الموقظة من الموعظة (1)
الوصية
تأليف
الإمام أبي محمد الموفق عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة
رحمه الله تعالى
(541 - 620 هـ)
تحقيق
أم عبد الله بنت محروس العسيلي
إشراف
أبي عبد الله محمود بن محمد الحداد
دار تيسير السنة
الطبعة الأولى
1411 هـ - 1990 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبنا الله، ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام المحقق العالم العلامة شيخ الإسلام والمسلمين. قدوة الأنام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركته.(1/21)
الحمد لله ذي الوجه الكريم، والفضل العظيم، والمن القديم.
وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد
فقد سألني بعض إخواني الصالحين أن أكتب له وصية، فامتنعت من ذلك لعلمي: أني غير مستوصٍ في نفسي، ولا عاملٌ بما ينبغي.(1/22)
ثم بدا لي أن أجيبه إلى مسألته رجاء:
1- ثواب قضاء حاجة الأخ المسلم.
2- ودعائه لي.
3- وأن يجرى لي أجرٌ إذا عمل بوصيتي.
4- وأن أكون من الدالين إلى الخير حين عجزت عن عمله لأكون بدلالتي عليه كفاعله.(1/25)
والأعمال بالنيات.(1/26)
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فأقول، وحسبنا الله ونعم الوكيل:
اعلم - رحمك الله:
أن هذه الحياة الدنيا مزرعة الآخرة.(1/27)
ومتجر أرباحها، وموضع تحصيل الزاد منها والبضائع الرابحة بها بذر السابقون، وفاز المتقون، وأفلح الصادقون، وربح العاملون، وخسر المبطلون.
وإن هذه الدار هي أمنية أهل الجنة وأهل النار!:
1- قال الله تعالى في أهل النار:
{وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل}.
وقال سبحانه وتعالى:
{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}.(1/28)
2- وقال تعالى في حق أهل الجنة: {ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين}.
قال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة.
ذكر ذلك البغوي رحمه الله تعالى.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما يرويه:
إن أرواح الشهداء كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربك اطلاعة.
فقال: يا عبادي سلوني ما شئتم.
قالوا: يا ربنا نسألك أن ترد أرواحنا في أجسادنا، ثم تردنا إلى الدنيا فنقتل فيك مرة أخرى.
فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك تركوا.(1/29)
واعلم يا أخي رحمك الله تعالى أن الله تعالى قد علم أنهم يسألون ذلك وأنهم لا يردون إلى الدنيا، وإنما أراد إعلام المؤمنين الذين في الدنيا أمنيتهم في الجنة القتل في سبيله ليرغبهم في ذلك.
3- وقال إبراهيم التيمي -رحمه الله تعالى-:
مثلت نفسي في الجنة (مع حورها، وألبس من سندسها وإستبرقها) آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، وأتمتع بنعيمها، فقلت لنفسي:
يا نفس أي شيء تتمنين؟
فقالت: أرد إلى الدنيا، فأزداد من العمل الذي نلت به هذا.
ثم مثلت نفسي في النار (أعالج أغلالها وسعيرها) أحرق بجحيمها، وأجرع من حميمها، وأطعم من زقومها، فقلت لنفسي:
أي شيء تتمنين؟
فقلت لنفسي: أرد إلى الدنيا فأعمل عملاً أتخلص به من هذا (العذاب).
يا نفس فأنت في الأمنية فاعملي.
4- وكان بعض السلف قد حفر لنفسه قبراً، فإذا فتر من العمل نزل في قبره، فتمدد في لحده، ثم قال:
يا نفس قدري أني قد مت وصرت في لحدي: أي شيءٍ كنت تتمنين؟!(1/30)
قالت: أرد إلى الدنيا، فأعمل فيها صالحاً.
فيقول لها: قد بلغت أمنيتك، فقومي فاعملي صالحاً.(1/31)
5- واعلم رحمك الله أن أهل القبور أمنية أحدهم:
- أن يسبح.
- أن يسبح تسبيحة تزيد في حسناته.
- أو يقدر على توبة من بعض سيئاته.
- أو ركعة ترفع في درجاته.
وقد روينا أن رجلاً ركع ركعتين إلى جانب قبر ثم اتكأ عليه، فأغفى، فرأى صاحب القبر في المنام يقول:
تنح عني، فقد آذيتني، والله إن هاتين الركعتين اللتين ركعتهما لو كانا لي كانتا أحب إلي من الدنيا وما فيها، إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نعمل.(1/35)
فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة واحتفظ بأوقاتك العزيزة واعلم أن مدة حياتك محدودة وأنفاسك معدودة، فكل نفسٍ ينقص به جزءٌ منك، والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها، ولا خلف منها، فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد في النعيم أو العذاب الأليم:
وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفسٍ يعدل أكثر من ألف عام(1/40)
في النعيم المقيم الذي لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوضٍ، واجتهد أن لا يخلو نفسٌ من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا، فضاعت منك، لحزنت عليها حزناً شديداً.
بل لو ضاع منك دينار لساءك.
فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك؟!
وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوضٍ؟!
وإنني قد خطر لي أن أمثل هذه الدنيا وأهلها كمثل أهل سفينة ألقتهم الريح إلى جزيرة في البحر: فيها معادن الجواهر كلها من الياقوت والزمرد والزبرجد والبلور والمرجان والدر واللؤلؤ وما دون ذلك إلى العقيق والسيح!
ثم بعد ذلك زلف وحجارة لا قيمة لها، وفيها أنهار وبساتين وفي الجزيرة حمى للملك قد حد له حدوداً وأحاط عليه حائطاً: فيه خزائن للملك وإماء وولدان، فنزل أهل السفينة في الجزيرة، وقيل لهم: إن مقامكم بها يوم وليلة، فاغتنموا مدتكم القصيرة فيما أمكنكم من أخذ هذه الجواهر الكثيرة:
1- فأما الحازمون: فأسرعوا في تلك الجواهر: ينتقون منها، ويحملونه إلى مخازنهم في السفينة ويجدون ويجتهدون، فإذا تعبوا تذكروا قدر تلك الجواهر التي يحصلونها وكثرة قيمتها وقلة مقامهم في تلك الجزيرة، وأنهم عن قليل رائحون وراحلون منها لا يقدرون على الازدياد، فرفضوا الراحة، وتركوا الدعة، وأقبلوا على الجد والاجتهاد ليلاً ونهاراً.
وإن عرض لهم النوم تذكروا ذلك فذهب عنهم لذة النوم والكرى، وتمثلوا:
عند الصباح يحمد القوم السرى.(1/41)
2- وأما آخرون:
فأخذوا من الجواهر شيئاً، واستراحوا في أوقات الراحة، وناموا وقت النوم.
3- وأما فرقة أخرى:
- فلم يتعرضوا للجواهر أصلاً، وآثروا النوم والراحة والتفرج.
- ومنهم قوم أقبلوا على بناء المساكن والقصور والدور.
- وقوم أقبلوا على جمع الزلف والصدف والحجارة والثقف.
- وقوم أقبلوا على اللعب والنزهان، وتشاغلوا باللذات، وسماع الحكايات المطربات، وقالوا:
درة منقودة خير من درة موعودة!
4- والفرقة الثالثة:
عدلوا إلى حمى الملك، فطافوا به، فلم يجدوا له باباً، ففتحوا لهم فيه ثلماً واقتحموه، ففتحوا خزائن الملك، وكسروا أبوابها وانتهبوا منها، وعبثوا بجواري الملك والولدان، وقالوا: ليس لنا دار غير هذه الدار، وأقاموا على ذلك، حتى ذهبت مدة المقام، وضربت كؤوس الرحيل، ونودي بالتحويل بل بالحث والتعجيل.
1- فأما الدين حصلوا الجواهر فرحلوا مغتبطين ببضائعهم لا يأسون على المقام إلا للازدياد مما كانوا فيه.
2- وأما الفرقة الثانية:
فاشتد جزعهم: لعدم استبضاعهم، وكثرة تفريطهم، وقلة زادهم، وتركهم ما عمروه، وارتحالهم إلى ما أخربوه.
3- وأما الفرقة الثالثة:
فكانوا أشد جزعاً وأعظم مصيبة، وقيل لهم: لا ندعكم حتى نحملكم ما أخرجتم من خزائن الملك في أعناقكم وعلى ظهوركم!(1/42)
فارتحلوا على هذه الصفة، حتى وردوا مدينة الملك العظمى، فنودي في المدينة أنه قد قدم قوم كانوا في معادن الجواهر، فتلقاهم أهل المدينة، وتلقاهم الملك وجنوده، فاستنزلوهم، وقيل لهم: اعرضوا بضاعتكم على الملك!
1- فأما أهل الجواهر فعرضت بضائعهم، فحمدهم الملك، وقال:
أنتم خاصتي وأهل مجالستي ومحبتي، ولكم ما شئتم من كرامتي.
وجعلهم ملوكاً: لهم ما شاءوا، وإن سألوا أعطوا، وإن شفعوا شفعوا، وإن أرادوا شيئاً كان لهم.
وقيل لهم:
خذوا ما شئتم واحتكموا فيما أردتم.
فأخذوا القصور والجواري والدور والجوهر والبساتين والقرى والرساتيق، وركبوا المراكب، وسار بين أيديهم وحولهم الولدان والجنود، وصاروا ملوكاً ينزلون في جوار الملك، ويجالسونه، وينظرون إليه، ويزورونه، ويشفعون إليه فيمن شاءوا، وإن سألوه ما سألوه أعطاهم، وما لم يسألوه ابتدأهم.
2- وأما الفرقة الثانية:
فقيل لهم: أين بضائعكم؟
فقالوا: ما لنا بضاعة!
فقيل لهم: ويحكم! أما كنتم في معادن الجواهر؟!
أما كنتم وهؤلاء الذين صاروا ملوكاً في موضع واحد؟!
قالوا: بلى، ولكنا آثرنا الدعة والنوم!
وقال بعضهم: اشتغلنا ببناء الدور والمساكن!
وقال آخرون: اشتغلنا بجمع الزلف والشقف!
فقيل لهم: تباً لكم! أما علمتم قلة مقامكم، ونفاسة الجواهر التي عندكم؟!(1/43)
أما علمتم أن تلك ليست لكم بدار مقام، ولا محل منام؟!
أما أيقظكم الأيقاظ، أما وعظكم الوعاظ؟!
قالوا: بلى والله قد علمنا فتجاهلنا، وأوقظنا فتناومنا، وسمعنا فتصاممنا!
فقيل لهم: تباً لكم آخر الدهر.
فعضوا أيديهم ندماً، وبكوا على التفريط بعد الدموع دماً، وبقوا آسفين متحيرين، ووقفوا منتظرين أن يتصدق عليهم بعض الذين صاروا ملوكاً بشفاعة أو يتكلم لهم عند الملك بكلمة.
فهؤلاء إن خرجوا من الجزيرة على طاعة الملك لم يهتكوا حرمة ولم يتعدوا حدوده رجي لهم بعض الاتصال بالملك.
3- أما الفرقة الثالثة:
فجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم آيسين بائسين مبلسين حيارى سكارى، قد زلت بهم القدم، وحل بهم الندم، ونزل بهم الألم، وافتضحوا عند الأمم، فأبعدهم الملك عن داره وطردهم من جواره، وأمر بهم إلى السجن فجروا إليه: قد أيقنوا بالعذاب، وجل أمرهم عن العتاب، {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.
فانظر -رحمك الله- تفاوت ما بين المنزلتين وما حصل من الفرق بين الفريقين بالصبر في تلك المدة القصيرة اليسيرة التي أقاموها في الجزيرة.
فهذا تقريب مثال الدنيا: ومن عمل فيها بالطاعة، ومن استوعبها بالتفريط والإضاعة.
فاجتهد رحمك الله تعالى في الكون من الفرقة الأولى:
1- الذين استوعبوا الساعات بالطاعات. ولم يفرطوا في شيء من الأوقات.(1/44)
2- وألزم قلبك الفكر:
- في نعم الله لتشكرها.
- وفي ذنوبك لتستغفرها.
- وفي تفريطك لتندم.
- وفي مخلوقات الله وحكمه لتعرف عظمته وحكمته.
- وفيما بين يديك لتستعد له.
- أو في حكم شيءٍ تحتاج إليه لتعلمه.
3- وألزم لسانك ذكر الله تعالى، ودعاءه، واستغفاره، أو قراءة قرآن، أو علماً، أو تعليماً، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو إصلاحاً بين الناس.
4- وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق، وأفضل ذلك ما ينفعهم في دينهم لتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
واحترس من مفسدات الأعمال لئلا يفسد عملك ويخيب سعيك فلا تحصل على أجر العاملين ولا راحة الباطلين وتفوتك الدنيا والآخرة.
1- فمن ذلك الرياء والعمل لمحمدة الناس، فإن هذا شرك.
وقد روينا عن الله -عز وجل- أنه قال:
(من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء).
وقد لا يحصل للمرائي ما قصده فيخيب بالكلية.
فقد روينا أن رجلاً كان يرائي بعمله، فإذا مر بالناس قالوا:(1/45)
هذا مرائي!
فقال يوماً في نفسه:
والله ما حصلت على شيءٍ، فلو جعلت عملي لله.
فما زاد على أن قلب نيته فكان إذا مر بهم بعد قالوا:
هذا رجل صالح!
2- ومن ذلك العجب.(1/46)
فقد روي: إن المدل لا يجاوز عمله رأسه.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى، قل للعاملين المعجبين بعملهم: اخسروا!
وقل للمذنبين التائبين النادمين: أبشروا.
وقال بعضهم:(1/47)
لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً.
3- ولا تحقرن مسلماً، ولا تظنن أنك خير منه، فإن ذلك ربما أحبط عملك.
وقد روينا أن عيسى عليه السلام خرج في سياحته معه بعض حواريه فمر بقلعة فيها لصٌ، فلما رآهما قال لنفسه:
هذا عيسى نبي الله، وهذا حواريه من أنت، أنت يا شقي يا لص تقطع الطريق، وتخيف السبيل، وتقتل النفس التي حرم الله، فنزل إليهما تائباً نادماً، فلما أراد أن يمشي معهما قال لنفسه:
ما أنا بأهلٍ أن أمشي معهما ولكن أمشي خلفهما كما يمشي المذنب الذليل فمشى خلفهما.
فالتفت الحواري، فرآه يمشي خلفهما، فعرفه الحواري فقال في نفسه: من هذا الكلب حتى يمشي خلفنا؟!
فاطلع الله على ما في أنفسهما، فأوحى إلى عيسى عليه السلام:
أن قل للحواري واللص يستأنفان العمل:
- أما اللص: فقد غفرت له بتوبته وازدرائه على نفسه.
وأما الحواري فقد أحبطت عمله بازدرائه اللص التائب.(1/48)
وقال بعض أنبياء بني إسرائيل لقومه:
ائتوني بخيركم.
فأتوه برجل، فقال له النبي: ائتني بشرهم.
فرجع بنفسه فقال:
ما وجدت فيهم شراً مني.
فقال: صدقوا، أنت خيرهم.(1/49)
4- ومن ذلك مخالفة السنة قولاً وفعلاً أو عقداً، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الدليل الهادي إلى الصراط المستقيم.
قال الله تعالى:
{وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم} فمن خالف الدليل وأخذ غير طريقه ضل، بل اتبع السنة وسر حيث سارت، وقف حيث وقفت، ولا تتجاوزها فتغلو في دينك، مثل:
1- الوسوسة في الطهارة والصلاة، والزيادة على الغسلات المشروعة، والإسراف في الماء، وتنجيس ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمله ويطهره.
2- والصلاة في وقت نهي، والصوم فيما نهى عنه.(1/50)
وإذا رأيت من يطير في الهواء أو يمشي على الماء ونحوه فاعرض أفعاله وأقواله على الكتاب والسنة: فإن وافقهما، وإلا فارم به وانبذه فلا خير فيه، قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
قال سيد القوم أبو سليمان الداراني رحمه الله:
إذا أردت عملاً ترى أنه طاعة فانظر: فإن وردت به السنة، وإلا فدعه. أو كما قال.
1- وقال: وإن دعتك نفسك إلى معصية فذكرها سوء عاقبتها.
واعلم أن الله تعالى ناظرٌ إليك مطلعٌ عليك.
فقل لنفسك: لو كان رجل من صالحي قومي يراني لاستحييت منه، فكيف لا أستحي من ربي تبارك وتعالى.
ثم لا آمن تعجيل عقوبته وكشف ستره.(1/51)
2- واعلم أنك لا تقدر على معصيته إلا بنعمته التي تفضل بها عليك:
فكم له عليك من نعمة في يدك التي مددتها إلى معصيته!
وكم له من نعمة في عينك التي نظرت بها إلى ما حرم عليك!
وفي لسانك الذي نطقت به بما لا يحل لك!
وليس من شكر إنعامه أن تستعين بها على معاصيه.
كان بعضهم يقول:
اللهم إني أستغفرك من خطيئةٍ قوي عليها بدني بعافيتك، ونالتها يدي بفضل نعمتك، وانبسطت فيها بسعة رزقك، واحتجبت فيها عن الناس بسترك، وجرأني عليها حلمك وأناتك، واتكلت فيها على كريم عفوك، ولو لم يكن من نعمةٍ عليك في معصيتك إلا سترها عليك لكفى.
فلو اطلع الناس عليك لانهتكت.
وقد روينا أن رجلاً أتى إبراهيم بن أدهم -رحمه الله تعالى- فقال: يا أبا إسحاق إنني لا أصبر عن المعاصي فقل لي قولاً أنتفع به.
قال: نعم أقول لك خمس خصال إن قدرت عليها لم تضرك معصية!
قال: هات.
- قال: فإن أردت أن تعصي الله فلا تأكل رزقه!
قال: يا أبا إسحاق، فمن أين آكل، وكل ما في الأرض من رزقه؟!(1/52)
قال: أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟!
قال: لا، هات الثانية.
- قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن بلاده!
قال: هذه أشد من الأولى إذ كانت السموات والأرض وما بينهما وما فيهما له ، فأين أسكن؟!
قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه؟
قال: لا، هات الثالثة.
- قال: فإذا أردت أن تعصيه فانظر موضعاً لا يراك فيه، فاعصه فيه!
قال: يا أبا إسحاق، فكيف أصنع وما في السماء والأرض والجبال والبحار موضع إلا هو بارز له يرى ما في قعر البحار وتحت أطباق الجبال؟!
قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتجاهره بمعصيته؟!
قال: لا، هات الرابعة:
- قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك، فقل: أخرني حتى أتوب!!
قال: لا يقبل مني!
قال: يا هذا فإذا كنت تعصيه، ولا تأمن مفاجأة ملك الموت، ولا يقبل منك فيؤخرك لتتوب، فتموت على غير توبةٍ، فكيف يكون حالك؟!
قال: هات الخامسة.
- قال: إذا جاءتك الزبانية ليأخذوك إلى النار فلا تمض معهم!!
قال: لا يدعونني!
قال: فإذا كنت لا تقدر على الامتناع منهم، ولا تدع المعصية، فكيف ترجو الخلاص؟!
قال: حسبي. ولزم إبراهيم فعبد الله معه حتى مات.(1/53)
وإن ابتليت بمعصيةٍ: فبادر إلى التوبة، والاستغفار، والندم، وابك على خطيئتك، فإنك لا تدري على ما أنت منها.
كان بعضهم يقول:
لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت.(1/54)
وشكي بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه، فكتب إليه:
يا أخي، اذكر سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، واحذر أن يكون المنصرف بك من عند الله إلى النار فيكون آخر العهد ومنقطع الرجاء.(1/55)
فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه:
فقال: ما أقدمك؟!
فقال: خلعت قلبي بكتابك، لا عملت لك ولا لأحد بعدك.
واعلم يا أخي أن الخطر عظيم والخطب جليل، وأننا قد عرضنا لأمرٍ لا تقوم له الجبال الشوامخ، ولا الأرض العريضة، ولا السماء الرفيعة، ولا البحار الواسعة، وحملنا أمراً أشفقت من حمله السموات والأرض والجبال.
قال الله عز وجل:
{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.
وخلقت لنا النار التي لا مثل لعذابها، ووعدها الله تعالى أن يملأها منا ومن الجن.
فقال تبارك وتعالى:
{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وكيف حال من تشعل النار في جسده كله، وكلما نضج جلده بدل جلداً غيره، يسحب في حميمٍ -قد انتهى حره- على وجهه، ويصب من فوق رأسه، فيصهر به ما في بطنه، وينزع عنه جلده، ثم يسجر في نارٍ تشتعل في جسمه وجلده ووجهه، ثم لا غاية(1/56)
لعذابها، ولا يفتر عنهم، ولا يرجون منها فرجاً.
قال الله عز وجل:
{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}.
لا يرحمون إن بكوا، ولا يعذرون إن شكوا، ولا يجابون إن دعوا، ولا يستعتبون إن استعتبوا.
قال الله تعالى:
{فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.
ويروى أن عمر -رضي الله عنه- مر بكثيبٍ من الرمل، فقال:
مساكين أهل النار: لو علموا أنهم إذا لبثوا في جهنم عدد هذا الرمل ثم أخرجوا منها لكان لهم أمدٌ يمدون بأعناقهم إليه، ولكنهم لا غاية لهم.(1/57)
ومن كان حاله هكذا لا يأمن على نفسه أن يكون من أهلها.
فحقه أن لا يفتر من البكاء ولا يستقر به قرار، فكن يا أخي على حذرٍ، ولا تأمن وأنت معرضٌ لهذا الخطر.
كان بعضهم يبكي كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال:
والله لو توعدني ربي أن يسجنني في الحمام لكان حقي أن لا أفتر من البكاء، فكيف وقد توعدني أن يسجنني في النار إن أنا عصيته؟!(1/58)
وكان يزيد الرقاشي كثير البكاء: إذا دخل بيته بكى، وإن خرج بكى، وإن دخل المسجد بكى، وإن جلس إليه إخوانه بكى.
فقال له ابنه:
يا أبت كم تبكي، فوالله لو أن النار لم تخلق إلا لك ما زدت على هذا!
فبكى، وقال:
ثكلتك أمك يا بني، وهل خلقت النار إلا لي ولإخواني من الإنس والجن، أما تقرأ يا بني:
{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض .. .. } الآية.
أما تقرأ:
{يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٍ} الآية.
أما تقرأ:(1/59)
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} إلى أن انتهى إلى قوله: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن}
فقام يجول في الدار ويصرخ حتى غشي عليه.
فقالت أم الغلام له:
يا بني ما أردت إلى هذا من أبيك؟!
قال: والله ما أردت إلا أن أهون عليه، ما أردت أن أزيد عليه حتى يقتل نفسه.
واعلم يا أخي أن الذي خاف منه أولئك نحن مثلهم فيه، بل أحق به منهم، فما الذي يؤمنا دونهم؟!
1- واعلم يا أخي رحمك الله أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، فإنه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم.(1/60)
2- وأن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
3- وأن أفضل الأعمال الصلاة لمواقيتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله.(1/61)
4- وأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله عز وجل.
5- وأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.(1/62)
6- وملاك الأمر الدعاء، فإن الأمر كله بيد الله:
- يهدي من يشاء، ويستعمله.
- ويضل من يشاء، ويخذله.
فينبغي لك أن ترغب إلى من الأمر بيديه، وتفوض أمرك إليه، وليكن دعاؤك بخضوع وخشوع وبكاء وتضرع، فإن بعضهم قال:
إني لأعلم حين يستجيب لي ربي عز وجل.
إذا وجل قلبي، أو اقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفتح لي في الدعاء.
وقالت أم الدرداء لشهر بن حوشب:
أما تجد قشعريرة؟
قال: بلى.(1/63)
قالت: فادع عندها، فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.
وعن أبي الجلد قال:
أوحى الله -عز وجل- إلى موسى عليه السلام يا موسى.
- إذا ذكرتني فاذكرني وأعضاؤك تنتفض.
- وإذا دعوتني فاجعل لسانك من رواء قلبك.
- وإذا قمت بين يدي فقم مقام الذليل الحقير، وذم نفسك فهي أولى بالذم.
- وناجني حين تناجيني بقلبٍ وجل ولسان صادق.
7- وفوض أمرك إلى الله تعالى.
واستطرح بين يديه، وأشعر قلبك أنه لا ينالك من الرزق والخير إلا ما كتبه الله لك ولو اجتهدت فيه بحيلة أهل السموات والأرض.
ولا يجرى عليك مما تكرهه إلا ما كتبه الله -عز وجل- عليك ولو اجتمع عليك من في السموات والأرض.
فإن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.(1/64)
واعلم أن من هو في البحر على لوحٍ ليس هو بأحوج إلى الله تعالى وإلى لطفه ممن هو في بيته بين أهله وماله.
فإن الأسباب التي ظهرت له بيد الله تعالى، كما أن أسباب نجاة هذا الغريق بيده.
فإذا حققت هذا في قلبك فاعتمد على الله -عز وجل- اعتماد الغريق الذي لا يعلم له سبب نجاةٍ غير الله تعالى.
8- وعليك بالورع واجتناب الشبهات، فإن من واقع الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، وإن من وقع حول الحمى أوشك أن يجسر.(1/65)
9- وعليك بقيام الليل فاخل فيه بربك، واطلب منه حوائجك، وتضرع إليه، واخضع بين يديه.
فإنه يروى أن رجلاً قال:
أتيت بشر بن الحارث فقال: ما جاء بك؟
قلت: مسألة!
قال: ما هي؟
قلت: رجل عليه دين كبير لا سبيل له إلى قضائه!
فقال: عليك بجوف الليل.
فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فشكوت إليه فقال: عليك بجوف الليل.
قال: فدلاني جميعاً عليه.
10- وإذا سألت الله فاسأله وأنت موقن بأنه مطلع عليك، سامع لدعائك، قريب منك، قادر على إجابتك، لا يتعاظمه شيء.(1/66)
وإذا سألته أمراً فاسأله الخيرة فيه، فإنك لا تدري ما يكون لك فيه.(1/67)
وإذا شاء الله -عز وجل- أعطاك رغبتك وخار لك في ذلك، فيجمع لك فيه بين الأمرين.
- فإن لم يعجل لك الإجابة فلا تيأس من الإجابة، ولا تمل من السؤال.(1/68)
فقد روي أن بعضهم قال:
لقد خار الله لعبده في حاجة أكثر فيها تضرعه.
واعلم أن الله تعالى إذا نظر إليك وعلم أنك قد جعلته معتمدك وملجأك: وأفردته بحوائجك، دون خلقه أعطاك أفضل ما سألته وأكرمك بأكثر مما أردته.
- فإن عجل لك الإجابة، فقد جمع لك بين قضاء الحاجة، وخيرة الدنيا والآخرة.
- وإن لم يجبك عاجلاً فقد عوضك عن ذلك خيراً منه فأنت على خير في الحالين، واسترح إلى مناجاته وتلذذ بعبادته.
فإنه يروى عن أبي سليمان الداراني أنه دخل عليه أحمد بن أبي الحواري وهو يبكي.
فقال: ما يبكيك؟
فقال: يا أحمد، وما لي لا أبكي ولو رأيت قوام الليل وقد قاموا إلى محاريبهم وانتصبوا على أقدامهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم، وقطرت دموعهم على أقدامهم، وجرت على خدودهم، وقد أشرف عليهم الجليل، فنادى:
يا جبريل بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى مناجاتي فلم لا تنادي فيهم.
يا جبريل: ما هذا الجزع الذي أراه فيكم؟!
أبلغكم أن حبيباً يعذب أحباءه! أم كيف يجمل بي أن أبيت أقواماً وعند(1/69)
البيات آخذهم وقوفاً لي يتملقوني!؟
فبعزتي لأجعلن جزاءهم وقد وردوا علي أن أكشف لهم الحجاب عن وجهي حتى أنظر إليهم وينظروا إلي.
ومناجاة العباد رحمهم الله تعالى لربهم كثيرة، ومن أحسنها ما روي عن منصور بن عمار أنه قال:
سمعت عابداً بالليل يناجي ربه، وهو يقول:
وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ولا التعرض لغضبك، ولا أنا بنكالك جاهلٌ، ولا لعذابك متعرضٌ، ولا بنظرك مستخفٌ، ولكن زينت لي نفسي، وأعانتها بجهدي شقوتي، ,وغرني سترك المرخي علي، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بحهدي فالآن من عذابك من ينقذني!؟
وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني!؟
واسوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفين: جوزوا، وللمثقلين: حطوا!
أفمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين: أحط يا سيدي!؟
ويلي كلما طالت أيامي كثرت آثامي.
ويلي كلما كبرت سني عظمت ذنوبي.
فمن كم أتوب، وفي كم أعود، واشباباه واشباباه.(1/70)
ورويت عن رجل قال:
طلعت إلى بعض جبال الشام، فإذا في رأسه عابدٌ قد اشتد بكاؤه ونحيبه، فسمعته يقول:
- أترى بكائي نافعاً لي عندك يا سيدي!
- ومنقذاً لرقبتي من سخطك!
- أتراك مقيلي عثرتي في نارك أو معذباً كبرتي بعذابك!
- أتراك موبخي على رءوس الخلائق بتفريطي في حقك!
أواه لكشف ستري، أواه لحياء وجهي، أواه لما يلقاه غداً في النار جسدي.(1/71)
قال: ثم اشتد بكاؤه حتى أنساني ما قبل ذلك، فناداه رجل: دلنا على الطريق - رحمك الله.
فبكى، ثم قال:
وكيف لي ولكم بالثبوت عليها، وكيف لي ولكم بالاستقامة عليها؟!
ثم قال:
اللهم دل حيرتهم وحيرتي، ولا تعثرني ولا إياهم.
وروي عن الحسن بن جعفر عن أبيه جعفر قال: صليت العيد في الجبانة، ثم انفردت في ناحية، فإذا أنا بعجوزٍ رافعةٍ يديها، وهي تقول:
انصرف الناس، ولم أشعر قلبي اليأس، يا صاحب الصدقة ها أنا ذه منصرفة فليت شعري ما زودتني!
رب ارحمني وارحم ضعفي وكبر سني، خرجت أرجوك فلا تخيب حسن ظني بك.
وهي تبكي.
قال: فما انتفعت بنفسي بشيء في يومي.
وعن سفيان أنه قال: سمعت أعرابياً بعرفة يقول:
إلهي من أحق بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفاً؟!
ومن أحق بالعفو عني منك وعلمك بي سابقٌ وأمرك بي محيط؟!
إلهي لم أحسن حتى أذنت لي، ولم أسيء حتى قضيت علي؟!
أطعتك بنعمتك، والمنة لك.
وعصيتك بعلمك والحجة لك.(1/72)
فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وفقري إليك وغناءك عني إلا ما غفرت لي ورحمتني.
إلهي أنت أنس المؤنسين لأوليائك، وأقربهم بالكفاية إلى من توكل عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع على ضمائرهم.
اللهم وسري إليك مكشوف، وأنا إليك ملهوف.
إذا أوحشتني الذنوب آنسني ذكرك، وإذا اجتمعت علي الهموم لجأت إليك علماً مني بأن أزمتها بيديك ومصدرها عن قضائك وقدرك.
ولبعضهم: اللهم إن استغفاري لك مع إصراري للؤمٌ، وإن تركي الاستغفار مع سعةٍ رحمتك لعجزٌ، إلهي، كم تتحبب إلي بالنعم وأنت غنيٌ عني!
وكمن أتبغض إليك بالمعاصي وأنا إليك فقير!
إلهي: أتراك تعذبنا بالنار وقد أسكنت توحيدك في قلوبنا، وما أراك تفعل، ولئن فعلت فلمع قوم طالما عاديناهم فيك.(1/73)
وأحسن من هذا:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حين رجع من الطائف وقد كذبته ثقيف وردوا عليه، فقال:
((اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. اللهم أنت رب المستضعفين، وأنت أرحم الراحمين، وأنت ربي إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدوٍ ملكته أمري!؟
وإن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع إلي.
أعوذ بوجهك الكريم: الذي أضاءت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك، أو ينزل علي غضبك، فلك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.(1/74)
وإذا كان لك حاجة إلى الله تعالى تريد طلبها منه فتوضئ أحسن وضوء، واركع ركعتين، وأثن على الله -عز وجل-، وصل على محمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قل:
لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله الله العلي العظيم، سبحان الله رب العرش الكريم، والحمد لله رب العالمين.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برٍ، والسلامة من كل إثمٍ.
اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
وإن قلت: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة.
يا محمد إني أتوجه إلى ربي وربك -عز وجل- فتقضى لي حاجتي -ويذكر حاجته)).(1/75)
وروي أن السلف كانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يصليها (أحدهم)، ثم يقول: اللهم بك أستفتح، وبك أستنجح وإليك أتوجه بتوحيدك الذي جحده المشركون وانقاد به لوجهك المخلصون.
بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - أتوجه.
اللهم ذلل لي صعوبة أمري، وسهل لي حزونته، ويسر لي من الخير أكثر مما أرجو، أو اصرف عني من الشر أكثر مما أخاف.(1/76)
وإذا أردت أمراً فاستخر فيه الله عز وجل، وصل ركعتين من غير الفريضة، ثم قل:
اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وعاقبة أمري.
- أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي: ويسره لي، ثم بارك لي فيه.
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان وكيف كان ثم رضني به- وتسمي حاجتك.
ولتكن همتك في هذه الدنيا: التقرب إلى ربك الكريم، وطلب فضله العظيم، والاجتهاد في الدخول في أوليائه: الذين يحبهم ويحبونه ويرضى عنهم ويرضون عنه الذين اختارهم لنفسه وأكرمهم بولايته وأوقفهم على بابه وأشغلهم به وعلق قلوبهم بمحبته. وشغل ألسنتهم بذكره وجوارحهم بطاعته، لا يلتفتون إلى ما سواه من دنيا ولا غيرها.
روينا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه:
أنه حين حضره الموت جعل يغشى عليه، ثم يفيق، فيقول: أخنقني خنقك، فوعزتك وجلالك إنك لتعلم أن قلبي يحبك.
ثم قال: انظروا هل أصبحنا؟!
فأتي في بعض تلك المرات فقيل له: نعم.
فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلةٍ صباحها إلى النار.
ثم قال:
مرحباً بالموت زائر مغبٌ، حبيبٌ جاء على فاقةٍ.
اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري(1/77)
الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، وقيام الليل في الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
فبكى الحارث بن عميرة فقال له: ما يبكيك؟!
قال: والله ما أبكي لقرابة بيني وبينك ولا لدينا كنت أصيبها منك، ولكن كنت أصيب منك علما، فأخاف أن ينقطع.
قال: فلا تبك، فإنه من يرد العلم أتاه كما أتى إبراهيم خليل الرحمن وليس ثم يومئذٍ علمٌ ولا إيمان.
واعلم -رحمك الله- أن هذه الدنيا سوقٌ: متجر الأبرار، وحلبة السباق بين الكرام الأخيار، ومزدرع التقوى ليوم القرار، ومحل تحصيل الزاد للسفر الذي ليس هو كالأسفار.
فبادر -رحمك الله تعالى- قبل فوات إمكان البذار، واغتنم أنفاسك العظمية المقدار، واذر من دموعك الغزار، على ما سلف منك من تفريط الأوزار، فإن القطرة من الدموع من خشية الله تعالى تطفئ البحور من النار. وتيقظ في ساعات الأسحار عند نزول الجبار، واحضر بقلبك قول العزيز الغفار:
هل من سائلٍ فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له.(1/78)
قل: نعم يا رب، أنا السائل المحتاج الفقير، أنا الضعيف الكسير، أنا الداعي الراجي، أنا المستغفر المذنب المقر المعترف، يا صاحب الصدقة هانذا ارحم ضعفي وكبر سني، ارحم فقري وفاقتي وحاجتي ومسكنتي يا كثير الخير، يا دائم المعروف لا تخيب حسن ظني بك ولا تحرمني سعة معروفك، ولا تطردني عن بابك، ولا تخرجني من أحبابك.
أسألك من فضلك العظيم، فإنك قلت وقولك الحق:
{واسألوا الله من فضله}.
إلهي، ما أمرتني أن أسألك إلا وأنت تريد أن تعطيني، ولا دللتني عليك إلا وأنت تريد أن تهديني، ولا أمرتني بدعائك إلا وأنت تريد أن تجيبني.
أسألك من فضلك أن تجعلني مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وأن تجعلني من الذين تحبهم ويحبونك أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.(1/79)
ومن الأئمة الذين يهدون بأمرك، وارزقنا فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، واجعلنا من العابدين لك.
ومن الذين يسارعون في الخيرات ويدعونك رغباً ورهباً، واجعلنا لك من الخاشعين.
ومن الذين يطيعونك ويطيعون رسولك ويخشاك ويتقيك، واجعلنا من الفائزين.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين.(1/80)
رب أنت أصلحت الصالحين، وفضلت الصديقين، وسبقت السابقين، وقربت المقربين، وتفضلت عليهم، ثم أثنيت عليهم ومنحتهم، ثم مدحتهم، لولاك ما وصلوا إليك، ولولا إحسانك ما فازوا لديك.
فأسألك بوجهك الكريم، ومنك القديم، وفضلك العظيم. أن تتفضل علينا بما تفضلت به عليهم وتصلحنا بما أصلحتهم، وتمنحنا كما منحتهم، وتعطينا كما أعطيتهم، وتجود علينا بما جدت عليهم والكل عبيدك وفي قبضتك.
يا رب دعوتنا إلى دارك دار السلام فاهدنا إلى الصراط المستقيم.
لنجيب دعوتك، فإننا لا نستطيع إجابتك إلا بهدايتك، ولا نصل إلى دعوتك إلا بعنايتك.
إلهي عممت بدعوتك، وخصصت بعنايتك من شئت فاجعلنا من خاصتك.
ومن علينا بالتوفيق لإجابتك، وأدخلنا في أهل ولايتك.
يا رب أمرتنا بما لا يقدر على فعله إلا بك، ونهيتنا عما لا نقدر على تركه إلا بتوفيقك، ورغبتنا فيما لا نناله إلا بفضلك، وحذرتنا مما لا نسلم منه إلا بجودك(1/81)
وكرمك.
اللهم فوفقنا لامتثال أمرك، واجتناب زجرك، وأعطنا ما رغبتنا فيه، وجنبنا ما حذرتناه.
اللهم إنك سألتنا من أنفسنا ما لا نقدر على فعله إلا بك.
اللهم فخذ لنا منها ما ترضى به عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنك أخذت بقلوبنا ونواصينا فلم تملكنا شيئاً منها، فإذا فعلت ذلك بهما فكن أنت وليهما.
واهدنا إلى سواء السبيل.
قال أبو عبد الله النباجي:
سمعت بالنباج في الليل صوتاً حزيناً قلقاً ينادي:
يا حبيب من تحبب إليه، ويا قرة عين من لاذ به وانقطع إليه. يا سيدي ومولاي.
أغلقت الملوك أبوابها وأوقفت عليها حجابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقلوب العارفين تأبى إلا حبك والأنس بك، وإني قد جئتك في هذه الليلة من غير إدلال بعمل ولا استحقاق لموهبة.
وإني أسألك أن تتفضل علي ولا تحرمني في هذه الليلة طيب مناجاتك، وجزيل العطية من جزيل مجازاتك.(1/82)
فسألت عن ذلك، فأخبرت أنها سلامة السوداء تعبد الله على التجريد.
وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان عندنا باليمن فتى مسرف على نفسه قليل الطاعة، وكان ذا جمال ومال، وكان اسمه سهلاً، فرأى ليلة في منامه كأن جارية أتته وعليها ثوب من لؤلؤ يتساقط منه، وبيدها كتاب من حرير أخضر مكتوب فيه بالذهب، فأتته به، فقالت: يا أخي، اقرأ لي هذا الكتاب.
فدفعته إليه، فإذا فيه مكتوب شعراً:
أسهل من صاغها الرحمن في غرف ... من مسكةٍ عجنت من ماء نسرين
إلى الذي حبه في القلب محتبسٌ ... وقلبه عنه في لهوٍ وتفتين
أسهل ماذا فقد أورثتني حزناً ... كم عنك ما لا أحب الدهر يأتيني!
ألست تشتاق أن تلهو على فرشٍ ... موضونةٍ مع جوارٍ خردٍ عين!
قال: فانتبه من نومه فزعاً مذعوراً، وترك ما كان عليه من البطالة، ولزم العبادة، وتنسك أحسن نسكٍ حتى مات على ذلك -رحمه الله تعالى-.(1/83)
وعن الحسن بن علي -رضي الله تعالى عنهما- قال:
لقد رأيت أبي وقد جن عليه الليل بسواده قابضاً على لحيته بيمينه يبكى بعبرته ويندب بزفرته، وهو يقول:
إلهي، وسيدي، وخالقي، ورازقي، ومحيي، ومميتي، وباعثي، ووارثي، ما أنا وما قدري وما خطري عندك حتى تقصد قصدي بعقوبتك أو تنحو نحوي بسخطك تريد عذابي، فوعزتك وجلالك ومجدك وإحسانك:
ما تزيد في ملكك حسناتي، ولا تشينه سيئاتي، ولا ينقص خزائنك غنائي، ولا يزيد فيها فقري، اللهم ثبت رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحداً سواك يا من تحبب إلينا بآلائة، وتعرف إلينا بنعمائه، وكان لي في الأمور عند مسرتي، ارحم اليوم عثرتي.
- وكان بهيم العجلي يقول في سجوده في آخر الليل عند فراغه من تهجده:
إلهي، مسكينك يحب الاتصال بطاعتك، فأعنه على ذلك بتوفيقك أيها الكريم.
إلهي، مسكينك كثير الرجاء لخيرك، فلا تحرمه ذلك.
إلهي، مسكينك قطع على (1) .
__________
(1) لم أقف عليه، وفي الخبر سقط من آخره.(1/84)
وسمع من أعرابية بطريق منى، فقالت:
يا رب أخذت وأعطيت، وأنعمت وسلبت، وكل ذلك عدلٌ منك وفضلٌ. والذي عظم على الخلائق أمرك لا بسطت لساني بمسألة غيرك، ولا أبديت رغبتي إلا إليك.
يا قرة أعين السائلين، أغنني بجود منك أتبحبح في فراديس نعمه، وأتقلب في رواق نصره، واحملني من الرحلة، وأغنني من العيلة. واسبل علي سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء.
- وقيل كان الجنيد ليلة العيد في البرية، فلما كان وقت السحر إذا هو بشاب ملتف في عباءة وهو يبكي، ويقول:
بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف علي ألا تجود
سرور العيد قد عم النواحي ... وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت اقترفت خلال سوءٍ ... فعذري في الهوى أن لا أعود(1/85)
قال الحسن بن محمد بن إسحاق:
رأيت يحيى بن معاذ الرازي -رحمه الله- في يوم عيد يناجي ربه، وهو يقول:
إلهي، إن لم أكن لحقك راعياً، لم أكن لغيرك داعياً.
إلهي، إن لم أكن إلى الخيرات مسارعاً، لم أكن لباب البيعة قارعاً.
إلهي، إن لم أكن عن الغيبة صامتاً، لم أكن لأنبيائك وأصفيائك شاتماً.
إلهي، من بابك لا أزول، لأني بغيرك لا أقول.
إلهي، من بابك لا أبرح، لأني بغيرك لا أفرح.
إلهي، عملي كسراب، وقلبي من التقوى خراب، وذنوبي أكثر من التراب، وأنت أولى بالعفو والصفح، فاغفر لنا وارحمنا بجودك وطولك، ياذا الجلال والإكرام.
- ودعا رجلٌ، فقال:
اللهم إنك تعلم أني على إساءتي وظلمي وإسرافي لم أجعل لك ولداً ولا نداً ولا صاحبةً ولا كفواً، فإن تعذب فبعدلك، وإن تغفر فإنك أنت العزيز الحكيم، يا من لا يشغله سمع عن سمع.(1/86)
آخر الوصية
والحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم (1)
__________
(1) كذا في النسختين (الأصل / ر) الختام مبتور يدل على نقص في آخر الوصية إذ قد انتهت بلا تمهيد للانتهاء.
وفي (أ) انتهت قبل ذلك بعد (71) قبل قصة بهيم العجلي، وقد أشار ناسخها إلى هذا السقط فقال: (آخر ما وجدت).
وفيها أبيات نسبت للمصنف، وليست هي من وصيته، ولمناسبتها مع الوصية ألحقها الناسخ، وكذلك ألحقها، وقد ذكرها ابن رجب في ترجمته من ذيل طبقات الحنابلة (2/141- 142)، فها كها:
أبعد نزول الشيب أعمر منزلاً ... سوى القبر إني إن فعلت لأحمق!
يخبرني شيبي بأني ميتٌ ... وشيكاً وينعاني إلي فيصدق!
يخرق عمري كل يومٍ وليلةٍ ... فهل مستطيعٌ رفو ما يتخرق؟!
كأني بنفسي فوق نعشي ممداً ... فمن ساكتٍ أو معولٍ يتحرق
إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا ... وأدمعهم يجرين: هذا الموفق!
وشالوا سريري ثم ساروا فأسرعوا ... ونودي أن لا تعجلوا وترفقوا!
وغيبت في صدعٍ من الأرض ضيقٍ ... وأودعت لحداً فوقه اللبن مطبق
يحثو علي الترب أوثق صاحبٍ ... وسلمني للدود من هو مشفق
فيارب كن لي مؤنساً يوم وحدتي ... فإني بما أنزلته لمصدق
مقرٌ بأني ذو ذنوبٍ كثيرةٍ ... أسير الخطايا بالإساءة موثق
ومالي سوى معروف ربي وجوده ... ومالي إلا فضله متعلق
وما ضرني أني إلى الله صائرٌ ... ومن هو من أهلي أبر وأرفق
تمت(1/87)
__________
وله أيضاً
أتعقل يا ابن أحمد والمنايا ... سوارع منك تحضر عن قريب
أغرك أن تخطتك الرزايا ... فكم للموت من سهم مصيب
كؤوس الموت دائرةٌ علينا ... وما للمرء بدٌ من نصيب
إلى كم تجعل التسويف دأباً ... أما يكفيك إنذار المشيب
أما يكفيك أنك كل حينٍ ... تمر بقبر خلٍ أو حبيب
كأنك قد لحقت بهم قريباً ... ولا يغنيك إفراط النحيب
هذا، والحمد لله رب العالمين على الإسلام والسنة، ونسأله بكرمه ورحمته الثبات والجنة، والله المستعان.(1/88)