الوجازة
في
شرح الأصول الثلاثة
للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
شرح وتوضيح
الشيخ
علي بن خضير الخضير
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فهذا كتاب يسر الله إتمامه وإخراجه وهو شرح لرسالة الأصول الثلاثة للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
وقد كان بداية هذا الشرح وأصله كان املاءا على الطلاب عام 1415 هـ وخرج على شكل مذكرة متداولة بين الطلاب وغيرهم ، ثم يسر الله بعد ذلك مراجعة هذه المذكرة ثم زيد فيها إضافات وتحرير لبعض المسائل .
وبما أن هذا الشرح الذي يسره الله مختصر ووجيز فقد أسميته ( الوجازة في شرح الأصول الثلاثة ) قال في لسان العرب : أَوْجَزَه: اختصره , وكلامٌ وَجْزٌ: خفيف , وكلام وَجِيز أَي خفيف مقتصر , وأَوْجَزْتُ الكلام : قَصَرْتُه. وقال في القاموس المحيط : الوَجْزُ: الخفيفُ من الكلامِ ،. وأوْجَزَ الكلامُ: قَلَّلَهُ.اهـ
نسأل الله التوفيق والإعانة والقبول وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
وهذا الكتاب سبقه عدة كتب في التوحيد ولذا ما جاء في هذا الكتاب مما هو موجود في الكتب قبله فإننا نُحيل إلى تلك الكتب اختصارا ودفعا للتكرار خصوصا كتاب الوسيط في شرح أول رسالة في مجموعة التوحيد .
وما كان في هذا الكتاب مما خالف المذكرة المذكورة فما كان هنا فهو المعتمد وما خالفه فهو المتروك والله الهادي إلى سواء السبيل .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه
علي بن خضير الخضير
1415 هـ ابتدءا وعام 1423 هـ زيادة واكتمالا وتحريرا
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل إلى الكتاب(1/1)
المصنف رحمه الله ذكر في الدرر المجلد الأول أربع رسائل تقريبا كلها تتكلم عن ثلاثة أصول ، وجامع الدرر رحمه الله جعلها متتابعة ابتداء من ص 125 إلى ص 158 ، أطولها الرسالة الأول من ص 125 إلى نهاية ص 136 ، وهي الرسمية المنشورة باسم الأصول الثلاثة ، وقد نص المصنف على اسمها فقال : 1 / 127 فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ثم سردها . وهذه الرسالة فيها زيادة ذكر الطاغوت ورؤسه وزاد في أولها تعلم ثلاث مسائل وفي آخرها ذكر مسائل اليوم الآخر .
والثانية أقل من الأولى وهي من ص 137 إلى نهاية ص 143 . وزاد فيها ذكر نوعي التوحيد باختصار ـ الربوبية والألوهية ـ ، ولم يذكر فيها مسائل الطاغوت ولا اليوم الآخر . ولا أصول الإيمان الستة .
أما الثالثة من ص 147 إلى 151 . فقد كتبها متأخرا في الدرعية بطلب من الأمير : عبد العزيز بن محمد بن سعود، طلب من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين، فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها ، وهي التي سماها المصنف ثلاثة أصول كم في النص التالي 1 / 147 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . أما بعد : فاعلموا وفقكم الله لمراضيه، وجنبكم طريق معاصيه، أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة : معرفة ثلاثة أصول، والعمل بهن . ثم ذكرها وهي : الأصل الأول : في معرفة العبد ربه، ثم ذكر ذلك ، الأصل الثاني : في معرفة دين الإسلام ، الأصل الثالث : في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . ولم يذكر فيها مسائل الطاغوت ولا اليوم الآخر . ولا أصول الإيمان الستة .(1/2)
أما الربعة والأخيرة من ص 151 إلى 158 ، فذكر نوعي التوحيد باختصار ـ الربوبية والألوهية ـ ،وذكر أصول الإيمان الستة مختصرا ، لكن فيها بعض الألفاظ العامة مثل كلمة ( ايش ؟ ) وهي بمعنى ماذا ؟ .
وفي أثناء ذكرنا للرسالة الأولى التي اعتمدناها هنا سوف نشر إن شاء الله إلى الرسائل الأخرى إن كان هناك زيادة أو توضيح أو فائدة .
فصل
وهذا نص الأصول الثلاثة موجودة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدّس الله روحه، في الدرر بكاملها في 1 / 125 إلى صفحة 136 وهذا نصها بالكامل بدون مقدمة :
ويجب علينا أربع مسائل، الأولى : العلم ؛ وهو : معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ؛ الثانية : العمل به ؛ الثالثة : الدعوة إليه ؛ الرابعة : الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) قال الشافعي، رحمه الله تعالى، لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ؛ وقال البخاري، رحمه الله تعالى : باب : العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إلَه إلاّ الله واستغفر لذنبك ) فبدأ بالعلم، قبل القول والعمل .
اعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة، تعلم هذه المسائل، والعمل بهن .
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )
الثانية : أن الله لا يرضي أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ؛ والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )(1/3)
الثالثة : أن من أطاع الرسول، ووحّد الله، لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )
اعلم أرشدك الله لطاعته :أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) ومعنى يعبدون : يوحدون وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو : دعوة غيره معه ؛ والدليل قوله تعالى : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم
فإذا قيل لك : من ربك : فقل ربي الله الذي رباني، ورب جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) وكل ما سوى الله عالم . وأن واحد من ذلك العالم .(1/4)
وإذا قيل لك : بم عرفت ربك ؟ فقل : أعرفه بآياته ومخلوقاته ؛ ومن آياته : الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومن مخلوقاته : السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ؛ والدليل قوله تعالى : (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) وقوله تعالى : (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . والرب، هو : المعبود، والدليل قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) إلى قوله تعالى : ( فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون ) قال ابن كثير رحمه الله تعالى : الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة .
وأنواع العبادة التي أمر الله بها، مثل : الإسلام، والإيمان الإحسان ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة،، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها، والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )
فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله، فهو مشرك كافر ؛ والدليل قوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ).(1/5)
وفي الحديث : " الدعاء مخ العبادة " والدليل قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) ودليل الخوف قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافون وخافون إن كنتم مؤمنين ) ودليل الرجاء قوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) ودليل التوكل قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) وقوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) ودليل الخشية قوله تعالى : ( فلا تخشوهم واخشوني ) ودليل الإنابة قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) ودليل الاستعانة قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وفي الحديث :" إذا استعنت فاستعن بالله " ودليل الاستعاذة قوله تعالى ( قل أعوذ برب الفلق )، ( قل أعوذ برب الناس )، ( ودليل الاستغاثة قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) .
ودليل الذبح قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له ) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من ذبح لغير الله " ودليل النذر قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) .(1/6)
الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب : الإسلام، والإيمان، والإحسان ؛ وكل مرتبة لها أركان، فأركان الإسلام : خمسة والدليل من السنة : حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والدليل قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )
ودليل الشهادة قوله تعالي : ( شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلَه إلا ّهو العزيز الحكيم ) [ آل عمران 18] ومعناها : لا معبود بحق إلا ّ الله ؛ وحد النفي من الإثبات : لا إلَه نافياً جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني ) وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً )
ودليل شهادة : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .(1/7)
ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد، قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) ودليل الصيام قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ودليل الحج قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ).
المرتبة الثانية : الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه : ستة، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره كله من الله .
والدليل قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر والملائكة والكتاب والنبيين ) ودليل القدر قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر )،
المرتبة الثالثة : الإحسان، ركن واحد، وهو : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وقوله تعالى : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى )
وقوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين ) وقوله تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ) .(1/8)
والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه، قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال يا محمد : أخبرني عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلاً ؛ قال صدقت " فعجبنا له : يسأله، ويصدقه .
قال : " أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره ؛ قال : صدقت ؛ قال أخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ؛ قال : صدقت قال أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ؛ قال : أخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة، العالة، رعاء الشاء،
يتطاولون في البنيان " فمضى فلبثنا ملياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عمر : أتدرون من السائل ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ؟ قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " .
الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبيء بإقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة .(1/9)
بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى : (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) ومعنى : ( قم فأنذر ) ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد ( وربك فكبر ) أي : عظمه بالتوحيد ( وثيابك فطهر ) أي طهر أعمالك عن الشرك ( والرجز فاهجر ) الرجز الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين، يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى
المدينة، والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي : باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا) وقوله تعالى : ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) قال البغوي رحمة الله تعالى : سبب نزول هذه الآية في المسلمين، الذين بمكة، لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان ؛ والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم " لنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .(1/10)
فلما استقر بالمدينة : أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام ؛ أخذ على هذا عشر سنين ؛ وتوفي صلى الله عليه وسلم ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا ّحذرها منه، والخير الذي دل عليه : التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه ؛ والشر الذي حذر عنه : الشرك بالله، وجيمع ما يكرهه الله ويأباه .
بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع
الثقلين، الجن والإنس، والدليل قوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون )
والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) وقوله : ( والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ) وبعد البعث محاسبون، ومجزيون بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والدليل قوله تعالى : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنببؤن بما عملتم وذلك على الله يسير )
وأرسل الله جميع الرسل : مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده، والدليل قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) .(1/11)
والدليل : على أن أولهم نوح عليه السلام، قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) وكل أمة : بعث الله إليها رسولاً، من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله، ويناهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) .
وافترض الله على جميع العباد : الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، قال ابن القيم : رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت : ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع .
والطواغيت كثيرة، ورؤسهم، خمسة، إبليس لعنه الله، ومن عبده وهو راض، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله ؛ والدليل قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) وهذا : معنى لا إلَه إلا ّ الله، وفي الحديث : " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه .
فصل وفي المقدمة مسائل
المسألة الأولى : ( اسم الكتاب ) سماه المصنف بالأصول الثلاثة فقال : في الدرر 1 / 127 فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ثم سردها .
أما الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع الدرر السنية قال في حاشيته : حاشية ثلاثة الأصول ، مما يدل على أنه يرى أن اسمها ثلاثة الأصول ، وكذا في مجموع مؤلفات الشيخ محمد في القسم الأول في العقيدة ص 183 سُميت أيضا ثلاثة الأصول ، وكذا شيخنا محمد العثيمين رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله خيرا في شرحه قال : شرح ثلاثة الأصول .(1/12)
والذي يظهر لي أن كل ما سبق ليس بدقيق بل اسمها الأصول الثلاثة لأن هذا هو تسمية المصنف كما نص على ذلك وذكرنا كلامه قبل اسطر ، حيث قال : في الدرر 1 / 127 فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، ثم سردها .
وأيضا الذي يظهر أن المصنف لا يهتم كثيرا بالتفريق بين اسم الأصول الثلاثة أو ثلاثة الأصول ، ولذا في الدرر 1 / 117 في رد على رسالة جاءته وفيها .... وغير ذلك من النصوص، الدالة على حقيقة التوحيد، الذي هو مضمون ما ذكرت، في رسالتك، أن الشيخ محمد(1) : قرر لكم ثلاثة أصول، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام اهـ .
ومرة قال : 1 / 127 فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقال في الدرر 1 / 146 وطلب الأمير : عبد العزيز بن محمد بن مسعود، من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين، فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها .
فكتب رسالة بعد البسملة والحمد له فقال : أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة معرفة ثلاثة أصول، والعمل بهن ، الأصل الأول : في معرفة العبد ربه، ثم ذكر ذلك . الأصل الثاني : في معرفة دين الإسلام ، الأصل الثالث : في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فتلاحظ أنه مرة يكتب الأصول الثلاثة ومرة ثلاثة الأصول مع أن المعنى والمضمون تقريبا واحد .
__________
(1) ـ يقصد المصنف نفسه ويدل عليه صنيع ابن قاسم رحمه الله في حاشيته على ثلاثة الاصول حيث قال ص 5 قال المصنف قدس الله روحه : قررت ثلاثة الاصول توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والولاء والبراء وهذا هو حقيقة الاسلام اهـ بنصه وهو نفس الكلام السابق .(1/13)
المسألة الثانية ( زمن تأليف الكتاب ) : ألفه في أوائل دعوته السلفية بعد أن صار له نصرة ودار ، وقلنا ذلك لأنه في رسالته هذه تكلم عن الهجرة وعن دار الإسلام ودار الشرك والكفر ، وهذه قرينة على أنه ألفها في مكان يمكن أن يكون إليه هجرة ، ويحتمل أنه ألفها في العيينة قبل انتقاله إلى الدرعية لأنه كان له فيها نصرة ، ويحتمل أنها في الدرعية لأن النصرة فيها أقوى ولا يخرج الحال عن هذين الاحتمالين ، والله أعلم .
ويلاحظ أنه باعتبار الترتيب يحسن البداءة به قبل كتاب التوحيد. فهو كالمقدمة له .
المسألة الثالثة : ( وصف عام للكتاب ) هو عبارة عن ثلاثة أقسام :
1 - مقدمة.: والملاحظ على المقدمة أن المصنف لا يبدأ مباشرة بالأصول الثلاثة ، إنما يبدأ بالمقدمة وهي عبارة عن ثلاث مقدمات وثلاثة مواضيع كل موضوع يبدأ بكلمة اعلم رحمك الله .
أ ـ الأولي في وجوب أربع مسائل . ب ـ الثانية في وجوب ثلاث مسائل .
ج ـ في بيان ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
مسألة : هذه الثلاث المقدمات هل هي من صلب الكتاب وإلاّ أدخلت عليه ؟ ومن الذي كتبها ومن الذي جمعها ؟ . بل هي من صلب الكتاب كما جاء في الدرر ا / 127 لم يفصل بينها بل قال في البداية وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثم سردها مع المقدمات المذكورة . ونفس الصنيع في مجموع مؤلفات الشيخ محمد القسم الأول ص 185 .
2- صلب الموضوع وهو الحديث عن الأصول الثلاثة ، فبدأ بالأصول الثلاثة : الأصل الأول عن معرفة الله ثم الثاني عن معرفة الدين ومراتبه الثلاث ثم الثالث عبارة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم باختصار شديد .
3- نهاية وخاتمة الكتاب ، فالنهاية ضمنها المصنف بعض قضايا الآخرة ، منها الإيمان بالبعث والحساب ثم قضية مهمة وهي وجوب الكفر بالطاغوت مع ذكر معناه ورؤوسه .(1/14)
وأسلوب الكتاب أسلوب مبسط ومختصر وعنده اهتمام كبير بذكر الأدلة وأحياناً يستعمل أسلوب السؤال والجواب . وإن كان هذا ليس كثيراً إنما استخدمه في الأصل الأول وهو معرفة الرب .
( مسألة ) شرح الكتاب .
بدأ المصنف كتابة بالبسملة ويستحب في بداية الخطب والمقالات والرسائل أن يبدأ بذكر الله وهي ثلاثة أنواع :
أ ـ البسملة كما فعل المصنف والدليل إقتداء بالقرآن وعند البخاري إن النبي صلي الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً ابتدأه بسم الله الرحمن الرحيم ، أما حديث كل أمر ذي بال .. ، فهو ضعيف .
ب ـ أن يبدأ بالحمد لله كما جاء في حديث جابر عند مسلم أن النبي إذا خطب حمد الله وأثنى عليه .
ج ـ أن يبدأ بالآيات كما جاء في قصة الجماعة الذين جاءوا من مضر وهم فقراء .. ثم خطب عليه الصلاة والسلام فتلا آيات { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم .. } وآية الحشر { ولتنظر نفس ما قدمت لغد .. } ثم قال تصدق رجل من ديناره ومن درهمه .. ] من حديث جرير عند مسلم . الشاهد أنه تلا بعض الآيات لما خطب .
في بعض النسخ في غير الدرر بدأت الرسالة بكلمة ( اعلم رحمك الله )
فقوله : " اعلم رحمك الله " يأتي بعد قليل تعريف العلم إلا أن هذه الكلمة يؤتى بها للاهتمام والحث على تدبر ما بعدها كما قال الحكمي رحمه الله ، وهذا من شفقة المؤلف ومحبته أن يدعو للسامع بهذه الدعوة ، ومعنى الدعاء بالرحمة أي غفر الله لك ما مضى ووفقك وعصمك فيما يستقبل .. وعلى هذا فالرحمة هنا تشمل معنى المغفرة .
" الله " المعبود الخالق ويأتي مزيد إيضاح من كلام المصنف عندما يتكلم على الأصل الأول في معنى لفظ الجلالة ، هذه قاعدة في تفسير اسم الله أما إذا جاء اسم " الله " مع اسم " الرب " فإن " الرب " الخالق و" الله " المعبود .
فصل(1/15)
ويجب علينا أربع مسائل، الأولى : العلم ؛ وهو : معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ؛ الثانية : العمل به ؛ الثالثة : الدعوة إليه ؛ الرابعة : الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) قال الشافعي، رحمه الله تعالى، لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ؛ وقال البخاري، رحمه الله تعالى : باب : العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إلَه إلاّ الله واستغفر لذنبك ) فبدأ بالعلم، قبل القول والعمل .
الشرح :
قوله : " يجب " أفاد المصنف حكم تعلم الأربع المسائل وأنه واجب ، والواجب في الحد والحقيقة ما أمر به على وجه الإلزام . قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وأحياناً يعرف الواجب بالحكم ، وهو " ما يثاب فاعله امتثالا ويستحق العقاب تاركة " ، والعادة في التعاريف أن تعرف بالحقيقة ، ولا مانع من تعريفها بالحكم عند الحاجة ، لتسهيل العلم والفهم .
وقولنا : " امتثالا " أي لا بد منه في الواجب ، فلو فعله بدون امتثال ما برئت الذمة ولا سقط الطلب لحديث عمر [ إنما الأعمال بالنيات ] ، وقولنا يستحق العقاب أحسن من قولنا يعاقب لأن ترك الواجبات كما هو عند أهل السنة والجماعة تحت المشيئة إن شاء عذب وإن شاء عفا الله عنه ، وكلام الخوارج والمعتزلة يقولون : يعاقب ، وأما قول السلف : فيستحق العقاب ، فالاستحقاق والوعيد ثابت ، أما العقاب بالفعل فتحت المشيئة ، لكن هذا في الأشياء التي تدخل تحت المشيئة ، أما غيره كالشرك الأكبر والأصغر فلا بد في الشرك من توبة ، فكل الذنوب تحت المشيئة إلا الشرك فلا يُفغر إلا بالتوبة ، قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } .(1/16)
لكن المصنف في هذه الأربع لم يرد الواجب الاصطلاحي بل هذه أركان وأسس فالعلم بالرب والدين والرسول صلى الله عليه وسلم هي أصل الأصول وأعظم الواجبات .
قوله : " علينا " نا : هنا يقصد بها جميع الخلق حتى الكفار فإن الكفار مخاطبون ومكلفون بفروع الشريعة وأصولها ، فالمسلمون مخاطبون بفروع الشريعة بالقرآن والسنة ، أما توجهه للكفار فنعم فيستحقون العقاب على ترك الأوامر والدليل { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } وكذلك { فويل للمشركين اللذين لا يؤتون الزكاة } وقوله { ولم نك نطعم المسكين } وعلى الزنا أيضاً يعاقبون وهكذا كل خطاب موجه للمسلمين مخاطب به الكافرين ، لكن إذا اسلم وتاب عفى عنه ما سلف والدليل قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقوله صلى الله عليه وسلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] ، ولفعل الصحابة ، وكذلك المرتد في هذه المسألة كالكافر فلا يُؤمر بقضاء ما تركه زمن الردة .
وحتى الجن أيضاً مخاطبون بهذه المسائل ، كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون } ، ولقوله تعالى : { فولوا إلى قومهم منذرين } والضمير يعود إلى الجن .
المسائل الأربع التي يجب تعلمها :
الأولى : ( العلم ) وتعريف العلم ذكره أبو الخطاب في كتابه التمهيد في أصول الفقه ، الجزء الأول صـ 36 " العلم / هو المعرفة أي تعرف المعلوم على ما هو به وهو المعرفة الصحيحة " إ.هـ. واستدل بقوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ، فجعل العلم بمعنى المعرفة وهو الذي اختاره المصنف : " أن العلم بمعنى المعرفة " فقال المصنف ( الأولى : العلم ؛ وهو : معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ) وقد رد أبو الخطاب على من عرف العلم بأنه إدراك الشيء فليرجع في نفس المصدر .(1/17)
مع أن هناك فرق بين العلم والمعرفة والإدراك ، قال ابن القيم في مدارج السالكين 2 / 472 والفرق بين العلم وبين المعرفة من وجوه ثلاثة : أحدها : أن المعرفة لب العلم ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان وهي علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق ، والثاني : أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بموجبه ومقتضاه فهي علم تتصل به الرعاية ، والثالث أن المعرفة شاهد لنفسها وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها وكشف المعرفة أتم من كشف العلم والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ
وقال العسكري في كتابه الفروق ص 72 : أن المعرفة أخص من العلم لأنها علم بعين الشيء مفصلا عما سواه ، والعلم يكون مجملا ومفصلا ... إلى أن قال فكل معرفة علم وليس كل علم ، وذلك أن لفظ المعرفة يفيد تمييز المعلوم من غيره معرفة ولفظ العلم لا يفيد ذلك إلا بضرب آخر من التخصيص في ذكر المعلوم اهـ المقصود . وقال ص 81 في الفرق بين العلم والإدراك فقال : إن الإدراك موقوف على أشياء مخصوصة وليس العلم كذلك والإدراك يتناول الشيء على أخص أوصافه وعلى الجملة والعلم يقع بالمعدوم ولا يُدرك إلا الموجود ، والإدراك طريق من طرق العلم اهـ المقصود .
قال المصنف " العلم " الآلف واللام للخصوص ، ولا يقصد جميع العلم لأن المصنف عرفه فقال هو معرفة الله ... الخ ، فإذاً المصنف قصد به العلم الشرعي .
" مسألة " حكم العمل فيه تفصيل ويختلف باختلاف العلم فمن العلم ما هو واجب كعلم التوحيد والعقائد ومعرفة الشروط والأركان والواجبات والعبادات الواجبة والمعاملات الواجبة ومعرفة المحرمات ... الخ ، فهذا واجب قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } . ولحديث معاذ في الصحيح مرفوعا ( فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوت ... ثم العلم بوجوب الزكاة ) الحديث .(1/18)
القسم الثاني : العلم المستحب كتعلم المستحبات وهذه باعتبار الأفراد أما باعتبار الأمة فلا بد على الكفاية من معرفة المستحبات في الجملة ولأنه من باب حفظ الدين .
القسم الثالث : ما هو فرض كفاية كتعلم الطب والصناعات وهذا فرض كفاية ومثله علم اللغات ... الخ من العلوم المباحة والنافعة للمسلمين .
القسم الرابع : العلم المحرم كتعلم السحر { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } وكعلم الكلام ، وعلم الموسيقى وعلم الربا والفن ... الخ ومن ذلك الطريقة العلمانية اليوم في التعليم في المدارس تشبها بالغرب حيث يُفرض على الناس تعليم المحرم او تعليم ما لا يحتاجونه وبشكل عام على كل الطبقات ، وقد ذكرت هذه المسألة وفصلت فيها في كتاب المعتصر شرح كتاب التوحيد في باب السحر والكهانة .
قال المصنف : " وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة " .
( مسألة ) ذكر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعد معرفة الله عز وجل وقدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم على معرفة الدين وفي الدرر1 / 147 قال أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة : معرفة ثلاثة أصول ، والعمل بهن . ثم ذكرها وهي : الأصل الأول : في معرفة العبد ربه، ثم ذكر ذلك ، الأصل الثاني : في معرفة دين الإسلام ، الأصل الثالث : في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فقدم معرفة الدين على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ليس فيه شيء لأنهما متلازمان ، والواو لا تقتضي الترتيب وإن كان عادة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم تسبق معرفة الدين فلا بد أن تعرف هذا النبي ثم تأخذ منه الدين .
( مسألة ) قوله بالأدلة أي أن الثلاثة تكون مقرونة بالأدلة .. فالباء هنا للمصاحبة .
( مسألة مهمة ) عرفنا حكم معرفة تلك الأصول الثلاثة ؟ فهل يصح التقليد في هذه الثلاثة وفي بقية العقائد ؟(1/19)
هذه المسألة تسمى ( صحة إيمان المقلد في العقائد ) والجواب : أنه يجوز التقليد في علم العقائد ولكن بشرط أن تجزم بما قلدت به ولا يشترط أن تعرف الدليل .
فعن أنس بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل ( وهو ضمام بن ثعلبة ) فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدا لك فقال أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال اللهم نعم ثم سأله عن الأركان . الحديث .
قال الشيخ عبد الله ابا بطين : وفرض على كل واحد معرفة التوحيد وأركان الإسلام بالدليل ، ولا يجوز التقليد في ذلك ، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالبعث بعد الموت وبالجنة والنار وأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادا جازما لا شك فيه فهو مسلم ، وإن لم يترجم بالدليل لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل فإنهم لا يفهمون المعنى غالبا .
قال : ذكر النووي في شرح مسلم عند حديث ضمام بن ثعلبه قال قال أبو عمرو بن الصلاح فيه دلالة لما ذهب إليه أئمة العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون ، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق جزما من غير شك وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة وذلك لأنه قرر ضمام على ما اعتمد عليه في معرفة رسالته وصدقه ومجرد إخباره إياه بذلك ولم ينكر عليه ، ولا قال يجب عليك النظر في معجزتي والاستدلال بالأدلة القطعية اهـ الدرر 10/409 .
قال ابن حزم رحمه الله ( وقال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك ) الفصل 4/35 .(1/20)
وأشار إلى صحة إيمان المقلد الموفق ابن قدامه في روضة الناظر ووافقه الشنقيطي في تعليقه على الروضة واستدلا بدليلين ، الأول { فاسألوا أهل الذكر} والثاني { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } .
ووجه الدلالة من هاتين الآيتين أنه يقبل قول المنذر إذا رجع إلى قومه ويكتفي بسؤاله وأما الآية الأولى { فاسألوا أهل الذكر } أي سؤال عن الحكم الشرعي .
قال المصنف " معرفة نبيه " ولم يقل رسوله وهما مترادفان هنا . ثم قال : معرفة دين الإسلام بالأدلة .
قال المصنف " الثانية العمل به " أي من الواجب بعد العلم العمل به ، " به " الضمير يعود إلى أقرب مذكور وهو العلم ، أي يجب العمل بما تعلمت .
" مسألة " العمل ينقسم كما ينقسم العلم : 1- فمنه ما هو واجب كالعمل بالواجبات والشروط والتوحيد ونحو ذلك . 2- العمل المستحب كالعمل بالمستحبات لكنه في الجملة لا بالجملة . 3- العمل المحرم كالعمل بالشركيات أوالكبائر. 4- ما هو مكروه وهو العمل بالمكروهات .
" مسألة " هل الترك يسمى عملاً ؟ كمن ترك الزنا فهل يقال عمل صالحا ؟ الجواب فيه تفصيل إن تركه امتثالاً مثل الابتعاد عن وسائل الزنا فهذا عمل صالح . وإن تركه عجزاً فلا يدخل ، وعلى ذلك فالترك مع النية الصالحة عمل قال تعالى : { وذروا ما بقي من الربا } .
قال المصنف " الثالثة الدعوة إليه " هل الضمير هنا يعود على العلم أي الدعوة إلى العلم ، أما يعود إلى أقرب مذكور وهو العمل فيكون المعنى الدعوة إلى العمل بما علم ؟ .
" مسألة " الضمير يعود إلى العلم الشرعي ومعنى الدعوة أي نشر العلم الذي تعلمه . وعلى ذلك فالدعوة إلى العلم تنقسم مثل أقسام العلم .
فالعلم الواجب الدعوة إليه واجبه ، والعلم المستحب الدعوة إليه مستحبة وما كان محرماً ، فالدعوة إلى تركه واجبة ... وهكذا ..(1/21)
" مسألة " على من تكون الدعوة ؟ على من تعلم العلم وقدر ، فمن كان جاهلاً لا يجب عليه الدعوة ولكن يجب أن يتعلم أولاً ثم بعد ذلك يدعو .
الدليل على وجوب الدعوة حديث معاذ " إنك تأتي ... فليكن .. " الشاهد :
" فليكن أول ما تدعوهم " اللام للأمر والأمر يقتضي الوجوب . والدليل الثاني حديث علي " انفذ على رسلك " ثم قال " ثم ادعهم إلى الإسلام " هذا الشاهد وقوله ادعهم أمر والأمر يقتضي الوجوب . والحديثان كلاهما في الصحيحين.
" مسألة " لمن توجه الدعوة ؟
الجواب : تدعو الكافر والمسلم الجاهل والمخطىء والمتأول والمعاند .
" مسألة " هناك فرق بين قوله " الدعوة إليه " ووجوب الدعوة ، فإن معنى الدعوة إليه أي إلى العلم وبثه بين الناس أما وجوب الدعوة مطلقاً فهي تشمل أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والنصح .
قال المصنف " الصبر على الأذى فيه " هذا الواجب الرابع الصبر على الأذى في الدعوة إلى العلم . الصبر لغة : الحبس والمنع . اصطلاحاً : حبس النفس عن التسخط واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود .. وأمثال ذلك .
" فيه " الضمير يعود إلى العلم أي يصبر على ما يواجهه في طلب العلم وما يصيبه من أذى في نشر العلم والعمل به .
" الأذى " الألف واللام للعموم والأذى أنواع :
أذى بدني. 2- أذى مالي . 3- أذى كلامي نفسي ، فيصبر على ما يلقاه.
وأفضل الصبر عند الصدمة الأولى ثم الاستمرار في الصبر حتى ينتهي الحدث.
قال المصنف " والدليل بسم الله الرحمن الرحيم " " والعصر إن الإنسان لفي خسر " . هذا هو الدليل على المسائل الأربع ، وذكر البسملة لأنه ذكر سورة كاملة وحكم البسملة في أوائل السور سنة ما عدا براءة .... وليست آية من السورة وإنما هي منفصلة عنها إلا في سورة النمل والشاهد من السورة ( إلا الذين آمنوا) ، وهو دليل العلم ، لأن الشيء الذي آمنوا به علموه أولا فتكون دلالتها باللازم .(1/22)
" وعملوا الصالحات " دليل العمل . " وتواصوا بالحق " يدل على الدعوة ." وتواصوا بالصبر " . دليل على الصبر على الأذى فيه .
فسورة العصر تدل على الواجبات الأربع . هل هناك تلازم بين المسائل الأربع ؟ أي أن الإنسان لا يدعو بدون علم أو لا يدعو إلا بعد العمل .
التلازم بين العلم والعمل فلا بد منه ، فلا عمل بدون علم ولا علم بدون عمل ، ويدل عليه { غير المغضوب عليهم } علموا ولم يعملوا وهم اليهود {الضالين} عملوا بدو علم وقوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً }.
أما التلازم بين العمل والدعوة فليس هناك تلازم بمعنى إنه لا يدعو إلا ما عمل به ، أو لا يتعلم إلا ما يدعو إليه بل لا يلزم ذلك . بل الإنسان يدعو بالذي عمل به والذي لم يعمل به فلو كان يعلم أن هذا حرام فيجب عليه أن يدعو إلى تركه وإن كان يعمله .
والسبب لأن الذي دعا وقع في الخطيئة وهي عدم العمل بما دعا به وعمل واحدة وهي أنه دعا . وأما الذي لم يدع وقع في خطيئتين لم يعمل ولم يدع .
كلام الشافعي : ثم قال " رحمه الله " إذا قال العلماء فيقال رحمه الله وإذا قيل الصحابة ترضي عنهم والأنبياء صلي عليهم ) وهذا هو المعتاد في الدعاء للعلماء بالرحمة والسابقون يدعى لهم ولا يجزم أنه حصلت لهم الرحمة وإن كان يرجون لهم لكن لا يجزم لهم ، ولم يقل المرحوم لأن المرحوم خبر "ورحمة" دعاء وفرق بينهما
قال الشافعي رحمه الله " لو ما أنزل الله حجة على الخلق " الألف والام في الخلق للعموم تشمل الجن والإنس . " إلا هذه السورة لكفتهم " لأن هذه السورة فيها المسائل الأربع .
ثم ذكر المصنف كلام البخاري . " باب العلم قبل القول والعمل فاعلم أنه لا إله إلا الله ... " كلام البخاري يدل على الترتيب بين المسائل الأربع ، فالعلم أولا ثم العمل ثم الدعوة ثم الصبر.
فصل
اعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة، تعلم هذه المسائل، والعمل بهن .(1/23)
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )
الثانية : أن الله لا يرضي أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ؛ والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )
الثالثة : أن من أطاع الرسول، ووحّد الله ، لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )
الشرح :
قول المصنف : اعلم رحمك الله مرت بنا قبل قليل .
قوله " يجب علينا " هنا ذكر حكم المسائل الثلاث ، سبق تعريف الواجب ، لكن كما قلنا هناك أن الوجوب هنا ليس معناه الوجوب الاصطلاحي بل هذه أصول عظيمة بل وأعظم من الواجبات الاصطلاحية . أ : العلم بان الله خلقنا لطاعته . ب : العلم بان الله لا يرضى الشرك . ج : العلم بعدم موادة الكافر .
وهذه التلات جعلها المصنف من باب العلم والعمل فقال يجب تعلم هذه المسائل، والعمل بهن .
وهذه المسائل الثلاث واجبة على كل مسلم ومسلمة .
تعريف المسلم : من أتى بالشهادتين ومقتضاهما وعمل بذلك ولم يأت بناقض وهو قول وعمل واعتقاد . هل يفهم من كلام المصنف أن الكافر لا تجب على هذه الثلاث المسائل ؟ ليس كذلك بل هي واجبة حتى على الكافر ، لكن تخصيص المسلم هنا لأن الخطاب متوجة إليه .(1/24)
مسألة : هنا في المسائل الثلاث قال على كل مسلم ومسلمة ، فزاد مسلمة ، في حين أنه في المسائل الأربع السابقة لم ينص على كلمة مسلم ومسلمة ، والجواب لأنه قال علينا وهذا يشمل الرجال والنساء .
" تعلم هذه الثلاث المسائل " التعلم هو المعرفة .
" والعمل بهن " الواجب في المسائل الثلاث واجبان : العلم ، والعمل .
المسألة الأولى منها : " إن الله خلقنا لحكمة وهي طاعته وعبادته " ورتب الجزاء على هذه الطاعة وهي الجنة أو النار فمن أطاعه دخل الجنة . والطاعة : الموافقة والتنفيذ للأمر على وجه الاختيار ، وكذلك فعل الأوامر التي يحبها الله على وجه الاختيار .
" دخل الجنة " هل هو دخول كامل أم دخول يسبقه عذاب ؟ على حسب الطاعة فإن كانت طاعته كاملة فدخوله دخولاً كاملا ، يدخل الجنة ولا يعذب ، وإن كانت ناقصة فدخوله ناقص وهو تحت المشيئة فإن شاء الله عذبه وأدخله النار ثم يدخله الجنة .
" من عصاه " المعصية مخالفة الأمر عمداً . قال ابن تيمية في الفتاوى 11 / 674 فالمعصية مخالفة الأمر ومخالف النهي عاص اهـ .
أما مخالفة الأمر في المسائل الخفية متأولا فهو من باب الخطأ ، والمخالفة جهلا فإن كان مثله يجهله فهو خطأ وإلا كان تفريطا .
والعلمانيون عندهم الطاعة هي الموافقة في أشياء مخصوصة في المسجد والأحوال الشخصية فقط لا في الحكم والسياسة والاقتصاد وبقية الحياة فلا .
" دخل النار " هل هو على وجه الخلود أم على وجه التعذيب ثم يخرج ؟ على حسب المعصية ، فإن كانت المعصية فيها شركاً أكبر وكفراً أكبر فهذا يخلد في النار ولا يخرج . وإن كانت المعصية من الكبائر فهذا يدخل النار إذا لم يعف الله عنه ثم يخرج إلا إذا كان شركا أصغر ففيه خلاف والراجح أنه لا يغفر . ثم ذكر المصنف الدليل على ذلك ، وهو قوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )(1/25)
المسألة الثانية : ما هو موضوع هذه المسألة ؟ إن الله سبحانه لا يرضى الشرك ولا يحبه قال المصنف : إن حرف توكيد ونصب ، ولفظ الجلالة ( الله ) اسمها وهو الخالق المعبود ، قوله " لا يرضى " فيه إثبات الرضى لله وأنه يرضى من بعضا الأشياء ويسخط على بعض الأشياء . معنى الرضى : وصف قائم في ذات الله سبحانه وتعالى ينتج عنه الإنعام والعطاء وهي صفة لله متعلقة بالمشيئة .
أما الأشاعرة والمعتزلة فإنهم يقولون الرضا إرادة الإنعام وإرادة الثواب ، ولا يقولون وصف قائم في ذات الله ، والمعتزلة يقولون هو الإنعام ، والسبب لأن الأشاعرة يثبتون صفة الإرادة لله عز وجل ، ولذا قالوا إرادة الإنعام .
قوله : " لا يرضى " أي أن الله لا يرضى الشرك وإنما يسخطه ولا يريده سبحانه وتعالى إرادة شرعية قال تعالى ( ولا يرضى لعباده الكفر ) ، أما الإرادة الكونية فإن الله أراده كوناً فوقع لحكمة أرادها تعالى ، ولم يرده شرعاً .
" أن يشرك " أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أي شركاً . والشرك : بالمعنى العام : أن تجعل لله نداً في الأسماء والصفات أو الربوبية أو الألوهية ، وهذا التعريف يدخل فيه شرك الأسماء والصفات وشرك الربوبية وشرك الألوهية.. وعلى هذا فالشرك ينقسم إلى أقسام :
شرك في الأسماء والصفات : أن تجعل لله نداً فيما يختص به من الأسماء والصفات .
شرك في الربوبية : وهو أن تجعل لله نداً في الخلق والملك والتدبير .
شرك في الألوهية : وهي أن تجعل لله نداً في الدعاء والعبادة ، وبمعنى آخر دعوة غيره معه .
قال المصنف رحمه الله: " إن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد " .
" في عبادته " وهي الذل والخضوع . . هذا تعريفها في اللغة ولذا يقال طريق معبد إذا ذللته الأقدام ومشت عليه .(1/26)
اصطلاحا : العبادة الذل والخضوع لله بالطاعة ، وعرفها ابن تيمية أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، وأحسن ما يقال أن كلا المعنيين صحيح فيقال تعريف العبادة يختلف : فباعتبار المتعبد به ينزل تعريف ابن تيمية ، وباعتبار التعبد هي الذل والخضوع .. والله أعلم .
" لا ملك مقرب ولا نبي مرسل " ضرب المصنف مثالين لبيان أن الله لا يرضى أحداً معه . لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولم يرد المصنف بالمثالين أن يستوعب ، فالله لا يرضى الصالح ولا الطالح ولا الجن ولا غير ذلك .. ومعنى الكلام مادام أنه لا يرضى هذين المقربين فغيرهما من باب أولى .
" ملك " مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة فيكون تعريف الملك وهو المرسل وتعريف الملائكة ( هم جنس خلقهم الله من نور و وكلّ بهم أعمالهم ) .
" مقرب " صفة للملك لأن الملائكة من المقربين باعتبار المكانة ، فإذا كان الملك المقرب لا يرضى الله أن يشرك معه فغيره من باب أولى .
" ولا نبي مرسل " فجعل النبي مرسلاً وهذا أصح أقوال أهل العلم في تعريف النبي أنه مرسل قال تعالى ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) الآية . وقال بعض أهل العلم أن تعريف النبي هو : من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ ، وهذا مخالف لأصل الكتاب والسنة وقد بحثنا هذه المسألة في موضع آخر .(1/27)
وقوله مرسل : أي أرسله الله إلى قوم مؤمنين ويدل عليه من القرآن قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي } الشاهد ولا نبي فجعل النبي مرسلاً ، وقوله } وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } فأصبح النبي مبعوثاً أي مرسلاً . وحديث جابر المتفق عليه " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي...كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة .." والفرق بين النبي والرسول أن النبي : أرسل إلى المؤمنين يجدد رسالة الرسول الذي قبله . والرسول : أرسل إلى الكفار بشريعة جديدة ، والشاهد قوله كل نبي بعث إلى قومه مما يدل على أن النبي مبعوث ومرسل لكن إلى قومه .
والدليل على أن الله لا يرضى الشرك قال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا } . المساجد : جمع مسجد ويقصد به السجود أي السجود يكون لله تعالى ، أو أعضاء السجود . لله : اللام للاستحقاق ومعنى الله هنا المعبود الخالق . ولا ناهية والنهي يقتضي التحريم وهو موضع الشاهد . تدعوا : نهى الله عن الشرك والشيء المحرم لا يحبه الله ولا يرضاه . تدعو أعم من قولنا تعبد فمنع الدعاء لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين : 1- دعاء عبادة . 2- دعاء مسألة .
دعاء العبادة : أن تصلى وتصوم .. الخ . والصلاة لو سألت لماذا تصلى لقال لكي يغفر الله لي .. إذاً هي دعاء الله المغفرة ، كأنك قلت اللهم اغفر لي فهي دعاء عملي .
دعاء المسألة المصدر بياء النداء المقتضية للطلب مثل يالله وفقني . كلاهما محرم صرفه لغير الله وهو شرك أكبر بمعنى يدعو بالشفاعة له من غير الله وصاحبه مرتد.
المسألة الثالثة : " إن من أطاع الله ووحده لا يجوز له موالاة " .وعنوان هذه المسألة أن الموحد لا يوالي أعداء الله .(1/28)
" إن من أطاع الرسول ووحد الله " إن حرف توكيد ونصب .. من شرطية باعتبار المعنى يفيد العموم . أطاع : الطاعة الموافقة على وجه الاختيار ، ضدها المعصية ، وهي : مخالفة الأوامر متعمداً . وقوله ووحد الله أي أفرده بالعبادة وقوله لا يجوز ، أي لا يباح له موالاة من حاد الله .
والموالاة : بمعنى المحبة والنصرة والمتابعة والموافقة ، وهذه ذكرها بن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث الجزء الخامس ، عند كلمة " ولي " وأشار إليها ابن منظور في لسان العرب .
حكم (موالاة من حاد الله ورسوله ) .
من : موصولة بمعنى الذي ومعنى حاد أي جانب وخالف ، فالمحاد المخالف لله ورسوله ، فالله ورسوله في جانب وهو في جانب ، آخر وأصناف المحادين هم :
الكافر . 2- المنافق نفاقاً اعتقادياً ، 3 ـ المرتد .
أما المسلم العاصي فليس محاداً لله وإنما معه أصل محبة الله وهو في جانب الله ورسوله ، ولم يخالف كليا وإنما عنده شيء من المخالفة .
" مسألة " ما حكم موالاة من حادة الله ورسوله ؟ فيه تفصيل حسب أقسام الموالاة أحياناً تكون كفراً مخرجاً من الدين وأحياناُ من كبائر الذنوب .
ونقل عن ابن باز رحمه الله الإجماع في فتاويه ، قال : أجمع العلماء بأن من ساعد الكفار بأي نوع من أنواع المساعدة فهو يكفر اهـ ومنه لو مكن لهم أن يستخدموا أرضه لضرب المسلمين فهذا يكفر .
والموالاة تنقسم إلى قسمين :
موالاة كبرى وتسمى الموالاة المطلقة والعظمى وتسمى التولي والمظاهرة ، وهذه مخرجة من الدين إذا وجدت في مؤمن خرج من الدين وهي أربعة أنواع .(1/29)
1 ـ محبة الكفار لدينهم ، اللام تعليلية فأحبهم لأجل دينهم مثل محبة الهندوس والرافضة وغير ذلك فهو أحب دينهم ودليله حديث أبي مالك الأشجعي رواه مسلم : [ من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى ] الشاهد : " وكفر بما يعبد " فهو شرط أن يكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ، هذا أول الأقسام في الكفر وهي محبة الكفار من أجل دينهم فالنتيجة أنه أحب دينهم ومن أحب دين الكفر فهو كافر مثل من يحب العلمانيين لأنهم على العلمانية ويحب الديمقراطيين من أجل الديمقراطية ويحب البرلمانيين من أجل أنهم برلمانيون ويحب القوميين من أجل القومية فهذا وآلاء الكفار ويعتبر كافرا مثلهم . ويدل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } .
2 ـ أن ينصر ويساعد الكفار على المسلمين كالذي يعين اليهود على المسلمين في فلسطين ، أو يعين الأمريكيين على المسلمين في أفغانستان وأمثال ذلك ، ويدل عليه الآية السابقة وهؤلاء ساعدوهم بالمال والعتاد والدعم ، والمساعدة : اسم جامع شامل لمساعدة في الجاه والمال وكونه جنديا معهم وغيرها .
3/ 4 ـ موالاة الموافقة والمتابعة : ومعناها أن يتابعهم على كفرهم وأن يوافقهم على كفرهم ومنها أيضاً أن يمدح مذهبهم أو يصحح مذهبهم . مثل : كأن يحتاج إلى مساعدة الكفار فيثني عليهم مثلاً إذا كانوا شيوعيين أو يريد أن يجامل الغرب فيثني على الديمقراطية فهذه تعتبر موالاة مكفرة وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته أرسلها إلى أحد علماء بلدة ثرمدا قال فيها : لو أن أحدا في بلاد المغرب (أي يقصد المسلمين) ظلمه السلطان (ويقصد بذلك الدولة العثمانية) فقام أهل المغرب واستنجدوا بالإفرنج وقال الإفرنج لا نساعدكم حتى تمدحوا ديننا فقام ومدحهم فقد كفر(1/30)
(مع أنهم لم يطلبوا من أهل المغرب ترك الإسلام ومع أن أهل المغرب مظلومين ومع ذلك كفروا بهذا المذهب ) .
والكفر هنا يسمى كفر التولي وقد ألف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كتاب اسمه (الدلائل) وموضوعه عن الموالاة وهو موجود في مجموعة التوحيد ألفه الشيخ لمّا قام بعض الأعراب من سكان نجد يساعدون الحملة المصرية لمّا جاءت لمحاربة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأهلها فساعدتها بعض القرى فكفر الشيخ هؤلاء الذين ساعدوهم وكان كفرهم كفر تولي ومساعدة وموافقة .
وبعد مدة ألف الشيخ حمد بن عتيق : رسالة اسمها : الفكاك وهي موجودة مجموعة التوحيد تتكلم عن الموالاة ومظاهرة المشركين ألفها لما جاء الأتراك يريدون الاستيلاء على الأحساء فساعدهم بعض الناس وكانت الدولة العثمانية في عصر تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا يطلقون عليها الكفر بسبب تشجيعها لعبادة القبور وتبنيها عبادة القبور ووجود الأنظمة القانونية فيها فكفر الشيخ حمد من ساعد الأتراك أو ظاهرهم أو أعانهم أو وافقهم .
الموالاة الصغرى ، لا لأنها من الصغائر لكن للتفريق بينها وبين الكبرى وهي من باب التعريف لأن كل شيء له أكبر فله أصغر ولا يفهم منها أنها ليست ذنبا.
ضابط الموالاة الصغرى : كل ما يؤدي إلى توقير الكفار واحترامهم وتعظيمهم بشرط بغضهم ومعاداتهم وتكفيرهم وعدم توليهم .
مسألة : أمثله للموالاة الصغرى : منها : 1- تصديرهم المجالس . 2- إكرامهم . 3- توليتهم على المسلمين وجعلهم رؤساء ورفعهم على المسلمين . 4- زيارتهم زيارة أنس . 5 ـ اتخاذهم عمالاً وسائقين وخدم في البيوت لاسيما في جزيرة العرب . 6- إفساح الطريق لهم . 7- بداءتهم بالسلام والتحية . 8- تهنئتهم بأفراحهم ، والمقصود بالأفراح الدنيوية، أما أفراحهم الدينية فهذه من الكفر لأنها تدل على رضائك بدينهم .(1/31)
وهذه بعض أنواع الموالاة الصغرى . حكمها أنه قد أتى صاحبها بكبيرة من كبائر الذنوب ، والدليل على ذلك ( إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي موسى الأشعري لما جعل له كاتبا نصرانياً وتلا عمر على أبي موسى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) .
يستثنى من الأمور السابقة :
أن تزورهم أو تهدي إليهم من أجل دعوتهم والدليل ما جاء في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار عمه أبا طالب هذه الزيارة دعوة إلى التوحيد ولا مانع من ذلك ، وزار عليه الصلاة والسلام ابن اليهودي " فأسلم " رواه أحمد.
ويجوز في حالة الضرورة فإذا اضطر المسلمون إلى استقدام عمال كفار وليس هناك مسلم يقوم بهذا العمل جاز ، أما السلام فلا يجوز أن تبدأهم من أجل الدعوة .. والدليل قوله " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " ويجوز الرد ومثله المصافحة .
ويجوز أن يقول ( السلام على من اتبع الهدى ) هذه جائزة الابتداء بها جاءت في قصة موسى عليه السلام كما قال لفرعون ( والسلام على من اتبع الهدى ) وكذلك .
أما لو سلم العلماني أو النصراني فلك أن ترد بقولك عليكم ، آما الابتداء فممنوع والمصافحة مثل الابتداء بالسلام والمصافحة سلام عملي فلا تبتدئه لكن لو صافحك فلك أن ترد أما إذا كان هناك كافر مختلط بمسلمين فلك الابتداء وتقصد المسلمين .
قال المصنف " ولو كان أقرب قريب " وذكر الدليل وهو يصلح للموالاتين وهو قوله تعالى : { لا تجد قوماً .... } .
مسألة : حكم إقامة الكفار في جزيرة العرب :(1/32)
لا يجوز ويحرم إقامة الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى مالك في الموطأ في باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة قال عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب وعن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب قال مالك قال بن شهاب ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) وعند البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) وعن جابر بن عبد الله قال أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما رواه مسلم . فيجب إخراجهم وهو عام في جميع الكفار .
حكم تأجير البيوت لهم ؟ لا يجوز لأنه إعانة لهم على البقاء { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
بقي مسألة الرافضة ؟ هي كذلك لأن الرفض دين وملة أخرى غير دين الإسلام فيدخل في عموم الأحاديث السابقة سواء قلنا هم مرتدون أم كفار أصليون فلا فرق في ذلك بل إما الإسلام أو القتل لا غير .
ومثل ذلك الأديان الأخرى في جزيرة العرب كالعلمانيين والحداثيين والعصرانيين والشيوعيين والقوميين .
فصل
قال المصنف : اعلم أرشدك الله لطاعته : أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) ومعنى يعبدون : يوحدون وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو : دعوة غيره معه ؛ والدليل قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)(1/33)
الشرح :
" مسألة " لماذا قال ملة إبراهيم والأنبياء كلهم يعبدون الله على ملة واحدة ؟ إن سبب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى طوائف كلها تدعى أنها على ملة إبراهيم .
كلها تنتسب إلى إبراهيم فقريش تقول أنا على ملة إبراهيم ويقولون أنهم أولى به واليهود جاء إليهم هم والنصارى وهم يدعون أنهم على ملة إبراهيم وهو أبوهم . فجاء البيان لتحديد ما هي ملة إبراهيم ومن أولى الناس به وهو من كان على التوحيد وعدم الشرك
قال المصنف " إعلم أرشدك الله لطاعته " يؤتى بها للاهتمام بما بعدها وتعريف العلم سبق وضده الجهل ، وينقسم إلى قسمين :
1- جهل بسيط . 2- جهل مركب . " الطاعة " سبق تعريفها . " الحنيفية " قال ابن الأثير في النهاية . الحنيف المائل وأصله مأخوذ من الحنف وهو الميل ومنه رجل أحنف أي مائل قدمه إهـ وعلى ذلك فالحنيف وهو المائل إلى التوحيد مع الثبات عليه فهو ميل خالص مع الثبات .
قال المصنف " ملة إبراهيم " تعريف الملة مأخوذة من الملل وهو التكرار والمعاودة فيقال : طريق مليل إذا تكرر سلوكه ومنه الملل وهو تكرار الشيء على النفس هذا لغة . اصطلاحا : ما تكرر فعله مما شرعه الله على لسان رسوله . من العقائد والأحكام . وهنا ما تكرر من إبراهيم من إظهار التوحيد والكفر بالطاغوت وأهله .
قوله " ملة إبراهيم " إضافة بتقدير اللام " ملة لإبراهيم " واللام تفيد الاختصاص ، "إبراهيم" وهو رسول من أولي العزم من الرسل وهو خليل الله عليه الصلاة والسلام . ولم يذكر المصنف الصلاة والسلام عليه لأنها مستحبة وليست واجبة . ثم قال : " أن تعبد الله مخلصا له الدين " فملة إبراهيم عليه السلام هي عبادة الله مع الإخلاص ، ومعنى تعبد الله أي تذل وتخضع لله بالطاعة .
" أن تعبد الله مخلصاً له الدين " بدون شرك فمن لم يعبد الله فليس على ملة إبراهيم ومن عبده وأتى بشرك فليس على ملة إبراهيم .(1/34)
" مخلصاً (1) " أي حال قيامك بالعبادة ، تعبد الله حالة كونك مخلصاً ، معنى الإخلاص قال في غريب القرآن : الخالص الصافي وهو ما زال عنه الشوائب .
" له " اللام للاستحقاق .. والهاء يعود على الله . والدين يطلق على الاعتقاد والعمل والقول ، وضد ملة إبراهيم ملة الشيطان وهي مبينة على شيئين :
عدم عبادة الله وهو ما يسمى بالكفر والشرك ، ويقابلها في ملة إبراهيم عبادة الله .
عبادة غيره معه ، وهو عدم الإخلاص ويقابله في ملة إبراهيم مخلصاً له الدين .
" عبادة غيره معه " كالذبح لغير الله والنذر والاستعانة والاستعاذة بالمخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله .
" مسألة " ومما ينافي الإخلاص(2) : الرياء والعمل لأجل الدنيا وبقية العبادات تأتي في باب مستقل .
" مسألة " مبحث في الرياء مصدر رأى يرائي وهو مشتق من الرؤية ، واصطلاحاً : هو عمل الصالحات يريد مدح الناس وثناءهم ومنه ما يسمى بالسمعة لكن السمعة مختصة بالمسموعات كتحسين القراءة أو يصلى لكي يمدحه الناس .
" مسألة " حكم الرياء : يختلف حكمه باختلاف أقسامه ، ولذا فهو على أقسام :
أولاً : ما يكون شركاً أكبر وهو أنواع :
أ ـ يدخل في الدين رياءا وهو أساس دخوله في هذا الدين ، وهذا الرياء الأكبر وهو مخرج من الملة ، قال تعالى ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) .
__________
(1) - ذكر هنا بعض الإخلاص والإخلاص : اسم جامع يشمل بقية شروط لا إله إلا الله أي يشمل ( الصدق والانقياد والقنوت ويكون في القلب وهو استسلام القلب والانقياد واستسلام الجوارح ويشمل المحبة والكفر بالطاغوت فليس مخلصاً لملة إبراهيم ، * باقي شرط العلم وهو داخل في قوله : [ أن تعبد .. ] .
(2) - له معنيان عام وهنا خاص وهو أن يعمل العمل بنية وجه الله وحده .(1/35)
ب ـ أن يرائي في الأعمال التي تركها كفر كمن راءى في صلاة الفريضة كمن صلى الظهر مرائياً قال تعالى ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ) ، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم في أول حديث : وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام اهـ . وهذه المسألة بحثناها بحثا موسعا في كتاب الوسيط في شرح أول رسالة في مجموعة التوحيد .
ج ـ أن يكون الغالب على أعماله من حيث الكمية الرياء فيكون بهذا كفر مخرج من الدين وشرك أكبر ، وهذا غالباً لا يصدر إلا عن منافق أو علماني ، قال تعالى ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ). وقال تعالى ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ) .
ومن القضايا المعاصرة ما يفعله الحكام المبدلون من إظهار الشعائر الدينية من أجل مقاصد سياسية أو ما يفعلونه هم والعلمانيون من التدين تكتيكا أو مناورة من أجل مصالح انتخابية . وكذلك كل من أظهر الإسلام المزيف الإسلام الأمريكي أو الإسلام المخصب .
ثانياُ : ما كان شركاً أصغر وهو أنواع :
أ ـ أن يكون العمل معيناً عمله رياءا بشرط أن لا يكون هذا العمل مما تركه كفر ، كمن راءى في النوافل المعينة .
ب ـ ما يسمى بالرياء الطارئ ، وهو أن يبتدئ العمل المعين لله ثم يطرأ عليه الرياء فهذا على حالتين :
- أن يدافعه الشخص ولا يركن إليه ، فهذا لا يضره كما قال عليه الصلاة والسلام : [ إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ] ، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم في أول حديث الإجماع على أنه إذا لم يسترسل معه فلا يضره .(1/36)
- أن يسترسل معه ، فهذا ذكر ابن رجب الخلاف فيه فقال : وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره فإن كان خاطرا ودفعة فلا يضره بغير خلاف فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولي وهو مروي عن الحسن البصري وغيره ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل فمنهم من يقاتل للدنيا ومنهم من يقاتل نجدة ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله فأيهم الشهيد ؟ قال كلهم ) إذا كان أصل أمره أن تكون كملة الله العليا .
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال ربما أحدث بحديث ولي فيه نية فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات ولا يرد على هذا الجهاد كما في مرسل عطاء الخراساني فإن الجهاد يلزم بحضور الصف ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج اهـ المقصود .
والصحيح الحبوط بالرياء الطارئ إذا استرسل معه كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة : [ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ] رواه مسلم .
" مسألة " لو طرأ عليه الرياء بعد العمل لا يضر لأنه بعد انتهاء العمل ، فالرياء ما كان في العمل أو قبله يدل عليه مفهوم حديث أبي هريرة : [ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ... ] فيه خرج بعده ما لم يكن يحدّث فيه لأجل أن يمدح فيكون سمعة(1/37)
" مسألة " مدح الناس وثناؤهم عليه ليس من الرياء ، لما جاء في الصحيح في الرجل يعمل العمل فيمدحه الناس قال : [ تلك عاجل بشرى المؤمن ] . قال ابن رجب في جامع العلوم : فأما إذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بفضل ورحمة واستبشر بذلك لم يضره ذلك وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال ( تلك عاجل بشرى المؤمن ) خرجه مسلم وخرجه ابن ماجه وعنده الرجل يعمل العمل فيحبه الناس عليه ولهذا المعنى فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وابن جرير الطبري وغيرهم وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يعمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه فقال ( له أجران أجر السر وأجر العلانية ) اهـ .
" مسألة " لو عمل العمل ليس من عادته ولكن ليقتدي به الآخرون كاعتناء العالم ببعض السنن ليحث الناس فهذا ليس من الرياء لما جاء في حديث سهل المتفق عليه : [ أن النبي صلى الله عليه وسلم علي المنبر قال : فعلت هذا لتأتموا بي ] . قال ابن رجب في الجامع : ولو شرك بين نية الوضوء وبين قصد التبرد أو إزالة النجاسة أو الوسخ أجزأه في المنصوص عن الشافعي وهذا قول أكثر أصحاب أحمد لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس وكذلك الحج كما قال خذوا عني مناسككم اهـ .
" مسألة " لو ترك العمل لأجل الناس هل هو من الرياء والمقصود بالعمل أي العمل الذي اعتاده – كصوم الاثنين والخميس – أو حسّن القراءة في صلاته – ثم تركه من أجل الناس ؟ قولان لأهل العلم :(1/38)
القول الأول : فيه تفصيل إن كان العمل المتروك واجباً فهذا من الرياء لأن ترك الواجب معصية وإن كان من السنن والتطوعات فلا ، قالوا ومثله لو ترك المعصية خشية الناس قال ابن رجب في الجامع : فأما إن هم بمعصية ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل أنه يعاقب على تركها بهذه النية لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك وقد خرج أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس قال يا صاحب الذنب لا تأمنن من مدقق سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته وذكر كلاما وقال خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا فعلته وقال الفضيل بن عياض كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء والعمل لهم شرك اهـ .
القول الثاني : إنه رياء كما قال الفضيل بن عياض كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء والعمل لهم شرك اهـ والشاهد العمل فهي للعموم تشمل العمل الواجب أو المستحب ، والذي تميل إليه النفس الثاني وأنه من الشرك بل يجب علي الإنسان أن يكون طبيعياً فيعمل أعماله لنفسه لا يعمل ولا يترك من أجل الناس فهاتان سيئتان .(1/39)
" مسألة " إذا كان إنسان لم يعتد العمل الصالح ولكن حضره ناس اعتادوا الصيام فصام معهم هذا ليس من الرياء لحديث حنظلة الأسيدي قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات رواه مسلم وهذا يُعدّ من النشاط .
" مسائل العمل لأجل الدنيا " تعريفه : أن يعمل العمل الصالح يريد الدنيا والمال والمنصب وهكذا ( والمرائي يريد أن يمدح ) وكلاهم يعمل صالحاً وحكمه ينقسم باعتبار أقسامه إلى :
أ ـ ما كان شركاً أكبر وهو أن يدخل في الدين من أجل الدنيا.
ب ـ أن يعمل العمل الذي تركه كفر من أجل الدنيا كن صلى من أجل الدنيا فحكمه أنه شرك أكبر ، مثلاً : يصلى لأن المدير يأمره بالصلاة ولو لم يصلى فسيفصله ، فهو كافر .
ج ـ أن يكون الغالب على أعماله إرادة المصالح الدنيوية ، فهذا شرك أكبر ، أما الذي هو شرك أصغر فهو أن يعمل المعين أو بعض الأعمال الصغيرة يريد الدنيا .
وكل الأقسام التي ذكرنا هنا هي نفس أقسام الرياء السابقة .(1/40)
" مسألة " أمثلة للعمل من أجل الدنيا كالذي يجاهد لأجل الدنيا فقط ( فهذا شرك أصغر ) وكالذي يهاجر من أجل الدنيا فقط ، وكالأذان من أجل الراتب وقراءة القرآن من أجل المال فقط ، وكصلة الرحم يريد كثرة المال فقط ، وكالدراسة في كلية الشريعة ونحوها يريد المال فقط .
كلمة " فقط " مهمة أتينا بها بعد كل مثال ، فهناك فرق .. مثلاً :
1- من جاهد يريد الآخرة فقط .
2- من جاهد يريد الدنيا فقط هذا يقابل الأول . وهذا ليس له مقصد الدين وإنما يريد الدنيا والمغنم .
3- بينهما وهو الذي يريد الدنيا ويريد الآخرة : والحكم للغالب منهما فإذا كان 70% يريد الآخرة لكن 30% يريد مثلاً الغنيمة فالحكم أنه ليس من الشرك الأصغر وهذا جائز ولا يقال محرم لكن ينقص أجره عمن لم يرد ذلك ، والدليل : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } فنفا عنهم الحرج أن يتكسبوا في الحج ولو كان بالعكس الغالب عليه الدنيا فهذا من الشرك الأصغر .
4- لو تساوى : هذا من الشرك الأصغر . لعموم حديث ( أجعلتني لله ندا ) وهنا جعل الدنيا مساوية لله .
هذا ما ترجح لنا ، لكن ابن رجب رحمه الله له اختيار آخر فقد قال في جامع العلوم والحكم : فإن خالط نيته الجهاد مثل نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم )(1/41)
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا وقال الإمام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئا أخذه وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال إذا ( جمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وأما إن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن منع درهما مكث فلا خير في ذلك ) ، وكذا قال الأوزاعي ( إذا كانت نية الغازي على الغزو فلا أرى بأسا)
وهكذا يقال فيمن أخذ شيئا في الحج ليحج به إما عن نفسه أو عن غيره وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء ) وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب اهـ المقصود والله اعلم .
" مسألة " لماذا ذكرنا كلمة " فقط " في المسائل السابقة ؟ لأنه إذا أراد وجه الله مع الدنيا فهذا يختلف الحكم أما الأمثلة السابقة فهي إرادة دنيا فقط أما من أرادهما معاً فسبق تفصيله .
فصل
وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) ومعنى يعبدون : يوحدون وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو : دعوة غيره معه ؛ والدليل قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) .
الشرح :
قال المصنف " وبذلك أمر الله جميع الناس " أي مسلمهم وكافرهم ولو عبر بالخلق لكان أحسن حتى يدخل الجن ويدخل الملائكة .(1/42)
" وخلقهم لها " اللام للتعليل فعلّة الخلق عبادة الله مع الإخلاص ثم ذكر الدليل على ذلك { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال ومعنى يعبدون : يوحدون . وهذا مروي عن ابن عباس " وهذا تفسير الشيء ببعض أفراده " وإلاّ فالعبادة أعم وهو الذل والخضوع لله بالتوحيد وبغير التوحيد كالصلاة ونحو ذلك .
قال المصنف " أعظم ما أمر الله به التوحيد فأعظم المأمورات . " التوحيد " الألف واللام للعهد الذكرى أي توحيد الألوهية لأنه فسره " بإفراد الله بالعبادة " ثم فسر المصنف توحيد العبادة فقال هو إفراد الله بالعبادة وكلمة إفراد كلمة مهمة وهي تتضمن " إثبات العبادة لله ونفيها عما سواه " ثم ذلك أعظم ما نهي الله عنه يدل على عظم هذا المسألة فلا يجوز جهلها ولا يُعذر أحد بالجهل اذا عمل الشرك المنهي عنه بل يلحقه اسم الشرك ولو كان جاهلا قال ابن تيمية في الفتاوى 20 / 38 اسم المشرك ثبت قبل الرسالة لأنه يشرك بربه ويعدل به ) ومن جهل هذه الأمور العظيمة وهو يعيش بين المسلمين فلا تقبل دعوى جهله وإنما هو مشرك كافر خارج عن الملة .
ومن أراد بسط هذه المسألة فليرجع إلى رسالة المتممة لكلام أئمة الدعوة في الجهل في الشرك الأكبر وكتاب الحقائق وباب الخوف من الشرك من كتاب الجمع والتجريد في شرح كتاب التوحيد الجزء الأول والله الميسر .
ثم عرف المصنف الشرك : فاللام والألف ليست للعموم إنما أراد الشرك الأكبر في الألوهية لأنه عرف الشرك الأكبر فخرج به الأصغر ، فالشرك الأصغر عظيم ، لكن الشرك الأكبر أعظم منه .
قال " هو دعوة غيره معه " دعوة وهذا يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة . وإذا قارنّا بين التعريفين ، فقال التوحيد إفراد الله بالعبادة والشرك دعوة غيره معه دلّ أنه يريد بدعوة أي عبادة غيره معه .(1/43)
أما النصوص في تعريف الشرك في الألوهية فهي : قال تعالى ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) وقال تعالى ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله وأحد فإياي فرهبون ) وقال تعالى ( يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) وقال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) وقال تعالى ( ألم ترى إلي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلي الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) وعن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه مرفوعاً ] أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك [ متفق عليه وعن أبي بكر رضى الله عنه ] قلنا يا رسول الله وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو دعي مع الله [ رواه أبو يعلى وفيه ضعف وروي البخاري معلقاً وقال ابن عباس ] كباسط كفيه مثل المشرك الذي عبد مع الله إلهاً غيره كمثل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر اهـ .
ثم ذكر المصنف الدليل على المسألتين وهو أن أعظم ما أمر الله به التوحيد وأعظم ما نهى الله عنه الشرك . " اعبدوا الله " أمر الله بالتوحيد وهو أول أمر وأعظم أمر . " ولا تشركوا به شيئاً " لا : ناهية ، فأعظم ما نهى الله عنه الشرك .
فصل
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه، ودينه ،ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم
الشرح :
قال المصنف " فإذا قيل لك ما لأصول الثلاثة التي يجب .. "
انتهى المصنف من المقدمة وبدأ بصلب الموضوع وهو الحديث عن الأصول الثلاثة ، وهي التي ألف المصنف الكتاب من أجل توضيحها .
" فإذا قيل لك " أخفى المصنف من هو القائل لسببين :
1 ـ لأن المقصود الأساسي الجواب . 2- لإن الجواب لا يختلف لو عُرف السائل لذا لا أهمية لمعرفة من السائل .
قال المصنف " فإذا قيل لك ، أي إذا سألك سائل وهذه الأصول الثلاثة هي التي يُسأل عنها في القبر .(1/44)
ما هي الأصول الثلاثة ؟ الأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره وسُمّى الكتاب بذلك لأن هذه الأصول هي التي يُبنى عليها الدين .
قال المصنف " التي يجب على الإنسان معرفتها " بين حكم معرفتها أنه واجب ، وسبق أن عرفنا الواجب . وهو لغة الشيء الساقط : { فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ... } أي سقطت . لكن المقصود بالوجوب هنا ليس الواجب الاصطلاحي بل الأمر الحتم الذي هو فرض عين متحتم .
قال المصنف " على الإنسان " ذكر هنا على من تجب والألف واللام في الإنسان للعموم ، فتشمل المسلم والكفار أيضاً ، لأنه مخاطب بالشريعة فيجب عليه ما يجب على المسلم ويحرم عليه ما يحرم على المسلم . ولا يمكن أن يُسمى مسلماً إلاّ بهذه الأصول ، وإذا تخلف أصل من هذه الأصول الثلاثة فليس بمسلم بل خارج عن الملة
وهل قوله الإنسان أخرج الجن ؟ لا ليس هذا بمقصود بل حتى الجن يجب عليهم ذلك لقوله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )
قال المصنف " معرفتها " بأمرين بالعلم ولا بد من العمل . وسكت المصنف عن وسيلة معرفتها فقد تكون بالسؤال أو القراءة أو السماع أو المجالسة ، وبعضها يعرف بالفطرة وبعضها بالعقل .
قال المصنف " فقل " معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فاستخدم المصنف أسلوب الإجمال والتفصيل . وقال " فقل جازماً " لأن الواجب في العقائد الجزم ولكن هل يجوز التقليد في العقائد مرّ بحث هذه المسألة في أول الكتاب .
فصل
فإذا قيل لك : من ربك : فقل ربي الله الذي رباني، ورب جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) وكل ما سوى الله عالم . وأن واحد من ذلك العالم .(1/45)
وإذا قيل لك : بم عرفت ربك ؟ فقل : أعرفه بآياته ومخلوقاته ؛ ومن آياته : الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومن مخلوقاته : السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ؛ والدليل قوله تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وقوله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) . والرب، هو : المعبود، والدليل قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) إلى قوله تعالى : ( فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون ) قال ابن كثير رحمه الله تعالى : الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة .
الشرح :
قال المصنف : فإذا قيل لك : من ربك : فقل ربي الله الذي رباني، ورب جميع العالمين بنعمه وهو معبودي، ليس لي معبود سواه ) قال ابن الأثير في غريب الحديث (2/179) : والرب في اللغة يطلق على الحفظ والرعاية وعلى الخالق المربي ، والرب يطلق على المالك والسيد والمدبر والقيم والمنعم إ.هـ. والمصنف فسر الرب هنا بكلمتين " الخالق والمعبود " وهذا تعريف الرب عند الإطلاق فإنه يدخل فيه معنى الألوهية ، وهذا بإجماع السلف .
كما أن كلمة الله عند الإطلاق : معناه الخالق المعبود أما عند الاقتران فتتضمن قاعدة ( إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ) إي إذا قيل لك من ربك فهو يعنى الخالق المعبود وكذلك الله إذا مرت عليك وحدها ،لكن لو اجتمعا في سياق واحد ( الله والرب ) فهناك يختلف فتعرف الرب بالخالق والله بالمعبود ، فعند الافتراق يتسع ، يضيق عند الاجتماع .(1/46)
أما أهل البدع فالرب عندهم هو نفس معنى ( الله ) ولا فرق بينهما عند اجتماع ولا افتراق فالمعنى واحد واللفظ مختلف ، وقد رددنا عليهم في كتاب الوسيط في شرح أول رسالة في مجموعة التوحيد .
قال المصنف : " وهو معبودي " أي من أذل وأخضع له بالطاعات .
قول المصنف " ليس لي معبود سواه " ليس : نفي ، وسواه : إثبات ، فجمع بين النفي الإثبات ، والدليل قوله تعالى : " الحمد لله رب العالمين " " وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم " . فالوجود قسمان : رب ومربوب ، فالرب هو الخالق المعبود والمربوب : العالم كل ما سوى الله ، ويلاحظ أن المصنف استخدم طريقة السؤال والجواب وهذا الأسلوب استخدمه في الأصل الأول فقط .
قال المصنف " فإذا قيل لك بما عرفت ربك " طرح هنا سؤال ، والجواب : حتى تعرف ربك بالأدلة ويكون إيمانك مبنياُ على الاستدلال لأنه أقوى وأفضل ومعناه ما هي الوسائل التي عرفت بها الله ؟ " فقل عرفته بآياته ومخلوقاته " والأدلة في معرفة الرب وأنه الخالق المعبود ثلاثة :
1- دليل فطري . 2- دليل عقلي . 3 – دليل نقلي .
واختار المصنف الدليل العقلي الذي دلّ علي معرفة الرب فقال "بآياته ومخلوقاته" وليس هو دليل عقلي صرف بل عضده بآيات من القرآن ، فمعرفته من الجهة العقلية بآياته و مخلوقاته وهو ما يسمى بدليل الأثر أو دليل حدوث العالم . وخلاصة هذا الدليل أنه لا بد لكل محدَث من محدِث ولا بد لهذا الوجود من موجد سابق عليه فهذه الآيات والمخلوقات حادثة ولا يمكن أن تكون جاءت من نفسها أو صدفة بل لا بد لها من محدث وهو الله تعالى ، وليس المقصود فقط إثبات وجود الله وأنه الخالق فهذه ربوبية يُقر بها حتى الكفار لكن المراد الربوبية والألوهية ، ثم عظم هذه الآيات يدل على عظم خالقها ، وحسن هذه الآيات وإتقانها يدل على علم وحكمة من خلقها .(1/47)
هذا الدليل العقلي : وقد بسَّطه المؤلف بهذا التبسيط وهو دليل محكم ولذا قال الأعرابي " الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير .. " ألا يدل هذا الكون على الخالق .
الدليل الثاني الفطري : وهو ما يجده كل مخلوق في نفسه من الاعتراف بالله وبأنه الخالق المعبود وهو مركوز في كل الفطر قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها } . وفي الحديث : [ كل مولود يولد على الفطرة .. ] متفق عليه ، أي يعرف أنه خالق واحد معبود .
أما أهل البدع فعندهم أدلة أخرى فلسفية لثبات وجود الله فقط لا أنه المعبود منها ما يُسمى بدليل الأعراض والأجسام .
الدليل الثالث النقلي : وهذه كثيرة في القرآن والسنة التي تدل على أنه الله الخالق المعبود .
قال المصنف " بآياته ومخلوقاته " فرق المصنف بين الآيات والمخلوقات فعطف المخلوقات على الآيات . والقاعدة أن العطف يقتضي المغايرة فالآيات غير المخلوقات والمصنف اتبع النصوص في التسمية ، ففي الآية الثانية سُميت السماوات وما عطف عليها مخلوقات فتقيد المصنف بألفاظ القرآن وإلاّ فالمخلوقات التي ذكر المصنف هي آيات لذا جمعها الله في قوله : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار الآيات لأولي الألباب ) والآيات لتي ذكر المصنف أربع : الليل والنهار والشمس والقمر ، والمخلوقات لتي ذكر المصنف هي السماوات السبع والأراضون السبع وما فيهن وما بينهما .
ثم ذكر دليلين { ومن ءاياته الليل والنهار .. } الآية ، وجه الدلالة : استدل بهذه الآيات على أنه مستحق للعبادة قوله ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون )، وأيضاً عرَف الله بها.(1/48)
الدليل الثاني هو الآية الثانية : { إن ربكم الله الذي خلق ... } الآية وجه الدلالة : استدل بهذه الآيات على أنه مستحق للعبادة قوله له الخلق والأمر، والأمر أي التشريع والتحليل والتحريم والعبادة وفق أمره تعالى لا شريك له .
قال المصنف والرب هو " المعبود " من معاني الرب أنه المعبود و الدليل { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } فأصبح ربنا معبوداً ، إلى أن قال ( فلا تجعلوا لله أندادا ) أي اعبدوه لوحده لا شريك له .
قال المصنف " قال ابن كثير الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة " وهذا زيادة تدليل .
فصل
وأنواع العبادة التي أمر الله بها، مثل : الإسلام، والإيمان الإحسان ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة،، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها، والدليل قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )
فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله، فهو مشرك كافر ؛ والدليل قوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ).(1/49)
وفي الحديث : " الدعاء مخ العبادة " والدليل قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) ودليل الخوف قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافون وخافون إن كنتم مؤمنين ) ودليل الرجاء قوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) ودليل التوكل قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) وقوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) ودليل الخشية قوله تعالى : ( فلا تخشوهم واخشوني ) ودليل الإنابة قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) ودليل الاستعانة قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وفي الحديث :" إذا استعنت فاستعن بالله " ودليل الاستعاذة قوله تعالى ( قل أعوذ برب الفلق )، ( قل أعوذ برب الناس )، ( ودليل الاستغاثة قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) .
ودليل الذبح قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له ) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من ذبح لغير الله " ودليل النذر قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) .
الشرح :
لماذا المصنف هنا ذكر أنواع العبادات في هذا الأصل الأول ( معرفة الله تعالى ) ؟ وما هو الرابط ؟
فيه عدة احتمالات : أ ـ لأنه لما ذكر انه تعالى المعبود لذا ذكر العبادات التي يُعبد بها، وذكر أنواع العبادات التي تفعل لهذا الرب المعبود .
ب ـ احتمال لما ذكر كلام ابن كثير حيث قال : الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة اهـ فذكر أنواع العبادات التي هو مستحق لها .
ج ـ احتمال لما ذكر أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة هنا ذكر أنواع العبادات التي يُفرد بها .(1/50)
قال المصنف " وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام " . وهذا فيه إشكال كيف ذكر الإسلام والإيمان والإحسان من أنواع العبادات هنا وسوف يذكرها مرة أخرى في مراتب الدين ؟
وحسب فهمي الضعيف أن الإسلام والإيمان والإحسان عادة من صنيع أهل العلم يُذكر في مراتب الدين على ضوء حديث جبريل ، أما إذا ذُكرت العبادة فيقال الصلاة والزكاة والخوف والاستعانة وهكذا ولا يُذكر فيها الإسلام ، فيمكن أن يقال إن المصنف يناقش في ذلك والله اعلم .
ثم يقال إن الإسلام والإيمان والإحسان هذه مراتب للدين بعضها أفضل من بعض وليست أنواع أو قسائم للاستعانة والذبح وغير ذلك . فالخوف مع المحبة قسم وأنواع وليست مع بعضها مراتب .
قال المصنف " أنواع العبادة " الإضافة هنا بتقدير اللام أي أنواع للعبادة . ذكر المصنف هنا أربعة عشر نوعاً من أنواع العبادة ولم يقصد الاستيعاب وإلاّ كانت أكثر من ذلك وابن تيمية في كتاب العبودية أضاف أنواعاً أخرى من أنواع العبادة ، ومن ثم فالعبادة جنس تحتها أنواع .
قال المصنف " أنواع العبادة " هذه الأنواع هي التي يُتَدَلل ويخضع بها لله " التي أمر الله بها " . والعبادات مأمور بها ولكن أحياناً أمر إيجاب وأحياناً أمر استحباب وكما هو معروف في أصول الفقه أن المستحب والمندوب مأمور به ولكن لا على وجه الإلزام ، ومما يدل على أن المندوب مأمور به قوله تعالى : { وافعلوا الخير } .
قال المصنف " التي أمر .. " ليست للوجوب فقط ، بل يدخل العبادات المستحبة ومثّل المصنف لأنواع العبادة فقال " مثل الإسلام والإيمان والإحسان ، وتأتي هذه الثلاثة إن شاء الله في باب معرفة دين الإسلام .
قال المصنف " ومنه الدعاء " والضمير في من يعود على الأنواع أي ومن الأنواع لذا جاءت صيغته مذكر وبعد ذلك قال فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله .(1/51)
قال المصنف " ومنه الدعاء " فيه إشكال ، حيث جعل الدعاء جزءاً من العبادة وعليه فالعبادة أعم من الدعاء والمشهور عند بعض أهل العلم أن الدعاء أعم من العبادة حيث قالوا الدعاء قسمين دعاء عبادة ودعاء مسألة ، فكيف نوفق بين القولين ؟
ومن هنا نطرح سؤالاً : أيهما أعم " العبادة أعم من الدعاء أم الدعاء أعم من العبادة " ؟ الذي يبدو أن المسألة حسب الاعتبارات والجواب يكون باعتبارات فإن كانت العبادة بمنعى الذل والخضوع والدعاء بمعنى السؤال والطلب ، فهنا العبادة أعم من الدعاء ، وإن كان الدعاء بمعنى الذل والخضوع أي بمعنى التعبد والعبادة بمعنى الصلاة والزكاة أي بمعنى المتعبد به فالدعاء أوسع ، أي أن الدعاء أعم من العبادة ، وهنا المصنف جعل العبادة بمعنى الذل والخضوع وجعل الدعاء بمعنى السؤال والطلب ، ولذا جعل العبادة أعم من الدعاء .
ثم سرد المصنف أنواع العبادة وهي أربعة عشر نوعاً ولم نعُدّ منها الإسلام والإيمان والإحسان لأنها أنواع الدين لا أنواع العبادة . فقال " الدعاء والخوف والرجاء .. الخ ثم قال " وغير ذلك من أنواع العبادة لأنه لم يرد الاستيعاب وإلاّ فهناك غيرها كالصبر وصلة الرحم .. الخ
ويأتي حكم من صرف شيئاً لغير الله ، ثم ذكر المصنف الدليل على أنه يجب صرفها لله تعالى { وأن المساجد لله فلا تدع مع الله أحداً } ، ومعنى المساجد أي السجود يكون لله ، ويقاس عليه بقية العبادات بقياس الشبه وجامع أنها كلها عبادة .
" فلا تدعوا " لا " ناهية ، فنهى أن تصرف لغير الله ، والملاحظة أن لم يقل فلا " تعبدوا " فجاء الدعاء أعم من العبادة كما سبق .
بعدها ذكر المصنف العبادات ثم ذكر حكم من صرف شيء لغير الله فحكمه مشرك كافر ولا يعذر بالجهل ." فمن صرف منها شيء لغير الله فهو مشرك كافر "
" مسألة " حكم من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله .(1/52)
" من " شرطية عامة باعتبار المعنى تدل على العموم فهي عامة في الأشخاص فيشمل الرجل والمرأة سواءً كان مسلماً أو كافراً إنسياً أم جنياً ، فإنه يكفر .
هل تشمل الصغير والكبير ؟ أما الكبير فتشمله وأما الصغير فلا تشمله لأنه خرج بصارف ، والصارف قوله صلى الله عليه وسلم : [ رفع القلم عن ثلاثة ، الصغير حتى يبلغ .. ] فعليه لو أن الصغير ذبح لغير الله فلا يكون كافراً لعدم قيام الحجة عليه لكنه ليس بمسلم بل مشرك ومن أراد مزيد بحث فليراجع كتاب المتممة لكلام أئمة الدعوة وكناب الحقائق باب الأسماء التي ليس لها علاقة بالحجة . الثاني الذي خرج من عموم "من" المجنون لنفس الحديث ، وقوله " منها " أي العبادة .
وقوله " فهو مشرك كافر " الفاء داخلة عن جواب الشرط ، وهنا نبدأ في الحكم "
" مشرك كافر " يقصد المصنف هنا من قامت عليه الحجة فهو مشرك كافر ، أما من فعل الشرك وهو حديث عهد بكفر أو عاش ونشأ في بادية بعيدة أو عاش ونشأ في بلاد الكفر فهو مشرك خارج عن الملة لكن لا يكفر كفر تعذيب وعقوبة حتى تقام عليه الحجة وهذا هو قول المصنف في كثير من كتبه وهو قول طلابه وأحفاده وهو قول ابن تيمية وابن القيم بل وقول كل من نحفظ من أهل العلم نقل الإجماع عليه أئمة الدعوة ، ومن أراد مزيد بحث فليرجع إلى كتب أئمة الدعوة والدرر السنية ، وقد يسر الله أن أفردنا هذه المسألة في رسالة مستقلة باسم المتممة لكلام أئمة الدعوة في العذر بالجهل في الشرك الأكبر .
مسألة على قول المصنف فهو مشرك كافر وراجع الوسيط في شرح أول رسالة في مجموعة التوحيد في مبحث الشرك والكفر والفرق بينهما وما يتعلق بذلك .
فصل
ثم ذكر المصنف التفصيل في أنواع العبادة .(1/53)
فالعبادة الأولى هي الدعاء ، وهل يقصد به المعنى العام أم المعنى الخاص ؟ يقصد به المعنى الخاص وهو السؤال والطلب ، وإذا قلنا أنه هنا السؤال والطلب ظهر إشكال آخر لأن المصنف سوف يذكر من أنواع العبادة الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة وهذه دعاء طلب وسؤال فكيف الجمع ؟ ولكي يصح الجواب فلا بد أن نحمل الدعاء هنا على شيء ليس دعاء استعانة ولا استغاثة ولا استعاذة فلا يبقى إلاّ سؤال الشفاعة في الآخرة أو التوسط في الدنيا وعليه فمعنى الدعاء هنا لما اجتمع مع الاستعانة وما عُطف عليها فهو بمعنى طلب الوساطة .
فمن صرف الدعاء لله فهو موحد ومن صرفه لغير الله فهل يشرك أم أنه غير مشرك ؟ فيه تفصيل :
( إن دعا المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا مشرك كافر ) مثال : لو دعا الميت أن يتوسط له يرزق الله ولداً أو أن يعافيه من المرض أو يدفع عنه الشرور ، أو سأله التوسط في طلب الجنة أو المغفرة فهذا الشرك أكبر .
سؤال الأموات والطلب منهم شرك أكبر مطلقاً حتى ولو سألهم ما يقدرون عليه لو كانوا أحياء كأن يعطيك مالاً أو أن يشفع ويتوسط لك عند الله .
ونقول من باب الاستطراد :(1/54)
سؤال الجنّ ، كسؤال الإنس ، فإن كانوا يسمعون كلامك ، فإن خاطبتهم عن سماع ورؤية ، أو مخاطبة مثل قصة أبي بن كعب أنه كان لهم جرين فيه تمر وكان مما يتعاهده فيجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم قال فسلمت فرد السلام فقلت ما أنت جن أم أنس فقال جن فقلت ناولني يدك فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلق الجن فقال لقد علمت الجن أنه ما فيهم من هو أشد مني فقلت ما يحملك على ما صنعت قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك قلت فما الذي يحرزنا منكم فقال هذه الآية آية الكرسي قال فتركته وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الخبيث قال أبو حاتم اسم بن أبي بن كعب هو الطفيل بن أبي بن كعب صححه ابن حبان .
ومثل أيضا المصروع ، فتسألهم ما يقدرون عليه ، مثل لو سألتهم عن الضالة فهذا فيه خلاف إلا أن الجن فيهم كذب فلا تؤخذ أخبارهم والأقرب المنع لأنه لا يطلب من الجن لو كان عن حضور . قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا . ... } أما إن كانوا لا يقدرون عليه كسؤالهم السلامة والشفاء ، أو كانوا يقدرون عليه لكن سألتهم لا عن سماع ورؤية فهذا شرك .. قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس فزاهدوهم رهقا } . ولما روى البخاري عن ابن مسعود قال كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم .(1/55)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس فزاهدوهم رهقا } مما يُبين المراد قال : وقوله تعالى ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون لرجال من الجن فزادوهم رهقا) أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة (فزادوهم رهقا) أي إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جرأة وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم (فزادوهم رهقا) أي ازدادت الجن عليهم جرأة وقال السدي كان رجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي قال قتادة فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي حدثنا الزبير ابن الخريت عن عكرمة قال كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد فكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا الوادي فقال الجن نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون فذلك قول الله عز وجل (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) أي إثما .(1/56)
قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم (رهقا) أي خوفا وقال العوفي عن ابن عباس (فزادوهم رهقا) أي إثما وكذا قال قتادة وقال مجاهد زاد الكفار طغيانا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يقول يا سرحان أرسله فأتي الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) ثم قال وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله تعالى أعلم .
لو سألت المخلوق ما يقدر عليه كما لو طلبت منه قرضاً فهو جائز لأنه يقدر عليه . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء ، رواه مسلم من حديث أبي رافع .(1/57)
مسائل : 1- مخاطبة الأموات مثل / وا معتصماه . .. أو يا رسول الله لو خرجت على أمتك فرأيت ما فيها من التمزق .. أو قم يا صلاح الدين ونحو ذلك .. فإن كان عن اعتقاده أنهم ينفعون أو يضرون فهذا شرك أكبر وهو من القسم الثاني .. وإن كانت من باب الشعار في الحرب فلا بأس كما نقله ابا بطين في كتابه التقديس عن بعض الصحابة ، وإن كان مجرد تعبير واستنهاض للهمم فيُبتعد عنه لما فيه من التشبه بألفاظ المشركين ولما فيه من اللبس .
مسألة : وكذلك مخاطبة الموتى من باب العظة والعبرة فهذا جائز وقد كان السلف يفعلونه من باب وعظ أنفسهم .
لو خاطب الجنّ بياء النداء منذراً أو متوعداً لكونهم يؤذونه في بيته فهذه المخاطبة جائزة ، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان ، رواه مسلم قاله النووي في شرح مسلم باب قتل الحيات وغيرها وفي رواية إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلاّ فاقتلوه فإنه كافر رواه مسلم . وإن كان مجرد توهم فهذا لا يجوز وإن خاطب بقرينه فهذا جائز . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة قال إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول سليمان عليه السلام رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسيا ثم قال النضر بن شميل فذعته بالذال أي خنقته وفدعته من قول الله يوم يدعون أي يدفعون والصواب فدعته إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء ، رواه البخاري ومسلم وذكره النووي في شرح مسلم في باب جواز لعن الشيطان في الصلاة .(1/58)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ، رواه البخاري
وعن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ، رواه البخاري
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا ، رواه البخاري .
وجاء في المتفق عليه في التثاؤب والحلم أنه من الشيطان وأرشد إلى الاستعاذة . إلى غير ذلك .
مسألة : يأتي على لسان بعض العوام خذوه يا جنّ فما حكمها ؟ إن كان عن اعتقاد فهذا شرك ؟ وإن كان مجرد تخويف فهذا لا يجوز لأمرين : التشبه بألفاظ المشركين 2- ترويع للمسلم .
فذكر المصنف فيما سبق دليلين الأول على أن الدعاء بالمعنى الخاص عبادة . والدليل الثاني يدل على أن من دعا غير الله فهو مشرك كافر ولذا فكل الأصناف التي ذكرنا أنها شرك دليلها الآية .
فصل
ثم ذكر المصنف افراد العبادات مع دليلها على الترتيب التالي :
1 ـ الدعاء وفي الحديث : " الدعاء مخ العبادة " والدليل قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)
2 ـ والخوف ودليل الخوف قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافون وخافون إن كنتم مؤمنين )
3 ـ والرجاء ودليل الرجاء قوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )
4 ـ والتوكل ودليل التوكل قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) وقوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) .(1/59)
5 ـ والرغبة، 6 ـ والرهبة، 7 ـ والخشوع ، ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين )
8 ـ والخشية ودليل الخشية قوله تعالى : ( فلا تخشوهم واخشوني )، 9 ـ والإنابة ودليل الإنابة قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )
10 ـ والاستعانة ودليل الاستعانة قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وفي الحديث :" إذا استعنت فاستعن بالله "
11 ـ والاستعاذة،، ودليل الاستعاذة قوله تعالى ( قل أعوذ برب الفلق )، ( قل أعوذ برب الناس )
12 ـ والاستغاثة ودليل الاستغاثة قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) .
13 ـ والذبح ودليل الذبح قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له ) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من ذبح لغير الله "
14 ـ والنذر ودليل النذر قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) .
ومن أراد بسط هذه الأنواع فليرجع إلى كتاب الوسيط في شرح أول رسالة من كتاب التوحيد فقد يسر الله بسطها هناك وذكر الأدلة والتقسيمات والاحترازات ، ولا نذكر هنا إلا بعض الزوائد البسيطة لإتمام الفائدة .
من الزوائد :
متى يكون الخوف شركاً ؟
أن تخاف من المخلوق ما لا يقدر عليه المخلوق هذا شرك أكبر ، مثاله "تخاف من إنسان أو جن أن يقطعوا نسلك" وهذا لا يقدر عليه إلا الله ، "تخاف أن يصيبك بأمراض " " تخاف أن يصيبك بالفقر أو العاهات الخلقية" هذا كله شرك أكبر لأنها أشياء لا يقدر عليها إلا الله .
الخوف من الجمادات والأموات مطلقاً أن يصيبه بمكروه ، حتى ولو كان هذا المكروه يقدر عليه الميت لو كان حياً مثل " أن يضربك " هذا شرك أكبر لأنك خفت منه ما لا يقدر عليه .(1/60)
أن تخاف من مخلوق فيؤدي خوفك منه إلى أن تعمل له عبادة كأن تذبح له كالخوف من شر الجن ، فيذبح لهم إذا سكن بيتاً وخاف أن يؤذوه وذبح لهم حتى لا يؤذوه وحكمه شرك أكبر . والإكراه غير الخوف أما لو أكره على تمزيق المصحف وإلا قتل فلا يكفر .
الشرك الأصغر وهو أن يؤدي خوفك من شخص إلى ترك واجب أو فعل محرم كمن حلق لحيته خوفاً من انتقاد الناس ، أو خاف السخرية أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو ترك صلاة الجماعة خوفاً على المنصب أو جلس عند أناس يسمعون الأغاني فترك الإنكار صيانة لعرضه حتى لا يتكلموا فيه فجاراهم فيه أو قال استحيت هذا شرك أصغر ، وأطال ثوبه وأسبل حتى لا يُعيّر .. الخ .
وهذا القسم جاء خلاف بين أهل العلم فيه وحكمه :
منهم من قال أنه محرم (فقط وليس من باب الشرك) لما جاء فيه من الوعيد ولأنه فعل المحرمات . القول الثاني / أنه شرك أصغر لما روى الإمام أحمد مرفوعاً [ إن الله يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذا رأيت المنكر لا تغيره ، فيقول ربي خشية الناس ، فيقول الله إياي كنت أحق أن تخشى(1) ] وجه الدلالة قال خوفاً من الناس ، أما ما يسمى بالخوف الطبيعي فهذا جائز(2) ، ولا شيء فيه كما لو خفت اللص أو من حيوان مفترس قال تعالى : { فخرج منها خائفاً يترقب } فهذا جائز بشرط أن لا يؤدي إلى فعل محرم أو ترك الواجب .
" مسألة " ما مراتب الأذية ؟ وهل كل أذية يخاف منها فيعمل من أجلها المحرم ويترك الواجب ؟ الجواب أنها مراتب :
__________
(1) - هذا موضع الشرك .
(2) - هذا القسم الثالث الجائز .(1/61)
المرتبة الأولى : أذية شديدة غير متحملة ، فهذا يجوز أن يترك من أجلها الواجب ويفعل المحرم وهي ما تسمى " بالإكراه " كما لو ضرب ضرباً لا يتحمله بشرط ألا يكون متعدي فلا يجوز كمن قال ازن بهذه المرأة فلا يجوز لك ولو قتلت لأن فعلك تعدى إلى غيرك قال تعالى ( ولا تز وازرة وزر أخرى ) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) رواه ابن ماجه .
أما لو كان في حق ذاته كحلق لحيته فيجوز بنفس الشروط أو سجناً طويلاً لا يتحمله أو أخذ مال لا يتحمله .
المرتبة الثانية : أذية فيها مشقة ، لكنها محتملة كالضرب الذي يستطيع أن يتحمله والسجن أياماً معدودة فهذه لا يجوز أن يخاف منها فيفعل من أجلها المحرم أو يترك الواجب .
المرتبة الثالثة :أذية قليلة محتملة كالسب والشتم والتعيير والسخرية فهذه لا يجوز أن يخافها ، فيفعل المحرم ويترك الواجب .
المرتبة الرابعة : ما يسمى بالوهن والجبن كأن نخاف من كل شيء وبعض هذه الأشياء لا حقيقة لها فهذه لا تجوز لأنها مجرد تصورات ذهنية .
" مسألة " الخوف من الفصل من الوظيفة هل هو عذر في ترك الواجب أو فعل المحرم ؟ أما إن كان يجد كسباً غيره كالتجارة وعمل اليد فهذا ليس بعذر إن كان هذا الواجب واجباً فعلياً وإن كان لا يجد فهو عذر لأنه دخل حد الضرورة وأدلتها معروفة .
" مسألة " الخوف من الشيطان والجن كالخوف من الإنس فإن خفت منهم مالا يقدرون عليه فهو شرك أكبر. وإن خفتهم ما يقدرون عليه كالخوف من الإنس. وقد سبق أن نقلنا ما ذكره ابن كثير من كلام أهل العلم على آية ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) الآية .(1/62)
" مسألة " ما يسمى بالخوف من المواقف ومعناه مثل ما ينتاب الإنسان من الرجفان والقلق لو قام يتكلم بين الناس هذا من الخوف الطبيعي ولا شيء فيه إلا إن تضمن ترك واجب أو فعل محرم كما لو كانوا يفعلون معاصي فجئت تتكلم فخفت الموقف فهذا محرم . وفيه التقسيم السابق أنه محرم أو شرك أصغر والذي تميل إيه النفس أنه من الشرك الأصغر ثم ذكر الدليل : { فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين } .
العبادة الثالثة هي الرجاء : وهو وصف قائم في القلب يؤدي إلى التوقع والأمل والطمع .
" مسألة " متى يكون الرجاء توحيداً ؟ إذا تعلق أمله بالله فهذا توحيد .
" مسألة " متى يكون الرجاء من الشرك ؟ - فيه أحوال :
إذا توقع وطمع من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله مثل ( التوقع من المخلوق النصر أو التوقع منه الولد أو الشفاء والسلامة ) .
أن يتوقع من الأموات والجمادات والغائبين بغير الوسائل الحسية يتوقع منهم الخير ولو كانوا يقدرون عليه لو كانوا أحياء ، وهذا شرك أكبر .
أن ترجو وتتوقع من المخلوق ما يقدر عليه مع الاعتماد عليه مثل تعتمد عليه أن يعطيك مالاً ، فأنت واثق بأن يعطيك ، أو أن تطمع في مهارة الطبيب ، فتثق بحصول الشفاء وهذا من الشرك الأصغر .
أن يطمع ويتوقع ويرجو الشفاء والخير من الله لكن بوسيلة محرمة كمن لبس حلقة أو خيط على أن تكون سبباً للشفاء أو فعل ما يسمى بالشبكة يطمع من الله أن تكون سبب الألفة والاشتباك بين الزوج والزوجة ، وهذا من الشرك الأصغر كما في حديث عقبه بن عامر مرفوعاً [ من تعلق تميمة فقد أشرك ] ومن أمثلة ذلك الذبح لله عند القبور ترجو من الله الخير لكنك اخترت هذا المكان لكونه أبرك . ثم ذكر المصنف الدليل { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل .. }
العبادة الرابعة / التوكل : لغة التفويض .(1/63)
شرعاً : الاعتماد على الله لجلب الخير ودفع الشر . متى يكون التوكل عبادة ؟ إذا اعتمد وفوّض أمره إلى الله فهذا توحيد { وعلى الله فتوكلوا .. } متى يكون التوكل شركاً ؟ في هذه الحالات :
إذا اعتمد على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله كالذي يعتمد على المخلوق في نزول المطر وحصول الرزق أو النسل أو اعتمد عليه في الشفاء والسلامة من الأمراض . وهذه الأمور لا يقدر عليها إلا الله وهي شرك أكبر .
الاعتماد على الأموات والجمادات كأن يثق بأن هذا الميت سوف يعطيه أو يدفع عنه ، وهو شرك أكبر .
الاعتماد على الأسباب شرك أصغر مثل أن يعتمد على مهارة الطبيب في نجاح العملية ومثل الثقة بكثرة الجيش في حصول النصر ، والاعتماد على حذاقة السائق في السلامة من الحوادث ، والاعتماد على المذاكرة في النجاح ، وهذه ظاهرة متفشية عند المسلمين بأن يعتمد على الأسباب .
" مسألة " متى يكون قد اعتمد على الأسباب بالقرائن التالية :
منه ما يتعلق بالقلب فيشعر بالراحة والاطمئنان والسكون لوجود السَّبب فإذا وجد وثق بالنتيجة أنها سوف تترتب ، هذا أهمها .
أن يشعر بالقلق والاضطراب إذا تخلف السبب أن النتيجة لن تترتب مثاله :
لو ذهب بمريض إلى طبيب ووثق أن العملية سوف تنجح وارتاح لذلك ، فإن عمل العملية طبيب آخر فلن تنجح العملية وهذا من الشرك الأصغر . قال تعالى : { وعلى الله فتوكلوا .. } ، أي اعتمدوا . ومفهوم الآية : عدم الاعتماد على الأسباب ، بل نفعل الأسباب لكن نعتمد على الله .
" مسألة " هناك فرق بين الارتياح للأسباب والاعتماد على الأسباب ، فلو أن شخصاً أصلح سيارته وأعدها إعداداً جيداً للسفر ثم شعر بالارتياح فهذا لا شيء فيه أما لو وثق ألا يصيبه شيء لأن السيارة سليمة وجيدة فهذا من الاعتماد على الأسباب .(1/64)
" مسألة " ما حكم الألفاظ التالية : توكلت على الله وعليك ؟ هذه لا تجوز وهي من الشرك الأصغر لقوله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) وقد صح عن ابن عباس في قول لولا الله وفلان أنها من الشرك فهذه مثلها وصح عن السلف أن قول أعوذ بالله وبك من الشرك فهذه مثلها .
" مسألة " ما حكم الألفاظ التالية : توكلت عليك ، متكل عليك ، فيها خلاف بين المتأخرين من أهل العلم فيما أعلم ، فمنهم من أجاز هذه الكلمة وجعله بمعنى التوكيل والوكالة وقال الأصل الجواز .
القول الثاني : إنها لا تجوز لقوله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا } منطوقاً ومفهوماً وحديث عند أحمد [ إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى خطيئة وعورة وذنب ] وحديث أبي بكرة قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت رواه : أبو داود وصححه ابن حبان ، وهي ألفاظ شركية وإنما يقول مثلاً : توكلت على الله ثم وكلتك ، أو يقول وكلتك فلا مانع . بقي حديث سهل بن سعد الساعدي قال النبي صلى الله عليه وسلم من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة ، رواه البخاري فقد يقول قائل أن لفظة توكلت عليك تجوز لهذا الحديث ؟ والجواب أن توكل هنا ليس بمعنى اعتمد بل بمعنى ضمن وتعهد فلا يتوجه الاستدلال . ومثله حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وليبدأ أحدكم بمن يعول تقول امرأته أنفق علي وتقول أم ولده إلى من تكلني ... الحديث وتكلني في هذا الحديث بمعنى إلى من تعهد إلىّ أو إلى من تسلمني وليست بمعنى الاعتماد .
" مسألة " ما الحكم إذا عطفها ( متوكل على الله ثم عليكم ) الظاهر أنه لا يجوز لأن المحذور في اللفظة نفسها سواء أفردها أم عطفها .
" مسألة " ما حكم الثقة بالنفس ؟ فيها تفصيل :(1/65)
إن كان ( معنى يجب أن تثق بنفسك ) بمعنى أن تعتمد عليها فذا لا يجوز لأنه من الاعتماد على الأسباب ، وإن كان معناها أي أنك مجرب لهذا الأمر وتعرف من نفسك التجربة وأنه سهل عليك فهذا جائز .
" مسألة " ما حكم قولنا هذا الرجل موثوق يجب أن تثق به فيه تفصيل إن كان المقصود أنه أمين ولا يخون ويقوم بالعمل كما ينبغي فلا شيء فيه وجائز . أما إن كان بمعنى الاعتماد عليه وأن النتيجة سوف تحصل فهذا من الشرك الأصغر .
العبادة الخامسة... الرغبة / في المصباح المنير هي السعة يقال رغب الشيء أي اتسع اهـ . فعلى هذا هي الإرادة الواسعة والقوية وتأتي بمعنى الحرص هو الإرادة القوية وتأتي بمعنى العطاء الكثير ، فإذا كانت في الدعاء فالرغبة فيه إطالته وكثرته والسعة فيه ويسمى دعاء رغبة والإطالة في العبادة تسمى عبادة رغبة .
" مسألة " متى تكون الرغبة توحيداً ؟
كثرة الإقبال على الله وسعة الإقبال على الله دعاءا وعملاً وعبادة يكون توحيدا.
" مسألة " متى تكون الرغبة شركاً ؟ تكون إذا أكثر إقبال على شخص معين في قضاء الحوائج المحبوبة ، فهذا يعتبر شركاً أكبر ، مثال : الذي يتردد على القبور ويقبل عليها إذا انتابه شيء من الحوائج المحبوبة فهذا يكون عبادة من دون الله كالذي يكثر طلب حوائجه من الجن والجمادات سواء فيما لا يقدر عليه إلا الله أو غير ذلك .(1/66)
أما لو كثر الإقبال على المخلوقين في طلب الحوائج المحبوبة وهم يقدرون عليها فإن اعتمد عليهم فهذا شرك أصغر وإن لم يعتمد عليهم فهذه من الأمور التي تنقص التوحيد لحديث ( لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ) ، أما الدليل فقد جمع ثلاث عبادات { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً } ، ظاهر استدلال المصنف أن الرغبة حالة من حالات الدعاء وهي وصف لبيان نوع الدعاء أنه دعاء رغبة هذا على تفسير الدعاء بالمعنى العام أي دعاء العبادة ودعاء الطلب وهناك آيات نص في عبادة الرغبة كقوله { وإلى ربك فارغب } { إنا إلى ربنا راغبون } .
العبادة السادسة .. عبادة الرهبة / تعريفها لغة : مأخوذة من الرهابة وهو العظم الذي على رأس المعدة فيقال جمل رهب إذا كان طويل العظام ، ويقال للعابد من النصارى راهب لأنه يطيل ويديم الخوف وهذا ما ذكره العسكري في الفروق اللغوية ص 200 ، وعلى ذلك فالرهبة : الخوف الطويل والخوف الشديد .
ما الفرق بين الخوف والرهبة ؟ الفرق زمني . فإذا اضطرب قلبك وقلقت فترة قصيرة هذا يسمى خوفا أما لو طال الاضطراب والقلق وامتد فإنه يسمى رهبة وهناك فرق آخر أن الخوف توقع الضرر المحتمل الذي قد يقع وقد لا يقع ، ولذا إذا تذكرت أنه سيقع قلقت وإذا ذكرت أنه لا يقع اطمأننت .
أما الرهبة : توقع الضرر المتيقن به . ولذا يطول الخوف فالمحكوم عليه بالقتل يقيناً . هذا يسمى راهب لن الضرر متيقن فتجده دائم الخوف حتى يقتل أما الذي لا يتوقع القتل في حقه فهذا يسمى خوفاً فقط .
متى تكون الرهبة عبادة ؟ إذا طال خوفه من الله .(1/67)
متى تكون الرهبة شركاً ؟ إذا طال خوفه من صاحب القبر مثلا فهذا شرك أكبر . ظاهر الاستدلال كما في الآية السابقة أعلاه عند المصنف أن الرهبة حالة من حالات الدعاء ، وهناك آيات أعم ، مثل { وإياي فارهبون } أما التوضيح بالنسبة للخوف والرهبة بالنسبة للشرك الأكبر . أنك إذا قلقت واضطربت من صاحب القبر أو من مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذه عبادة خوف وهي من الشرك الأكبر . فإن قلقت واضطربت من صاحب القبر أو مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله مع نيتك أن ضرره سيصل إليك فهذه عبادة رهبة وهي من الشرك الكبر أو طال زمن خوفك منه فهذا عبادة رهبة لصاحب القبر .
العبادة السابعة ... الخشوع / قال صاحب المصباح المنير : مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنت إ.هـ. فيكون الخشوع بمعنى السكون والهدوء في القلب والجوارح وفي الصوت وفي النظر والمشي أي سكون الجوارح .
متى يكون الخشوع عبادة ؟ إذا وقف أمام الله ساكناً هادئاً في الجوارح فإنه هذا يسمى خشوعاً ولذا فالمصلى خاشع في الهيئة ، فإنه يقف في الصلاة مطأطئ الرأس ينظر إلى مكان سجوده وهذا خشوع وإذا مشى إلى الصلاة مشى بهدوء وغض للصوت والنظر وهذا خشوع في المشي إلى الصلاة .
متى يكون الخشوع شركاً ؟ إذا وقف أمام قبر أو شخص هادئ الحركات ساكن الجوارح فهذا خشوع وإن لم تطلب منه شيئاً ، وهو من الشرك الأكبر ؛ ومثله لو مشى إلى قبر ولى من الأولياء هادئ الجوارح ساكن القلب هذه عبادة خشوع ، ولذا نجد عباد القبور عند قبورهم هادئين ساكنين ؛ ومثله المريد والصوفي أمام شيخه تجده هادئا مطأطئ الرأس ساكن الجوارح مع ما في قلبه من خشوع ، وهذه عبادة خشوع ، وهذا من الشرك الأكبر ، الدليل { وكانوا لنا خاشعين } . فالأصل في الخشوع عمل بالقلب وتدل عليه الجوارح .(1/68)
العبادة الثامنة .. الخشية : وهي الخوف من الشخص ، فإذا خفت من شخص معين بغض النظر عن العقوبة التي سوف يوقعها بك فهذه تسمى خشية ، ولذا فهناك فرق بين الخوف والخشية ، فالخوف : هو القلق والاضطراب من العقوبة والمكروه ؛ والخشية : هو الخوف من الشخص ذاته ، فإذا أراد زيد أن يقتلك فاضطربت وقلقت من القتل هذا يسمى خوفا ، أما لو خفت من زيد لذاته بغض النظر عن نوع العقوبة فيقال خشية ، وهذا يدلى عليه من القرآن قوله تعالى : { يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } فجعل الخشية لله والخوف للحساب ، قوله { الذين هم من خشية ربهم مشفقون } ،
متى تكون الخشية توحيداً ؟ إذا تعلقت خشيتك بالله .
متى تكون الخشية شركاً ؟ إذا اضطرب قلبك من صاحب القبر أو من جماد بغض النظر عما سوف يفعل بك .
العبادة التاسعة .. الإنابة : قال في المفردات : هي الرجوع للشيء مرة بعد مرة ، ومنه ينتابه أي يقصد مرة بعد مرة .
متى تكون الإنابة توحيداً ؟ إذا كان يرجع إلى الله في الملمات مرة بعد مرة ، يقال أناب إلى الله .
متى تكون الإنابة شركاً : إذا قصد القبر مرة بعد مرة ، في الملمات يقال أناب إلى صاحب القبر وإن كان الرجوع إليه مرة واحدة كان شركاً أكبر لكن التكرار أشد شركاً . ما الفرق بين الرغبة والإنابة ؟ فالرغبة هي كثرة الرجوع والتردد ، وكذلك الإنابة لكن الرغبة الرجوع في الأمور المحبوبة ، والإنابة الرجوع في الملمات والمكروهات .
هل الإنابة بمعنى التوبة ؟ التوبة أخص من الإنابة ، فالتوبة رجوع خاص بصفة معينة وهي الرجوع مع الإقلاع والندم ؛ أما الدليل في التفريق بين التوبة والإنابة قوله تعالى { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } ، أما دليل الإنابة { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } .(1/69)
العبادة العاشرة والحادية عشر والثانية عشر .... فهي عبادات متقاربة ولذلك نجعل الكلام فيها واحداً ... الاستعانة / لغة : مأخوذة من العون والمعاونة والمظاهرة يقال فلان عوني أي معين ، والمعين هو الظهير فتكون الاستعانة المعونة ، واصطلاحاً : طلب المعونة من الله .
الاستعاذة / لغة : مأخوذة من العوذ وهي الالتجاء للقبر والتعلق به والاستنصار لذا سميت المعوذتين لأنها تعصمان من السوء فهي طلب الالتجاء . شرعاً : الالتجاء إلى الله .
الاستغاثة / لغة : مأخوذة من الغوث ، فأغاثه بمعنى أعانه ونصره وكشف الشدة عنه ، ولذا سمى المطر غوثاً لأنه يكشف شدة القحط ، ويلاحظ أن هناك قاسما مشتركا بين التعاريف .
(فالاستغاثة ، والاستعانة ، والاستعاذة ) هي المعونة والنصرة لكنها تختلف باعتبار الحالة والزمن ؛ فإذا وقع عليك الشر وطلب النصرة بإزالته فهذه تسمى استغاثة ، فنداء الغريق يسمى استغاثة ، أما إذا لم يقع عليك الشر حتى الآن لكنه على الطريق أن يقع عليك فطلب أن لا يقع فهذه الاستعاذة ، أما في الأمور العادية إذا لم يقع عليك شر ولا تتوقع شراً فإنه يسمى استعانة .
متى تكون توحيداً ؟ إذا استعان واستغاث واستعاذ بالله تعالى .
متى تكون شركاً ؟ في الحالات الآتية :
إذا استعان أو استعاذ أو استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل الاستعانة في رفع القحط وهنا لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك . قال تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .
أما الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه مع الاعتماد عليه ، كما لو وقعت في شدة فاستعنت بالسلطان ، أو كدت تغرق في البحر فاستغثت بالناس لكنك معتمد عليهم فهذا شرك أصغر ، وعلامة الاعتماد أن ترتاح إنهم سوف ينقذونك وتثق أن الإنقاذ سوف يحصل من السلطان أو من الناس كالذي يستعين بالجيش ويطمئن أن النصر سوف يحصل ، فهذا من الشرك الأصغر .(1/70)
أما إن كانت المخاطبة عن غير حضور ولا سماع فهذه طريقة جاهلية كما قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } فكانوا إذا نزلوا وادياً خاطبوهم عن غير حضور وهذا من الشرك الأكبر حتى لو سألتهم ما يقدرون عليه كما لو تعطلت سيارتك فقلت يا جن أعينوني . أما لو كان لا يقدر عليه إلى الله فهذا شرك أكبر . وقد سبق أن نقلنا كلام ابن كثير عن هذه الآية . ولما روى البخاري عن ابن مسعود قال كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم .
حكم الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة بالجن :
إن استعنت بهم واستغثت في شيء لا يقدر عليه إلا الله فذا شرك أكبر فأي شيء لا يقدر عليه إلا الله فصرفه لغيره شرك أكبر . ولحديث ( إذا استعنت فاستعن بالله ) الحديث رواه الترمذي من حديث ابن عباس وقال حسن صحيح .
إذا استعنت بهم في شيء واستغثت بهم لا عن حضور فهذا من الشرك الأكبر قال تعالى { وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } سبب نزولها أن قريشا إذا نزلوا بوادي قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .
إذا استعنت بهم وهم يسمعونك عن حضور لكن في الأمور التي يقدرون فهذا اختلف أهل العلم فيه :
القول الأول : أنه يجوز في الأمور المباحة كما لو سألتهم عن ضالة معينة أو يحملون لك شيئاً ويضعونه وهم حاضرون يسمعون الكلام فلا بأس لفعل سليمان عليه الصلاة والسلام فقد كان الجن يخدمونه كما هو معروف قال تعالى ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) .(1/71)
ومثل قصة أبي بن كعب أنه كان لهم جرين فيه تمر وكان مما يتعاهده فيجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم قال فسلمت فرد السلام فقلت ما أنت جن أم أنس فقال جن فقلت ناولني يدك فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلق الجن فقال لقد علمت الجن أنه ما فيهم من هو أشد مني فقلت ما يحملك على ما صنعت قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك قلت فما الذي يحرزنا منكم فقال هذه الآية آية الكرسي قال فتركته وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الخبيث قال أبو حاتم اسم بن أبي بن كعب هو الطفيل بن أبي بن كعب صححه ابن حبان ، وهذا أجازه ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما ذُكر عنه .
القول الثاني : أنه لا يجوز في الأمور المباحة سداً للذريعة وهو الذي تميل إليه النفس
أما في الأمور المحرمة كأن يؤذون شخصاً أو يقتلونه فهذا حرام لا يجوز قال تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
العبادة الثالثة عشر ... الذبح :
الذبح لغة : الشق قال في المفردات للقرآن : أصل الذبح شق حلق الحيوانات وذبحت الفأرة شققتها .
الذبح إصطلاحاً : ذبح القرابين تقرباً إلى الله وتعظيماً وتذللاً بطريقة مخصوصة .
ذبح العبادة : وهو إراقة الدماء على وجه التقرب والتعظيم ، أما كلمة الذبح فقط ، فهي إراقة الدماء .
متى يكون الذبح توحيداً ؟ إذا ذبح تعظيماً لله وتقرباً .
متى يكون الذبح لغير الله شركاً ؟ إذا ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً ومعنى تقرباً : أي حتى ينفعه لجلب خير أو دفع شر ؛ فهدفك من وراء الذبح له أن ينفعك دنيوياً أو أخروياً ؛ أو يدفع شراً أو آفة عنك ، فأصبح يقصد القرب المعنوي إما تعظيماً : فمعناه هو أن يقوم في قلبه عظمته ومكانته فيدفعك هذا التعظيم والإجلال إلى أن تذبح له وهو عدة صور :(1/72)
1 – كالذبح للجن تخلصاً من شرهم أو لكي يساعدوك في شيء ومثله الذبح للجن لفك السحر والعين هنا تكون مشرك شرك أكبر . لحديث ( لعن الله من ذبح لغير الله )
2 – الذبح على عتبات البيوت إذا تم بناؤها أو عند تأسيس البيت لكي يسلم من شر الجن والحسد والعين ومثله ، الذبح عن تأسيس أي شيء كحفر بئر ونحو ذلك .
3 – الذبح للأموات والأولياء على أضرحة قبورهم إما تعظيماً لهم أو إجلالاً أو لكي ينفعوه في لدنيا أو في الآخرة أما الذبح للأموات من باب الصدقة والأضحية فهذا الذبح يقصد به إهداء الأجر لهم لا أن الذبح ذاته لهم . لحديث ( دخل النار رجل في ذباب .... الحديث ) .
4 – الذبح للسلطان والأمير تعظيماً ، وللعظماء والكبراء تعظيماً لهم لأنهم كبراء ، أو تقرباً لهم كي ينفعوك في مال أو منصب ونحو ذلك ، وهذا من الشرك الأكبر لمفهوم قوله تعالى ( فصل لربك وانحر ) مفهوم المخالفة ، ونقل الشيخ سليمان الحفيد في تيسر العزيز الحميد عن علماء بخارى أن الذبح عند طلعة السلطان أنه مما أهل به لغير الله . وهي مثل لو انتظروا حتى إذا دخل أو طلع السلطان سجدوا له ، وصورتها أن تؤخذ الذبيحة فتذبح إذا نزل من الطائرة أو إذا دخل من الباب أو قاعة أو عند قدومه أو عند طلعته ، وعلامة ذلك : أن تذبح في وجوههم ولا يهمك بعد ذلك لحم هذه الذبيحة ، فيهمك أن يعلموا أن الذبح لهم ، أما لو ذبحت لهم في مكان آخر كالمسلخ مثلا ثم أتيت باللحم لأكله من باب الضيافة فهذا جائز في الأصل ، وقد يكون محرماً كان فيه إسراف ، وقد يكون مستحباً إذا كان من باب إكرام الضيف لورود أحاديث تحث على ذلك كقوله عليه الصلاة والسلام : [ ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ] في الصحيحين من حديث أبي هريرة .
الذبح في المواليد كمولده عليه الصلاة والسلام ومولد الأولياء تعظيماً لهم . هذا شرك أكبر .(1/73)
ومن الشرك الأكبر الذبح ويذكر عليها غير اسم الله مثل قوله : ( باسم الشعب أو باسم المليك أو باسم الأمة أو باسم المسيح ) أو يذكر اسم الله ويذكر معه غيره وهذا شرك أكبر . قال تعالى ( فصل لربك وانحر ) وقوله ( فلا تجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون )
وكل هذه الأقسام الستة السابقة شرك أكبر .
" مسألة " هل ينقسم الذبح إلى شرك أكبر وشرك أصغر ؟ - لا ينقسم الشرك في الذبح لأنها عبادة ومن صرف عبادة لغير الله فهو شرك أكبر .
- أما الشرك الأصغر فهو ما كان دون صرف العبادة .
" مسألة " الصور التالية من الذبح تعتبر جائزة لأنه ذبح لله وقصد معاني شرعية جائزة :
1- الذبح للضيوف من باب الكرامة والضيافة . 2- الذبح للأهل من باب النفقة عليهم . 3- الذبح للوالدين والأقارب من باب إهداء الأجر والثواب إليهم . 4- ذبح الأضاحي والعقيقة ونحوه .
5- ذبح الهدي وهو واجب على المتمتع والقارن. 6- ذبح الفداء على مرتكب المحظورات .
العبادة الرابعة عشر ... النذر / لغة : أن توجب على نفسك ما ليس بواجب . اصطلاحا : إلزام المكلف نفسه شيئاً ليس بواجب تعظيماً للمنذور له وتقرباً.
متى يكون النذر توحيداً ؟ أما التقرب إلى الله بالنذر بهذا المعنى فاختلف فيه أهل العلم ، فبعضهم يكره ابتداء النذر وهو المذهب .
القول الثاني : وهو اختيار ابن تيمية أن ابتداء النذر حرام لكن إذا فعله الإنسان وجب الوفاء به هذا إذا كان النذر ليس معصية . أما الدليل على تحريم ابتداء النذر حديث ابن عمر [ لا يأتي بخير إنما يستخرج به من مال البخيل ] متفق عليه .
" مسألة " متى يكون النذر شركاً ؟ إذا لزم نفسه شيئاً لغير الله تعظيماً ما دام في قلبك إجلاله واحترامه فدفعك إلى أن تنذر له ، وتقرباً وهو التماس الخير منه بهذا النذر وله صور .
كأن يقول إن شفى الله مريضي فلقبر الوالي الفلاني كذا من الغنم أو المال .(1/74)
أن يقول : للقبر الفلاني كذا من المال أو الشيخ الفلاني إن نجحت العملية أو سلمت من المرض .
إذا ضاع له شيء فيقدم طيباً أو ذهباً لقبر الوالي حتى يجده .
وكل هذه الصور شرك أكبر . ومناطه القول أو الفعل وليس الاعتقاد .
ثم ذكر المصنف الأدلة على ذلك وهي : ودليل النذر قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) .
الأصل الثاني
قال المصنف :
الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب : الإسلام، والإيمان، والإحسان ؛ وكل مرتبة لها أركان، فأركان الإسلام : خمسة والدليل من السنة : حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والدليل قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )
ودليل الشهادة قوله تعالي : ( شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلَه إلا ّهو العزيز الحكيم ) [ آل عمران 18] ومعناها : لا معبود بحق إلا ّ الله ؛ وحد النفي من الإثبات : لا إلَه نافياً جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني ) وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً )(1/75)
ودليل شهادة : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد، قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) ودليل الصيام قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ودليل الحج قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ).
المرتبة الثانية : الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه : ستة، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره كله من الله .
والدليل قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر والملائكة والكتاب والنبيين ) ودليل القدر قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر )،
المرتبة الثالثة : الإحسان، ركن واحد، وهو : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وقوله تعالى : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى )
وقوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين ) وقوله تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ) .(1/76)
والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه، قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال يا محمد : أخبرني عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلاً ؛ قال صدقت " فعجبنا له : يسأله، ويصدقه .
قال : " أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره ؛ قال : صدقت ؛ قال أخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ؛ قال : صدقت قال أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ؛ قال : أخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة، العالة، رعاء الشاء،
يتطاولون في البنيان " فمضى فلبثنا ملياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عمر : أتدرون من السائل ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ؟ قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " .
الشرح :
الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة هذا هو الأصل الثاني من الأصول الثلاثة وهو معرفة الدين .
وكان الأولى تقديم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأصل لأنه لا بد من معرفة الله ثم المبلغ عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم معرفة ما جاء به الرسول من عند الله .
الدين لغة : يطلق على الملك والعمل والجزاء والحساب . اصطلاحاً : ما شرعه الله من الأحكام والأصول والأركان على لسان رسوله .
" دين الإسلام " يقصد بالإسلام هذا المعنى العام ، فيدخل فيه الإيمان والإحسان والإسلام بالمعنى الخاص .(1/77)
" بالأدلة " الباء للمصاحبة : أي أن معرفتك بالإسلام مصاحبة بالدليل ومرّ علينا مسألة التقليد في الإيمان وهل يجب بالأدلة ثم عرف المصنف الدين فقال : هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله . شرح التعريف قوله الاستسلام لله أي الانقياد والخضوع .
" بالتوحيد " بإفراده بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات ويكون المعنى أن تذل وتخضع لله بما يستحق من لأسماء والصفات ومن الربوبية والعبادة.
" والانقياد له بالطاعة " الانقياد هي الملاينة يقال انقاد إذا لان .
" بالطاعة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه وتكون بمعنى العبادة هنا ، وفيه إشكال في تعريف المصنف لم يدخل صراحة الاعتقاد في التعريف أي الإيمان ، لأننا عرفنا أن الدين يشمل الإسلام وهو العمل الظاهر والاعتقاد الباطن وهو الإيمان . وإتقان الظاهر والباطن وهو الإحسان ؟ . الجواب أن المصنف هنا ذكر الإسلام فقط لأنه بعد قليل سوف يذكر الإيمان فلما اجتمعا افترقا .
" والبراءة من الشرك وأهله " من باب عطف الخاص على العام وإلاّ فإن البراءة من الشرك تدخل في الاستسلام لله بالتوحيد لأن معنى التوحيد هو النفي وهو البراءة والإثبات وهو الاستسلام بالتوحيد ، لكن أفردها المصنف لأهميتها . أما معنى البراءة : فبرئ بمعنى تخلص وترك . ومنه يقال برئت من المرض إذا تخلصت منه ويقال استبرأت المرأة إذا لم يكن في رحمها شيء ويقال برئ من الدين إذا سقط وتخلص منه .
اصطلاحا : فهو البغض والعداوة والابتعاد عن الشرك والمشركين اعتقادا وعملاً وسكناً وقسّم المصنف البراءة إلى قسمين :
1- البراءة من العمل وهو البراءة من الشرك والكفر وهذا فرض لازم . كالبراءة من الديمقراطية ومن البرلمانات ومن الحداثة ومن العلمانية ... الخ .(1/78)
2- البراءة من العامل وهو الذي أشار إليه المصنف بقول " وأهله " البراءة من المشركين والكفار ، مثل أن تكره وتبغض وتعاد وتكفر العلمانيين والقوميين والحاثيين والرافضة وتبرأ من أعمالهم وتبغضهم وتعاديهم وتخرجهم من الملة .
أما كيف البراءة من هذين القسمين فكالتالي :
1- البراءة القلبية وهي أن تبغض المشركين والشرك بقلبك وتكرههم وتتمنى زوالهم كبغض النصارى واليهود والهندوس والشيوعيين والعلمانيين والبراليين والحداثيين والرافضة . وحكم هذا القسم فرض لازم ولا يمكن أن يسقط عن المسلم لأنه متعلق بالقلب والدليل على ذلك حديث أبي مالك الأشجعي : [ من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله تعالى ] رواه مسلم . وكذلك الآيات التي عن إبراهيم في البراءة من قومه .
2- براء اللسان من الجنس للشرك وأهله بأن تبغض الكفار ودينهم باطل وأنهم كفار .والدليل قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } قل : أي بلسانك { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } وهذا باللسان أنه براء من دينهم.
لكن أقل الفرض ألازم ما تعلق بالجنس والنوع بأن يذكر من الألفاظ ما يدل أنه لا يريدهم ولا يرتاح لهم ونحو ذلك وأنهم على مخالفة أو ضلال ... الخ .
3- براءة الجوارح وذلك بالابتعاد وبمجاهدتهم بالجوارح وتكسير معبوداتهم ومساجدهم الشركية الضرارية وقتلهم ، والدليل قوله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } . وقوله عليه الصلاة والسلام : [ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده .. ] رواه مسلم . وهذا القسم يجب مع القدرة ويسقط مع العجز .
" مسألة " ما حكم مساكنة المشركين ؟ هي أقسام :(1/79)
مساكنتهم محبة لهم ولدينهم فهذا كفر وهو مخالف ومناقض للبراءة من المشركين لما جاء في حديث عن جرير بن عبد الله قال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما قال أبو داود رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرا ، رواه أبو داود أول كتاب الجهاد باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود .
وهناك مساكنة نصرة ومظاهرة ومساكنة متابعة وموافقة وكل هذه الخمس مخرجة من الدين لأنها تولي فحكمها حكمه . قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم )
مسألة : لو ساكنهم وهو يبغضهم ويبغض دينهم ولا يتولاهم لكن جلس لحاجة مع أنه يصرح بالتبرؤ منهم ويستطيع أن يجهر بدينه فهذا جائز.
أن يساكنهم من باب القهر والضرورة لأنه مجبر كما لو كانت هذا بلده وهو بلد كفر لكن أسلم ، ومع ذلك لا يستطيع التصريح بالبراءة منهم ومن دينهم فهذا يحرم مساكنتهم ويجب الهجرة مع الاستطاعة وإذا لم يستطيع فعليه أن يبتعد ويقلل من مخالطتهم ويصبر حتى يأتي فرج الله .
قوله : " وهو أي الدين ثلاث مراتب " وهذا يعني أنها مراتب بعضها أعلى من بعض فهي ليست أقسام ولا قسائم فالإسلام مع الإيمان ليس قسم منه ولا قسيم إنما هي درجات ومراتب ودوائر بعضها أوسع من بعض .
فصل
قال المصنف وكل مرتبة لها أركان، فأركان الإسلام : خمسة والدليل من السنة : حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والدليل قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )(1/80)
ودليل الشهادة قوله تعالي : ( شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلَه إلا ّهو العزيز الحكيم ) ومعناها : لا معبود بحق إلا ّ الله ؛ وحد النفي من الإثبات : لا إلَه نافياً جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني ) وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ) .
ودليل شهادة : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
الشرح :
قال المصنف وكل مرتبة لها أركان ويأتي إن شاء الله تفصيل ذلك وأكثر الأركان ستة وأقلها ركنان .
المرتبة الأولى .... الإسلام :
لغة : مشتق من التسليم يقال استسلم فلان إذا انقاد وخضع ، ومشتق من المهادنة يقال تسالم بني فلان أي تهادنوا . اصطلاحا : له معنيان ، المعنى الخاص والمعنى العام .
فإن ذكر الإيمان مع الإسلام فهنا يعرّف الإسلام بالتعريف الخاص وهو الانقياد والخضوع لله بالأعمال الظاهرة كالتوحيد والصلاة و .. الخ . وإذا لم يذكر الإيمان مع الإسلام فإن تعريف الإسلام يكون واسعاً ويكون : الإسلام مطلق الانقياد لشرع الله عملا واعتقاداً وهذا معنى الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا والعكس .
وهنا يجب أن تعرفه بالتعريف الخاص فلا تدخل الاعتقاد في التعريف لأنه بعد قليل سوف يذكر الإيمان فاجتمعا هنا .(1/81)
قوله : " كل مرتبه لها أركان وأركان الإسلام خمسة " الركن لغة : هو جانب الشيء الأقوى . اصطلاحا : ما كان داخلاً في الشيء وما تتوقف عليه صحته ، بمعنى أن الإسلام متوقف على هذه الأركان ، وهي :
1 ـ التوحيد وهو شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله 2 ـ إقام الصلاة 3 ـ إيتاء الزكاة 4 ـ صوم رمضان 5 ـ حج بيت الله الحرام .
قال المصنف : خمسة والدليل من السنة : حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والدليل قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
ثم بدأ المصنف يذكر أدلة كل ركن :
1 ـ أ ـ ودليل الشهادة قوله تعالي : ( شهد الله أنه لا إلَه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلَه إلا ّهو العزيز الحكيم ) ومعناها : لا معبود بحق إلا ّ الله ؛ وحد النفي من الإثبات : لا إلَه نافياً جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني ) وقوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ) .
1 ـ ب ـ ودليل شهادة : أن محمداً رسول الله، قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .(1/82)
و الدليل قوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم .. } ومعناها لا معبود بحق إلا الله وهذا تفسير أهل السنة والجماعة لمعنى لا إله إلا الله .
وأما الأشاعرة والجهمية والرافضة والباطنية والصوفية والقبورية فإنهم يفسرونها
بـ " لا رب إلا الله " أي لا خالق ولا متصرف إلا الله ، وهذا انحراف خطير لأنهم يفسرون الألوهية بمعنى الربوبية فيقال لهم الكفار مقرون بربوبية الله فعلى كلامهم إن الكفار أتوا بـ " لا إله إلا الله " وهذا يرده الإجماع .
وأما الفلاسفة فيقولون لا موجود إلا الله فمن أثبت وجود الله فإنه موحد وعلى هذا الكلام فإبليس من الموحدين لأنه يثبت وجود الله . أما عند العلمانيين فهو الإقرار بربوبية الله وبعض الأمور الشخصية أما التشريع والحكم والأمر والنهي فليس لله .
" أركانها " أي أركان لا إله إلا الله : ركنان : أ- نفي . ب- إثبات .
النفي قال المصنف : " لا إله " نافياً جميع ما يعبد من دون الله .
الإثبات : قال المصنف " إلا الله " مثبتاً العبادة لله ثم ذكر المصنف الدليل على النفي والإثبات وهو قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنه براء مما تعبدون } . وهذا موضع النفي . "إلا الذي فطرني" موضع الإثبات الدليل الثاني قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله } . فموضع النفي "ألا نعبد" وموضع الإثبات " إلا الله "
" شهادة أن محمداً رسول الله (1) " دليلها : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. } أما معناها قال المصنف : " طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع " إ.هـ .
التعريف " طاعته فيما أمر " ومعنى الطاعة الموافقة على وجه الاختيار .
" فيما أمر " به على وجهين أي أوامره على قسمين :
1 - أن يأمر به على وجه الإلزام وهذا الواجب .
__________
(1) - مبنية على قول وعمل واعتقاد وهذا معناها .(1/83)
2 - أن يأمر به لا على وجه الإلزام وهذا المستحب .
" تصديقه " في كل ما أخبر به ونسبته إلى الصدق في الأمور الحاضرة والمستقبلة والمعينة وكل شيء .
" اجتناب ما نهى عنه وزجر " لعله يقصد الكبائر وما ورد فيه وعيد و زواجر ، لأن العطف يقتضي المغايرة . توحيد الإتباع فلا يعبد الله إلا بما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم .
2 ـ " الركن الثاني إقام الصلاة " والدليل قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة } .
وهذا من أركان الأساس وتارك الصلاة يكفر سواءا جحودا أو امتناعا أو كسلاً والدليل { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } . ومفهوم الآية إذا لم يقيموا الصلاة فليسوا إخواننا بل هم كفار . وحديث جابر عند مسلم [ بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة ] وهذا اللفظ [ ترك الصلاة ] لفظ عام يشمل التارك جحوداً والتارك كسلاً أو امتناعا ، وعليه إجماع الصحابة والتابعين ، ولا يُلتفت لخلاف من بعدهم بعد أن صح الإجماع ، ونقل الإجماع شقيق بن عبد الله وإسحاق بن راهويه وقال وكذلك كان رأى أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر اهـ التمهيد 4 / 225 .
وابن حزم في المحلى . وقال ابن حزم في الفصل في الملل 3 /128 فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشر رجلا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامدا ذاكرا حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد اهـ
ونقل إجماع الصحابة إن ترك الصلاة تكاسلاً أنه يكفر نقل ذلك الأمام محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة الجزء الثاني .(1/84)
ويكفر إذا ترك صلاة واحدة إذا خرج وقتها وهو متعمداً لفعليه عالما فإنه يكفر ، وإن تركها خفية أو يصلي أحيانا ويترك أحيانا ولم يظهر ذلك فإنه يكافر كفر نفاق مخرج من الملة .
3 ـ الركن الثالث أداء الزكاة والدليل : { ويؤتوا الزكاة } .
وإذا تركها جحوداً كفر إجماعاً ، وكذا امتناعا وهو إجماع الصحابة في عهد الصديق وصح من قول ابن مسعود ورواه ابن حزم في الفصل 3 /128 عن ابن عباس .
وإن تركها كسلاً وبخلاً فيكفر كفر نفاق قال تعالى ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) قال ابن كثير يقول تعالى ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين فما وفي بما قال ولا صدق فيما ادعى فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم القيامة عياذا بالله من ذلك اهـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقيل منع بن جميل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ينقم بن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله رواه البخاري ومسلم ، وقال تعالى ( الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) .(1/85)
أما حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار .(1/86)
قال سهيل فلا أدرى أذكر البقر أم لا قالوا فالخيل يا رسول الله قال الخيل في نواصيها أو قال الخيل معقود في نواصيها قال سهيل أنا أشك الخير إلى يوم القيامة الخيل ثلاثة فهي لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرا ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها وأما الذي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس فذاك الذي هي عليه وزر قالوا فالحمر يا رسول الله قال ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره رواه مسلم ، فالحديث ليس في مانع الزكاة المفروضة بدليل : أ ـ انه ذكر الخيل والحمير وليس فيها زكاة سائمة كالإبل والبقر كما في هذا الحديث .(1/87)
ب ـ أن قوله في الحديث زكاته يقصد الحقوق الواجبة ويدل عليه الرواية الأخرى عند مسلم وهي : عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في إبله وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه ، ويفسرها حديث جابر بن عبد الله الأنصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط وقعد لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل قال أبو الزبير سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك فقال مثل قول عبيد بن عمير وقال أبو الزبير سمعت عبيد بن عمير يقول قال رجل يا رسول الله ما حق الإبل قال حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها ومنيحتها وحمل عليها في سبيل الله رواه مسلم(1/88)
وفي لفظ عند مسلم من حديث عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن قلنا يا رسول الله وما حقها قال إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل
رواه مسلم .
وكذا رواه أبو داود وقال باب في حقوق المال عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره حتى يقضي الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار .(1/89)
قال ابن كثير في تفسير سورة المعارج : وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة مرّ رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له هذا أكثر عامري مالا فقال أبو هريرة ردوه إليّ فردوه فقال نبئت أنك ذو مال كثير فقال العامري إي والله إن لي لمئة حمراء أو مئة أدماء حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل فقال أبو هريرة إياك وأخفاف الإبل واظلاف الغنم يردد ذلك عليه حتى جعل لون العامري يتغير فقال ما ذاك يا أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها قلنا يا رسول الله ما نجدتها ورسلها قال في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها أو رسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ليس فيها عقصاء ولا عضباء إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ليس فيها عقصاء ولا عضباء إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله قال العامري وما حق الإبل يا أبا هريرة قال أن تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة وتفقر الظهر وتسقي الإبل وتطرق الفحل )
قال ابن كثير وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة به .(1/90)
قال ابن كثير وطريق أخرى لهذا الحديث قال الإمام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم وفيه الخيل الثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر إلى آخره .
قال ابن كثير ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردا به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام والغرض من إيراده ههنا قوله حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة اهـ .
ولأن الزكاة قرينة الصلاة فيقال فيها ما قيل في الصلاة تماما كما سبق وهو مذهب أبي بكر وابن مسعود ووافقهم الصحابة .
4 ـ الركن الرابع الصوم والدليل { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام .. } . وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام .
5 ـ الركن الخامس الحج والدليل : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
قال ابن حزم في الفصل 3 /128 وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج ـ أي في كفر تارك الحج .(1/91)
أما الدليل العام على كفر من ترك الفرائض والاركان الخمسة السابقة : قال عبد الله بن أحمد حدَّثنا سويد بن سعيد الهرويّ قال : سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء . فقال : يقولون الإيمان قولٌ وعملٌ ، والمرجئة أوجبوا الجنَّة لمن شهد أَنَّ لا إله إلا الله مصرَّاً بقلبه على ترك الفرائض وسمُّوا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم ، وليس بسواء لأَنَّ ركوب المحارم من غير استحلالٍ معصية، وترك الفرائض متعمِّداً من غير جهل ولا عذر هو كفر .اهـ السنَّة لعبد الله بن أحمد .
قال الحميديّ في أصول السُّنَّة : ، إنَّما الكفر في ترك الخمس التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بُنِيَ الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت .
و إن كانت طائفة ممتنعة ذات شوكة رفضت أن تلتزم الزكاة ، أو تلتزم الصوم أو الحج فإنها تقاتل على الكفر كما أفتى بذلك ابن تيمية – رحمه الله – وهو قتال على الردة واستدل بمقاتلة الصحابة لمانعي الزكاة .
مسألة : انتهى المصنف من ذكر الأركان الخمسة المعروفة ، فهل هناك أركان غيرها ؟ .(1/92)
بعض أهل العلم يزيد ما جاء في حديث الحارث الأشعري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب قال محمد بن إسماعيل الحارث الأشعري له صحبة وله هذا الحديث ، ورواه ابن حبان وصححه ثم قال : الأمر بالجماعة بلفظ العموم والمراد منه الخاص لأن الجماعة هي إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن لزم ما كانوا عليه وشذ عن من بعدهم لم يكن بشاق للجماعة ولا مفارق لها ومن شذ عنهم وتبع من بعدهم كان شاقا للجماعة والجماعة بعد الصحابة هم أقوام اجتمع فيهم الدين والعقل والعلم ولزموا ترك الهوى فيما هم فيه وإن قلّت أعدادهم لا أوباش الناس ورعاعهم وإن كثروا اهـ
وعن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، رواه أبو داود.
وبعض العلماء يزيد ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبعضهم يزيد ركن النصح ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع عليهما .
وقال أبو قاسم الأصبهاني في كتابه المحجة 2 / 507 فصل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنان وثيقان من أركان الدين يجب على المرء أن لا يهملهما .
والذي يظهر لي أنها أركان لقيام المجتمع الإسلامي وباعتبار إقامة كيان للمسلمين ودولة فلا بد من هذه الخمسة .
فصل
قال المصنف المرتبة الثانية : الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إلَه إلا ّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه : ستة، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره كله من الله .(1/93)
والدليل قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الأخر والملائكة والكتاب والنبيين ) ودليل القدر قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .
الشرح :
قال المصنف المرتبة الثانية " الإيمان " وهو لغة : التصديق { وما أنت بمؤمن لنا } . اصطلاحا : فالإيمان له معنيان : معنى عام وخاص ، فإذا تفرد عن الإسلام فيفسر بالمعنى العام ويكون الإيمان قول باللسان وعمل (سواءً بالجوارح أو القلب ) واعتقاد بالجنان . أي هو الخضوع والإتيان بالدين كله عملاً واعتقاداً . والسلف يفسرون الإيمان بكلمات أقلها اثنتان ـ قول وفعل ـ وأكثرها ست كلمات ـ قول وعمل واعتقاد ونية ومتابعة وإخلاص .
وأما إن اجتمع مع الإسلام فيفسر بالتفسير الخاص : وهو التصديق والاعتقاد بما جاء من شرع الله . وعلى ذلك فالإيمان يطلق على العمل الباطن والإسلام على الأعمال الظاهرة .
" مسألة " أركان الإيمان تعريف الركن ما لا يصح الإيمان إلا به وهي أركان ستة .
قال المصنف وأركانه : ستة، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره كله من الله .
قال المصنف " وهو يضع وسبعون شعبة " البضع من الثلاثة إلى التسعة والشعبة هي الطائفة والخصلة .
" أعلاها ً أي أعلى الشعب بمعنى الإيمان العام وإلاّ فإن قول لا إله إلا الله إسلام لأن الإسلام الأعمال الظاهرة . ومنه القول ، إلا إن قصد بالقول هنا قول القلب .
أما أعلاها : بالمعنى الإيمان الخاص فهو اعتقاد ما في شهادة أن لا إله إلا الله لأن الإيمان بالمعنى الخاص هو الاعتقاد .
" أدناها " بالمعنى العام " إماطة الأذى عن الطريق " والحياء شعبة من الإيمان " وهذا بالمعنى الخاص لأن الحياء عمل قلب واعتقاد . والمصنف هنا ذكر ثلاث جهات وذكر عمل كل جهة فجهة اللسان مثل لا إله إلا الله وجه الجوارح مثّل لها بإماطة الأذى ، وجهة القلب مثّل لها بالحياء .(1/94)
أما الأركان فهي ستة كالتالي :
1 ـ " أن تؤمن بالله " ومعناه التصديق بأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته.
2 ـ " الإيمان بالملائكة " وهو التصديق بوجودهم وبما وكل إليهم من أعمال .
3 ـ الإيمان بالكتب بما نزل الله من كتب على رسله .
4 ـ الإيمان بالرسل وهو التصديق بما أرسل الله من رسل والإيمان بهم .
" ورسله " ويدخل فيه الأنبياء فيجب الإيمان بهم ، والرسل هنا يقصد المعنى اللغوي . وهناك فرق بين الرسول والنبي .
الرسول .. لغة : المرسل أي المبعوث . اصطلاحا : من بعثه الله إلى قوم كفار وجاءهم بشرع جديد ولا يلزم من كونه رسولا أن ينزل عليه كتاب بل قد يكون على كتاب من قبله فإسماعيل رسول وهو على شريعة أبيه إبراهيم .
قولنا : أتى بشرع جديد : أي جديد على الكفار وإن كان موجوداً عند آخرين .
والنبي .. لغة : مأخوذ من النبأ ومأخوذ من الارتفاع . وأما في الاصطلاح فالمشهور أنه من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ وهذا التعريف خطأ وعليه انتقادات بل الصحيح أن النبي أوحي إليه وأمر بالتبليغ ويدل على ذلك قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } أي وما أرسلنا من نبي . وقوله تعالى { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } فالنبي يبعث وأمر بالتبليغ ومن السنة حديث جابر [ أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ثم قال وبعثت إلى الناس عامة وكل نبي يبعث إلى قومه خاصة ] وهو في الصحيح .(1/95)
أما الفرق بين الرسول والنبي فالفرق من وجهين : من جهة المرسل إليهم . فالرسول مرسل إلى الكفار ، والنبي إلى المؤمنين . ومن جهة الشرع فالرسول أتى بشرع جديد والنبي على شريعة من قبله وأفضل الرسل هم أولوا العزم الخمسة ( محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام ) وأفضل الخمسة محمد ثم إبراهيم وأما الثلاثة فمسكوت عن التفضيل بينهم فيما أعلم ، ويحتمل أن يُنزّل تفضيلهم على مقتضى حديث الإسراء حسب طبقاتهم في السماء ويحتمل على حديث الشفاعة الطويل ، والله اعلم .
5 ـ " الإيمان باليوم الآخر " أي التصديق باليوم الآخر وبالحساب والعقاب والجنة والنار وعذاب القبر .
6 ـ أن تؤمن بالقدر خيره وشره أي أن تصدق بما قضاه الله وقدره . وكيفيه الإيمان بالقدر : أن تؤمن أن الله علم بالشيء قبل وجوده ومشيئته له وكتابته له في اللوح المحفوظ وأن الله أوجده .
قوله : " شره " ظاهره أن القدر فيه شر ولكن هذا فيه تفصيل أما باعتبار فعل الله وقضائه وقدره فكله خير ليس فيه شر لحديث [ والشر ليس إليك ] أما باعتبار الناس ففيه شر فالكفر والمعاصي وإبليس شر (1) . إذا فهو باعتبار فعل الله خير وأما باعتبار فعل الخلق فهو شر . والدليل على أركان الإيمان : قوله تعالى { ليس البر أن تولوا .. } ودليل القدر : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
فصل
قال المصنف المرتبة الثالثة : الإحسان، ركن واحد، وهو : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وقوله تعالى : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) وقوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين ) وقوله تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ) .
__________
(1) - ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها .(1/96)
والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه، قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال يا محمد : أخبرني عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إلَه إلا ّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلاً ؛ قال صدقت " فعجبنا له : يسأله، ويصدقه .
قال : " أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الأخر ، والقدر خيره وشره ؛ قال : صدقت ؛ قال أخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ؛ قال : صدقت قال أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ؛ قال : أخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة، العالة، رعاء الشاء،
يتطاولون في البنيان " فمضى فلبثنا ملياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عمر : أتدرون من السائل ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ؟ قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " .
الشرح :
قال المصنف المرتبة الثالثة .. الإحسان : تعريفه لغة : مشتق من الحسن ويطلق على الإتقان والإجادة . واصطلاحاً : فهو إتقان الظاهر والباطن أي إتقان الإسلام والإيمان. وهو أعلى المراتب فإذا أتقن الإنسان وأحسن في إسلامه وأتقن كذلك إيمانه فإنه يكون من المحسنين .
مسألة : أركان الإحسان : قال المصنف له ركن واحد وعرف المصنف هذا الركن " أن تعبد الله كأنك تراه " تعبد الله عبادة متقنة مجردة . ومعنى أن تعبد الله أي تذل وتخضع لله في أعمالك الظاهرة واعتقاداتك الباطنة .
وهذا الركن له مرتبتان :(1/97)
( أ ) مرتبة الاستحضار وتعريفها أن تعبد الله كأنك تراه (1) فتستحضر في عبادتك أنك بين يدي الله .
( ب ) مرتبة الإطلاع وأشار إليها المصنف بقوله : " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أي أن تعبد الله وتشعر أنه مطلع عليك ويراقبك وهذا يورث أن تحسن العبادة .
" مسألة " أي المرتبتين أفضل ؟ الأفضل الأولى : الاستحضار ولذلك بدأ بها في الحديث . ثم ذكر المصنف الدليل على ذلك فبدأ بالدليل على المرتبة الأولى وهو قوله تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } .. (أي متقنون ) الأعمال والاعتقادات .
أما الدليل على المرتبة الثانية فذكر المصنف دليلين : { وتوكل على الله العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم } أي يطلع عليك ويراقبك وهذا يورث الإحسان في الإسلام والإيمان .
والدليل الثاني قوله تعالى : { وما تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } أي تشهر أن الله يشاهدك وهذا يورث الإحسان في الأعمال والاعتقادات .
فصل
قال المصنف والدليل من السنة أي على مراتب الدين الثلاثة حديث جبريل المشهور : [ إذ طلع علينا رجل ] فيه أن الملائكة قد تتشكل في صورة رجال بإذن الله وقد جاء جبريل على هيئة دحية الكلبي . وفي الصحيح أن الملك جاء إلى الرجل في صورة أعمى وصورة أبرص وصورة أقرع .
" شديد بياض الثياب " على غير المعتاد للمسافر أن تكون ثيابه بيضاء .
" شديد سواد الشعر " أي أن بدنه ومظاهره نظيفة وهذا أول ما أشكل على الصحابة لكونه مسافراً ونظيفة خلاف عادة المسافر .
__________
(1) - وهي مرتبة المحبة والتطلع والشوق وهي أكمل .(1/98)
" فجاء يتخطى الرقاب حتى جلس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم " فتخطي الرقاب يكره إلا لحاجة . "حتى جلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه " . جلس كما يجلس المصلي في الجلسة بين السجدتين والضمير في كفيه وفخذيه يعود على جبريل . قوله " فقال يا محمد .. " ناداه باسمه مع أن الله قال : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } . ولم يذكر الصلاة والسلام على الرسول وهذا يؤيد القول الثاني أن الصلاة والسلام على الرسول عند ذكر اسمه سنة مؤكدة ، ويكون صارفاً لقوله تعالى : { صلوا عليه وسلموا تسليماً } .
ثم طرح على الرسول عدة أسئلة ، سأله عن الإسلام فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الذل والخضوع لله بالأركان الخمسة وهي الشهادتان والصلاة والصوم والزكاة والحج ، فقال : صدقت وهذا التعجب الثاني من الصحابة لأن السائل عادة لا يصحح الجواب .
ثم طرح السؤال الثاني وسأل عن الإيمان فأخبره أن الإيمان هو الذل والخضوع لله بالاعتقادات الباطنة قال صدقت وهذا التعجب الثالث . وهذا فيه التعجب من الأشياء التي تخالف العادة . فطرح السؤال الثالث : قال أخبرني عن الإحسان فقال له : أن تذل وتخضع لله بإتقان الإسلام والإيمان لله ، ثم سأله السؤال الرابع فسأله عن الساعة : فلم يجبه لرسول عن هذا السؤال لأنه سأل عن وقتها ووقت الساعة لا يعلمه إلا الله
السؤال الخامس : سأله عن علامات الساعة فأخبره عن علامتين والجامع بين العلامتين أن فيها انعكاس للأمور فيكون أسفل الشيء أعلاه . الأولى أن تلد الأمة ربتها بحيث يصير المربي وهي الأم مربياً عندما تكثر السراري (1) ، العلامة الثانية أن يكون فقراء الناس هم أعالي الناس ثم بعد ذلك أخبر الصحابة عن السائل أنه جبريل أتاكم يعلمكم الدين ] .
__________
(1) - الإماء .(1/99)
قوله في الحديث " الله ورسوله أعلم " تقال في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاته الرسول صلى الله عليه وسلم فيقال الله أعلم إذا سئل عما لا يعلم .
الأصل الثالث
وهو معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
قال المصنف الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبيء بإقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة .
بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى : (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) ومعنى : ( قم فأنذر ) ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد ( وربك فكبر ) أي : عظمه بالتوحيد ( وثيابك فطهر ) أي طهر أعمالك عن الشرك ( والرجز فاهجر ) الرجز الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين، يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى(1/100)
المدينة، والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي : باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا) وقوله تعالى : ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) قال البغوي رحمة الله تعالى : سبب نزول هذه الآية في المسلمين، الذين بمكة، لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان ؛ والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم " لنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .
فلما استقر بالمدينة : أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام ؛ أخذ على هذا عشر سنين ؛ وتوفي صلى الله عليه وسلم ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا ّحذرها منه، والخير الذي دل عليه : التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه ؛ والشر الذي حذر عنه : الشرك بالله، وجيمع ما يكرهه الله ويأباه .
الشرح :
ومعرفة هذا الأصل يتضمن :
1 ـ العلم باسم الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبه .
2 ـ كونه نبياً رسولاً .
3 ـ معرفة هجرته .
4 ـ معرفة بما أرسل .
5 ـ معرفة شيء من سيرته الذاتية كعمره ومتى توفي وبلده .
والمصنف أعطى تعريفاً موجزاً لسيرته .
" مسألة " ما الفرق بين هذا الأصل وركن شهادة أن محمداً رسول الله ؟
- الفرق بينهما أن هذا الأصل اعتقادي علمي يتعلق بالمعرفة وأما ركن شهادة أن محمداً رسول الله فهو أصل عملي أي أنك تطيعه وتتبع أوامره فهناك تعمل وهنا تعتقد وتعرف وفائدة هذا لأصل علمية معرفية .(1/101)
" مسألة " ما هو مقدار الواجب من معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ قبل الإجابة على ذلك يجب أن نعرف أن هناك فرض كفاية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصده المصنف هنا وإنما قصد هنا ما يجب على كل مسلم ومسلمة كما قال في المقدمة ، أما فرض الكفاية فهذا واجب على مجموع الأمة يجب على بعض العلماء التخصص في الإحاطة بمسائل السيرة ومعرفة تفاصيل ذلك .
ولآن نعود للجواب : قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص 167 في باب من الإجماع في الاعتقادات التي يكفر من خالفه بالإجماع إلى أن قال : ومنه أن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي المبعوث بمكة المهاجر إلى المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الجن والإنس إلى يوم القيامة اهـ
وقال في المراتب ص 174 اتفقوا أنه بقي بالمدينة عشر سنين نبيا رسولا وبمكة مثلها رسولا نبيا واختلفوا هل بقي في مكة أكثر أم لا . وقال واتفقوا أن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من مكة إلى المدينة يثرب وأن قبره بيثرب وبها مات عليه السلام وأنه نكح النساء وأولد اهـ
وقال القرطبي لما ذكر الفضائل قال ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا اهـ الجامع لفقه القرطبي 1 / 116 .
قال القاضي عياض في كتابه الشفا في باب ما يكفر به من المقالات في بيان مسائل النبوة من جحد النبوة من أصلها عموما ، أو نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بلا ريب كالبراهمة ومعظم اليهود والاروسية من النصارى والغرابية من الروافض الزاعمين أن عليا كان المبعوث إليه جبريل وكالمعطلة والقرامطة والإسماعيلية والعنبرية من الرافضة وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .(1/102)
قال مثله جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع كالمتفلسفين وبعض الباطنية والروافض وغلاة المتصوفية وأصحاب الإباحية .
وكذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به ، أو شك في صدقه أو سبه أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبيا أو حاربه فهو كافر بإجماع .
وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيرا ونبيا من القردة والخنازير والدواب والدود وغير ذلك ويحتج بقوله تعالى ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .
قال : وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن قال كان أسود أو مات قبل أن يلتحي أو ليس الذي كان بمكة والحجاز أو ليس بقرشي لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي وتكذيب به .
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم لو بعده كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم بعده ، فكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة .
وكذلك من ادعى النبوة لنفسه أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدعي النبوة أو أنه يصعد إلى السماء ويدخل الجنة اهـ مختصرا والشاهد ظاهر .
وظاهر صنيع المصنف أن ما ذكره من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هنا أنه واجب ، فيجب أن تعرف أسمه واسم أبيه وجده وقبيلته ، وكم عمره ، ومتى نبئ ومتى أرسل ، وبلده ، ومهاجره ، وبماذا أرسل ، وكم سنة مكث في مكة ، وكم سنة مكث بالمدينة ، ومعرفة الإسراء والمعراج .(1/103)
والذي يظهر لي أن ذلك ليس كله واجب وإنما بعض ذلك واجب والباقي مستحب . والقدر الواجب الذي يسأل عنه في القبر بسؤال الملكين وقد جاءت أحاديث كثيرة في سؤال الملكين عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون المقدار الواجب في معرفة النبي صلى الله عليه وسلم كالتالي :
أ ـ يجب معرفة اسمه ، وأما اسم أبيه وجده فمستحب وإنما الواجب أن تعرف أن اسمه محمد . كما جاء من حديث أنس المتفق عليه [ إن الملكين يسألان فيقولان : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : محمد .. ] .
وجاء في حديث أنس المتفق عليه [ أن الملكين يسألان فيقولان : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله .. ] . متفق عليه ، ويدل على أنه يسأل عن اسمه فقط ما جاء عن أبي داود والنسائي من حديث أنس [ ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول هو عبد الله ورسوله فما يسأل عن شيء غيرها ] .
ب ـ أن تعرف أنه رسول الله وأنه نبي وأنه عبد الله لا ملك ولا إله ولا يُعبد ولا يُستغاث به ولا يُذبح له ولا يُصرف له شيء من العبادة ، ومن صرف له شيء من العبادة فهو مشرك كافر ، ويدل عليه حديث أسماء [ فيقول محمد رسول الله ] . وحديث أنس عند أبي داود والنسائي [ فيقول : هو عبد الله ورسوله ] وجاء عند البخاري في كتاب الجنائز [ إذا أقعد المؤمن ثم أتى شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ] . وفي المسند من حيث البراء بن عازب الطويل المشهور . فيقول : [ هو رسول الله ] وجاء في حديث الجارية رواه مسلم أنه سألها أين الله فقالت : في السماء . قال : من أنا . قالت : رسول الله . وفي رواية [ أتشهدين أن محمداً رسول الله ؟ قالت : نعم. قال : أعتقها فإنها مؤمنة ] .(1/104)
ج ـ يجب أن تعرف ما جاء به الرسول وهذا أعظمها كما جاء في حديث أسماء المتفق عليه [ فيسأل الملكان ما علمك بهذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا ] وجاء عند الترمذي من حديث علي مرفوعاً [ لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : (منها) أني رسول الله بعثني بالحق .. ] .
أنه يسأل عن الدليل كيف عرفت إن محمد رسول الله وأنه جاء بالحق . ويدل على ذلك حديث البراء بن عازب الطويل [ في سؤال الملكين فيقولان : ما يدريك عن هذا الرجل ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت وصدقت ].
د ـ ويجب أن يعرف أنه عر بي وأنه قد مات كما قال تعالى ( إنك ميت وإنهم ميتون ) وقوله ( وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) وأنه في قبره عي حياة برزخية .
هـ ـ ويجب أن يُعرف من سيرته ما يُفرق بينه وبين مدعي النبوة .
قال المصنف " معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم " والملاحظ أنه لم يقل معرفة النبي بالأدلة كما قالها في معرفة الله ومعرفة الدين ويلاحظ أنه قال : نبيكم ولم يقل رسولكم لكنه جاء أثناء الحديث عن الرسالة .
وقوله : " وهو محمد بن عبد الله " المقدار الواجب محمد وما زاد فهو مستحب ثم ذكر نسبه إلى إبراهيم عليه السلام . ثم ذكر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته وأنه ثلاث وستون سنة وهذه معرفتها مستحبة ، منها أربعون قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولا. وهذه معرفة مستحبة .
قوله " نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر " وهذه معرفة واجبه ، قال القرطبي لما ذكر الفضائل قال ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا اهـ الجامع لفقه القرطبي 1 / 116 .
قوله " وبلده مكة وهاجر إلى المدينة " هذا من المستحب معرفته .(1/105)
بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، والبراءة منها وأهلها وهذه معرفة ما جاء به الرسول وهذه واجبة وهي أعظمها و أعلاها ، كما قال الشارح وما جاء به الرسول هو :
الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى إفراد الله بما يستحقه من لأسماء والصفات والربوبية والألوهية وترك الشرك وأهله ، الدليل على ذلك قوله : { يا أيها المدثر ... وربك فكبر } أي عظمه بالتوحيد .
جاء ليبين الشرك وينذر عنه والدليل قوله { قم فأنذر } ، فينذر عن الشرك { وثيابك فطهر } أي طهر أعمالك عن الشرك ويقصد بالثياب هنا المعنوية.
جاء بالبراءة من المشركين ومن دينهم ومن أعمالهم قال تعالى : { والرجز فاهجر } ، فيهجر الأصنام وجاء بالبراءة منها ومن أهلها ، " وأخذ يدعو بهذه الأمور في مكة عشر سنوات وبعد العشر جاءت مسألة الإسراء والمعراج وفرضت عليه الصلوات الخمس وصلى في مكة ثلاث سنين قبل الهجرة ، وبعدها هاجر إلى المدينة " .
فصل
قال المصنف " وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة " الموضوع يتعلق بالهجرة . " بعدها " أي بعد الثلاث سنوات بعد الإسراء والمعراج " أمر " مبني للمجهول والآمر هو الله سبحانه وتعالى وهذه هي المرحلة الوسطى من مراحل الهجرة . فالهجرة على أنواع :
أ ـ هجرة من بلاد الخوف والاضطهاد إلى بلاد الأمن وهي الهجرة إلى الحبشة كما هاجر الصحابة .
ب ـ الهجرة إلى المدينة فقط ، وهي التي يتحدث عنها المصنف هنا وهو الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام الوحيد وهذه الهجرة الوسطى (1) باقية وهي أشد وجوباً لأن سببها أن يجتمع المسلمون في مكان واحد لإقامة الدين ، وهي الهجرة التي كانت من بداية هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد غزوة الأحزاب .
ج ـ الهجرة من بلاد الفتنة .
د ـ الهجرة من بلد البدعة المكفرة الغليظة .
__________
(1) - وتسمى هجرة النصرة من هاجر مثلاً إلى بلد جديد في إسلامه يريد النصره وتسمى هجرة الجهاد فهي لتكثير السواد .(1/106)
هـ ـ الهجرة من بلد المعاصي والبدع غير المكفرة ونحو ذلك .
مسألة : وكلما وجدت أسباب كل نوع وجب فإذا وجد اضطهاد للمسلمين وليس هناك بلد إسلامي يهاجرون إليه هاجروا إلى أي بلد آمن حتى ولو كان كافراً كما حصل للصحابة عندما هاجروا من مكة إلى الحبشة . أما إذا وجد بلد إسلامي وحيد وهذا البلد قريب النشأة فيجب الهجرة إليه ليصبح المسلمون قوة واحدة كما فرض الهجرة إلى المدينة وكانت قريبة النشأة وهذه الهجرة حكمها حكم الجهاد ، فإذا قوي المسلمون وانتشرت البلاد الإسلامية فتجب الهجرة على العاجز إلى أي بلد إسلامي .
أما تعريف الهجرة فهي لغة : الترك . اصطلاحا : فهي ترك ما نهى الله عنه إلى ما أمر الله به ، وهذه الهجرة بالمعنى العام ، وأما تعريف الهجرة بالمعنى الخاصة : فهي كما قال المصنف " الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
" مسألة "ما هو بلد الشرك ؟ بلد الشرك أو بلد الكفر هي الديار التي يكون فيها الغلبة والقوة للكفار أو المشركين وهي التي تجري فيها أحكام الكفر أو الشرك ولو كان فيها مسلمون . ولو ظهر فيها بعض خصال الإسلام إذا كان هذا الظهور بالخصال الإسلامية بسبب إذن الكفار لا بقوة المسلمين وأما ديار الإسلام فهي ما كان الغلبة والقوة للمسلمين وهي التي تجري فيها أحكام الإسلام .
قولنا : " القوة والغلبة " القوة تحصل إما بقوة السلطان أو بقوة الرعية ولو أراد السلطان أو الرعية ألا تظهر هذه الخصال لم تظهر .(1/107)
" مسألة " هناك بلد ثالثة لا تسمى بلد شرك بإطلاق ولا تسمى بلد إسلام بإطلاق ؟ وهي ما ظهر فيها الإسلام وأحكام وخصال الإسلام بقوة الرعية أو السلطان وظهر فيها أحكام وخصال الكفر بقوة أهلها بحيث لا يستطيع هؤلاء منع هؤلاء وبالعكس هذه بلد مختلطة فيقضى لأهل الإسلام حكم وللكفار حكم وهذا النوع من البلاد ما حدث إلا من قريب عهد أبي العباس ابن تيمية ولذا سئل عن بعض البلاد التي تجري فيها أحكام الكفر بقوة وتجري أحكام وخصال الإسلام بقوة . فقال لا تعطى حكم الكفر بإطلاق ولا تعطى حكم الإسلام بإطلاق وإنما كل يعامل بحسبه . وهي ما تُسمى بالمسألة الماردينية . والمسألة الماردينية نسبة إلى البلد (ماردين) وهي بلد شما سوريا هذه لم تأتي إلا وقت التتار فسئل ابن تيمية عن هذه المسألة فقال : " لا تسمى مسلمة بإطلاق ولا كافرة بإطلاق وإنما يعامل كل بحسبه وهذه تسمى بلاد مختلطة .
وفي عهد أبي بكر ظهرت أحكام بلاد الردة ، وفي عهد علي بن أبي طالب ظهرت بلاد البدعة وهي بلاد الخوارج ـ حروراء ـ .
قال المصنف " من بلاد الشرك " بلاد مضاف ، الشرك مضاف إليه ، والإضافة بتقدير اللام ، أي بلاد للشرك واللام للملك والقوة والغلبة .
قال المصنف " بلاد الإسلام " الإضافة على تقدير اللام بلاد للإسلام ، فتكون اللام للملك والاستحقاق .
مسألة : الأقوال في بلاد الإسلام :
أ ـ الحكم يناط بجريان الأحكام والحكومة ، يدل على ذلك أن خيبر يوم فتحها الرسول اعتبرت بلاد إسلام جرى فيها حكم الإسلام ولكن شعبها كلهم يهود .
ب ـ يناط بالشعوب والرعية .
ج ـ يناط بالمكان والمجاورة فإذا كان هناك دولة إسلامية وبجوارها دولة فيها إسلام فهي إسلامية .
د ـ بلاد الإسلام كل ما فتحه المسلمون فتبقى إسلامية حتى يوم القيامة .(1/108)
والقول الرابع أضعفها : بدليل أن مصر في عهد العبيديين أجمع العلماء بأنها بلاد كفر . ثم في الضعف الثالث وأقوى الأقوال الثاني والثلاث وأقوى القولين الأول .
أما بالنسبة للجغرافيين : فيقولون إن العبرة بشعبها إذا كان غالبهم مسلمين والحكام علمانيين فيقولون بلد إسلام وهذا غير صحيح .
* وقد يكون بلاد مختلطة فيها قوة جريان أحكام لهؤلاء وهؤلاء :
" مسألة " لو كانت البلد بلاد بدعة وليست بلاد شرك ؟ فهل يجب الهجرة ؟ يجب هنا أن نتعرض لأنواع الهجرة :
أولاً – الانتقال من بلد الشرك إلى بلد اٍلإسلام وأما حكمها فواجبة على القادر إن كان قادراً على الهجرة ولا يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك فيجب عليه ويدل عليه : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } بترك الهجرة مع القدرة عليها . أما إن كان في بلاد الشرك قادراً على إظهار دينه ويأمن على نفسه فالجمهور على أن يستحب له الهجرة واختاره ابن قدامة في المغنى وابن تيمية وكثير من أهل العلم .
ثانياً- الهجرة من بلد البدعة التي تجري عليه فيها البدعة إلى بلد السنة وهذه أيضاً واجبة ويدل على الوجوب قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } .
ونقل ابن العربي في أحكام القرآن (484/1) عن ابن القاسم عن مالك قال : " لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها الصحابة " وهذا مثل البلاد التي تغلّب عليها المعتزلة أو الرافضة أو الخوارج ، وتجري عليهم مقالاتهم . وقد هاجر الخرقي من بغداد لما كثر فيها سب الصحابة .
حكم الهجرة هنا للذي لا يستطيع إظهار السنة في هذا البلد ولا يأمن على نفسه بل تجري عليه البدعة فيجب أن يهاجر ، وإن استطاع أن يظهر السنة فيستحب أن يهاجر إلا إن كان في البقاء مصلحة للمسلمين فله أن يبقى كما بقي العباس في مكة وكان على إسلامه .(1/109)
ثالثاً ـ الهجرة من بلد الخوف والظلم ، إذا كان في بلد مضطهد لقيامه بالدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله أن يهاجر لبلد إسلام آخر يستطيع أن يأمر فيه وينهى قال الشوكاني "في السيل الجرار الجزء الرابع" بعدما تكلم عن الهجرة قال "وليس مختصة بدار الكفر بل هي شريعة قائمة وسنة ثابتة عند استعلان المنكر وعدم الاستطاعة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم وجود من يأخذ على أيدي المنتهكين لمحارم الله فحق على العبد المؤمن أن ينجو بنفسه ويفر بدينه إن تمكن من ذلك ووجد أرضاً خالية من التظاهر بالمعاصي فإن لم يجد فليس بالإمكان أفضل مما كان اهـ
واختاره ابن العربي في أحكام القرآن واستدل على ذلك بفرار إبراهيم عليه السلام قال تعالى :{إني ذاهب إلى ربي سيهدين } وفعل نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام قال تعالى:{فخرج منها خائفا يترقب قال ربي نجني من القوم الظالمين}.
وذكر في تحفة الأحوذي (5/214) أن من حكمة الهجرة إلى الحبشة ليسلم من أذية ذويهم ..ا.هـ . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم " خير مال المسلم غنم يتبع به شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " رواه البخاري .
رابعاً - الهجرة من بلد الأوبئة والأمراض فما حكم الانتقال منه وهل يعد هجرة ؟
أما الانتقال فجائز لقوله صلى الله عليه وسلم " فر من المجذوم فرارك من الأسد " ونهيه عليه الصلاة والسلام أن يورد ممرض على مصح وقد أذن النبي للذين استوخموا المدينة أن يخرجوا عنها حتى يصحوا ويكون حكمها حكم التداوي لأنها من أسباب التداوي ولكن لا يحب الخروج منها واستثنى العلماء بلد الطاعون فقالوا لا يخرج منها ولا يدخل إليها . كما حدث للصحابة في طاعون عمواس ، والبقاء فيها جائز فقد روى أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل من المجذوم وقال ثقة بالله . وهو لا يعد هجرة بالمعنى الشرعي وإن كان يدخل في مسمى الهجرة لغة .(1/110)
خامساً - بلد المعاصي التي غلب عليها الكسب الحرام ، فهذه عدها بعض أهل العلم من البلاد التي يهاجر منها اختاره صديق خان في كتابه العبرة فيما جاء في الغزو والهجرة واختاره ابن العربي في أحكام القرآن .
هذه التي مضت هي أنواع الهجرة باعتبار البلاد ، وإذا قلنا الهجرة واجبة فهي في حق غير القادر (1) وأما القادر فلا تجب عليه مادام أنه مظهر الإسلام والسنة لا تجري عليه الحكام الكفر أو البدعة أو المعصية ، ولكن يستحب الهجرة على قول الجمهور إلا إن كان في مصلحة للإسلام ظاهرة وأمن على نفسه فيبقى .
"مسألة"ما معنى قولنا "قادر على إظهار الدين " أي جميع الدين فالألف واللام في الدين للعموم فإن كان قادراً على إظهار الصلاة والأذان ولكن غير قادر على إظهار التوحيد فليس بقادر وإن كان قادراً على الصيام وغير قادر على البغض والمعاداة للكفار فليس بقادر ، فتجب عليه الهجرة إلا أن الهجرة في هذه الآونة قد تكون صعبة بسبب مسائل الحدود والإقامة والقوانين الوضعية .
قال المصنف "والهجرة فريضة " فيه تفصيل : فمن كان غير قادر على الهجرة فليست في حقه فرضً وأما إن كان قادراً على الهجرة وغير قادر على إظهار الدين فهي فرض في حقه .
قال المصنف "على هذه الأمة "أي أُمة الإجابة .
قال المصنف "وهي باقية إلى أن تقوم الساعة " وهذا رد على من قال أنها منسوخة بعد فتح مكة واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا هجرة بعد الفتح "والصحيح لا هجرة من مكة بعد الفتح لأنها أصبحت دار إسلام .
__________
(1) - غير القادر : أي غير قادر على إظهار دينه او لا يستطيع سبيلا .(1/111)
قال المصنف "إلى أن تقوم الساعة " إلى قرب قيام الساعة مادام أن هناك مسلمين لأن من المعلوم أن الساعة تقوم على الكفار واستدل على ذلك بقوله تعالى :{قالوا فيما كنتم قالوا : كنا مستضعفين في الأرض " أي ضعفاء بمعنى الأقلية ليس لنا أمر لأنهم ضعفاء غير قادرين على الهجرة وكثّروا سواد الكفار في معركة بدر ، ولذا فبلاد الكفر لما كان فيها المسلمون ضعفاء ليس لهم فيها أمر ولا نهي فقالت لهم الملائكة على وجه الإنكار {ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم } وهذه من آيات الوعيد ومذهب السلف إجراء آيات الوعيد على ما جاءت عليه لأنه أوقع للزجر لكن إذا خشي أن يفهم منها الخلود أو التكفير فإنها تشرح، ولذا قد يقول قائل ظاهر مأواهم جهنم إنهم خالدون فيها فالجواب : أن يقال لا لأنه بإجماع أهل السنة والجماعة أنه لا خلد في النار لمن ترك الهجرة مع أنه مسلم ولا خلود على من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب غير مستحل لها ".
لكن إن كان ترك الهجرة رغبة عن الإسلام أو صاحبها كفر فهذا فيه الخلود في النار أو كان ليس مجرد تكثير سواد الكفار بل قاتل معهم وحمل السلاح ورمى فهذا تولي مخرج من الدين .
" إلا المستضعفين " استثنى الله المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة . وأما الآية الثانية فتدل على وجوب الهجرة لقوله تعالى : {إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } دليل الهجرة من السنة قال المصنف "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة".
فصل
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والحج والأذان والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام وأخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلاة الله وسلامه عليه ، ودينه باق وهذا دينه ، لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه . والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحب الله ويرضاه . والشر الذي حذرها منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه ".(1/112)
الشرح : وهذه الأمور واضحة .
فصل
مسائل تتعلق بالأصل الثالث
بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين، الجن والإنس، والدليل قوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) .
الشرح :
إلى هذا نهاية الأصل الثالث وختمه المصنف ببان ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه جاء بالتوحيد والنهي عن الشرك وهذا إعادة مرة أخرى لمدى أهميته .
المسألة الأولى : عمومية بعثه الرسول صلى الله علية وسلم وأنه بعث إلى الخلق عامة قال المصنف "بعثه الله للناس كافة " واقتصار المصنف على ذكر الناس هنا لا يدل على خصوصيته بالناس ولذا قال المصنف بعدها "وافترض الله طاعته على جميع الثقلين " مما يدل على أنه بعث إلى الإنس والجن والدليل على أنه مبعوث إلى الخلق عامة قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وقوله :{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وقال تعالى{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن }.
المسألة الثانية : كمال الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال المصنف وأكمل الله به الدين والدليل قوله تعالى :{ اليوم أكملت لكم دينكم }.
المسألة الثالثة : تتعلق بموت الرسول وأنه صلى الله عليه وسلم مات يقيناً{إنك ميت وإنهم ميتون } ومعنى موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كموت بقية الناس ومعنى الموت : مفارقة الروح الجسد أي خروجها في هذه الحياة الدنيا وليس معنى الموت هو فناء الروح فإن الروح لا تفنى ، وإنما تنتقل إلى الملأ الأعلى إن كان مؤمناً أو إلى ما شاء الله من العذاب إن كان غير ذلك .(1/113)
وفي هذا رد على المبتدعة وعباد القبور والذين يستغيثون بالرسول ويقولون إنه لم يمت والرسول صلى الله عليه وسلم في قبره حي ولكن حياة برزخية ولروحه اتصال ببدنه ، ولذا جاء في الحديث أن الرسول يرد على من يسلم عليه ، وألف البيهقي رسالة في بيان حياة الأنبياء وأنهم أحياء لكن حياة برزخية . وقلنا أن الموت هو مفارقة الروح للبدن فما هو السبب للموت ؟ السبب الوحيد للموت هو انتهاء الأجل بما قدر الله . فالمقتول مات لأنه انتهى أجله والمريض مات لأنه انتهى أجله خلافاَ للمعتزلة الذين يقولون أن المقتول مات قبل أجله ولو لم يقتل لاستمر في الحياة .
هل الدعاء بزيادة العمر مشروع ؟
كره الإمام أحمد أن يقال للشخص أطال الله عمرك وقال : لا تسأل الله عن شيء فرغ منه ، ومثله ما يوجد في نهاية الخطابات " دمتم" فتدعو له بالدوام وهذا يكره . ولكن الظاهر الجواز فقد ثبت في حديث أنس أنه قال (اللهم أطل عمره وأكثر ولده..) متفق عليه . فيكون المقصود أطال الله عمرك بطاعته فهي على تقدير محذوف .
هل مفارقة الروح للبدن بالموت مفارقة لا لقاء بعدها ؟
الجواب : لا .. بل تلتقي الروح بعد الموت بالبدن . لذلك لو مات الميت وانتقلت روحه فإذا وضع في القبر عادت الروح إذا جاء منكر ونكير للسؤال . ثم بعد ذلك تنتقل الروح إما إلى نعيم أو عذب أو ما شاء الله .
فصل
والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) وقوله : ( والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ) وبعد البعث محاسبون، ومجزيون بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والدليل قوله تعالى : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنببؤن بما عملتم وذلك على الله يسير )
الشرح :(1/114)
ـ ثم بعد ذلك ذكر المصنف مسائل عامة وهذا هو القسم الأخير من الكتاب ذكر فيه عدة مسائل .
المسألة الأولى : مسألة البعث قال المصنف :"والناس إذا ماتوا يبعثون".
البعث عودة لأرواح إلى الأجساد بعد النفخة الثالثة وهذا تعريف أبي العباس ابن تيميه في الواسطية .. والبعث لغة الإرسال . قول المصنف " والناس يبعثون " لم يقصد التخصيص لأن البعث يشمل الإنس والجن بل حتى الحيوانات لكي يقتص بعضها من بعض قال تعالى : {وإذا الوحوش حشرت}ويكون البعث بعد النفخة الأخيرة . وصح عن أحمد أنه قال (إنه ليعاد للشاة بعضها في بعض ) أي الجلحاء والقرناء .
مسألة : اختلف أهل العلم في عدد النفخات .. فمنهم من قال هي نفختان ومنهم من قال هي ثلاث ، والذي قال نفختين دمج نفختين في نفخة وهذه النفخات الثلاث هي :
أ ـ نفخة الفزع في الصور .. قال تعالى : { ونفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض }.
ب ـ نفخة الصعق وهلاك كل شيء أراد الله هلاكه قال تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله ....} وهاتان النفختان أحياناً تدمج في نفخة واحدة ، لكن هذا التفصيل أكمل .
ج ـ نفخة البعث قال تعالى : { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }.
وأول من يبعث من الناس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد جاء من حديث أبي سعيد رواه أحمد بسند حسن أن الرسول قال : "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر "
والناس يبعثون من قبورهم ، وهذا بالنسبة للمقبورين وإلاّ من حيث كانوا يبعثون . أما مراتب اليوم الآخر فهي كالتالي :
1- البعث والنشور .
2- الحشر.
3- القيام وهو أن يطول قيامهم بعد الحشر فأول قيامهم عراة غير مختونين ثم يكسون فأول ما يكسى إبراهيم ثم النبي ثم يكسى الناس بعدهم ثم تدنوا الشمس فيعرقون على قدر أعمالهم .
4 ـ ثم تقريب النار وجرّها ثم تزلّف الجنة .(1/115)
5- الشفاعة الكبرى . سجوده قُدّر في مسند أحمد بجمعة أي ( أسبوع ).
6- مجيء الله لفصل بين الخلق .
7- العرضتان وهي جدال ومعاريض .
8- العرض الثالث ومنه الحساب اليسير وهو التقرير وهو خاص بالمؤمنين المرحومين ومنه المؤمن الذي عصى وستره الله ويريد أن يغفر له في الآخرة .
9 ـ ثم الحساب العسير وهو حساب المناقشة وهذا يشمل الكفار والمنافقين و عصاة المؤمنين الذين لم يشأ الله أن يستر عليهم ويغفر لهم ذنوبهم وهو على رؤوس الخلائق
10- ثم تطاير الصحف .
11 ـ الميزان .. وذلك بعد ما أطلع الناس على أعمالهم واطلعوا على صحفهم وانتهت مناقشتهم . بعد ذلك يوزنون
12- الصراط .
13- ثم القنطرة .
14 ـ أهل الأعراف
15 / 16 ـ ـ الجنة أو النار ، وذبح الموت بين الجنة والنار .
وكل مرحلة من تلك المراحل فيها مراحل أيضا وتفصيل . والمصنف رحمه الله اختصر المراحل ، وسوف نبسط إن شاء الله بتيسير الله وتسهيله تفصيل هذه المراحل بأدلتها في شرحنا للواسطية.
مدة هذه المراحل من البعث والحشر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة كلهم وأهل النار النار كلهم مدتها خمسون ألف عام كما قال تعالى (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) فقد جاء عن ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال يوم القيامة قال ابن كثير وإسناده صحيح .
ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) يوم القيامة وكذا قال الضحاك وابن زيد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .(1/116)
قال ابن كثير وقد وردت أحاديث في معنى ذلك فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) ما أطول هذا اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ) قال ابن كثير : ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به إلا أن دراجا وشيخه أبا الهيثم ضعيفان والله أعلم .
ثم ذكر ابن كثير احاديث في هذا الباب الشاهد فيها ذكر التعذيب لصاحب الابل وغيره ممن لم يؤد حقها ، ثم قال : ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردا به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام والغرض من إيراده ههنا قوله حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
قال ابن كثير وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن عيينة وعبد الوهاب عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال سأل رجل ابن عباس في قوله ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقال ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال فاتهمه فقال إنما سألتك لتحدثني ؟ قال هما يومان ذكرهما الله ، الله أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم اهـ .
قال المصنف والدليل على البعث قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } وقوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } .
المسألة الثالثة : مسألة الحساب :
قال المصنف " بعد البعث محاسبون " تعريف الحساب لغة : العد . اصطلاحا : إطلاع الله العباد على أعمالهم خيراً كانت أم شراً على وجه التفصيل قبل الانصراف من المحشر .
هل الحساب عام لجميع الخلق ؟ نعم .. إلا ما استثني وهم الأنبياء والملائكة والسبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب والصديقون لأنهم افضل من السبعين ألف.(1/117)
والدليل على أنه كلا محاسب قوله تعالى : { فوربك لنسئلنهم أجمعين } . وما رواه الترمذي وحسنه قال : [ لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره ... وماله .... وعمله ... ] مختصراً .
من هو أول من يحاسب ؟ وقع خلاف بين أهل العلم في أول من يحاسب وكل منهم استدل بأحاديث بأن أول من يحاسب كذا وأول من يحاسب كذا . وأحسن التعريف الجمع بين أقوالهم فيقال كل ما قيل صحيح ويقسم أول من يحاسب إلى اعتبارات : فيقال أول من يحاسب باعتبار الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . والدليل ما رواه ابن ماجة مرفوعاً [ نحن الآخرون السابقون المقضي عليهم قبل الخلائق ] وعند الإمام أحمد أنه بعد الشفاعة الكبرى ومجيء الله للفصل يقال : [ أين أمة محمد فيأتون غراً محجلين فيبدأ بهم الحساب ] .
وأول من يحاسب باعتبار أعمال العبد المسلم المتعلقة بحقوق الله الشرك ثم يحاسب على الصلاة ثم الزكاة .. بقية الأعمال . وأول محاسبة باعتبار حقوق العباد الدماء [ أول ما يقضى في يوم القيامة الدماء ] في الصحيح .
وباعتبار الناس أول ما يحاسب العالم ثم المجاهد ثم العابد ثم التاجر ثم رؤساء الناس ثم سائر الناس على حديث معاوية في الصحيح .
والحساب ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول: ما يسمى العرض والتقرير وهذا ليس لكل الناس وإنما للمؤمنين وليس كل المؤمنين بل المؤمن الذي شاء الله أن يستر ذنوبه ويتجاوز عنه ، يحاسبه محاسبة سرية بينه وبينه .
أما صفتها فتعرض عليه أعماله السيئة فيقال : فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا وهذا يقرر ويقول : نعم . فيقول الله سترتك في الدنيا وأنا أتجاوز عنها يوم القيامة .
القسم الثاني : الحساب العسير وهو المناقشة العلنية كما جاء في الحديث : [ من نوقش الحساب عذب ] وفيه يحصل الفضح بين الخلائق والتشهير لبعض الناس والتكبيت .
والحساب غير العرض والجدال .(1/118)
وذكر المصنف " الدليل على ذلك قوله تعالى : { ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .. } .
* أطفال المسلمين إذا ماتوا فلا يحاسبون فهم في الجنة بالإجماع ، وأما أطفال الكفار فقيل يمتحنون وهو الصحيح ، وقيل : غير ذلك .
ثم يذبح الموت بين الجنة والنار فيقال لأهليهما خلود فلا موت .
مسألة : الأعراف أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، يوضعون في مكان مرتفع بين الجنة والنار يجلسون مدة يشاهدون أهل الجنة وأهل النار لكنهم ينتهون إلى الجنة برحمة الله وفضله .
ثم بعد الصراط وقبل الجنة : هناك قنطرة وهذا المكان مكان قصاص فيقتص فيه المؤمنون بعضهم من بعض فالذي ليس عليه شيء يدخل الجنة والذي عليه مظلمة ينتظر فلا يدخل حتى يأتي خصمه من المؤمنين فيحصل القصاص بينهما .
مسألة : القصاص يوم القيامة :
أول ما يحصل في هذا الباب يوم القيامة هو قصاص البهائم بعضها من بعض ثم تكون رماداً .
ثم القصاص بين الكفار والمسلمين إذا كان هناك ظلم فيقتص بعضها من بعض .
ثم القصاص بين المؤمنين وهذا بعد الصراط .
مسألة : طبقات العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار و لم يأتوا بناقض :
أ ـ طبقة من كان في قلبه مثقال حبة من دينار ( وهم أحسن طبقة موجودة من العصاة) وهؤلاء عندهم توحيد لا إله إلا الله ويصلون وهذا شرط أساسي ولا عندهم ناقض للدين .
ب ـ أصحاب النصف دينار فيقول الله (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من نصف دينار ) وهم أقل ممن قبلهم .
ج ـ أصحاب المثقال والذرة والخردلة ، وهؤلاء أقل ، فهم دون النصف .
د ـ من كان في قلبه (أدنى أدنى ) من مثقال .
المسألة الرابعة - حكم من كذب بالبعث قال المصنف " ومن كذب بالعبث كفر والدليل : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } .
فصل(1/119)
وأرسل الله جميع الرسل : مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده، والدليل قوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) .
والدليل : على أن أولهم نوح عليه السلام، قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) وكل أمة : بعث الله إليها رسولاً، من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله، ويناهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) .
الشرح :
مسألة مهمة الرسل :
" وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين " وهذه هي مهمة الرسل . ومعنى بشير : مأخوذ من بشرت الرجل وبشرته إذا أخبرته بأمر سار وأكثر ما تستعمل في الخير فإذاً الرسل يخبرون الناس بما يسرهم مثل : إخبارهم عن الثواب لمن أطاع الله .
" منذرين " الإنذار هو الإعلام مع التخويف . ومعنى كون الرسل منذرين أي يخوفون من عصى الله بالنار والجزاء . والدليل : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة } والمصنف هنا بدأ بالتبشير قبل النذارة والظاهر أن الترتيب مقصود لن العادة أن الإنذار لا يأتي إلا بعد التبشير وقول المصنف " الرسل " يعني الأنبياء .
والمعروف من القرآن والسنة أن الأنبياء كذلك مبشرين قال تعلى : { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } وعلى ذلك فالرسل هنا بالمعنى اللغوي أي الذين بعثهم الله سواء رسل بالمعنى الخاص أم أنبياء . و " أولهم نوح " أي أول الرسل وهو بالمعنى الخاص الذين بعثهم الله إلى قوم كفار يدعوهم إلى شرع جديد .(1/120)
" أولهم نوح " هل هي أولية مطلقة أم أولية باعتبار ؟ هذا فيه تفصيل إن كان المقصود بأولهم أي جميع ما أرسل الله من الأنبياء والرسل بالمعنى الخاص فيكون معنى " أولهم " باعتبار بعد الاختلاف وإن كان المقصود بالرسل المعنى الخاص أي من أرسله الله في قوم كفار يدعوهم إلى شرع جديد فيكون أولهم هذه أوليه مطلقة ، فقبله آدم وهو نبي ثم بعده من أبنائه شيث ثم إدريس وهو من أجداد نوح ذكرهم ابن كثير في البداية والنهاية ثم بعد عشر قرون من الرسل كفروا فأرسل نوح .
" مسألة " هل قبل نوح رسل بالمعنى الخاص ؟ الجواب : لا .
" مسألة " هل قبل نوح أنبياء ؟ الجواب : نعم آدم على الصحيح فإن آدم نبي وليس رسولاً ، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح أن الرسول سئل [ أكان آدم نبياً ؟ قال نعم ومكلماً ] . وحديث الشفاعة : [ قال آدم اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول ] . هذا المنطوق والمفهوم أنه ليس قبله رسول .
ثم النبي شيث ، وهو من أبناء آدم وقد قال بنبوته ابن تيمية وابن كثير ، وقبله – أي نوح – إدريس فإنه من أبناء شيث قال تعالى : { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً } وجعله ابن جرير في كتابه التاريخ إنه من أبناء شيث من قبل نوح وأنه نبي ووافقه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية . ووقع إشكال بين أهل العلم هل إدريس هو إلياس أم بينهما فرق ؟ والصحيح أن بينهما فرق . ذكر ابن جرير في تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية فجعلا إدريس قبل نوح وإلياس من أولاد هارون مبعوث لبني إسرائيل .
وأما ما ذكره البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن مسعود وابن عباس أن إدريس هو إلياس فقد ذكره البخاري بصيغة التمريض فقال وذكر عن ابن مسعود وعن ابن عباس أن إدريس إلياس مما يشعر بضعف ما نقل عنهما .(1/121)
أما أفضل الأنبياء فهم الرسل وأفضل الرسل الخمسة أولوا العزم وأفضل الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم بالإجماع ثم إبراهيم ، ثم وقع الخلاف في الثلاثة الباقين ، فقال الحافظ بن حجر أفضلهم بعد إبراهيم موسى ثم عيسى ثم نوح ،نقل ذلك عنه السفاريني في السفارينية .
أما عدد الأنبياء فجاء من حديث أبي ذر رواه أحمد بسند صحيح أن عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ، والرسل ثلاثمائة وبضعة عشر .
مسألة : أن من خصائص الرسل أنهم يبعثون إلى الأمم الكافرة أما الأنبياء فيبعثون إلى المؤمنين ، قال المصنف : " كل أمة بعث الله فيها رسولاً وهؤلاء الرسل يدعون إلى إفراد الله بالعبادة والكفر بالطاغوت " . ثم ذكر الدليل : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
فصل
وافترض الله على جميع العباد : الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، قال ابن القيم : رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت : ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع .
والطواغيت كثيرة، ورؤسهم، خمسة، إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله ؛ والدليل قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) وهذا : معنى لا إلَه إلا ّ الله، وفي الحديث : " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه .
الشرح :
ثم بعد ذلك ذكر المصنف مسائل في معنى الطاغوت وحكمه وأنواعه ورؤوسه .
فقال " وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت " وهنا بدأ المصنف بالحكم على الطاغوت قبل تعريفه والمشهور أن التعاريف يُبتدأ بها قبل الحكم على الشيء لكن لا مشاحة في الاصطلاح .(1/122)
المسألة الأولى : حكم الطاغوت : قال المصنف " افترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت " الكفر به فرض لازم وهو فرض عين على جميع العباد . فالألف واللام للعموم كالإنس والجن أما كيفية الكفر بالطاغوت فتنقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ ـ الكفر بجنس الطاغوت بالقلب وهو أن تبغضه بقلبك وتتمنى زواله وتعاديه وتنفر منه هذا بالقلب وحكم هذا القسم فرض لازم لا يسقط بحال من الأحوال ، حتى مع الإكراه بل إن الإكراه لا يتصور فيه كما أشار المصنف إلى ذلك في آخر كشف الشبهات .
ب ـ الكفر بجنس الطاغوت باللسان وذلك بالتصريح أن الطاغوت كافر وأنه باطل وأن عابديه كفار قال تعالى { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } قل : بلسانك .. { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } والدليل على أنه يسقط مع العجز عموم قوله الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } بشرط أن يكون عجزاً حقيقياً وملجئاً .
الكفر بالطاغوت باليد وهو تحطيمه وإزالته وهذا واجب مع الاستطاعة والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حطم الأصنام وأزاله في فتح مكة وأرسل من يزيلها .
المسألة الثانية : تعريف الطاغوت : صيغة مبالغة مشتقة من الطغيان وهي التجاوز والارتفاع والزيادة ومنه طغى الماء أي زاد . اصطلاحا : اختلفت عبارات السلف في تعريف فجاء عن عمر رضي الله عنه أن الطاغوت هو الشيطان رواه ابن أبي حاتم وجاء عن جابر أنه الكاهن ، وقال مالك : هو ما عبد من دون الله ؛ وجاء عن محمد بن سيرين أن الطاغوت : الساحر ، وقيل : مردة أهل الكتاب ؛ وذكر ابن الجوزي في زاد المسير في تفسيره آية الكرسي ويلاحظ من هذه التعاريف أنها من باب تفسير الشيء ببعض أفراده وأما التفسير الجامع للطاغوت فهو تعريف ابن القيم رحمه الله قال : الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع .
" معبود " ما ذكره عمر ومالك .
" متبوع " يشمل : مردة أهل الكتاب .(1/123)
" مطاع " يشمل : الساحر ولكاهن وكل حاكم ويشمل علماء السوء وأمراء السوء وعباد السوء.
وهناك تعريف أدق من تعريف ابن القيم وهو : كل مجاوزة في الكفر ، فتارك الصلاة مثلا كافر وإذا دعا إلى ترك الصلاة أو عاقب على فعله فهذا تجاوز في الكفر فهو طاغوت ، ومن ذبح لغير الله هذا شرك فإذا دعا إلى الذبح لغير الله أو زينه فقد تجاوز في الكفر فهو طاغوت ، وإذا حلل شيئا فهذا تجاوز في الكفر ويدخل في ذلك سدنة الشرك والحجاب ... الخ
ومن تعريف ابن القيم تؤخذ أنواع الطواغيت وأنها ثلاثة أنواع :
طواغيت العبادة وهو يشمل كل من عبد من دون الله وهو راض ويشمل من دعا الناس إلى عبادة نفسه ، ويشمل الشيطان أيضاً ، ويشمل الأصنام .
طواغيت الأتباع ، ويشمل العلماء والعباد ، علماء السوء والعباد المنحرفين .
طواغيت الطاعة ، وهو يشمل الأمراء ورؤساء العشائر يحللون ويحرمون من دون الله ، ويشمل الكهان والسحرة والحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله والمشرعين .
المسألة الثالثة : رؤوس الطواغيت . والطواغيت كثيرون باعتبار العدد لكن رؤوسهم وقادتهم خمسة – عُرف ذلك بالاستقراء – وزاد المصنف طاغوتاً في رسالة له على هذه الخمسة وهو الحاكم الجائر المغير لأحكام الله وعلى ذلك فيكونون ستة :
1 ـ إبليس : وعبر المصنف بالشيطان وهو أعم من التعبير بإبليس فيشمل كل مارد من الجن والإنس ، ودليل هذا القسم ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن الطاغوت هو الشيطان رواه ابن أبي حاتم ووجه كون إبليس والشيطان طاغوتاً لأنه تجاوز الكفر الذي وقع فيه إلى تزيين الكفر والدعوة إليه والأمر به ، وهذا النوع إبليس والشيطان أكبر الطواغيت وأعظمها والسبب أنه جمع معاني كثيرة من معاني الطاغوت فهو يدعو لعبادة نفسه ، ويدعو لعبادة غيره ويدعو إلى تغيير أحكام الله ويعين من يدعى علم الغيب .(1/124)
2 ـ من عبد وهو راض : وذكره في هذه الرسالة بهذا اللفظ ومن هنا موصولة بمعنى الذي تدل على العموم .
" عبد " ذلً وخضوعاً له بأي نوع من أنواع العبادة كمن ذبح له واستغيث به ونحو ذلك قول المصنف " وهو راض " جملة حالية الواو للحال في حالة كونه راض فلا يدخل عيسى عليه الصلاة والسلام في ذلك لأنه غير راض فلا يقال له طاغوت والعياذ بالله لأنه لم يرض بذلك ولن يرضى ، ووجه مجاوزة الحد في هذا النوع أنه رضي بالكفر والشرك أن يُفعل له .
3 ـ من ادعى شيئاً من علم الغيب " من " موصولة بمعنى الذي ، وهي عامة في كل من ادعى علم الغيب سواء كان مسلماً أو كافراً أو رجلاً أو امرأة . " شيئاً " نكرة فتشمل لو ادعى شيئاً بسيطا ًحتى ولو ادعى مرة واحدة ." من علم " من تبعيضية . أي بعض علم الغيب . " الغيب " مصدر غاب يغيب وهو كل ما خفي عنك ويطلق على ما لا يقع تحت الحس ، وهو ينقسم إلى قسمين :
أ- ما يسمى الغيب المطلق ويسمى أيضاً غيب المستقبل . تعريفه : هو ما لا يعلمه إلا الله . كعلم الساعة ، ومتى موت الإنسان ، وهي الخمس المجموعة في قوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } .
ب- يسمى الغيب النسبي ويسمى بغيب الماضي والحاضر وهو ما خفي عليك وعلمه غيرك فما يدور خلف هذا الجدار هو بالنسبة لنا غيب وأما بالنسبة لمن حضره يعتبر شهادة .
أصناف مدعى الغيب : كالمنجم والكاهن والعراف والساحر والرمال والعائف وغيره ممن يدعى علم الغيب بأي وسيلة والفرق بين هؤلاء أنهم كلهم يدعون علم الغيب ولكن تختلف الوسيلة التي يخبرون بها عن الغيب .(1/125)
فمن أخبر عن طريق النجوم فهو منجم ومن أخبر عن طريق الخطوط في الأرض فهو الرمال وصاحب الطرق وكيفيته يأتون إلى الرمال وهم يريدون تجارة أو سفر فيقوم الرمال ويخط خطوطاً سريعة في الأرض غير معروفة العدد ثم يبدأ بمحو هذه الخطوط خطين خطين فإن بقي خطان تفاءل وحث على السفر والتجارة ، وأحياناً يستخدمون الحجارة بدل الخطوط فيجمع كومة من الحجارة ويأخذ حجرين حجرين فإن بقي حجر تشاءم وإن بقي حجران تفاءل أو يستخدم أوراقاً أو عيداناُ أو غير ذلك وإن أخبر عن الغيب عن طريق الطير فيسمى العياف أو العائف فإذا أراد أحدهم سفراً أو زواجاً أرسل الطير فإن اتجه في طيرانه إلى جهة اليمين تفاءل وسافر وإن اتجه نحو اليسار تشاءم وإن أخبر عن الغيب عن طريق الجن وما ينقلون إليه من الأخبار فيسمى الكاهن والعراف أيضاً إلا أن العراف يخبر عن السرقات ومكان الضالة بعد ما تخبره الشياطين وأما الكاهن فإنه يخبر عما في الضمير ، وكذلك الساحر يخبر عن الغيب عن طريق الجن .
" مسألة " هناك مجموعة من الأمور فهل تعتبر من ادعاء علم الغيب أمثال :
1 ـ الإخبار عن الكسوف والخسوف لا يعتبر من ادعاء علم الغيب إن أخبر به عن طريق الحساب واستخدام بعض الآلات الحديثة . إلا أنه لا ينبغي الجزم بأن الكسوف أو الخسوف سوف يحدث وموقفنا ممن يخبر عن ذلك لا نصدقه ولا نكذبه كأحاديث بني إسرائيل والاستعداد لها والوضوء والذهاب إلى المسجد قبل رؤيتها بالعين أو سماع النداء لها هذا من تصديقها ، لأن العمل من التصديق .
2 ـ إخباريات الأرصاد الجوية عن هبوب الريح أو توقع المطر أو تغيرات الجو ؛ هذه لا تعتبر من إدعاء علم الغيب ، لأن هذه أمور تعرف بالحساب وتعرف بالآلات الحديثة إلا أنه لا يجوز الجزم بذلك ، بل يربط ذلك بمشيئة الله .
3 ـ الإخبار عن المياه الجوفية في باطن الأرض والمعادن هذا إذا كانت بوسائل حسية حديثة فليست من ادعاء علم الغيب .(1/126)
4 ـ إخبار ما يسمى بالقافي ويطلق عليه (المري) وهو الذي يخبر عن السرقة والضالة عن طريق تتبع الآثار أو البصمات وهذا لا يعتبر من ادعاء علم الغيب لأنه أخبر عن ذلك بطرق حسية معقولة ، ولذا جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها مسروراً فقال : ألم تسمعي ما قال مجزز حينما رأى أقدام أسامة بن زيد وأبيه زيد فقال : أن هذه الأقدام بعضها من بعض . وقد كان أسامة لونه أسود وأبوه أبيض فقد يقول قائل أنه ليس أباه فأخبر هذا القافي أن الأقدام واحدة ، فدل على جواز العمل بخبر القافي .
5 ـ الإخبار عن طريق الفراسة ولا تعتبر من ادعاء علم الغيب . قال عليه الصلاة والسلام : " اتقوا فراسة المؤمن " وكان عمر مشهوراً بالفراسة حتى أنه رأى رجل يمشي لأول مرة فقال إني لأظنه كاهناً فكان كما قال .
6 ـ ما يسمى بقراءة الكف وتعتمد على تفسير الخطوط التي في كفك وتعرجاتها ثم يخبرك بعد الإطلاع على ذلك أنك سعيد أو شقي وهذا من ادعاء علم الغيب .
7 ـ ما يسمى بقراءة الفنجان ، وهو أن يجعلك تشرب في فنجاناً وبعد فراغك من شربه يديره عدة مرات ثم ينظر ما علق بجدران الفنجان من خطوط من بقايا القهوة فإن تشكل فيها ما يشبه الحية تشاءم ؛ وإن ظهر ما يشبه الوردة تفاءل ، فحثك على السفر أو الزواج حسب السؤال .
8 ـ ما يسمى بقراءة النار وهي الإخبار عن الغيب عن طريق صور لهيب النار فإن تشكل ما يشبه الفأس أو المطرقة قال لك سيصيبك كارثة ، أو منعك من السفر ، وإن تشكل ما يشبه الشجرة حثك على الزواج أو نحو ذلك .
9 ـ ما يسمى فتح الكتاب : فلو أن إنسانا يريد أن يتزوج مثلاً فيأخذ كتاباً أو قرآناً ثم يفتحه بطريقة عشوائية وينظر إلى أول كلمة فإن كانت آية رحمة أو كلمة جميلة تزوج وإلا تشاءم وتركه ؛ وهذا كله من الكهانة وهي من إدعاء علم الغيب وهي كفر(1/127)
10 ـ ومنه ما يسمى بتحضير الأرواح وهو عبارة عن استحضار جني يدعي بأدعية وتعاويذ وشركيات فيتقمص شخصية شخص أو صوته ويأتي بالأخبار الماضية أو المستقبلية ويدعي هذا الجني أنه روح فلان وهذا من ادعاء علم الغيب .
11 ـ ما يسمى بحساب الجُمّل وهي من ادعاء علم الغيب وهي أن تحسب حروف اسمك واسم أبيك واسم أمك ثم تقسم المجموع على شهور السنة والناتج هو خبر المستقبل ويكون مصحوباً بجدول فإن كان ناتج القسمة عشرة مثلاً قال لك : ارجع إلى الجدول وانظر إلى الرقم عشرة .
12 ـ ما يسمى في المجلات والجرائد بركن ( أنت وحظك ) وهو من التنجيم وادعاء علم الغيب فيقول من ولد في برج كذا فهو في هذا الأسبوع (شقي) مثلاً أو نحو ذلك .
" مسألة " حكم مدعي الغيب ذاته كافر .
وحكم من ذهب إليهم فيه تفصيل : أ ـ فإن ذهب إليهم وهو مصدق لهم أنهم يعلمون الغيب سواء الغيب المطلق أو الغيب النسبي فهذا كافر كفراً أكبر لأنه اعتقد أن هناك من يعلم الغيب غير الله . قال تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } .
ب ـ وإن ذهب إليهم وهو يكره فعلهم ويعلم أنهم لا يعلمون الغيب . لكن ذهب يسألهم حاجة دنيوية أو يسألهم علاجاً شعبياً ، فهذا ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، ولا تقبل له صلاة أربعين يوماً كما جاء في حديث حفصة رواه مسلم : [ من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ] أي لا يؤجر علي صلاة أربعين يوماً فيصلى بدون أجر وليس معنى ذلك أن يترك الصلاة بل يجب عليه أن يصلى لكن لا يؤجر لأن هذه السيئة ذهبت بأجر أربعين يوماً .
ج- أن يكره فعلهم ويعتقد أنهم لا يعلمون الغيب ولكن ذهب للفرجة والنزهة من باب الاستطلاع فهذا من كبائر الذنوب ولا تقبل له صلاة أربعين ، ومثله مشاهدته بالتلفزيون فكله لا يجوز ومثله ألعاب السيرك ، ومثله من يحضر عند السحرة لكي يتفرج على ألعابهم البهلوانية وما يقومون به من أشياء مضحكة ولافتة للنظر .(1/128)
4 ـ من دعا الناس إلى عبادة نفسه : وهذا النوع ذكره هنا ولم يذكره المصنف في رسالة الطواغيت . وهذا عام في كل من دعا الناس إلى أن يعبدوه .
وقوله " عبادة نفسه " بالمعنى العام للعبادة حتى يدخل عبادة السؤال والطلب والاستغاثة كأن يستغيث به فيما لا يقدر عليه إلا الله ويشمل العبادة بالمعنى الخاص كالذبح النذر وهذا النوع أغلظ من الذي قبله ، لماذا ؟ لأن الذي قبله رضي بالعبادة فقط بدون دعوة ، أما هذا رضي بالعبادة ودعا الناس إلى أن يعبدوه .
" الناس " على الغالب وإلا لو دعا الجن لعبادته فيدخل في ذلك ، وهذا يوجد في بعض الأقطار أن يقول للناس استغيثوا بي ادعوني أقضي حوائجكم كما يفعل بعض الصوفية .
5- من حكم بغير ما أنزل الله وهذا هو الطاغوت الخامس وهو على أقسام :
أ- أن يحكم بغير ما أنزل الله وهذا هو الطاغوت الخامس مع اعتقاد أن هذا الذي حكم به مثل حكم الله أو أحسن من حكم الله أوأنه يجوز أن يحكم به فهذا كفر أكبر والدليل قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، وهذه مرت بالنواقض العشر.(1/129)
ب- أن يحكم بغير ما أنزل الله أحياناً في قضايا معينة قليلة ليس عن قانون ولا تعميم ولا لائحة ولا نظام ولا عرف أو تقليد وهو يعرف أن هذا الذي حكم به باطل ولا يجوز ، ولكنه في باب الشهوة والهوى أو الرشوة ، فهذا كفر دون كفر مثاله كأن يكون هنا قاض يحكم بين الناس بالشرع وهو دائماً يحكم على السارق إذا ثبتت عليه السرقة بالقطع وعلى من شرب الخمر بالحد هذا فعله دائماً لكن في بعض الأحيان القليلة إذا جاءه سارق قريب له أو أعطاه شيئاً من المال وقد ثبتت عليه السرقة لم يحكم بقطع يده وإنما حكم عليه بالسجن والتعزير هوى لا عن قانون ولا تعميم ولا لائحة ولا نظام ولا عرف ونحو ذلك ، وهو يعرف في قرارة نفسه أنه مخطئ لكن الهوى والمجاملة دفعه لذلك ، فهذا يعتبر من الكفر الأصغر والدليل يحمل عليه قول ابن عباس أنه كفر دون كفر إن صح ، ويحمل عليه ما صح عن التابعين أنه كفر دون كفر وهو قول أبي مجلز التابعي لما ناقش الخوارج حول آية { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
ج- من يعرف أنه مخطئ ولكن كثيراً ما يحكم بغير ما أنزل الله وهو نفس المثال السابق لكن بدل القول ( في قليل من القضايا ) يكون في كثير من قضاياه يحكم بغير ما أنزل الله . فالقاضي الذي يحكم على السارق بالقطع أحياناً وإلاّ فأكثر السراق يحكم عليهم بغير حكم الله فهذا حكمه كفر أكبر وأدلته أدلة القسم الأول . وأشد منه الذي يحكم في كل القضايا بغير ما أنزل الله حتى ولو كان يعرف أنه مخطئ وأن حكم الله سبحانه أحسن ، وهذا التقسيم في حكم من حكم بغير ما أنزل الله .
د- القاضي الذي يحكم بما أنزل الله لكن في بعض القضايا يحكم بالقانون وباللائحة وبالتعميم وبالنظام أو العرف والتقليد والسلوم ولو مرة واحدة وهو يعرف أنه مخطئ فهذا يكفر ولو كان كل عمره يحكم بما أنزل الله لكن في قضية واحدة حكم من أجل قانون أو تعميم ونحو ذلك يخالف شرع الله فهذا يكفر .(1/130)
والفرق بين هذا وبين القاضي الذي يحكم بما أنزل الله لكن في قليل من القضايا يحكم بها شهوة :- أن الذي يحكم بالقانون أو التعميم يتضمن الرضى بالقوانين الوضعية .
مسألة : وهو المشرع وليس بقاض يسن القوانيين وهو لا يحكم بها فهذا طاغوت ، ولو سموا أنفسهم هيئة استشارية ونحو ذلك فالعبرة بالمعاني والحقائق لا بالألفاظ
مسألة : وشروط تسمية الشيء تشريعا سواءً أكان قانونا أو غيره :
أ ـ أن يعين من ذي سلطة كالملك والرئيس والأمير والمدير العام ورئس اللجنة .
ب ـ أن يعين إلى أناس من شأنهم أن ينفذون كالشرطة والموظفين والقضاة.
ج ـ أن يكون بألفاظ عامة مثل إذا جاءكم سارق فيؤخذ منه غرامة ، أما إذا كان بلفظ خاص كأن يقول إذا جاءكم محمد وقد سرق فاتركوه فهذا من الظلم وليس من التشريع العام .
* وإذا اجتمعت هذه الثلاثة الشروط سُمى تشريعا ولا يشترط أن يكون تحريريا بل ولو كان شفويا أو عرفا جاريا أو عادة متبعة .
مسألة : عرفنا حكم من حكم بغير ما أنزل الله بقي حكم من تحاكم إلى غير ما أنزل الله كالذي يتحاكم إلى المحاكم غير الشرعية ؟ على نفس التقسيم السابق كالتالي :
أ- إن ذهب إلى المحاكم الوضعية وهو يعتقد أنها أفضل أو مثل ما أنزل الله أو أنه يجوز الذهاب إليها فهذا كفر أكبر : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } وقال تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )(1/131)
ب- يذهب إلى المحاكم الشرعية سواء أغلب ذهابه أو أقل ذهابه (فلا فرق) بمعنى كل من ذهب إلى المحاكم الوضعية باختياره ورغبة منع عالما بأنها وضعية فهو يكفر كفرا مخرجا من الملة ، قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت (1) } .
6- هذا الصنف السادس لم يذكره المصنف في هذا الكتاب لكنه ذكره في رسالته عن الطواغيت ورؤوسهم وهو الحاكم الجائر المغير لأحكام الله ويقصد به من يُشَرع وهذا القسم كافر بإطلاق وليس فيه تفصيل ولو شرع حكماً واحداً يضاد به حكم الله حتى ولو كان يعتقد في قرارة نفسه أن ما شرعه لا يجوز أن يحكم به أو أن حكم الله أفضل فلا عبرة باعتقاده ، فالكفر مناط بفعله وهو التشريع بغض النظر عن ما في قلبه ويدل عليه قوله تعلى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } قال تعالى { فلا تجعلوا لله أنداداً } .
ثم ذكر المصنف الدليل على وجوب الكفر بالطاغوت قوله تعلى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .. } والآية فيها معنى لا إله إلا الله وهو معنى الكفر بالطاغوت ثم ختم الشيخ – رحمه الله تعالى – هذه الرسالة برد العلم إلى الله – عز وجل – والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ..
__________
(1) - نزلت في رجلين تخاصما رجل من اليهود ورجل من المسلمين فقال اليهودي نذهب إلى محمد وقال المسلم نذهب إلى كعب الأشراف وفي رواية إلى كاهن وآخر شيء ذهبوا إلى عمر فقالوا له كلامهم فقال عمر أكذلك فقال نعم فدخل فأخذ السيف من بيته وأتى إليه وضرب رأسه حتى تدحرج .(1/132)
وبهذا تم شرح الأصول الثلاثة المسمى الدليل في شرح الأصول الثلاثة نسأل الله أن يثيب مؤلفها ، وأن يغفر له وأن يثبت شارحها وأن يجعل لنا نصيباً من أجرها وثوابها والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد .
إملاء علي بن خضير الخضير
بريدة ــ القصيم(1/133)