحب إليك من أن يسل عليك مائة سيف وأن يتوصى بأهل الشام وأن يجعلهم أنصاره وأن يعرف لهم حقهم ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة الحسين وابن عمر وابن الزبير ولم يذكر عبد الرحمن بن أبى بكر وهذا أصح فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة وأما الحسين فرجل ضعيف وأرجو أن يكفيه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه وإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه فان قدرت عليه فاصفح عنه فأنى لو صاحبته عفوت عنه وأما ابن الزبير فانه خب ضب فان شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحا فان فعل فاقبل منه واصفح عن دماء قومك ما استطعت".
ويقال إن معاوية حين قدم المدينة في أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه لقيه الحسن والحسين ورجال من قريش فتوجه إلى دار عثمان بن عفان فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها فقال معاوية لمن معه انصرفوا إلى منازلكم فان لى حاجة فى هذه الدار فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان وأمرها بالكف وقال لها فيما قال:
ـ "يا بنت أخى إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد فبعناهم هذا بهذا وباعونا هذا بهذا ، وأن تكونى ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إلى أن تكونى أمة من إماء المسلمين ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك"
وقال محمد بن سيرين جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكى ويقول
ـ "اللهم إنك قلت فى كتابك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء اللهم فاجعلنى فيمن تشاء أن تغفر له "(1/211)
ولا خلاف أنه توفى بدمشق فى رجب سنة ستين وصلى عليه ابنه يزيد وقد أوصى إليه أن يكفن فى ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كساه إياه وكان مدخرا عنده لهذا اليوم وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره فى فمه وأنفه وعينيه وأذنيه .
وعن موضوع بيعة معاوية ليزيد كتب الأستاذ الجليل أبوعبد الله الذهبي ما يلي في طتابه ( دفع البهتان عن معاوية بن أبي سفيان ( بتصرف ) :
بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده ، ففكر معاوية في هذا الأمر و رأى أنه إن لم يستخلف و مات ترجع الفتنة مرة أخرى .
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر ، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد ، فجاءت الموافقة من مصر و باقي البلاد و أرسل إلى المدينة يستشيرها و إذ به يجد المعارضة من الحسين و ابن الزبير ، و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و ابن عباس . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي – عهد الخلفاء الراشدين – (ص147-152) و سير أعلام النبلاء (3/186) و الطبري (5/303) و تاريخ خليفة (ص213) . إلا أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد .
و كان سبب تولية معاوية ابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، أسباب كثيرة :
1 ـ فهناك سبب سياسي ؛ وهو الحفاظ على وحدة الأمة ، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلوا بعضها بعضاً ، و كان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد ، خاصة و القيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضاً فتقع الفتن و الملاحم بين المسلمين مرة ثانية ، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى .
2 ـ وهناك سبب اجتماعي ؛ وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية ، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد .(1/212)
3 ـ وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه ، وليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم ، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة ، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء ، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته ، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة ، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير .
ويورد الأستاذ الجليل أبو عبد الله الذهبي في هذا الشأن قول الأستاذ محب الدين الخطيب عن هذه المبايعة الذي يقول:
ولكن لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية :
1ـ ترك الناس بدون خليفة من بعده ، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد .
2ــ نادى في كل مصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة .
3ـ جعل يزيد هو المرشح ، وبايعه الناس كما فعل .
ولنأخذ الأمر الأول :
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع ، وتركه ولم يرشح أحداً لخلافة المسلمين حتى توفي.
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة ، وترك الناس في هرج ومرج ، حتى استقرت الخلافة أخيراً لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات .
ثم لنتصور الأمر الثاني :
نادى مناد في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم ، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها ، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية .
سيختار أهل الشام ، رجل من بني أمية بلا شك ، بل وربما أنه يزيد ، وربما غيره .
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وسيختار أهل الحجاز : إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر ، أو ابن الزبير رضي الله عن الجميع .(1/213)
وسيختار أهل مصر : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
والسؤال الآن : هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء ، ويسلموا له ، أم ستكون المعارضة واردة ؟!
الجواب : أعتقد أن المعارضة ستظهر .
ولنسأل سؤالاً آخر : في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قبل الأمصار ، هل يستطيع معاوية أن يلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر ؟!
الجواب : ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية ، وسيعمد أدعياء الشر الذي قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية ، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية .
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات ، وربما حصل ما أشرنا إليه ، وربما حدث العكس من ذلك ، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك .
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة ، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له .
ويبقى الأمر الثالث : وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد ولياً للعهد من بعده(1/214)
و قد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ، كل من ابن العربي في العواصم من القواصم (ص228-229 ) ، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة ، إذا يقول : والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه . المقدمة لابن خلدون (ص210-211) .
و يقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ، حاشا لله لمعاوية من ذلك . المقدمة (ص206)
أما شخصية يزيد فقد تضاربت في شأنها الآراء :
قال الشيخ سعود الزمانان في كتابه ( هل يجوز لعن يزيد بن معاوية ):
ألف ابن الجوزي كتاباً سمّاه " الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد "
وقد اتهم الذهبي - رحمه الله- يزيد بن معاوية فقال : " كان ناصبياً، فظاً ، غليظاً ، جلفاً ، يتناول المسكر ويفعل المنكر".
وكذلك الحال بالنسبة لابن كثير – رحمه الله – حينما قال : " وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم ، والحلم ، والفصاحة ، والشعر ، والشجاعة ، وحسن الرأي في الملك ، وكان ذا جمال وحسن معاشرة ، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات ، وترك الصلوات في بعض أوقاتها ، وإماتتها في غالب الأوقات "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ولم يكن يزيد مظهرا للفواحش "(1/215)
وعندما ذهب عبد الله بن مطيع إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى ، فقال ابن مطيع : "إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب "
فقال لهم :
ـ ما رأيت منه ما تذكرون ، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة ، متحرياً للخير ، يسأل عن الفقه ملازماً للسنة .
قالوا :
ـ فإن ذلك كان منه تصنعاً.
فقال :
ـ وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لك يكن أطلعكم فما يحلّ لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
أولى خطبة ليزيد
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعى يقول بعث معاوية وهو مريض إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجى وحين دخل البلد أمرفنودى فى الناس إن الصلاة جامعة ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين فقال:
ـ " بعد حمد الله والثناء عليه أيها الناس إن معاوية كان عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه ثم قبضه إليه وهو خير ممن بعده ودون من قبله ولا أزكيه على الله عز وجل فانه أعلم به إن عفى عنه فبرحمته وإن عاقبه فبذنبه وقد وليت الأمر من بعده ولست آسى على طلب ولا أعتذر من تفريط وإذا أراد الله شيئا كان ،وإن معاوية كان يغزيكم فى البحر وإنى لست حاملا أحدا من المسلمين فى البحر وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم ولست مشتيا أحدا بأرض الروم وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله"
قال فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.
موقف الحسين من بيعة يزيد
استدعى الأميرالوليد بن عتبة والي المدينة الحسين رضي الله عنه كما أمره يزيد.
ذهب الحسين إلى الأمير، فاستأذن فأذن له فدخل فسلم وجلس ومروان عنده فناوله الوليد بن عتبة الكتاب، ونعى إليه معاوية فاسترجع وقال: رحم الله معاوية وعظم لك الأجر .
فدعاه الأمير إلى البيعة فقال له الحسين:(1/216)
ـ" إن مثلى لا يبايع سرا وما أراك تجتزى منى بهذا ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا."
فقال له الوليد وكان يحب العافية : فانصرف على اسم الله حتى تأتينا في جماعة الناس.
فانصرف الحسين إلى داره فقال مروان للوليد : والله لا تراه بعدها أبدا .
فقال الوليد : والله يا مروان ما أحب أن لى الدنيا وما فيها وأنى قتلت الحسين ، سبحان الله أقتل حسينا أن قال لا أبايع والله إنى لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة .
وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وما طله يوما وليلة ثم إن ابن الزبير ركب فى مواليه واستصحب معه أخاه جعفرا وسار إلى مكة .
خروج الحسين إلى مكة
وأما الحسين بن على فان الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث إليه يقول حتى تنظر وننظر ثم جمع أهله وبنيه وركب ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة بعد خروج ابن الزبير بليلة ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية.
أسباب خروج الحسين
جاءت تلك الأسباب في كتاب ( استشهاد الحسين رضي الله عنه ) للدكتورعلي محمد الصلابي كما يلي ( بتصرف ):
1 ـ إرادة الله عز وجل وأن ما قدره سيكون وإن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله، لا راد لحكمه ولا لقضاءه سبحانه وتعالى. وفي هذا نورد تلك الأحاديث الشريفة:
روى الحاكم عن أم الفضل بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
ـ "أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا "- يعني الحسين - فقلت : هذا ؟ فقال: " نعم "، و أتاني بتربة من تربته حمراء . السلسلة الصحيحة (2/464) و هو في صحيح الجامع ، رقم (61) .
و روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ـ "لقد دخل عليّ البيت مَلَكٌ لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : إن ابنك هذا حسين مقتول ، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها ". السلسلة الصحيحة (2/465) .(1/217)
و روى أحمد عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت و أمي ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، و لم أزل ألتقطه منذ اليوم . فأحصي ذلك الوقت ، فوجد قتل ذلك الوقت . مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الشيخ الألباني (6172) . و مسند أحمد (1/283) و الذي يقول فأحصينا .. هو راوي الخبر عن ابن عباس ، هو أبو عمر عمار بن أبي عمار مولى بني هشام ، صدوق من كبار التابعين (ت 120 هـ ) ، التقريب (ص 408) .
وكتبت عمرة بنت عبد الرحمن إلى الحسين تعظم عليه ما يريد أن يصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه وتقول :
ـ " أشهد لسمعت عائشة تقول إنها سمعت رسول الله ص يقول يقتل الحسين بأرض بابل"
فلما قرأ كتابها قال:
ـ" فلا بد لى إذا من مصرعى"
2 ـ قلب الحكم من الشورى إلى الملك الوراثي ويعد ذلك مخالفة واضحة لمنهج الإسلام في الحكم.
3ـ عدم التزام معاوية بشروط الحسن في الصلح والتي من ضمنها ما ذكره ابن حجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، ومع ذلك فإن الحسين لم يهتم بالخروج على معاوية، نظراً لمبايعته له بالخلافة، فظل على عهده والتزامه .
موقف الحسين من الحكم الأموي:
وهو ينقسم إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى:
مرحلة عدم البيعة ليزيد وذهابه إلى مكة، وهذه المرحلة أسس فيها الحسين موقفه السياسي من حكم يزيد، بناء على نظرته الشرعية لحكم بني أمية، فهو يرى عدم جواز البيعة ليزيد، وذلك لسببين:
فعلى الصعيد الشخصي فإن يزيد لا يصلح خليفة للمسلمين نظراً لانعدام توفر شرط العدالة فيه، كما أن الحسين أفضل وأحق منه بمنصب الخلافة، فهو أكثر منه علماً، وصلاحاً وكفاءة وأكثر قبولاً لدى الناس من يزيد.(1/218)
أما الصعيد السياسي فلانعدام شرط الشورى، والاستئثار بالسلطة للحكم الأموي، والذي يخالف المنهج الإسلامي في الحكم.
المرحلة الثانية:
وهي مرحلة العمل على مقاومة الحكم الأموي وطرح نفسه بديلاً للسلطة الأموية في دمشق.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الحسين قد مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة وفي هذه الفترة كان رضي الله عنه يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لابد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه، ومما يدل على حرص الحسين رضي الله عنه على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتستحل بي.
جاء في كتاب ( دم الحسين) لإبراهيم عيسى قول الحسين وهويودع مكة:
ـ " والله لأن أقتل خارجاً منه بشبرأحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر.وأيم الله لو كنت في حجر هامة من الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم "
كان يعلم سلفا أنه حتما مقتول ، وأن سياف الظلم والجور والخلافة المغتصبة ـ لا منه ، ولكن من الناس والمسلمين ـ لن تتركه لحاله . كان يدرك ببصيرة ـ نراها الآن نحن بقدراتنا المحدودة بعد مئات من السنين كانت جد شاقة وصعبة ومذهلة لمعاصريه ـ أن يزيد لن يرضى منه بغير البيعة ، وأن أمير المدينة لن يدعه يفلت دون قولها ،وأن أمير مكة لن يحفظ للإسلام دينا ولا للنبي كرامة دون أن يتمكن من الحسين يستنطقه البيعة .
وجاء في كنز العمال:
ـ" تعجلوا الخروج إلى مكة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة." (الديلمي عن ابن عباس).(1/219)
هذا الحديث يحث على الحج والعمرة ويرغب في الدخول إلى مكة لشرفها وشرف ماتحتويه وتضمه بين جوانبها ، فهل كان من السهل على الحسين رضي الله عنه أن يغادرها لغرض دنيوي بحت ..؟!
أهل الكوفة يستقدمون الحسين رضي الله عنه
جاء في البداية والنهاية لابن كثير( بتصرف ) ما يلي:
ـ وقد كثر ورود الكتب علي الحسين رضي الله عنه من بلاد العراق يدعونه إليهم وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد ،فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذانى وعبد الله بن وال ،ثم بعثوا بعدهما نفرا ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين ثم بعثوا آخرين ومعهما كتاب فيه الاستعجال فى السير إليهم ، وجاء في أحد هذه الكتب ما يلي:
ـ "اما بعد فقد أخضرت الجنان وأينعت الثمار ولطمت الجمام فاذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك "
بعث مسلم بن عقيل
فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية ، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبى طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق فان كان الأمركما جاء في الكتب بعث إليه ليركب فى أهله وذويه ويأتى الكوفة ، وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك .فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على برارى مهجورة المسالك فهلك أحد الدليلين من شدة العطش ثم مات الدليل الآخربعد ذلك. فكتب إلى الحسين يستشيره فى أمره فكتب إليه أن يمضي في طريقه ليدخل العراق ويجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم .
فلما دخل الكوفة ، تسامع أهل الكوفة بقدومه فجاؤا إليه فبايعوه على إمرة الحسين وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم فاجتمع على بيعته من أهلها ثمانية عشر ألفا ، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة.(1/220)
وبلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خبرمسلم فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة وأمرهم بالائتلاف والسنة وقال :
_ "إنى لا أقاتل من لا يقاتلنى ولا أثب على من لا يثب على ولا آخذكم بالظنة ولكن والله الذى لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام فى يدى من سيفى قائمته"
فلما علم يزيد بذلك عزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله ابن زياد مع البصرة وذلك باشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية .
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل فان قدرت عليه فاقتله أو أنفه ، وسار زياد من البصرة إلىالكوفة فلما دخلها متلثما بعمامة سوداء فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال سلام عليكم فيقولون وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله ، يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه ،وتكاثر الناس عليه ودخلها فى سبعة عشر راكبا فلما علموا أنه الأمير عبيد الله بن زياد ذلك علتهم كآبة وحزن شديد فتحقق عبيد الله الخبر ونزل قصر الأمارة .
فلما استقر امره أرسل مولى له ومعه ثلاثة آلاف درهم بحجة أنه جاء لبيعة الحسين ،فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التى يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها وهى دار هانىء بن عروة فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم.
وقد علم شريك بن الأعور ـ وكان من الأمراء الأكابرـ أن عبيد الله يريد عيادته، فقال لهانىء بن شريح يقول له : أبعث مسلم بن عقيل حتى يكون فى دارى ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودنى ، فبعثه إليه. فقال له شريك :
ـ "كن أنت فى الخباء فاذا جلس عبيد الله فأنى أطلب الماء وهى إشارتى إليك فاخرج فاقتله "(1/221)
فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك . ثم قال شريك اسقونى فتجبن مسلم عن قتله وخرجت جارية بكوز من ماء فوجدت مسلما فى الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا ثم تحدثت بعبارة فهم منها مولى عبيد الله الغدر فغمز لسيده ونهض سريعا .
وقال شريك لمسلم ما منعك أن تخرج فتقتله قال حديث بلغنى عن رسول الله ص أنه قال:
ـ "الايمان قيد الفتك " ، وكرهت أن أقتله فى بيتك .
فقال: أم لو قتلته لجلست فى القصر ، وليكفينك أمر البصرة ، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا
ولما دخل عبيد الله إلى قصر الامارة أمر مناديا فنادى إن الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد:
ـ "فإن أميرالمؤمنين قد ولانى أمركم وثغركم وفيأكم وأمرنى بأنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والاحسان إلى سامعكم ومطيعكم والشدة على مريبكم وعاصيكم وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده"
فلما سلم هانىء على عبيد الله قال : يا هانىء أين مسلم بن عقيل ؟
قال: "لا أدرى ، ووالله لو كان تحت قدمى ما رفعتها عنه"
المواجهة بين مسلم وبن زياد
فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه ،ثم أمر به فحبسه فى جانب الدار. فلما سمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره يا منصور أمت فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو فى القلب إلى عبيد الله ، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله فى القصر فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف وتهددوهم وتوعدوهم.
وأخرج عبيد الله بعض الامراء وأمرهم أن يركبوا فى الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ففعلوا وانصرف الناس عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا فى خمسمائة نفس ثم تقالوا شيئا فشيئا فبقى وحده ليس معه من يدله على الطريق ولا من يؤانسه بنفسه ولا من يأويه إلى منزله فذهب على وجهه لا يدرى أين يذهب ،فأتى دارا طلب من صاحبتها جرعة ماء ، ولما علمت بأنه مسلم أخفته في دار أخرى.
القبض على مسلم وقتله(1/222)
لكن ابن صاحبة هذه الدار وشى به ووصل الخبر إلىابن زياد الذي بعث صاحب شرطته فى سبعين أو ثمانين فارسا، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التى هو فيها فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات ، فأعطاه أحدهم الأمان فأمكنه من يده وجاؤا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه فلم يبق يملك من نفسه شيئا فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول ،وقال إنا لله وإنا إليه راجعون،فقال بعض من حوله: "إن من يطلب مثل الذى تطلب لا يبكى إذا نزل به هذا "
فقال :
ـ أما والله لست أبكى على نفسى ولكن أبكى على الحسين وآل الحسين إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة "
ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال:
ـ "إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لسانى تأمره بالرجوع فافعل"
فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول فى ذلك .
ثم ادخل على ابن زياد ،فقال:
ـ "أيه يا ابن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض..؟"
قال :
ـ "كلا لست لذلك أتيت ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب"
ثم قال له ابن زياد :
ـ " إنى قاتلك "
قال مسلم :
ـ" فدعنى أوصى إلى بعض قومى، قال: أوص "
فنظر فى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبى وقاص فقال يا عمر إن بينى وبينك قرابة ولى إليك حاجة وهى سر فقم معى إلى ناحية القصر حتى أقولها لك ، فقام فتنحى قريبا من ابن زياد.
فقال له مسلم :
ـ " إن على دينا فى الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنى واستوهب جثتى من ابن زياد فوارها وابعث إلى الحسين فانى كنت كتبت إليه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلا"(1/223)
فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له فأجاز ذلك له كله، وقال أما الحسين فان لم يردنا لا نرده ،وإن أرادنا لم نكف عنه ،ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأصعد إلى أعلا القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلى على ملائكة الله ويقول اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا ثم ضرب عنقه وألقى رأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده ، ثم إن ابن زياد قتل أناسا آخرين ثم بعث برأسه ورأس هانىء بن عروة إلى يزيد بن معاوية إلى الشام وكتب له كتابا صورفيه ما وقع من أمر.
قيل قتل مسلم يوم الأربعاء يوم عرفة سنة ستين وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصدا أرض العراق بيوم واحد ، يوم التروية .
لما أستشعر الناس خروج الحسين أشفقوا عليه من ذلك وحذروه منه وأشار عليه ذوو الرأى منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق وأمروه بالمقام بمكة وذكره ما جرى لأبيه وأخيه
موقف الصحابة من خروج الحسين
جاء في كتاب (استشهاد الحسين) للدكتورعلي محمد الصلابي ( بتصرف )
وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك .
وكتب إليه أيضا عمرو بن سعيد بن العاص ( والي مكة ) ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد.
قال ابن عباس:
ـ " استشارنى الحسين بن على فى الخروج فقلت لولا أن يزرى بى وبك الناس لشبثت يدى فى رأسك فلم أتركك تذهب"
وروى أن الحسين لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال:(1/224)
ـ " يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبين لى ما أنت صانع فقال إنى قد أجمعت المسير فى أحد يومى هذين إن شاء الله تعالى فقال له ابن عباس أخبرنى إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم وإن كان أميرهم حى وهو مقيم عليهم قاهر لهم وعماله تجبى بلادهم فانهم إنما دعوك للفتنة والقتال ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك فيكون الذى دعوك أشد الناس عليك"
فقال الحسين :
ـ "إنى أستخير الله وأنظر ما يكون"
فخرج ابن عباس عنه ودخل ابن الزبير فقال له :
ـ "ما أدرى ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الامر دونهم أخبرنى ما تريد أن تصنع"
فقال الحسين:
ـ" والله لقد حدثت نفسى باتيان الكوفة ولقد كتب إلى شيعتى بها وأشرافها بالقدوم عليهم وأستخير الله "
فقال ابن الزبير :
ـ "أما لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت عنها "
فلما كان من العشى أو من الغد جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له:
ـ "يا ابن عم إنى أتصبر ولا أصبر إنى أتخوف عليك فى هذا الوجه الهلاك إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم أقم أمم فى هذا البلد حتى ينفى أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم وإلا فسر إلى اليمن فان به حصونا وشعابا ولأبيك به شيعة وكن عن الناس فى معزل واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم فانى أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب"
فقال الحسين :
ـ "يا ابن عم والله إنى لأعلم أنك ناصح شفيق ولكنى قد أزمعت المسير"
فقال له :
ـ "فان كنت ولا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك فوالله إنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه"
وقال ابن عمر أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن على قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال:
ـ " أين تريد "
قال :
ـ "العراق"
فقال :
ـ " لا تأتهم"
فأبى ، فقال ابن عمر:(1/225)
ـ " إنى محدثك حديثا إن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنك بضعة من رسول الله والله ما يليها أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذى هو خير لكم"
فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال :
ـ"أستودعك الله من قتيل"
جاءه أبو سعيد الخدرى إلى الحسين فقال:
ـ " يا أبا عبد الله إنى لكم ناصح وإنى عليكم مشفق وقد بلغنى أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم فلا تخرج إليهم فانى سمعت أباك يقول بالكوفة والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملونى وأبغضونى وما يكون منهم وفاء قط ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر ولا صبر على السيف "
وقال جابر بن عبد الله كلمت حسينا فقلت:
" اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصانى "
وقال سعيد بن المسيب:
ـ " لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له"
وكتب إليه عبد الله بن جعفر كتابا يحذره اهل العراق ويناشده الله إن شخص إليهم فكتب إليه الحسين:
ـ " إنى رأيت رؤيا ورأيت رسول الله ص أمرنى بأمر وأنا ماض له ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقى عملى"
بعث الحسين قيس بن مسهر إلى أهل الكوفة
وبعث الحسين قيس بن مسهر إلى أهل الكوفة وكتب معه إليهم:
ـ " بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن على إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم فانى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو أما بعد فان كتاب مسلم بن عقيل جاءنى يخبرنى فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذى الحجة يوم التروية فاذا قدم عليكم رسولى فاكتموا أمركم وجدوا فانى قادم عليكم فى أيامى هذه إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".(1/226)
وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ومضمونه:
ـ " أما بعد فان الرائد لا يكذب أهله وإن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابى هذا والسلام عليكم)"
وأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين إلى الكوفة حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد فقال له ابن زياد :
ـ "اصعد إلى أعلا القصر فسب الكذاب ابن الكذاب على بن أبى طالب وابنه الحسين"
فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
ـ "أيها الناس إن هذا الحسين بن على خير خلق الله وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجز من بطن ذى الرمة فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا"
ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعلى والحسين فأمر به ابن زياد فألقى من رأس القصر فتقطع ويقال بل تكسرت عظامه وبقى فيه بقية رمق فقام إليه أحدهم فذبحه.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشىء مما وقع من الأخبار .
خروج الحسين رغم ما حدث
عن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا :
ـ "لماقضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين فأدركناه وقد مر برجل من بنى أسد فهم الحسين أن يكلمه ويساله ثم ترك فجئنا ذلك الرجل فسألناه عن أخبار الناس فقال والله لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة"
فلحقنا الحسين فأخبرناه فجعل يقول إنا لله وإنا إليه راجعون مرارا .
فقلنا له :
ـ "الله الله فى نفسك "
فقال :
ـ "لا خير فى العيش بعدهما"
قلنا :
ـ "خار الله لك "
وقال له بعض أصحابه :
ـ "والله ما انت مثل مسلم بن عقيل ولو قد قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع"
وقال غيرهما، لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عقيل وثب عند ذلك بنو عقيل بن أبى طالب وقالوا :
ـ "لا والله لا ترجع حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا "(1/227)
فسار الحسين حتى بلغه ايضا مقتل الذى بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة فقال:
ـ " خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه وليس عليه منا ذمام "
فتفرق الناس عنه وبقى فى أصحابه الذين جاؤا معه من مكة .
قال الحسين حين نزلوا كربلاء:
ـ"ما اسم هذه الأرض"
قالوا: كربلاء.
قال: كرب وبلاء.
وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي .
اختيارات الحسين
فقال الحسين لعمرو بن سعد حين التقيا :
ـ "يا عمر اختبرنى إحدى ثلاث خصال ، إما أن تتركنى أرجع كما جئت ، فان أبيت هذه فسيرنى إلى يزيد فأضع يدى فى يده فيحكم فى ما رأى، فان أبيت هذه فسيرنى إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت"
فأرسل إلىابن زياد بذلك فهم أن يسيره إلى يزيد ، فقال شمر بن ذى الجوشن لا إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك فقال الحسين والله لا أفعل. وأبطأ عمر عن قتاله ، فأرسل ابن زياد شمر بن ذى الجوشن وقال له :
ـ " إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه فقد وليتك الامرة"
وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلا من أعيان أهل الكوفة فقالوا له:
ـ " يعرض عليكم ابن بنت رسول الله ص ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئا"
فتحولوا مع الحسين يقاتلون معه.
عن سعد بن عبيدة قال : فرأيت الحسين وعليه جبة برود ورماه رجل يقال له عمرو ابن خالد الطهوى بسهم فنظرت إلى السهم معلقا بجبته.
وكان فى جملة من مع جند يزيد الحر بن يزيد فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم:
ـ "ألا تتقون الله ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم والله لو سألتكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوهم"(1/228)
فأبوا إلا حكم ابن زياد ، فضرب الحر وجه فرسه وانطلق إلى الحسين فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ، ثم كر على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمه الله .
مقتل الحسين رضي الله عنه
ذكر ابن الأثير في كتابه أسد الغابة :
أخبرنا إبراهيم بن محمد الفقيه وغير واحد، قالوا بإسنادهم إلى الترمذي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر قال: حدثنا رزين، حدثني سلمى قال: دخلت على أم سلمة، وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك? قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله? قال: "شهدت قتل الحسين آنفاً".
جاء في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني :
وقال حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن بن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم فقلت بأبي وأمي يا رسول الله ما هذا قال:
ـ " هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم"
فكان ذلك اليوم الذي قتل فيه.
قتل رضي الله عنه لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين هجرية .
وقد تناقلت الكتب روايات عديدة لمقتله رضي الله عنه معظمها مختلق وملفق، ومن خلال أئمة الكلام في هذا الشأن وليس من كلام الشيعة والرافضة ننقل هذه الرواية :
عن عبد الله بن سليم والمذرى بن المشمعل الأسديين قالا:(1/229)
ـ أقبل الحسين فلما نزل شرف قال لغلمانه وقت السحر استقوا من الماء فأكثروا ثم ساروا إلى صدر النهار فسمع الحسين رجلا يكبر فقال له مم كبرت فقال رأيت النخيلة فقال له الأسديان إن هذا المكان لم ير أحد منه نخيلة فقال الحسين فماذا تريانه رأى فقالا هذه الخيل قد أقبلت فقال الحسين أما لنا ملجأ نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد فقالا بلى ذو حسم فأخذ ذات اليسار إليها فنزل وأمر بأبنيته فضربت وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمى وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد حتى وقفوا فى مقابلته فى نحو الظهيرة والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضا وروى هو وغيره قالوا لما دخل وقت الظهر أمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفى فأذن ثم خرج الحسين فى إزار ورداء ونعلين فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم فى مجيئه هذا إلى ههنا بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام وإن أنت قدمت علينا بايعناك وقاتلنا معك ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر تريد أن تصلى بأصحابك قال لا ولكن صل أنت ونحن نصلى وراءك فصلى بهم الحسين ثم دخل إلى خيمته واجتمع به أصحابه وانصرف الحر إلى جيشه وكل على أهبته فلما كان وقت العصر صلى بهم الحسين ثم انصرف فخطبهم وحثهم على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الادعياء السائرين فيكم بالجور فقال له الحر إنا لا ندرى ما هذه الكتب ولا من كتبها فأحضر الحسين خرجين مملوءين كتبا فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة فقال الحر لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك فى شىء وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد فقال الحسين الموت أدنى من ذلك ثم قال الحسين لأصحابه اركبوا فركبوا النساء فلما أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف فقال الحسين للحر ثكلتك امك ماذا تريد..؟(1/230)
فقال له الحر : أما والله لو غيرك يقولها لى من العرب وهو على مثل الحال التى أنت عليها لأقتصن منه ولما تركت أمه ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلا بأحسن ما نقدر عليه ،وتقاول القوم وتراجعوا، فقال له الحر إنى لم أومر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد فإذا أبيت فخذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة واكتب أنت إلى يزيد واكتب انا إلى ابن زياد إن شئت فلعل الله أن يأتى بأمر يرزقنى فيه العافية من أن أبتلى بشىء من أمرك قال فأخذ الحسين يسارا عن طريق العذيب والقادسية والحر بن يزيد يسايره وهو يقول له يا حسين إنى أذكرك الله فى نفسك فانى أشهد لئن قاتلت لتقتلن ولئن قوتلت لتهلكن.
وإذا سفر أربعة أى أربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبون ويجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل قد أقبلوا من الكوفة يقصدون الحسين ودليلهم رجل يقال له الطرماح ، فأراد الحر أن يحول بينهم وبين الحسين فمنعه الحسين من ذلك فلما خلصوا إليه قال لهم أخبرونى عن الناس وراءكم فقال له أحدهم مال أشراف الناس، فهم إلب عليك لأنهم قد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم فهم إلب واحد عليك وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك قال لهم فهل لكم برسولى علم قالوا ومن رسولك قال قيس بن مسهر الصيداوى قالوا نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك فصلى عليك وعلى أبيك ولعن زياد وأباه ودعا الناس إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به فألقى من رأس القصر فمات فترقرت عينا الحسين وقرأ قوله تعالى :"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" الآية ثم قال اللهم اجعل منازلهم الجنة نزلا واجمع بيننا وبينهم فى مستقر من رحمتك ورغائب مدخور ثوابك .
ثم إن الطرماح بن عدى قال للحسين:(1/231)
ـ انظر فما معك لا أرى معك أحدا إلا هذه الشرذمة اليسيرة وإنى لأرى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك فأنشدك الله إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا فافعل فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية ثم تبعث إلى الرجال من باجا وسلمى من طىء ثم أقم معنا ما بدا لك فأنا زعيم بعشرة آلاف طائى يضربون بين يديك بأسيافهم والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف.
فقال له الحسين :جزاك الله خيرا فلم يرجع عما هو بصدده فودعه الطرماح.
ومضى الحسين فلما كان من الليل أمر فتيانه أن يستقوا من الماء كفايتهم ثم سرى فنعس فى مسيره حتى خفق برأسه واستيقظ وهو يقول إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ثم قال رأيت فارسا على فرس وهو يقول القوم يسيرون والمنايا تسرى إليهم فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا فلما طلع الفجر صلى بأصحابه وعجل الركوب ثم تياسر فى مسيره حتى انتهى إلى نينوى فاذا راكب متنكب قوسا قد قدم من الكوفة فسلم على الحر بن يزيد ولم يسلم على الحسين ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد ومضمونه أن يعدل بالحسين فى السير إلى العراق فى غير قرية ولا حصن حتى تأتيه رسله وجنوده وذلك يوم الخميس الثانى من المحرم سنة إحدى وستين .(1/232)
فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبى وقاص فى أربعة آلاف وكان قد جهزه ابن زياد فى هؤلاء إلى الديلم فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك فقال له ابن زياد إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التى قد استنبتك عليها فقال حتى أنظر فى أمرى فجعل لا يستشير أحدا إلا نهاه عن المسير إلى الحسين حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة إياك أن تسير إلى الحسين فتعصى ربك وتقطع رحمك فوالله لأن تخرج من سلطان الأرض كلها أحب إليك من أن تلقى الله بدم الحسين فقال إنى أفعل إن شاء الله تعالى ثم أن عبيد الله بن زياد تهدده وتوعده بالعزل والقتل فسار إلى الحسين فنازله فى المكان الذى ذكرنا ثم بعث إلى الحسين الرسل ما الذى أقدمك فقال الحسين:
ـ " كتب إلى اهل الكوفة أن أقدم عليهم فاذ قد كرهونى فأنا راجع إلى مكة وأذركم ".
فلما بلغ عمر بن سعد هذا قال:
ـ " أرجو أن يعافينى الله من حربه"
وكتب إلى ابن زياد ذلك فرد عليه ابن زياد أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقى الزكى المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، واعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية فاذا فعلوا ذلك رأينا رأينا.(1/233)
وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش ، ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين فجاء كل واحد منهما فى نحو من عشرين فارسا فتكلما طويلا حتى ذهب هزيع من الليل ولم يدر أحد ما قالا ولكن ظن بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين ، فقال عمر إذا يهدم ابن زياد داري فقال الحسين أنا أبنيها لك أحسن مما كانت، قال إذا يأخذ ضياعى قال أنا أعطيك خيرا منها من مالى بالحجاز ، قال فتكره عمر بن سعد من ذلك ،وقال بعضهم بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد أو يتركه يرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك ، فكتب عمر إلى عبيد الله بذلك فقال نعم قد قبلت، فقام الشمر بن ذى الجوشن فقال:
ـ " لا والله حتى ينزل على حكمك هو وأصحابه ، والله لقد بلغنى أن حسينا وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل "
فقال له ابن زياد : " فنعم ما رأيت."
وصلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة وقيل يوم السبت وكان يوم عاشوراء إنتصب للقتال وصلى الحسين أيضا بأصحابه وهم إثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ثم إنصرف فصفهم .
فعدل الحسين إلى خيمة قد نصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتطيب بمسك كثير ودخل بعده بعض الأمراء ففعلوا كما فعل ، فقال يزيد بن حصين والله لقد علم قومى أنى ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا ولكن والله إنى لمستبشر بما نحن لاحقون والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفا فوضعه بين يديه ثم استقبل القوم رافعا يديه يدعو بما تقدم ذكره اللهم أنت ثقتى فى كل كرب ورجائى فى كل شدة إلى آخره وركب إبنه على بن الحسين وكان ضعيفا مريضا فرسا يقال له الأحمق ونادى الحسين :(1/234)
ـ "أيها الناس إن قبلتم منى وأنصفتمونى كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم على سبيل وإن لم تقبلوا منى فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون وإن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين "
فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفت أصواتهن بالبكاء فقال عند ذلك:
ـ "لا يبعد الله ابن عباس ..! "
يعنى حين أشار عليه أن يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الأمر ثم بعث أخاه العباس فسكتهن ثم شرع يذكر للناس فضله وعظمة نسبه وعلو قدره وشرفه ويقول:
ـ " راجعوا أنفسكم وحاسبوها هل يصلح لكم قتال مثلى وأنا ابن بنت نبيكم وليس على وجه الأرض ابن بنت نبى غيرى وعلى أبى وجعفر ذو الجناحين عمى وحمزة سيد الشهداء عم أبي وقال لى رسول الله ص ولأخى هذان سيدا شباب أهل الجنة فان صدقتمونى بما أقول فهو الحق فوالله ما تعمدت كذبة منذ علمت أن الله يمقت على الكذب وإلا فاسألوا أصحاب رسول الله ص عن ذلك جابر بن عبد الله وأبا سعيد وسهل بن سعد وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبرونكم بذلك ويحكم إما تتقون الله أما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى..!"
ثم قال:
ـ "أيها الناس ذرونى أرجع إلى مأمنى من الأرض"
فقالوا :
ـ ما يمنعك أن تنزل على حكم بنى عمك..؟!
فقال:
ـ "معاذ الله إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب"
ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها ثم قال:
ـ "أخبروني أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم أكلته أو بقصاصة من جراحه ..!؟"
فأخذوا لا يكلمونه قال فنادى:
ـ "يا شبيث بن ربعى يا حجار بن أبجر يا قيس بن الأشعث يا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار وأخضر الجناب فأقدم علينا فانك إنما تقدم على جند مجندة..؟"
فقالوا :" له لم نفعل"
فقال : "سبحان الله والله لقد فعلتم ثم قال يا أيها الناس إذ قد كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم."
فقال له قيس بن الأشعث :(1/235)
ـ" ألا تنزل على حكم بنى عمك فانهم لن يؤذوك ولا ترى منهم إلا ما تحب"
وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك فى السلاح فقال:
ـ "يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ونحن حتى الآن أخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف فاذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد فأنكم لم تدركوا منهما إلا سوء عموم سلطانها يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدى وأصحابه وهانىء بن عروة وأشباهه"
فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له وقالوا : لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه.
فقال لهم :
ـ "إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية فان أنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم خلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية نذهب حيث شاء فلعمرى إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين"
وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد:" أصلحك الله أمقاتل أنت هذا الرجل..؟"
ثم قال لأهل الكوفة فيما قال:
ـ "أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم عدوتم عليه لتقتلوه ومنعتموه التوجه فى بلاد الله العريضة الوسيعة ، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجارى الذى يشرب منه الكلب والخنزير، بئس ما خلفتم محمدا فى ذريته ،لاسقاكم الله يوم الظما الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه."
وترامى الناس بالنبال ، وحمل رجل يقال له عبد الله بن حوزة حتى وقف بين يدى الحسين فقال له:
ـ " يا حسين أبشر بالنار"
فقال له الحسين:
ـ " كلا ويحك إنى أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع بل أنت أولى بالنار"(1/236)
قال وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصر فى ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وأنهم مستميتون لاعاصم لهم إلا سيوفهم. وكان مسلم بن عوسجة أول من قتل من أصحاب الحسين فمشى إليه الحسين فترحم عليه وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مطهر ابشر بالجنة فقال له بصوت ضعيف بشرك الله بالخير ثم قال له حبيب لولا أنى أعلم أنى على أثرك لاحقك لكنت أقضى ما توصى به فقال له مسلم بن عوسجة أوصيك بهذا وأشار إلى الحسين إلى أن تموت دونه.
ثم حمل شمر بن ذى الجوشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين فدافعت عنه الفرسان من أصحابه دفاعا عظيما وكافحوا دونه مكافحة بليغة فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرماة الرجالة فبعث إليهم نحوا من خمسمائة فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقى جميعهم رجاله .
وجاء شمر بن ذى الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه يعنى الفسطاط وقال :
ـ" إيتونى بالنار لأحرقه على من فيه"
فصاحت النسوة وخرجن منه فقال له الحسين :
ـ "أحرقك الله بالنار "
وجاء شبيث بن ربعى إلى شمر قبحه الله فقال له ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا أتريد أن ترعب النساء فاستحى وهم بالرجوع .
ودخل عليهم وقت الظهر فقال الحسين :
ـ "مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلى"
فقال رجل من أهل الكوفة:
ـ "إنها لا تقبل منكم "
فقال له حبيب بن مطهر:
ـ " ويحك أتقبل منكم ولا تقبل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم "
ثم إن رجالا شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه . ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديدا ودافع عن الحسين صناديد أصحابه .(1/237)
ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا انفسهم تنافسوا ان يقتلوا بين يديه وهو يدعو لهم ويقول جزاكم الله أحسن جزاء المتقين فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبى مطاع الخثعمى وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بنى أبى طالب على الأكبر بن الحسين بن على احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم فقال الحسين :
ـ " قتل الله قوما قتلوك يا بنى ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه فعلى الدنيا بعدك العفاء "
ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل ، ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبى طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتى أحد إليه إلا رجع عنه لا يحب أن يلى قتله ، حتى جاءه رجل من بنى بداء يقال له مالك بن البشر فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دما .
ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه وأتى بصبى صغير من أولاده اسمه عبد الله فأجلسه فى حجره ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصى أهله فرماه رجل بسهم فذبح ذلك الغلام .وقتل أبوبكر بن الحسين بسهم ، ثم قتل عبد الله والعباس وعثمان وجعفر ومحمد بنوا على بن أبى طالب إخوة الحسين .
ثم إن شمر بن ذى الجوشن أقبل فى نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذى فيه جل عياله فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله فقال لهم الحسين:
ـ " ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا فى دنياكم أحرارا وذوى أحساب امنعوا رحلى وأهلى من طغاتكم وجهالكم "
فقال ابن ذى الجوشن : ذلك لك يا ابن فاطمة .(1/238)
ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يمينا وشمالا فيتنافرون عنه ،وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول ليت السماء تقع على الأرض وجاءت عمر بن سعد فقالت :
ـ " يا عمر أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر"
فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها .
ثم جعل لا يقدم أحد على قتله حتى نادى شمر بن ذى الجوشن ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمى على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه ، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو ثم جاء إليه ، سنان بن أبى عمرو فطعنه بالرمح، فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه
وقيل إن الذى قتله شمر بن ذى الجوشن وقيل رجل من مذحج .
عن محمد بن عمرو بن حسن قال:
ـ " كنا مع الحسين بنهرى كربلاء فنظر إلى شمر بن ذى الجوشن فقال: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
ـ "كأنى أنظر إلى كلب أبقع بلغ فى دماء أهل بيتى"
وكان شمر قبحه الله أبرص.
وأخذ سنان وغيره سلب الحسين وتقاسم الناس ما كان من أمواله وما فى خبائه .
قال عن جعفر بن محمد : وجدنا بالحسين حين قتل ثلاثة وثلاثين طعنة وأربعة وثلاثين ضربة ، وهم شمر بن ذى الجوشن بقتل على بن الحسين الأصغر زين العابدين وهو صغير مريض حتى صرفه عن ذلك حميد بن مسلم أحد أصحابه . وجاء عمر بن سعد فقال:
ـ" ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد ولا يقتل هذا الغلام احد ومن اخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم"
فوالله ما رد احد شيئا ، فقال له على بن الحسين:
ـ " جزيت خيرا فقد دفع الله عنى بمقالتك شرا "
وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسا فدفنهم أهل الغاضرية من بنى أسد بعد ما قتلوا بيوم واحد وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفسا وروى عن محمد بن الحنفية أنه قال قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من أولاد فاطمة .
وعن الحسن البصرى أنه قال:(1/239)
ـ " قتل مع الحسين ستة عشر رجلا كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه. وقيل قتل معه من ولده إخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلا فمن أولاد على رضى الله عنه جعفر والحسين والعباس ومحمد وعثمان وابو بكر ومن أولاد الحسين على الأكبر وعبد الله ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة عبد الله والقاسم وأبو بكر بنو الحسن بن على ابن أبى طالب ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان عون ومحمد ومن أولاد عقيل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم قتل قبل ذلك كما قدمنا فهؤلاء أربعة لصلبه واثنان آخران هما عبد الله بن مسلم بن عقيل ومحمد بن أبى سعيد بن عقيل فكملوا ستة من ولد عقيل"
وحملت رأس الحسين من يومه إلى ابن زياد مع خولى بن يزيد الأصبحى فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقا فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة وقال لامرأته :
ـ" جئتك بعز الدهر..!"
فقالت :
ـ "وما هو..؟"
فقال :
ـ " برأس الحسين ..!"
فقالت :
ـ " جاء الناس بالذهب والفضة وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا يجمعنى وإياك فراش أبدا "
ثم نهضت عنه من الفراش ، واستدعى بامرأة له أخرى من ينى أسد فنامت عنده قالت المرأة الثانية الاسدية والله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الاجانة إلى السماء وطيورا بيضاء ترفرف حولها.
فلما أصبح غدابه إلى ابن زياد فأحضره بين يديه ويقال إنه كان معه رؤس بقية أصحابه وهو المشهور ومجموعها اثنان وسبعون رأسا وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد .(1/240)
وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وماسبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً .
بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت، أو ماذا ركبت وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.
موقف يزيد من قتل الحسين ومن ذريته
كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال:
ـ " كنت أرضى من طاعتكم ـ أي أهل العراق ـ بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين"
وفي رواية أنه قال:...
ـ " أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه"
فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم.(1/241)
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي .
ويتساءل الشيخ سعود الزمانان في كتابه ( هل يجوز لعن يزيد بن معاوية) فيقول :
هل كان يزيد مسئولا عن قتل الحسين – رضي الله عنه - :
ويرد على هذه الشبهة بقوله : ...
ـ "الصواب أنه لم يكن ليزيد بن معاوية يد في قتل الحسين – رضي الله عنه فقد أرسل يزيد عبيد الله بن زياد ليمنع وصول الحسين إلى الكوفة ، ولم يأمر بقتله ، بل الحسين نَفْسُه كان حسن الظن بيزيد حتى قال دعوني أذهب إلى يزيد فأضع يدي في يده . والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله – كرمه الله – إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله :
" إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق ، ولما بلغ يزيد قتل الحسين أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره ، ولم يَسْبِ لهم حريماً بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردّهم إلى بلادهم ، أما الروايات التي في كتب الشيعة أنه أُهين نساء آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنهن أُخذن إلى الشام مَسبيَّات ، وأُهِنّ هناك هذا كله كلام باطل ، بل كان بنو أمية يعظِّمون بني هاشم ، ولذلك لماّ تزوج الحجاج بن يوسف فاطمة بنت عبد الله بن جعفر لم يقبل عبد الملك بن مروان هذا الأمر ، وأمر الحجاج أن يعتزلها وأن يطلقها ، فهم كانوا يعظّمون بني هاشم ، بل لم تُسْبَ هاشميّة قط " ا.هـ(1/242)
قال ابن كثير – رحمه الله - : " وليس كل ذلك الجيش كان راضياً بما وقع من قتله – أي قتل الحسين – بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم ولا كرهه ، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه ، كما أوصاه أبوه ، وكما صرح هو به مخبراً عن نفسه بذلك ، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو "ا.هـ.
وقال الغزالي – رحمه الله - : " فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به ؟ قلنا : هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت ، فضلاً عن اللعنة ، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق)
ومع ذلك فيأخذ بعض المؤرخين على يزيد في مقتل الحسين مأخذين :
الأول : أنه لم يصدر أمرا قاطعا لابن زياد بعدم قتل الحسين ، وإن كان فعل ذلك فيستحيل أن يعصي ابن زياد أوامره.
والثاني : أنه لم ينتصر للحسين بطريقة عملية كأن يعزل ابن زياد أو يوقع عليه أي نوع من العقاب ، واكتفى بالبر بأهل الحسين وهذا شئ هين بعد أن استراح من معارضة الحسين له إلى الأبد . ولا يشفع ليزيد في هذا المقام القول بأنه خشي ان يعزل ابن زياد لأن الكوفة كانت مصدرا للقلاقل في هذا الوقت، وهذا مما يعرض الأمة للتناحر والفرقة ، بل إن خصوم هذا الرأي يرون فيه سوء نية مبيتة تجاه الحسين رضي الله عنه.(1/243)
هذا وقد حاولت بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم أنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختار ما يشاء وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعى شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا إذا دعا علي بن الحسين ، وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة.
وكان قتل الحسين يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين ، بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة و هو ابن ست و خمسين سنة ،
قاتل الحسين
قتل رضي الله عنه يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة ويعرف الموضع أيضاً بالطف قتله سنان بن أنس النخعي ويقال له أيضاً سنان بن أبي سنان النخعي وهو جد شريك القاضي .
ويقال بل الذي قتله رجل من مذحج وقيل بل قتله شمر بن ذي الجوشن وكان أبرص وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير جز رأسه وأتى به عبيد الله بن زياد.
مصير قتلة الحسين رضي الله عنه
1 ـ عبيد الله بن زياد.
وقضى الله عز وجل أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب في واقعة الخازر، ثم إن إبراهيم بن الأشتر دخل الموصل، واستعمل عليها وعلى نصيبين وداراً وسنجار، وبعث برؤوس عبيد الله، والحصين، وشرحبيل بن ذي الكلاع إلى المختار، فأرسلها فنصبت بمكة.
2 ـ عمر بن سعد(1/244)
قال البخاري في تاريخه: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا سليمان بن إسماعيل، ثنا سليمان بن مسلم العجلي قال: سمعت أبي يقول: أول من طعن في سرادق الحسين عمر بن سعد، فرأيت عمر وولديه قد ضربت أعناقهم، ثم علقوا على الخشب، ثم ألهب فيهم النار.
وقال عمران بن ميثم: أرسل المختار إلى دار عمر بن سعد من قتله وجاء برأسه، بعد أن كان أمنه، فقال ابنه حفص لما رأى ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون فقال المختار: اضرب عنقه، ثم قال: عمر بالحسين، وحفص بعلي بن الحسين، ولا سواء.
قلت: " هذا علي الأكبر ليس هو زين العابدين"
3 ـ شمر بن ذي الجوشن
كان هوالذي احتز رأس الحسين على الأشهر، كان من أمراء عبيد الله بن زياد، وقع به أصحاب المختار فبيتوه، فقاتل حتى قتل.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبو بشر هارون الكوفي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال: كان شمر بن ذي الجوشن يصلي معنا الفجر، ثم يقعد حتى يصبح، ثم يصلي فيقول: اللهم إنك شريف تحب الشرف، وأنت تعلم أني شريف، فاغفر لي، فقلت: كيف يغفر الله لك، وقد خرجت إلى ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعنت على قتله؟ قال: ويحك، فكيف نصنع، إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر، فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شراً من هذه الحمر.
جاء في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي :
عن عبد الملك بن عميرالليثي قال: رأيت في هذا القصر وأشارإلى قصر الإمارة بالكوفة رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس ، ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بن عبيد الله ، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب ، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك ، فحدثت بهذا الحديث عبد الملك فتطير منه وفارق مكانه .
الخلاصة
الخلاصة من( 1 حتى 55 ) كما جاءت في كتاب ( سيرة عثمان بن عفان شخصيته وعصره ) للدكتور / علي محمد الصلابي، ومن (55 حتى آخره ) جهد متواضع منا.(1/245)
كان عثمان ( في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه، ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط، ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب الخمر في الجاهلية.
كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تلكؤ أو تلعثم، بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين.
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحا شديدا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله × رقية.
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام, وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء؛ فقد أوذي عثمان وعذب في سبيل الله تعالى على يدي عمه الحكم بن أبي العاص.
منذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي × حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه أو في مهمة من المهام التي يندب لها، ولا يغني فيها أحد غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين.
كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى من سنتها الأولى، فلم يفته من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي ×، ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية.
كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان، وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم المنزل من عند رب العالمين.(1/246)
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان بن عفان وصقل مواهبه، وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان ( لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه، كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه.
لم يكن عثمان بن عفان ( ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده، كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه تغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان ( خرج فيمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرده صلى الله عليه وسلم للقيام على ابنته، فكان في أجل فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره، فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.
في الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بمكة أسيرًا من المسلمين، وذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة.
قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة.
من حياة عثمان الاجتماعية في المدينة: زواجه من أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاة عبد الله بن عثمان، ثم وفاة أم كلثوم رضي الله عنهما.(1/247)
من مساهمته الاقتصادية في بناء الدولة: شراء بئر رومة بعشرين ألف درهم, وجعلها عثمان ( للغني والفقير وابن السبيل، وتوسعة المسجد النبوي، وإنفاقه الكثير على جيش العسرة.
وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان (، منها ما ورد في فضله مع غيره، ومنها ما ورد في فضله وحده، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان.
كان عثمان ( من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ برأيهم في أمهات المسائل في عهد الصديق، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق؛ فعمر بن الخطاب للحزم والشدائد، وعثمان للرفق والأناة، وكان عثمان أمينها العام، وناموسها الأعظم, وكاتبها الأكبر.
كان عثمان ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان وبعبد الرحمن بن عوف، وكان عثمان يسمى الرديف، والرديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ثلثوا بالعباس.
من أفضل أعمال عبد الرحمن بن عوف عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جميع الأمة على عثمان.
هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين والمحدثين، ولم يمحوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.
جاءت الأدلة الكثيرة التي تشير وتنبه إلى أحقية خلافة عثمان ( بالخلافة، ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة في ذلك, وقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان ( أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(1/248)
عندما بويع عثمان ( بالخلافة قام في الناس خطيبا وأعلن عن نهجه السياسي، مبينا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أنه أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، وحذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها خوفا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف.
إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف ( بصفات القائد الرباني، من العلم والقدرة على التوجيه والتعليم، والحلم، والسماحة, واللين, والعفو، والتواضع، والحياء، والعفة، والكرم، والشجاعة، والحزم، والصبر، والعدل، والعبادة، والخوف، والبكاء، والمحاسبة، والزهد، والشكر، وتفقد أحوال الناس، وتحديد الاختصاصات والاستفادة من أهل الكفاءات.
إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين، ومحاولة الاقتداء بهم خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين، الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة.
قامت سياسة عثمان المالية على الأسس العامة التالية: تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية، عدم إخلال الجباية بالرعاية، أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين، وأخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطائهم ما لهم وعدم ظلمهم، وتخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء، وتفادي أي انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة.
كانت النفقات في عهد عثمان تصرف على: صرف مرتبات الولاة، ومرتبات الجند، وعلى أسطول بحري، وتحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة، وحفر الآبار, والإنفاق على المؤذنين، وغيرها من الأمور.
اتهم عثمان ( من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتهام حملة دعائية باطلة قادها السبئيون وتلقفها الشيعة الروافض إلى يومنا هذا، وتسربت في كتب التاريخ، وتعامل المفكرون والمؤرخون على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت لأنها مختلقة.(1/249)
يعتبر عهد ذي النورين امتدادا للعهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة والجانب القضائي فيه خاصة امتدادا للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.
كانت خطة عثمان في الفتوحات تتسم بالحسم والعزم، وتمثلت في الآتي: إخضاع المتمردين من الفرس والروم، وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد، واستمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد لقطع المدد عنهم، وإقامة قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلامية، وإنشاء قوة بحرية عسكرية لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك.
كانت معسكرات الإسلام ومسالحه في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى، فمعسكر العراق في الكوفة والبصرة، ومعسكر الشام في دمشق بعد أن خلص الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، ومعسكر مصر وكان مركزه الفسطاط, وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ومواصلة الفتوحات ونشر الإسلام.
من أشهر قادة الفتوحات في عهد عثمان (: الأحنف بن قيس، وسليمان بن ربيعة، وعبد الرحمن بن ربيعة، وحبيب بن مسلمة.
كانت معركة ذات الصواري من مظاهر تفوق العقيدة الصحيحة الصلبة على الخبرة العسكرية والتفوق في العَدَد والعُدَد، فلقد كان الروم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مروا بتجارب طويلة في الحروب البحرية، بينما كان المسلمون حديثي عهد بركوب البحر والقتال البحري.
من أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات عثمان بن عفان ( تحقق وعد الله بالنصر والتمكين للمؤمنين، التطور في فنون الحرب والسياسة، ركوب المسلمين البحر، جمع المعلومات عن الأعداء، الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو.(1/250)
يظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان ( مدى فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لآيات النهي عن الاختلاف؛ حيث إن الله نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة ( عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فورا إلى المدينة النبوية, وأخبر عثمان ( بما رأى وبما سمع، وفي مدة قصيرة حسم عثمان الأمر وأغلق باب الخلاف.
إن الأخذ بالأسباب نحو تأليف المسلمين وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، وهذه الخطوة مهمة في إعزاز المسلمين وإقامة دولتهم وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى في أبهى صورة في جمع عثمان ( للأمة على مصحف واحد.
كانت أقاليم الدولة الإسلامية في عهد عثمان ( تضم كلاً من: مكة، والمدينة, والبحرين, واليمامة، واليمن، وحضرموت، والشام، وأرمينية، ومصر، والبصرة والكوفة.
اتخذ عثمان ( أساليب متنوعة لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم، منها: حضوره لموسم الحج، سؤال القادمين من الأمصار والولايات، إرسال المفتشين إلى الولايات، استقدام الولاة وسؤالهم، وغير ذلك من الأساليب.
من حقوق الولاة في العهد الراشدي: الطاعة في غير معصية الله، بذل النصيحة للولاة، إيصال الأخبار الصحيحة إليهم، احترامهم بعد عزلهم، وإعطاؤهم مرتباتهم.
من واجبات الولاة في العهد الراشدي: إقامة أمور الدين، تأمين الناس في بلادهم، الجهاد في سبيل الله، بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس، تعيين العمال والموظفين، رعاية أهل الذمة، مشاورة أهل الرأي في ولايتهم، النظر في حاجة الولاية العمرانية، مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية.
إن عثمان خليفة راشد يقتدى به، وأفعاله تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج عن تقريب الأقربين, فكان عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا في كفاءتهم الإدارية، وكل ما أنكر على عثمان لا يخرج من دائرة المباح.(1/251)
إن الولاة الذين ولاهم عثمان ( من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان, وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان، ومنهم من تقلد مهام الولاية في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما.
إن الذي يرجع إلى الصحيح المحض من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين عثمان، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمة وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي.
إن عثمان ( لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة وغير المحققة عن عهد عثمان، فقد تورط الكثير منهم في الروايات الضعيفة والرافضية، وبنوا أحكاما باطلة وجائرة في حق عثمان، مثل طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وراضي عبد الرحيم في كتابه (النظم الإسلامية)، ومحمد الريس في كتابه (النظريات السياسية)، وعلي حسين الخربوطلي في كتابه (الإسلام والخلافة)، وأبي الأعلى المودودي في كتابه (الملك والخلافة)، وسيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية) وغيرهم، لقد كان عثمان ( بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأولون ولم ينصفه المتأخرون.
إن الحقيقة التاريخية تقول: إن عثمان ( لم ينفِ أبا ذر (، إنما استأذن فأذن له، ولكن أعداء عثمان ( كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه.
إن أبا ذر ( لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد أقام بالربذة حتى توفي ولم يحضر شيئا مما وقع من الفتن.(1/252)
من أسباب فتنة مقتل عثمان ( أمور عدة، منها: الرخاء وأثره في المجتمع، طبيعة التحول الاجتماعي في عهد عثمان (، مجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، العصبية الجاهلية، توقف الفتوحات، الورع الجاهل، طموح الطامحين، تآمر الحاقدين، التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، دور عبد الله بن سبأ في الفتنة.
كانت بداية اشتعال الفتنة بالكوفة، وقد تم نفي رجالها إلى الشام, ثم استقر أمرهم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالجزيرة، ثم رجعوا إلى الكوفة بعد مكاتبة يزيد بن قيس لهم بالمجيء للكوفة.
كانت سياسة عثمان ( في التعامل مع الفتنة قائمة على الحلم والتأني والعدل، وقد اتخذ عدة أساليب لمواجهتها, منها: إرسال لجان تفتيش وتحقيق، كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين، مشورة عثمان لولاة الأمصار، إقامة الحجة على المتمردين، الاستجابة لبعض مطالبهم.
إن المتأمل في هدي عثمان ( في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم على مواجهة الفتن، ومن هذه الضوابط: التثبت, لزوم العدل والإنصاف، الحلم والأناة، الحرص على ما ينفع ونبذ ما يفرق بين المسلمين، لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام، استشارة العلماء الربانيين، الاسترشاد بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن.(1/253)
يظهر للباحثين أن هناك أسبابا دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال، وهي: العمل بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي سارَّه بها ( يوم الدار، وأنها عَهْدٌ عَهِد به إليه، وأنه صابر نفسه عليه، كره أن يكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك دماء المسلمين، علما بأن البغاة لا يريدون غيره فكَرِه أن يتوقى بالمؤمنين، وأحب أن يقيهم بنفسه، علمه بأن هذه الفتنة فيها قتله، وذلك فيما أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تبشيره إياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مصطبرا بالحق معطيه في فتنة، العمل بمشورة ابن سلام ( له إذ قال له: الكف الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة.
إن قاتل عثمان ( رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه فهذا باطل والروايات بذلك ضعيفة، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري.
إن الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- أبرياء من دم عثمان (، وقد صحت الأخبار وأكدت حوادث التاريخ براءة الصحابة من التحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضده، كما أوردنا ذلك بالروايات الصحيحة.
إن عثمان كان متيقظا ولم تنطل عليه المؤامرة ولا أهدافها، بل استطاع أن يخترق صفوف المتمردين وكشف مخططهم كاملا، وواجه الأحداث بشجاعة فائقة، وكره أن يكون أول من يسل السيف في المسلمين، وآثر أن يفدي الأمة بنفسه, وهذه قمة التفدية والإيثار.
كانت فتنة مقتل عثمان سببا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تليها، فتغيرت قلوب الناس، وظهر الكذب وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته.(1/254)
إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: +وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" [الكهف: 59]. وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان ( المعتدين عليه يجد أن الله تعالى لم يمهلهم بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم، فلم ينجُ منهم أحد.
كان وقع المصيبة على نفوس المسلمين كبيرًا، فذهلت عقولهم وجللهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء على عثمان والترحم عليه، وقام حسان بن ثابت ( يرثي أمير المؤمنين ويكثر التفجع لمقتله، ويهجو قاتليه بقصائد مبكية حزينة، وحفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون.
55ـ لم يكن معاوية ينافس علي رضي الله عنهما على الخلافة ، بل كان الخلاف ينصب على رغبة معاوية بالثأرمن قتلة عثمان أولاً وبعدها يبايع عليا رضي الله عنه، بينما علي كرم الله وجهه كان يري تأجيل القصاص من القتلة حتى تستتب أمورالدولة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.
56 ـ كان معاوية في هذا مجتهدا ، لكنه كان مخطئا في اجتهاده كما رأى الكثير من المحققين.وطبقا للشرع كان عليه أن يدخل في طاعة أميرالمؤمين أولا ويبايعه ، ثم يطالب بالدم بعد ذلك.
57 ـ تمت البيعة لعلي رضي الله عنه بالإجماع .
58 ـ ماقيل عن نقض البيعة لعلي من قبل الزبير وطلحة رضي الله عن الجميع كذب وبهتنان.
59 ـ كان خروج السيدة عائشة رضي الله عنها برفقة طلحة والزبير للإصلاح وليس لقتال علي رضي الله عنهم جميعا.
60 ـ لم يكن مروان بن الحكم صاحب السهم الذي أصاب طلحة وكان السبب في وفاته.
61ـ ما قيل على لسان الصحابة للسيدة عائشة رضي الله عنهاعند ماء الحوأب ليثنوها عن العودة رواية غير صحيحة.(1/255)
62 ـ القتال الذي نشأ بين معسكر علي ومعسكر طلحة والزبيرـ بعد اتفاق الجميع على الصلح ـ نشأ بفعل السبئيين الذين أشعلوا النار والفتنة بين المعسكرين بليل ، حين خشوا علىأنفسهم من القصاص بصفتهم قتلة عثمان رضي الله عنه.
63ـ الإمام علي أكرم السيدة عائشة بعد المعركة واستغفر كل منها للآخر ، وسارت راضية مرضيةإلى مكة .
64ـ كان التحكيم بعد صفين بخصوص الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في اجتهاد كل منهما في موضوع المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه ، ولا يمت من قريب ولا من بعيد بصراع على الخلافة.
65 ـ فشل الحكمين في الوصول إلى قرار فردوا الأمر للأمة وأصحاب العقد والحل.
66 ـ رواية التحكيم الشائعة والتي تقول أن عمرو بن العاص خدع أباموسي الأشعري وخلع عليا وثبت معاوية رواية واهية ولا أصل لها.
67 ـ حكاية استجداء عمرو لعلي حين انكشفت عورته في المعركة رواية مدسوسة .
68ـ قتل عمارعلى يد جيش معاوية يؤكد أن على كرم الله وجهه كان على الحق وأن معاوية كان من بغى عليه طبقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم . ويؤكد ذلك أيضا وجود أويس القرني الصحابي الجليل في جيش علي .
69 ـ استشهد الإمام علي على يد ابن ملجم بعد أن يأس من جنده الذين دأبوا على عصيانه ، وكان يتمنى الموت ويقول ما يحبس أشقاها أن يخضبها من أعلاها؟!..وهو ما بشره به الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيقتل بضربة على رأسه ويغطي الدم لحيته ، وهذا ما حدث بالضبط.
70 ـ يعد الحسن بن علي رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
71 ـ رواية تآمر معاوية ويزيد لدس السم للحسن عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث رواية غير صحيحة.
72ـ كان طلب معاوية رضي الله عنه البيعة لابنه يزيد عن اجتهاد منه ، فله أجران إن كان قد أصاب في اجتهاده ،وأجر إن أخطأ.
73ـ لايجوز لعن يزيد ، رغم الاختلاف حول شخصه ، وبيعته صحيحة .(1/256)
74ـ قرر الحسين رضي الله عنه الخروج إلى الكوفة لأن كان يرى أن بيعة يزيد لم تكن طبقا لمبدأ الشورى الإسلامي ، وخرج تلبية لنداءات ومراسلات عديدة من أهلها. وكان في ذلك مجتهدا.
75ـ بعث الحسين رضي الله عنه ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليستكشف أمر أهلها قبل أن يقرر الخروج .
76ـ أرسل مسلم بن عقيل للحسين رسالة يدعوه فيها للخروج وينبأه بأن قلوب أهل الكوفة معه، وذلك قبل أن يكتشف ابن زياد أمره ويقتله.
77ـ خرج الحسين رضي الله عنه للكوفة وهو لايدري بما حدث لمسلم بن عقيل ، ولايعلم بنكوث أهل الكوفة لعهودهم معه ومع ابن عمه .
78ـ أمر يزيد بن معاوية واليه ابن زياد بأن يمنع الحسين من العراق ولم يأمره بقتله .
79ـ أرسل ابن زياد جيشا بقيادة عمر بن سعد بن أبي الوقاص لقتال الحسين ، وحين حوصر الحسين طلب إحدى ثلاث من عمر بن سعد ، إما أن يتركه يعود من حيث أتى ، أو يتركه يضع يده في يد يزيد ، أو يدعه ليقاتل أعداء الإسلام في الثغور ، أرسل عمر بذلك إلى ابن زياد لكنه أبى إلا النزول على رأيه أولا ، فرفض الحسين.
80 ـ قتل من أصحاب الحسين في كربلاء اثنان وسبعون نفسا ، وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفسا ، و قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من أولاد فاطمة
81ـ قتلة الحسين الحقيقيون هم ابن زياد ، وشمربن الجوشن ، وعمربن سعد.
82ـ قام المختار بن عبيد الله الثقفي بقتل كل من ابن زياد ، وشمر، وعمر بن سعد ، أخذا بثأر الحسين رضي الله عنه.
وختاماً
فإن حب آل البيت ، واحترام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم ومسلمة وأمر واجب بالكتاب والسنة، ولقد ثبت بالدليل براءة الأصحاب الأجلاء طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص من الطلب بدم الإمام الحبيب علي بن أبي طالب وثبتت براءة معاوية رضي الله عنه من إشاعة دس السم للإمام الحسن رضي الله عنه .(1/257)
وثبت أيضا بالدليل أن أياً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض وبالتالي لم يشارك في قتل الخليفة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع.
هم جميعاأحبابنا، ونتمنى صحبتهم يوم القيامة، ومخالطتهم في الفردوس الأعلى،ونتمنى أن نغشى معهم سوق الجنة، فقد ذكر الإمام الترمذي هذا الحديث :
( عن سعيد ابن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال أبوهريرة : أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة . فقال سعيد :أو فيها سوق ؟قال نعم،أخبرني رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالي فيبرز لهم عرشه ،ويتبدي لهم في روضة من رياض الجنة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دني علي كثبان المسك والكافور مايرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا، قال أبو هريرة:وهل نري ربنا عز وجل ؟ قال: نعم ، قال هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ قلنا لا ، قال فكذلك لاتمارون في رؤية ربكم ولايبقي في ذلك المجلس أحدإلا حاضره الله محاضرة حتي يقول يافلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذافيذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول بلي أفلم تغفر لي،فيقول بلي فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه ، قال فبينما هم علي ذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ، قال ثم يقول ربنا تبارك وتعالي قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم ، قال فيأتون سوقا قد حفت بها الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الأذان ولم يخطر علي القلوب، قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه ولا يشتري وفي ذلك السوق يلقي أهل الجنة بعضهم بعضا، قال فيقبل ذي البزة المرتفعة فيلقي من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يري عليه من اللباس والهيئة فما ينقضي آخر(1/258)
حديثه حتي يتمثل عليه أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحدأن يحزن فيها قال ثم ننصرف إلي منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبنا لقد جئت وأن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه ، فنقول أنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا )
وقبل أن أطوي هذا الملف أذكر للقراء الأعزاء حديثا دار بيني وبين أقرب الأصدقاء إلى قلبي ونفسي حين انتهى من قراءة هذا الكتاب كما طلبت منه أخذا لرأيه فيما كتب.
بعد صمت فاجأني بسؤال يقول :
ـ إن كان الله قد أباح قتال البغاة من المسلمين بنص القرآن الكريم ، أفلا يبيح الله لنا أن نعتب عليهم..؟
قلت : بلى
قال : والعتاب لا يكون إلا بين الأحبة ..!
وافقته، واستزدته ليخرج ما عنده، فأضاف:
ـ من المعروف لدى الجميع أن معاوية رضي الله عنه اشتهر بالعلم والحلم ، وأنا أعتب عليه في هذا المقام في نقاط ثلاث وأتساءل : لماذا تخلى معاوية رضي الله عنه عن علمه وحلمه أولا في موضوع البيعة للإمام..؟
تخلى عن علمه بطبيعة الفارس علي بن أبي طالب صاحب السبق في الإسلام والذي لايخشى في الله لومة لائم ،ولايمكن أن يداهن بشئ على حساب دينه ، لاسيما وحياته في ظل الصديق والفاروق رضي الله عنهما وحتىفي ظل عثمان رضي الله عنه لايمكن أن يشتم منها رائحة حب الدنيا والملك . وغاب علمه أيضا عن أن المطالبة بالدم تتطلب الدخول في طاعة الإمام أولا ثم تجيئ المطالبة بالثأر بعد ذلك ..!
وتخلى عن حلمه بأن تعجل أخذ القصاص ولم ينتظر ليبطل حجج الإمام علي ويشهد عليه كل الأمة وأصحاب الحل والعقد إن هو تقاعس ـ وهنا يمكن خلعه شرعا ـ وإن لم يتقاعس فقد تجنبت الأمة تلك الفرقة وما نجم عنها من معارك ودمار..!
ولقد أورد العقاد في عبقرية الإمام قول علي رضي الله عنه مبررا موقفه بالمنطق:(1/259)
ـ كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم..؟ هاهم قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهلا ترون موضعا لقدرة على شئ مما تريدون؟
وأعتب عليه ثانيا، في موضوع أخذ البيعة ليزيد، لماذا لم يحاول معاوية رضي الله أن يجمع البيعة للحسين رضي الله عنهما في حياته وهو الخليفة المطاع ، ومما لاشك فيه فإن الحسين رضي الله عنه لايقل كفاءة في كل الوجوه عن يزيد ، بل يتفوق عليه في النسب الشريف وفي شخصيته التي لا غبار ولا خلاف عليها كما هو الحال مع يزيد، وكان يمكنه أيضا جمع الخيرين بأخذ البيعة للحسين ، علىأن يكون الأمر من بعده ليزيد..؟!
وتذكر كتب التاريخ موقفا آخرا أظن أن معاوية رضي الله عنه قد تخلى فيه عن علمه وحلمه وهو ثالث عتاب لي عليه، وأعني به موقفه من حجر بن عدي الذي يعد من من كبار التابعين ،بل قيل إنه كان صحابيا، وكان من السادة العُبّاد الصالحين، وهو أحد أمراء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صِفِّين، ثم بايع للحسن، وكان من المعارضين لصُلحِه مع معاوية، ثم بايع لمعاوية، وبقي في طاعته عشر سنوات.
وكان شديدا في الإنكار على الولاة علانية، قولا وفعلا، ورُوي عنه أنه كان يفعل ذلك مع المغيرة بن شُعبة، الذي كان يحلُمُ ويَسكت عنه، ثم توفي المغيرة، وتولى الكوفة بعدَه زياد (وقد كان مثل حُجر من أمراء علي)، وبقي حُجْر على طريقته، فحذَّره زياد، فلم يتغيَّر الوضع، واجتمع بعض الشيعة على حُجر، فتكلَّم زياد يوما على المنبر فقال: إن من حق أمير المؤمنين كذا، مرارا، فأخذ حُجر كفّاً من حَصا، فحَصَبه، وقال: كَذَبتَ، كذبتَ؛ عليكَ لعنةُ الله، فانحدر زياد من المنبر وصلَّى، ثم دخل دارَه، واستدعى حُجرا فأبى، فلم يزل به حتى قَدِم، وأرسله مقيَّدا مع جماعة من أصحابه إلى معاوية، وأتْبَعَه زياد برسائل سبقته إلى معاوية: إنْ كان لكَ في الكوفة حاجةً فاكفِني حُجْراً.(1/260)
وجعل يَرْفَعُ الكُتُبَ إلى معاوية حتى أَلهَفَه عليه، فلما وصل حُجر قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال معاوية مغضبا: أوَ أميرُ المؤمنين أنا؟ قال: نعم، ثلاثا.
وكان معاويةُ قد استشار وجوهَ أصحابه في القادمين، فأشار بعضهم بالقتل، وسكت بعضهم مصرِّحا بطاعته لما سيحكم به معاوية، ثم كان حُكمُه فيهم أن قتل بعضهم؛ وفيهم حُجر، واستبقى بعضهم، ولم يخالِفْه مَن حوله.
وقال حُجر قبل أن تُضرب عنقه: دعوني أصلي ركعتين، ثم قال: لا تحلوا قيودي، ولا تغسلوا عني الدم، فإني أجتمع أنا ومعاوية إذا على المحجة.
وكان مقتله بمرج عَذْراء (واسمها اليوم عَدرا) قُرب دمشق سنة إحدى وخمسين.
ولقد جاء في كتاب البداية والنهاية عن يزيد عن عبد الله بن رزين الغافقي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الأخدود فقتل حجر بن عدي وأصحابه.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا حرملة ثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال دخل معاوية على عائشة فقالت:
ـ" ما حملك على قتل أهل عذراء حجرا وأصحابه "
فقال:
ـ" يا أم المؤمنين إني رأيت قتلهم إصلاحا للأمة وأن بقاءهم فسادا"
فقالت :
ـ"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء "
وقال يعقوب بن سفيان ثنا عمرو بن عاصم ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن مروان بن الحكم قال:
ـ" دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت : يا معاوية قتلت حجرا وأصحابه وفعلت الذي فعلت أما خشيت أن أخبأ لك رجلا فيقتلك .
فقال:
ـ" لا، إني في بيت أمان. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: الايمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن. يا أم المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك ."
قالت:
ـ" صالح "
قال:
ـ" فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل"(1/261)
فنحن هنا أمام رجل صالح يقول قولة حق، ويقر بالخلافة لمعاوية، ويدافع عن إمام غادر دنيانا شهيدا وقد قالها ثلاث مرات حين دخل مسلما على أميرالمؤمنين ، وفي إحدى الروايات نعلم بأنه حين جاءت الشرطة للقبض عليه حاول أفراد قبيلته منع ذلك لكنه استسلم للأغلال وقال السمع والطاعة للأمير، ومنع قتالا كان يمكن أن ينشب في حينه.فهل مثل هذا يضمر الخروج على واليه وخليفته ؟! .. ثم ألا يستحق هذا الشيخ الذي يتقبل خبر قتله بهدوء ، وكل ما يطلبه في دنياه في تلك اللحظة بالذات هوأن يصلي ركعتين لله ،ألا يستحق هذا الشيخ من معاوية لحظة تأني وإعمال الفكر والتمسك بأهداب الحلم والرحمة والشفقة ويدعه كما كان يدع الآخرين الذين تحمل لنا مئات الكتب كيف كان الناس يشتمون معاوية في مجلسه وأمام الآخرين ، لكنه مع ذلك كان يلوذ بالحلم ويعفوعنهم بل ويجزل لبعضهم العطاء..؟!
ولا أعتقد أن رأي من كان في مجلس معاوية رضى الله عنه في تلك اللحظة يعد مبررا يمكن للخليفة أن يستند إليه لاستصدار هذا الأمر بالقتل !.. فصمت بعضهم كان من المفترض أن يفسره من اتصف بالحلم والعلم دوما بأنه رفض للقتل..!
طال صمتي حين سألني عن رأيي في عتابه، وحين ألح قلت له:
ـ في هذا المقام أتوقف عند الحب، ولا أتعداه إلى العتاب.
رحم الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجزاهم عنا خير الجزاء ، وغفر لهم، وللتابعين ولتابع التابعين ولكل المسلمين إلى يوم الدين ، ورزقنا بعفوه وكرمه ورحمته جنات تجري من تحتها الأنهارمصداقا لقوله تعالى:
"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" التوبة(100)
القاهرة في
23مارس2007
المراجع
1 ـ القرآن الكريم
2 ـ سيرة ابن هشام
3 ـ حلية الأولياء للإمام الحافظ أبي نعيم
4 ـ مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي
5 ـ كنز العمال للمتقي الهندي(1/262)
6 ـ الدولةالأموية للدكتور الصلابي
7 ـ رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان
8ـ هل يجوز لعن معاوية بن أبي سفيان
9 ـ عثمان بن عفان رضي الله عنه ، شخصيته وعصره للدكتور الصلابي
10 ـ استشهاد الحسين للدكتور علي محمد الصلابي
11 ـ استشهاد الحسين للشيخ عبد الرحمن السحيم
12 ـ سيرةأمير المؤمنين علي بن أبي طالب للدكتور على محمدالصلابي
13 ـ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
14 ـ أسدالغابة لابن الأثير
15 ـ الكامل في التاريخ
16 ـ خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين الحسن بن علي للدكتور الصلابي
17 ـ العواصم من القواصم القاضي أبي بكر العربي
18ـ البداية والنهاية لابن كثير
19 ـ عثمان بن عفان لمحمد رضا
20 ـ دماء على قميص عثمان بن عفان للدكتور إبراهيم عبد الفتاح المتناوي
21 ـ سيرة الإمام الشهيد أمير المؤمنين للشيخ عبد الرحمن السحيم
22 ـ طعنة في قلب علي بن أبي طالب للدكتور إبراهيم عبد الفتاح المتناوي
23 ـ الموقف مما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين / ناجي الطنطاوي
24 ـ من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه للأستاذ محمد زياد بن عمرالتكلة
25 ـ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لابن تيمية جمع وتحقيق محمد مال الله
26 ـ دم الحسين لإبراهيم عيسى
27 ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري
28 ـ تاريخ الإسلام للذهبي
29 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي
30 ـ المنتظم في التاريخ لابن الجوزي
31 ـ دفع البهتان عن معاوية بن أبي سفيان لأبي عبد الله الذهبي
32 ـ الاستيعاب في تمييز الأصحاب للحافظ بن عبد البر
33 ـ صدق النبأ في حقيقة ابن سبأ لأبي عبد الله الذهبي
34 ـ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي
35 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب / لعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي
36 ـ زاد الميعاد لابن قيم الجوزية
37 ـ تاريخ الطبري
38 ـ حياة الصحابة للكاندهلوي(1/263)