(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين ... الداء الدواء
(1/2)
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين الداء والدواء
(2/2)
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
الأضرحة في العالم الإسلامي
مشاهد متفرقة
( القبور والأضرحة دراسة وتقويم )
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(1/2)
قبس من الظلمات
(ما وراء الطقوس)
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(2/2)
أفيون الشعوب الإسلامية
(النتائج والآثار)
القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(1/2)
فسطاط الخرافة.. الجذور والواقع
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(2/2)
عاصفة الأوهام (عوامل الاستمرار)
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين ... الداء الدواء
(1/2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يخفى أن الغلو في القبور بشتى صوره وأنواعه قد عمّ وطم في غالب البلاد، وتلبس بهذه المظاهر الشركية وطرائقها الكثير من الناس، وصارت هذه القبور مزارات و (مشاعر) يقصدها الناس، ويشدون إليها الرحال من سائر الأمصار؛ وسدنة هذه الأضرحة وعلماء الضلالة يزيّنون الشرك للعامة بشتى أنواع الدعاوى والشبهات، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله ـ تعالى ـ.
إن على المنتسبين للعلم والدعوة واجباً كبيراً تجاه هذا التيار الوثني، وفي هذا المقالة نورد بعض المسالك الرئيسة التي تسهم في حل وعلاج انحرافات القبوريين وشبهاتهم.
أ- المسلك الدعوي: ويتمثل هذا المسلك من خلال0 عدة أمور:(1/1)
1- أن يُعنى العلماء والدعاة بتقرير التوحيد في تلك المجتمعات المولعة بتعظيم القبور والغلو فيها، وأن يجتهدوا في تجلية مفهوم التوحيد ـ من خلال القصص القرآني وضرب الأمثال ـ وضرورة تعلق القلب بالله ـ سبحانه وتعالى ـ، وأن الله ـ عز وجل ـ هو المتفرد بالنفع والضر والخلق والتدبير، ومن ثَمّ فهو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخشية ورجاءاً.
وأن يضمّن هذا التقرير بيان عجز المخلوقين وضعفهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم ـ فضلاً عن غيرهم ـ نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وأن يسعى إلى تحبيب هذا التوحيد إلى الناس من خلال الحديث عن فضائل التوحيد وبيان ثمراته وآثاره، وأخبار الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والصالحين الذين حققوا التوحيد، كما ينبغي الاهتمام بإظهار أثر التوحيد على الحياة العامة.
2- أن تربى الأمة عموماً ـ وهذه المجتمعات المعظمة للقبور خصوصاً ـ على أهمية التسليم لنصوص الكتاب والسنة والتحاكم إليها وانشراح الصدر لها.
يقول سبحانه: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65].
وإذا كان طواغيت هذا العصر يفرضون على الناس احترام الشرعية الدولية والإذعان والتسليم لقرارات الأمم المتحدة؛ فإن علينا ـ معشرَ الدعاة إلى الله ـ أن ندعو المسلمين إلى ما أوجبه الله عليهم من التسليم والانقياد لنصوص الوحيين وعدم معارضتها بأي نوع من المعارضات سواءً أكان تقليداً، أو معقولاً، أو ذوقاً، أو سياسة أو غيره؛ فالإيمان مبني على التسليم لله ـ تعالى ـ والإذعان لشرعه(1).(1/2)
يقول أبو الزناد ـ رحمه الله ـ: (إن السنن لا تخاصم ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي، ولو فعل الناس ذلك لم يمضِ يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تُلزَم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه)(2).
3- أن يدعى الناس إلى الالتزام بالشرع والعمل بالسنة؛ فإن إظهار السنن والتمسك بها يستلزم زوال البدع واندثارها، وكذا العكس فإنه ما ظهرت بدعة إلا رفع مثلها من السنة، والنفوس إن لم تشتغل بسنة وتوحيد؛ فإنها ستشتغل ببدعة وشرك؛ فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك(3).
وقد تتثاقل النفوس تجاه الالتزام بالأحكام الشرعية، وتنشط تجاه ما أحدثته من بدع ومحدثات، ومن ثم يتعين على دعاة الإصلاح أن يأخذوا على أيدي هؤلاء ويذكّروهم بفضل التمسك بالشرائع، وأن هذه الشرائع غذاء وروح، وقرة عين وسرور قلب(4). يقول أبو الوفاء ابن عقيل ـ متحدثاً عن تلك النفوس المتثاقلة تجاه الشرائع:
(لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن: إيقاد النيران، وتقبيلها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا...)(5).
4- دعوة المخاطبين إلى تدبر آيات القرآن الحكيم، وحثهم على التأمل والتفكر في معاني القرآن، كما قال ـ سبحانه ـ: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)) [ص: 29].
وقال ـ عز وجل ـ: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)). [النساء: 82].
وإن من أعظم أسباب الضلال واستفحال الشرك: الإعراض عن تدبر آيات القرآن، والاقتصار على مجرد قراءته دون فهم أو فقه.(1/3)
فإذا نظرنا ـ مثلاً ـ إلى مسألة إفراد الله ـ عز وجل ـ بالدعاء والاستغاثة، فإنها من أوضح الواضحات في كتاب الله، فقد تحدث عنها القرآن في ثلاثمائة موضع(6)، ومع ذلك فما أكثر الذين يتلون هذه الآيات بألسنتهم وينقضونها بأفعالهم وأحوالهم.
يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي ـ رحمه الله ـ (ت/1187هـ) متحدثاً عن ضلال القبوريين:
(لا جرم لما كان ملاك أمر الجميع وحاصل مبلغهم وغايتهم هو التلاوة دون الفقه والتدبر والاتباع، خفي عليهم ذلك، وعموا وصموا عنه، وأنّى لهم ذلك؟ وقد منعهم سادتهم وكبراؤهم من أهليهم، وممن يقوم عليهم ويسوسهم، وقالوا: كتاب الله حجر محجور، لا يستفاد منه، ولا يقتبس من أنواره، ولا ينال ما فيه من العلم والدين..
فلعمر الله للخير أضاعوا، وللشر أذاعوا، وإلا فلولا ذلك لكانت هذه المسألة [ إفراد الله بالدعاء] من أظهر الظواهر، لما أن العناية في كتاب الله بشأنها أتم وأكمل، والقصد إليها بالتكرير والتقرير والبيان في كتاب الله أكثر وأشمل)(7).
ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله في هذا المقام ـ:
(فمن تدبر عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه)(8).
وعلينا أن نتواصى بتطهير القلوب وتزكيتها لكي يحصل الانتفاع بمواعظ القرآن وأحكامه.
يقول ابن القيم عند قوله: ((لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ)) [الواقعة: 79]. (دلّت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوّث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي)(9).(1/4)
5- مخاطبة عقولهم، ودعوتهم إلى التفكير والتأمل؛ فإن الولوع في تقديس الأضرحة والغلو فيها لا يظهر إلا عند أقوام ألغوا عقولهم، وعطلوا تفكيرهم، وأشربوا حبّ التقليد ومحاكاة الآباء دون حجة أو برهان.
وقد عني القرآن بمخاطبة ذوي الألباب وأثنى عليهم، وحضّ على التفكر والنظر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، كما تضمن القرآن أدلة عقلية وحججاً برهانية في تقرير التوحيد والنبوة والمعاد.
ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: ((قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))[سبأ:22،23]
يقول ابن القيم عند هذه الآية الكريمة: (فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود ـ لما يرجو من نفعه ـ وإلا فلو لم يرجُ منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة، وقد يشفع عنده؛ فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت، انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى ـ سبحانه ـ عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً، فقال: (وما له منهم من ظهير)، فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه)(10).(1/5)
ومن الأجوبة العقلية في الرد على دعوى القبوريين في أنهم ينتفعون بهذه الأضرحة ما ذكره شيخ الإسلام بقوله: (عامة المذكور من المنافع كذب؛ فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر، ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير فيستجاب للواحد بعد الواحد، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابريين لم تكن تسقط لهم دعوة إلا لمانع، بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون إذا فعله المخلصون، لم يُرَد المخلصون إلا نادراً، ولم يُستجب للمقابريين إلا نادراً، والمخلصون كما قال النبي: (ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ول قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها. قالوا: يا رسول الله! إذن نكثر. قال: الله أكثر)(11) فهم في دعائهم لا يزالون بخير.
وأما المقبريون فإنهم إذا استجيب لهم نادراً، فإن أحدهم يضعف توحيده، ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون)(12).
6- من الجوانب الدعوية المهمة أن نميّز بين مراتب الشر والانحراف؛ فالغلو في القبور والافتتان بها له مراتب متعددة ومتفاوتة، فمنها ما يكون شركاً بالله ـ تعالى ـ في توحيد العبادة كالاستغاثة بأرباب القبور، ومنها ما يكون أشنع من ذلك كأن يستغيث بالأموات معتقداً فيهم الضر والنفع والتصرف في الكون، ومن الغلو في القبور ما يكون محرماً ووسيلة إلى الشرك كالصلاة عند القبور وتحري الدعاء عندها.(1/6)
ويخطئ بعض الدعاة فلا يفرقون بين هذه المراتب من جهة الحكم عليها، كما قد يخطئون فلا يميّزون من جهة ترتيبها وأولويتها في الإنكار، والمتعيّن أن تميّز هذه الانحرافات وفق ما جاءت به الأدلة الشرعية، وكما نهتم بآكد الأمور تقريراً ونقدمها، فكذا علينا أن نُعنى بأشنعها تحذيراً... فيحذّر ابتداء من الشرك في الربوبية؛ فالشرك في الإلهية، ثم ينظر إلى وسائل الشرك وذرائعه فما كان أشدها حرمة وأعظمها وسيلة للشرك فيشتغل بمنعها، ثم ينتقل إلى ما دونها.
يقول شيخ الإسلام في هذه المسألة: (والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح)(13).(1/7)
7- من الوسائل الوقائية النافعة تجاه هذا الانحراف: العمل بقاعدة سدّ الذرائع؛ فكل ما كان وسيلة أو ذريعة تؤول إلى الشرك فينبغي التحذير منها ومنعها حماية لجناب التوحيد؛ فالتهاون في هذه الوسائل يفضي إلى الوقوع في الشرك بالله ـ عز وجل ـ والخروج عن الملة، فمثلاً الصلاة عند القبور والبناء عليها أمور حرمها الشارع؛ لأنها طريق ووسيلة تفضي إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ، وقد أشار العلامة الشوكاني ـ رحمه الله ـ إلى أن البناء على القبور سبب رئيس في عبادة القبور فقال: (فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسن؛ فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعتْ حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشدّ وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه ـ، فيصير في عداد المشركين)(14).
ب- المسلك العلمي:
وهذا المسلك يقوم به أهل العلم وطلابه تجاه دعاوى القبوريين وشبهاتهم، وسنعرض لجملة من الأجوبة العلمية على النحو الآتي:
1- إذا كان أهل السنة ينطلقون من منهج متين أصيل في التلقي والاستدلال، فإن القبوريين يعوّلون في تلقيهم واستدلالهم على المنامات والأحاديث المكذوبة والحكايات المزعومة.(1/8)
فيحتجون بأحلام شيطانية على تجويز شركهم وكفرهم بالله ـ تعالى ـ، ومن ذلك أن أبا المواهب الشاذلي يقول: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال لي: إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فأنذر لنفيسة الطاهرة ولو فلساً؛ فإن حاجتك تقضى)(15).
فهذا حلم شيطاني، ودعوة صريحة للشرك بالله ـ عز وجل ـ، ونقض التوحيد، وتنقّص لمقام سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- الذي مكث ثلاثاً وعشرين عاماً يدعو إلى إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة، ويسد كل طريق يفضي إلى الشرك.
وعلى كلّ؛ فالمنامات لا يمكن ضبطها، وصاحبها ليس نبياً معصوماً، ومن ثم فلا يعتمد عليها؛ فكيف إذا كانت حلماً شيطانياً وخالف الأحكام الشرعية، بل وخالفت الأصل الأصيل وهو إفراد الله ـ تعالى ـ بجميع أنواع العبادة؟
يقول شيخ الإسلام: (وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رُئِيَ في المنام هناك؛ ورؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين، وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب)(16).
ويحتجون بأحاديث مكذوبة مثل: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور).
(فهذا الحديث كذب مفترى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة)(17).
وأشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى أن هذا الحديث من الأحاديث المختلَقة التي وضعها أشباه عبّاد الأصنام من المقابرية على رسول الله (18).
كما يعتمدون على حكايات في تجويز الغلو في القبور والاستغاثة بها، وأن الدعاء عندها هو الترياق المجرّب..
وغالب هذه الحكايات من اختلاق الدجّالين الأفاكين الذين لا يهمهم إلا أكل أموال الناس بالباطل والصدّ عن دين الله ـ تعالى ـ (19).(1/9)
وقد أشار ابن تيمية إلى أن هذه الحكايات (إما كذب، أو غلط، أو ليس حجة)(20)، كما ذكر أن إجابة الدعاء، قد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى(21).
وقد تكون تلك الحكايات صحيحة، ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، ويتسمى باسمه، وقد تقضي الشياطين بعض حوائج من استغاث بالأموات..
يقول ابن تيمية: (وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة؛ فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت.. ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلّمه ببعض ما سأله عنه.. وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصوّرت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسّن لهم الإشراك بالله ودعاء غير الله)(22).
فيتعين على أهل العلم كشف عوار مسلك القبوريين وبيان تهافته، وفساد التعويل على المنامات والأحلام، والأحاديث الموضوعة، والحكايات المزعومة، مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة، واعتبار فهم السلف الصالح ونحو ذلك.
2- ومن الأجوبة المجملة المحكمة ما ذكره إمام الدعوة ـ رحمه الله ـ في الرد على شبهات القبوريين بقوله: (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل.(1/10)
أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله ـ تعالى ـ: ((هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ)) [آل عمران: 7]. وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) أخرجه البخاري ومسلم.
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- يُستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى هذا الكلام الذي ذكره فجاوِبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ـ تعالى ـ ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء، مع قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وهذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغير معناه.
وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن، أو كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف كلام الله ـ عز وجل ـ، وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به)(23).(1/11)
فهذا جواب سديد وحجة ظاهرة تجاه كل شبهة. وقد ساق المؤلف جواباً في توضيح هذا الجواب، فإقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية وأن كفرهم بسبب اتخاذهم وسائط بينهم وبين الله ـ تعالى ـ، يسألونهم ويدعونهم يُعَدّ أمراً محكماً ظاهراً لا اشتباه فيه ولا التباس، وأما احتجاج المبتدع لباطله ببعض النصوص الشرعية فهو أمر مشتبه ومشكل لا يُعلم معناه ـ بالنسبة لذلك الموحد ـ ولا يترك المحكم الواضح ويتبع المتشابه إلا أهل الزيغ؛ مع يقيننا أن أدلة الحق لا تتناقض سمعية كانت أو عقلية؛ فالنصوص الشرعية يصدّق بعضها بعضاً، فما كان متشابهاً فيردّ إلى ما كان محكماً، بل نجزم أن أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم(24).
وهؤلاء القبوريون من أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، ليس نظرهم في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر مَنْ حكم بالهوى، ثم أتى بالدليل كالشاهد له(25).
وشبهاتهم التي احتجوا بها ـ إن صحت ـ من المتشابهات التي يتعين ردّها إلى المحكمات من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب إفراد الله ـ تعالى ـ بالدعاء والاستغاثة وسائر أنواع العبادة والنهي عن الشرك وذرائعه.
3- وإذا انتقلنا إلى الجواب عن شبهاتهم، فنقول ابتداءً: لا يوجد لدى القبوريين دليل صحيح صريح في تجويز استغاثتهم بالقبور، وما قد يصح من شبهاتهم إنما قد يُستدل بها ـ عند البعض ـ على جواز التوسل إلى الله ـ تعالى ـ بالذوات، فلا تدل على جواز الاستغاثة بالقبور. والتوسل إلى الله ـ تعالى ـ بالذوات بدعة محدثة، بينما الاستغاثة بالقبور كفر وردة، فالفرق بينهما ظاهر.(1/12)
يقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب موضحاً الفرق بين التوسل والاستغاثة: (وبينهما فرق عظيم أبعد مما بين المشرق والمغرب.. فالعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بملائكتك، أو بالصالحين، أو بحق فلان وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها وينادونها؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه، ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرّق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال: أتوسل إليك برسولك أو أتوجه إليك برسولك؛ فقد استغاث به حقيقة، فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرّقون بين المسؤول وبين المسؤول به)(26).
ومع ذلك فالتوسل إلى الله ـ تعالى ـ بالذوات أو الجاه قد صار ذريعة إلى دعاء القبور والتعلق بها، وما قد يُستدل به على التوسل إلى الله بالذوات أو الجاه، فإما أن يكون صريحاً لكنه لا يصح ولا يثبت، وما قد يكون صحيحاً فلا يدل على مرادهم، وإنما يدل على التوسل المشروع كالتوسل بأسماء الله وصفاته والعمل الصالح كما بسط في موضعه (27).
وأمر آخر وهو أن القبوريين قد لبّسوا على العوام وأشباههم بهذه الألفاظ المجملة المشتركة، فصاروا يطلقون لفظ (التوسل) ـ مثلاً ـ على الاستغاثة بالقبور ودعائها، فيظن البعض أن مرادهم التوسل إلى الله بالذات أو الجاه.. فيقع اللبس والإشكال.
والتحقيق أن هذه الألفاظ المجملة يتعين تفصليها وبيانها، وقد بيّن أهل العلم ما يحمله لفظ (التوسل) من الإجمال والاشتراك، ومن ذلك ما قاله الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعبّاد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.(1/13)
وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة، فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة.. ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر (الهيثمي))(28).
ومن شبهات القبوريين قولهم: إن مشركي العرب لم يكونوا يعترفون بالربوبية لله ـ تعالى ـ ونحن نعترف بأن الله ـ تعالى ـ هو الرب المدبّر الخالق.
فالجواب عن هذه الشبهة: أن مشركي العرب مقرون بتوحيد الربوبية، فلم ينازعوا فيه، بل إن هذا التوحيد لم ينازع في أصله أحد من بني آدم(29)، والدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستحل دماءهم كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المدبّر لقوله ـ سبحانه ـ: ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) [يونس: 31].
قال قتادة ـ رحمه الله ـ: (إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته)(30).
وقال ابن جرير ـ رحمه الله ـ عند قوله ـ تعالى ـ: ((فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) [يونس: 31]: (أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئاً ولا يملك لكم ضراً ولا نفعاً)(31).
فالإقرار بربوبية الله ـ تعالى ـ لا يتحقق به التوحيد المطلوب، فمشركو العرب مقرون بتوحيد الربوبية، ومن ذلك قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستحل دماءهم حتى يفردوا الله ـ عز وجل ـ بجميع أنواع العبادة.(1/14)
ومن شبهاتهم: دعواهم أن الآيات القرآنية نزلت فيمن يعبد الأصنام والأحجار.. فلا تشملهم.
وجوابها: أن الشرك بالله أن يجعل لله نداً في العبادة سواءً كان صنماً أو حجراً أو نبياً أو ولياً.
ومما قاله العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ جواباً عن هذه الشبهة: (الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به ـ سبحانه ـ سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية ـ كالصنم والوثن ـ أو أطلق عليه اسماً آخر ـ كالولي والقبر والمشهد ـ)(32).
وإن أراد القبوريون بمقولتهم: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، بأنه لا يجوز تنزيل هذه الآيات على من عمل عملهم؛ فهذا من أعظم الضلال.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عن هذه المقولة: (فهذا ترس قد أعدّه الجهال الضلاّل لردّ كلام، إذا قال لهم أحد: قال الله كذا، قالوا: نزلت في اليهود، نزلت في النصارى، نزلت في فلان...
وجواب هذه الشبهة (الفاسدة) أن يقال: معلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يُستدل به إلا في تلك الأسباب بطل استدلاله، وهذا خروج من الدين، وما زال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وغيرهم على من يعمل بها)(33).
ومن شبهاتهم: أن سؤالهم أرباب القبور من أجل طلب الشفاعة، فهؤلاء الموتى شفعاء بينهم وبين الله ـ تعالى ـ.
والجواب: أن الله قد سمى اتخاذ الشفعاء شركاً، فقال ـ سبحانه ـ: ((وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس: 18].(1/15)
وأمر آخر أن الشفاعة كلها لله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ: ((قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)) [الزمر: 44]، وقال ـ عز وجل ـ: ((وَلا يَمْلِكُ الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)) [الزخرف: 86].
يقول ابن تيمية: (فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكاً لها، بل هذا ممتنع، كما يمتنع أن يكون خالقاً ورباً.
قال ـ سبحانه ـ: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) [سبأ: 23] فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقاً يملك الشفاعة، بل هو ـ سبحانه ـ له الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك)(34).
وجواب ثالث: أن الله ـ تعالى ـ أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة، لكن نهانا عن سؤالهم ودعائهم، فقال ـ سبحانه ـ: ((وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإن فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس: 106]، والشفاعة نوع من الدعاء(35)، ولا يكون الدعاء إلا لله ـ تعالى ـ وحده.
كما أن إعطاء الله الأنبياء والأولياء الشفاعة ليس تمليكاً مطلقاً، بل هو تمليك معلّق على الإذن والرضا، وسيد الشفعاء -صلى الله عليه وسلم- لا يشفع حتى يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفّع)(36).(1/16)
والحديث عن شبهات القبوريين والرد عليها طويل جداً، وإنما ذكرنا بعضاً منها، وقد صُنفت مصنفات نافعة تتضمن الرد على شبهات القبوريين، مثل قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، والرد على البكري والرد على الأخنائي كلها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وإغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، والصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، وكشف الشبهات، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للصنعاني، والنبذة الشرعية النفيسة في الرد على القبوريين لحمد بن معمر، والدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، لمحمد ابن علي الشوكاني، وصيانة الإنسان عن وسوسة دحلان لمحمد بشير السهسواني، وتطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، لأحمد بن حجر آل بوطامي، وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، لمحمد ناصر الدين الألباني، والدعاء ومنزلته في العقيدة الإسلامية لجيلاني بن خضر العروسي، وغيرها كثير.
يتبع في العدد القادم إن شاء الله،،،
الهوامش :
(1) انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم، 4/1560.
(2) الحجة لقوام السنة، الأصفهاني، 1/281.
(3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2/617.
(4) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 1/25، 26.
(5) تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص455، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2/611، وإغاثة اللهفان، 1/133.
(6) انظر: الدرر السنية، 9/418، واقتضاء الصراط المستقيم، 2/705.
(7) معارج الألباب، ص216، باختصار.
(8) قرة عيون الموحدين، ص33.
(9) التبيان في أقسام القرآن، ص143.
(10) الصواعق المرسلة، 2/461، 462.
(11) أخرجه أحمد، 3/18، والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/689.
(13) جامع الرسائل، 2/305، وانظر الرد على البكري، ص55.
(14) انظر شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ص 17.
(15) طبقات الشعراني، 2/74.
(16) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/650.
(17) مجموع الفتاوى، /356.(1/17)
(18) انظر: إغاثة اللهفان، 1/332.
(19) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/652، وإغاثة اللهفان، 1/333.
(20) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/688.
(21) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/653، وانظر: إغاثة اللهفان، 333، 334.
(22) مجموع الفتاوى، 71/456، باختصار، وانظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية، لجيلاني خضر العروسي، 1/447، 2/812
(23) كشف الشبهات، ص43، 44.
(24) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 6/354، 514، وحادي الأرواح، لابن القيم، ص208.
(25) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/221.
(26) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 1/70.
(27) انظر: قاعدة جليلة في التوسل الوسيلة، لابن تيمية، والتوسل، للألباني، والتوصل إلى حقيقة التوسل، لمحمد نسيب الرفاعي ـ رحمه الله ـ.
(28) منهاج التأسيس، ص267، وانظر: مصباح الظلام ص178.
(29) انظر: التدمرية، لابن تيمية، ص181، ومجموع الفتاوى، 2/38.
(30) تفسير ابن جرير، 13/78.
(31) تفسير ابن جرير، 11/114.
(32) الدر النضيد، ص18، بتصرف يسير.
(33) تاريخ ابن غنام، 2/285، بتصرف يسير.
(34) مجموع الفتاوى، 51/604، باختصار.
(35) انظر: مجموع الفتاوى، 1/200.
(36) انظر: تأسيس التقديس، لأبي بطين، ص82.
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انحرافات القبوريين الداء والدواء
(2/2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف(1/18)
في عرضه لسبل معالجة انحرافات القبوريين تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى المسلك الدعوي، وأوضح فيه ضرورة أن يُعنى العلماء بتقرير التوحيد وتربية الأمة على الانقياد للشرع انقياداً والتزاماً، ومخاطبة عقول الناس لبيان تهافت اعتقادات القبورية، ثم شرع في إيضاح المسلك الثاني، وهو: المسلك العلمي الذي بين فيه ضرورة إيضاح قواعد الاستدالال عند أهل السنة وأهل البدع، والتنبيه على أن أدلة اعتقاد أهل السنة هي غالباً من المحكمات بخلاف أهل البدع، ثم بين تهافت استدلالات القبوريين على انحرافاتهم، ويواصل في هذه الحلقة مقارعة ما تبقى من دعاويهم، وبيان جوانب أخرى في الموضوع .
- البيان -
4- ومن دعاويهم العريضة: احتجاجهم بأن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون على القبور، ويتخذون المشاهد والقباب، ويتحرون الدعاء عندها.
والجواب عن هذه الدعوى من وجوه:
أحدها: أن أكثر هذه المشاهد مكذوبة لا تصح نسبتها إلى أصحابها، وكما يقول شيخ الإسلام: (وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح؛ فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبيّ بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب)(1).
ويقول في موضع آخر: (عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق، لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في القليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام.. بل قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يفعله المبتدعون عندها..)(2).
ثانياً: إن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها ونحو ذلك من البدع المنكرة التي حذّر منها الشارع أيما تحذير، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذّر ما صنعوا) متفق عليه.(1/19)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(قد كان من قبور أصحاب رسول بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا استسقوا عند قبره ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جُهّالهم)(3).
ويقول ابن القيم مبيّناً أن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة:
(هل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم [ أي: السلف الصالح ] بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك...)(4).
يقول العلامة الصنعاني جواباً عن هذه الشبهة: (إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل؛ فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل بلدته يلقنونه: أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويرحلون إلى محل قبره... فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير... ولا يخفى على أحد يعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر)(5).(1/20)
ويقول العلامة الشوكاني: (اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول -صلى الله عليه وسلم- لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين)(6).
ثالثاً: أن سكوت العلماء عن هذه المظاهر الشركية والبدعية عند المشاهد والقبور لا يعني الرضا والإقرار، فقد يتعذر عليهم الإنكار باليد وباللسان، ولم يبق لهم إلا الإنكار بالقلب، لا سيما وهذه المشاهد والقباب قد بناها حكام وسلاطين؛ كما يقول الصنعاني: (فما كل سكوت رضى؛ فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد. فإن هذه القباب والمشاهد أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، وغالب ـ بل كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه...)(7).
ومن هذا القبيل ما يحتج به القبوريون بأن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه، كما يحتجون بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
والجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ شرقي المسجد، فلم يدفن في المسجد، والأنبياء يدفنون حيث يموتون ـ كما جاءت بذلك الأحاديث ـ.
كما أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً؛ كما في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجه البخاري ومسلم.(1/21)
وأمر آخر وهو أن الحجرة النبوية إنما أُدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة(8)؛ حيث أمر الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه على سبيل التوسعة، فأدخل فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد(9).
فلا يصح الاحتجاج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الثابتة وما فهمه سلف الأمة، وقد أخطأ الوليد في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد، وكان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية(10).
وأما دعوى عدم الإنكار فهذه دعوى بلا دليل، وعدم العلم ليس علماً بالعدم، وسكوت العلماء لا يعني الرضا والإقرار؛ كما سبق الإشارة إليه آنفاً؛ لا سيما وأن الذي أدخل القبر النبوي ضمن المسجد خليفة ذو شوكة وسلطان ـ وهو الوليد بن عبد الملك ـ وكذا الذي اتخذ القبة ـ هو السلطان قلاوون.
ومع ذلك فإن المعوّل عليه هو الدليل والبرهان وليس واقع الناس وحالهم. والله المستعان.
ومما يبين تهافت هذه الدعوى: ما نقل عن علماء أنكروا هذا الصنيع وحذّروا منه.
فيحكى عن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: أنه أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد، كأنه خشي أن يتخذ مسجداً(11).
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى إنكار هذه القبة؛ حيث قال: (ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه)(12).
يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي في الرد على هذه الدعوى: (قوله [اي المخالف]: ومن المعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- له قبة، وأولياء المدينة وأولياء سائر البلدان.(1/22)
أقول: الأمر كذلك؛ فكان ماذا؟ بعد أن حذر -صلى الله عليه وسلم- وأنذر وبرأ جانبه المقدس الأطهر -صلى الله عليه وسلم-، فصنعتم له ما نهى عنه، أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه وتقدماً بين يديه! فهل أشار بشيء من هذا أو رضيه أو لم ينه عنه؟)(13).
وقال العلاّمة الصنعاني في الجواب عن هذه الشبهة: (فإن قلت: هذا قبر رسول الله قد عمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال. قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال: فإن هذه القبة ليس بناؤها منه، ولا من الصحابة، ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره -صلى الله عليه وسلم-، من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ، ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول)(14).
ويُذكر أن الإخوان ـ رحمهم الله ـ قد هموا في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ عند دخولهم المدينة المنورة أن يزيلوا هذه القبة، ولكنهم خشوا من قيام فتنة أعظم من إزالة القبة(15).
ج - المسلك الاحتسابي: وهذا مسلك يقوم به أصحاب الحسبة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لاسيما أصحاب النفوذ والسلطة والشوكة.
ويتمثل هذا المسلك في أمرين:
أحدهما: أن يسعى إلى هدم هذه القباب ونقضها وإزالتها، امتثالاً للوصية النبوية واتباعاً لسلف الأمة.
فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). أخرجه مسلم.(1/23)
ولما ذكر ابن القيم هدم مسجد الضرار وتحريقه، قال: ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدّم كلها حتى تسوّى بالأرض، وهي أوْلى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور، يجب أن تهدم كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور.. فبناءٌ أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم)(16).
ومن الأمثلة على هذا المسلك الاحتسابي ما فعله الحارث بن مسكين ـ رحمه الله ـ (ت 250هـ) عندما هدم مسجداً كان قد بني بين القبور(17).
قال ابن كثير في حوادث سنة 236هـ: (فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس: من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبنا به إلى المطبق (السجن))(18).
وقال أبو شامة (ت 665هـ): (ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبينأني أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدّب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذّن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتُها لك فلا ترفع لها رأساً، قال: (فما رُفِعَ لها رأس إلى الآن)(19).(1/24)
وذكر ابن غنام في تاريخه ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ مع عثمان بن معمر من هدم القباب وأبنية القبور فقال: (فخرج الشيخ محمد بن الوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه)(20).
ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سلك هذا المسلك الاحتسابي العملي لما كان عنده من شوكة وقوة، ولكنه كان في أول أمره قد سلك مسلك الدعوة برفق ولين كما قال تلميذه وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله ـ: (كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في ابتداء دعوته، فإذا سمعهم يدعون زيد ابن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (الله خير من زيد) تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة)(21).
ويذكر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخولهم مكة ـ شرّفها الله ـ سنة 1218هـ فكان مما قاله: (فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يُعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه مع جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يُعبد؛ فالحمد لله على ذلك)(22).
ومما سطره المؤرخ ابن بشر عن بعض الأعمال التي قام بها الأمير سعود بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ ما يلي:
ففي حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم القبة الموضوعة على قبر الحسين)(23).
ويقول أيضاً: (وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة وطاف وسعى، فرّق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها).(1/25)
فأقام فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك المشاهد والقباب إلا أعدموها، وجعلوها تراباً)(24).
وفي سنة 1343هـ قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور بمكة، مثل القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ.
وقام الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ـ في جنوب الجزيرة العربية ـ بهدم قبة في الساحل بمشاركة بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي في سامطة(25).
ويقول الشيخ الألباني: (ومن تلك الأشجار شجرة كنت رأيتها من عشر سنين شرقي مقبرة شهداء أحد، خارج سورها، وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها سنة 1371هـ قد استأصلت من أصلها، والحمد لله، وحمى المسلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله ـ تعالى ـ)(26).
الأمر الثاني: أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد أرباب القبور وسدنتها، وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين، وما هم عليه من الفجور والولوغ في الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل، وأنهم خونة وعملاء للاستعمار وأذنابه.
وقد كشف أهل العلم حقائق مخزية وأحوالاً فاضحة لأولئك السدنة المضلين وأتباعهم، وما يرتكبونه من انخلاع عن شرائع الله ـ تعالى ـ، وولع بالفجور والقاذورات.
يقول العلاّمة النعمي حاكياً بعض أوضاعهم: (ومن ذلك أن رجلاً سأل من فيه مسكة عقل، فقال: كيف رأيتَ الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أرَ أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الأيام فريضة.
فقال السائل: قد تحمّلها عنهم الشيخ.
قلت [النعمي]: وباب (قد تحمّل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد)(27).(1/26)
ومما سوّده المؤرخ الجبرتي في شأن مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت 1172هـ) وما يحصل عنده من أنواع الفسوق والفجور ما يلي: (ثم إنهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد، فينصبون خياماً كثيرة ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والبغايا، فيملؤون الصحراء، فيطؤون القبور ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر)(28).
وتحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن مفاسد عُبّاد القبور، فكان مما قاله: (ومنها: ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف، ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور)(29).
ويصف الشيخ عبد الرحمن الوكيل أحوال عبّاد القبور ـ من الصوفية وغيرهم ـ ويشير إلى جملة من صور الكفر والفجور في تلك المشاهد والموالد، فيقول: (وسلِ الآمّين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها.. فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبّحون بحمد جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و (الحشيش)، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجوراً ومعصية، ويسمونها موالد، أو مواسم عبر وذكريات خوالد...)(30).(1/27)
وسرد الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد الإنبابي.. وأن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا يحصى.. حتى أرسل الله ـ تعالى ـ عليهم ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن عليها...(31).
وأمعن عبّاد القبور في أكل أموال الناس بالباطل، وارتكبوا أنواع الأكاذيب والدجل في سبيل نهب أموال العامة وممتلكاتهم.
وقد حكى العلامة الشوكاني هذه الحالة فقال: (وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق ويقنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولون ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً...)(32).
وصندوق النذور عند ضريح البدوي في مصر يستقطع من الدهماء ملايين الجنيهات، وللحكومة 39% من هذه الأموال!! وسائر الأموال لسدنة الضريح والعاملين عليه!! وحسبك أن تعلم أن ما يناله خادم الضريح من هذه الأموال أكثر مما يناله كبار الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات... ومع ذلك لم يقف طمع أولئك السدنة وشرههم عند هذا الحد، بل ويعمدون إلى التلاعب والتزوير في هذا الصندوق من أجل مزيد من الأموال(33).
وأما الحديث عن خيانتهم وعمالتهم للاستعمار، فنكتفي بهذا المثال وهو أن فرنسياً أسلم وتنسّك وصار إماماً لمسجد كبير في القيروان بتونس، فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل الضريح ثم خرج مهولاً لهم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، فاتبع أولئك البسطاء قوله واستسلموا لعدوهم(34).
الهوامش:
(1) الرد على البكري، ص 310، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 2/646 649، ومجموع الفتاوى، 27/459.(1/28)
(2) مجموع الفتاوى، 27/449، 450، باختصار.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/681.
(4) إغاثة اللهفان، 1/318.
(5) تطهير الاعتقاد، ص 36، باختصار.
(6) شرح الصدور، ص 8.
(7) تطهير الاعتقاد، ص 41.
(8) انظر: الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 ـ 323.
(9) انظر: تاريخ ابن كثير، 9/74.
(10) انظر: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للألباني، ص 93، وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق محمد، ص 106.
(11) انظر بحثاً: حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل الوادعي، ص 357.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/279.
(13) معارج الألباب، ص 147، بتصرف يسير.
(14) تطهير الاعتقاد، ص 43.
(15) انظر بحثاً حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل الوادعي ص 275.
(16) إغاثة اللهفان، 1/327.
(17) انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض، 1/332، والديباج المذهب، لابن فرحون، 1/339.
(18) تاريخ ابن كثير، 1/315.
(19) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 103، 104.
(20) تاريخ ابن غنام، 1/78، بتصرف يسير. (21) مجموع التوحيد، ص 339.
(22) الهدية السنية، ص 37. (23) عنوان المجد، 1/257.
(24) المرجع السابق، 1/263.
(25) انظر: الشيخ حافظ الحكمي، حياته ومنهجه في العقيدة، لأحمد علوش، ص 357.
(26) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص 139.
(27) معارج الألباب، ص 177.
(28) تاريخ الجبرتي، 1/304، باختصار.
(29) منهاج التأسيس، ص 55.
(30) هذه هي الصوفية، ص160، 161، باختصار.
(31) انظر: السيد البدوي، ص 323 236، وانظر: الصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق، ص 49، 50، والألوهية في العقائد الشعبية، لعبد السلام البسيوني، ص 9698.
(32) الدر النضيد، ص 27.
(33) انظر تفصيل ذلك في كتاب: (الله توحيد وليس وحدة) لمحمد البلتاجي، ص 302، 308، وكتاب: البدوي، لأحمد منصور، ص 298، 299.
(34) انظر: التصوف بين الحق والخلق، لمحمد الشقفة، ص 211، 212.
ملفات(1/29)
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
الأضرحة في العالم الإسلامي
مشاهد متفرقة
الخرطوم: عثمان محمد سليمان
دكا: عبد الله الشهيد
القاهرة: أحمد محمد
أسمرة: إدريس محمد إدريس
هذه بعض المشاهدات التي أرسلها للبيان بعض الكتاب نضعها بين يدي القارئ ليزداد بصيرة بحجم هذا المرض الفتاك (تقديس القبور والأضرحة) وللمارسات غير الشرعية التي تقوم بها العامة تحت سمع وبصر بعض العلماء، ومما يندى له الجبين أن بعض العلماء يشارك في هذه الطقوس المبتدعة تحت اسم مولد الولي فلان أو الرجل الصالح علان.
ومن هذا القبيل شد الرحال لما يسمى بالعتبات المقدسة وما يحصل فيها من استغاثات للأموات وتمسح بها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ـ البيان ـ
القبور والأضرحة ـ مزيد من البيان:
منذ عصر دولة بني عبيد بن القداح ـ الذين ادعوا زوراً وبهتاناً أنهم فاطميون ـ عرفت البدع الشركية طريقها إلى السودان، وأخذت تنتشر وتستفحل، ثم زاد الطين بلة وجود التوجهات الصوفية البدعية في عصر الدولة العثمانية، فأعطت زخماً جديداً لهذه البدع التي أضحت أحد العناصر الأساس في الحياة الاجتماعية لأكثر السودانيين، قبل أن تأتي الدعوة السلفية وتحاول الوقوف أمام هذا الطوفان..
ويقف على رأس هذه البدع: ما يتعلق بالقبور؛ فقد أصبح اتخاذ القباب والأضرحة على قبور من يُعتقد صلاحهم أحد ذرائع البدع القولية والعملية، والكبيرة والصغيرة في حياة الناس.
والقبة عبارة عن بناء شاهق يُتخذ على شكل مخروطي أو نصف كروي، يقام على قبر من يُعتقد فيه الصلاح والولاية.. ولكن كيف يعرف احتواء هذا القبر على من يعتقد في صاحبه الصلاح أو الولاية؟..(1/30)
يتم ذلك عن طريق ما يسمونه بـ (البيان)!، فحسب الاعتقاد السائد في السودان: يمكن أن يرى شخص ما رؤية منامية، يرى فيها شيخاً من الشيوخ ممن ماتوا ودفنوا في مكان ما، فيرى الرائي أن هذا الشيخ دله على مكان معين و(بيّن)، أي: ظهر فيه، فيبادر هذا الرائي عند استيقاظه بالتوجه إلى ذلك المكان فيرفعه عن سطح الأرض، وينصب عليه الخرق والرايات، معلناً أن الشيخ الفلاني بيّن في هذا المكان، فيعرف المكان بأنه (بيان) الشيخ الفلاني، ثم يزار كغيره من الأضرحة والقباب، وتُعقد له وحوله الطقوس المعروفة بهذه الأضرحة.
ومن حيث أماكن اتخاذها تنقسم القباب والأضرحة إلى قسمين:
أ - قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة، حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور.
ب - قباب تبنى في المساجد، أو تبنى عليها المساجد، وقد تكون في قبلة المسجد، أو في الخلف، أو في أحد جوانبه.
ومن أشهر القباب والأضرحة في السودان:
* قبة الشيخ/ محمد عثمان عبده البرهاني (شيخ الطريقة البرهانية) بالخرطوم ـ السوق الشعبي.
* قبة الشيخ/ قريب الله، بأم درمان، ودنوباوي.
* قبة الشيخ/ دفع الله الصائم ديمة، بأم درمان ـ أميدة.
* قبة الشيخ/ حسن ود حسّونة، بالخرطوم بحري.
* قبة الشيخ/ دفع الله الفرقان، بأم درمان، جنوب السوق.
* قبة الشيخ/ أبو زيد، بأم درمان، سوق ليبيا.
* قبة الشيخ/ حمد النيل، بأم درمان.
* قبة الشيخ/ محمد بن عبد الله كريم الدين (شيخ الطريقة المحمدية الأحمدية الإدريسية).
* قبة الشيخ/ إبراهيم ود بَلاّل، بالقطينة.
* قبة الشيخ/ الطيب ود السايح، بأبي شنيب، قرب الحداحيد.
* قبة الشيخ/ حمد ود أم مريوم، بالخرطوم بحري، حي حِلّة حمد.
* قبة الشيخ/ خوجلي أبو الجاز، بالخرطوم بحري، حلة خوجلي.
* قبة الشيخ/ صديق ود بُساطي، غرب النيل الأبيض.
* قبة الشيخ/ طه الأبيض البطحاني، بشمال الجزيرة.
* قبة الشيخ/ الطريفي ود الشيخ يوسف، بأبي حراز.(1/31)
* قبة الشيخ/ عبد الرحيم ود الشيخ محمد يونس، بأبي حراز.
وجدير بالذكر أن منطقة أبي حراز بها ما يقارب (36) قبة، من أشهرها ـ إضافة إلى ما سبق ـ:
* قبة الشيخ أحمد الريح، وقبة الشيخ دفع الله المصوبن (أبو النعلين).
وقد لوحظ على بعض القباب أنها حظيت برعاية بعض القادة السياسيين، مثل قبة الشيخ يوسف أبو سترة، التي شيدت برعاية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكذلك قبة الشيخ مدني السني، بمدينة ود مدني، كما لوحظ أيضاً عدم اقتصار اتخاذ القباب على قبور المعظمين في المسلمين، بل من شدة الجهل والغفلة اتخذت قبة على مقبرة (الرفيق) الصيني الشيوعي يانغ تشي تشنغ، في ود مدني، ولوحظ كذلك: أن بعض هذه القباب يتوسط المساكن.
أما في إريتريا: فمن أشهر الأضرحة التي يرتادها الناس:
* ضريح الشيخ بن علي بقرية (أم بيرم) القريبة من مدينة مصوع الميناء الرئيس لإريتريا.
* ضريح سيدي هاشم الميرغني وبنته الست علوية بمدينة مصوع، وعلى كل من هذين القبرين مبنى مستقل على شكل مكعب ومغطى بالقماش مثل الكعبة، وفي كل زاوية منه خشبة مستديرة الشكل يتبرك بها بعد الانتهاء من الطواف بالقبر!
* ضريح الشيخ جمال الأنصاري، وله وقت مخصص لزيارته، وإن كانت أهميته لدى الناس أقل من سابقيه.
* ضريح جعفر، وقد بني عليه مسجد، ويقوم المصلون في المسجد بزيارته بعد كل صلاة مفروضة.
* ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو ضريح وهمي في قرية (حوطيت) بالقرب من مدينة جندع على ساحل البحر الأحمر.
* ضريح الشيخ الأمين المقام في أحد مساجد مدينة (أسمرا) العاصمة.
* ضريح سيدي هاشم في مدينة (كرن) التي تقع على الساحل الجنوبي من إريتريا، وهو يعتبر من أكبر المشاهد التي يقصدها الناس من أنحاء عديدة في البلاد، بل ومن الدول المجاورة كالسودان.(1/32)
* ضريح أحمد النجاشي في (عدي قرات) التي تقع على الحدود الإريترية الإثيوبية، وله يوم محدد (مولد) يقصده الناس فيه من أنحاء إريتريا وإثيوبيا.
بنجلاديش:
ولا تختلف الصورة كثيراً في شرق العالم الإسلامي حيث تنتشر الأضرحة و(المزارات) ففي بنغلاديش، خاصة في مدن داكا (العاصمة) وشيتاغونج وسلهت وخولنا، ولكن من الغريب ارتياد الناس لمزارات يوجد بها سلاحف وتماسيح يعتقد فيها بعض الجهلاء النفع والضر، فيقدمون الأكل لها أملاً في الحصول على وظيفة أو لتفريج كربة، وتحرص بعض النساء على مس هذه الحيوانات أملاً في حدوث الحمل والرزق بالذرية، وقد نتجت هذه الاعتقادات والممارسات عن الزعم بأن هذه الحيوانات تحولت إلى هذه الصورة بعد أن كانت من الأولياء الصالحين! وهناك أيضاً مزارات تحتوي على أشجار يعتقد فيها وتعلق على أغصانها الخيوط والخرق.
ويولي المعتقدون في هذه الأضرحة والمزارات اهتماماً كبيراً بعمارتها ومظهرها حيث تكون المباني مزخرفة ومزينة، ولكل قبر قبة مبنية بأحجار قيمة، وتقوم على أمر هذه المزارات لجنة تضم أصحاب السلطة والمنتفعين من ورائها؛ حتى أصبح حالنا وحال هذه الأضرحة كما قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات
تعددت المظاهر والانحراف واحد:
يعتبر الغلو والبدع والانحراف عن التوحيد الخالص عوامل مشتركة بين مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها وإن تنوعت المظاهر حسب بيئة كل بلد وعادات أهله.(1/33)
ففي إريتريا يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار والسكر والقهوة والشاي وغيرها من أنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال؛ ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح، وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضا للولي أو الشيخ، ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه، ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه، كما يحصل من الفساد الأخلاقي حول الأضرحة ما يستحيي الإنسان من ذكر تفاصيله وخاصة الاختلاط وانتهاك الأعراض، وتكثر هذه الممارسات حول الأضرحة الشهيرة، كضريح الشيخ (بن علي) وضريح سيدي هاشم الميرغني وبنته الست علوية، وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وضريح سيدي هاشم وضريح أحمد النجاشي.
ويزداد الأمر سوءاً في السودان؛ حيث يحرص أتباع هذه الأضرحة والمنتفعون منها على التأصيل لهذه الانحرافات، فتلقى المحاضرات وتؤلف الكتب في الحث على ذلك، ومن أشهرها:
رسالة عبد الله المحجوب الميرغني، المتوفى سنة (1207هـ)، واسمها: (تحريض الأغبياء على الاستعانة بالأنبياء والأولياء)، يقول فيها:
(ولهذا يتبين لك (وجوب) التعلق بالوسائل والأسباب، وتأكد لزوم التزام الوسائط والأبواب، فتعلق بالوسائل والأسباب، والجأ واستغث، وانده [من النداء] لخواص الله والأحباب، واطرق لدى الخطوب ما شئت من الأبواب، تنل بذلك من فيض الوهاب ما لا يدخل في حساب).
ونتج عن إشاعة هذا الاعتقاد والدعوة إليه أن تأثيره لم يقتصر على الطرقيين فقط، بل امتد ليشمل جماهير عريضة في الشعب السوداني، وهذا ما شاهدته بنفسي أثناء مطالعتي لتلك المزارات، فهناك عادات ارتبطت بتلك القباب، يقوم بها روادها، منها:
1- ينبغي أن يخلع الزوار نعالهم خارج القبة، وبعضهم يخلعها خارج ساحة المسجد، احتراماً لصاحب الضريح. وعلى أية حال: فمن المسلّم به عندهم أنه لا يجوز دخول القبة بالنعلين.
2- يتم دخول القبة بإذن من حارسها، كما يتولى خادم الضريح (تطويف) الزوار.(1/34)
3- يتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى: فمنهم من يأخذ من ترابها، ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها، ثم يمسح على جسده وملابسه.
4- الطواف داخل القبة حول القبر من الممارسات الشائعة والمألوفة عند هؤلاء الزائرين.
5- وكذلك دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء، فقد رأيت بعض الزائرين يجلس عند القبر ممسكاً بسياجه، ويلح في طلب حاجته، وأحياناً يصرخ، وبعضهم الآخر يدعو المقبور أثناء الطواف حول القبر، ومما يندى له الجبين أن امرأة شوهدت عند قبة الشيخ عبد الباقي تحمل طفلاً، ترفعه بيديها وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها، ثم تقول: (يا شيخ.. سمعت؟) لتتيقن سماعه وقضاء حاجتها!
6- ومنهم من يلتزم القبر بداخل القبة، ويصيح عنده ويجأر به.
7- ورأيت من يسجد وهو مستقبل القبة ـ نسأل الله السلامة ـ.
8- ومن المعتاد: تقديم النذور عند هذه القباب.
9- ومن الناس من يعكف عندها أياماً وشهوراً، التماساً للشفاء أو لقضاء حاجة من حوائجه، وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض.
10- وقد لوحظ أن زيارة القباب تتم في جميع أيام الأسبوع، وتزداد في أيام الجمع والأعياد؛ حيث يكتظ كثير من القباب بالزوار في هذه المناسبات، كما لوحظ اختلاط الرجال والنساء في هذه الزيارات، وأن معظم الزائرين من النساء.
وفي بنجلاديش يأتي الناس إلى المزارات ويظنون أنها أقدس مكان على وجه الأرض، لذا: فهم يسجدون أمام الأضرحة إجلالاً لها واحتراماً، ويطلبون من أصحابها الذرية ودفع المصائب وتفريج الكروب، كما يقدمون لهم النذور من الأموال والحيوانات كالغنم والبقر التي تذبح باسم صاحب القبر، وأخيراً ينصرفون وهم يظنون أنهم فعلوا خيراً كثيراً؛ لأنهم يعتقدون أن لأصحاب هذه الأضرحة يداً في تصريف الأمور، بل وفي إدخالهم الجنة، ويكون عدد المترددين أكثر بعد العصر وخاصة ليلة الجمعة.(1/35)
وينتشر حول هذه الأضرحة بعض القبوريين الذين يعيشون في ساحاتها ويلازمونها، وهم صنفان من حيث مظهرهم:
الأول: أناس أصحاب هيئة رثة لا يلبسون إلا القليل من الملابس، التي تكاد ألا تستر غير عوراتهم، ويطلقون شعورهم ولحاهم وشواربهم التي بدا عليها التلبد والقذارة، فهم لا يغتسلون من أوساخهم ولا ينظفون ملابسهم.. ومع ذلك يختلط الناس بهم طلباً للبركة منهم، وتبيت معهم النساء، ولا يتحرزن عن معاشرتهم.
الثاني: يهتمون بمظهرهم وينظفون ملابسهم إلى حد ما، يجلس الواحد منهم في ساحة الضريح وحوله الناس ينادونه بكل شوق ورغبة باسم (بابا)، وهم دائماً يحققون ما يأمر به، وتبيت النساء أيضاً عنده من غير تحرز عن ارتكاب الفواحش معه، حيث يتناولون المخدرات والمسكرات ويغنون بإيقاع خاص أشعار الشرك والفجور، ولا يتورعون عن ارتكاب الزنا.
وفي مصر تلقى الأضرحة احتراماً وتبجيلاً لدى كثير من الناس، حيث يندفع أكثرهم لا شعورياً للقيام ببعض الممارسات المتنوعة والمتعلقة بهذه الأضرحة، وتبدأ هذه الممارسات بالحرص على الصلاة في المسجد الذي به الضريح، ثم الحرص على زيارته وترديد بعض الكلمات والصلوات والدعوات. وبالطبع فإن هذا الحرص يتفاوت حسب شهرة الضريح ومكانته في نفوس الناس وحسب دوافع الزائر له، ويلي ذلك: التمسح بالضريح وتقبيله طلباً للبركة، ويليه: التوسل بجاه صاحب الضريح اعتقاداً أن ذلك أقرب إلى إجابة الدعاء، ثم ينتهي المطاف ببلوغ غاية الضلال والخرافة عندما يتوجه إلى صاحب الضريح بالدعاء والرجاء وطلب قضاء الحاجات منه، وغالباً ما يصحب الدعاء استقبال للضريح حتى ولو كانت القبلة خلف ظهره، كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل إلى حد البكاء، وقد يصل الولع والوجد ببعضهم إلى الإغراق في حالة من انعدام الوعي، فيصبح (مجذوباً).
وعادة ما يضع الزائر بعض ما تجود به نفسه في صندوق النذور صدقة أو قربة لصاحب الضريح.(1/36)
ومن الملاحظ أن طبيعة النذور المقدمة تطورت من الماضي إلى الحاضر، كما أنها تختلف بحسب وجود الضريح في وسط قرى ريفية أو وسط تجمعات عمرانية حضرية.
ومن الملاحظ أيضاً: أن حركة الناس في الدخول إلى الضريح والخروج منه تختلف حسب مكانة صاحب الضريح، ولكنها عموماً تزداد في أوقات الصلوات، وهذا بالطبع بخلاف أوقات الموالد التي تعج بالزائرين.
وماذا عن الموالد؟
تكثر الموالد في مصر، ويشتهر منها: المولد النبوي، ومولد البدوي ـ الذي حضره عام 1996م حوالي 3 ملايين زائر، حسب تقرير الحالة الدينية في مصر الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية ـ، ومولد إبراهيم الدسوقي، ومولد أبي الحسن الشاذلي، ومولد المرسي أبي العباس، ومولد أبي الحجاج الأقصري، ومولد إبراهيم القنائي.
والاحتفال بالمولد النبوي ـ كغيره من الموالد ـ يغلب عليه مظاهر الاحتفال الشعبي الفولكلوري المصطبغ بالصبغة الدينية، ويشترك مع غيره من الموالد في سمة حضور جمهور كبير من أنحاء متفرقة، وإقامة بعضهم حول أحد الأضرحة، وإنشاد المدائح الخاصة بصاحب المولد، مع نشاط اقتصادي واجتماعي حول أحد الضريح، إضافة إلى ما سبق أن ذكرناه من ممارسات وطقوس يقوم بها الزائر تجاه صاحب الضريح. وتعجب أشد العجب أن تجد بعضاً ممن ينتسب إلى العلم والدعوة يحضر بعض هذه الموالد، بل ويروج لها عند العامة، ولا يتورع عن ممارسة بعض البدعيات المحدثة، فيكون قدوة سيئة للجهلة، نعوذ بالله من الخذلان.(1/37)
ويوم الاحتفال بالمولد النبوي يكون إجازة رسمية في البلاد، ويقام بصفة رسمية في كل محافظة بمصر حيث تشرف عليه السلطات لضمان سيره بانتظام وأمان، وهو يقام في ساحة عامة بجوار أحد المساجد الكبيرة غالباً، وعادة يكون المسجد ضريحاً لأحد الأولياء المشهورين، وقبل المولد تهيأ الساحة والشوارع بالزينات والأضواء، ويستعد أصحاب كل نشاط بما يلزم من جلب البضائع ونصب الملاهي، ويزدهر نشاط الباعة والمحلات وبخاصة أنشطة بيع الحلوى والألعاب وأنشطة المقاهي والمطاعم وبيع الأدوات المنزلية، وتزدحم الفنادق، وهي غالباً ذات مستوى متدنٍ.. ويشيع جو من المرح والضجيج في مكان المولد.
وقد شاهد مندوب البيان احتفال (الليلة الكبيرة) للمولد النبوي في القاهرة، حيث سار موكب ممثلي الطرق الصوفية لمدة (45) دقيقة تقريباً مشياً على الأقدام حاملين الأعلام والرايات في جو من البهجة والاحتفال بدءاً من ضريح الشيخ صالح الجعفري بمنطقة الدرّاسة إلى مسجد الحسين، وهناك وجدوا في انتظارهم بعض المستقبلين، على رأسهم شيخ مشايخ الطرق الصوفية، فقاموا بالسلام عليه وقراءة الفاتحة والدعاء جماعيّاً. ويشهد هذا الاحتفال أيضاً كبار رجال الدولة أو ممثلون عنهم، وعلى رأسهم شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ورئيس جامعة الأزهر ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة؛ حيث يلقي معظمهم كلمات في الاحتفال، كما يشهد حضوراً إعلاميّاً واضحاً من صحافة وإذاعة وتلفاز.
وبعد نهاية الاحتفال الرسمي ينصرف أتباع الطرق الصوفية لإلقاء أناشيدهم ومدائحهم وأذكارهم في أماكن معدة لذلك سلفاً، ويستمرون في ذلك حتى منتصف الليل تقريباً.
ولا تختلف نوعية زوار المولد النبوي عما ذكره (تقرير الحالة الدينية بمصر) عن زوار مولد البدوي، فهم يشملون:
* فريقاً هدفه إحياء ذكرى المحتفل به.(1/38)
* وآخرين يحرصون على التبرك، ومنهم البسطاء والفقراء والأغنياء، الأميون والمثقفون، ويرى هؤلاء أنه إذا لم يتمكنوا من الحضور لأي سبب، سواء أكان بإرادتهم أو رغماً عنهم، فسيصيبهم أذى أو ضرر، ويعتقدون أن الزيارة ستفتح أبواب الرزق أمامهم، بل وتغمرهم بسعادة بالغة.
* ومنهم من كان مريضاً جاء لطلب الشفاء، أو من كانت عاقراً وعقيماً تأمل في تحقيق أملها بإنجاب طفل.
* وفريقاً آخر يبحث عن الترفيه والسياحة وقضاء وقت ممتع، وهم الفئة الشبابية.
* وهناك نمط آخر من الزوار يهدف للتسويق والتجارة سواء بالبيع أو الشراء.
وبالإضافة إلى ذلك: هناك الجمع الغفير من أتباع الطرق الصوفية، هدفهم إحياء الذكرى ونوال البركة ونشر طريقتهم الصوفية. أما عن المشاركة بين المسلمين والأقباط فهي قديمة جدّاً؛ إذ إن التاريخ يذكر أن ابن طولون كان يقيم الولائم وكان المسلمون يحتفلون بالأعياد القبطية مشاركة للأقباط، وسار على نهج الطولونيين الإخشيديون في الاحتفال بأعياد النصارى.. ولا تزال هذه المشاركة موجودة حتى عصرنا الراهن! ومن أغرب الأمور بهذا الصدد؛ أن مولداً يقام سنوياً باسم (مولد سيدي أبو حصيرة) وهو يقام عند ضريح لرجل يهودي بهذا الاسم، وتأتيه كل عام وفود كبيرة من السياح اليهود من إسرائيل، وتقام حراسة مشددة لحماية الاحتفال حتى ينفض!!
وفي السودان يتم الاحتفال بالمولد النبوي في صورتين:
الصورة الأولى: الاحتفال في الميادين والساحات:
وقد تأصل هذا النوع من الاحتفالات حتى خصصت لها ميادين معينة، عرفت بميادين المولد؛ ففي كل مدينة ميدان يسمى ميدان المولد الكبير، وهو ساحة متسعة مخصصة لهذا الغرض، وتلتقي فيه كل الطرق الصوفية المشتركة في الاحتفال بالمولد، وتتم المشاركة فيه بعد الحصول على تصديق رسمي من الدولة يتم بموجبه السماح للطريقة المعينة بنصب سرادقها في المكان المخصص لها في ساحة المولد، وعمل تجهيزاتها اللازمة لها..(1/39)
وتقوم كل طريقة بعمل الأذكار التي تخصها والمدائح المتعلقة بالمولد، كما تتم قراءة الكتب المؤلفة في المولد النبوي في شكل حلقات تشبه حلقات تلاوة القرآن، وعند مرورهم بمواطن معينة في هذه الموالد المؤلفة يقف الحاضرون اعتقاداً منهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحضر عند ذكر ولادته، ويرددون في صوت واحد عبارة (مرحبا بالمصطفى يا مرحبا...) وفي بعض المواضع من القراءة يضعون الأيدي على الرؤوس، وفي مواضع أخرى يضربونها أو يوجهونها نحو الأرض عند الاستعاذة من بعض الأمراض أثناء قراءة المولد.
وفي المولد يضربون أيضاً على الطبول الكبيرة (النوبة) التي تصدر أصواتاً قوية، ويرددون معها القصائد الملحنة كنوع من الذكر الذي يُتقرب به إلى الله.. وكل هذا مع الحركة والاضطراب الشديد، وربما دار أحد الدراويش على رجل واحدة وهو (يترجم)، أي: يصدر أصواتاً لا تفهم، فيوصف بأنه غرق في الذكر.
ويزداد الزحام في الليلة الأخيرة، ويكون الناس في هذه الساحات خليطاً من الرجال والنساء، وقد شاهدت في أحد الموالد نساءً يصفقن ويتحركن مع رجال يضربون هذه الدفوف (النوبة) حتى انتهين إلى أحد السرادقات المقامة وهن يصفقن على أصوات المديح، ويتحركن على صوت ضربات الطبول، إلى أن يستقبلهن شيخ ممسك بمسبحته وهو يهز رأسه استحساناً لهذا الصنيع.
أما الصورة الثانية للمولد: فهي الاحتفال به في المساجد والزوايا الخاصة:
وفيها يتم قراءة كتاب المولد المؤلف لكل طريقة، وإطعام الطعام لا سيما في الليلة الختامية، ويكون صبيحة هذه الليلة عطلة رسمية في البلاد بمناسبة ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم-.(1/40)
وفي بنجلاديش تكون الاحتفالات حول الأضرحة أسبوعية وسنوية، حيث تعتبر ليلة الجمعة عيداً أسبوعيّاً حول الضريح يأتي إليه الزوار من جميع الأصناف: أغنياء، وفقراء، ومسؤولين في الحكومة، وغيرهم، ويشاركون في المعاصي من شرك واختلاط وغناء وتكون الفرصة مهيأة للفاحشة والزنا، ويستمر هذا الاحتفال حتى الصباح، ويكون لكل (بابا) مجلس خاص ويتحلق حوله مريدوه.
وبمثل هذا ـ ولكن بشكل موسع ـ يتم الاحتفال السنوي الذي يسمى (عرساً) تحت إشراف لجنة نظامية حكومية ويستمر مدة أطول قد تصل إلى أسبوع، فيجتمع الناس من أماكن مختلفة بعيدة حاملين معهم نذورهم من ماشية وأموال، وتنتشر كل مجموعة حول صاحب بدعة (البابا) الذي يرتدي ملابس غير ساترة مدعين أنهم وصلوا إلى مرتبة تؤهلهم لعدم التمثل بشريعة الله، ويصدقهم الجهلاء في ذلك، ويشيع في هذه الاحتفالات شرب الخمر والمخدرات ولعب الميسر والخرافات إضافة إلى ترك الصلاة، وأيضاً السجود لغير الله، وغير ذلك من الشرك الصريح.
كما يحضرها كذلك كبار المسؤولين والأغنياء والفقراء على حد سواء، وبعض هؤلاء من يشاركون (البابات) الإثراء والمنافع المادية الكبيرة من وراء رواج سوق الخرافة حول الأضرحة.
ونلاحظ أن أهل البدع ينقسمون أقساماً عدة في ممارساتهم البدعية:
فمنهم: أناس لا يؤدون الشعائر ويلبسون الملابس القصيرة، ولا يهتمون بنظافتهم، ويقيمون في بيوت أتباعهم حفلات أسبوعية كل ليلة جمعة، يبدؤون الحفلة بما يسمونه (ذكر الله) بصوت مرتفع، ثم ذكر بعض من سيرة السيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين ـ رضي الله عنهم ـ ثم يوردون بعضاً من أخبار عبد القادر الجيلاني، ثم بعد ذلك يدخلون في ذكر جماعي مختلط، تنزع فيه النساء الحجاب؛ لأنهمن يزعمن أن الحجاب الأصلي هو الحجاب الداخلي في القلب، فلا حاجة للحجاب الخارجي، ويرقص الجميع مع الموسيقى، ثم تُطفأ الأنوار، ويحدث ما يحدث. (والله المستعان)(1/41)
ومنهم: من يدعي أنه يؤمن بالله ورسوله وأنه محب للرسول ويطيل شعره ولحيته ويلبس الملابس البيضاء، وهو مع ذلك لا يصلي ويستحل الغناء والموسيقى، ولكنه لا يصل إلى أفعال القسم الأول، ويظن أنه بهذه الأفعال يدخل الجنة.
ومنهم: من يصلي ويصوم ويدعي أنه أقرب الناس إلى الله، ولكن مرشده لا يشدد عليه لاتباع الشريعة كلها، ويكتفي ببعض النصائح فقط، وأتباع هذا الشيخ يظنون أنه أقرب الناس إلى الله، وأن له قدرة على تفريج كروب الدنيا والآخرة، ويقبل الناس قدمه ويسجدون عليها من غير إنكار منه؛ لأنه مستفيد من وراء استمرار هذه الأوضاع في الأعراس وغيرها.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجنبنا الفتن ويهدينا وإياهم سواء السبيل.
ملفات
( القبور والأضرحة دراسة وتقويم )
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(1/2)
قبس من الظلمات
(ما وراء الطقوس)
خالد أبو الفتوح
ليس من الطبيعي أن يتوجه إنسان إلى حجر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق آخر بأشكال التقديس والتقرب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلوق المكرم بعقله، المميز بفطرته؛ إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسوغه له، أي: لا بد من وجود (فلسفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي في كثير من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسي(1) لدى المبتلين بهذا الداء، وهنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث؛ لأننا نريد دخول منطقة (اللاوعي) عند القبوريين للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يقبلها عقل راشد، ولا تستسيغها فطرة سليمة، ولا تسمح بها شريعة منزلة.. فكيف فعلها هؤلاء؟ بل كيف تمسكوا بها ودافعوا عنها؟
عودة إلى الوراء:
الأمر يستدعي منا أن نعود إلى الوراء لننظر: كيف كان يُدعى الناس من خلال (الحكمة والفلسفة) إلى الانحراف العقدي؟(1/42)
في البدء كان التوحيد، ولم يكن شرك على وجه الأرض، وكان في الناس بعض المميزين بصلاحهم المبرزين بعبادتهم، ثم طالت فترة الناس عن نور الوحي فقلّ فيهم عدد هؤلاء المميزين، ولكن يبقى الناس مجلين هؤلاء الصالحين، متمسكين بشعاع التقوى والعبادة يريدون عدم الانسلاخ منه، وهنا يبرز الشيطان مزيناً بداية خط الانحراف: (لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم)، و (أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه به)، فقط اتخاذ (الرمز)؛ للتذكرة بالعبادة والصلاح..!، فصوروا، ثم ماتوا.. فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: (إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها) فعبدوها.. إنه (التقليد)..
فباتخاذ (الرمز) واحترامه وتعظيمه، ثم بـ (التقليد) الذي قاد إلى التقديس حدث أول شرك، وهذا ما حدث في قوم نوح ـ عليه السلام ـ(2). فكيف كانت (فلسفة) الشرك في قوم إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟!
نشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم (وسطاء) بين الله وخلقه، وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله ـ تعالى ـ، وزعموا أنها أحياء ناطقة مدبرة للعالم، وأنها بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح، وأنها متصفة بصفات مخصوصة، ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة تعبد.. فكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري ـ تعالى ـ، وهؤلاء يسمون (أصحاب الهياكل).(1/43)
ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل لما يعرض في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري، وعطارد، والمريخ، وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها ـ كما يزعمون ـ، كل تمثال يقابل هيكلاً... واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهياكل التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله ـ تعالى ـ.. وهؤلاء يسمون (أصحاب الأشخاص)(3).
مرة أخرى: إنه (الرمز)، ولكن يظهر هنا جليّاً دور قدسية (الأرواح) التي نسبوها إلى الملائكة، وعقيدة (الواسطة) و(الوسيلة).(1/44)
ويعيد إبراهيم ـ عليه السلام ـ إرساء عقيدة التوحيد صافية نقية، وينشر إسماعيل ـ عليه السلام ـ ملة أبيه إبراهيم بين العرب، ويظل أبناؤه على ذلك التوحيد، معظّمين أول بيت وضع للناس الذي جدده خليل الله مع ابنه إسماعيل.. إلى أن بعدت الفترة بين العرب ونور النبوة، ثم اندرس كثير من آثار العلم، فقلّت حصانتهم ضد الانحراف، وأصبحت الفرصة مواتية للتحريف، وهنا برز عمرو بن لحيّ الخزاعي آتياً بالأصنام إلى مكة، فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها(4)، فعبدوها، ولكنهم لم يعبدوها لمجرد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها (معتقدين أنها منازل الأرواح ـ كما بيّن الإخباريون ـ)(5).. مرة أخرى: إنه (الرمز) و (الأرواح).. ثم: بسبب (التقليد) وبسبب ضعف تمثل تعاليم الملة الحنيفية في نفوس الناس ـ بل ربما كانت تفاصيل هذه التعاليم قد ضاعت ـ استمرت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة(6)، ووصل الولع بـ (تقديس الرمز) إلى هاوية سحيقة، حيث روى أبو الرجاء العطاردي: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير (!) ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..)(7).. ومع ذلك قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر: 3]، وقالوا أيضاً: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه)) [يونس: 18]... إنها: (الواسطة) و (الوسيلة).
ونفترض هنا سؤالاً مهماً: لو كان عمرو بن لحي خرج في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى عبادة الأوثان تقرباً إلى الرحمن، أكان يجد من يتبعه منهم؟ بداهة: لا، وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا لم يرفض العرب ما جاء به عمرو من تحريف دين إبراهيم وعبادة الأصنام من أول وهلة؟..(1/45)
يوضح الإجابة على مثل ذلك كلام لابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث يقول: (قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته...)(8).
لم يكن عمرو بن لحيّ أول من ألقى إلى العرب مفهوم تقديس الرمز وإن كان هو أول من جسده في صورة أوثان وأصنام، لقد كان العرب ـ بسبب ضعف آثار علم النبوة الذي أشرنا إليه، وبذريعة (تقديس الرمز) ـ وصلوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه: (حالة القابلية للشرك)، فلقد ذكر ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وابن إسحاق في سيرته (أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة به، فحيثما حل وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم، وحباّ له)(9).
فتقديس (الرمز) ذريعة إلى الشرك، (وهذه العلة ـ التي لأجلها نهى الشارع ـ هي التي أوقعت كثيراً من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب، ونحو ذلك، فلأن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه.. أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها، ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد، بل ولا في السّحَر..)(10).
حقيقة القبورية:(1/46)
وهنا نأتي إلى القبوريين: كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك ـ حسب تعبير ابن تيمية ـ رحمه الله ـ؟.. تبدأ العلاقة بتقديس (الرمز).. رمز الصلاح والتقوى والمنزلة الرفيعة عند الله، ومن ثم: تستحب زيارة تلك البقاع، ليس لتذكر الموت والآخرة، بل لتذكر (الرمز) والاعتبار به، ولأن هذه الأماكن (مباركة)، ولأن الملائكة و (الأرواح) تنتشر حولها ـ كما يزعمون ـ، فإن دعاء الله يحسن عندها، فهو أرجح منه في البيت والمسجد وأوقات السّحَر، كما أن البركة (تفيض) على كل شيء حول القبر، فمن أراد التزود منها فليلمس، ويقبّل، ويتمسح، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة تالية: من دعاء الله عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، أي: اتخاذه (واسطة) و (وسيلة) للاستشفاع به عند الله؛ فصاحب الضريح طاهر مكرم مقرب له جاه عند الله، بينما صاحب الذنب ـ أو الحاجة ـ يتلطخ في أوحال خطيئته، غير مؤهل لدعاء الله، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة أخرى: فما دام هذا المقبور مكرماً فليس بممتنع أن يعطيه الله القدرة على التصرف في بعض الأمور التي لا يقدر عليها طالب الحاجة، فيُدعى صاحب القبر، يُرجى ويُخشى، يستغاث به، ويطلب المدد منه، ولِمَ لا؟!؛ فهو صاحب (السر) الذي توجل منه النفوس، وترتجف له القلوب، وتتحير فيه العقول!، فإذا تقرر ذلك هبط دركة ـ ليست أخيرة ـ، حيث (يتخذ قبره وثناً، يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده، ثم ينقله [الشيطان] درجة أخرى: إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم...)(11).(1/47)
هذا هو الواقع: ليست المسألة مظاهر وطقوساً مجردة، بل هي أعمال جوارح، نتجت عن أعمال قلوب، تحركها تصورات واعتقادات رسخت في النفوس وتخللتها وذابت فيها إلى الحد الذي لم تعد فيه بارزة منفصلة عن تلك المظاهر والطقوس.. هذا هو التصور المقنع لما يعمله أي إنسان عاقل؛ فـ (مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها)(12).
فالحقيقة أن: (من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه ـ، لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله ـ عز وجل ـ، فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية...)(13).
فالمسألة في حقيقتها: تقديس (الرمز) واتخاذه (واسطة) أو (وسيلة) لقضاء الحاجات وللشفاعة عند الله..(1/48)
هكذا هي في أدبيات القبوريين: (جاء في الرسالة (42) من رسائل إخوان الصفا(14) (4/21) قولهم: من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم... فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك، طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه...)(15)..، ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب لأحد دعاة القبور: (وكل ما في الأمر أنه [اي: المتوسّل بغير الله] يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه [اي: عن الله] أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم...)(16).
وهكذا هي في مكنون تراثهم الشعبي؛ فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية ـ كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي ـ نجد منه قولهم: (من زار الاعتاب ما خاب) أي: من زار الأضرحة والأعتاب (المقدسة) قضيت حاجته ونال مراده، (فالاعتقاد الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين (امتيازات) لا حدود لها.. يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته)(17).
ونجد في هذا التراث أيضاً: (يوضع سره في أضعف خلقه)، والمفهوم من كلمة (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال...(1/49)
ولعل من دقيق فقه الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في دين الله، وإحاطة فقهه بواقع الناس وحالهم.. ما جاء في معرض تعريفه للألوهية والإله؛ حيث قال: (فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر، والولاية. والإله معناه: الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ، وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلجأ إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله)(18)، ويقول أيضاً: (... هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد، هو الشرك الذي نزل فيه القرآن..)(19).
وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: (إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك)، ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في مرض موته: (من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها له)(20)، (فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم...)(21).
وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: أن بعض المرضى يأكلون من تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء(22)، وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها: (إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور، وقاضي الحاجات) و (إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيي الأموات!)(23).(1/50)
والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير (الأرواح)؛ (فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله ـ تعالى ـ لا يزال تأتيه الألطاف من الله ـ تعالى ـ وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له)(24).
ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية: (إن أرواح المؤمنين ـ وخاصة أرواح الأولياء والصالحين ـ قادرة على التصرف في هذا الكون بعد مفارقة الأجساد...)(25).
وهذا ما يشهد به واقعهم: فأعراب شرق الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون (أن أرواح الأولياء تسكن في القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب، فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم)(26).
وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: (إن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها)(27)، ويقول آخر: (إن تصرف الأولياء يزداد بعد وفاتهم)(28).
فالقبوريون (أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم)(29).
ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح (الأولياء) بالتصرف أن كثيراً من هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما زعموا(30)...(1/51)
بل وصل الأمر إلى حد (أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها)(31).
وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: (بعد ما راح المقبرة بقى سكّره) أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر.. فما الفرق بين الحياة والممات إلا في انفصال (الروح) عن الجسد؟!.
والمسألة في حقيقتها: تعلق القلوب بالضريح وصاحبه والتوجه إليه بمشاعر الإجلال والمهابة..
هكذا يشهد حالهم: (فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه)(32).
ولعل السبب في ذلك أن (غرّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلوّاً، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد)(33).
وهذا ما يقرره أحد مشائخ القبوريين، الذي يقول: (إن صاحب هذا القبر شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به)(34).
فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في (شرح المختار): (قد قرر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك)(35)، وعلى ذلك (فقد يقسم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم (شعيب) بالكذب مرة واحدة؛ لأنه (مظهر الأسرار وموضح الخفيّات))(36)، وعندما سئل أحد التجار: لماذا يقسم بصندوق ضريح القرية، ولا يقسم بالله عندما يحاسب زبائنه؟ أجاب: (إنهم هنا لا يرضون بقسم الله، ولا يرضون إلا بقسم صندوق نذور الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان)(37).. فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال والرهبة وتعلق القلب بالضريح وصاحبه؟(1/52)
وأحوالهم في ذلك عديدة: فمقام (النبي هارون) بالأردن: (يهجع الزائر (المؤمن) تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور)، وتزور المرأة العاقر مقام (النبي يوشع) (حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع وتضرع.. ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات)(38).. ويلخص هذا التعلق أبو الثناء الآلوسي عندما يصف موقفاً مر به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول: (حتى أتينا قرية يقال لها (قارحين) وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس منه (بروحانية))(39).. ويقول البريلوي أحمد رضا المسمي نفسه بعبد المصطفى: (إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه)، فإن لساني يأبى أن ينطق الاستعانة بغيره)(40).. وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما يتحدث عن تفرق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي تتوق نفسه إليه، فيقول: (ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه)(41).(1/53)
وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي: (الشيخ البعيد سره باتع)، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية، فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟.. إنه شوق القلب وحنينه الذي يساعد البعد في تولده، وهذا ما يعبرون عنه في مثل آخر يقول: (ابعد حبة (بعض الشيء) تزيد محبة).. فتعلق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل (آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة؛ فالضريح الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب المتاح زيارته في أي وقت)(42).
وتبقى التساؤلات:
- ما الذي يدفعهم للاعتقاد في الأضرحة أنها قوة قاهرة وسلطة نافذة ـ وإن اعتبروها (واسطة) و(وسيلة)؟
- وما الذي يدفعهم لإسناد ذلك إلى الأرواح، أو ـ بتعبير أدق ـ إلى سرّ غيبي محيّر؟
- وما الذي يدفعهم إلى التوجه بمشاعر قلوبهم نحوها لجلب رضاها أو دفع مضرتها، أو للتمتع بالمسرة والحبور في أنفسهم؟
- لماذا تحولت العلاقة بالرمز من ذكرى واحترام إلى تقديس واعتقاد إلى تعلق وانجذاب؟
إن الذي حملهم على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التأله) لدى قلوبهم المحرومة من التأله للإله الحق؛ وهذا ما يقرره الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: (ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين... وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، كان مشركاً)(43).(1/54)
ويقرر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ، حين يقول: (العبد لا يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة)(44).
وهذا ما تقرره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد (أيدت دراسات الأنثربولوجيا [علم الإنسان] وعلم الأديان أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القدم وهو يبحث عن إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي لا يموت)(45)، (هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد)(46).
وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) ـ حتى عند أهل الإلحاد ـ أشكال المهابة و(القداسة)، فـ (في ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت الاجتماعات والاستعراضات سمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم ـ وقد حلت مكان التماثيل الدينية والأيقونات ـ تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة، وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحولت إلى مزارات مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم (كالحرس الأحمر في الصين) وهي إلى جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!)(47).(1/55)
ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:
أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تعتبر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في أجدادهم قبل الإسلام، (وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ، ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..)(48).
وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون) في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري) والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري)، على الرغم من تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين(49)..
ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.(1/56)
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ (هلال) المقام على قبر مزعوم قرب دمشق، حيث كان القدماء يعبدون (القمر).. وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة في الوثنيات القديمة و(الحديثة)، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي(50).
ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تعتبر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: (هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله ـ تعالى ـ عنهم... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين)، ويقول أيضاً: (ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري... واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى)(51)، ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومدّ يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم...)(52)، ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: (في بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ وقبر زوجه وقبر أمه! (ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره... وجميع هذه القبور تعبد بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا(1/57)
يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عبادتها)(53).
ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة (الشريف عون) عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس وليست أمّاً للمسلمين فقط(54).
فحقيقة الأمر: أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي تفعله الجاهلية الوثنية (وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني)(55).
ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجه إليها تجاوز حواجز الملل والمذهبيات والفرق ليشكل طقساً مشتركاً من طقوس التدين (الباطل) يجتمع عليه القبوريون مع إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.
ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى والقبوريين، وهو (أضرحة الرؤيا)، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يذكر أن كثيراً (من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم)(56).(1/58)
وكثير من (موالد) النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من جهلة المسلمين (وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة ليخلصوهم من الأرواح الشريرة!.. وكما تتردد بعض القبطيات على أضرحة الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها..)(57)، وأيضاً فإن بعض النصارى يشارك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصري(58).
ومثل ما توضع الرسائل في أضرحة الأولياء ـ وخاصة ضريح الإمام الشافعي ـ توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور، كذلك توهب الأضاحي التي تذبح هناك(59).
والأهالي على اختلاف مللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام (النبي يوشع) في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات(60).
ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى قريباته عندما مرضت أصر أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً(61).
فما الذي جعل هؤلاء يشاركون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين، أو (التأله)؟(1/59)
رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع التأله في قلوبهم: تعلقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء.. فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ.. هناك القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد (وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه... واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي فرج)(62).
ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في حقيقته إلا إشباع التأله في القلوب، فقد قرروا ذلك في صراحة، فقال أحدهم: (ولا يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون نسبتها مشهورة بين الناس)(63)، وقال الآخر: (وعلى كل حال: فلا بأس من زيارته [اي: القبر] على من توهم من وجوده)(64)، فالمهم أنه (يجب علينا التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يعد تعظيماً، وبكل ما يليق من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة...)(10)، ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى أَضْرَحة (دواب الأولياء)، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار وتبخر(65)، فالقبوريون عباد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.
وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس... أو أي شيء من المخلوقات؟.. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!..(1/60)
وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.
ففي الهند (يأخذون قليلاً من التراب من مكان ما، ويعطونه حكم نعش الإمام الحسين ، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يقدمون له كل يوم أنواعاً من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمر بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين ، ويطلبون منه المال والأولاد...) (66).
ولقد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد (الحسين) بالقاهرة (يطوفون بعمود من الرخام، ويتمسحون به التماساً للبركة وتقرباً إلى (السيد البدوي)! معتقدين بأنه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفرف دائماً هناك..)(67)، وفي نابلس بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يطلق عليه بعد انحراف الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود(68).
وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلفته الشيوعية الناس هناك في التعلق بأي شيء (مقدس)، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسح والتبرك بها، كما يتبركون ويتمسحون هناك أيضاً بصورة الكعبة!(69).
بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر (حول حمار يأتي به دراويش الطريقة الشناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان!)(70).. إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عقل رشيد ولا دين صحيح.
هذا ما تيسر ذكره حسب المصادر المتاحة لي، وهي تعتبر عينة عشوائية لما يحدثه القبوريون في معظم أنحاء العالم الإسلامي..(1/61)
فما الذي دعاهم إلى هذا الاعتقاد وتقديم هذه القرابين والطقوس غير إغواء الشيطان لهم بالتأله لغير الله؟.. وإلى أي مدى تأخذ الخرافة والوهم والدجل من يريدون أن يضيئوا حياتهم بقبس من الظلمات؟
الهوامش :
(1) الاتجاه النفسي: (ميل عام مكتسب، نسبي في ثبوته، عاطفي في أعماقه، يؤثر في الدوافع النوعية، ويوجه سلوك الفرد)، انظر: أسس علم النفس الاجتماعي، للدكتور مختار حمزة، ص244.
(2) انظر: ما أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة نوح، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ((... ولا تذرن ودَاً ولا سواعاً ولا يغوث و يعوق ونّسراً)) [نوح: 23 ]، وانظر: تفسير الطبري، جـ 29، ص62، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، جـ1، ص184.
(3) بتصرف عن: التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام، لعبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي، ص43، ص45. وانظر: تفسير ابن كثير، جـ2، ص140 ـ 141.
(4) روى القصة بتفاصيلها ابن إسحاق (1/76) عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححها محمد بن رزق بن طرهوني في (السيرة الذهبية)، 1/65، وانظر: فتح الباري، جـ6 ص 634، وصحيح مسلم، ك/كسوف الشمس، باب رقم 9، 60، والمسند: 3/353، 5/137.
(5) د.أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، جـ1، ص84.
(6) انظر: السابق، ص83، 84.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة.
(8) الفوائد، ص44، 45.
(9) د. محمد محمد أبو شهبة، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، جـ1، ص71.
(10) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص 334، وانظر: حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي.
(11) ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، جـ1، ص217.
(12) ابن القيم، الفوائد، ص236.
(13) الإمام محمد بن علي الشوكاني، رسالة وجوب توحيد الله ـ عز وجل ـ، ت: د. محمد بن ربيع هادي المدخلي، ص80.(1/62)
(14) تعتبر (رسائل إخوان الصفا) مرجعاً مهماً في تسويغ عقائد الباطنية الشركية، وقد ألفها مجموعة من الفلاسفة أشياع الفاطميين (العبيديين) في القرن الرابع الهجري.
(15) عن: هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص32، ص102.
(16) مجلة المنار، جـ3، م33، ص216.
(17) موالد مصر المحروسة، عرفة عبده علي، ص85.
(18) رسالة (هدية طيبة)، ضمن مجموعة التوحيد، ص152.
(19) رسالة (كشف الشبهات)، ضمن مجموعة التوحيد، ص102، ص113.
(20) عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص1083، وانظر: البريلوية، عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص74، ص59.
(21) هيام فتحي دربك، مقال بعنوان: موالد الأولياء في مصر، المجلة العربية، ع/131، ذو الحجة 1408هـ، ص43.
(22) انظر: الانحرافات العقدية، ص335.
(23) البريلوية، ص75.
(24) محيي الدين البركوي الحنفي، زيارة القبور الشرعية والشركية، ص48.
(25) الديوبندية ـ تعريفها، عقائدها..، سيد طالب الرحمن، ص78.
(26) الخوري بولس سلمان، المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، 11/11/1920م، ص901.
(27) المنار، جـ3، م33، ص216.
(28) البريلوية، عقائد وتاريخ، ص74.
(29) هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص43.
(30) المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، ص908.
(31) د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص23، هامش1.
(32) ابن القيم، إغاثة اللهفان، جـ1، ص198.
(33) السابق، ص189.
(34) الديوبندية، ص132.
(35) حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي الحنفي، ص25.
(36) مجلة المشرق، المزارات في شرقي الأردن، ص905.
(37) د. عبد الكريم دهينة: الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص117.
(38) مجلة المشرق، ص906، ص903، ص 913.
(39) الانحرافات العقدية، ص347.
(40) عن: البريلوية ـ عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص58.
(10) مجموع الفتاوى، جـ27 ـ ص164.(1/63)
(41) موالد مصر المحروسة، ص81، 82.
(42) رسالة العبودية، ت: محمد بشير عيون، ص65، 66، وانظر: مجموع الفتاوى، جـ10، ص216.
(43) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص277.
(44) د. محمد محمد عودة، ود. كمال إبراهيم مرسي، الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام، ص103.
(45) د. يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص99.
(46) حسين أحمد أمين، تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين، مجلة العربي، ع/226، رمضان 1397هـ، ص131.
(47) د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص128.
(48) انظر: موالد مصر المحروسة، ص69، والصوفية والسياسة في مصر، ص50، ومقال: تأملات في حقيقة أولياء الله، ص137، ص136.
(49) انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين)، ص135.
(50) مجلة المنار، جـ3، م33، ص216 ـ 218.
(51) عن: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمد عبد الرؤوف القاسم، ص780.
(52) مجلة المنار، جـ3، م33، ص220.
(53) انظر: الانحرافات العقدية، ص304.
(54) تطهير الاعتقاد، للإمام الصنعاني، ص18 ـ 19.
(55) مجموع الفتاوى، جـ27، ص461.
(56) موالد مصر المحروسة، ص73.
(57) الصوفية والسياسة، ص50.
(58) انظر: موالد مصر المحروسة، ص72، 75.
(59) انظر: مجلة المشرق، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص902ـ 904.
(60) اعترافات.. كنت قبورياً، ص30.
(61) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص159.
(62) البريلوية، ص138.
(63) الانحرافات العقدية، ص285.
(64) نفسه، ص293.
(65) انظر: السابق، ص300.
(66) رسالة في تحريم اتخاذ الضرائح...، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ص21.
(67) عن: السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعة والدينية، لمحمد أحمد درنيقة، ص222.
(68) انظر: مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين)، ص 315.(1/64)
(69) انظر: مقال (مسلمو أوزبكستان)، د. عبد الرحمن محمد عسيري، مجلة: دراسات إسلامية، ع/1، ص218.
(70) حسين أحمد أمين، مقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين)، ص136.
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها
(2/2)
أفيون الشعوب الإسلامية
(النتائج والآثار)
خالد أبو الفتوح
عندما أطلق "ماركس" عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" لاقت رواجاً بين كثير من الشعوب الأوروبية؛ حيث كانت تتلطخ في أوحال النصرانية المحرفة المشبعة بالوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية التي آلت إلى طغيان كنسي شامل سيطر على عقول الناس وأرواحهم وأموالهم ونظم حياتهم، صاحبه فساد خلقي واسع لرجال الكنيسة واستعباد لأتباعهم وصل إلى حد توزيع قسائم حجوزات في الجنة (صكوك غفران) مقابل أموال يدفعها الراغبون، مستغلين في ذلك شيوع الخرافة والدجل بين هذه الشعوب.
وجدت مقولة "ماركس" رواجاً بين هذه الشعوب التي أرادت أن تنعتق من طاغوت الكنيسة، فكفرت بما ينبغي الكفر به، ولكنها - بدلاً من الإيمان الصحيح بالله - انتقلت إلى عبادة طاغوت جديد قديم شعاره : تقديس المادة والعقل.(1/65)
وما كان للإسلام أن تطوله هذه الشطحات أو تلك الخزعبلات، فهو من جهة يعلي قيمة التفكر والتدبر ويراعي الحاجات الطبيعية التي غرزها الله في بني الإنسان والتي تمثل عوامل الدفع للاستخلاف في الأرض وعمارتها، ومن جهة أخرى : فإن العروة الوثقى في دين الله تعني بكل وضوح : الإيمان بالله والدخول في عبوديته وحده لا شريك له، وذلك لا يتم إلا بالخروج من عبادة كل مخلوق أو الخضوع له، حياً كان أو ميتاً، تقياً كان أو فاجراً، عظيماً أو حقيراً، غنياً أو فقيراً.. ((فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[البقرة : 256] : (جئنا لنخرج من شاء الله من العباد من عبادة العباد (كل العباد) إلى عبادة رب العباد).
وعلى الرغم من وضوح هذه القيم في النصوص الشرعية وممارسات الرعيل الأول وأتباعهم، إلا أنه في غفلة من أهل الإسلام تسلل رويداً رويداً انحراف عقدي وشذوذ فكري أخذ ينخر في جسد الأمة، فعشش في عقول كثير من أبنائها وتربع على قلوبهم حتى أفرخ وثنية سافرة حيناً ومستترة أحياناً.. أعني بذلك : داء تقديس القبور والأضرحة والمزارات!، ذلك الداء الذي فعل في أمة الإسلام - أو كاد - ما فعلته خرافات الكنيسة وطغيانها بأمة النصارى.. أفيون اجتماعي مدمر للشعوب تماثل آثاره أفيون المخدرات المدمر للأفراد مع تغييبهم وتخديرهم - إن لم تزد عليها -..
فما هو حصاد السنين من نتائج وآثار تقديس القبور والأضرحة؟
أصل الانحرافات وأخطرها:(1/66)
من الصعب على الباحث أن يحصر آثار تقديس القبور والأضرحة، ولكن هناك آثاراً يمكن إبرازها، لخطورتها، ولكونها تعتبر أمهات لانحرافات أخرى نتجت عن هذا الداء، ويقف على رأس هذه الآثار : أظلم الظلم : الشرك بالله - تعالى -، فالراصد لأحوال القبوريين يلحظ بوضوح انتشار الشرك بينهم بجميع أنواعه وصوره ودرجاته.. شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات.. شرك أكبر، وشرك أصغر... وما أدراك ما يحدثه الشرك من آثار نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع!
فمن شرك الربوبية ظهر واضحاً اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها : أنهم يسمعون ويبصرون ويجيبون من يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة البشر : كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها...
كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانها...
وبناءً على هذا التصور المنحرف في الربوبية نشأ شرك الألوهية، حيث توجه القبوريون إلى الأضرحة وأصحابها بالعبادات والتقربات التي لا يصح صرفها إلا لله - عز وجل -، ففضلاً عن تبركهم بها على وجه غير مشروع وجعلهم إياها عيداً ومنسكاً حتى إنهم ليحجون إليها... فإنهم عظموها كما لو كانوا يعظمون الله - سبحانه -، فاقسموا بها، واستشفوا، واستنصروا، ولاذوا.. وأيضا: فإنهم دعوها، واستغاثوا بها، وذبحوا لها، ونذروا، وطافوا حولها، وسيّبوا لها السوائب، وساقوا إليها الهدي...(1/67)
فإذا بدأنا بأقل الصور الشركية، وهو ما يحتمل أن يكون ذريعة إلى الشرك أو يكون شركاً أكبر نجد أن التبرك بالقبور والأضرحة من أبرز هذه الصور؛ فلقد اعتاد القبوريون على "أنهم بزيارتهم لهذه الأضرحة ستأتيهم البركة ويشفون من مرضهم أو يفكون عقم نسلهم... وكانوا يَمَسُّون عمامة صاحب الضريح - بعد الولائم - أملاً في شفاء أوجاع الرأس، ويَمَسّون قفطانه للعلاج من الحمى، ولحس الحجر لفك عسر اللسان، وتقديم العرائض طلباً لرفع الظلم، وتمسح النساء في الضريح أملاً في إنجاب الذكور.. "(1)، ولم يستحي القبوريون في طلبهم المنهوم للبركة المزعومة أن يستسيغوا المعاشرة الزوجية في هذه الأضرحة، فهذا الشعراني صاحب أكبر سجل لخرافات القبوريين يذكر من (كرامات) البدوي أنه دعاه إلى فض بكارة زوجته فوق قبة قبره " فكان الأمر! "(2)، وفي السودان "وصل الأمر - في العصر الحاضر- عند بعض الرجال المخرفين إلى مجامعة زوجاتهم عند أضرحة الأولياء، بدعوى نيل البركة"(3).
وبالطبع فإن هذا التبرك يفتح باب الرقى والتمائم الشركية على مصراعيه.
من الأصغر إلى الاكبر :
فإذا ما تركنا التبرك وقصدنا بيان الشرك الصريح في أقوال المعتقدين في الأضرحة وأفعالهم، فإننا نكاد ألا نستطيع الفصل بين أنواع الشرك في هذه الممارسات؛ فالشرك في الربوبية مصاحب للشرك في الأسماء والصفات، وينبني عليه باعتباره نتيجة حتمية : الشرك في الألوهية.. وإليك بعض نماذج لهذا الشرك أو ذاك:
من النماذج الصارخة التي تحوي أنواع الشرك كله (ربوبية - وألوهية - وأسماء وصفات) ما أورده أبوبكر العراقي عن أحد القبوريين "وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالى المهمة، يقول : دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق، وذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين!"(4) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(1/68)
فهذا (الإمام) أشرك في الربوبية لاعتقاده أن لشيخه النقشبندي القدرة على التصرف والتأثير في الكون بالنفع والعطاء من دون الله، ومن ثم فإنه : أشرك في أسماء الله الحسنى : النافع الضار، والوهاب، والرزاق.. وأشرك في الألوهية لصرفه عبادة لغير الله؛ وذلك بدعائه لشيخه النقشبندي أن يرزقه الذرية. فالانحراف في توحيد الربوبية عند القبوريين يتبعه دوماً انحراف في توحيد الألوهية، وإليك إيضاحاً آخر :
يقول عرفة عبده علي : "وقد احتشدت مؤلفات مناقب السيد البدوي بكرامات أسطورية غريبة لا تحصى، منها - على سبيل المثال -: إحياء الموتى، وانقاذ الأسرى في بلاد الفرنجة، وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله!"..
فماذا ترتب على هذا الاعتقاد في البدوي؟.. يقول الكاتب نفسه : "وكثير من أتباعه يجعلونه في منزلة أسمى من مرتبة الأنبياء!(5).. فما هذه المنزلة؟
استمع إلى شهادة أحد العلماء : فقد رأى الشيخ رشيد رضا جماعة من هؤلاء القبوريين "تطوف حول قبر السيد البدوي، الذي تحول إلى كعبة ثانية، وكانت هذه الجماعة تطلب من السيد، لما شاع بينها من القصص والحكايات حول مقدرته العجيبة في قضاء الحوائج "(6)، فإذا كان ذلك في أحد القبور، فهل يختلف الحال في الأضرحة الأخرى؟
تفشى الداء :
إذا شملنا واقع الأضرحة بنظرة عامة وجدنا أن الطقوس التي يمارسها المعتقدون في القبور تعدت إلى كثير
من الصور التي تجسد أنواع الشرك بدرجاته المختلفة، وهذا هو واقع القبوريين :
* فبالأضرحة والقبور أقسموا: يقول الإمام الصنعاني : "... ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله - تعالى - لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه "(7) "... ولن يصدق أحد من الحالف إلا إذا حلف بواحد منهم، وهذا كان شيئاً طبيعياً كنا نراه في القرى ونحن صغار، ولا زال يجري للآن "(8).(1/69)
وهذا الانحراف العقدي أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله - تعالى - : العظيم (*)، والرقيب، والشهيد، والعليم...
* وبها لاذوا واحتموا : فكما جعل الله - سبحانه - البيت الحرام ملاذاً من دخله كان آمناً، جعل سدنة الأضرحة " تلك الأضرحة الوثنية حرماً آمناً يهرع إليها المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في ظلالها، ... وكثيراً ما عفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكراماً للمدفونين أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم "(9).
وقد يدخل ذلك في الإلحاد في أسمائه - تعالى - : الكافي، والولي، والنصير، والعزيز...
* واليها توجهوا بالطلب والدعاء : وهذه بدأت بأن "بث بعض المتصوفة فكرة أن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب "، وانتهت بأن " أخذ العوام يطوفون بقبور الصالحين، يستعينون بهم، ويخاطبونهم، ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ "(10)، حتى أصبح الواقع " أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله - تعالى - من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل : يا سيدي فلان، أغثني.. "(11).
ولا شك أن من الدعاء : الاستغاثة والاستعانة : ومن المفارقات أن تلك العبادة تتجلى واضحة عند القبوريين في المواطن التي كان المشركون يخلصون فيها الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا تجيبهم ولا تنفعهم في تلك المواطن، ويحكي محمد السنوسي أنه "حين كان راكباً في البحر، وهاجت الرياح، وتلاطمت الأمواج حتى كادت السفينة أن تغرق، أخذ يستجير-كما يقول- بكل ما يستحضره من الأولياء كي يكشفوا كربته!"(12)، وليس هذا حالة خاصة، بل إن "من المشاهد اليوم أن كثيراً من الناس يستغيثون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء..(13)..
فأمثال تلك المشاهدات المستقاة من الواقع الشركي للقبوريين دعت كثيراً من العلماء إلى التصريح بأن شرك الأولين من عباد الأصنام أخف وطأة من شرك القبوريين، وذلك من عدة وجوه بينوها في كتبهم (14).(1/70)
ومن الدعاء أيضا: الاستشفاء، ولعلنا نوضح هذا الجانب لاحقاً عند الحديث عن الآثار الاجتماعية للاعتقاد في القبور والأضرحة.
ولا شك أن هذا الانحراف في الدعاء أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله - تعالى - الحسنى، ومنها :
السميع، المجيب، المعطي، الرزاق، القادر، النافع , الضار، النصير، العليم، الشافي...
* ولها ذبحوا ونذروا : وهذه أيضاً من الشعائر اللازمة للاعتقاد في القبور والأضرحة، فالرعاة في شرقي الأردن يطوفون بالأغنام حول مقام النبي يوشع " في أزمان الأوبئة ويختارون خير النعاج، ويصعدونها إلى سطح المقام وينحرونها فيسيل دمها على عتبته "(15)، فـ"غاية الزيارات لمقامات الأولياء هي تقديم الذبائح "(16).
وكثيراً ما يقترن الذبح بالنذر، ولا شك أن الذبح والنذر (سواء أكان ذبحاً، أو إهداء زيت، أو إعطاء نقود..) من العبادات التي لا تجوز إلا لله - تعالى -، لذلك يقول الإمام الصنعاني - رحمه الله - : "والنذر بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً.
والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإن من شرب الخمر وسماها ماءً , ما شرب إلا خمراً..."(17).
ابحث عن الضريح!:(1/71)
وكل ذلك لا يخص ضريحاً دون آخر، بل هو عام في جميع الأضرحة المقصودة بالتوجه والاعتقادت فحيثما كان ضريح يعتقد فيه؛ كان الشرك بجميع صوره وأنواعه ودرجاته؛ فهذا قبر ابن عربي بدمشق، يحكي عبد الله بن محمد بن خميس مشاهداته عنده، فيقول : "لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون.. وجدتهم يطوفون حوله، ويتوسلون به، ويعلنون دعاءهم له من دون الله. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح وتمرغه وتنادي : اغثني يا محيي الدين. وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه، ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن "(18).. باختصار : عند قبر ابى عربي في دمشق يمارس القبوريون شتى ألوان الشرك الأكبر"(19).
وفي الهند : أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني " مرجع الخلائق في العصر الأخير، ويطوفون حوله، ويعملون ويصنعون على قبره جميع الأعمال اللائقة بالمعبود، كالسجود، والنذور، وما أشبه ذلك.. وضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور في باكستان، وهو من القبور العظيمة، والناس يزورونه كل سنة، بل كل يوم، ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويقدمون النذور، ويستغيثون به، ويطلبون العون والمدد "(20)، و" عند القبر المنسوب إلى هود في حضرموت يحدث من الشرك الأكبر ما يعجز القلم عن وصفه، شأنه في ذلك شأن كل الأضرحة في البلاد الأخرى. وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب للات والعرى، يستعينون به ويتوجهون إليه، ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات، واستنزال البركات، ودفع الكربات "(21).(1/72)
بل لقد اعترف أحد كبار منظِّري القبورية وهو الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية، فقال : "إن كثيراً من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية، ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله - تعالى - وإن عندنا بالمغرب من يقول في ابن مشيش : إنه الذي خلق الابن والدنيا، ومنهم من قال - والمطر نازل بشدة - : يا مولانا عبد السلام، الطف بعبادك!. فهذا كفر"(22).
بين الفرد والمجتمع:
كان هذا عرضاً لأهم صور الشرك، الذي هو أخطر مساوئ الاعتقاد في القبور والأضرحة على دين الإنسان ودنياه، فهو يناقض أساس الاسلام ويهدم الركن الأول منه، كما أنه يحمل في طياته مما يحمل : "التمزق النفسي والتفكير الخرافي , فإذا أمعنا النظر إلى أثر هذا الشرك في المجتمعات وجدنا آثاراً لا يستهان بسوئها، اقترنت بهذه المظاهر الشركية، ومنها:
شرك في التوحيد وشرك فى التشريع :(1/73)
لا شك أن التشريع مرتبط بالتأله والتعبد، فهو أحد أقسام التوحيد، لذا : رأينا دائماً أن الانحراف في توحيد العبادة والنسك يصاحبه انحراف في توحيد التشريع والتحاكم، " فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه : ((ولايشرك في حكمه أحدا))[الكهف:26]... وقال في الإشراك به في عبادته : ((من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً))[الكهف:110] فالأمران سواء كما ترى إيضاحه "(23)، وعلى هذا "يرتبط التحليل والتحريم (التشريع) بالمعبود ارتباطاً وثيقاً، حتى لقد توافقت وتزامنت دعوة العرب للشرك بالله في عبادته وتغيير دين إبراهيم - عليه السلام -، مع إدخال تشريعات لم يأذن بها الله، بل أمر بها الطواغيت، فعمرو بن لحي الذي كان أول من غير دين إبراهيم - عليه السلام - وأدخل عبادة الأصنام في العرب، كان هو نفسه أول من سيَّب السوائب وشرع لهم الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها "(24).
وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا : ((وأكثرهم لا يعقلون)) [المائدة:103]، أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر به، بل يظنون أنهم يتقربون إليه ولو بالواسطة، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب.. ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله - تعالى -.. وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه "(25).(1/74)
وتعدى أمر التشريع عند القبوريين تسييب عجل للضريح، إلى التلاعب في بعض العبادات المفروضة، ويمثل الحج أبرز مثال لهذا التلاعب، الذي بدأ بسن آداب وطقوس معينة لزيارة تلك الأضرحة، "فالزيارة ليست مجرد مرور عابر، ويجب أن تؤخذ بمعناها الدقيق، فعملية الاستقبال داخل الضريح هي لقاء بين الولي (الداعي) والزائر (الضيف) "(26)، لذلك لم يقتصر القبوريون ".. على إقامة المباني والأضرحة عليها فحسب، بل صنعوا في آداب زيارتها وترتيبها المصنفات الطوال، منها : كتاب شمس الدين محمد بن الزيات المعروف (الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة)"(27).
ومن (آداب للزيارة) إلى (مناسك للحج)، فقد "آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه : (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عُبَّاد الأصنام "(28).
ولم يكتفوا بتصنيف الكتب في ذلك، بل أشاعوا ذلك التشريع في جمهورهم، فالدكتور عبد الكريم دهينة يذكر عن قريته التي بها أكثر من ثلاثين ضريحاً تقام لها موالد ونذور ونسك، أنه "قد أفتى بعضُ الفسقة بأن الحج ينفع إليهم "(29)، كما " أن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ القناوي بقنا.. فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام.."(30).
وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي : "جاء الحُجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة، أكثر من حجاج الحرمين!"(31).
فهذا باب من التشريع، وهو أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله الحسنى : الحكيم، والحكم، والعليم، والعزيز، والملك، والعظيم...(1/75)
وكل ذلك أدى إلى الاستهانة بأوامر الله - عز وجل -، واستبدالها بتعظيم شعائر الأضرحة وأوامر سدنتها، وبذا كانت القبورية أحد الأسباب التي هيأت شعوب العالم الإسلامي لقبول العلمانية الوافدة وتشريع ما لم يأذن به الله.
شرك في التوحيد، ونكوص عن مجاهدة الأعداء :
ولست هنا بصدد تقييم علاقة أهل التصوف بمقاومة الأعداء - سلباً وايجاباً -، ولكننا نريد بيان أثر الأضرحة في جهاد أعداء الأمة، ضمن تأثيرها على حياة الشعوب الإسلامية في شتى المناحي. والمتتبع لأثر الأضرحة في هذا المجال يجد أن الأضرحة والقبور هيمنت على هذا الجانب ضمن هيمنتها على الحياة كلها، فأصبحت الأضرحة والمزارات تمثل بحق (أفيون الشعوب الإسلامية)!..
فقد اتخذتها الشعوب مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، باعتبار أنها (الرموز المقدسة) التي لا ينبغي أن تمس، " ففي ريف المغرب الذي كان يحتله الإسبان قامت القبائل هناك بثورة عارمة ضدهم، حين بنى الإسبانيون مركزاً للحراسة بقرب ضريح تقدسه القبائل "(32)، وقد فطن الأعداء لهذا الأمر، فحرصوا على عدم المساس بهذه القبور والأضرحة لعدم إثارة الذين يقدسونها، بل ساهموا في الترويج لها ولطقوسها، بينما كانوا يبدلون منهج حياة المسلمين تبديلاً كاملاً، وينهبون ثروات البلاد نهباً منظماً، (ويرحل بنا المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتي إلى زمن الحملة الفرنسية، يوم تقلد الشيخ خليل البكري نقابة الأشراف... (وفيه سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟!، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل، وقال : لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمئة ريال فرنساوية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم...) "(33).(1/76)
وكما مثلت القبور والأضرحة لدى المعتقدين فيها مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، فإنها شكلت عندهم بديلاً لأي جيش يناهض هؤلاء الأعداء.
فهي عندهم (هيئة المستشارين) التي تقرر قتال الأعداء أو لا تقرره، يقول الدكتور عمر فروخ : "لا ريب في أن الأوروبيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في أعمالهم الاستعمارية، ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال :
ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس : أن رجلاً فرنسياً دخل في الاسلام وسمى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم : إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في (26) أكتوبر سنة 1881 م.."(34).
وهي عندهم (حرس الحدود) الذي يقوم على صد الأعداء، بل ومنع الفتن والأوبئة!، فـ"(كل مدينة كبيرة أو صغيرة محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة، ومن طمع الطامعين "(35)، وبناء على ذلك الاعتقاد يذكر الكوثري " أن أرض الشام يحرسها من الآفات والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرفون في قبورهم!"(36).(1/77)
وبخلاف الأضرحة الكبرى التي (تحرس) المدن المهمة والمراكز الحيوية، يشيع هذا الاعتقاد أيضاً عند القبوريين في القرى والنجوع، ففي "مركز مغاغة بالمنيا، وعلى وجه التحديد بقرية (بني واللمس) على البحر اليوسفي، يشتهر مقام سيدي (حسن أبو رايتين)... ويعتقدون أنه يحرس القرية ويحفظها من السرقة وعداوات الدم، ويلجؤون إليه لرفع المظالم... "(37).
وهي عندهم (وسائل دفاع جوي!)، فضريح (علي الروبي) بالفيوم بمصر " أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ببركته التي حولت مسار القنابل إلى بحر يوسف!"(38).
وهي عندهم (معين المدد والذخيرة)، فأثناء الثورة العرابية روَّج القبوريون إشاعة قوية مفادها " أن كبار الأولياء (الدسوقي - البدوي - عبد العال) أهدوا أحمد عرابي ثلاثة مدافع ليستعين بها على منازلة الإنجليز"(39).
وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ (قوات خاصة) لمنازلة عدو شديد البأس يطلب القبوريون المدد من الأضرحة وأصحابها أيضاً، فعندما أغار التتار على بلاد الشام " كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، ولذا قال بعض شعراء القبورية :
ياخائفين من التتر…لوذوا بقبر أبي عمر"(40)
وحين أغار جنود الفرنسيين والإفرنج على مصر "صاح المحاربون في المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله : (يا رب يا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك)"(41).
وذكر الشيخ رشيد رضا " أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى فزع الناس إلى الاستغاثة بحامي بخارى! - كما يسميه أهلها - شاه نقشبند، فلم يغن عنهم شيئاً"(42).
وذكر أيضاً أنه " انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي الأجانب عليهم، الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء "(43).(1/78)
- وهي عندهم (جيوش متكاملة)، فلماذا الإعداد، والقبور والأضرحة عند المعتقدين فيها بمثابة جيوش متكاملة تفعل ما لا يستطيعه المحاربون؟!، فقد قال أحد كبار الصوفية في زمن احتلال الإنجليز لمصر، ما معناه : "لو أراد إبراهيم الدسوقي خروج الإنجليز من مصر ما بقي إنجليزي واحد، وقال بعضهم في نكسة سنة 1967 م ما يدور حول هذه الفكرة"(44).
وذكر الدكتور سيد عويس في كتابه المهم (رسائل إلى الإمام الشافعي) أن إحدى الرسائل الموجهة إلى ضريح الإمام الشافعي، والمؤرخة في أكتوبر سنة 1955م، يطلب صاحبها فيها "عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه سيدنا الحسين وسيدنا الحسن، والست زينب أم هاشم، وجميع أهل بيت النبي! ويطلبون من الله مسح إسرائيل اليهود، وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في الأسبوع، ويكون - إن شاء الله - آخر ميعاد يوم الثلاثاء القادم!!(45).
ولها تعقد احتفالات النصر، فمما يذكره الجبرتي أنه عند " مغادرة الفرنسيين للقاهرة سنة 1216هـ هرع قائد الجيش العثماني (حسين باشا القبطان) إلى زيارة المشهد الحسيني، وذبح فيه خمس جواميس وسبعة أكباش، واقتسمتها خدمة الضريح "(46). فهل أضر مؤثر بقوة الأمة أعظم من هذا (التخدير) الذي سرى في جسدها بفعل أفيون تقديس القبور والأضرحة؟
شرك فى التوحيد وتخلف في المجتمع :
وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى إضافة التخصصات للأضرحة بعد تقسيم درجاتها إلى كبرى وصغرى، فمثلما كان للإغريق - ومن بعدهم للرومان واليونان - إله لكل شيء. إله للحرب، والهة للحب، وإلهة للخصب، إله للخمر.. وجدنا عند القبوريين أضرحة ومزارات تشتهر بتخصصها في حاجات مختلفة، يخصونها بالتوجه إليها لطلب هذه الحاجة منها.(1/79)
ولعل من هذا القبيل : الأضرحة والمزارات النسائية، كمقام " الشيخة مريم التي يحتفل بمولدها مرتين: مرة في شم النسيم (*)، والأخرى في ذكرى مولد النبي، وقد اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم "(47)، وكذلك يطلب القبوريون "من ضريح الشيخة صباح في طنطا إبراء النساء من العقم "(48)، ومزار (بنات عين) في معان بالأردن : "انتشر ذكره بين العواقر، يفدن إليه بالقرابين والمصابيح لنيل البرء والشفاء، وهو مختص بالنساء فقط ويدعونه بالمستشفى النسائي!"(49)..
وإضافة إلى تلك الأضرحة والمزارات التي اشتهرت بتخصصها النسائي، هناك ضريح (النبي شعيب) في وادي السلط الجنوبي بالأردن "وهو ولي! مرهوب مختص بالأقسام الكبرى، إذا أشكلت الدعاوى واستعجمت مذاهبها.. ويطلب القاضي البدوي القسم الرهيب في بركة شعيب.. "(50)، وفي حلب بسورية "اعتاد بعض الناس هناك أن يسافروا إلى ضريح الشيخ ريح زاعمين أنهم يشفون من ريحهم... وللناس في قبر أبي العلاء المعري [بمعرة النعمان بسورية أيضاً] اعتقاد عظيم، يبيِّتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى.
وفي مدينة طنطا [بمصر] يطلب الناس هناك من ضريح عز الرجال - وهو أحد تلاميذ البدوي - شفاء الأطفال ..ومن ضريح محمد الحدري المعروف بالعمري شفاء أمراض الروماتيزم!"(51).
فإذا كان هذا الاعتقاد الناشئ عن الانحرافات في اسم الله - تعالى - : الشافي، دعا المعتقدين في الأضرحة إلى التوجه إليها بالقربات والعبادات لنيل مرادهم، فإنه أثمر أيضاً تخلفاً اجتماعياً مريعاً؛ حيث استغنى الناس بالأضرحة عن الطب وعلومه، فما حاجتهم إلى طب (الكفار!) وعندهم أضرحة المسلمين التي تشفيهم - وبأيسر السبل - مما يعجز عنه الأطباء؟!، وذلك صرف الناس عن تعلم الطب، فأثر ذلك بدوره في تدني مستوى الطب في المجتمع، مما كان يدفع الناس نحو الأضرحة مرة أخرى لطلب الشفاء منها.(1/80)
وإضافة إلى إهمال تعلم الطب فقد أهملت العلوم الأخرى، بل أهملت الخدمات الاجتماعية للأحياء لانشغال الناس بإعمار مراقد الأموات!.
شرك فى التوحيد، وفساد في الأخلاق :
إضافة إلى المفاسد الأخلاقية التي تحدث حول الأضرحة(52)، هناك أشكال من هذه المفاسد ارتبطت بها أيضاً، وفي ذلك تضرب (الموالد) بنصيب وافر، حيث يشيع فيها الفساد الأخلاقي مقترناً بالشرك الأكبر والأصغر.
ويجدر بالذكر هنا الإشارة إلى الأثر النصراني واليهودي في هذه الموالد، حيث تكاد تتطابق أشكال طقوس احتفالات أعياد الميلاد والموالد للقديسين و(الأولياء) النصارى واليهود مع ما يحدث في موالد الأولياء المسلمين(53)، حتى إن مولد (أبي حصيرة) اليهودي في قرية (ميتوه) بدمنهور في مصر - والذي كان يُحتفل به قبل التطبيع مع اليهود على أنه ولي مسلم، ويعقد مولده كل عام على هذا الأساس - يأتي إليه اليهود من أنحاء شتى ليقيموا مولده، وفيه : "تقاد الشموع وتسكب زجاجات الخمر على القبر، ويرقص النساء والرجال عرايا أو شبه عرايا على أنغام شرائط الكاسيت، وفي نهاية الليل يتمددون وهم سكارى فرادى ومتزاوجين في ظل حراسة جنود الشرطة والأمن المركزي!"(54).
هذه صورة من موالد (اليهود)، فماذا عن موالد (المسلمين)؟
في صدر مقالها عن موالد الأولياء في مصر، تعرف هيام فتحي دربك (المولد) بأنه : "الاحتفال بيوم ميلاد ولي من أولياء الله، والاحتفالات بالموالد تمارس في المنطقة التي فيها قبر الولي، وهي حفلات فولكلورية شعبية من غناء ورقص وتسلية، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة وألعاب الأطفال والمراجيح وحلقات الذكر الذي يتخذ مظهر الرقص أحياناً ومظهر الشعوذة أحياناً أخرى، ففيها يقوم الرجال بعمل حركات من قيام وقعود والى الشمال وإلى اليسار وهم يذكرون لفظ الجلالة.. الله، الله، حي، حي.. وقد يندمج بعضهم في حلقات الذكر فيشد شعره ويتمرغ على الأرض!"(55).(1/81)
ولكن ماذا عن حالة المولد فيما مضى؟ يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول : " ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالَم الأكبر من أخلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً.. "(56).
فالموالد ما هي إلا فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواء أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.
فالمولد فرصة لأن "تنتهك فيه حرمات النساء، وتشرب الخمور"، حتى إنه " أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط "(57).
وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) " فترى الفتيات يرقصنَ حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة.. "(58)..
فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة.
وبعد :
فقد كانت هذه صورة لبعض نتائج تفشي داء تقديس القبور والأضرحة في العالم الإسلامي، والملاحظ أن هذه الصورة ما كانت إلا تعبيراً عن الهيمنة السلبية على حياة الناس كلها، وليس هذا الحال خاصاً بمحلة دون أخرى، بل وصل الحال إلى أن أصبح " أكثر المسلمين في العالم قد عبدوا القبور بأنواع من العبادات، بل عبدوا الأشجار والغارات، وقد ارتكبوا أنواعاً من الشرك بالله - تعالى -! "(59)..(1/82)
ولم يقتصر ذلك على الجهال والطغام، بل شمل جمهرة من المنتسبين إلى العلم الشرعي أو من يسمون أنفسهم بالمثقفين والمتحضرين!، لا ينجو من ذلك إلا المتحصن بعقيدته، المستحضر توحيد ربه، الذي امتلأ قلبه بمحبة الله - عز وجل - وخشيته ورجائه.
إن تقديس القبور والأضرحة داء يعمل في أعز مشخصات هذه الأمة وأبرز ما يميزها، وهو التوحيد، وإن من علامات صحة الجسد إحساسه بالألم؛ فالجسد الميت أو الواقع تحت تأثير مخدر لا يحس بالألم رغم وجود مقتضاه، وهذه الأمة لا تموت ولا تنتهي إلا عند الإيذان بانتهاء الحياة في هذه الدنيا، ولكنها قد تدخل في غيبوبة عن أمر دينها أو أمر دنياها، إما بسبب غفلة من أبنائها أو بسبب كيد من أعدائها، أو بكليهما، وعند ذاك فإن كل من يساهم في إزالة أثر المخدر عنها، وكل من يساعد في (إيلامها) أو إظهار ألمها، فإنه يضرب بسهم في معافاتها، لأنها عندما تحس بالألم تعرف أنه أصابها داء، وعندما تدرك أنها مريضة تبحث عن الداء الذي أصابها لتقضي عليه وتفيق من رقادها.
فهل يبذل الدعاة -بل كل مسلم موحد -جهودهم ويجردون سيوف دعوتهم لإنقاذ الغارقين في غيبوبة الخرافات والأوهام الشركية، الذين أوشكوا على الهلاك؟
هذا ما نرجوه ونأمله، وندعو الله العلي القدير أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى.
الهوامش :
(1) د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر، ص 129.
(2) عن : جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص 744، نقلاً عن الطبقات الكبرى للشعراني.
(3) د. ناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع، التبرك - أنواعه وأحكامه، ص 473 - 474.
(4) حوار مع الصوفية، ص 56.
(5) موالد مصر المحروسة، ص 80.
(6) محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص 207.
(7) تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص 26.
(8) د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 89.(1/83)
(*) نلاحظ أن الإلحاد في اسمه - تعالى - : العظيم، يدخل فيه معظم الشركيات، لأنها ناتجة عن تعظيم القبوريين لهذه الأضرحة واصحابها.
(9) الانحرافات العقدية، ص 339 .
(10) محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص217.
(11) روح المعاني، م 3، جـ6، ص 128.
(12) الانحرافات العقدية، ص 321.
(13) جهور علماء الحنفية، ص 416، نقلاً عن أبي الحسن الندوي في رسالته (تقوية الإيمان).
(14) انظر على سبيل المثال : رسالة (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسالة (أربع قواعد) له أيضاً، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني الحنفي، ص 166، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الألوسي، 1 /295.
(15) مقال (المزارات في شرقي الأردن)، ص 903.
(16) ا لسابق، ص 914.
(17) تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص 18 - 19.
(18) شهر في دمشق، ص 64.
(19) علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص 327.
(20) السابق.
(21) السابق، ص 326.
(22) عن : جهود علماء الحنفية...، ص 479 - 480، نقلاً عن : إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور، للغماري.
(23) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، جـ7، ص 162.
(24) بتصرف عن : أضواء على ركن من التوحيد، لعبد العزيز بن حامد، ص 16، وحديث أن عمراً بن لحي "أول من سيَّب السوائب" في البخاري، ك / التفسير، ب /13.
(25) تفسير المنار، جـ7، ص 204.
(26) موالد مصر المحروسة، ص 83.
(27) د. سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ 1، ص 47.
(28) إغاثة اللهفان، لابن القيم، جـ 1، ص 197.
(29) الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 128.
(30) حسين أحمد أمين، مقال (تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين)، ص 137.
(31) نقلاً عن : بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص 268.
(32) الانحرافات العقدية، ص 305 .(1/84)
(33) عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص 14.
(34) نقلاً عن : التصوف بين الحق والخلق، لمحمد فهر شقفة، ص 211، وانظر : هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص 171.
(35) ا لانحرافات العقدية، ص 324.
(36) عن : جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص 461.
(37) موالد مصر المحروسة، ص 53 - 54.
(38) السابق، ص 53.
(39) الصوفية والسياسة، ص 120.
(40) جهود علماء الحنفية...، ص 458.
(41) السابق، ص 460.
(42) عن : الانحرافات العقدية، ص 320.
(43) محمد أحمد درنيقة، مصدر سابق، ص 218.
(44) د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص 120.
(45) نقلاً عن : مقال (الأضرحة - مدخل تاريخي واجتماعي)، للأستاذ/ وليد فكري فارس، مجلة التوحيد المصرية، السنة (24)، العدد (4)، وانظر : الصوفية والسياسة، ص 51.
(46) عن : بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص 269.
(*) أصله عيد فرعوني، ويراد له الانتشار الآن مزاحمة لأعياد المسلمين.
(47) موالد مصر المحروسة، ص 53.
(48) الانحرافات العقدية، ص 336.
(49) مجلة المشرق، 11 / 11 / 1920 م، مقال : المزارات في شرقي الأردن، ص 907.
(50) السابق، ص 903.
(51) الانحرافات العقدية، ص 336.
(52) انظر على سبيل المثال : الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، للدكتور زكريا سليمان بيومي، ص133 - 137.
(53) انظر : موالد مصر المحروسة، ص 17.
(54) جريدة (الوفد) القاهرية، 4/8 /1416 هـ، ص 6.
(55) هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص 41.
(56) نقلاً عن : هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص 161.
(57) د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 131.
(58) المزارات في شرقي الأردن، ص 906.
(59) الشيخ مسعود الندوي، نقلاً عن : جهود علماء الحنفية، للدكتور شمس الدين السلفي، ص 472.
ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(1/2)(1/85)
فسطاط الخرافة.. الجذور والواقع
خالد محمد حامد
تقديس القبور والأضرحة) مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت نصوصه الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)(1)، وعنه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (2).. هذا في قبره الشريف وفي كل قبر، وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)(3)، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن (يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) وفي زيادة صحيحة لأبي داود: (أو أن يكتب عليه)(4).. ولعن (المتخذين عليها [اي القبور] المساجد والسُرج)(5).
من النور إلى الظلمات:
وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان (ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المئة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القدّاحية في أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر)(6).(1/86)
(ولم يكن في العصور المفضلة (مشاهد) على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك. ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي -رضي الله عنه- وأمثاله...)(7).
(... وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي -رضي الله عنه- بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي -رضي الله عنه- بقصر الإمارة بالكوفة)(8).
فعندما بدأت المحدَثات تدب في حياة المسلمين، كان منها ذلك الأمر الجلل (فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد... ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك حج المشاهد) وكذبوا فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب)(9).
الرواد الأوائل:
وعلى ذلك يتضح أن الذين بذروا بذورَ شرك القبور كانوا رافضة، وهذا ما تؤكده لنا عالمة الآثار الدكتورة سعاد ماهر فهمي عندما تسرد أوائل الأضرحة ذات القباب، فتقول: (.. ويليها من حيث التاريخ: ضريح إسماعيل الساماني(10) المبني سنة 296 هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي - رضي الله عنه - في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317 هـ، ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم بإيران سنة 366 هـ، ثم ضريح (السبع بنات) في الفسطاط سنة 400 هـ، وقد احتفظت لنا جبّانة أسوان بمجموعة كبيرة من الأضرحة ذات القباب التي يرجع تاريخ معظمها إلى العصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري)(11).(1/87)
فبدايات تعظيم القبور واتخاذها مشاهد وأضرحة ارتبطت تاريخياً بأسماء: القرامطة، وبني بويه، والفاطميين (العبيديين)، والسامانيين، والحمدانيين... وجميعهم روافض وإن تفاوتوا في درجة الغلو(12).
على أن الدكتورة سعاد ماهر تذكر لنا (أن أقدم ضريح في الإسلام أقيمت عليه قبة يرجع إلى القرن الثالث الهجري، وقد عُرف هذا الضريح باسم (قبة الصليبية)، ويوجد في مدينة سامرّا بالعراق على الضفة الغربية لنهر دجلة إلى الجنوب من قصر العاشق...، ويقول الطبري: إن أم الخليفة العباسي استأذنت في بناء ضريح منفصل لولدها فأذن لها؛ إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره، فأقامت قبة الصليبية في شهر ربيع الثاني سنة 284هـ، وقد ضم الضريح إلى جانب المنتصر الخليفة المعتز والمهتدي، وتعتبر قبة الصليبية(13) أول قبة في الإسلام)(14).
ولكن الدكتورة سعاد تذكر لنا الأضرحة (ذات القباب) فقط، ولا ندري هل كانت قبل قبة الصليبية أضرحة أخرى ليست ذات قباب أم لا؟
تعانق الجبت مع الطاغوت:
على أن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن (تقديس القبور والأضرحة) أمر حادث في الإسلام، وإحداثه لم يرتبط بأهل التقوى والعلم، بل ارتبط بأصحاب الدعوات الهدامة وأهل السلطان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل ذلك في قوله ـ تعالى ـ عن أصحاب الكهف: ((قَالَ الَذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً)) [الكهف: 21] فالذين أرادوا اتخاذ مسجد على قبور الفتية هم أهل الغلبة.(1/88)
ولعلنا نلمح أن في ذلك جنساً من اتباع سَنَن من كانوا قبلنا في تعانق الجبت مع الطاغوت عند حدوث الانحراف العقدي، وذلك كما في قوله ـ تعالى ـ: ((أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..)) [النساء: 51]؛ حيث يتآزر دعاة الأوهام والخرافة مع أصحاب الطاعة والتشريع من دون الله، ويتبادلون الأدوار أحياناً، فتجد الكهان والمنجمين والسحرة يطلبون الطاعة ممن يؤمن بخرافاتهم ويحلون له الحرام، ويُحرمون عليه الحلال، كما أنهم يمدون أصحاب السلطان والطاعة بالشرعية التي هم في حاجة إليها، وتجد أصحاب السلطان ممن يُطاعون في معصية الله يستشيرون الخرافيين ويقربونهم ويفسحون المجال للترويج لبدعهم بين الناس.. ولا شك أن لكل ذلك أثراً في الواقع.
دينهم وديدنهم:
كما أن مكانة القبور والأضرحة (المقدسة)! غير قابلة للمساومة في دين الرافضة؛ فطائفة البهرة الإسماعيلية (من غلاة الرافضة) ذات نشاط واسع في عمارة وتجديد المساجد ذات الأضرحة بحجة الاهتمام بالعمارة الإسلامية، وبخاصة في مصر... والقبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير في دمشق ـ وهو القبر المنسوب إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ ما زال مكتوباً عليه إلى الآن: قام بعمارة البناية الضخمة عليه والمسجد حولها والقبة المزخرفة: محمد بن حسين نظام وأولاده من طائفة الشيعة(15).(1/89)
وأيضاً فإن أصحاب الأضرحة الكبرى ممن ينسب إلى التصوف هم في الحقيقة من غلاة الشيعة الباطنية؛ حيث (من العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى مصر، وهو (أبو الفتح الواسطي) (جد إبراهيم الدسوقي) لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد كان ذلك في العهد الأيوبي، وبعد موت الواسطي جاء (البدوي) ليخلفه في دعوته تلك، وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان (الدسوقي) بدسوق و (أبو الحسن الشاذلي) بالإسكندرية، و (أبو الفتح الواسطي) ما بين القاهرة وطنطا والإسكندرية، ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا، وجميعهم من فلول العبيديين الذين طردهم صلاح الدين الأيوبي من مصر، ثم حاولوا العودة تحت ستار التصوف والزهد... كما أن كلاّ من ابن بشيش وابن عربي قد تتلمذا على يد (أبي مدين) بالمغرب)(16).
(وفي أواخر عهدهم أنشأ الفاطميون المشهد الحسيني عام 550هـ عندما شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق القرشي (564هـ (تربية مريدي الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحول المشهد الحسيني إلى ضريح صوفي)(17).
والحاصل: أن تقديس القبور وزيارة المشاهد تقليد شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور؛ حيث تتبعوا ـ أو زعموا ـ قبور من مات قديماً ممن يعظمونهم من آل البيت، وراحوا يبنون على قبورهم ويجعلونها مشاهد ومزارات، ثم جاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم هو زيارة القبور وبناء الأضرحة والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات(18).
الحاجة أمّ الاختراع:(1/90)
وأصبح تقديس القبور والأضرحة لازماً من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا يتصور أحد وجود طريقة صوفية من غير ضريح ـ أو أكثر ـ تقدسه.. ومع تمكن الداء من جسد الأمة ظهرت (الحاجة) إلى تعدد الأضرحة والمزارات لتلبي رغبات من صرعتهم الأوهام، وضاق بالقبوريين أن يتحروا ثبوت قبور الأولياء المشهورين لدى جمهورهم، ولأن الحاجة أُمّ الاختراع ـ كما يقال ـ فقد وجدوا لهذه الأزمة بعض المخارج والحيل:
- فظهر ما يسمى بأضرحة الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر: (ظهر في العصور الوسطى ـ وخاصة في أوقات المحن والحروب التي لا تجد فيها الشعوب من تلوذ به غير الواحد القهار ـ أن يتلمسوا أضرحة آل البيت والأولياء للزيارة والبركة والدعاء ليكشف الله عنهم السوء ويرفع البلاء، ومن ثم: ظهر ما يعرف بأضرحة الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم مسجداً أو ضريحاً لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه)(19).
وتلك كانت الدعوى نفسها التي أقيمت عليها (مزارات الشهداء) عند النصارى (وكان ذلك إبان القرن الخامس الميلادي؛ حيث أصبح لكل قرية مزار لشهيد يحوي عظاماً لبعض الموتى المجهولين، أخرجت من القبور، ومنحت كل التبجيل والاحترام، دون أدنى دليل يثبت أنها ـ على الأقل ـ بقايا مسيحيين، ويُخلع على هذه الرفات أسماء وألقاب لائقة، وفي حالات كثيرة كان المرجع الوحيد في هذا الشأن (حلم) أو (رؤيا) لكاهن أو راهب)(20).(1/91)
وعلى ذلك لا يلزم أن يكون الولي المقام الضريح باسمه ثبت وجوده في ذلك المكان، بل لا يلزم أن يكون وطئت قدمه أرض تلك البلاد أصلاً، ومن هنا ظهرت أضرحة مزعومة ومكذوبة في طول البلاد وعرضها، وتعددت الأضرحة للولي الواحد في أكثر من قُطْر، ولتسويغ ذلك الخطل نسجوا خرافة واضحة الزور والبهتان، فقالوا: إن الأرض لأجسام الأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة ويزار كل مكان قيل عنه إنه فيه نبي كريم أو ولي عظيم(21).
- ومن الحيل الرائجة لإقامة ضريح أو مشهد: نسج الكرامات حول الشخص المزعوم بأنه ولي، أو حول المكان المزعوم بأنه مكان قبر ولي.
فمما ينسج حول الأشخاص: ما حدث مع (الشيخ) صالح أبي حديد الذي كان وبعض صحبه من قطاع الطريق، وحين كشف أمره هرب ولجأ إلى بيت مغنية مشهورة، فأخفته وادعت أنه مجنون ووضعت في رجليه قيداً من حديد، وقد اعتقل لسانه من شدة الخوف، ثم أشاعت هي والمجتمعون من حوله أن له كرامات وإخباراً بالمغيبات، فأقبل عليه الناس بالهدايا والنذور حتى ذاع صيته، وزاره الخديوي إسماعيل واستبشر به وبنى له قبراً بقبة عالية بعد وفاته ووقف عليه الأرض وغيرها(22).
ومن ذلك: مسجد في حلب يعرف بمسجد العريان، يعتقده أهل المحلة الموجود بها، ويقولون: إنه عرف بالعريان؛ لأنه في أكثر أوقاته يتجرد من ثيابه، ويدّعون أن ذلك لغلبة الحال عليه(23).
الواقع الأليم.. شبكة أضرحة:(1/92)
ولغفلة جموع كثيرة من الأمة عن حقيقة دينها فقد أنبتت هذه الجذور شبكة واسعة من القبور والأضرحة (المقدسة) عمت معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل إن بعض الباحثين يقدر عدد الأضرحة في القطر الذي يعيش فيه بما لا يقل عن عدد المدن والقرى في هذا القطر، حيث يقول: (وأضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر ونحو ستة آلاف قرية: هي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين، ويمكننا القول: إنه من الصعب أن نجد يوماً ـ على مدار السنة ـ ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر)(24)، بل أصبحت القرى التي تخلو من الأضرحة مثار تندر وتهكم سدنة الأضرحة، فقد ذكر الدكتور زكريا سليمان بيومي أن من القرى التي تخلو من أضرحة الأولياء: (بِيّ العرب) و (أبو سنيطة) و (ميت عفيف) وهي جميعاً مركز الباجور منوفية، وأطلق المشايخ أمثلة شعبية على بخل هذه القرى وخلوها من البركة ما زالت سارية بين الناس حتى الآن!(25).
ولكي ندرك حجم المأساة أكثر سنورد بعض ما تيسر من نماذج توضح حجم انتشار هذه الأضرحة في بعض بقاع العالم الإسلامي، وبالطبع، فليس من بلد به ضريح إلا وله مريدون ممن يعتقدون فيه..
فمن بين ألوف الأضرحة المنسوبة إلى الأنبياء والصحابة والأولياء في العالم الإسلامي يشتهر في مصر من بين أكثر من ستة آلاف ضريح (على تقدير من أشرنا إليهم (أكثر من ألف ضريح(26)، (ويذكر صاحب الخطط التوفيقية علي باشا مبارك أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدها مئتان وأربعة وتسعون ضريحاً)(27)، أما خارج القاهرة فيوجد (على سبيل المثال في مركز فوّة.. (81) ضريحاً، وفي مركز طلخا (54)، وفي مركز دسوق (84)، وفي مركز تلا (133)، وهي الأضرحة التابعة للمجلس الصوفي الأعلى، بخلاف الأضرحة التابعة للأوقاف أو غير المقيدة بالمجلس الصوفي)(28) كما يوجد في أسوان أحد المشاهد يسمى مشهد (السبعة وسبعين ولياّ)(29).(1/93)
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى، وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره وكثر زواره.
فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة: ضريح الحسين، وضريح السيدة زينب، وضريح السيدة عائشة، وضريح السيدة سكينة، وضريح السيدة نفيسة، وضريح الإمام الشافعي، وضريح الليث ابن سعد... وخارج القاهرة تشتهر أضرحة: البدوي بطنطا، وإبراهيم الدسوقي بدسوق، وأبي العباس المرسي بالإسكندرية، وأبي الدرداء بها أيضاً، وأبي الحسن الشاذلي بقرية حميثرة بمحافظة البحر الأحمر، وأحمد رضوان بقرية البغدادي بالقرب من الأقصر، وأبي الحجاج الأقصري بالأقصر أيضاً، وعبد الرحيم القنائي بقنا...
أما في الشام فقد أحصى عبد الرحمن بك سامي سنة (1890م) في دمشق وحدها 194ضريحاً ومزاراً، بينما عد نعمان قسطالي المشهور منها 44 ضريحاً، وذكر أنه منسوب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً، لكل واحد منها قبة ويزار ويتبرك به.
وفي الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد 481 جامعاً يكاد لا يخلو جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في الآستانة (القسطنطينية).
وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس.
وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح، وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة(30).
وفي معظم مناطق أوزبكستان كثير من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة والمشائخ ورجال العلم والأولياء، وأصبحت هذه القبور مزارات يفد إليها مريدوها جماعات وأفراداً، يدعون ويبكون، ومن أهم تلك المزارات ضريح قثم بن العباس ابن عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سمرقند، وضريح الإمام البخاري في قرية خرتنك(31).
بين الحقيقة والوهم:(1/94)
وإذا كان ذكر أسماء الأضرحة المشهورة في العالم الإسلامي قد يشق على المتابع فسنذكر هنا طرفاً من الأضرحة المكذوبة والمشكوك في نسبتها:
فضريح الحسين بالقاهرة (كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم)(32)، (فإنه معلوم باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمئة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمئة... فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين -رضي الله عنه- قول بلا حجة أصلاً..)(33).
وقد ورد عن المشائخ: ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني والقرطبي صاحب التفسير وعبدالعزيز الديريني إنكارهم أمر هذا المشهد، بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد مبني على قبر نصراني(34).
وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين -رضي الله عنه- أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا، وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين: في دمشق، والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه -رضي الله عنه-، وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده(35).
ورغم أن المحققين يقولون إن السيدة زينب بنت علي ـ رضي الله عنهما ـ ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو (القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه...)(36).(1/95)
ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة ـ كما يذكر أحمد زكي باشا ـ(37)، ويقول علي مبارك في الخطط التوفيقية: (لم أرَ في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي ـ رضي الله عنهما ـ جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات)(38).
وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة(39).
ومن أضرحة الرؤيا: مشهد السيدة رقية بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقاهرة، أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وذلك بلا خلاف(40)، ومنها كذلك: ضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي ـ رضي الله عنهم ـ(41)، ويذكر المقريزي في خططه (2/45) جملة من الأضرحة المزعومة، منها: (قبر في زقاق المزار تزعم العامة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان مؤدباً للحسين بن علي بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وإفك مفترى، كقولهم في القبر الذي بحارة برجوان إنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر إنه قبر أبي تراب النخشبي... إلى غير ذلك من أكاذيبهم)(42).
ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنجف بالعراق، وقد مرّ بنا سابقاً كلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من أنه قبر مكذوب، وأن علياً -رضي الله عنه- دفن بقصر الإمارة بالكوفة(43).
وفي البصرة عدد من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة منها: قبر عبد الرحمن بن عوف رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع(44).
وفي بلدة الرها من أعمال حلب ضريح يقال إنه لجابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضي الله عنهما ـ مع أن جابراً توفي في المدينة(45).
وفي مدينة نصيبين بالشام (حالياً بجنوب تركيا) قبة يزعمون أنها لسلمان الفارسي، مع أنه -رضي الله عنه- مدفون في المدائن(46).(1/96)
ويضيف ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: إنه قبر أُبَيّ بن كعب، وقد اتفق أهل العلم على أن أبيّاً لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد... فلا يستبعد أنهم [اي: النصارى] ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه)(47).. وما لم يستبعده ـ رحمه الله ـ حدث مثله في العصر الحاضر (ففي الجزائر كان الشعب هناك يؤم ضريحاً في بعض المناطق الشرقية ويتبرك بأعتابه، ثم اكتُشف أن هذا القبر كان لراهب مسيحي، ولم يصدق الناس ذلك حتى عثروا على الصليب في القبر)(48).
وفي دمشق أيضاً: قبور منسوبة إلى أمهات المؤمنين: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة ـ رضوان الله عليهن ـ مع أنهن مدفونات بالمدينة المنورة، وفيها كذلك قبر لأسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ مع أنها ماتت في مكة بعد مقتل ولدها عبد الله بن الزبير بأيام قليلة(49).
وينسب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و (رقية) بنتي رسول الله (وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنورة تحت عثمان، وهذا إنما هو بسبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصاً يسمى باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن الجهال أنه أحد من الصحابة)(50)، (ومنها (قبر خالد) بحمص، يقال: إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية...، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد: ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك: هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد)(51).
ولعل لهذا السبب أيضاً وجد ضريح (سيدي خالد بن الوليد) بكفر الحما مركز أشمون منوفية بمصر، وضريح (الشيخ عمار بن ياسر) بناحية بني صالح تبع مركز الفشن(52).
انفراط العقد:(1/97)
وفي دمشق كذلك ضريح يدعي الناس أنه لرأس يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ يقع في قلب المسجد الأموي، وله قبة وشباك، وله نصيبه من التمسح والدعاء، وبجانب المسجد الأموي قبر القائد صلاح الدين الأيوبي، وإلى جانبه في القبة قبر عماد الدين زنكي، وقبور أخرى تزار ويتوسل بها... وفيها قبور أخرى كثيرة كقبر زيد بن ثابت، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والراجح أنه قبر معاوية بن يزيد بن معاوية، أما قبر معاوية الصحابي فقيل إنه بحائط دمشق الذي يقال إنه قبر هود ـ عليه السلام ـ، وفي دمشق أيضاً قبور كثير من التابعين والقواد العظماء، ومعظم ما يقال عن هذه القبور تخرصات و تكهنات معظمها من وضع الشيعة والصوفية، وإلا فليس هناك دليل مادي يثبت قبر كل فرد بعينه(53).
وإضافة إلى ضريح دمشق المنسوب ليحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ فإن له مزاراً آخر في صيدا جنوب لبنان في قمة جبل يشرف على البلد والبحر، وله أيضاً مقام ثالث في الجامع الأموي بحلب؛ حيث توجد حجرة تعرف بـ (الحضرة النبوية) يقال إن بها رأس يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ في صندوق جرن، وقيل إن بها عضواً من أعضاء نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ في صندوق مرمر(54).
وفي حلب أيضاً: (مسجد يعرف بمسجد النبي، منسوب إلى نبي يدعى كالب بن يوفنا من سبط يهوذا)(55).
ونحو الجنوب إلى معان بشرقي الأردن يوجد مزار النبي هارون، ولا يوجد عند أهل هذه الناحية مقام أشد إكراماً ولا أوفر آياتٍ منه!، كما يوجد في شرقي الأردن أيضاً مقام النبي هوشع (يوشع) على قمة جبل بالقرب من السلط، وهو مبني بحجارة قديمة يرتئي الباحثون أن أكثرها يرتقي إلى عهد الصليبيين!، كما يوجد في غربي الكرك مزار النبي نوح، وفي بادية البلقاء وموآب يوجد مقام (الخضر الأخضر)(56).(1/98)
كما يوجد ضريح آخر للخضر ـ عليه السلام ـ في مغارة بمعرة النعمان بشمال سورية بالشام، ويوجد بها كذلك ضريح آخر ليوشع ـ عليه السلام ـ، وفي معرة النعمان أيضاً يوجد ضريح شيث ـ عليه السلام ـ، مع أن هناك جامعاً كبيراً في الموصل يسمى بجامع النبي شيث داخله ضريح يعتقد الناس أنه مدفون فيه، ولم يكن هذا القبر معروفاً قبل القرن الحادي عشر للهجرة، حيث رأى أحد ولاة الموصل في ذلك القرن مناماً يدل على موضع القبر، فبنى الضريح(57).
ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود ـ عليه السلام ـ بجامع دمشق، فإن هوداً لم يجئ إلى الشام(58). وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت، وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح ـ عليه السلام ـ، رغم أنه مات بالحجاز، وله أيضاً ـ عليه السلام ـ قبر في يافا بفلسطين، التي بها كذلك مزار لأيوب ـ عليه السلام ـ(59).
ويونس ـ عليه السلام ـ له ضريح في بلدة حلحول بفلسطين، وضريح آخر بقرية نينوى قرب الموصل بالعراق، وثالث في غار بضيعة قرب نابلس بفلسطين، وكلها يُدّعى أن فيها قبره ـ عليه السلام(60)، وفي نابلس أيضاً ضريح الأسباط إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ، وله ـ عليه السلام ـ قبر في مسجد الخليل بمدينة الخليل بفلسطين، وفي المسجد نفسه ضريح إبراهيم -عليه السلام -، وكذا: أضرحة تنسب إلى إسحاق ويعقوب - عليهما السلام -(61).
ورغم وجود مزار لداود ـ عليه السلام ـ في قضاء كلّز من أعمال حلب بسورية، إلا أن له مزاراً آخر في جنوب غرب صيدا بلبنان، التي في جانبها الشرقي مزار ـ شمعون ـ يزعم الناس أنه من أنبياء بني إسرائيل، وله نفسه مزار آخر في قضاء كلّز أيضاً، وفي صيدا أيضاً مزار (صيدون) يزعم الناس أيضاً أنه من أنبياء بني إسرائيل(62).
وذكر الفيروزآبادي في تعريفه لبلدة قرب نابلس تسمى (عَوْرَتا): (قيل بها قبر سبعين نبياً، منهم: عزير، ويوشع)(63).(1/99)
وبعد هذا السرد إليك ما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في نسبة قبور الأنبياء، فقد حكى عن طائفة من العلماء (منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء، لا يصح شيء منها إلا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثبت غيره أيضاً قبر الخليل ـ عليه السلام ـ(64))، ويقول أيضاً: (وأما قبور الأنبياء: فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن قبره منقول بالتواتر، وكذلك قبر صاحبيه، وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره... ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين)(65).
وماذا بعد؟
ولم يقف الأمر عند حد نسبة القبور زوراً إلى شخصيات لها نصيبها من الحب والاحترام لدى الناس، بل وصل الادعاء إلى اختلاق بعض هذه الشخصيات من الوهم والعدم ونسبة الأضرحة إليها، فمن ذلك: قبر في طريق بلدة (طورخال) بتركيا لصحابي أسموه (كيسك باش! (، وفي معرة النعمان ضريح لرجل يدعى (عطا الله) يزعمون أنه صحابي أيضاً(66).
وذكر المقريزي أن في القاهرة قبراً على يسرة من خرج من باب الحديد ظاهر زويلة،يزعمون أنه لصحابي يدعى: زارع النوى!(67).
وفي مدينة الشهداء بمصر ضريح داخل مسجد منسوب إلى (شبل) بن الفضل بن العباس عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، رغم أن المصادر العلمية تتفق على أن الفضل بن العباس -رضي الله عنه- لم ينجب إلا بنتاً واحدة اسمها (أم كلثوم)(68).
وأخيراً:
فإننا ربما لا ننتهي إذا حاولنا استقصاء حقيقة القبور والأضرحة المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، والتي على فرض ثبوت صحة نسبتها فإن إقامة المساجد عليها وممارسة الأفعال التي اعتاد الناس على القيام بها حولها.. ليس من دين الله في شيء، بل يقع معظمه في دائرة المحرمات بدرجاته المختلفة، ومنها ما قد يصل إلى حد الشرك المخرج من الملة.(1/100)
ولكن إذا ثبت أن ديننا ينهى عن تلك الأفعال، وثبت أن سوس الجهل والأوهام يرتع ناخراً في فسطاط الخرافة، فما الذي يدفع مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها إلى ولوج هذا الكيان والتمسك به؟!
الهوامش :
(1) أخرجه الإمام أحمد، 2/367، وأبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود، ح/1769.
(2) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل 2/246، وصححه الألباني في تحذير الساجد، ص25.
(3) أخرجه مسلم في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور، وأبو داود والترمذي والنسائي.
(4) أخرجه مسلم في الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر، وأبو داود، ح/3226، وانظر: صحيح سنن أبي داود للألباني، ح/ 2763.
(5) أخرجه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد، وقال أحمد محمد شاكر في تعليقه على (سنن الترمذي) 2/137: (الشواهد التي ذكرناها ترفعه إلى درجة الصحة لغيره، إن لم يكن صحيحاً بصحة إسناده هذا)، وضعف الألباني لفظ (السرج)، انظر: الضعيفة، ح/225.
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج/ 27، ص466.
(7) السابق، ص 167.
(8) السابق، ص 466.
(9) السابق: ص161 ـ 162.
(10) ينتسب السامانيون إلى رجل فارسي يسمى (سامان)، كان مجوسياً واعتنق الإسلام أواخر عهد الدولة الأموية، وإسماعيل المذكور هو: إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، آلت زعامة السامانيين إليه عام 279هـ، وتوفي سنة 295هـ. انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، ج/6، ص91، 107،....
(11) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ1، ص46.
(12) انظر: التاريخ الإسلامي، جـ 6، ص149.
(13) نسبة إلى موقع الضريح عند تقاطع طريقين.
(14) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون جـ1، ص46.
(15) انظر: شهر في دمشق، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص 67.
(16) بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: 247، نقلاً عن (السيد البدوي ـ دراسة نقدية) للدكتور عبد الله صابر.
(17) عمار علي حسن، الصوفية والسياسة في مصر، ص88.(1/101)
(18) انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، ص: 427.
(19) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ1، ص102 ـ 103.
(20) موالد مصر المحروسة، لعرفة عبده علي، ص71.
(21) الانحرافات العقدية...، ص285.
(22) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، د. زكريا سليمان بيومي ص125، والانحرافات العقدية، ص299 ـ 300، وبدع الاعتقاد ص267.
(23) انظر: الانحرافات العقدية، ص300.
(24) عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص7.
(25) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص126.
(26) د. سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ1 ص44.
(27) الانحرافات العقدية، ص293.
(28) د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص127، 153.
(29) انظر: الآثار الإسلامية في مصر من الفتح العربي حتى نهاية العصر الأيوبي، مصطفى عبد الله شيحة، ص152.
(30) انظر: الانحرافات العقدية، ص289، 294، 295.
(31) انظر: مجلة (دراسات إسلامية) العدد الأول سنة 1418هـ، مقال (مسلمو أوزبكستان)، لعبد الرحمن محمد العسيري، ص217، 218.
(32) مجموع الفتاوى، جـ27، ص451، وانظر: ص465.
(33) السابق، ص456.
(34) السابق، ص485، ص493.
(35) انظر: الانحرافات العقدية، ص288، ومجلة (لغة العرب)، جـ7 السنة السابعة (1929م)، ص557 ـ 561، ومعالم حلب الأثرية، عبد الله حجار.
(36) عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، ص 67.
(37) سمير شاهين، الوثنية في ثوبها الجديد، ص81.
(38) السابق.
(39) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ2، ص33.
(40) مصطفى عبد الله شيحة، مرجع سابق، ص143.
(41) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، جـ1، ص102.
(42) عن مقال: تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين، لحسين أحمد أمين، مجلة العربي، ع/226، رمضان 1397هـ، ص135.
(43) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى جـ27، ص493.(1/102)
(44) الانحرافات العقدية، ص291.
(45) السابق، وانظر: مجموع الفتاوى، جـ27، ص494.
(46) السابق، ص290.
(47) مجموع الفتاوى، جـ27، ص460.
(48) الانحرافات العقدية، ص288.
(49) انظر: السابق، ص290، ومجموع الفتاوى، جـ27، ص170.
(50) مجموع الفتاوى، جـ27، ص494.
(51) السابق، ص492.
(52) انظر: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص159، هامش 4، ص138.
(53) انظر: عبد الله بن محمد بن خميس، شهر في دمشق، ص 66، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جـ27، ص447، ص491.
(54) الانحرافات العقدية، ص278، 279.
(55) السابق، ص 284.
(56) انظر: المزارات في شرقي الأردن، بقلم الخوري بولس سلمان، مجلة المشرق، 11/11/ 1920م، ص902 ـ 910.
(57) انظر: الانحرافات العقدية، ص282 ـ 283.
(58) انظر: مجموع الفتاوى جـ27، ص491، ص484.
(59) الانحرافات العقدية، ص283، ص281.
(60) انظر: السابق، ص281، ص282.
(61) السابق، ص282، ص281.
(62) نفسه، ص281، ص280.
(63) القاموس المحيط، مادة (ع و ر).
(64) مجموع الفتاوى، جـ27، ص446.
(65) السابق، ص444.
(66) انظر: الانحرافات العقدية، ص290، ص291.
(67) حسين أحمد أمين، مرجع سابق.
(68) انظر: الوثنية في ثوبها الجديد، سمير شاهين، ص82.
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(2/2)
عاصفة الأوهام (عوامل الاستمرار)
خالد محمد حامد
لا تحمل الخرافة في ذاتها قوة الدفع اللازمة لاستمرار ترويجها لدى المصابين بها ؛ فهي لا تصمد أمام الحقائق العقلية والشرعية في حلبة صراع الأفكار ، ومع ذلك فقد استمر داء تقديس القبور والأضرحة ، بل انتشر واستفحل حتى إنه يذكر عن عدد الذين يحضرون مولد البدوي أو الدسوقي في مصر مثلاً أنهم : يقدرون بالملايين من البشر [1] ، فما هي العوامل التي ساعدت على هذا الانتشار والاستمرار ؟(1/103)
إن المتأمل في شأن القبورية يستطيع القول : إنه لم يكن السبب في هذا الانتشار عاملاً واحداً ، بل هناك عدة عوامل متشابكة عملت جميعها على ذلك الانتشار والاستمرار ، نذكر منها : العوامل الدينية ، والنفسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية .. وإليك بيان بعض هذه العوامل :
العوامل الدينية :
فـ (فلسفة القبورية) تعد من أهم عوامل استفحال داء تقديس القبور والأضرحة ، وأعني بذلك : مع تقديم مسوّغات لهذه الممارسات ، ووجود الفراغ (التوحيدي) لدى القبوريين مع بقاء الدافع الفطري في (التأله) لدى البشر عموماً ، كما أن القبوريين توهموا سهولة الدخول تحت طقوس القبور والأضرحة مقابل تخليهم عما عدوه صعوبة تكاليف التوحيد الخالص ، فكانوا كما قال فيهم ابن قيم الجوزية نقلاً عن أبي الوفاء بن عقيل رحمهما الله : (لما صعبت التكاليف على
الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم ، فسهلت عليهم ؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم ... ) [2] ، فإذا أضفنا إلى ذلك :
ترويج مشايخ القبورية لشبهات ساقطة على أنها أدلة شرعية وحقائق دينية تسمح بهذه الطقوس لازداد تأثير هذا العامل في ترسيخ فتنة القبورية ، لذلك فإننا نلمح أن انتشار هذا الداء يتناسب عكسيّاً مع تصاعد أمرين :
الأمر الأول : محاولة القضاء على الدين عموماً والعمل على قتل فطرة الإيمان بالغيبيات في القلوب ، الأمر الذي يصرف هذه الفطرة إلى نوع آخر من الإيمان بنوع تأليه للمادة والعقل بدلاً من الغيب والخرافة ، وهذا ما ظهر واضحاً عقب الانقلاب العلماني على الخلافة العثمانية ، (ويذكر رشيد رضا لعباد القبور ما فعله ملاحدة الأتراك عندما استلموا الحكم ، فقد حارب هؤلاء البدع والخرافات وعبادة القبور ، وقاموا بنبش قبور بعض الأولياء ، وعرضوا أمام الناس رميم عظامهم وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم ، بله أن يجلبوا النفع أو يدفعوا الضر عن الناس) [3] .(1/104)
الأمر الثاني : ملء الفراغ التوحيدي الذي شغلته الخرافة عندما تألهت القلوب للأضرحة والقبور وساكنيها ، كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله : (من غَمَرَ قلبه بمحبة الله تعالى وذكره ، وخشيته ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه) [4] ، لذا : رأينا أن انتشار هذا الداء تناقص نسبياً في الأماكن والأوقات التي نمت فيها الصحوة الإسلامية المباركة ، التي أخذت على عاتقها الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك كبيره وصغيره ، والرد على شبهات أهل الزيغ ، وهنا يبرز الدور الخطير سلباً وإيجاباً الذي يمكن أن يقوم به العلماء والدعاة ، فعلى الرغم من جهود مشكورة لكثير من العلماء والدعاة الذين بينوا للناس حقيقة التوحيد وحذروهم من الوقوع في الشرك إلا أن القبوريين خادعوا أنفسهم ووجدوا ملاذاً لهم في بعض من ينسب إلى العلم والدين فأبوا إلا أن يُصغوا آذانهم ويفتحوا مغاليق قلوبهم لكل من ساهم بقول أو فعل في التلبيس على الناس وفتنتهم عن دينهم الحق .
وإليك إيضاحاً لبعض مواقف هؤلاء الداعين بأقوالهم أو أفعالهم إلى القبورية :
فحضور هؤلاء المشائخ لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها ، بل مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة .. فتنَ كثيراً من الدهماء . فمما يذكره الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي) :
( .. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء ... ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار ، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ... فضلاً عن كونهم يفعلونه .. ) [5] .
ويقول محمد أحمد درنيقة : (وهذه الأمور كانت تجري في بيت الله ويراها ويسمعها العلماء الذين لا يفعلون شيئاً للتخلص من هذه الانحرافات ، لا ، بل ...(1/105)
ذهب بعض العلماء إلى تهنئة هذه الفئة بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بأن يطول بهم العمر لإحياء مثله أعواماً عديدة . يرى رشيد رضا أن هذا السكوت من قِبَل العلماء قد أوقع في ذهن العامة أن هذه الأعمال وأضرابها من مهمات الدين) [6] .
ومن المواقف المعاصرة العديدة في ذلك : أنه (قد زعم الخليفة الحالي للسيد البدوي في مولد عام 1991م : (أن السيد البدوي موجود معك أينما كنت ، ولو استعنت به في شدتك وقلت : يا بدوي مدد ، لأعانك وأغاثك) ! قال ذلك أمام الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف في القاهرة أمام العلماء والوزراء ، وقد تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز) [7] .
ليس هذا فحسب ، بل تؤلف الكتب في الدعوة إلى ذلك ، ويتواطأ (العلماء) في إقرارها ، فقد ذكر رشيد رضا أن أحد (المنسوبين للعلم) ألّف كتاباً يدعو فيه إلى ذلك التوجه (المنافي للحنيفية) ، (وواطأه على ضلاله وإضلاله (63) عالماً أزهرياً كما ادعى ، وذكر أسماءهم وإمضاءات أكثرهم بخطوطهم ، وبنى على هذا أنه انعقد الإجماع ؛ لأن سائر علماء الأزهر يوافقونهم فيه ، وأنه يجب على جميع المسلمين اعتقاده والعمل به .. ) [8] ..
والأمر تجاوز التنظير والتسويغ ليصل إلى الممارسة الفعلية كما يقوم بها أي خرافي ، فهذا (أحد المشايخ الكبار في عهد إسماعيل باشا كتب شكوى ضده وأرسلها بالبريد إلى طنطا ، ومنها إلى قبر السيد البدوي ، حيث تقوم محكمته داخل قبره ! ) [9] ، (ولما وقع صراع بين الأحناف والشوافع حول مشيخة الأزهر بسبب تعيين أحد مشايخ الأحناف شيخاً للأزهر ، هرع الشوافع بقيادة الشيخ محمد بن الجوهري الشافعي إلى ضريح الإمام الشافعي ، ولم يزالوا فيه حتى نقضوا ما أبرمه العلماء والأمراء وردوا المشيخة إلى الشافعية ! ) [10] .(1/106)
وانظر إلى إنكارهم .. لأي شيء وقع ؟ ! : (فعندما صودر أولاد سعد الخادم وهم سدنة ضريح السيد البدوي هاج العلماء في الأزهر وامتنعوا عن التدريس إنكاراً لمن قام بمصادرته ، ولم يعودوا إلا بعد أن طيبت خواطرهم ووعدوا بتلبية رغبتهم) [11] .
ثم انظر إلى إقرارهم .. على أي شيء وقع ؟ : (ذكر الشيخ رشيد رضا أنه كان مرة في قبة الإمام الشافعي ، وكان ثَمّ جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم ، فأذن المؤذن العصر مستدبراً القبلة ، فقال لهم : لِمَ لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هي السنة ؟ فقال أحدهم : إنه يستقبل ضريح الإمام ! .. وذكر أيضاً أنهم لا ينكرون على من يستقبل قبر الإمام في صلاته)[12] .
ثم هم لا يسكتون على من يقوم بواجب إنكار المنكر حقيقة ، بل ينكرون على من ينكر المنكر الشركي ، (كما حدث حين اعترض الواعظ الرومي (التركي) في سنة 1711م ... وأبدى رأيه في اعتباره زيارة الأضرحة وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم من قبيل الكفر ، بل وطالب بهدم الأضرحة والتكايا ، فثار عليه مشايخ الأزهر الصوفية وأصدروا فتوى بكرامات الأولياء وتوسطوا لدى الحاكم السياسي حتى نفاه) [13] .
فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات ؟
يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين :
فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين ، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر المنسوب إليه : (إنك (جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية ، فإنك تريد أن تطيّر البقية من دينهم ( [14] .(1/107)
وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع ، تماماً مثلما يعتقد الدهماء والعامة من القبوريين ، (ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر) [15] ، وليس أدل على ذلك من أنه (في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات ، وما يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده ، فأبى هذا العالم أن يفتي ، قائلاً ما معناه : إن البدوي ذو بطش شديد) [16] ..
فإذا كان هذا هو حال شريحة من العلماء المقتدى بهم ، فماذا يُنتظر من العامة والدهماء ؟ .. إن الذي يعرض منهم عن السماع للعلماء الربانيين ويتخذ مثل هؤلاء قدوة وأسوة فلا بد أن يتخبط من مس الخرافة والأوهام .
العوامل النفسية :
يرتبط بما سبق بعض الأسباب النفسية التي تعمل على انتشار تقديس القبور والأضرحة واستمراره ، حيث يمثل (الخوف) منها الذي نتج عن الاعتقاد فيها حاجزاً لمنع هدم الأسطورة التي قامت عليها ، وكذلك تمثل (المسرة والحبور) الناتجين عن الاعتقاد فيها أيضاً أحد المرغبات في استمرار هذا الكيان .
وهذا ما يذكره الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربته القبورية .. (شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء .. أن الدكتور [الذي يدعوه إلى الكفر بهذه الطقوس الوثنية] يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء ، والخطباء على المنابر صباح مساء يعلنونها صريحة : إن الذي يؤذي ولياً فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى .. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة ؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله ) [17] .(1/108)
وعن أحد أسباب عشقهم يقول : ( ... لأني أحب أشعارهم ، وأحب موسيقاهم وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي ، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه ... وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (الدكتور) أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى (التوحيد) لا يريدون للدين روحاً ، وإنما يجردونه من الخيال ! ) [18] .. ولعل ذلك الخيال الذي كان يريد للدين أن يسبح فيه هو ما عبّر عنه بقوله :
(أحياناً أخترع لهم كرامات ، أو أتصورها ، أو أتخيلها .. ) [19] .
وهنا تلعب الإشاعات ونسج الأكاذيب دوراً مهماً في بناء العامل النفسي ؛ فالصوفية دأبوا على تحذير الناس من غضب (الأولياء) ، (وقد صاغوا هذه الأفكار المخيفة في صورة حكايات مرعبة حول رجال لهم سمعتهم العلمية ومكانتهم الفقهية اعترضوا على الصوفية فأذاقهم طواغيتهم من العذاب الأليم ألواناً) [20] .. وليس هذا الإرهاب النفسي مع العلماء والفقهاء فقط ، (فمع أن الحكام من المماليك كانوا يسيرون في ترهات أباطيل الصوفية ويقيمون لهم الخوانق والرباطات والزوايا ، فلم تخل قصص التخويف من تخويفهم ، وأطلقوا على البدوي لقب : العطاب) [21] ..
فإذا كان هذا الحال هو ما يشاع بين العلماء والحكام فما بالنا بما يروج بين دهماء الناس ويؤثر على نفسيتهم المستسلمة لهذا الداء ؟ .. لننظر إلى بعض الصور :
فأهالي الإسكندرية بمصر يتحدثون بكثرة عن الكرامات التي تحدث لضريح أبي الدرداء ، (ويذكرون على سبيل المثال ما حدث عندما أرادت بلدية الإسكندرية سنة 1947م نقل الضريح إلى مكان آخر ... وبدأت فعلاً في تنفيذ المشروع ، ولكن واحداً من العمال الذين يعملون في نقل الضريح توقفت يداه وأصيب بالشلل ! ، فامتنع باقي العمال عن العمل ... واضطرت البلدية أن ترضخ لاعتقاد العامة وأبقت الضريح كما هو[22]) .(1/109)
ومما رصده الشيخ رشيد رضا بخصوص هذه الظاهرة أنه (شاع لدى العامة أن من تعوّد على حضور هذه الموالد أو على إنفاق شيء فيها ، ثم امتنع عن قيامه بعادته تلك : لا بد أن يصاب بنكبة أو مصيبة .. ) [23] .
فماذا لو تم بالفعل إبطال أحد الموالد ؟ ! .. (حدث أن السلطان جقمق أبطل مولد البدوي لما فيه من الوثنيات الموبقات والفواحش بين الرجال والنساء ، وحدث لبعض المقيمين بإبطال هذا المولد ابتلاء لهم ... فمنهم من عزل من منصبه ، ومنهم من أمر السلطان بنفيه ، ومنهم من وضع في السجن ، فأشاع الصوفية أن كل ذلك من عمل البدوي ؛ لأنه غضبان عليهم) [24] فآلة الحرب النفسية الصوفية تعمل على كل حال .
وهناك بعد آخر في العامل النفسي ، وهو أن أضرحة الأولياء تمثل للعامة تعويضاً وهميّاً لانتصارها أوقات الاستبداد والتسلط السياسي ؛ (فالإنسان المقهور يكون بحاجة إلى قوة تحميه تجسدت في الأولياء ، فهم المحامون والملاذ ؛ ويتضح هذا جليّاً في كرامات الأولياء ؛ فهي تشكل النقيض تماماً لوضعية الإنسان المقهور ، وحيث ترسم صورة الإنسان المتفوق ضد الإنسان المهان واقعيّاً ، وتجسد أماني المغلوبين في الخلاص من خلال وجود نموذج الولي صاحب الخوارق الذي يفلت من قيود الزمان والمكان ، ولذا : نرى أن الجماهير المقهورة تتجمع حول أضرحة الأولياء كما يتجمع أعضاء حزب معين حول شخص زعيمهم) [25] .
النساء والعامل النفسي في استفحال داء القبور والأضرحة :
لوحظ من خلال متابعة الواقع وتتبع الوقائع أن للنساء دوراً ملحوظاً في ترويج تقديس القبور والأضرحة والمزارات ، نشأةً وارتياداً :(1/110)
فأم الخليفة العباسي المنتصر هي أول من أنشأ قبة في الإسلام كما مر ذكره في حلقة سابقة ، ويذكر أن الخيزرانة أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة النبوية الشريفة ، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين [26] ، ويذكر أيضاً أنها أول من حوّل البيت الذي ولد فيه الرسول إلى مسجد [27] ، كما قامت والدة السلطان العثماني عبد العزيز بترميم قبب مسجد الزبير بن العوام بالبصرة وتكبيره [28] .
ويسجل الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني ظاهرة كثرة ارتياد النساء للقبور والأضرحة في الهند فيقول : (وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل فيهن ، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات ، ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك ، خصوصاً وقت عروض مرض الجدري ... بحيث لا تكاد توجد امرأة خالية من دقائق هذا الشرك .. إلا من عصمها الله تعالى .. ) [29] .
كما لوحظ أيضاً تخصيص بعض الأضرحة والمزارات بالنساء ، كمزار (بنات العين) بالأردن الذي يعرف بـ (المستشفى النسائي) ، وضريح الشيخة مريم التي (اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم) ، وضريح الشيخة صباح بطنطا التي اشتهرت بالبركة ذاتها ! [30] ... إلى غير ذلك من الأضرحة والمزارات الخاصة بالنساء ، بينما لم يبلغ علمنا اهتمام الرجال بتخصيص أضرحة تقتصر عليهم وحدهم أو يزعمون أن لها ميزات تخصهم دون غيرهم .(1/111)
ولعل ذلك راجع إلى طبيعة نفسية النساء التي تغلب عليها العاطفة والانبهار بالمظاهر ، كما يتعاظم فيهن الإحساس الفطري بالضعف البشري وحاجتهن إلى قوة خفية تجبر هذا الضعف ، ولعل لهذا السبب أيضاً جاء في السنة النبوية تخصيص النساء بالزجر الشديد عن أن يكن زوارات للقبور ، فعن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (لعن زوارات القبور) [31] ، وورد فيهن كذلك أنهن أكثر أتباع الدجال ( ... فيكون أكثر من يخرج إليه النساء ، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) [32] .
العوامل الاجتماعية :
حيث تمثل المسايرة الاجتماعية والمجاملات دوراً مهماً في انتشار هذا الداء وعدم الانخلاع عنه ، وهذا ما يسجله الأستاذ عبد المنعم الجداوي في تجربته أثناء خروجه من الاعتقادات القبورية ، وذلك عندما وجد نفسه في صراع بين ما اعتقده من خطأ هذه الاعتقادات الباطلة وما يمليه عليه الواجب الاجتماعي من ضرورة مجاملة ابنة خالته وأسرتها ، بمشاركته لهم في الوفاء بنذر تقديم (القربان) إلى السيد البدوي ؛ حتى يعيش ابنهم الوحيد كما يعتقدون [33] .
ويدخل في هذه العوامل أيضاً : صفة الهيبة والوجاهة الاجتماعية التي يخلعها تقديس القبور والأضرحة على سدنتها وخدمها والقائمين عليها ، مما يصعب معه إلا على من رحم الله الاعتراف بخطأ الاعتقادات والممارسات التي تقام وتنسج حول هذه الأضرحة ؛ الأمر الذي يعني تخليهم عن هذه المكانة التي أكسبتها لهم الأضرحة والقبور ، فلقد (كان سادن الضريح سيداً مطاعاً وشخصاً مهاباً ، يستمد طاعته وهيبته من الضريح الذي يقوم على سدانته ... وكانت سدانة الأضرحة وظيفة متوارثة يرثها الأبناء عن الآباء ، وتنتقل في عقبهم وذراريهم ، ولا ينزعها منهم إلا ظالم كما يزعمون ، ولم تكن لتنزع من أسرة إلا ليعهد بها إلى أسرة أخرى) [34] .(1/112)
ويدخل في هذه العوامل كذلك : التفاخر بين أهل القرى والمدن والمحلات بهذه القبور والأضرحة ؛ حيث يعتبر المعتقدون فيها أن وجود ضريح وخاصة إذا كان من ذوي الشهرة والمكانة من دواعي فخرهم بين أهل البلاد الأخرى ، يقول الغزي بعد أن ذكر الخلاف في دفين الجامع الأموي بحلب : (وعلى كل حال فليس يخلو الجامع من أثر شريف نبوي جدير أن تفتخر حلب بوجوده) [35] .. ومن هذا الوجه أيضاً : الاهتمام بالأضرحة باعتبارها آثاراً وتراثاً تاريخياً ينبغي عدم تضييعه ، فالدكتورة سعاد ماهر ترثي وتأسف لحال ضريح (ذي النون المصري) ، حيث تقول : (والضريح في مكان مهجور خرب وبحالة سيئة للغاية ، ومكانه بجوار مسجد سيدي عقبة بن عامر بجبانة الإمام الليث ، وإني أناشد وزارة الأوقاف أن تعيد بناء ضريح أول صوفي في مصر الإسلامية ، بل ومن أبرز متصوفي الرعيل الأول في العالم الإسلامي كله) [36] .
فكيف بعد هذا كله يستمعون لمن يقول لهم : إن بقاء هذا الكيان عار على عقيدتهم ودينهم وعقولهم ؟
العوامل الاقتصادية :(1/113)
ونستطيع أن نطلق عليها : المنافع المادية ، وهذه المنافع ظهرت مصاحبة لهذا الداء ، فمنذ القدم استعمل الشيعة القبور والأضرحة والعتبات المقدسة وسيلة للتكسب والعيش ، مثل الفاتحة والقصاص ، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد والقبور [37] ، وعندما راجت هذه التجارة وازدهرت ظهر من يبتكر للناس أصنافاً من هذه الأضرحة لزيادة دخله ، وهذا ما يذكره ابن تيمية رحمه الله ، حيث يقول : ( .. حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان ، وكان أحدهما قد اتخذ قبراً تجبى إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال ، فعمد الآخر إلى قبر ، وزعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف ، وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة) [38] ، واستمرت هذه البضاعة رائجة عند أهل الوهم والدجل حتى أضحى استمرار تقديس القبور والأضرحة ضماناً لاستمرار تدفق مورد رزق مهم لكثير من فئات المنتفعين بترويج هذا الداء .
ويقف على رأس هؤلاء المنتفعين : سدنة الأضرحة وخدمها والقائمون عليها ، فقد مثّلت هذه الأضرحة مراكز حضرية جذابة ، مما دعا الأهالي إلى (بناء مساكن حول الأضرحة ، وأصبحت الأضرحة بذلك وسط المدن والقرى توحي للسكان باستمرار هذه العادات .
ومن أهم العادات التي تبعت هذه العادة : تقديم النذور والصدقات ، وهو أمر أثّر في مزيد من الإقبال على العمل في هذه الأضرحة .. [39] ، فصناديق النذور شكّلت وعاءً استثمارياً مهماً لمروجي الخرافة ، و (مما يوضح أهمية هذا المورد بالنسبة للمجلس الصوفي وكافة الطرق التابعة له أيضا : الموقف الشديد الذي وقفوه ضد المفتي حين أصدر فتوى شرعية ببطلان النذور شرعاً ، واعتبار الباب الثالث من لائحة الطرق الصوفية الذي يقر ويبيح هذه النذور مخالفاً للشرع والدين ...(1/114)
وهذا الأمر يدعو البعض لتفسيره بأنه دفاع عن مصالح طبقية أكثر من كونه دفاعاً عن مبادئ شرعية . ومن الموارد المهمة أيضاً : الصدقات التي كان يمنحها أصحاب الجاه والقادرون سواء أكان عطاؤها سراً أم جهراً ، وسواء أكانت عينية أم نقدية .. ) [40] .
ليس ذلك فحسب ، بل يضاف إلى ذلك : الموارد الرسمية كالأوقاف التي كانت توقف على هذه الأضرحة وخدامها وسدنتها ، والإعانات المالية والعينية التي تصرف لهم من وزارتي الأوقاف والشؤون الاجتماعية [41] ، وهكذا صار لهذه الأضرحة (ألوف من السدنة يعيشون في رغد وثراء من ورائها ، وكانوا يتوارثون هذه الوظائف ... ويكفي أن تعلم أن ما كان يصل إلى ضريح الجيلاني في السنة من أموال الزائرين ، يفوق ما كانت تنفقه الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين في السنة الواحدة أضعافاً مضاعفة) [42] .
والأمر لا يقتصر فقط على الأوقاف والصدقات والنذور التي يدفعها المعتقدون في الأضرحة لدفع الضرر عن أنفسهم أو لشكر نعمة ، والتي تمثل المصدر الرئيس لهذا الدخل ، بل يتعداه إلى كل الطرق الموصلة إلى المال بما فيها الاحتيال على السذج المعتقدين في هذه الأضرحة ، فعند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي يمزقون الكسوة والعمامة القديمتين إلى قصاصات صغيرة ، وهنا (تظهر العملية التجارية غير الرسمية التي يقوم بها خدم المسجد ، فيبيعون هذه القصاصات نظير
مبالغ كبيرة) [43] ، وبالطبع يتم ذلك وسط تهافت هؤلاء المعتقدين في الأضرحة للحصول على أي بركة من (ريحة) الولي .. وربما لأجل مثل هذه النشاطات وغيرها ذكر الجبرتي عن سدنة الأضرحة أنهم أغنى الناس ! [44] .(1/115)
ويتحدث الدكتور زكريا سليمان بيومي عن أهمية فئة خدام الأضرحة باعتبارها مركز ثقل دعائي واقتصادي للطرق الصوفية فيقول : ( ... فئة خدام الأضرحة ، التي تشكل أكبر فئة من حيث العدد والأهمية الاجتماعية والاقتصادية بالنسبة للطرق الصوفية ، فهم بمثابة مراكز متناثرة في كل مصر لنثر أساليب هذه الطرق والدعوة لها ، ويروجون للاعتقاد في الأولياء بكل مراتبهم ، ويكثرون من ذكر كراماتهم وخوارقهم ، مدفوعين إلى ذلك بدافع الانتماء للطرق من خلال عملهم ، وبدافع أساسي وهو أن هذه الأضرحة تمثل مصدر معيشتهم... وكانت هذه
الأضرحة تستوعب عدداً كبيراً من الخدم ، فمن الممكن أن نجد أسرة كاملة تخدم في ضريح واحد ، ولم تكن هذه الوظيفة مقصورة على الفقراء والمحتاجين ، بل كانت لما تدره من دخل كبير مغرية لفئات متعددة ؛ فنجد مشايخ طرق كبيرة يسعون لهذه الوظيفة ، بل ويفضلونها أحياناً على مشيخة الطرق .. ) [45] .
فكيف يهدمون بأيديهم الكيان الذي يغلون من وراء إقامته مصدر دخلهم ورغد عيشهم ؟ لا بد أنهم سينافحون بكل ما يملكون لاستمرار هذا الكيان ، إلا من رحمه الله ولفظ من قلبه حب الدنيا وشهواتها .
ومن المنتفعين باستمرار وجود كيان الأضرحة والقبور : (آلاف من الفقراء الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد ، وهذا أمر واضح عياناً بياناً ، لاحظه الباحث في كل الأضرحة التي زارها ، وخاصة الحسين والسيدة زينب .. ) [46] ، ولقد كان الفلاحون يحرصون على المشاركة في الولائم التي تقام حول الضريح ، حيث (يقصدون بها استجلاب البركة) [47] .. كما أن هناك مئات الأسر التي تتعيش على استمرار الأضرحة من خلال المقاهي والمطاعم
والفنادق وغيرها من الخدمات المنتشرة حول كل ضريح ، إضافة إلى السيارات ووسائل المواصلات التي تغدو وتروح على حساب الزوار [48] .(1/116)
ومن الموارد المهمة التي ارتبطت بتقديس القبور والأضرحة : ما يجري في الاحتفالات والموالد التي تقام لهذه الأضرحة التي (اعتبرها رجال الصوفية مواسم للإرشاد وتعليم الآداب الاجتماعية والدينية ، وكمدارس شعبية للوعظ والإرشاد الديني .. ) [49] ، ولكنها تحولت إلى بؤر متحركة لنشر المفاسد والانحرافات ، وقد تعددت هذه الموالد وكثرت حتى إنها لم تكن تقام أحياناً (بمناسبة تاريخ وفاة صاحب الضريح أو مولده ، وكان يصادف أحياناً أن تقام في مواسم الحصاد ...
ونادراً ما كان يحدث مولد لشيخين في ليلة واحدة إلا إذا كانت المسافة بينهما بعيدة حيث كان مشايخ الطرق يحرصون على ترتيب هذه الموالد بحيث يتمكنون من الانتقال بينها .. ) [50] ، وقد كانت ليالي الموالد تصل في بعض الأحيان إلى شهرين ونصف [51] ، يصاحبها نشاط وافر لفئام من المنشدين والمداحين والمشببين الذين يحيون هذه الموالد بشتى أنواع الاحتفالات ، ومنها ما يطلقون عليه : (الذكر) ، (وقد اعتاد من يحضر (الذكر) أو يمارسه أو يشاهده خصوصاً في
السرادقات المقامة أمام المسجد من أن يقوم بدفع (النقوط) ، وهي المبالغ التي تدفع للمنشد لتشجيعه على حسن الأداء ، وهي في هذه المناسبة تعتبر تحية لولي الله نفسه ، حيث يعتقد بأن هذه النقوط هدية ترد إلى مقدمها من جانب الولي صاحب المولد ، سوف يردها في شكل آخر ، فينعم عليه بكثير من الهبات التي تتمثل في زيادة الدخل ووفرة المحصول وسداد الديون ... ) [52] ، أما النشاطات الأخرى : فـ (يبدو الجامع كتلة من الأنوار المبهرة ، وتنتشر السرادقات حوله في ساحته وفي المنطقة المحيطة به ، وتظل المطاعم والمقاهي تستقبل روادها طوال (24) ساعة ،(1/117)
ومع غروب الشمس ليس هناك موطئ لقدم ، ضجيج الميكروفونات يتصاعد من جميع السرادقات ... روائح البخور والعطارة والشواء تتضوع في الأجواء ، شوادر الحمص والحلوى بأنواعهتا تشارك بالإعلان عن بضاعتها في الضجيج العام ، باعة الشاي على الأرصفة ، وباعة المسابح والطراطير الملونة ولعب الأطفال..) [53] .. فهي أنشطة حياتية متكاملة ، وهذا ما أكده علي مبارك باشا ، فيقول :
(وفي هذه الموالد ما لا يخفى على أحد من المزايا والمنافع ، كمنفعة من يكترى منهم الدواب أو المراكب أو سكة الحديد للمضي إليه والانصراف عنه ، ومنفعة من يكون فيه من الفراشين والطباخين وغيرهم من أرباب الحرف والصناع وأصحاب الدور التي تكترى والأشياء التي تشترى ، ثم ما يكون فيه من سعة التجارة ، فإنا نرى كثيراً من التجار في طنطا وغيرها من سائر مدن مصر يعلقون أداء ديونهم وقضاء بعض شؤونهم على هذا المولد .. ) [54] .
وبالطبع : فخلف كل نشاط جمهور من المنتفعين الذين يحرصون على استمرار هذه الموالد التي تقام حول الأضرحة ضماناً لتدفق مورد رزقهم .
وأخيراً : فإن من العوامل الاقتصادية لاستمرار تقديس القبور والأضرحة :
اهتمام بعض الدول بهذه الأضرحة باعتبار ما تدره الأنشطة المرتبطة بها وحصيلة صناديق نذورها والأوقاف التي توقف عليها ... أحد الموارد الاقتصادية للدولة التي بها مثل هذه الأضرحة .
________________________
الهوامش :
(1) انظر : موالد مصر المحروسة ، ص40 ، والأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص64 ، وعقيدة المسلم ، لمحمد الغزالي ، ص76 .
(2) إغاثة اللهفان ، ج 1 ، ص195 .
(3) عن : السيد محمد رشيد رضا ، إصلاحاته الاجتماعية والدينية ، لمحمد أحمد درنيقة ،
ص223- 224 .
(4) إغاثة اللهفان ، ج 1 ، ص214 .
(5) عن : هذه هي الصوفية ، لعبد الرحمن الوكيل ، ص161 ، وجهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية ، د شمس الدين السلفي ، ص1004 .(1/118)
(6) السيد محمد رشيد رضا ، إصلاحاته الاجتماعية والدينية ، ص208 .
(7) محمد حامد الناصر ، بدع الاعتقاد ، ص256 ، عن : السيد البدوي ، دراسة نقدية ، وانظر : الأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص121 .
(8) مجلة المنار ، ج3 ، م33 ، ص216 .
(9) الأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص116 .
(10) الانحرافات العقدية ، ص352 .
(11) السابق ، ص306 .
(12) السابق ، ص350 .
(13) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة ، ص83 84 .
(14) مجلة المنار ، ج3 ، م33 ، ص 222 .
(15) محمد أحمد درنيقة ، مرجع سابق ، ص 207 .
(16) د عبد الكريم دهينة ، الأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص 120 .
(17) اعترافات كنت قبورياً ، ص 9 10 .
(18) السابق ، ص12 .
(19) السابق ، ص 8 .
(20) د عبد الكريم دهينة ، الأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص125 .
(21) السابق ، 127 .
(22) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ، د سعاد ماهر فهمي ، ج2 ، ص 33 .
(23) محمد أحمد درنيقة ، مصدر سابق ، ص211 .
(24) الأضرحة وشرك الاعتقاد ، ص127 .
(25) د مصطفى حجازي ، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكيولوجية الإنسان المقهور ،
ص149- 150 ، انظر : الصوفية والسياسة ، ص180 .
(26) انظر : الانحرافات العقدية ، ص275 .
(27) انظر : مقال (تأملات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين) ، ص134 135 .
(28) انظر : الانحرافات العقدية ، 292 .
(29) عن : جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية ، د شمس الدين السلفي الأفغاني ،
ص452 ، ولزيادة توضيح مثل هذه الأحوال ، انظر : الانحرافات العقدية ، ص311 ، ومقال (مسلمو أوزبكستان) ، مجلة (دراسات إسلامية) ، ع/1 ، ص 218 ، ومقال (تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين) ، مجلة العربي ، ع/226 ، ص135 .
(30) انظر : المزارات في شرقي الأردن ، ص907 ، وموالد مصر المحروسة ، ص53 ، والانحرافات العقدية ، ص336 .(1/119)
(31) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وهكذا حكم الألباني على الحديث ، انظر : مشكاة المصابيح ، ح/ 1770 ، وصحيح سنن ابن ماجه ، ح/1281 .
(32) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل ، 2/67 ، وابن ماجه ، وهو صحيح لغيره ، انظر : الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة ، لمصطفى العدوي ، ص497 .
(33) انظر : اعترافات كنت قبورياً ، ص 20 .
(34) الانحرافات العقدية ، ص 306 .
(35) السابق ، ص 280 .
(36) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ، ج 1 ، ص 134 .
(37) انظر : الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ، لعبد الرحمن عبد الخالق ، ص 427 .
(38) مجموع الفتاوى ، ج 27 ، ص 459 .
(39) د زكريا سليمان بيومي ، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة ، ص 129 .
(40) السابق ، ص 104 105 .
(41) انظر : السابق ، ص 99 102 .
(42) محمد حامد الناصر ، بدع الاعتقاد ، ص 267 .
(43) هيام فتحي دربك ، مقال (موالد الأولياء في مصر) ، المجلة العربية ، ع/131 ، ص 43 ، 44.
(44) انظر : الانحرافات العقدية ، ص 309 .
(45) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة ، ص 126 ، 127 .
(46) عمار علي حسن ، الصوفية والسياسة في مصر ، ص 110 .
(47) السابق ، ص 129 .
(48) انظر : شهر في دمشق ، لعبد الله بن محمد الخميس ، ص 67 .
(49) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة ، ص 130 .
(50) السابق ، ص 106 .
(51) انظر : السابق .
(52) هيام فتحي دربك ، مصدر سابق ، ص 44 .
(53) موالد مصر المحروسة ، ص50 ، وانظر : ص 51 55 .
(54) عن : (السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر) ، لمحمد فهمي عبد اللطيف ، ص 127 .(1/120)