على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك الله لنا بالموت وجعله خير غائب ننتظره» (1). عليك بالصبر فيما نزل به من المصائب.
وخلاصة القول في ذلك أن الكفار المحاربين لا يجوز تشييع موتاهم ولا حضور جنائزهم على أي وجه يشعر بالتقدير والاحترام ولو كان ذلك جائزًا لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع معه أبي طالب، ولكن يجوز مواراة الكافر المحارب في بئر ونحوه عند عدم من يقوم بذلك من الكفار أنفسهم.
أما أهل الذمة والعهد والمسالمين من الكفار فالأصل عدم حضور جنائزهم ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت أبًا أو أخًا أو ابنًا للمسلم فإنه يجوز للمسلم أن يشيعه بشرط عدم حضور الصلاة عليه في كنيسة أو نحوها وكذلك عدم حضوره وقت الدفن إلا إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار باشر دفنه للضرورة.
أما مسألة التعزية إذا كان الكافر محاربًا لله ورسوله والمؤمنين فلا تجوز التعزية مطلقًا بحق الكفار المحاربين.
أما أهل الذمة والعهد والمسالمين من الكفار فقد قال الفقهاء بالجواز والمنع، ومن أجاز اشترط قصد الملاطفة والدعوة إلى الله.
والله الهادي والموفق إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر الخراج لأبي يوسف ص217.(2/744)
الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات
قد يعترض معترض على أن موالاة الكفار غير محرمة بالصورة التي ذكرناها فيما سلف من مباحث هذه الرسالة محتجًا بأن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (1) ليس على إطلاقه حيث إن الكتابية سواء كانت ذمية أو محاربة مندرجة تحت ما نهى الله عن مودتهم ومحبتهم، فكيف يحل التزوج بها عملاً بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2) مع النهي عن مودة من حاد الله ورسوله، علمًا بأن الزواج من الكتابية فيه مودة، ويترتب على هذه المودة محبة ومناصرة قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
__________
(1) سورة المجادلة آية (22).
(2) سورة المائدة آية (5).(2/745)
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (1) فكيف نوفق بين آيات النهي عن موالاة الكفار وبين أدلة إباحة الزواج من الكتابيات مع الدليل على أن الزواج فيه مودة للمتزوج بها؟
والجواب على ذلك أن للعلماء في الزواج من الكتابية حربية كانت أو ذمية قولين:
القول الأول: هو قول ابن عباس (رضي الله عنه) حيث يقول بحرمة نكاح نساء أهل الكتاب ويوافقه على ذلك بعض الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والمالكية فيما هو المشهور عندهم (2). ويستدلون على ذلك بأدلة هي كما يلي:
1 - قول الله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (3) ووجه الدلالة أن الآية أفادت بعمومها تحريم نكاح المشركات والكتابيات من المشركات، سواء كانت ذمية أو محاربة.
2 - قول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (4) فقد دلت الآية على أن حل التزوج بالإماء، يشترط له إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن بأن كن كتابيات مثلاً انتفى الحكم وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أوجب ذلك نفي الحكم عند عدم توفر الشرط.
__________
(1) سورة الروم آية (21).
(2) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج2 ص116 وانظر المغني والشرح الكبير ج2 ص267 وانظر كشاف القناع ج2 ص28 وانظر مغني المحتاج ج2 ص84 وانظر الكافي في فقه أهل المدينة المالكي/ يوسف بن عبد الله القرطبي ج2 ص543 وانظر تفسير القرطبي/ محمد بن أحمد القرطبي ج2 ص67.
(3) سورة البقرة آية (221).
(4) سورة النساء آية (25).(2/746)
فانتفاء الإيمان في الإماء، يستلزم تحريم الزواج بهمن (1).
3 - قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (2).
فقد دلت الآية على أن من لم يؤد الجزية من الكفار للمسلمين، ويكون في حرب معهم مطلوب قتاله، منهي عن محبته ومودته، فلا يحل للمسلم التزوج بنسائهم، لأن الزواج مودة ومحبة ونصرة.
4 - قول الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) (3). فقد حرم الله على المؤمنين تمسكهم بالزوجات الكافرات، وحرم عليهم أن يجعلوهن في عصمتهم بنهيه الوارد في هذه الآية، فكان دليلاً على تحريم ابتداء نكاحهن، لأنه طريق إلى المنهي عنه المحرم، وهو الإمساك بعصم الكوافر، وما يؤدي إلى المحرم فهو محرم.
5 - ما روي بسند صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل للنصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعلم شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله (4)، وقد توفرت فيها علة النهي المقتضية للتحريم في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (5).
__________
(1) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص54 - 55.
(2) سورة التوبة آية (21).
(3) سورة الممتحنة آية (10).
(4) انظر فتاوى ابن تيمية ج4 ص84.
(5) سورة البقرة آية (221).(2/747)
6 - ما روي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فرق بين من تزوجوا بكتابيات وأزواجهم. فحين تزوج طلحة بن عبيد الله بيهودية وحذيفة بن اليمان بنصرانية، غضب عمر غضبًا شديدًا، فقال: نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال: «إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن انزعهن منكم انتزاعًا» (1)، فدل هذا على عدم جواز نكاح المسلمين للكتابيات، لأنه لو كان حلالاً جائزًا لما غضب عمر (رضي الله عنه) ولأنكر عليه الصحابة (رضوان الله عليهم) ولصح إيقاع الطلاق، فكان تفريقه وعدم إجازته الطلاق دليلاً على حرمتهن.
ومن الأدلة العقلية على حرمة الزواج بالكتابيات ما يلي:
1 - إن المرأة الكتابية تعارض دليل حلها وهو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتعارض دليل حرمتها وهو قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وفي مثل تلك الحال يلزم الرجوع إلى الأصل وهو التحريم، لأن الإبضاع مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات (2).
2 - إن الكتابية مستمسكة بكتاب دار القول فيه بين حالين هما: التغيير أو النسخ، والمغير تزول صفة الكتاب عنه، وكذلك المنسوخ، ترتفع أحكامه، وحينئذ يكون لا فرق بينه وبين ما لم يكن، وعليه، تكون الكتابية في حكم من لا كتاب لها، ومن هذا شأنها لا يحل نكاحها لتحقق النقص الفاحش فيها فساوت عابدة الوثن (3).
__________
(1) انظر تفسير الفخر الرازي ج6 ص61 وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص324 - 328.
(2) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45.
(3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45 نقلاً عن الحاوي الكبير للماوردي ج10 مخطوط بدار الكتب المصرية.(2/748)
هذه جملة أدلة من قالوا بمنع الزواج من الكتابيات وغيرهن من باب أولى وعلى هذا القول فلا تعارض مع آيات النهي عن موالاة الكفار، وأدلة المنع من زواج الكفار بل إن رأي القائلين بمنع الزواج من النساء الكافرات يرجح أدلة وجوب مفاصلة الكفار وعدم مخالطتهم حيث علل الباري عز وجل ترك نكاح المشركين بقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (1).
القول الثاني: وهو قول من يقول بجواز نكاح الكتابيات وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:
قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (2) فقد عطف الله المحصنات في الآية على الطيبات المصرح بحلها في صدر الآية، والمحصنات معناها الحرائر أو العفيفات فتكون الآية دليلاً على حل الحرائر أو العفائف من أهل الكتاب، لأن قضية العطف تقتضي التشريك في الحكم وعلى هذا فالآية محكمة وليس حكمها بمنسوخ على القول بعد تناول آية البقرة وهي قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) لأهل الكتاب، فتكون كل من الآيتين متناولة لأفرادها، وعليه فلا نسخ ولا تخصيص، وعلى القول الثاني وهو أن آية تحريم المشركات متناولة للكتابيات، تكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) مخصصة للعموم في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أو ناسخة لها على الخلاف المعروف في علم الأصول (3).
ويرد القائلون بجواز نكاح الكتابيات على أدلة المانعين بما يلي:
1 - يجيب القائلون بجواز الزواج من الكتابية عن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا
__________
(1) سورة البقرة آية (221).
(2) سورة المائدة آية (5).
(3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45.(2/749)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (1) أن هذه الآية لم تتعرض بصريح اللفظ لتحريم الزواج، بل اقتضت النهي عن موادة أهل الحرب عمومًا، فلا يثبت التحريم بالقياس مع وجود النص، إذ لا يلزم من كون عقد الزواج طريقًا من طرق المودة والمحبة، أن يحرم التزوج فغاية ما تدل عليه الآية الكراهية لا التحريم حيث وردت آيات في صلة ذوي الرحم من غير المسلمين مثل قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (2) فالزوجة بعد عقد الزوجية تصبح من ذوي القرابة ومصاحبتها بالمعروف أمر واجب حتى لو كانت غير مسلمة لأن ذلك من حسن المعاشرة التي تقودها إلى الإسلام.
2 - أجاب من يرى إباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) إن هذه الآية قد ورد ما يدل على إلغاء هذا الشرط حيث إن الآية في قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) شاملة للحرائر والإماء ثم أن الأمة الكتابية يجوز قياسها على الأمة المسلمة بجامع جواز الوطء في كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقًا، يجوز كذلك نكاح الأمة الكتابية (3).
3 - وأجاب القائلون بإباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) الآية: إن الآية دعت إلى قتال
__________
(1) سورة المجادلة آية (22).
(2) سورة لقمان آية (15).
(3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص50.(2/750)
من يمتنع عن دفع الجزية للمسلمين وعدم قتال من يدفعها من الصغار والذلة، وحيث لا علاقة بين دفع الجزية وحِل الزواج، ولا علاقة بين عدم دفعها وحرمته، فلا دلالة في الآية على تحريم الزواج بالكتابية الحربية أو حلها (1).
4 - وأجاب من يرى الإباحة في زواج المسلم بالكتابية عن قوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) بأن اللام في الكوافر لتعريف العهد والكوافر المعهودات كن مشركات عبدة أوثان، إذ الآية وردت في مشركات الحديبية وهن كذلك، وعليه فلا تتناول الآية الكتابيات، وعلى أن الخطاب متوجه لمن كانت في عصمته كافرة مشركة تركها بدار الحرب، أما الكتابيات فإن دلالة الآية لا تشملهن من هذا الوجه ولذلك فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) ذلك، فطلق عمر امرأتين له كانتا مشركتين بمكة حين نزلت الآية بالحديبية (2).
5 - وأجاب القائلون بالإباحة في زواج الكتابية من المسلم، بأن ما رُوي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من الأمر لطلحة وحذيفة بترك زوجتيهما من الكفار، غير جيد السند، قال ذلك ابن عطية، بل قيل في هذا الأثر: إنه غريب، ثم قالوا: والذي نقل عن عمر أنه قال لمن تزوج من الكتابيات: طلق، فطلقوهن ما عدا حذيفة (رضي الله عنه) فقال هي خمرة فطلقها، فهذا الأثر يدل على عدم التحريم في نهاية الكلام حيث لولا أن العقد صحيح لم يطلب عمر الطلاق من المتزوج، ويؤيد ذلك ما نقل ابن وهب وابن المنذر- نقلاً صحيحًا عن عمر (رضي الله عنه) قوله بجواز نكاح الكتابيات (3).
__________
(1) المصدر السابق نفس المكان.
(2) المصدر السابق نفس المكان، وانظر فتاوى ابن تيمية ج4 ص84.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص500 وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص51.(2/751)
6 - ورد القائلون بالإباحة على المعقول الأول وهو أن الأصل في الإبضاع التحريم ولذلك فهي مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات.
فقال من يرى الإباحة أن هذا القول ليس على إطلاقه، وغير مسلم به حيث إن قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) (1) يفيد بعد تعداد محرمات النكاح، أن الكتابيات داخلات في عموم آية الحل غير مخرجات منها، حيث إن آية النهي عن نكاح المشركات غير متناولة للكتابيات، وتكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) جاءت مؤكدة للحل الوارد في العموم دفعًا لتوهم حرمتهن، كما فهم بعض الصحابة ذلك (2).
7 - ثم رد القائلون بالإباحة على المعقول الثاني، بأن من لها كتاب مبدل أو منسوخ يصح أن تندرج تحت من لها شبهة كتاب، نظرًا لكتابها المغير وصحة دينها في أصله، وبذلك لا مساواة بينها وبين من لا كتاب لها أصلاً، وتفرقة الشارع الحكيم بينهما في الأحكام دليل ناطق على ذلك. فقد حقن دماء أهل الكتاب دون أهل الشرك، وأحل ذبيحة أهل الكتاب دون أهل الشرك فناسب أن تفارق الكتابية المشركة في حكم النكاح بها فلا تساويها في حرمة التزوج بها (3).
خلاصة القول في هذه المسألة:
إن الآية التي نهت عن موادة الكفار آية عامة، ولم يصرح فيها بالنص على عدم موادة الزوجة غير المسلمة، أما مسألة الزواج من الكتابية، وما
__________
(1) سورة النساء آية (24).
(2) انظر تفسير المنار - رشيد رضا ج6 ص161 وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص51.
(3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص52.(2/752)
يترتب على ذلك فهذه مسألة فقهية خلافية، أشرنا إلى رأي الفريقين في ذلك وأدلتهم في هذا الموضوع ولكننا لا نجزم بالإباحة أو التحريم في هذه المسألة ولكن الذي يظهر من هذه المسألة أن الزواج بالكتابية مكروه في أقرب الأقوال إلى الاعتدال، وقد قال بكراهية الزواج بالكتابية كل من الحنفية والمالكية والشافعية وإن اختلفوا في درجة الكراهية من كراهية التنزيه إلى كراهية التحريم تبعًا إلى نوع الكتابية إذا كانت ذمية أو حربية مقيمة في دار الإسلام أو خارج دار الإسلام.
وخالفهم في ذلك الحنابلة فقالوا بجواز نكاح الكتابية مطلقًا بلا كراهية، وهو خلاف رأي الجمهور، ومخالف لما يفهم من قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (1) حيث فضل الله عز وجل المرأة المسلمة المؤمنة على الكافرة، ولا جدال في أن الزواج بالكتابية ليس على درجة الإباحة والمساواة بالنسبة إلى المرأة المسلمة ولهذا يترجح لدي أن الزواج بالكتابية مكروه في أفضل الاحتمالات، وإن كانت المسألة تدور رواء المصلحة والمفسدة، فإذا غلب على الظن أن الزواج بالكتابية فيه مصلحة شرعية في حق الزوج أو حق الزوجة أو حق المسلمين عامة فهو مباح وقد يكون ممدوحًا، وإذا ترتب على الزواج أو غلب على الظن أن هذا الزواج فيه مضرة على المسلم في دينه ودين أولاده، وعلى المسلمين من حوله فإنه محرم لما يترتب عليه من مفاسد، حيث إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (2).
ويرى القائلون بجواز نكاح نساء أهل الكتاب، إن نكاحهن من قبل المسلم الملتزم بالإسلام قولاً وعملاً، لا يترتب عليه موالاة للكفار بالصورة المنهي عنها شرعًا وذلك لعدة أسباب هي كما يلي:
__________
(1) سورة البقرة آية (221).
(2) انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة/ عبد الرحمن الجزيري ج4 ص76 - 77، وانظر تفسير الطبري ج2 ص221 - 224 وانظر تفسير القرطبي ج3، ص69 - 72، وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص65.(2/753)
1 - إن الزوجة الكتابية هي بمثابة ذوي القرابة من غير المسلمين كالوالدين ونحوهما، فإن الله عز وجل أمر بمصاحبة الوالدين إذا كانا غير مسلمين بالمعروف قال تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (1) والزوجة تنزل منزلة هؤلاء فمهما كانت درجة البر بالزوجة الكتابية فإنها لن تصل إلى مرتبة البر بالوالدين اللذين يشتركان معها في الكفر والقرابة.
2 - إن البر بالكفار سواء كانوا ذوي قرابة كالوالدين أو الزوجة أو غيرهم من الكفار، لا يعني ذلك مودتهم في القلب من كل وجه، ولا يعني أن يتنازل عن شيء من أحكام الإسلام مهما صغر طلبًا لرضاهم واستجلابًا لمودتهم، فالولاء للإسلام أعظم منزلة من منزلة البر وحسن الصحبة للكفار، ولذلك يضحي المسلم بذوي القرابة والنسب من الكفار عندما تصطدم مطالبهم مع مطالب العقيدة الإسلامية أو تتعارض معها وقد سبق أن ذكرنا نماذج من ذلك فيما سلف (2). وعلى هذا فلا موالاة للكفار في مصاحبة الزوجة أو الوالدين من غير المسلمين بالبر والمعروف. لأن الموالاة للكفار مطلقًا، إنما تكون بمساواتهم مع المؤمنين أو تنزيلهم منزلة أقرب من منزلة أهل الإسلام أو التنازل عن شيء من أحكام الإسلام استجلابًا لمودتهم وحصول رضاهم. وهذا غير واقع من المسلمين الملتزمين بالإسلام، الذين يجعلون حب الله ورسوله والمؤمنين مقدمًا على كل ما عدا ذلك من صلات القرابة والنسب والمنافع الأخرى، فلا يقدمون شيئًا على مراد الله ورسوله، مهما كانت منزلته ومكانته في نفوسهم.
فالمؤمن يصير حبه فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه، ويكون بغضه لما يكرهه مولاه، وإن كان موافقًا لهواه، قال تعالى عن يوسف
__________
(1) سورة لقمان آية (15).
(2) انظر ص32 - 33 من هذه الرسالة.(2/754)
(عليه السلام): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (1) مع أن الجماع شيء محبب إلى النفس قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (2) ولكن الجماع لما كان بطريق يبغضه الله ويغضب على فاعله بهذا الوصف تركه (3).
3 - إن النساء اللاتي يتزوجن بالمسلمين لا يقعن تحت مفهوم من يحاد الله ورسوله في قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (4) نظرًا لضعفهن وقصورهن وتبعيتهن للأزواج في ذلك قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (5) فقد ذكر جماعة من المفسرين إن المراد بهذه الآية النساء والصبيان، فإن برهم وصلتهم غير محرمة ما داموا بهذا الوصف وإنما المنهي عن موالاتهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (6).
ومعلوم قطعًا أن المرأة التي رضيت بالزواج من المسلم ودخلت تحت ولايته وإن كانت كتابية فهي غير داخلة تحت من لا تصح موالاتهم في هذه الآية.
4 - إن المسلم الملتزم بالإسلام لا يمكنه التسامح فيما يخرجه هو وأولاده
__________
(1) سورة يوسف (33).
(2) سورة آل عمران آية (14).
(3) انظر لطائف المعارف/ تأليف عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، ص161.
(4) سورة المجادلة آية (22).
(5) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1773. وانظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج8ص237 وانظر تفسير الطبري ج28 ص43 - وانظر تفسير القرطبي ج18ص59 وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني م3 ص484.
(6) سورة الممتحنة آية (9).(2/755)
عن الإسلام ولذلك فإن زوجته وإن كانت غير مسلمة، فهي غير قادرة في الغالب والعادة على أن تؤثر على عقيدته وعقيدة أولاده، نظرًا لما للرجل من قوة الإرادة وحق القيومية على المرأة، ولذلك جعل الإسلام أمر ضمان سلامة الرجل وسلامة أولاده من الانحراف موكولاً إلى عناية الله وتوفيقه، أولاً، وثانيًا إلى قوة الرجل وصلابة إيمانه وشدة غيرته على محارم الله.
ولكن الأمر قد تغير اليوم بالنسبة للذين يتزوجون بالكتابيات حيث إن معظمهم ليسوا ملتزمين بالإسلام، وهذا يدل على عدم أهليتهم من الناحية الإسلامية، أن يكونوا أزواجًا لنساء مسلمات، فضلاً عن نساء كافرات فمعظم الذين يتزوجون بالكافرات في هذا العصر إنما يتخذون قرار الزواج بعد سلسلة من الوقاع المحرم واللقاءات غير الشرعية، مضافًا إلى ذلك ترك الصلاة وشرب المحرمات. فهم من أجل ذلك كله وغيره لا يمثلون الصورة الإسلامية في الزواج من الكتابية، كما أن النساء الكافرات اللاتي يتزوج بهن بعض أدعياء الإسلام لسن كتابيات بالمعنى الصحيح، فهن لا يؤمن بالكنيسة ومعتقداتها وسلطتها، كما أن معظمهن غير محصنات بسبب التسيب في العلاقات الاجتماعية عند الكفار، مما يفقد المرأة الكافرة صحة العقد عليها من قبل المسلم، لأن الإسلام اشترط على قول من يقول بجواز النكاح بالكتابيات، شروطًا: الأول أن تكون كتابية، ومن لا تؤمن بكتاب لا ينطبق عليها هذا الوصف كما هو شأن كثير من نساء الغرب، والشرط الثاني الإحصان، وهذا الشرط يكاد يكون معدومًا عند كثير من النساء الكافرات. نظرًا إلى أن قضية العرض قضية شخصية خاصة، لا دخل لها في ميزان الجرح والتعديل لديهم، وانعدام هذين الشرطين يجعل الزواج بالكتابية باطلاً باتفاق المسلمين وبنص القرآن الكريم على ذلك (1).
وقد فشل معظم المتزوجين بالكتابيات فشلاً ذريعًا في هذا العصر
__________
(1) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد 812 الاثنين 9/ 11/1401هـ ص24 - 25.(2/756)
حيث انسلخ معظمهم من دين الإسلام، بعد أن قضت زوجته الكافرة على البقية الباقية من التصور الإسلامي لديه، كما أن معظم النساء الكافرات سيطرت على الرجل في مسألة الأبناء في ديانتهم وحتى تسميتهم ووجدت من القوانين الجاهلية والنظم الوضعية ما يحميها ويقف معها ضد حق الرجل وولايته على أولاده.
فالزواج من الكتابيات في هذا العصر قد ثبت ضرره نظرًا إلى أن الذين يتزوجون بالكتابيات مسلمون مزيفون، وقد ترتب على ذلك مفاسد كثيرة، نظرًا إلى أن معظم الدول الكافرة لا تعترف بأحكام الإسلام، فيما يتعلق بالزواج والطلاق وولاية الأولاد، وقد واجه هذه المشكلة بشكل واسع معظم المبتعثين الذين تزوجوا بأمريكا وأوروبا، وعندما أرادوا العودة إلى بلادهم امتنعت زوجاتهم من المجيء معهم، واحتفظت بأبنائها معها ووقف القضاء بتلك الدول مع النساء الكافرات، ونذكر مثلاً واحدًا يصور تلك المأساة التي يقع فيها بعض المبتعثين من الدول الإسلامية.
فقد ابتعثت شركة أرامكو أحد موظفيها السعوديين واسمه (هزاع) إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتعرف هزاع على فتاة أمريكية ثم تزوجها وولدت له ابنًا أسمته (هنري بن هزاع) وابنة أسمتها (لينا بنت هزاع) وعندما أراد العودة إلى بلده رفضت الزوجة المجيء معه وتمسكت بأبنائها ووقف القضاء معها، وعاد (هزاع) بخفي حنين مخلفًا وراءه هنري ولينا بالولايات المتحدة الأمريكية (1).
فهل مثل هذا الزواج يعتبر موفقًا؟ وهل تبيح الشريعة الإسلامية مثل هذا الزواج الذي تسقط فيه قيومية الرجل حتى في اختيار الأسماء لأبنائه وبناته؟
__________
(1) انظر جريدة الرياض عدد (4954) السنة السابعة عشرة السبت 26/ 12/1401هـ ص24 العمود الأخير.(2/757)
وبعد هذا الاستعراض المفصل لموضوع الزواج بالكتابيات فإني لا أستطيع القول بإباحة هذا الأمر أو منعه، ولكنني أرى طرح هذا الموضوع أمام المجتهدين من العلماء ليروا فيه رأيًا نهائيًا، وفي حالة ترجيح الزواج بالكتابيات عليهم أن يضعوا شروطًا تفصيلية في حق الزوج والزوجة تقضي على التسيب الحاصل من الزواج بالكافرات في عصرنا الحاضر، ولكي لا تستغل أحكام الإسلام من قبل أناس هم أبعد الناس عن الإسلام وعن أهل الكتاب على حد سواء (1).
أما مسألة تزويج المرأة المسلمة بالرجل الكافر فقد حال الإسلام بين المرأة المسلمة وبين زواجها من غير المسلم، نظرًا إلى أن المرأة في غالب أحوالها ضعيفة الإرادة أمام زوجها، فيخشى عليها أن تطيعه في معصية الله أو أن توافقه في الردة عن دين الله، أو أن تواليه على ما يغضب الله، فلذلك منع الإسلام زواج المسلمة بغير المسلم، وأباح زواج المسلم بالكتابية على قول من قال بذلك مع بعض التحفظات على هذا الزواج (2).
وبحكم الشرع الإسلامي يستحيل على المسلمة الزواج بغير المسلم (3) ولم يرد قط حدوث حادثة تدل على الخروج على هذه القاعة طيلة قرون مضت (4).
إلا أن أعداء الإسلام بجهودهم التنصيرية المركزة يحاولون كسر هذا الحاجز عن طريق بعض ضعاف الإيمان، أو من ينتسبون إلى الإسلام اسمًا لا حقيقة، وهم في مفهوم الإسلام الصحيح وفي واقع حالهم مرتدون خارجون عن الإسلام.
__________
(1) انظر مجلة المسلمون العدد الخامس الجمعة 1 صفر 1402هـ ص60 - 61.
(2) انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة/ عبد الرحمن الجزيري ج4 ص76 - 77.
(3) انظر الدرر النسية ج6 ص334.
(4) انظر أهل الذمة في الإسلام د/أ. س ترتون - ترجمة د/ حسن حبشي ص218.(2/758)
فقد ذكر أن هناك ست حالات وقعت من هذا القبيل في جزر القمر تحت وطأة الفقر والجهل والإغراء المادي وفي ظل سلطة لا تطبق أحكام الإسلام (1) وحصل مثل ذلك في أندونيسيا والفلبين، وبعض الدول الأفريقية، وهذا التصرف الفردي لا يضير الإسلام بقدر ما يأثم الفاعل في نفسه لأن الدولة الإسلامية الحقة غائبة عن التصدي لمثل هذه الأمور.
ومن قبيل زواج المسلمة بالكافر ما يقع فيه بعض المسلمين في العصر الحاضر حين يزوجون نساءهم لأشخاص يعتنقون مبادئ وينتمون إلى أحزاب خارجة عن الإسلام، توجب كفر من ينتمي إليها أو يعتقد اعتقاداتها كحال الذين يعتنقون الشيوعية أو ينتمون إلى أحزابها أو يوالونها على كفرها ومثل ذلك من ينتمي إلى حزب البعث أو الأحزاب الاشتراكية، فهؤلاء لا يجوز نكاحهم للنساء المسلمات ابتداء لأنهم غير مسلمين، كما لا يجوز بقاء النساء المسلمات في عصمتهم بعد اعتناقهم لتلك المبادئ الكافرة التي توجب كفر من يعتقدها أو يتبعها أو يدعو إليها، لأن كل من خرج من حزب الله دخل في حزب الشيطان بلا جدال، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2).
وقد ذكرنا جواب لجنة الفتوى بالأزهر حول زواج المسلمة بالشيوعي وأنه زواج باطل (3). ويقاس على تلك الحال جميع الانتماءات والاعتقادات التي توجب كفر صاحبها وردته عن الإسلام أما إذا أسلمت المرأة وهي في عصمة رجل كافر سواء كان يهوديًا أو بعثيًا أو نصرانيًا أو اشتراكيًا أو شيوعيًا أو وثنيًا، فإن كان ذلك قبل الدخول بها فمذهب جمهور العلماء من الفقهاء أن الفرقة تقع بينهما في الحال، أما إن كان إسلام المرأة بعد الدخول بها فقال بعض العلماء: إن أسلم في عدتها فهي على نكاحها، وإن لم يسلم
__________
(1) انظر المجتمع عدد (480) السنة الحادية عشرة في 28/ 6/1400هـ. ص21 - 22.
(2) سورة آل عمران آية (85).
(3) انظر ص456، من هذه الرسالة.(2/759)
حتى انقضت العدة، فقد بانت منه، وهناك رأي آخر وهو أن المرأة إذا أسلمت تخير بين طلب الفرقة أو انتظار إسلام الزوج وإن طالت المدة وهو الأرجح (1). ولكن لا يلزمها خلال العدة الانتظار والبقاء مع الزوج الكافر عملاً بقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (2).
أما إن أسلم الزوج ولم تسلم المرأة، فإنه يعرض على المرأة الإسلام فإن أسلمت في العدة بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها سواء كان ذلك قبل الدخول بها أو بعده، وهذا إذا كانت الزوجة مشركة وثنية، أو كانت كتابية على قول من يقول بعدم صحة الزواج بالكتابيات للمسلمين كما تقدم قريبًا (3)، أما من يرى جواز نكاح الكتابيات للمسلمين فإنه لا يوجب مفارقة الكتابية لزوجها المسلم (4).
والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص321 - 345.
وانظر كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي/ يوسف بن عبد الله القرطبي، ج2 ص549 - 550.
(2) سورة النساء آية (141).
(3) انظر ص700 - 703، من هذه الرسالة.
(4) انظر ص703 - 710، من هذه الرسالة.(2/760)
المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية
وتحت ذلك خمسة أمثلة هي كما يلي:-
1 - المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم.
2 - المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار.
3 - المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين.
4 - المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية.
5 - المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام.(2/761)
المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم
لقد أباح الإسلام التعامل التجاري مع الكفار سواء كان الكفار في داخل الدولة الإسلامية أم خارجها ولكن ذلك التعامل معهم مشروط بشروط ومقيد بقيود، تجعل التعامل معهم ضمن ضوابط معينة تحقق المصلحة للمسلمين دون أن تكون بابًا للشر عليهم، ومن التعامل التجاري مع الكفار في داخل الدولة الإسلامية ما كان يجري بين المسلمين في المدينة وبين اليهود وغيرهم من المشركين من تعامل تجاري فقد كان سبب إجلاء بني قينقاع أن امرأة من المسلمين قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ يهودي لتشتري منه فربط ذلك اليهودي طرف ثوبها إلى ظهرها فلما قامت انكشفت عورتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وقام اليهود على المسلم فقتلوه، ثم اشتد الأمر بينهما، حتى حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن المدينة (1).
__________
(1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص174 - 175.(2/763)
وقد سأل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم: الإمام أحمد بن حنبل عن البيع والشراء مع الكفار فأجابه بأنه لا بأس في ذلك (1)، وقد كانت هناك أسواق في مكة وكان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذه الأسواق ما كان في موسم الحج من تجارات مختلفة هذا فيما يتعلق بالتعامل التجاري مع الكفار داخل دار الإسلام والمسلمين أما التعامل التجاري مع الكفار في دار الحرب فهو جائز حيث كان ذلك مقررًا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت تجارة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) ذاهبة وآيبة بين الشام والمدينة وكانت الشام دار حرب على الإسلام والمسلمين، فالسفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة، مع حفظ العبد لدينه، وقدرته على إظهار دينه أمر لا مانع منه عند توفر الأسباب الداعية إلى ذلك وانتفاء الموانع التي يخشى منها على دين الإنسان ونفسه وماله (2). ولا شك أن أسواق الكفار تشتمل على المعصية، أو ما يستعان به على المعصية فإن وجد الإنسان من نفسه القدرة على الامتناع عن مفاسدهم ومجانبة باطلهم جاز له السفر وإلا كان السفر في حقه محرمًا، عند ضعف القدرة عن مقاومة الإغراءات ووسائل الفساد في المجتمع الكافر عملاً بالحديث الشريف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (3) ومن دخل دار الحرب من المسلمين وهو مبعوث لرسالة أو تاجر، أو طالب معرفة لديهم، بأمان منهم فخيانتهم محرمة عليه، لأنهم إنما أعطوه الأمان مقابل ترك خيانتهم، وعدم الاعتداء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم (4).
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص270.
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8، ص221.
(3) رواه النسائي والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن شهاب الحنبلي ص101.
(4) انظر الفتاوى السعدية/ ابن سعدي ج1 ص97.(2/764)
ولا يجوز للمسلم الذي يحمل التجارة إلى دار الحرب، أن يحمل لهم ما يستعينون به على منكر لديهم، فلا يجوز حمل عنب أو تمر أو شعير يتخذونه خمرًا، وكذلك لا يجوز أن يبيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا. أما بيعهم ما هو مأكول وملبوس ومركوب مما هو مباح لنا ولهم فهو جائز (1).
وأهل الذمة وأهل العهد، إذا زاولوا التجارة في دار الإسلام فإن للحاكم المسلم الخيار بين أخذ العشر أو نصف العشر أو أكثر من ذلك أو أقل أو أن يسمح لهم ويعفيهم من أي التزام مالي، أو يعفي بعض البضائع دون بعض، وذلك لما يراه في صالح الإسلام والمسلمين، فهذه الأمور مبنية على رعاية المصلحة العامة للمسلمين في دار الإسلام، وتخضع للسياسة الشرعية المتمشية مع مصلحة الأمة وسلامتها (2).
أما حكم التعامل معهم وأخذ نقودهم وهم قد يكسبونها عن طريق الربا أو القمار أو الفواحش أو ما إلى ذلك.
فجمهور العلماء على جواز التعامل معهم، وإن كانت مصادر أموالهم محرمة لاقتحامهم ما حرم الله، فقد دل الدليل على ذلك من الكتاب والسنة قال تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (3). وهذا نص في حل طعامهم مع أنه قد يدخل عليهم بطرق محرمة، وعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب وأقر التعامل معهم في مناسبات شتى، وقد رجح القرطبي ذلك (4).
أما التعامل معهم بالربا في خارج دار الإسلام أو السماح لهم بالتعامل بالربا مع المسلمين أو بين بعضهم البعض في دار الإسلام فلا يجوز قولاً واحدًا للأدلة القطعية المتواترة من الكتاب والسنة (5). لأن الله عز وجل إذا
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - ابن تيمية ص230 - 232.
(2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص149 - 175.
(3) سورة المائدة آية (5).
(4) انظر تفسير القرطبي ج6 ص12 - 13.
(5) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص515.(2/765)
حرام على المسلم أمرًا، فإنه لا يجوز أن يستحل هذا المحرم في أي زمان أو مكان إلا ما ورد الشرع بتخصيصه كالميتة ونحوها، ذلك أن تحريم هذه المحرمات أمر مطلق، فلا يجوز للإنسان أن يتعلل باستباحته للمحرم أنه موجود في مجتمع كافر لا حرمة له، فقد كان المسلمون يعيشون مع كفار قريش في مكة، واليهود في المدينة ومع ذلك لم يقع منهم تعامل مع هؤلاء الكفار، في الربا أو القمار أو نحو ذلك (1).
والربا والقمار حكمهما كحكم الزنا، وقد وردت الآيات الدالة على تحريم الزنا مطلقة من غير تخصيص على تحريم الزنا بالمسلمات فقط (2). ويقول الإمام الشافعي (رحمه الله): «الإسلام ملزم للمسلم حيثما كان بوجوب تطبيق أحكامه وأداء فرائضه من عبادات وواجبات وهي لا تسقط إذا كان في بلاد الكفار أو غيرها من الديار، ما دام حيًا عاقلاً مختارًا» (3).
وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر «إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» (4) وفي هذا الوعيد ما يدل على أنه لا يجوز لأهل الذمة وأهل العهد التعامل بالربا ونحوه من المحرمات في جميع الشرائع فلا وجه لما يتعلل به بعض المهزومين في عقيدتهم وأخلاقهم من أن السماح في بعض المحرمات إنما هو لوجود فئة من أهل الذمة وأهل العهد من غير المسلمين، كما تفعل ذلك بعض المؤسسات الاقتصادية العاملة في بعض البلاد الإسلامية حيث تتعامل بالربا بصورة ظاهرة وخفية، وتعلن الحرب على الله ورسوله والمؤمنين وهي بذلك تخرج على شريعة الله وتخالف أمره، ومن حارب الله فقد هزم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
__________
(1) المصدر السابق، ص515.
(2) انظر الخراج لأبي يوسف ص189.
(3) انظر الحرب والسلم في شريعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199.
(4) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص110.(2/766)
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (1). فوجود غير المسلمين في بلاد الإسلام لا يبرر إباحة الربا بأي وجه من الوجوه في البلاد الإسلامية.
أما مشاركة المسلم لغير المسلم في تجارة ونحوها، فإن الشافعية يكرهون مشاركة المسلم لغير المسلم في المعاملات المالية، لما روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «لا تشاركن يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، لأنهم يربون والربا لا يحل» (2).
وقال الحنابلة تجوز المشاركة بشرط أن لا يخلو غير المسلم بالمال دون المسلم، لأن غير المسلم يعمل بالربا، فإذا تولى المسلم العدل تصرفات الشركة بنفسه زال المحذور فتجوز المشاركة حينئذ بهذا الشرط (3). وطائفة الكفار المحاربين الممتنعين ينصر بعضهم بعضًا فهم كالشخص الواحد لذا فإنه يجوز للحاكم أن يشترط عليهم عند دخولهم إلى بلاد الإسلام أن لا يأخذوا للمسلمين شيئًا، وما أخذوا بطريقة غير مشروعة يكونون ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار المحاربين عامة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسير العقيلي حين قال: «يا محمد، علام أوخذ فقال بجريرة خلفائك من ثقيف» وأسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده.
ولو أسرنا حربيًا قادمًا إلى دار الإسلام لأي غرض بقصد تخليص من أسٍروه منا جاز ذلك باتفاق المسلمين (4). ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا ولو اخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز ذلك إذ اشترط عليهم الإمام ذلك عقد الأمان عند الدخول (5).
__________
(1) سورة البقرة آية (278، 279).
(2) المصدر السابق ص555. رقم (2).
(3) انظر المغني ج5 ص3 - 4.
(4) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516.
(5) المصدر السابق نفس المكان.(2/767)
وبناء على ذلك إذا قام الكفار المحاربون بالتضييق على المسلمين لديهم، فيجوز للمسلمين معاملة الكفار المستأمنين بمثل ما يعامل به المسلمون في بلاد الكفار عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (1) ولكن هذه المعاملة ليست مطلقة من كل وجه، فقد يتعامل الكفار مع المسلمين في دار الكفر بأنواع من الظلم، ولا مجاراة في الظلم وهذا ما يؤكد أن مصدر حقوق الأجنبي في دار الإسلام هي الشريعة الإسلامية وما تمثله من أخلاق كريمة ومثل عليا (2).
أما أهل الذمة فلا يجوز أخذهم بجريرة غيرهم من الكفار ما لم يتواطئوا مع أهل الحرب وتثبت خيانتهم، فعند ذلك يجوز معاقبتهم بجريمة خيانتهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بني قريظة عندما انحازوا إلى الأحزاب وظاهروهم على المسلمين (3). قال تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) (4).
ونستنتج مما تقدم أنه محرم على المسلمين أفرادًا وحكومات أن يتعاملوا بالربا سواء فيما بينهم أو مع البنوك الأجنبية في بلادهم حيث إن الأصل هو عدم السماح لأي مصرف في البلاد الإسلامية أن يتعامل بالربا على أي شكل من الأشكال، كما أن تعامل الأفراد أو الدول بالربا مع البنوك الربوية خارج البلاد الإسلامية أمر محرم لا يجوز، لأن الواجبات والمحرمات لا تسقط عن المسلم في أي مكان كان ما دام عاقلاً مختارًا (5).
وعلى هذا فإن الذين يمنحون التصاريح المتعددة للبنوك الربوية التي
__________
(1) سورة النحل آية (126).
(2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص74.
(3) انظر تهذيب سيرة ابن هشام ص225 - 235.
(4) سورة الأحزاب آية (26).
(5) انظر الحرب والسلم في شرعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199.(2/768)
ملأت كل مدينة وقرية وكل منعطف وشارع، موالين لأعداء الله، محاربين لله ورسوله والمؤمنين بأعمالهم، وإن نافقوا بأقوالهم، وادعوا أنهم مسلمين فإن المسلم الحقيقي هو الذي يقف عند حدود الله، فلا يحل ما حرم الله من أنواع الربا، فمن استحل التعامل بالربا فقد خرج من الإسلام. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (1).
__________
(1) سورة المائدة آية (44).(2/769)
المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار
تختلف صلة المسلمين بالكفار تبعًا لاختلاف موقفهم من الإسلام ومكان وجودهم من المسلمين فإن كانوا من أهل الذمة والعهد فلهم حقوق خاصة على المسلمين وإن كانوا من الكفار المحاربين الذين يسكنون خارج دار الإسلام فلهم طريقة خاصة في المعاملة تتناسب وحالهم، وإن كانوا من الكفار المسالمين القاطنين خارج دار الإسلام فلهم معاملة خاصة بهم، وبناء على هذا التقسيم يمكن أن تتنوع أنواع المساعدات وتختلف باختلاف أصناف الكفار الذين تتعامل معهم الدولة الإسلامية.
إن الأصل الذي يجب أن تهتم به الدولة الإسلامية في قضية المساعدات المالية هم أهل الإسلام، فإن الصدقة الواجبة على أفراد المسلمين من زكاة الأموال وزكاة البدن ونحوهما إنما تجب لفقراء المسلمين على أغنيائهم كما في حديث معاذ (رضي الله عنه) الذي ورد فيه «فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على(2/770)
فقرائهم» (1)، وقد روي عن جرير بن عبد الحميد عن الليث عن مجاهد قال «لا تتصدق على اليهودي ولا النصراني، إلا أن تجد مسلمًا» (2). وعلى هذا فإنه لا يجوز إعطاء الكفار من أنواع البر والصدقة إلا بعد كفاية المسلمين، والكفار يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات:
(أ) أهل عهد وذمة.
(ب) كفار مسالمون.
(ج) كفار محاربون.
وإعطاء الكفار من المال هل يكون من الزكاة، أو من غيرها؟ فهذه المسائل تحتاج إلى توضيح مفصل، يوضح كل مسألة بمفردها على النحو التالي:
المسألة الأولى: حكم إعطاء المال لأهل الذمة والعهد.
يجوز إعطاء الذمي والمستأمن من بيت مال المسلمين إذا رأى الحاكم الشرعي أن ذلك في مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن ذلك مما يقتضيه الواجب الإسلامي بمقتضى عقد الذمة والعهد، كما يجوز للأفراد إعطاء قراباتهم من الكفار عند الحاجة إلى ذلك.
فقد روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال كان المسلمون لا يرضخون لقراباتهم من المشركين (3). فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (4)، وقد سار على
__________
(1) رواه البخاري ومسلم - انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص790 - 791 رقم الحديث (1077).
(2) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص227.
(3) انظر تفسير القرطبي ج3 ص337.
(4) سورة البقرة آية (272).(2/771)
ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر النقاش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس لك من صدقة المسلمين شيء» فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: هذه الآية فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه (1).
وقد وجد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) شيخًا من اليهود يسأل الناس، فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك في كبرك! قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه (2). وفعل مثل ذلك عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) (3). ولهذا قال أبو عبيد في كتاب الأموال: لو علم عمر أن فيها سنة مؤقتة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تعداها إلى غيرها (4). وفي صلح خالد بن الوليد مع أهل الحيرة في زمن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قد سجل لهم ما يلي:
«وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت عنه جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة والإسلام» (5).
وقد صرح المالكية بأن دفع الضرر عن المسلمين ومن في حكمهم من أهل الذمة والمستأمنين فرض كفاية حيث نظروا إلى وجوب الإحسان والعدل مع كل إنسان ترفرف فوق رأسه راية الإسلام، مسلمًا كان، أو مذعنًا لأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية (6).
المسألة الثانية: حكم مساعدة الكفار بالمال خارج الدولة الإسلامية.
__________
(1) انظر الصحيح المسند من أسباب النزول/ مقبل بن هادي الوادعي ص23.
(2) تفسير القرطبي ج3 ص337.
(3) انظر الخراج لأبي يوسف ص144. وانظر أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ص38 ج1.
(4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص44 - 46.
(5) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص144.
(6) انظر حاشية الدسوقي ج2 ص155.(2/772)
الأصل في هذه المسألة أنه لا يجوز إعطاء الكفار من أهل الحرب وما دونهم مساعدات مالية أو عينية، إلا لغرض يراد به صالح الإسلام والمسلمين، فبذل المال للكفار بلا هدف أو غاية سامية شرعية أمر لا يجوز لأنه حينئذ يدخل في مجال التبذير في أقل الأحوال والله عز وجل قد ذم المبذرين وعدهم إخوان الشياطين وبالرجوع إلى الكتاب والسنة نجد أن هناك أدلة تبيح بذل المال للكفار عند تأليف قلوبهم على الإسلام قال الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (1)، ولم يرد ذكر للمؤلفة قلوبهم فيما عدا هذه الآية وقد اختلف المفسرون في المراد بالمؤلفة قلوبهم على أقوال منها ما يلي:
أولاً: إن المراد بالمؤلفة قلوبهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام يُتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (2).
ثانيًا: قال الزهري: إن المؤلفة قلوبهم من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيًا (3).
ثالثًا: قال بعض المتأخرين: إنهم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان (4).
رابعًا: قال بعض العلماء هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم (5).
خامسًا: قال جماعة إن المؤلفة قلوبهم هم قوم من عظماء المشركين
__________
(1) سورة التوبة آية (60).
(2) انظر تفسير القرطبي ج8 ص178.
(3) انظر تفسير القرطبي ج8 ص178.
(4) انظر تفسير القرطبي ج8 ص179.
(5) المصدر السابق المكان نفسه.(2/773)
لهم أتباع، يعطون ليستدرجوا مع أتباعهم إلى الإسلام (1). وهذه الأقوال متقاربة، والقصد منها جميعًا، أن يكون الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأن ذلك ضرب من ضروب الجهاد، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عددًا منهم حديثي عهد بالإسلام على مائة من الإبل، وكانوا أشرافًا وحويطب بن عبد العزي، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف، والعلاء بن جارية، فسمي هؤلاء أصحاب المئين (2).
وقد ورد في الحديث الصحيح «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكب في النار على وجهه» (3).
وفي كتاب الأموال عن سعيد بن المسيب (رحمه الله) أنه قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم» (4). وروى الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أهل مكة خمسمائة دينار لما قحطوا وأمر أن يدفع ذلك إلى أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية قبل إسلامهما ليفرقاها على فقراء مكة فقبل ذلك أبو سفيان وأبو صفوان بن أمية، وكان أهل مكة في ذلك الوقت مشركين حربيين، فإذا صح ذلك في حقهم، فمن باب أولى أن يصح التصدق على الكفار المسالمين وأهل الذمة وأهل العهد لأنهم أولى بالرعاية والبر وخاصة من يقعون تحت مسئولية الدولة الإسلامية (5).
وقد اختلف العلماء في بقاء العمل في إعطاء الكفار الذين يؤلفون على الإسلام على ثلاثة أقوال:
__________
(1) المصدر السابق المكان نفسه. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص233 - 234.
(2) المصدر السابق المكان نفسه.
(3) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص132 (كتاب الإيمان).
(4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص613.
(5) انظر أحكام الذميين والمستأمنين د/ عبد الكريم زيدان ص103. وانظر السير الكبير وشرحه ج1ص69.(2/774)
القول الأول: من قال بانقطاع هذا الصنف من الناس بعز الإسلام وظهوره فإن الله قد أعز الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين فلا يعطون، فأما الإسلام أو الجزية، أو القتال، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب والحسن البصري والشعبي (1) وهو المشهور من مذهب مالك بن أنس وأصحاب الرأي وبذلك قال بعض علماء الحنفية حيث قالوا: اجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في خلافة عمر (رضي الله عنه) على سقوط سهم المؤلفة قلوبهم.
القول الثاني: قول جماعة من العلماء إن إعطاء المؤلفة قلوبهم باق، لأن الإمام ربما احتاج إلى ذلك في تأليف قلوب بعض الناس على الإسلام، وإنما قطعهم عمر (رضي الله عنه) حين رأى عزَّ الإسلام، قال يونس سألت الزهري -محمد بن شهاب- عنهم فقال: لا أعلم ناسخًا في ذلك. وقال أبو جعفر النحاس: فعل هذا الحكم ثابت عند الحاجة إليه فإذا رأى الحاكم المسلم العدل أن أحدا يحتاج إلى تألفه، أو يخاف منه على المسلمين أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يتحسن إسلامه بعد الدفع إليه دفع إليه.
وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد إلى القول بجواز مساعدة الفقراء من الرجال والنساء والأطفال مهما كانت جنسياتهم واعتقاداتهم بشرط أن لا يكونوا منتمين إلى دولة معادية الإسلام والمسلمين (2). اهـ.
القول الثالث: إن الكفار، وحديثي العهد بالإسلام يعطون عند الحاجة إلى ذلك في بعض الأوقات وهو قول القاضي عبد الوهاب (3). وقال
__________
(1) هو عامر بن شراحيل الشعبي من شعب همدان وكنيته (أبو عمر) ولد سنة (19هـ) ونشأ بالكوفة وكان علامة أهل الكوفة، محدث، فقيه، حافظ، شاعر، اتصل بعبد الملك بن مروان واستقضاه عمر بن عبد العزيز، وتوفي فجأة سنة (104هـ) بالكوفة. له كتاب الكفاية في العبادة والطاعة. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة/ ج5 ص54.
(2) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد (823) في 11/ 2/1402 ص19.
(3) انظر تفسير القرطبي ج8 ص181.(2/775)
ابن العربي: إن قوي الإسلام زال العطاء لهم وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم فإن في الحديث: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» (1).
وقد مر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عند مقدمه بالجابية من أرض دمشق بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت (2).
فهذه الآثار تدل على جواز إعطاء الكفار مساعدات مالية عندما يرى الحاكم المسلم العدل أن ذلك من مصلحة الإسلام والمسلمين ومن مقتضيات السياسة الشرعية للدولة الإسلامية. ولكن اختلف العلماء هل يجوز إعطاؤهم من الزكاة أم من غيرها من بيت المال إذا كان العطاء على مستوى الدولة دون الأفراد؟
وخلاصة الخلاف في هذه المسألة كما يلي:
القول الأول: قول من يقول بجواز إعطائهم من الزكاة لأنهم داخلون في مسمى الفقراء والمساكين أو باعتبار أنهم جماعة من المؤلفة قلوبهم قال بذلك، زُفَر، والأباضية، ولكن اشترطوا لذلك شروطًا:
1 - منها عدم وجود المسلم المستحق لها.
2 - تعذر إرسالها إلى الإمام الشرعي.
القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء إن الزكاة بقسميها زكاة المال وزكاة البدن لا يجوز أن يدفع منها لكافر، سواء كان ذميًا أو مستأمنًا أو
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي/ ج2 ص954 وانظر الحديث في صحيح مسلم ج1 ص130 في كتاب الإيمان باب (65).
(2) تاريخ البلاذري ص177.(2/776)
مسالمًا أو محاربًا، ودليل هؤلاء ما ورد من حديث معاذ (رضي الله عنه) «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (1). وما روي عن يحيى بن سعيد عن أشعث عن الحسن قال: «لا يعطى من الزكاة نصراني، ولا يهودي، ولا مجوسي» (2) وعن عبد الرحمن بن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر قال: قلت لإبراهيم النخعي: إن لنا أظارا (3)، من اليهود والنصارى أما أتصدق عليهم؟ فقال أما من الزكاة فلا (4) لأنها خالص مال المسلم فلا تخرج إلا لمسلم. وعن يزيد عن هشام عن الحسن قال: ليس لأهل الذمة في شيء من الواجب حق (5). ولكن إذا أراد الرجل تصدق عليهم من غير ذلك، يعني يعطون من صدقة التطوع دون صدقة الفريضة.
قال أبو عبيد في كتاب الأموال: إنما كره العلماء إعطاءهم من الزكاة خاصة، لحديث معاذ المتقدم ذكره، حيث إنه الأصل في هذه المسألة (6) وكل هذه الآثار تدل على المنع وهو ما ذهب إليه الجمهور من العلماء، إلا أن قلة منهم قالوا: يجوز دفع الزكاة إلى الكفار عند تحقق الشرطين المتقدمين، وهما عدم وجود المسلم المستحق لها، وتعذر إرسالها إلى بيت المال (7).
والذي أرجحه في هذه المسألة أنه لا يجوز إعطاء الكفار من الزكاة وخاصة المحاربين فلا يجوز إعطاؤهم حتى ولو لم يجد مسلمًا يستحقها ولم
__________
(1) رواه البخاري ومسلم انظر ص722 من هذه الرسالة.
(2) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص727.
(3) جمع ظئر وهي المرضع ويطلق على الأب من الرضاعة أيضًا. انظر لسان العرب من ص639.
(4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص727 - 729.
(5) المصدر السابق المكان نفسه.
(6) المصدر السابق المكان نفسه.
(7) انظر كتاب الأموال/ لأبي عبيد ج4 ص727 - 729.(2/777)
يستطع إيصالها إلى بيت مال المسلمين في وقتها فالأولى أن يبقيها أمانة عنده حتى تحين أول فرصة فيدفعها إلى مستحقيها لأن دفعها إلى الحربي يترتب عليه ضرر في حق الإسلام والمسلمين بخلاف تركها عنده، فلا يترتب على ذلك من الضرر بمثل ضرر دفعها إلى غير مستحقها، أما غير المحارب، من المسالمين وأهل الذمة وأهل العهد، فإن المسلم إذا وجبت عليه الزكاة ولم يجد من المسلمين من يستحقها وتعذر إيصالها إلى بيت المال بطريق لا يكلفه ما يشق عليه في العادة والعرف جاز له عند ذلك دفعها إلى الفقراء من هؤلاء ولا يلزمه ذلك، فلو كان المسلم بإحدى الدول الكافرة كمثل الطلبة المبتعثين ثم حل وقت زكاة ماله أو بدنه فدفع إلى من يثق به في البلاد الإسلامية مبلغًا من المال الذي هو زكاة ماله ليوزعه على فقراء المسلمين لكان أولى وأفضل من توزيعه على فقراء الكفار وكذلك زكاة بدنه لو أرسل نقودًا يشتري بها طعامًا في بلاد المسلمين وتوزع على فقراء المسلمين فذلك أولى لأن العلة في صدقة الفطر هي إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد (1). والفقراء المطلوب فرحتهم ومنفعتهم هم فقراء المسلمين دون فقراء الكفار، فلو أوصى المسافر إلى بلاد الكفار أو أناب عنه من يقوم بتوزيع الزكاة الواجبة عليه في حينها لكان جائزًا كما أعتقد حيث إن ذلك ينسجم مع منهج الإسلام في اليسر والسهولة على المسلمين قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (2).
أما إعطاء المال للكفار من غير الزكاة، فالآثار تدل على جواز ذلك. وقد تقدم ذكر بعض الأدلة على هذا الموضوع ومن الأدلة الإضافية ما جاء في السير الكبير وشرحه: أنه لا بأس أن يصل المسلم قريبه المشرك
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص258.
(2) سورة المائدة آية (6).(2/778)
لحديث سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) قال صليت الصبح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل أنت واهب لي ابنة أم فِرْقَة؟ قلت نعم. فوهبتها له فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرك وهي مشركة (1). وقد عقد البخاري في صحيحه باب الهدية للمشركين (2). وذكر قول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (3).
وقوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (4). وحديث ابن عمر (رضي الله عنهما) قال رأي عمر حلة على رجل تباع فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتع هذه الحلة، تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكْسُكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها. فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم (5).
ومثل هذا الحديث حديث أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أمي قدمت وهي راغبة. أفأصل أمي؟ قال نعم صلي أمك (6).
والذي يؤخذ من الآيات والأحاديث المتقدمة أن البر والصلة للأقرباء
__________
(1) انظر شرح السير الكبير ج1 ص69 للسرخسي (ط - 1).
(2) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج5 ص232.
(3) سورة الممتحنة آية (8).
(4) سورة لقمان آية (15).
(5) رواه البخاري: انظر فتح الباري ج5 ص232 - 233.
(6) الفرقة بالكسر السقاء الممتلئ لا يستطاع بمخض حتى يفرق. انظر القاموس المحيط للفيروز أبادي ج3 ص275.
رواه البخاري. انظر فتح الباري ج5 ص232 - 233.(2/779)
من المشركين لا يستلزم المحبة والتوادد والموالاة المنهي عنها بحق الكفار في قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (1). فإن هذه الآية عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل.
وقال الخطابي في ذلك: إن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل الرحم المسلمة لكن تتميز الرحم المسلمة بالمحبة والمودة القلبية والرضا، لأن المسلم قد تجرد من أقبح صفة يمكن أن يتصف بها إنسان على وجه الأرض ألا وهي صفة الكفر (2). اهـ.
وقد قال جماعة من أهل العلم: إن صلة القرابة من الكفار كانت مباحة في أول الدعوة، ثم نسخت الصلة والمساعدة للكفار (3). بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (4). اهـ.
والذي أميل إليه في هذا الموضوع هو أن الله سبحانه وتعالى أباح للمسلم البر والصلة والمكافأة بالمعروف والعدل في التعامل مع المشركين خاصة إذا كانوا قرابة في النسب بشرط أن يكونوا غير محاربين لنا في الدين ولا مساعدين على حربنا وإخراجنا من ديارنا بأية صورة من صور التعاون المذموم، أما إذا كانوا محاربين لله ورسوله والمؤمنين فإن صلتهم محرمة ومساعدتهم جريمة وإن كانوا من أقرب الناس نسبًا قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5).
__________
(1) سورة المجادلة آية (22).
(2) انظر فتح الباري ج5 ص234.
(3) المصدر السابق المكان نفسه.
(4) سورة التوبة آية (5).
(5) سورة الممتحنة آية (9).(2/780)
وبناء على ما تقدم من توضيح وبيان فإن الدول المعاصرة التي تبذر أموال المسلمين على شكل إعانات وتبرعات وقروض طويلة الأجل وقروض بفوائد ربوية، ترتكب جريمة كبيرة، وتقترف إثمًا عظيمًا في حق نفسها وأمتها ودينها، حيث تخالف بسلوكها هذا نهج الإسلام ونظامه في التعامل مع غير المسلمين. فكيف تدفع التبرعات السخية لمن يحارب الله ورسوله والذين آمنوا، بينما أكثر الشعوب الإسلامية تعيش على تبرعات غير المسلمين؟ ومن شدة فقرها وحاجتها فهل يكون أعداء الإسلام أرحم بفقراء المسلمين من أغنياء المسلمين أنفسهم؟ ولماذا يؤثر أغنياء المسلمين بصدقاتهم وتبرعاتهم أغنياء الكفار على فقراء المسلمين؟
إن الذين يؤثرون الكفار ببرهم وإحسانهم على المسلمين يجازفون بسعادتهم وسعادة شعوبهم، من أجل أن يرضوا أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين، وتلك غاية الموالاة للكفار إن الإحسان والبر وتقديم المساعدات الكبرى - بلا هدف إسلامي صحيح - لمن يحارب الله ورسوله والمؤمنين، خيانة وذلة ونذالة لا يقدم عليها إلا من لا خلق له ولا دين.
فلقد أجمع المسلمون على تحريم بيع الأسلحة ونحوها لأهل الحرب لما يخشون من استخدامها ضد المسلمين (1).
فكيف بمن يدعمون الدول والحكومات التي تعلن الحرب على الإسلام والمسلمين بالمال والبترول والولاء، بينما أهل الحق الشرعي لا يجدون من يساندهم أو يساعدهم بكلمة تذهب عبر موجات الأثير فضلاً عن المساعدات العينية؟
ولا نريد أن نستطرد في ذكر الأمثلة على ذلك، وإنما نشير إلى ذلك إشارة سريعة للتأكيد على صحة ما نقول:
فقد عقد بنك البحرين الوطني، والمؤسسة المصرفية المتحدة اتفاقًا
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232.(2/781)
يقضي بتقديم قرض بقيمة (50) مليون دولار لصالح البنك المركزي الفلبيني، ومدة القرض ثمان سنوات بفائدة ربوية بواقع 2/ 1 من 0.01 نصف من واحد في المائة من قيمة القرض (1).
وهذا القرض لو استعرضناه من وجهة النظر الإسلامية لوجدناه يشتمل على ثلاث جرائم كبرى ورئيسية هي كما يلي:
1 - الجريمة الأولى في هذا القرض هي مساعدة حكومة ماركوس الصليبي الحاقد على الإسلام والمسلمين والذي يقتل المسلمين صباح مساء في جنوب الفلبين بلا شفقة ولا رحمة (2). وهذا عمل محرم، وتأييد ومناصرة لأهل الكفر على أهل الإسلام. قال الله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) (3) وأي مظاهرة أشد من تقوية الكفار بالمال الذي سيحاربون به المسلمين.
2 - الجريمة الثانية هي جريمة التعامل بالربا عن رضى وعلم واختيار والربا محرم بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأين محل هؤلاء من الإسلام؟ وما هو الإسلام في عرفهم؟
3 - الجريمة الثالثة أن هذا التصرف خذلان للإسلام والمسلمين، ففي الوقت الذي تمتد فيه يد هؤلاء بالملايين لأعداء الإسلام والمسلمين نجد أنهم يحجمون عن تقديم أي عون للمسلمين المسحوقين في ذلك البلد، وهذا خلاف لما أمر الله به وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (4).
__________
(1) انظر مجلة المجتمع عدد (536) في 13/ 9/1401هـ السنة الحادية عشرة ص15.
(2) انظر ص845 - 847 من هذه الرسالة.
(3) سورة القصص آية (86).
(4) سورة المائدة آية (2).(2/782)
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره» (1).
وأي خذلان للمسلم أعظم من إعانة عدوه عليه.
ومثل هذا التصرف اللامسئول، ما قامت به حكومة الكويت حيث تبرعت بمبلغ اثني عشر مليونًا من الدولارات لإقامة مجمع رياضي في الهند، سوف يقام على مقابر المسلمين الذين انتهكت حكومة الهند حرمتهم أحياء وأمواتًا (2) فيا ليت الحكومة الكويتية دفعت هذا المبلغ لإقامة مساجد للمسلمين في الهند أو دفعت هذا المبلغ لدعم جامعة عليكرة الإسلامية التي تكاد تتوقف الدراسة فيها نظرًا لضعف الموارد المالية لديها، أو دفعت هذا المبلغ لإيواء الأسر الإسلامية التي تشب وتشيب على أرصفة الشوارع في الهند.
إن ما حصل من البحرين والكويت والسعودية وغيرها ما هو إلا قليل من كثير ... فإلى متى ... تبقى دماء المسلمين وأجسادهم رخيصة و ... يبقى مال المسلمين نهبًا لغيرهم؟!!!
وقد تجاوز الأمر مسألة مساعدة الكفار المحاربين لله ورسوله والمؤمنين بالمال الإسلامي إلى بناء الأصنام من أموال المسلمين في بلاد الكفار.
فقد نشرت جريدة القبس الكويتية الصادرة في 3/ 2/1980م خبرًا تحت عنوان «مائة ألف دولار من الكويت مساهمة منها لبناء النصب التذكاري للمدعو (مارتن لوثر كنك) في مدينة واشنطن بالولايات المتحدة
__________
(1) رواه البخاري ومسلم. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص1080 رقم الحديث (1572)
(2) انظر مجلة المجتمع عدد (521) السنة الحادية عشرة في 18/ 5/1401 ص16.(2/783)
الأمريكية» (1). اهـ. فهل هناك مهزلة أو سخف أو غباء أو فقدان هوية أشد من ذلك؟ حتى تتبرع دولة من الدول المحسوبة على الإسلام فتبني صنمًا وتقيم وثنًا لأكبر كاهن نصراني صليبي، في أغنى دولة في العالم، بينما أطفال المسلمين يموتون جوعًا، ويعيش معظمهم حفاة عراة يفترشون الجليد، ويلتحفون صقيع السماء في أفغانستان وبورما وبنغلاديش والفلبين وسوريا ولبنان وايرتيريا، وغيرها من البلدان الإسلامية المنكوبة.
فهل (لوثر كنك) أهم من ألفي طفل مسلم باعهم الصليبيون في لبنان إلى جمعيات التنصير والتكفير في أوربا وأمريكا ليصبحوا قسيسين ورهبانًا للنصرانية في المستقبل القريب؟ (2).
إن الأمر ليس أمر الكويت وحدها، وإنما يشاركها دول في مثل ذلك ولكنها قد تكون متميزة عن بقية دول المنطقة بأن لديها قدرًا من الحرية الصحفية، بينما بقية الدول يجري فيها مثل ذلك أو أعظم من ذلك تحت جنح الظلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) انظر المصدر السابق المكان نفسه.
(2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (521) في 18/ 5/1401هـ. ص16.(2/784)
المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين
إن الإنسان لو ألقى نظرة على الدول العربية والإسلامية لرأي أن أهم مصادر دخلها هو البترول فهو المصدر الوحيد لمعظم الدول العربية والبترول ثروة ناضبة كما يؤكد ذلك أهل الاختصاص في هذا المجال.
فقد ذكر وزير البترول الكويتي في تقرير له في أحد مؤتمرات الأوابك: «أننا لو أخذنا الاحتياطات النفطية خارج المناطق الشيوعية لوجدنا أن العالم لديه في نهاية سنة 1978م 1398هـ احتياطي نفطي مقداره (85) بليون طن وعلى فرض أن معدل النمو الاقتصادي يمكن إبقاؤه عند حد 3% في السنة وهي نسبة مشكوك في بقائها كثيرًا، وعلى فرض وجود اكتشافات نفطية تبلغ بليون طن في السنة على مدى العشر سنوات القادمة، فإن كل احتياطي النفط المعروف في الوقت الحاضر زائد كمية النفط التي يمكن اكتشافها لا تكفي لاستهلاك العالم بين عامي 1979م - 2008م - 1399هـ - 1328هـ- البالغ (100) بليون طن أي أن مجموع الاحتياط مع ما يمكن اكتشافه = 85 + 10 = 95 بليون واستهلاك العالم من البترول حسب الإحصائيات العالمية خلال الفترة المذكورة سوف يكون (100) بليون(2/785)
طن أي بنقص خمسة بلايين طن عن الكمية الموجودة والمتوقعة» (1).
ومسألة إنتاج النفط بكميات كبيرة رغم عدم الحاجة إلى ثمنه ورغم غلبة الظن في نفاذه، قد تكون مسألة غير اختيارية لبعض الدول، كما يقول المثل (مكره أخاك لا بطل) ولكن الأغرب من ذلك كله أن الدول النفطية لا تستثمر قيمة بترولها استثمارًا صحيحًا فإن نظرة واحدة إلى الأرصدة العربية الموجودة في بنوك العالم تظهر الأموال الهائلة التي لا يستثمرها العرب المسلمون حق الاستثمار وهذه الأرصدة هي كما يلي:
1 - المملكة العربية السعودية ... ... (77) بليون دولار.
2 - الكويت ... ... ... ... (38) بليون دولار.
3 - الإمارات وقطر ... ... ... (26) بليون دولار.
ويكون المجموع لهذه الأرصدة هو: (141) بليون دولار (2).
وهذا التقدير قبل ثلاث سنوات أي قبل أن تقفز الأسعار إلى الضعف، ولكن السؤال لماذا لا تستثمر هذه الأموال لصالح الإسلام والمسلمين؟
إن واقع المسلمين لا يرقى إلى مستوى ما يملكون من ثروة فهم في فقر مدقع وتدهور مشين في جميع مجالات الحياة، فلا يملكون قوة عسكرية ضاربة، ولا مصانع إنتاجية كبيرة، ولا ثروة زراعية كافية، ولا طاقة بشرية علمية قادرة. مع أن المجال رحب وواسع لاستثمار هذه الأموال كلها في صالح هذه الأغراض فهناك مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة في السودان والعراق وفي شمال أفريقيا وأعالي النيل في مصر، إضافة إلى
__________
(1) انظر مجلة البلاغ العدد (513) في 16/ 11/1399هـ من صفحة 6 - 12.
(2) انظر مجلة المجتمع عدد 422 في 5/ 1/1399هـ ص17.(2/786)
المساحات الهائلة من الأراضي الزراعية في باكستان وأفغانستان وأندونسيا وماليزيا وبعض الدول المسلمة الأخرى وهذه الدول جميعها تملك إمكانات زراعية لو عمل أصحاب الأموال على مساعدتها في تطويرها واستغلالها الاستغلال التام، لاستفاد الجميع وأفادوا معهم الإنسانية جمعاء، حيث يموت ثلاثون مليون طفل سنويًا من قلة الغذاء.
ثم إن ترك هذه الأموال في أيدي أعدائنا تقوية لهم ضدنا ووسيلة يستخدمونها للضغط علينا كما حصل مع إيران فالسعيد من وعظ بغيره.
والدول الغربية تتعامل معنا كما يتعامل المنشار مع الخشب فهي تستغلنا في بيعنا علينا وشرائها منا وقد وضح هذه الحقيقة الدكتور/ عودة أبو بدينة نائب رئيس الخزانة في فرست ناشيونال بنك أوف شيكاغو حيث يقول: إن الدول المصدرة للنفط قد دعمت الميزان التجاري الأمريكي بما يكفي للتغطية وإحداث فائض، وذلك من خلال الطرق التالية:
أولاً: من خلال الأرباح الفائضة للسلع التي تصدرها أمريكا إلى الدول النفطية.
ثانيًا: من خلال أرباح الشركات النفطية الأمريكية في الشرق الأوسط.
ثالثًا: من خلال تدفق قيمة النفط إلى أسواق المال الأمريكية.
وعلى هذا فكل دولار دفعته أمريكا ثمنًا للنفط من بلدان الشرق الأوسط، يساوي بعد التحليل والمقارنة قيمة الأرباح للسلع والخدمات التي حصلت عليها الولايات المتحدة من الدول النفطية، فخلال الأعوام (1977م - 1979م) بلغت قيمة النفط الذي اشترته أمريكا (7.2) مليارات دولار وبلغت الأرباح عن الفترة نفسها (8.155) مليارات دولار وقد أوضح هذه الحقيقة بالبيانات والأرقام الدقيقة والتفصيلية ولولا خشية الإطالة والخروج عن الموضوع لأوردنا تلك التفاصيل (1).
__________
(1) انظر مجلة الاقتصاد والأعمال السنة الثانية العدد (18) - بيروت - لبنان ص19 - 20.(2/787)
وبعبارة موجزة فإن النفط يصل إلى قلب الولايات المتحدة بالمجان. ومع ذلك كله فإن أمريكا والدول الغربية كافة لا تتعامل معنا على نحو يمكن أن يتكافأ مع ما نقدمه لهم من خدمات وما نتنازل عنه لهم من حقوق.
يقول الدكتور/ جاك شاهين أستاذ الإعلام في جامعة (الينوي) بالولايات المتحدة «إن معنى أن تكون عربيًا في أمريكا، هو أن تكون مثارًا للسخرية من وسائل الإعلام، فالعرب دائمًا محتقرون في القصص والأفلام السينمائية، والكتب المتحركة، والكاريكاتير والمجلات والصحف والكتب المدرسية» (1). اهـ.
والعربي يظهر من خلال كل هذه الوسائل الشديدة الجماهيرية على أنه «المخرب الأحول ذو الأنف المعقوف، القذر، المقطب الحاجبين، المتخلف، المجنون جنسيًا، الثري المتلاف، الشهواني الانتهازي، الطماع، البليد، الإرهابي، الجاهل المركب».
ويقول الدكتور/ وليد خدوري مديرة إدارة الإعلام بمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول في ندوة عقدت في لندن قبل عامين «إن من المسلم به أن العرب قد احتفظ لهم الغرب بصورة بائسة حتى خلال التاريخ الحديث» (2). اهـ.
وهذه النظرة الظالمة الجائرة تعكس موقفًا عدائيًا متحيزًا بصورة متعمدة ومعادية لجميع البلاد الإسلامية.
وقد تخطو جميع الأنظمة والقوانين الصادرة منهم بمنع الكتابات أو الرسوم ذات الصبغة العنصرية، وقد اعترف بهذه الحقيقة الدكتور/ جونتان
__________
(1) انظر مجلة اليمامة العدد (671) السنة التاسعة والعشرون الجمعة 18/ 12/1401هـ ص3 - 7.
(2) المصدر السابق المكان نفسه.(2/788)
ديمبل أحد المشاركين في ندوة الصحافة الدولية عام (1979م) (1).
ونحن أوردنا هذه النقول لندحض حجج الذين يحسنون الظن بأعداء الإسلام والمسلمين، ولنقول لهم هآنتم تفتحون لهم قلوبكم وبلادكم وتضحون لرضاهم بدينكم ودنياكم، وهم يسخرون منكم بأقوالهم وأفعالهم وصدق الله العظيم حيث يقول: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (2).
إن الدول الإسلامية مطالبة اليوم بأن تكون على مستوى المسئولية في تصرفاتها ومعاملاتها، وأن تستخدم قدراتها المالية والبشرية فيما يعود نفعه على الإسلام والمسلمين. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (3).
إن الله عز وجل قد مكن لهذه الأمة وأعطاها من القدرات المعنوية والحسية ما يجعلها رائدة العالم في كل زمان ومكان ففي هذا العصر الذي تتباهي به الدول الصناعية الكافرة في الشرق والغرب نجد أن الله عز وجل قد حبا الدول الإسلامية، بأن يكون بيدها نصف إنتاج العالم من النفط حيث تنتج في السنة (1461) مليون طن من النفط وتصدر ثلثي مجموع صادرات الدول المنتجة للنفط في العالم (4).
وهذا مما يقيم الحجة عليها في تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة التي كلفها الله بها فهي وإن ضعفت في مجال الصناعة فقد عوضها الله عن ذلك في مجالات أخرى سهلة ميسرة حيث مكنها من السيطرة على أغلى مادة يحتاج
__________
(1) المصدر السابق المكان نفسه.
(2) سورة آل عمران آية (119).
(3) سورة القصص آية (77).
(4) انظر مجلة المجتمع عدد 440 السنة العاشرة في 13/ 5/1399هـ.(2/789)
إليها الناس في العالم، فكان الواجب عليها أن ترعى حق الله في ذلك وأن تستخدم ما أوتيت من مال الله فيما يحبه الله ويرضاه ولكن الواقع بعيد عما يجب أن يكون فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/790)
المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية
إن الأصل في منهج الدول الإسلامية الحقيقة، أن لا يتولى الوظائف الخاصة والعامة إلا أهل الإسلام، لأن غير المسلمين قوم لا تؤمن خيانتهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (1).
ولذلك قال جمهور العلماء: بأنه لا يستعان بالكافر عند وجود من يقوم مقامه من المسلمين، وقد أصبحت هذه المسألة كقاعدة مطردة في حياة المسلمين السابقين (2).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «لا يجوز أن يولّى
__________
(1) سورة آل عمران آية (118).
(2) انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر تفسير القرطبي ج4 ص179. وانظر الآداب الشرعية والمنح المرعية/ محمد بن مفلح الحنبلي ج2 ص462 - 464. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517.(2/791)
الكتابي شيئًا من ولايات المسلمين على جهات سلطانية، ولا أخبار الأمراء، ولا غير ذلك من المناصب الهامة ذات المساس بمصالح الأمة وقوتها» (1). اهـ.
وقد روى الإمام أحمد (رحمه الله) بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال: قلت لعمر (رضي الله عنه): «إن لي كاتبًا نصرانيًا» قال: مالك قاتلك الله! أما سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (2). ألا اتخذت حنيفًا مسلمًا قال. قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه».
قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أضلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله (3).
وورد على عمر (رضي الله عنه) كتاب معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) أما بعد. يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبًا نصرانيًا لا يتم أمر الخراج إلا به، فكرهت أن أقلده دون أمرك، فكتب إليه عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني. أما بعد: فإن النصراني قد مات. والسلام (4). يعني مراد عمر (رضي الله عنه) أنه لو قدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعًا بعد موته فليصنعه الآن، وهذا أمر من عمر (رضي الله عنه) لمعاوية (رضي الله عنه) بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة، وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله في مثل هذه المهام، ومثل ذلك ما رواه هلال الطائي عن وسق
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص512.
(2) سورة المائدة آية (51).
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص50 وانظر السنن الكبرى للبيهقي ج10ص127 كتاب آداب القاضي.
(4) انظر أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ج1 ص211.(2/792)
الرومي قال كنت مملوكًا لعمر (رضي الله عنه) فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم، من ليس منهم، فأبيت فقال لا إكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت (1). ويروى أنه كتب بعض عمال عمر (رضي الله عنه) إليه يستشيرونه في استعمال الكفار، فقالوا: إن المال قد كثر ولا يحصيه إلا هم، فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليهم، «لا تدخلوهم في دينكم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي حلية الرجال» (2).
ثم قال: من كان قبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره ولا يؤازره ولا يجالسه، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده (3) اهـ.
وروي أن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) كتب إلى بعض عماله. «أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًا، يتصرف في مصالح المسلمين والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (4). فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -يعني ذلك الكاتب إلى الإسلام- فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين». اهـ. فأسلم حسان وحسن إسلامه (5).
ويروى أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى أبي هريرة (رضي الله
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص37.
(2) انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص211.
(3) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص211.
(4) سورة المائدة آية (57).
(5) المصدر السابق ج1 ص214.(2/793)
عنه) كتابًا جاء فيه «وأبعد أهل الشرك وأنكر فعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك» (1).
وعن عمر (رضي الله عنه) قال: «لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى، وقيل لعمر (رضي الله عنه): إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا اتخذ بطانة من دون المؤمنين (2). فعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يحسن معاملتهم ولا يستعين بهم في أعمال المسلمين» (3).
وقد أمرنا الله عز وجل على لسان رسوله باتباع سنة الخلفاء الراشدين حيث روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ» (4).
فمما تقدم نستنتج أن توظيف الكفار في بلاد المسلمين كان في بداية الأمر نادرًا وقليلاً جدًا، وكان أمرًا مستنكرًا إلا عند الضرورة القصوى، رغم أن الكفار كانوا يعملون بصفة أجراء مستخدمين أذلاء مستصغرين أمام المسلمين، ولكن المسلمين مع ذلك كانوا يستعظمون هذا الأمر، فقد أنكر علي بن عيسى (5) على ابن الفرات تقليده ديوان الجيش لرجل نصراني
__________
(1) المصدر السابق ج1 ص212.
(2) انظر تفسير القرطبي ج4 ص179.
(3) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83.
(4) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود، وأبو داود والترمذي من رواية العرباض بن سارية وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ تأليف سعيد حوى ص 140. وانظر ص649 من هذه الرسالة.
(5) يوجد علي بن عيسى بن عبيد الله (أبو الحسن) النحوي المعروف بالرماني، ولد سنة (296هـ) وكانت له يد طولى في النحو واللغة، والمنطق والكلام وله تفسير كبير، وتوفي سنة (384هـ) ولا أدري هل هو المقصود أم لا؟ حيث إنه كان في سن السادسة عشرة عندما توفي ابن الفرات. انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11 ص151. وانظر ج11 ص314.(2/794)
فقال: «ما اتقيت الله في تقليدك ديوان الجيش رجلاً نصرانيًا، وجعلت أنصار الدين وحماة العقيدة والبيضة يقبلون يده ويمثلون أمره» (1) وللمهدي عامل نصراني تجاوز حدوده، فاستدعاه بعض المسلمين إلى القاضي سوار بن عبد الله وحضروا لديه، وبعد الأدلاء بالأقوال طلب البينة فشهدت على النصراني وتعديه منهج الحق، ثم خرج النصراني وعاد بكتاب المهدي الذي سبق أن أعطيه، فدخل المسجد هو وجماعة من النصارى ثم تجاوز الجالسين وحاول الخدم منعه فأبى حتى حضر أمام سوار بن عبد الله فدفع إليه الكتاب فرماه سوار ولم يقرأه، وقال ألست نصرانيًا؟ فقال: بلى. أصلح الله القاضي. ثم رفع سوار رأسه وقال جروه برجله خارج المسجد وأقسم أن لا ينظر له في شيء حتى يوفي المسلمين حقوقهم، فقال كاتب القاضي: قد فعلت اليوم أمرًا يخشى أن يكون له عاقبة. فقال: أعز أمر الله يعزك الله (2).
وفي عهد المهدي قويت شوكة أهل الذمة قليلاً ومكنهم من بعض المناصب التي هي بالقياس إلى ما يحصل في زماننا شيء لا يذكر، ولكن المسلمين في ذلك الوقت لقوة الإيمان لديهم وشدة حساسيتهم للمنكر - استعظموا ذلك، فاجتمع بعض الصالحين ثم ذهبوا إلى المهدي وأنشد أحدهم عند الخليفة هذه الأبيات:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام ... أم ضاعت الأذهان والأفهام
من صد عن دين النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد ... أله بأمر المسلمين قيام
ألا تكن أسيافهم مشهورة ... فينا، فتلك سيوفهم أقلام
__________
(1) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83.
وانظر كتاب الوزراء/ للصابي ص95.
(2) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217.(2/795)
فكتب إلى جميع عماله أن لا يتركوا أحدًا من أهل الذمة يكتب عند أحد منهم (1).
وقد ذكر المؤرخون والعلماء أن من فضائل هارون الرشيد أنه ما قلد أحدًا من أهل الذمة منصبًا يضار المسلمون من خلاله، فقد قلد الفضل بن يحيى أعمال خرسان، وجعفرا أخاه، ديوان الخراج، ولذلك عُمِرت المساجد والجوامع وأقيمت الصهاريج وأماكن السقيا، وجعلت الدواوين لليتامى والعجزة ولو مكن لأهل الذمة لما حصل شيء من ذلك (2).
وفي عهد المأمون كان يحضر مجلسه يهودي، فأتى أحد الشعراء المسلمين وأراد أن يوقع بهذا اليهودي، أو يسلم، فأنشد أبياتًا منها:
يا ابن الذين طاعته في الورى ... وحكمه مفترض واجب
إن الذي عظمت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب
فالتفت المأمون إلى اليهودي وقال: أصحيح ما يقول؟ قال نعم، فأمر بإبعاده، وقيل بقتله (3).
وفي عهد المتوكل حج المتوكل في إحدى السنوات فسمع بعض رجاله رجلاً يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل علنًا فأخذه الحرس، وجاءوا به سريعًا إليه، فقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال والله يا أمير المؤمنين، ما قلت الذي قلته إلا وقد أيقنت بالقتل، ولكن اسمع كلامي وأمر بقتلي بعد ذلك إن أردت، فقال: قل. فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله، ويغضبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنف دولتك، كتاب
__________
(1) المصدر السابق ص216.
(2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217. وانظر أحداث سنة (191هـ) في البداية والنهاية/ لابن كثير ج1 ص206 وتاريخ الطبري ج10 ص100 (ط - الحسينية).
(3) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص219.(2/796)
من أهل الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم وأساءوا الاختيار للمسلمين وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خفتهم ولم تخف الله، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم، بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو فيها المرء بقبره ليس معه إلا عمله، فبكى المتوكل إلى أن أغشى عليه، ثم أمر بإزالتهم (1).
وأما الخليفة المقتدر بالله فإنه في سنة خمس وتسعين ومائتين عزل كتاب النصارى وعمالهم، وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة (2). حتى إنه أمر بقتل أبي ياسر النصراني عامل مؤنس الحاجب لتعديه على حقوق المسلمين.
وكذلك الخليفة الراضي بالله كثرت الشكايات من أهل الذمة في زمانه ومن الذين شكوا الشاعر مسعود بن الحسين الشريف البياضي حيث يقول:
يا ابن الخلائف من قريش والأولى ... طهرت أصولهم من الأدناس
قلدت أمر المسلمين عدوهم ... ما هكذا فعلت بنو العباسي
حاشاك من قول الرعية أنه ... ناس لقاء الله أو متناسي
ما لعذر إن قالوا غدا هذا الذي ... ولى اليهود على رقاب الناس
ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا ... فافعل وعدّ القوم في الأرماس (3)
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله زاد نفوذهم حتى بدأ يغبطهم بعض المسلمين على مناصبهم كما صور ذلك الشاعر الراضي بن البواب حيث يقول:
__________
(1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص222.
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج11 ص108. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص224.
(3) أحكام أهل الذمة ج1 ص225.(2/797)
يهود هذا الزمان قد بلغوا ... غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم، والمال عندهم ... ومنهم المستشار والحكم
يا أهل مصر إني قد نصحت لكم ... تهودوا كي تنالوا ما ملكوا (1)
وقد ولى العزيز بالله نصرانيًا اسمه (عيسى بن نسطورس) كتابة الأموال، واستناب بالشام يهوديًا اسمه (منشا) فاعتز بولايتهما النصارى واليهود، وأوذي المسلمون، وقد عمد أهل مصر الغيورون على الإسلام والمسلمين، فوضعوا دمية على شكل مجسم لإنسان ووضعوا بين يديه ورقة كبيرة كتبوا عليها «بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي» وأقعدوا تلك الدمية على طريق العزيز بالله، فلما رآها أمر بأخذها، وقرأ ما فيها، ثم قبض على النصراني واليهودي فأودعهما السجن وأخذ منهما أموالاً كثيرة وأبعدهما وقراباتهما عن الحكم وكذلك فعل الحاكم بأمر الله (2).
وقد لزم الملك الصالح صلاح الدين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور بن قلاوون أهل الذمة بالذلة والصغار، وأمر أن لا يستخدم منهم أحد في الدواوين السلطانية ولا في شيء من الأشياء التي يمكن أن يكون عملهم بها مضرًا على الإسلام والمسلمين، وذلك خلال حكمه ما بين (753 - 755هـ) (3).
وهذه المواقف كلها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يجوز تمكين اليهود والنصارى من الوظائف والمهن التي يحققون من خلالها الاستعلاء على المسلمين، تمشيًا مع قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (4).
__________
(1) انظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4 ص183.
(2) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص82.
وانظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11ص320.
(3) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج14 ص250.
(4) سورة آل عمران آية (118).(2/798)
وجميع الروايات المروية عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بطرقها المختلفة تؤكد الالتزام بمعنى هذه الآية، وتوصل هذا المفهوم بما لا يدع مجالاً للشك أو التردد، من أن الاستعانة بغير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى وبقدر ضئيل لا يشكل خطرًا أو ضررًا على الإسلام والمسلمين وقد عد ابن تيمية الاستعانة بالنصيريين من أكبر الكبائر مع أنهم يدعون الإسلام. فكيف بالكفار الصرحاء الذين يعلنون كفرهم وعداوتهم للإسلام والمسلمين (1). اهـ.
ولكن المسلمين قد تجاوزوا هذا الحكم كما تجاوزوا غيره من الأحكام الشرعية وتذللوا مع أعداء الله أكثر مما يجب لدرجة أن أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو (آدم متز) أحد مؤرخي الغرب يقول: «من الأمور التي نعجب لها كثيرًا كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في أمور الدولة الإسلامية» (2).
وهذا يدلنا على أن الدولة الإسلامية قد فتحت صدرها بكل رحابة لغير المسلمين وأشركتهم في إدارة شئونها وهي تعلم أنهم يخالفونها في العقيدة والغاية، وهذا الموقف هو أقصى درجات التعاون مع المخالفين في العقيدة والتسامح معهم ولكن ذلك كله ما كان يقابل من أهل الذمة بالاستحسان والاعتراف بالجميل بل كان البعض منهم يستغل هذا التسامح لتهييج روح الانتقام والتسلط على رقاب المسلمين وهذا ما حصل في الأيام الأولى من خلافة الآمر بأمر الله، فقد كان أحد الذميين كاتبًا للخليفة، فآذى المسلمين واحتكر الوظائف والمصالح لأهل ملته، وعندما أحس بتمركزهم وخوف انتقام المسلمين منهم جمع أبناء ملته وخطب فيهم قائلاً: نحن ملاك هذه الديار وقد أخذها المسلمون منا وتغلبوا عليها واغتصبوها من أيدينا فنحن
__________
(1) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية ص 476.
(2) انظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود. د/ مصطفى الرافعي ص16.(2/799)
مهما فعلنا بالمسلمين من مكر وخديعة فهو قبالة (1) ما فعلوه بنا، فجميع ما نأخذه من أموالهم وأموال ملوكهم حل لنا وبعض ما نستحقه عليهم (2). هذه نظرة عامة أهل الكتاب إلى المسلمين، وهذا ما يطبقه أعداء الله في واقع المسلمين اليوم حيث نهبوا خيرات المسلمين المادية والمعنوية وفرقوا شمل الأمة الإسلامية وخططوا ويخططون للوقيعة بها في شتى المجالات وهذا الفعل إنما هو مصداق لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (3). فنحن لم نعقل أمر الله في مقاطعة الذين كفروا والابتعاد عنهم ولذلك أصابنا ما حذرنا الله منه قال تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (4). إن واجب الحكومات والشعوب التي تدعي الإسلام إن كانت صادقة في دعواها، أن تعمل على تقديم المسلمين وتفضيلهم على الكفار عند الاستقدام والتوظيف وذلك أمر واجب عقلاً وشرعًا، ففي الشرع يقول الله عز وجل (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (5). وفي الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... » الحديث (6).
__________
(1) أي مثل الدَيْن عليهم نسترده منهم. انظر المعجم الوسيط ج2 ص719.
(2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص227.
(3) سورة آل عمران آية (118).
(4) سورة التوبة آية (8).
(5) سورة المائدة آية (2).
(6) رواه مسلم وانظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص258.(2/800)
وأما من حيث العقل فإن المسلم عندما يوفر فرصة العمل لأخيه فإنما يعينه على الحياة بوسيلة شريفة وهذا نوع من التكافل الاجتماعي بين المسلمين وثانيًا أن المسلم عندما يستقدم للعمل أحد إخوانه المسلمين فمعنى ذلك أنه لم يدخل في الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي جسمًا غريبًا على المسلمين في أقل الأحوال، بخلاف من يستقدم الكافر فإنه إن لم يكن هذا عدوا لدودا لهذا الدين وهذه الأمة فأقل أحواله أنه غريب على المسلمين في عقيدته وأقواله وأفعاله يخشى فساده ولا يؤمن ضرره على الإسلام والمسلمين وما يتعلل به البعض من أن الكفار أحسن خدمة، وأكثر أمانة وأقوى التزامًا بالعمل ومواعيده، فالرد أن هذه صفات توجد في المسلمين والكفار وهي مشتركة بين الناس جميعًا ولكن تلك الصفات باعثها في المؤمن غير باعثها في الكافر، فالكافر قد يتخذ تلك الصفات للدعاية لنفسه ولكفره وليخدع بها بعض الناس في التعامل كي يصل إلى هدفه الحقيقي في استغلال الغير إلى أبعد الحدود وبطريقة لا يشعر بها المستغل أنهم يستغلونه، أما المؤمن فإن الباعث للصفات الحسنة في نفسه هو مجرد الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، ولذلك إذا توفرت في المسلم صفة الإيمان الحقيقي توفرت فيه جميع الصفات الحسنة لأن الأخلاق الكريمة من ثمار الإيمان الصحيح ومن علاماته، فدور المسلم هو البحث عن إخوانه المسلمين الذين يجمعون بين القول والعمل والذين تظهر عليهم علامات الصدق والإيمان فيجب عليه أن يأخذ باعتباره أساسًا أن المعاملة مع غير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى ووفق شروط معينة لا تتوفر في عامة الكفار ممن يعملون في دار الإسلام وقد ورد في الأثر «ومن قلد رجلاً على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى منه لله فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين» (1).
فالواجب عند الاختيار هو اختيار من هو أقرب إلى الله ورسوله
__________
(1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.(2/801)
والمؤمنين وفي الغالب لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: «اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة» (1).
وعندما يتعذر على المسلم إحلال مسلم محل كافر بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع فلا مانع من استخدام الكافر عند ذلك فإن الله عز وجل ما جعل علينا في الدين من حرج قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (2). ولكنه بعيد جدًا أن يبحث المسلم في المجتمع الإسلامي الكبير عن شخص ذي صفات ومواصفات معينة فلا يجده بين المسلمين حتى يضطر إلى التعاقد مع الكفار، إلا إذا كانت تلك الصفات والمواصفات التي ينشدها يحرمها الإسلام، فهو يلجأ إلى غير المسلمين لأنها شبه مباحة في نظرهم، ولأنهم لا يرون في فعلها غضاضة. ولا يتحرجون عن ارتكاب تلك الدنايا. في الوقت الذي يمتنع المسلم عن فعلها بكل عزة وإباء.
وبناء على ذلك فإن استعمال الكفار لا يجوز إلا بشرطين:
1 - تعذر من يحل محل الكفار من المسلمين.
2 - أن يؤمن جانبهم على الإسلام والمسلمين.
ولهذا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في الوظائف التعليمية عند عدم وجود من يقوم مقامهم من المسلمين ولكن ذلك مشروط بعدم حصول الأذى للمسلمين في عقيدتهم وأنفسهم، فلا بد أن تكون مادة العلم الذي يراد تعليمه، مادة مباحة، فلا يجوز تعليم الأشياء المحرمة سواء كان المعلم مسلمًا أو كافرًا مثل الغناء والرقص وضروب السحر والشعوذة وما إلى ذلك، وأن يكون المسلم أمينًا مأمونًا على أبناء المسلمين، بحيث لا
__________
(1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.
(2) سورة البقرة آية (286).(2/802)
يستغل وجوده بين أبناء المسلمين لزرع الفسق والكفر في قلوب التلاميذ والدليل على جواز تعليم غير المسلم للمسلمين ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أسرى بدر حيث طلب من بعض الأسرى الذين لا مال لديهم، أن يفدوا أنفسهم بأن يعلم الواحد منهم عشرة من غلمان المسلمين ويخلي سبيله (1).
وقد يحتاج الإنسان في طلب العلاج لبعض الأمراض المستعصية إلى أن يذهب إلى طبيب يهودي أو نصراني، وذلك جائز وفق شروط معينة وهي أن يكون اليهودي أو النصراني خبيرًا بهذه المهنة ثقة عند الناس مأمونًا من عدم استغلال مهنته والدعوة إلى المنكر ومحاربة الحق، فإذا كان بهذه الشروط ولم يجد مسلمًا يساويه في الدرجة والاختصاص جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال عند الحاجة وأن يعامله في البيع والشراء (2)، فقد استأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أريقط وهو رجل مشرك حين هاجر من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله، ولكنه مع ذلك كان أجيرًا مستخدمًا لا معينًا مكرمًا (3). وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم، وقد روي أن الحارث بن كلدة - وكان كافرًا - قد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستطبوه، وهذا كله مشروط بأن لا يوجد طبيب مسلم على درجته من الطب، فإذا وجد طبيب مسلم، فالمسلم أحق بمنفعة أخيه حيث إن قوة المسلم قوة لإخوانه وقوة الكافر قوة لأعدائه، ومساعدة المسلمين لأعداء الله بما يقويهم على أهل الإسلام محرم عليهم (4). ولكن يدفع أخف الضررين عند الحاجة إلى ذلك في مثل هذه الصورة والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج3 ص328.
(2) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517.
(3) انظر فتح الباري كتاب الإجارة ج4 ص442 ح2263.
(4) انظر مختصر الفتاوى المصرية ابن تيمية ص505، ص516 - 517.(2/803)
المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام
لا يجوز شرعًا التوارث بين المسلم والكافر، فقد قال جمهور الصحابة والفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم بأنه لا يجوز أن يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1). حيث إن التوارث مبناه على الموالاة والمناصرة وليس بين المسلم والكافر موالاة أو مناصرة لاختلافهما في العقيدة وإنما قد يكون بينهما على أحسن الأحوال مصاحبة بالمعروف لا ترقى إلى درجة التوارث، التي هي خاصة بين المسلم وأقربائه من المسلمين في النسب وخالف في ذلك جماعة من أهل الفقه فقالوا في توريث المسلم من الكافر دون العكس، محتجين بما روي عن معاذ (رضي الله عنه) أنه ورث مسلمًا من يهودي محتجًا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (2) وربما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الإسلام يزيد ولا ينقص» (3).
__________
(1) رواه البخاري. انظر صحيح البخاري ج8 ص194 (باب الفرائض).
(2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج6 ص73 - 74.
(3) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج12 ص50.
وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص101.(2/804)
وكذلك قياس الإرث على النكاح فنحن ننكح نساءهم، ولا ينكحوا نساءنا فكذلك يجب أن نرثهم ولا يرثونا (1).
وقد ناقش أصحاب القول الأول أهل القول الثاني بأن الحديث المروي عن معاذ (رضي الله عنه) مراد به أن الإسلام يعلو بالحجة والبرهان فلا تعلق له بالإرث (2).
أما الحديث الثاني فالمقصود به من يرتد عن الإسلام لقلة من يرتد وكثرة من يسلم، أما قياس الأرث على النكاح فلا يصح فإن العبد ينكح الحرة ولا يرثها والنكاح مبني على قضاء الوطر والتوالد بخلاف التوارث فمبناه على الموالاة والمناصرة فلا يصح القياس على ذلك (3).
وفي رأينا أن قول الجمهور هو القول الراجح وهو عدم توريث الكافر من المسلم أو العكس وذلك لقوة أدلة الجمهور وسلامتها من المعارض الصريح، ولذلك يجب على القضاة في المحاكم الشرعية وأهل الولايات الإسلامية أن لا يورثوا أهل الردة من الشيوعيين والبعثيين والاشتراكيين والماسونيين ونحوهم من المرتدين. ولم يبق في مسألة التوارث بين المسلم والكافر إلا مسألة واحدة هي الإرث بالعتق وهذه مسألة خاصة خلافية يمكن الرجوع إليها في الكتب المتخصصة في ذلك (4). والله الهادي إلى سواء السبيل.
أما مسألة النفقة:
فقد يظن البعض من الناس أن نفقة المسلم على أقربائه من الكفار
__________
(1) انظر المغني/ لابن قدامة ج6 ص294.
(2) المصدر السابق ج6 ص295.
(3) انظر شرح النيل وشفاء العليل/ محمد بن يوسف اطفيش ج8 ص261.
(4) انظر المغني/ لابن قدامة ج6 ص349 - 350.(2/805)
وصلته لهم، أنها نوع من أنواع الموالاة، كما قد يظن البعض الآخر أن منع النفقة عليهم وقطع الصلة بهم، أنها نوع من أنواع المعاداة للكفار وحيث إن هذا الأمر قد يشكل على بعض المسلمين، ونظرًا لصلته الوثيقة بموضوع الولاء والعداء رأينا أن نبين رأي الشرع في هذه المسألة حتى يكون المسلم على بينة في تعامله مع أقربائه من غير المسلمين أو في نظرته لمن يتعامل مع غير المسلمين من الذين تربطهم رابطة القرابة، فنقول: إن الفقهاء اختلفوا في موضوع النفقة على قولين:
القول الأول: قول جمهور من الحنفية والشافعية والمالكية والشيعة الإمامية والزيدية، حيث يقولون إن اتحاد الدين ليس بشرط في وجوب النفقة بين القرابة، وهم يستدلون بعموم الأدلة الدالة على وجوب النفقة قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) إلى قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) (1). فالإنفاق عليهما حال فقرهما من أحسن وجوه الإحسان، وإن التأذي بترك النفقة عليهما عند عجزهما أكثر من تأذيهما بكلمة أفٍ، فكان النهي عن التأفيف نهيًا عن ترك الإنفاق من باب أولى.
وقال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (2). وهذه الآية نزلت في الوالدين الكافرين، وهل المعروف أن يترك الولد أبويه وهما في حالة عري وجوع شديد؟ (3). وبناء على هذا يجب على المسلم النفقة لأقربائه من الكفار.
القول الثاني: قول من يقول بعدم وجوب النفقة على المسلم لقرابته
__________
(1) سورة الإسراء آية (23).
(2) سورة لقمان آية (15).
(3) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام.(2/806)
الكفار، وهو قول الحنابلة (1). ودليلهم قول الله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) (2) فوجب أن يكون من تلزمه نفقة غيره وارثًا له، واختلاف الدين يمنع التوارث فيمنع النفقة.
لأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس فيجب أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، والنفقة بعد هذا وذاك من باب الصلة والمواساة فلا تجب مع اختلاف الدين (3).
والراجح في ذلك هو قول الجمهور، لقوة ما احتجوا به من أدلة على وجوب النفقة على المسلم لقراباته من أهل الذمة.
وأما ما احتج به الحنابلة من وجوب اتحاد الدين كشرط لوجوب النفقة، فإن هذا في غير قرابة التولد، اما القول بأن النفقة واجبة للمواساة والصلة، فلا تجب مع اختلاف الدين. فالجواب أنها وجبت في هذه القرابة للجزئية، وهذا المعنى لا يختلف باختلاف الدين، وحتى إذا كان وجوب النفقة للمساواة والصلة، فإن اختلاف الدين لا يمنع من الصلة (4).
أما نفقة المسلم على قراباته من الكفار المحاربين، سواء كانوا خارج دار الإسلام أو داخلها، فإن بذل النفقة لهم لا يجب ولا يجوز، إلا بنية تأليفهم للإسلام، ويدخل في ذلك الأقرباء الذين يعتنقون المبادئ الهدامة وينضمون إلى الأحزاب الكافرة سواء كانت شيوعية أو بعثية أو اشتراكية أو ماسونية أو صليبية أو وثنية أو نحو ذلك، حيث إن المسلم منهي عن بر من يحارب الله ورسوله والذين آمنوا. قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
__________
(1) انظر المغني والشرح الكبير ج9 ص259.
(2) سورة البقرة آية (233).
(3) انظر المغني/ لابن قدامة ج7ص585.
(4) انظر الوصايا في الفقه الإسلامي/ محمد سلام مدكور ص323.(2/807)
قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1).
والقريب المستأمن من يلحق بالحربي حكمًا حيث إن النفقة هي من باب الصلة والبر، فلا يستحقها الحربي وإن كان مستأمنًا. وعلى هذا فلا تجب النفقة بين المسلم والمستأمن حتى في قرابة التوالد (2).
فكيف حال من ينفقون على الكفار المحاربين لله ورسوله والمؤمنين وهم لا يرتبطون بهم في نسب ولا سبب مباح؟ أليس مثل هذا التصرف موالاة للكفار يوجب غضب الله ومقته وعذابه لمن يصنع ذلك من أدعياء الإسلام؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) سورة الممتحنة آية (9).
(2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص476.(2/808)
المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشؤون الحربية
وتحت ذلك ثلاثة فروع:
1 - الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال.
2 - الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار.
3 - الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار.(2/809)
الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية يجد من الآيات والأحاديث ما تدل دلالة قطعية على غش الكفار للمسلمين وعداوتهم لهم وخيانتهم لقضاياهم، وتمنيهم السوء للمسلمين ومسرتهم بذلك، وعداوتهم لله ورسوله، فمن والاهم وأعزهم وولاهم أمور المسلمين، فقد خالف ما أمر الله عز وجل بحقهم من وجوب الغلظة والشدة عليهم، ومن اعتقد فيهم النصح والإخلاص فقد كذب بما أخبر الله به عنهم من خيانة وغش وإرادة السوء بالمسلمين قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (1). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (2).
وقال تعالى: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (3) فلا يجوز
__________
(1) سورة آل عمران آية (75).
(2) سورة آل عمران آية (118).
(3) سورة النساء آية (89).(2/811)
الانخداع بما يظهره الكفار من صداقة وإخلاص حيث إنهم أعداء عقيدة لا ترجى مودتهم، وما يتظاهرون به من صداقة ونصح، فإنما هو لأغراض في أنفسهم، ولمصالحهم الخاصة، وللمكر والوقيعة بالمسلمين كالأفعى ينخدع الجاهل برقبتها ونعومتها وفي فمها السم الزعاف، وهؤلاء الكفار كذلك فإن مبدأهم في التعامل مع المسلمين، أن لا إثم ولا خطيئة عليهم في خيانة المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بل يرون ذلك قربة وقصاصًا عما فعله المسلمون بأسلافهم في الشام ومصر والأندلس (1).
وقد حذرنا الله منهم، وبين لنا مواقفهم منا، ونظرتهم إلينا في التعامل والمعاملة، حتى نكون على بينة في معاملتنا لهم، فإن الاستعانة بهم في مصالح المسلمين بصورة غير شرعية، لون من ألوان موالاتهم وتوليهم، وقد بين الله عز وجل أن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم إيمان العبد بربه حتى يتبرأ منهم، فإن البراءة منهم، دليل على عدم موالاتهم، ومن قلدهم الوظائف الهامة والمناصب الكبرى في ديار الإسلام، فقد اتخذهم بطانة من دون المؤمنين، وخالف الأمر بوجوب كسر شوكتهم والشدة عليهم وإشعارهم بالصغار بين المسلمين حتى يسلموا فيعتزوا بالإسلام، أو تضيق بهم نفوسهم في المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف، فيلحقوا بالكفار أمثالهم أو يبقوا في وضع ضعيف مهين بحيث لا يشكلون خطرًا على الإسلام والمسلمين، فإذلال الكفار من غير ظلم أو تعد لما شرعه الله لهم من حقوق، أمر مطلوب من كل مسلم قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (2). وقال تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (3). وقال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (4). وهذا لا يتأتى مع توليتهم
__________
(1) انظر ما قاله أحدهم في (أحكام أهل الذمة) / لابن قيم الجوزية ج1 ص227.
(2) سورة الفتح آية (29).
(3) سورة التوبة آية (123).
(4) سورة التوبة آية (29).(2/812)
المناصب القيادية في الجيش وجعل الخبراء العسكريين والمستشارين منهم فإن معاملتهم بهذه الصفة تتنافى مع مقتضى الآيات المتقدمة في معاملة الكفار.
وقد اختلف العلماء في مسألة الاستعانة بالكفار في الحرب على قولين:
القول الأول: هو قول من قال بعدم جواز الاستعانة بالكفار في الحرب وهو مذهب المالكية (1). وبه قال الإمام أحمد (رحمه الله) (2) وقد استدل المانعون بعدد من الآيات والأحاديث هي كما يلي:-
1 - قول الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (3). قيل: إنها نزلت في عبادة ابن الصامت (رضي الله عنه) فقد كان له حلفاء من اليهود فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب قال: له عبادة، يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله هذه الآية (4).
2 - قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (5). فقد رجح
__________
(1) انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج1 ص402 - وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7.
(2) انظر الأحكام السلطانية/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص39، 225.
(3) سورة آل عمران آية (28).
(4) انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص6. وانظر جامع البيان للقرطبي ج4 ص58. وانظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج1 ص403. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص36 - 37.
(5) سورة آل عمران آية (118).(2/813)
القرطبي عدم جواز الاستعانة بالكفار حيث يقول: إن الله قد وضح لنا العلة في النهي عن اتخاذهم بطانة بقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) ثم ختم الآية بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فهل نكذب بيان الله فيهم ونصدقهم فنقربهم ونتقرب إليهم؟ (1). وفي زاد المسير قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في أمر من أمور المسلمين (2).
3 - قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (3). قال ابن خويز منداد: هذه الآية تضمنت مع مثيلاتها المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك (4).
ويقول القرطبي: إن الصحيح من مذهب الشافعي هو منع الاستعانة بالكفار في القتال (5). وهو ما ذهب إليه القرطبي أيضًا (6).
وقد ذكر أن الشافعي علل ذلك بأنه طريق لأن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا (7).
وأجاب من يرى الجواز بأن السبيل هو اليد وهي للإمام الذي استعان بالكفار (8).
4 - ومن الأحاديث ما روى مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان بحرّة الوبر أدركه رجل
__________
(1) انظر تفسير القرطبي ج4 ص180.
(2) انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج1 ص447.
(3) سورة المائدة آية (57).
(4) انظر تفسير القرطبي ج6 ص224.
(5) انظر تفسير القرطبي ج6 ص224.
(6) المصدر السابق المكان نفسه.
(7) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص44.
(8) المصدر السابق المكان نفسه.(2/814)
قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعك، وأصيب معك قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا ... قال فارجع: فلن أستعين بمشرك» قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل ... فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة. قال: «فارجع فلن نستعين بمشرك». قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء. فقال كما قال أول مرة «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فانطلق» (1).
5 - روى الواقدي أن خبيب بن يساف، كان رجلاً شجاعًا وكان يأبى الإسلام فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، خرج هو وقيس بن محرث، فعرضا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجا معه، فقال «لا يخرج معنا رجل ليس على ديننا» فقال خبيب: قد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب فأقاتل معك للغنيمة قال: «لا، ولكن أسلم ثم قاتل» (2).
6 - روى الإمام أحمد عن خبيب عن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم «قال أو اسلمتما» قلنا لا! «قال فلا نستعين بالمشركين على المشركين» قال فأسلمنا وشهدنا معه، فقتلت رجلاً وضربني ضربة وتزوجت بابنته بعد ذلك، فكانت تقول: لا عدمت رجلاَ وشحك هذا الوشاح فأقول: لا عدمت رجلاً عجل أباك النار (3).
القول الثاني: قول من جوَّز الاستعانة بالكفار عند الحاجة إلى ذلك
__________
(1) صحيح مسلم ج3 ص1449 - 1450 وسنن أبي داود ج3 ص75.
(2) انظر صور من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص325/ أمين دويدار. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8ص43.
(3) مسند الإمام أحمد ج3 ص454. وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص102.(2/815)
وهو قول جمهور الشافعية والحنابلة والأحناف (1). وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أحاديث هي كما يلي:
1 - ما روي أن قزمان خرج مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر» (2).
2 - وفي صلح الحديبية كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أثناء توجهه إلى مكة عندما كان بذي الحليفة عينًا له من قبيلة خزاعة اسمه بشر بن أبي سفيان ليأتيه بخبر أهل مكة، وبشر بن أبي سفيان كان مشركًا من قبيلة خزاعة، وفي هذا تأكيد لجواز الاستعانة بالمشركين، عند الطمأنينة إليهم (3).
3 - وقد شارك في معركة أحد مع المسلمين مخريق بن ثعلبة اليهودي عقيدة وديانة العربي نسبًا وعرقًا، وكان قتاله تنفيذًا للمعاهدة المبرمة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود، فدعا اليهود إلى حمل السلاح مع المسلمين فقالوا اليوم يوم السبت، فأخذ سلاحه ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتل حتى قتل، وقال إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء وكان له سبعة بساتين وقد جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقافًا بالمدينة (4).
4 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعان بيهود بني قينقاع وقسم لهم، واستعان بصفوان بن أمية في يوم حنين (قبل إسلامه) فدل ذلك على الجواز (5).
__________
(1) انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن ج1 ص402 وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43، وانظر زاد المعاد/ لابن قيم الجوزية ج2 ص190، وانظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود/ د/ مصطفى الرافعي ص16 وانظر الدرر السنية ج7 ص376.
(2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص44، وانظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص228.
(3) انظر فقه السيرة محمد سعيد رمضان البوطي ص252.
وانظر زاد المعاد لابن القيم الجوزي ج2 ص123. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8ص45.
(4) انظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص226 - 231.
(5) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 ص22.
وانظر روائع البيان في تفسير القرآن ج1 ص402.
وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7.
وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43.(2/816)
5 - وعن ذي مخبر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم» (1).
6 - وعن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم (2).
وقد رد أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول القائلين بعدم جواز الاستعانة بالكفار بردود هي:-
أ- إن أدلة النهي عن الاستعانة بالكفار منسوخة بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله كما تقدم ذكر ذلك (3).
ب- إن القائلين بالجواز لم يذكروا أنه يجوز الاستعانة بالكفار مطلقًا وإنما قيدوا ذلك بشرطين هما:-
1 - الحاجة إلى الكفار في حالة عدم وجود من يحل محلهم من المسلمين.
2 - الوثوق بهم، وغلبة الظن على أمانتهم، وعدم مكرهم. أما بدون هذين الشرطين فلا تجوز الاستعانة بهم بحال من الأحوال وهذا هو الراجح، وعلى ذلك يحمل حديث عائشة (رضي الله عنها) المذكور في صحيح مسلم، ويحصل الجمع بين الأدلة أدلة المنع وأدلة الجواز (4).
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود. انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43.
(2) رواه أبو داود في مراسيله. المصدر السابق نفس المكان.
(3) انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن. ج1 ص402، وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7.
(4) انظر المصدرين السابقين، من نفس المكان.(2/817)
وقد نقل عن الشافعي (رحمه الله) ما يوافق هذا المعنى حيث روي أنه قال: «إن رأى الإمام أن الكافر حسن النية، حسن الرأي مأمون الجانب على المسلمين، وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز ذلك وإلا فلا» (1).
ولعل هذا هو المتفق مع أدلة النهي وأدلة الجواز، إذ روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، وهو مشرك، فتكون المسألة في ذلك داخلة تحت مفهوم السياسة الشرعية لمصلحة الدعوة الإسلامية (2).
والظاهر لي من الأدلة عدم جواز الاستعانة بالمشركين إلا عند توفر الشرطين المتقدمين وذلك لسببين:
السبب الأول: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الاستعانة بالكفار لا تسلم من مقال أو توجيه يجعل العمل بها غير ملزم. فمقاتلة قزمان مع المسلمين لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن له بذلك في ابتداء الأمر، وغاية ما فيه، أنه يجوز للإمام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين (3).
وأما استعانته - صلى الله عليه وسلم - ببشر بن أبي سفيان عينا له على قريش وهو مشرك فإنما استعان به بما دون القتال، وهذه المسألة أقرب في الجواز من مسألة القتال والحرب (4).
وأما ما روي عن الزهري مرسلاً، فإن مراسيل الزهري ضعيفة والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف (5).
وأما استعانته - صلى الله عليه وسلم - بابن أبي من المنافقين فليس من قبيل الاستعانة
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج4 ص221.
(2) انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص190.
(3) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص45.
(4) فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص252.
(5) انظر نيل الأوطار للشوكاني ص45.(2/818)
بالكفار لأنه مظهر للإسلام، والمنافق يحكم عليه بحسب ظاهره والله عز وجل يتولى سره (1).
السبب الثاني: إن توجيه أدلة الجواز وأدلة المنع ممكن باتباع الأوجه التالية:-
الوجه الأول: ما قال الشافعي (رضي الله عنه) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرس الرغبة في الذين ردهم، فردهم رجاء أن يسلموا فصدّق الله ظنه فيهم، وفيه نظر لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - «فارجع فلن نستعين بمشرك» نكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم (2).
الوجه الثاني: قول الجماعة إن الاستعانة كانت ممنوعة، ثم رخص فيها قال: ذلك الحافظ في التلخيص، وعليه نص الإمام الشافعي (3).
الوجه الثالث: ما ذكر في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا عندما يستقيمون على أوامر الولي المسلم ونواهيه، واستدلوا بأن استعانته - صلى الله عليه وسلم - بمن سبق ذكرهم إنما كانت بهذا الوصف، بمعنى أن يكون الكفار مأمورين منهيين، لا آمرين ناهين (4).
أما استعانته - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين فقد انعقد الإجماع على جواز الاستعانة بهم على الكفار، فقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن أبي وأصحابه، وكذلك الاستعانة بالفساق على الكفار (5).
ومن هذا الباب الاستعانة بالفساق على البغاة حيث يرى الإمام الشوكاني جواز ذلك (6).
__________
(1) انظر المصدر السابق نفس المكان.
(2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43 - 44.
(3) المصدر السابق المكان نفسه.
(4) المصدر السابق المكان نفسه.
(5) المصدر السابق المكان نفسه.
(6) المصدر السابق المكان نفسه.(2/819)
الوجه الرابع: اشتراط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية، أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا إذا كان مع الإمام جماعة يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية، على الذين استعان بهم ليكون المستعان بهم مغلوبين لا غالبين، كما كان وضع المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبناء على ما تقدم فقد اشترط القائلون بجواز الاستعانة بالكفار شروطًا تجعل الاستعانة بالكفار عند الضرورة القصوى، وفي مجالات لا تؤثر في عقيدة الإسلام وحياة المسلمين وهذه الشروط كما يلي:-
1 - أن لا يوجد من المسلمين من يقوم مقام الكافر أو الكفار الذين يراد الاستعانة بهم.
2 - أن يستعان بهم فيما دون القتال مع المسلمين كما هو رأي الجمهور (1).
3 - أن يكون المستعان بهم من الكفار فيه نصح ونفع للمسلمين.
4 - أن لا يستقل الكافر برأي أو مشورة، عن رأي أهل الحل والعقد من المسلمين، بل يكون تابعًا مأمورًا، لا آمرًا متبوعًا.
5 - أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها التعاون مع من استعان بهم المسلمون من الكفار لضرب الإسلام وأهله.
6 - أن يكون الكافر أو الكفار المستعان بهم مستخدمين أجراء لا أنصارًا مكرمين.
7 - إن جاز على بعض الأقوال الاستعانة بالمشرك في حرب غيره من المشركين فلا يجوز بحال من الأحوال الاستعانة بالمشركين في حرب البغاة من أهل الإسلام (2).
__________
(1) انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص190.
(2) انظر الدرر السنية ج7 ص376.(2/820)
ولكن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يجد عكس ذلك تمامًا حيث إن الكفار يقدمون على المسلمين في ديار الإسلام فهم المستشارون العسكريون والخبراء المنفذون، ولهم من الامتيازات العظيمة والتسهيلات الواسعة ما جعلهم يحصلون على تقدير مادي ومعنوي، لا يحصل عليه المسلم الذي يساويهم أو يتفوق عليهم علمًا وعملاً، فبلاد المسلمين تكتظ بملايين النصارى واليهود وأهل الأوثان الذين يحملون جنسيات مختلفة وهم في حقيقة أمرهم جواسيس للأعداء وقد كشفت الحروب الثلاثة مع اليهود جوانب من ذلك (1).
بينما كثير من أهل الخبرة والمعرفة من المسلمين مهاجرون إلى دول الغرب والشرق بسبب سوء المعاملة التي يتلقونها في داخل البلاد الإسلامية فواقع المسلمين عكس ما يجب أن يكون تمامًا، حيث إنهم أذلاء في معاملة الكافرين أشداء في معاملة المؤمنين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) انظر كتاب كيف تحطمت الطائرات عند الفجر، وكتاب سقوط الجولان، تأليف/ خليل مصطفى/ ضابط استخبارات الجولان قبل حرب 1387هـ-1967م.(2/821)
الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار
يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيًا عند الهجرة إلى الحبشة ثم أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كما حصل من المهاجرين إلى الحبشة عندما بلغهم، إن أهل مكة أسلموا، فاستخف ذلك الخبر منهم ثلاثة وثلاثين رجلاً فأقبلوا راجعين حتى إذا دنوا من مكة بان لهم فساد ذلك الخبر، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيًا، وكان منهم عثمان (1) بن مظعون (رضي الله عنه) فقد دخل بجوار الوليد بن المغيرة فأنفذ جواره.
ودخل أبو سلمة بن عبد (2) الأسد في جوار أبي طالب لكونه ابن أخته بنت عبد المطلب، فتعرضت له قبيلة بني مخزوم وأبت أن تنفذ له جواره
__________
(1) انظر ترجمته في أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 ص385 - 387.
(2) انظر ترجمته في المصدر السابق ج5 ص218.(2/822)
وقالت لأبي طالب قد أمنعت منا ابن أخيك محمدًا فما لك ولصاحبنا؟ فقال: إنه استجارني وإن أنا لم أمنع ابن أختي، لم أمنع ابن أخي: فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بني قومه والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد فتركوه مراعاة لأبي لهب (1).
وقد دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حماية أبي طالب حتى توفي أبو طالب وهو قائم بذلك، ودخل الرسول في حماية وجوار المطعم بن عدي بعد رجوعه من الطائف إلى مكة.
وهذا مشروط - بحكم البداهة - بأن لا يترتب على هذه الحماية أضرار بالدعوة الإسلامية، أو تنازل جزئي أو كلي عنها، أو تغيير لبعض أحكام الدين، أو سكوت على بعض المحرمات، فإن الرضا بمثل هذه الأمور من صميم الموالاة للكفار، فلا يجوز الدخول في مثل هذه الحماية التي يكون ثمنها التضحية ببعض أحكام الإسلام، والدليل على ذلك ما كان من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه عمه أبو طالب أن يبقى على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق، فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك للخروج من حمايته، وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه (2).
وكفار اليوم أشد خبثًا ومكرًا من كفار الأمس، فلو طلب المسلمون الحماية والمساعدة من بعض الكفار ضد البعض الآخر، وأعطوهم على ذلك المنافع المتعددة والتسهيلات الكثيرة فهم لن يقفوا مع المسلمين موقف النجدة والمساعدة والحماية والرعاية أبدًا، وقد جربت البلاد الإسلامية
__________
(1) انظر: تحذير من ينتمي إلى الإسلام من الاحتماء بأعداء الملك العلام مخطوطة من ثلاث ورقات جمع علي بن أحمد السقاف سنة (1299هـ) بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1150).
(2) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي ص102.(2/823)
الدخول في معاهدات الحماية مع أوروبا وأمريكا، فكانت النتيجة لهذه الحماية الاستعمار وخراب الديار ونهب الثمار، وتجزئة البلاد الإسلامية. ودخلت مصر في حماية مع روسيا فكانت النتيجة تجسس اليهود الروس على مصر وتثبيطهم حتى تمكن اليهود من إحداث الهزيمة النكراء على مصر عام 1387هـ - 1967م وصدق الله العظيم حيث يقول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
والغرض من الدخول في حماية الدول الكبرى في عصرنا الحاضر، لا يراد به نصرة الإسلام والمسلمين، وإنما يراد به حماية المرتدين والمنافقين في داخل البلاد الإسلامية، من ضربات المسلمين المخلصين، والإبقاء على العملاء الذين يمنحون كامل ودهم وولائهم لأعداء الإسلام.
فالدول التي تخضع لحماية الغرب أو الشرق في العالم الإسلامي اليوم، إنما تفعل ذلك لحماية ما تمثله من ظلم وطغيان واستبداد فهي تدرك أنه ليس لها في المجتمعات التي تحكمها أي ولاء صادق سوى من فئة قليلة من النفعيين والمنافقين، ولذلك تلجأ هذه الدول إلى حماية الدول الكبرى كي تضمن بقاءها ولتحمي مواضع أقدامها من السقوط والانهيار.
وأخوف ما تخافه الدول الكبرى وعملاؤها في الدول الصغرى هو الإسلام، ولذلك نرى أن أي تحرك إسلامي يتم رصده ومتابعته من أول وهلة، ويسعى العملاء مع أسيادهم لإجهاضه والقضاء عليه قبل أن يشتد عوده ويقوى على مقاومة الطغيان.
فما أن يحدث أي حدث في بلد - ما - إلا وَيُجْعَل المسلمون هم الضحية لذلك الحدث، ويسارع الكفار جميعًا من الداخل والخارج لتمزيق المسلمين والقضاء عليهم بكل ما أوتوا من قوة.
فهل ندرك حقيقة أعدائنا، ونتيقن أن الكفر ملة واحدة وأن الكفار بعضهم أولياء بعض، وأن المستجير بالكفار الكبار على الكفار الصغار(2/824)
كالمستجير من الرمضاء بالنار؟
أم لا نزال نعلق الآمال الكاذبة في حماية الدول الشرقية أو الغربية للبلاد الإسلامية، وهي التي قد رأينا ما رأينا من تآمر وعدوان على الإسلام والمسلمين؟
ووالله لو صدق المسلمون مع الله وأخلصوا دينهم لله، وصدقوا مع أنفسهم ومع إخوانهم لما احتاجوا إلى الدخول في حماية رجل كافر فضلاً عن دول كافرة، ولما شعروا بالخوف والهلع الذي يزلزل الأرض من تحت أقدامهم قال تعالى: (فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2).
__________
(1) سورة الأنعام آية (48).
(2) سورة الأحقاف آية (13).(2/825)
الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار
إن السلاح سلعة من السلع التجارية التي يجوز للمسلم أن يشتريها من المسلم أو الكافر، ولكن شراء السلاح من الكافر خاصة يجب أن لا يترتب عليه موالاة لأعداء الله أو مودة أو مناصرة لهم، فقد ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وأسلحة، فأرسل إليه - وصفوان يومئذ مشرك - وطلب منه تلك الدروع والأسلحة. فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟! ... قال: بل عارية: وهي مضمونة حتى نؤديها إليك. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح (1).
ومما تقدم يتضح لي أن الاستعانة ببعض ممتلكات الكفار كالسلاح وأنواع المعدات والصناعات المختلفة، أمر جائز ولا خلاف بين العلماء في ذلك (2).
__________
(1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي ص298.
(2) انظر زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص190 - 192.(2/826)
بشرط أن لا يجر ذلك إلى موالاة الكفار أو مودتهم، فنأخذ منهم السلاح بلا مودة أو محبة لهم، مثل ما أنهم يأخذون منا البترول وبقية السلع بأسعار رمزية ومع ذلك يعادوننا ويوالون أعداءنا فضلاً عن أن يقفوا منا موقف المسالم.
فلماذا نركع تحت أقدامهم؟ ونفتح لهم قلوبنا وبلادنا ليفسدوا فيها مقابل قطع من السلاح البالي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع إلا ضد الضعفاء من المسلمين، في الوقت الذي هم يأخذون منا أكثر مما يعطونا ومع ذلك يضمرون لنا الحقد والكراهية والمكر والاستغلال، فإذا كنا لا نستطيع أن نستغني عن أسلحتهم وصناعاتهم في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن نستغني عن محبتهم ومودتهم في حال كفرهم بالله، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أسوتنا وقدوتنا في الحياة أخذ من صفوان بن أمية السلاح وهو في مركز القوة والاستعلاء ولم يتعامل معه بصورة المستجدي الضعيف، وهكذا يجب أن نتعامل مع الأعداء.
ولكن الحاصل في وقتنا الحاضر أن كثيرًا من الدول المنتسبة إلى الإسلام، إذا عقدت صفقة من الأسلحة مع إحدى الدول الكافرة، بادرت إلى إرسال مئات الشباب بحجة التدريب على هذه الأسلحة، فيعود أولئك المتدربون آلات تدير آلات، قد حطمت عقيدتهم ومسخت أخلاقهم وزرع في قلوبهم حب الكفر وبغض الإسلام، فيعودون أعداء لأمتهم وقوتهم ودينهم، فماذا استفادت الأمة من ذلك، اشترت السلاح من الأعداء ودفعت بالأيدي التي سوف تدير السلاح إلى العدو كي يصنعهم على عينه وهواه، فأصبحت الجيوش في معظم البلاد الإسلامية بمثابة قواعد عسكرية للأعداء، ولذا فإنه من الملاحظ على عامة الجيوش في البلاد الإسلامية أنها تقف دومًا في حماية الطغاة والمستبدين، وتزداد جرأة وشجاعة عندما يكون خصومها من المسلمين العزل، فصارت حالة المسلمين مع جيوشهم كحال القائل:(2/827)
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وقد يسأل سائل ما هو البديل عن ذلك؟
والجواب كما يأتي في قضية الابتعاث (1) هو الاهتمام بنوعية الأفراد ونوعية التكوين الثقافي للأفراد بحيث يتم تحصين الأفراد علميًا وخلقيًا وفكريًا ضد مخططات الأعداء ومقاصدهم الخبيثة.
كما أنه يمكن استقدام الخبراء اللازمين للتدريب على الأسلحة لفترة محدودة وتحت إشراف دقيق يتم فيه توجيه الخبراء والمتدربين لتحقيق الهدف المنشود من شراء الأسلحة والتدريب عليها، وبذلك نضمن في أقل الأحوال سلامة الأفراد من أن ينفرد بهم الكفار، فيسيطروا على عقلياتهم وأخلاقهم سيطرة تامة كما هو حاصل في وقتنا الحاضر من معظم البلاد الإسلامية.
وإذا كانت بعض دول الكفر تحتكر أنواعًا من الأسلحة فلا تبيعها إلا بثمنين:
الثمن الأول: هو الموالاة لها على كفرها بالقول والفعل.
الثمن الثاني: هو نهب خيرات البلاد والعباد مقابل عدد من قطع السلاح التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فإن واجب المسلمين أن يرفضوا التعامل بمثل تلك الصورة التي تنطوي على استذلال الكفار للمسلمين، وأن يتعامل المسلمون مع الكفار من مركز القوة والعزة والأنفة والإباء قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (2) فلا يجوز موالاة الكفار مقابل السلاح أو غيره. فلا يوالي الكفار من أجل سلاحهم أو الدخول في حمايتهم، أو قتالهم معه، إلا منافق ظاهر النفاق قال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا
__________
(1) انظر ص787 - 813 من هذه الرسالة.
(2) سورة المنافقين آية (8).(2/828)
دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (1).
__________
(1) سورة المائدة آية (52).(2/829)
المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية
1 - الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر.
2 - الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل تكريمًا للكافر.
3 - الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحماية مجرميهم.(2/831)
الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر
إن موالاة ومناصرة المسلم لأخيه المسلم واجب شرعي، بشرط أن لا يترتب على ذلك معصية أو تعطيل حكم شرعي من أحكام الله، ولما كان قتل المسلم بالكافر يوحي بموالاة الكافر ومناصرته ضد المسلم، فقد وضحت السنة النبوية هذا الجانب، وتحدث الفقهاء عنه بما لا يتطلب زيادة لمستزيد.
فقد أجمع الفقهاء على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي (1). أما إذا كان ذميًا أو مستأمنا فقال جمهور الفقهاء بعدم القتل أيضًا (2). وقد استدلوا بحديث «وأن لا يقتل مسلم بكافر» (3) وحديث «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة
__________
(1) انظر فتح الباري ج12 ص261 (كتاب الديات).
(2) بداية المجتهد/ محمد بن أحمد القرطبي ج2 ص399.
(3) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص261.(2/833)
والناس أجمعين» (1) وروي أيضًا عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل مؤمن بكافر» (2).
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يقتل مسلم بكافر سواء كان الكافر ذميًا أو معاهدًا، أما المحارب فلا خلاف فيه حيث إنه ليس له أي شبهة تجعل قتله ممنوعًا أو مؤاخذًا عليه، واستدل الجمهور على قولهم بأنه لا يجوز قتل المسلم بالكافر بالأدلة التالية:
1 - إن من شروط القصاص المساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر فالإسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان، قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (3).
2 - إن في إباحة دم الذمي والمستأمن شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم وعقد الذمة والعهد شيء عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذميًا أو معاهدًا، فإن حصل القتل لم يتجه القول إلى القود، لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يلزم القول بالقود.
ولأن عصمة الدم وإيجاب القود على القاتل مشروط بالإسلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (4) فذكر أن عصمة الدم هو الإسلام، وعليه فالكافر غير معصوم الدم فلا يقتص بالمسلم منه.
وخالف في ذلك الأحناف فقالوا يقتل المسلم قصاصًا بالذمي دون
__________
(1) أخرجه أبو داود. انظر بداية المجتهد ج2 ص399.
(2) أخرجه أبو داود. المصدر السابق نفس المكان.
(3) سورة الحشر آية (20).
(4) رواه مسلم انظر صحيح مسلم ج1 ص52، 53.(2/834)
المستأمن (1) وقد استدلوا بأدلة منها عموم آيات القصاص مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (2). وقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (3). وقوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (4) من غير فصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم.
ومن أدلتهم ما روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلمًا بذمي وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» (5) وقد ضعف البيهقي هذه الرواية (6).
وقال الجمهور: إن هذا الحديث لو ثبت لكان منسوخًا، نظرًا إلى أنه كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية، وحديث «لا يقتل مؤمن بكافر» كان يوم الفتح (7).
وقال الأحناف أيضًا: إن حديث «وأن لا يقتل مسلم بكافر» يراد به غير المعاهد حيث إنه لفظ عام قد ورد ما يخصص المعاهد منه، وقد رجح هذا القول عبد القادر عودة (8)، واستدل الأحناف أيضًا أن المسلم تقطع يده إذا سرق مال الذمي، فوجب قتله إذا قتل، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله (9).
وقد أجاب الجمهور بأن ذلك قياس حسن لولا النص على عدم قتل
__________
(1) انظر فتح الباري ج12 ص261.
(2) سورة البقرة آية (178).
(3) سورة المائدة آية (45).
(4) سورة الإسراء آية (33).
(5) انظر أحكام القرآن للجصاص ج1 ص141.
(6) انظر السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص30 - 34.
(7) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج1 ص339.
(8) انظر أحكام القرآن للجصاص ج1 ص144.
(9) انظر فتح الباري ج12 ص262.(2/835)
المسلم بالكافر، وقالوا إن السرقة حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد ولو عفا المسروق منه، بخلاف القتل، والقصاص في القتل يشعر بالمساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر بخلاف القطع في السرقة فلا يشترط له المساواة.
ولا نريد أن نسترسل في مناقشة أدلة الطرفين مما قد يخرج بنا عن مقصود الرسالة في تحديد العلاقة والمعاملة بين المسلم الجاني والكافر المجني عليه في دار الإسلام، وما يجب أن يعرفه ويتخذه كل مسلم كي يحدد موقفه من ذلك بما يتفق مع نظرة الإسلام في هذه القضية، وخلاصة القول في ذلك هو أن المسلم إذا قتل ذميًا أو معاهدًا، فينظر الحاكم المسلم والقاضي المسلم إلى الدوافع والأسباب التي دفعت إلى القتل هل هي في صالح الإسلام والمسلمين أم لمصالح شخصية ومنافع مادية، ثم ينظر كذلك إلى الذمي والمستأمن هل كانا قائمين بما يجب عليهما محافظين على العقد والعهد أم لا؟
فالذي يجب على المسلم القاتل للذمي أو المستأمن ليس حد قصاص وإنما هي عقوبة تعزيرية، تخضع للسياسة الشرعية (1).
فللحاكم المسلم العدل أن يعزر القاتل تعزيرًا بما دون القتل، وأن يعامله بما هو أخف من ذلك مثل معاملة الكفار للكافر إذا قتل مسلمًا، فغالب أحوالهم لا يوجبون القصاص على الكافر إذا قتل المسلم، فمن باب المعاملة بالمثل يترجح عدم جواز قتل المسلم بالكافر، عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (2).
وإن كان الإسلام لا يبيح مجاراة الكفار في ظلمهم وغطرستهم بصفة عامة.
__________
(1) انظر السياسة الشرعية لابن تيمية ص146.
(2) سورة النحل آية (126).(2/836)
ومما تقدم يتضح أن قتل المسلم بالكافر ليس حدًا لا تصح الزيادة فيه أو النقص منه، ولذلك عارض جمهور العلماء مسألة القصاص في قتل المسلم بالكافر، للحديث الصحيح في ذلك «وألا يقتل مسلم بكافر» (1) والمرتد عن الإسلام كافر من جنس الكفار، فالذي ينتمي إلى الأحزاب الشيوعية، أو الأحزاب البعثية، أو الأحزاب الاشتراكية، أو المنظمات الماسونية، فإنه كافر ومرتد لخروجه من حزب الله إلى أحزاب الكفر والضلال، ولذلك لو قتل المسلم واحدًا ممن ينتمون إلى تلك الأحزاب الكافرة، فإنه لا يعاقب باعتباره قاتلاً عمدًا سواء قتل المرتد قبل الاستتابة أو بعدها، لأن كل جناية على المرتد هدرًا ما دام باقيًا على ردته (2).
ولكن للأسف الشديد ونظرًا لغياب الحكومة الإسلامية الحقة فإن المسلم اليوم لو قتل جاسوسًا من جواسيس اليهود والنصارى أو راهبًا من رهبانهم الذين ينشرون الفساد والإلحاد في بلاد الإسلام لأخذته السلطات الدخيلة على الإسلام والمسلمين، بالنواصي والأقدام، ولقتلته بهذا الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، وكذلك الشأن لو قتل المسلم شيوعيًا ينكر وجود الله ثم اقتيد إلى إحدى المحاكم التي يتربع على مقاعدها بعض القضاة الذين لا هم لهم إلا التكسب والأجر الزهيد، لحاولوا بشتى الوسائل وبالشاذ من الأقوال أن يحققوا رغبة الحاكم في قتل المسلم بالكافر المرتد عن الإسلام، وهذا ليس من قبيل الادعاء والتجني، بل هو الواقع، فعندما قتل أحد دعاة الشيوعية بالمغرب بأيدي مجهولة، عمدت السلطة إلى إلصاق التهمة بالمخلصين من المسلمين، وأجرت لهم، أو للبعض منهم محاكمات صورية كان من نتائج ذلك الحكم بالسجن المؤبد على بعضهم والبعض
__________
(1) رواه البخاري، انظر فتح الباري ج12 ص261 وصححه كذلك بعد تنقيح جميع طرقه، وتخريج الأحاديث المعارضة له في اللفظ والمعنى الشيخ ناصر الدين الألباني، حيث يرى وجوب العمل به وضعف ما ذهب إليه الحنفية من جواز قتل المسلم بالكافر بعد تضعيفه لجميع الروايات التي يحتجون بها. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص473 - 476.
(2) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج1 ص534 - 535.(2/837)
الآخر شبه مؤبد، والبعض أودع السجن من خمس سنوات وهو لم يحاكم حتى محاكمة مزيفة (1).
كل ذلك إكرامًا للشيوعية والشيوعيين أعداء الإسلام والمسلمين. إلا أنها ردة لا أبا بكر لها!!!
وحتى لا يتوهم أحد أن الإسلام يشجع على سفك دماء الغير بدون سبب مباح نقول: إن الإسلام عندما خفف العقوبة من القتل إلى ما هو دون ذلك، إنما نظر إلى شبهة الكفر المانعة من تكافؤ دم المسلم مع دم الكافر ولكن يجب على المسلم القاتل للذمي والمستأمن عقوبة تعزيرية في الدنيا إذا كان الذمي والمستأمن ملتزمين بما يجب عليهما نحو الإسلام والمسلمين فقد وعد الله عز وجل من اعتدى على قتل معاهد سواء كان ذميًا أو مستأمنًا بحرمانه من الجنة، إذا لم يتب عن ذنبه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (2).
وهذا من حماية الإسلام للمعاهد الملتزم بالعهد سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا، إذا كان في دار الإسلام، وقد روي أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا من قتل نفسًا معاهدة لها ذمة الله ورسوله، فقد خفر ذمة الله، ولا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفًا» (3).
وهذان الحديثان يستدل بهما من يرى عدم جواز القصاص من المسلم
__________
(1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (34) السنة التاسعة في 30/ 3/1399هـ. ص17 وعدد (485) السنة الحادية عشرة في 3/ 8/1400. ص604، وعدد (481) السنة الحادية عشرة في 5/ 7/1400هـ ص13، ص16 - 18.
(2) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص259.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. انظر سنن الترمذي ج2، ص429، (باب الديات) رقم الحديث (1424).(2/838)
بالكافر، للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي (1). وقد رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في مختصر الفتاوى المصرية (2).
والذي يظهر لي أن الأولى عدم جواز قتل المسلم بالكافر أيا كان نوع الكافر للحديث الصحيح الوارد في ذلك ولعدم تكافؤ المسلم مع الكافر بسبب الكفر، وإن كان هذا الموضوع بجملته من العقوبات التعزيرية التي هي متروكة للحاكم والقاضي إذا كانا عدلين مسلمين فلهما النظر في ذلك من منظار السياسة الشرعية، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين ولكن أين من ينظر إلى مثل هذه الموضوعات من الحكام والقضاة بمنظار الإسلام؟
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) انظر فتح الباري ج12 ص260.
(2) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص465.(2/839)
الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعًا عن الكافر
ذكرنا فيما سبق حكم القصاص من المسلم إذا قتل كافرًا وبينا الحكم والراجح في ذلك، وفي هذا الفرع نتناول مسألة اعتداء المسلم على الكافر بما دون القتل، من لطم أو شجاج أو تجريح بالكلام أو نحو ذلك، وهل يجب على المسلم القصاص أو التعزير كما لو اعتدى على مسلم مساو له سواء بسواء؟ أم أن التعدي على الكافر ينظر إليه باعتبار آخر لما فيه من صفة الكفر؟
والجواب على ذلك أن اعتداء المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن من أجل مصلحة دنيوية أو حقوق مادية موجب للقصاص والتعزير على العقوبات التي تدخل في هذا الباب. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة حيث يرى أن المسلم والكافر يكافئ بعضهم البعض الآخر ما دام الكافر معصوم الدم بعهد أو أمان.
إلا أنه يرى القصاص مطلقًا، أما الشافعي وأحمد فيرون القصاص فيما دون النفس فقط. وخالف في ذلك الإمام مالك حيث يرى أنه لا(2/840)
قصاص بين المسلم والكافر حتى فيما دون القتل فلو قطع مسلم يد كافر فلا يقتص من المسلم لانعدام التكافؤ، لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين ولا مساواة بين المسلم والكافر (1).
أما إذا اعتدى المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن بسبب تطاولهما على الله ورسوله ودين الإسلام، فقام المسلم بتغيير ما صدر منهم من المنكر بالقول أو الفعل أو بهما معًا، وأدبهم على ذلك بضرب ونحوه وهو غير متجاوز في العقوبة ما يجب عليهم أصلاً من عقوبة تجاه هذا المنكر فإن المسلم في هذه الحالة لا يعاقب على ما صدر منه بحق الذمي أو المستأمن، ما دام أن ما صدر منه إنما كان بدافع تغيير المنكر الذي رآه بيده، فإن من حق كل مسلم أن يغير المنكر الذي يراه بيده أو قوله أو بقلبه عند أضعف درجات الإيمان، كما ورد في صحيح مسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان» (2). سواء كان هذا المنكر صادرًا من مسلم أو معاهد أو ذمي، ما دام هذا المنكر غير مباح أصلاً في حق المعاهد أو الذمي كشرب الخمر أو أكل لحم الخنزير، فإنه ليس من حق المسلم أن ينكر على هؤلاء مثل ذلك الشيء الذي يرونه مباحًا في دينهم، ما لم يجاهروا بهذه المحرمات ويتحدوا بها مشاعر المسلمين.
أما ما عدا ذلك من المحرمات عند أهل الكتاب، فإن المسلم ينكر على المعاهد والذمي كما ينكر على المسلمين سواء بسواء، ولو اقتضى الأمر تأديبهم بالفعل أو القول - دون تعدٍ - فلا قصاص عليه ولا تعزير والدليل على ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قَد لُطِمَ وجهه فقال: يا محمد. إن رجلاً من أصحابك من الأنصار قد لطم وجهي. فقال: ادعوه، فدعوه، فقال:
__________
(1) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج2 ص215.
(2) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص69 (كتاب الإيمان) باب النهي عن المنكر.(2/841)
ألطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررت باليهود فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال فقلت: أعلى محمد - صلى الله عليه وسلم - قال فأخذتني غضبة فلطمته. قال: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزى بصعقة الطور (1). فلم يقتص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للذمي من المسلم وهذا دليل على أن المسلم لما كان الدافع إلى فعله هو الغيرة لله ولرسوله وكان الذمي متعد بموجب عقد الذمة الذي يلزم أهل الذمة بعدم قول أو فعل أي شيء فيه انتقاص لله ولرسوله ودين الإسلام، كان ذلك مسقطًا للجزاء على المسلم، وفي هذا الحديث دليل على أن الذمي أو المعاهد إذا أقدم على ما فيه انتقاص الإسلام والمسلمين جاز للمسلم المعروف بالعلم والعدالة تعزيره على ذلك، إذا كان الموقف لا يحتمل تأجيل ذلك ورفعه إلى الإمام، ولا عقوبة عليه في ذلك (2) ولكن ذلك لا يعني جواز ظلم المعاهد أو التعدي عليه بغير حق فقد ورد في الحديث «ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (3). وهذا يدلنا على حسن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين إلا عند إساءتهم للإسلام والمسلمين فحينئذ تسقط الحصانة عنهم، ويعاملون معاملة المحاربين للإسلام والمسلمين.
__________
(1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص263.
(2) انظر فتح الباري ج12 ص263 وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة ج1 ص505 - 511.
(3) أخرجه أبو داود والبيهقي - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م1 ص185 رقم الحديث (446).(2/842)
الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحمايتهم
إن من موالاة الكفار ومناصرتهم، ما تقوم به بعض الدول والأفراد من 3مساعدة جواسيس الكفار وحمايتهم، واستقدامهم بصورة مختلفة وطرق متباينة ليعبثوا بأرض المسلمين فسادًا، وليتخذوا بها أوكارًا ومرابض يفرخون من خلالها للأحزاب الكافرة والدعوات الهدامة، وينقلوا ما في المجتمع المنتسب إلى الإسلام من سلبيات وتناقضات لاستغلالها في حرب الإسلام وأهله بالطرق المختلفة.
وهؤلاء الذين يؤون جواسيس الكفار ويتسترون عليهم حكمهم حكم هؤلاء الكفار لأن المعين على الشيء له حكم المباشر له (1). ولقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (2) وقد اتفق العلماء على وجوب قتل الجاسوس المشرك (3)، وقد نقل ابن العربي القول بقتل الجاسوس المسلم
__________
(1) انظر الفتاوي لابن تيمية ج35 ص91.
(2) سورة المائدة آية (51).
(3) انظر فتح الباري ج6 ص169.(2/843)
الذي يتجسس على المسلمين لصالح الكفار، ورجح ذلك حيث قال: «وهو الصحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض» (1).
ومن هؤلاء الذين يتسترون على جواسيس الكفار الرئيس السوري - حافظ النصيري - فقد عفا وأطلق سراح ثلاثة وعشرين جاسوسًا لليهود في سوريا. بينما قتل في ساعة واحدة ألف نفس أو تزيد في سجن تدمر الصحراوي من خيرة المسلمين في سوريا.
إن حافظ النصيرية ليس محسوبًا أصلاً على الإسلام عند المسلمين الحقيقيين، ولكن هناك من يواليه وينصره بالقول والفعل ويتستر على جرائمه وهو يفعل باليهود هذا الفعل، ويفعل بالمسلمين ذاك الفعل، ومع ذلك يعتقد من يواليه وينصره أنه قائم على الصراط السوي، وسائر على الطريق المستقيم، رغم تلك الجرائم البشعة التي يندى لها الجبين.
وفي معظم البلاد الإسلامية تجد عملاء وجواسيس اليهود والنصارى والشيوعيين يسرحون ويمرحون بكل حرية وطلاقة في عرض البلاد الإسلامية وطولها، بعلم من السلطات الحاكمة أو بغير علم، وحتى لو اكتشف بعض الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، شبكة تجسس من هذا القبيل لاكتفت بالنفي لهؤلاء خارج بلادها، بينما لو وقع في يدها فرد أو جماعة تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لاعتبر ذلك خيانة عظمى يستحق أصحابها أن يعلقوا على أعواد المشانق ويودعوا في غياهب السجون عشرات السنين.
فيا ترى هل مثل هؤلاء يقيمون للموالاة في الله والمعاداة فيه أي وزن أو تقدير؟
رحمتك اللهم يا رب، ولا حول ولا قوة إلا بك.
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1770 - 1772.(2/844)
المبحث السادس: موالاة المسلم للكفار في بلادهم
سنتناول هذا المبحث في فرعين هما:
1 - الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم.
2 - الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم.(2/845)
الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم
يختلف حكم السفر والإقامة بدار الكفار تبعًا لاختلاف النية والمقصد الباعث على السفر والإقامة عند الكفار، فقد ورد في الحديث الصحيح «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1). والنية إنما تدل عليها الأعمال الظاهرة، فإن كانت الأعمال الظاهرة حسنة والنية حسنة فالعمل حسن، وإن كانت النية سيئة فالعمل سيئ ولو حسن العمل في الظاهر لأنه يدخل حينئذ في باب النفاق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «الإقامة في كل بلد تكون لأسباب فإذا كانت في موضع يكون فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون المسلم أعلم بذلك وأقدر عليه، وأنشط له، فهي أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك» (2). اهـ. ومن ذلك نستدل على أن الإقامة في بلد - ما - أمر نسبي
__________
(1) رواه البخاري ومسلم: انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص5.
(2) انظر مجموع الفتاوى/ ابن تيمية ج27 ص39.(2/847)
يتعلق بنية الشخص نفسه، والظروف المحيطة به، فقد تكون إقامة المسلم في أرض يسود بها الضلال ويستعلي بها الكفر، أفضل إذا كان مجاهدًا في سبيل الله، داعيًا إلى منهج الله بقوله وفعله من إقامته في أرض كل أهلها من الناس الصالحين الطيبين (1).
ولذلك يمكن تقسيم السفر والإقامة بين الكفار إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: مَنْ سفره مأمور به شرعًا وصاحبه مجاهد في سبيل الله حتى يرجع وذلك إذا كان الذهاب إلى الكفار بقصد الدعوة إلى الله، أو تعلم ما هو وسيلة إلى مرضاة الله وخذلان أعدائه. ودليل هذا النوع سفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف يعرض الإسلام عليهم، وكانت كلها دار كفر في ذلك الوقت، فلم يمنعه ذلك من السفر إليها والإقامة بينهم بعض الوقت. وكذلك بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسل إلى ملوك أهل الأرض ومن حولهم وهم كفار، فقد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر - وهو هرقل - ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وشجاع بن وهب بن أسد بن خزيمة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك عرب النصارى، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر (2).
فهؤلاء الأشخاص الذين يستحب لهم الذهاب إلى الكفار يشترط فيهم أن يكونوا عارفين لدينهم بأدلته الشرعية. متمسكين بعقيدتهم مأمونًا عليهم في ظاهر حالهم من الوقوع في الفتنة، قاصدين من سفرهم وسكناهم مع الكفار إظهار دين الله والدعوة إليه، ومعرفة ما يعينهم على ذلك.
القسم الثاني: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار ما يكون مباحًا.
__________
(1) انظر الابتعاث ومخاطره/ محمد بن لطفي الصباغ ص12.
(2) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج4 ص180.(2/848)
وهو من كان سفره لحاجة دنيوية كتجارة أو علاج وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، مظهر لدينه بعداوة الكفار والبراءة منهم، قادر على التأثير في الكفار دون التأثر بهم، وهذا ما حصل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام في تجارة، وهذا السفر دليل قاطع على جواز السفر إلى الكفار والتجارة معهم. فإن قيل، كان ذلك قبل النبوة، فالرد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتدنس قبل النبوة بحرام، ولا اعتذر عن ذلك حين بُعِثَ، ولا منع أحدًا من الصحابة في حياته ولا منع ذلك أحد من خلفائه بعد وفاته.
فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى، وفي حمل الرسائل إلى ملوك أهل الأرض، فقد أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى أهل مكة وهم أهل حرب للإسلام والمسلمين فدل ذلك على أن السفر لغرض مباح يكون مباحًا ولغرض مستحب يكون مستحبًا (1).
وقد كان للتجار المسلمين تأثير عظيم على كثير من البلدان التي ارتحلوا إليها، فحملوا معهم بضاعة الدعوة إلى الله بجانب البضائع الدنيوية فكانوا بذلك فاتحين لبلاد لم تطأها أقدام الجيوش الإسلامية، وإنما انتشر الإسلام فيها بفضل الله ثم بفضل أولئك الذين حملوا الإسلام بأقوالهم وأفعالهم فكانوا قدوة حسنة ومثلاً أعلى يقتدي بهم، ومن هذه البلاد أندونسيا وماليزيا ومعظم الدول الواقعة في شرق وجنوب آسيا ووسط أفريقيا وشرقها مثل تشاد ونيجيريا ويوغندا والسودان والصومال وما حولها.
القسم الثالث: ما يكون سفره وإقامته في بلاد الكفار حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من كان سفره لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، ولكنه غير قادر على إظهار دينه وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة، من فعل للواجبات وترك للمحرمات، وإظهار البغض والعداوة للكفار والبراءة منهم، فهذا لا يكون سفره وإقامته بين الكفار كفر ولكن
__________
(1) انظر سير القرطبي ج6 ص13.(2/849)
السفر والإقامة بين الكفار في هذه الحالة معصية تختلف درجتها باختلاف القدر المسموح به من إظهار الدين أو عدمه، ولذلك يجب على المسلم أن يحتاط لنفسه في هذه الناحية فلا يجوز السفر أو الإقامة في بلد لا يسمح أهله بإظهار شعائر الإسلام، وذلك مثل البلاد الشيوعية وما شاكلها، ولكن للأسف الشديد إن بعض الدول المعاصرة مثل اليمن والصومال وسوريا وليبيا وغيرها من الدول ترسل أعدادًا من أبناء المسلمين إلى الدول الشيوعية مثل روسيا وكوبا وتشيكوسلفاكيا والمجر وبلغاريا وغيرها من الدول الشيوعية، مع العلم أن هذه الدول لا تسمح للمسلم بمزاولة أي شعيرة من شعائر الإسلام، فلا يرضى بذلك من المسئولين والطلاب إلا أناس ليسوا من الإسلام في شيء (1).
القسم الرابع: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار، ما يكون ردة وخروج عن الإسلام، وهذا الحكم ينطبق على كل من سافر إلى الكفار وأقام معهم مدة طويلة أو قصيرة، فرضي عن الكفار، وأظهر الموافقة على كفرهم، ومدح ما هم فيه من كفر، أو استحسن ذلك وأظهر لهم المودة والاحترام مع ما هم متلبسين به من كفر، فولاهم موالاة المحب لمحبوبه وركن إليهم، وأنس بقربه منهم، ولم يتميز عنهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال فهو منهم (2)، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (3).
وعلى ضوء ذلك يمكن القول: بأنه إذا استطاع المسلم إظهار الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة فيه على من صان دينه وباين الكفر وأهله وأظهر العداوة لأعداء الله (4). وعلى ذلك يمكن حمل مفهوم الآيات والأحاديث
__________
(1) انظر مجموعة التوحيد ص47، 303.
(2) انظر رسالة في الجهاد/ للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص31 - 32.
(3) سورة المائدة آية (51).
(4) انظر الدرر السنية ج9 ص213.(2/850)
الواردة في ذم مساكنة الكفار والإقامة معهم على من لم يقدر على إظهار دينه، أو رضي عنهم وتابعهم على دينهم وإن كان يدعي الإسلام، فمن الأدلة الواردة في ذم مخالطة المشركين على ذلك الوصف المتقدم ما يلي:-
أولاً- قول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (1). لأن الرضا بالكفر كفر، وعلى هذا استدل العلماء بأن الراضي بالذنب كفاعله، لأن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع بهم، والنصرة لهم، والسكن معهم بحيث يعده المشركون أو المرتدون عن الإسلام أنه واحد منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام (2).
ولا فرق في ذلك بين المدة القريبة أو المدة البعيدة، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيه، لا يجوز له المقام فيه ولو يومًا واحدًا إذا كان يقدر على الخروج منه (3). فحكم الإقامة كحكم السفر في ذلك، نظرًا لما يترتب عليهما من منافع أو مفاسد متشابه في حق الفرد والأمة على حد سواء (4).
وقد قال القرطبي في الآية المتقدمة في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (5): إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين يجالسون أحبار اليهود
__________
(1) سورة النساء آية (140).
(2) انظر مجموعة التوحيد ص48.
(3) المصدر السابق المكان نفسه.
(4) المصدر السابق المكان نفسه.
(5) سورة النساء آية (140).(2/851)
فيسخرون من القرآن وهم معهم، فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ولم يستطع تغييره.
وقال الكلبي (1) إن هذه الآية منسوخة (2). بقوله تعالى: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (3).
قال القشيري (4)، إن الآية الأخيرة ليست منسوخة بالأولى بل المعنى ما عليكم من حسابهم إذا قمتم بتذكيرهم وزجرهم أما إذا رضيتم فلا يجوز الجلوس معهم ويصبح حينئذ أمرًا محرمًا (5)، وقال قتادة: إن الآية التي تفيد عدم مسئولية المسلمين بعد النصح والبيان منسوخة (6). بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (7). ولكن الراجح أن هذه الآية الأخيرة متناولة لعموم المسلمين في حق عموم الكفار، أما الفرد المسلم في بلاد الكفار فمن غير المتصور أنه بعد نصحه للكفار أن يقاتلهم إذا لم
__________
(1) هو محمد السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي (أبو النضر) مفسر، إخباري، نسابة، راوية، ولد بالكوفة وشهد وقعة دير الجماجم مع ابن الأشعث وتوفي بالكوفة سنة (146هـ) من آثاره: تفسير القرآن الكريم.
انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج10 ص15.
(2) انظر تفسير القرطبي ج5 ص418.
(3) سورة الأنعام آية (69).
(4) يوجد بهذا الاسم:
1 - القشيري (أبو الفضل) بكر بن محمد. انظر معجم المؤلفين ج3 ص74.
2 - القشيري (أبو نصر) عبد الرحيم بن عبد الكريم. انظر معجم المؤلفين ج5 ص207.
3 - القشيري (أبو القاسم) عبد الكريم بن هوازن. انظر معجم المؤلفين ج6 ص6. وانظر الإعلام للزركلي ج5 ص198.
ولم يتضح لي صاحب هذا القول منهم.
(5) انظر تفسير القرطبي ج7 ص15.
(6) المصدر السابق نفس المكان.
(7) سورة التوبة آية (5).(2/852)
يستجيبوا له لأن القتال مسئولية جماعية في حق الأمة وليس واجبًا فرديًا على أفراد المسلمين المتواجدين داخل دار الكفار (1).
ثانيًا - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (2).
يقول سيد قطب (رحمه الله): يمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزًا تلك الحالة الخاصة في مكة إلى ما يماثلها في كل زمان ومكان يلحق هذا الحكم كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض، ثم تمسكه أمواله ومصالحه وقراباته وصداقاته وخوفه من متاعب التنقل والارتحال إلى دار الإسلام (متى وجدت) التي يحيا فيها حياة إسلامية في ظل شريعة الله (3).
ثالثًا - قول الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (4). يقول القرطبي: إن الآية دليل على عدم الدخول إلى أرض العدو ودخول الكنائس والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع وهم في تلك الحالة التي نهي عن مجالستهم فيها وقلما تجد الكفار في حالة من حالات الإعراض عن الخوض في آيات الله، وهذا الأمر يستدعي الانتباه عند مجالسة الكفار ورد باطلهم عليهم عند تعرضهم لأحكام الله وآياته أو مفارقتهم عند عدم القدرة على الإنكار عليهم (5).
__________
(1) انظر تفسير القرطبي ج5 ص417 - 418 وج7 ص14 - 15.
(2) سورة النساء آية (97).
(3) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م2 ص498 - 500.
(4) سورة الأنعام آية (68).
(5) انظر تفسير القرطبي ج7 ص12.(2/853)
رابعًا: عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة -أو قال- لا ذمة له» (1).
وروي عن سمرة بن جندب (رضي الله عنه) قال: أما بعد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» (2) وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا وخاصة من لم يستطع إظهار دين الله عندهم وإعلان البراءة منهم ومن كفرهم فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنين والمرتدين والنصارى والمجوس من أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد الذي قد يؤدي بهم إلى الخروج عن دائرة الإسلام، فهذا الوعيد الشديد يقتضي تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه وهو قادر على الهجرة إلى بلد يظهر فيه الإسلام، كما أن السفر إلى البلاد التي لا يُظهر فيها دينه لا يجوز له ذلك، لما يترتب على ذلك من ترك شعائر الإسلام، وإظهار الدين ليس كما يتصوره البعض من مجرد إقامة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعداوة القلب وبغضه للكفار سرًا، فإن ذلك لا يكفي في النجاة من عذاب الله، بل لا بد مع ذلك من إظهار المعتقد الصحيح ومخالفة كل طائفة من طوائف الكفر فيما اشتهر عنها والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون (3). وهذه ملة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وهي الدين القويم والصراط المستقيم، ومبناها الحب في الله والبغض في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، إذ هي أوثق عرى الإيمان ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كَثُرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك (4).
__________
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص542. وقد ذكر الرازي في كتاب الجرح والتعديل ج2 ص502. أن له صحبة وأنه روى عن مالك وقيس بن حازم والشعبي.
(2) رواه أبو داود في سننه ج3 ص93. وقال عنه الألباني: حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير ج6 ص279.
(3) انظر مجموعة التوحيد ص300.
(4) انظر كتاب الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض تأليف/ سليمان بن سحمان ص6 مخطوطة في جامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).(2/854)
يقول الشيخ سليمان بن سحمان معقبًا على ذلك بما يلي: «إن قولنا لا تجوز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين لمن لا يستطيع إظهار دينه، ولم يكن من الضعفاء المعذورين وهذا لا يعني كفر من فعل ذلك، وإنما هو آثم عاص، ولكن يلحق من أباح واستباح السفر والإقامة بدون قيد أو شرط فهذا كافر لإباحته ما حرم، الله، لا لمجرد السفر أو الإقامة عند الكفار» (1). اهـ.
أما من يرى إباحة ذلك لجهله وعدم علمه بأن في ذلك نصًا شرعيًا يمنع السفر والإقامة بدون إظهار الدين، أو يرى الإباحة بناء على تأويل أو شبهة عرضت له، ولم يتبين له وجه الحق، فهذا إن كان رده لأجل هذه الشبهة التي عرضت له، فإن عمله هذا قادح في إيمانه، لأنه لم يبذل الوسع في طلب الحق والتحقيق في الأمر، بل حسَّن الظن بمن يقلد وهو دون الأول الذي لا شبهة في كفره وتكفيره، ولكنه على كل حال آثم في عدم البحث عن الحق وسؤال أهل الذكر كما أمر الله عز وجل.
وقد يحتج بعض الناس على جواز مخالطة الكفار والسفر معهم وإليهم والإقامة بينهم بما يجري داخل الدولة الإسلامية في جواز وجود الذميين والمستأمنين بين المسلمين. فما هو الفرق بين إقامة الكفار في دار الإسلام أو إقامة بعض المسلمين بدار الكفار؟
والجواب على ذلك أن أهل الذمة والمستأمنين في دار الإسلام يعلم الخاص والعام أنهم يعيشون في ظل الدولة الإسلامية ويعاملون معاملة خاصة بحيث لا يكون لهم تأثير سلبي على الأمة الإسلامية، فأهل الإسلام متميزون عنهم بدينهم ولهم الغلبة والظهور والقهر على الأعداء فلا يقاس
__________
(1) المصدر السابق ص8.(2/855)
هذا على مخالطة الكفار في ديارهم حال ظهورهم وغلبتهم على أهل الإسلام أو كونهم هم أهل الغلبة والسلطان في بلادهم (1).
ولا شك أن مخالطة الكفار ومعاشرتهم بغير نية دعوة، وصلابة عقيدة وسيلة من الوسائل المحرمة، والوسائل تتخذ حكم غاياتها، فأكثر المسافرين والمخالطين والمعاشرين لأهل الكفر هم من الغوغاء والعوام من المسلمين وغالبًا أن هؤلاء لا يعرفون ما أوجب الله عليهم من معاداة المشركين، ولا ما حرم الله ورسوله من موالاتهم، وأن منها ما يخرج من الملة ومنها ما هو دون ذلك (2). وقد يستدل البعض الآخر على جواز مساكنة الكفار والإقامة معهم بهجرة المسلمين إلى الحبشة والإقامة بين الكفار، ونحن نقول إن الذهاب من حيث المبدأ إلى الكفار جائز بشرط إظهار الدين علانية ومعاداة المشركين لأن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا كذلك، فإن النجاشي أظهر الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) صدر سورة مريم أذعن وصدق، وأظهر المخالفة لقومه.
وأيضًا فإن قريشًا لما بعثوا عمرو بن العاص (رضي الله عنه) قبل إسلامه إلى النجاشي ليرد من هاجر إليه من المسلمين غضب النجاشي غضبًا شديدًا حتى خاف عمرو أن يوقع به ورد هدايا قريش إليها وقال مخاطبًا لجعفر وأصحابه «اذهبوا فأنتم سيوم (3) بأرضي من سبكم غرم» (4). فأظهروا دينهم ووحدوا ربهم ولم يمنعهم منه أي مانع، ولم يعارضهم معارض، ولم يحصل منهم موالاة أو ركون لمن كان هناك من النصارى
__________
(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان الدوسري ص33 مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).
(2) المصدر السابق ص42.
(3) سيم من سوم الماشية إذا أرسلها، وسوّم فلان فلانًا، خلاه وما يريد. المعجم الوسيط ج1 ص468.
(4) انظر الدرر السنية ج9 ص197 - 198.(2/856)
ولا وقع منهم شيء مما يُكره فعله في حق المسلم، وإنما صاروا دعاة إلى الله بأقوالهم وأفعالهم وسببًا في إسلام من أسلم من أهل الحبشة فأين أولئك الصفوة الكرام من الذين يسافرون ويقيمون بدار الكفار في وقتنا الحاضر إننا نجد أن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام اليوم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفار ركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، وأظهروا الموافقة والإعجاب والتقدير لأهل الكفر ومناهج الكفار، وعادوا إلى المسلمين دعاة إلى الكفر إلا من عصم الله منهم، فنجدهم ينادون بموادة أهل الشرك ومحبتهم بأقوالهم وأفعالهم، ويستغلون وظائفهم في الإعلام والتعليم وغير ذلك من المجالات لخدمة أعداء الإسلام، ولم يكتفوا بذلك بل إن البعض منهم نصب نفسه لمعاداة الإسلام وأهله، وهذا خروج عن الإسلام أعاذنا الله من ذلك.
أما من يستدل على جواز مساكنة الكفار بقصة مؤمن آل فرعون على اعتبار أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، فإنه قد أظهر دينه وقام على فرعون وملائه مقامًا عظيمًا، فنصحهم ودعاهم، فقد قال الله عنه: (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (1). فأظهر لهم إيمانه ودعاهم إليه، وقال الله في حقه: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (2). فقد قام على آل فرعون مقام أنبيائهم فما داهن في دينه، ولا كتمه بل أظهر المخالفة لفرعون وقومه فما حصل منه إلا ما يحبه الله ويرضاه (3).
وقد تساءل الشيخ سليمان بن سحمان عن المقام بدار الكفر ثم رد على هذا التساؤل بأبيات هي كما يلي:-
__________
(1) سورة غافر آية (38).
(2) سورة غافر آية (45).
(3) انظر الدرر السنية ج9 ص197 وانظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض. سليمان بن سحمان ص75 - 76.(2/857)
ترى المرء يكفيه الصلاة وصومه ... وإظهاره في الصحب إني لمسلم
وأبغض أهل الكفر لكن أخافهم ... فلست أريهم ما يسيء ويؤلم
وليس بشرط أن أصرح عندهم ... بتكفيرهم جهرًا ولا أتكلم
وكيف وأموالي لديهم وعندهم ... معاشي وأوطاني فكيف التقدم
إذا لم أوافقهم وربي عالم ... بما ينطوي قلبي عليه ويكتم
من الحب للإسلام والدين والهدى ... وبغضي لأهل الكفر والله يعلم
فإن كان هذا الحب والبغض كافيًا ... ولو لم أصرح بالعداوة فيهموا
فما وجه هذا من كتاب وسنة ... أجيبوا على هذا السؤال وأفهموا (1)
وأجاب على ذلك بأبيات هي كما يلي:
والله حرم مكث من هو مسلم ... في كل أرض حلها الكفارُ
ولهم بها حكم الولاية قاهرًا ... فاربأ بنفسك في المقام شنارُ
وانظر حديثًا في البراءة قد أتى ... نقل الثقات رواته الأخيارُ
__________
(1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص221.(2/858)
فيه البراءة بالصراحة قد أتت ... من كل من يسكن مع الأشرار
قد صرحت فيمن أقام ببلدة ... مستوطنًا وولاتها الكفار
والمرء ليس بمظهر للدين بل ... للمكث في أوطانه يختارُ
إلا الذي هو عاجز مستضعف ... فالنص جاء بعذره لا العار (1)
ويقول في قصيدة أخرى:
وحبكم الدنيا وإيثار جمعها ... على الدين أضحى أمره قد تحكما
لذلك داهنتم وواليتموا الذي ... بأوصاف أهل الكفر قد صار مظلمًا
وجوزتمو من جهلكم المسافر ... إقامته بين الغواة تحكما
بغير دليل قاطع بل بجهلكم ... وتلبيس أفاك أراد التهكما
ويا مؤثر الدنيا على الدين إنما ... على قلبك الران الذي قد تحكما
وعاديت بل واليت فيها ولم تخف ... عواقب ما تجني وما كان أعظما
أغرتك دنياك الدنية راضيًا ... بزهرتها حتى أبحت المحرما (2)
__________
(1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص76 - 77.
(2) المصدر السابق ص198 - 200.(2/859)
فمن المعلوم أن عداوة المشركين واجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان وعداوة القلب وبغضه لا تكفي في إبراء الذمة عند مساكنة الكفار ومخالطتهم، بل لا بد من إظهار العداوة لهم، ولكفرهم بالقول والفعل كما قال تعالى: في شأن إبراهيم عليه السلام (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (1). فلا بد من إظهار العداوة والبغضاء للكفار، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، سواء كان المسلم بدار الإسلام أم بدار الكفر، إلا عند وجود الإكراه المجلئ الذي يحمل الإنسان على موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن، أو كان من المستضعفين المعذورين عند الله، وفيما عدا هذه الحال لا يجوز للمسلم المقام بين الكفار وهو غير مظهر للدين مع أنه حر طليق قادر على الانتقال عنهم ومفارقتهم، فالعذر في موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن خاص بالأسير المسلم ونحوه الذي أمره ليس بيده، وإنما أمره بيد الكفار، وهذا لا ينطبق على الذين يسافرون إلى بلاد الكفار ويقيمون بينهم برغبتهم، وهم قادرون على تركها في أي وقت شاءوا فهؤلاء لا عذر لهم في مداهنة الكفار وموافقتهم في الظاهر وإن خالفوهم في الباطن.
وقد يقول قائل أنا لا أتبرأ من المشركين ولا أعاديهم لأن هذه الآية وغيرها من الآيات ليست نصًا في الحكم على من لم يعاد المشركين.
والجواب: أن يقال: إن قولك هذا رد على الله وخروج من الدين، لأن الله عز وجل يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (2).
__________
(1) سورة الممتحنة آية (4).
(2) سورة المجادلة آية (22).(2/860)
فهذه الآية دلت على انتفاء الإيمان الواجب لمن قام بموادة من حاد الله عز وجل، كما دلت بمفهوم المخالفة على محبة المؤمنين المطيعين لله.
ومن يرى أن إظهار العداوة والتصريح بها للكفار خاص بالرسل إذ هي البلاغ الذي عليهم، ولا تجب على آحاد الناس فهذا القول من أبطل الباطل وأعظم المغالطات (1)، حيث إن الله تعالى قد بين أن الموالاة والمعاداة من سنة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، فلا يرغب عن سنة إبراهيم إلا من سفه نفسه قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (2). فعداوة القلب وبغضه وموالاته لا تكفي في النجاة من عذاب الله مع القدرة على إظهار العداوة والتصريح بها بين الكفار لمن يسافر باختياره ويقيم بينهم بمحض إرادته فأين التصريح بالعداوة والبغضاء ممن يسافر إلى بلاد الكفار في وقتنا الحاضر؟
إن الذي يحصل غالبًا من أحوال المسافرين والمقيمين عند الكفار هو الموافقة وإظهار الرضا وربما الإعجاب بكفرهم، حتى لقد رجع الكثير منهم دعاة إلى الماسونية والصليبية والشيوعية والإباحية البهيمية، والشخص المتمسك بالإسلام والذي يعتبر من العاضيَّن عليه بالنواجذ في بلاد الكفار هو الذي يسكت عن هؤلاء الكفار ويعتزلهم، ويجد ويجتهد في حماية نفسه من أن يذوب فيما لديهم من مستنقعات الفساد وأوحال الرذيلة، والإغراءات العفوية والمتعمدة التي يرسمها الأعداء للإيقاع بأبناء المسلمين.
وبناء على ذلك فإن إظهار الدين - الذي هو ترك المحرمات وتأدية الواجبات وإظهار العداوة للكفر والكفار - أمر يتعذر تحقيقه وحصوله في
__________
(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص49. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).
(2) سورة البقرة آية (130).(2/861)
معظم بلاد الكفار، فإن السفر والإقامة في تلك البلاد التي لا يظهر المسلم فيها دينه بالشروط المعتبرة عند العلماء عمل محرم، وغير جائز في الإسلام، كيف لا يكون ذلك! والهجرة مستحبة من بلاد الكفار إلى دار الإسلام وإن كان المسلم قادرًا على إظهار دينه، فكيف إن لم يقدر على إظهار الدين؟ ألا يكون سفره وإقامته على تلك الحال عمل محرم ودليل من أدلة موالاته للكفار إن لم يكن مكرهًا على ذلك إكراهًا ملجئًا (1).
يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن مذهبنا أن لا نكفر من سافر إلى بلاد الكفار أو جلس عندهم وهو مظهر للإسلام موالي لأهله مبغض للكفر معاد لأهله.
وإنما نكفر من أقام بدار الكفار، ووافقهم على كفرهم ورضي به. وأذل الدين لأجل غرض دنيوي.
أما من أقام في دار الكفار وهو قادر على الهجرة ولم يتمكن من إظهار دينه فمقامه بينهم محرم لا يرقى إلى درجة الكفر ما لم يحصل موافقة للكفار في الظاهر والباطن» (2) اهـ.
ومن الأسباب التي دعت العلماء إلى أن يهتموا بموضوع السفر والإقامة بين الكفار هو ما رأوه من آثار سيئة وانتكاسات كبرى لحال كثير من الذين وطنوا أنفسهم على المقام بين الكفار فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن السفر إلى بلاد المشركين من الوسائل التي تجر إلى مخالطتهم، وتمنع من إظهار الدين عندهم ويقع بسببها إظهار الموافقة لهم، والبشاشة واللين عند مقابلتهم، والرضا أو عدم
__________
(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص82. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).
(2) المصدر السابق ص87 - 90.(2/862)
المبالاة بأعمالهم، وهذا الأمر من أكبر الوسائل المفضية إلى مشاهدة المنكر والسكوت عنه، فالإثم لا يحصل بمجرد المخالطة وإكثار السفر والإقامة بينهم وإنما بالرضا والموافقة على كفرهم ويدخل فيه ما هو دون ذلك من الفجور وقول الزور والظلم والفسوق، وأنواع المعاصي فإن الرضا بأعمال الكفر كفر، والرضا بما دون الكفر كل بحسبه كذلك» (1). اهـ.
وقد قال ابن دقيق العيد: «إن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية» (2). اهـ.
وقد نهى الله عز وجل عن الوسائل المفضية إلى الكفر قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (3). فذكر تعالى أن علة النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات أنهم يدعون إلى النار في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وأن مخالطتهم مصدر من مصادر الخطر على المسلمين، وهذا الخطر ليس خطرًا دنيويًا فقط بل قد يكون شقاءً أبديًا، فيستفاد من تعليل النهي في الآية السابقة النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يصح التزوج من الكفار على قول من قال بالتحريم أو على قول من قال بكراهية ذلك (4)، مع أن الزواج فيه مصالح كثيرة، فالخلطة المجردة من أهداف الدعوة إلى الله أولى خصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك على المسلم حسًا ومعنى (5).
__________
(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص56، الورقة (28) مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (3413).
(2) المصدر السابق المكان نفسه.
(3) سورة البقرة آية (221).
(4) انظر صفحة 700 - 712 من هذه الرسالة.
(5) انظر تفسير ابن سعدي ج1 ص274 - 275.(2/863)
وينقل الشيخ سليمان بن سحمان عن ابن تيمية قوله: «أنه قال -أي شيخ الإسلام- في قوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (1). إن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية، لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره أو بالجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو بكلام هو ذنب وليس كفر» (2) اهـ.
وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (3). فقد ذكر بعض المفسرين أن الزور عيد المشركين، فيكون الحكم هو النهي عن حضور أعياد المشركين وما في حكمها من أفعال كفرهم (4). قال تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (5).
وبناء على ما تقدم فإن الإقامة الاختيارية المصحوبة بالرضا في المقام ببلد يعلو فيه الشرك والكفر، وتظهر منه مظاهر الردة والنكول عن الإسلام وترفع فيه شعارات الإلحاد والفساد لهو مقام لا يرتضيه الله من المسلم، ولا يرضاه المسلم الحقيقي لنفسه، حيث إن المسلم لا يمكن أن تطمئن نفسه في بلد تهدم فيه أركان التوحيد، وترفع فيه شعائر الكفر ويسوده الطغاة والفجرة، ويستذل فيه أهل الإيمان والإسلام.
إن الرضا بالمقام في مثل هذا الوضع لا يصدر إلا عن قلب رانت عليه الذنوب والمعاصي، وانطفأت فيه جذوة الإيمان، واستمرأ الملذات واستعبدته الشهوات حتى فقد الإحساس بالمسئولية نحو نفسه ونحو الإسلام
__________
(1) سورة التوبة آية (66).
(2) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413) ص57.
(3) سورة الفرقان آية (72).
(4) انظر تفسير القرطبي ج13 ص79 - 80.
(5) سورة الأنعام آية (68).(2/864)
والمسلمين وماتت في نفسه الغيرة على محارم الله وأحكام الإسلام. ويستثنى من ذلك المستضعفون الذين يقيمون مع الكفار بغير رغبة أو رضًا أو اختيار منهم، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1) فهؤلاء لا إثم ولا حرج عليهم، ولكن معظم المسلمين الذين يقيمون في بلدان الكفر اليوم لا ينطبق عليهم وصف الاستضعاف، حيث إن معظمهم يذهب إليها برغبة منه واختيار، ولمقاصد مادية وأهداف دنيوية بحتة، لا صلة لها بالعمل للإسلام والمسلمين، وهذا هو المحذور الشرعي في خلطة الكفار والمقام بينهم (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (2).
أما المسلم المستضعف الذي يقيم بين الكفار فعليه أن يعلم أن مقامه حالة استثنائية ويجب عليه أن لا يرضى بالمقام بينهم، وأن يعلم أن المقام معهم على هذه الحال ضرورة يجب أن تزول باتخاذ أسبابها العاجلة والآجلة.
قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (3). فبين تعالى مقالتهم الدالة على أنهم لم يقيموا مختارين للمقام، وذلك أنهم يدعون الله أن يخرجهم، فدل ذلك على حرصهم على الخروج، وأنه متعذر عليهم، ويدل على ذلك وصفهم أهل القرية بالظلم، وسؤالهم ربهم أن يجعل لهم وليًا يتولاهم ويتولونه، وأن يجعل لهم ناصرًا ينصرهم على أعدائهم الذين هم بين أظهرهم.
قال تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا
__________
(1) سورة البقرة آية (286).
(2) سورة التوبة آية (63).
(3) سورة النساء آية (75).(2/865)
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) (1). فذكر تعالى في هذه الآية حالتهم التي هم عليها وهي أنهم لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك (2).
والحاصل من ذلك أن المستضعفين هم العاجزون عن الخروج من بين أظهر المشركين وهم مع ذلك يطلبون من الله أن يهيء لهم الخروج ممن يقيمون معهم على الظلم.
فدل ذلك على أن المسلم إذا كان يقدر على الخروج من بلاد المشركين ولم يمنعه من ذلك إلا الرغبة في وطن المشركين وعشرتهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى لم يعذر من تعذر بذلك وسماه ظالمًا لنفسه فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (3). قال ابن كثير وغيره: إن هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية المتقدمة (4). اهـ.
قال السدي (5) لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «افد نفسك وبر أخويك»، قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألم نصل قبلتك ونشهد
__________
(1) سورة النساء آية (98).
(2) انظر مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427.
(3) سورة النساء آية (97).
(4) انظر تفسير مختصر ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427. وانظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج2 ص178.
(5) هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير القرشي (أبو محمد) مفسر، سكن الكوفة وتوفي سنة (127هـ) من آثاره تفسير القرآن الكريم. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله. ج2 ص276.(2/866)
شهادتك، قال «يا عباس إنكم خاصمتم فَخُصِمْتُم» ثم تلى قوله تعالى: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (1). رواه ابن أبي حاتم (2). اهـ.
ومن خلال تلك الآيات يتضح لنا أن المستضعف الحقيقي هو الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً للخروج من دار الكفار أما الذي يقيم مع الكفار برغبته واختياره إيثارًا لحب الأهل والمال والولد والمسكن غير ضائق بالمقام بين الكفار، وهو غير مظهر للدين، فهو كاذب في دعواه وعذره غير مقبول عند الله تعالى ولا عند رسوله، ولا عند أهل العلم بشريعة الله، ولذلك فإن الناس في موضوع الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: من تجب عليه الهجرة، وهو من يقدر عليها. ولا يمكنه إظهار دينه والقيام بواجبات الإسلام مع المقام بين الكفار.
فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (3). وهذا وعيد شديد يدل على وجوب الهجرة لمن قدر عليها وهو في مجتمع لا يسمح بظهور شعائر الإسلام، لأن إظهار شعائر الإسلام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (4).
الضرب الثاني: من لا هجرة عليه بسبب العجز عنها لمرض أو إكراه أو ضعف كالنساء أو الولدان ونحوهم، فمثل هؤلاء لا هجرة عليهم لقوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً
__________
(1) سورة النساء آية (97).
(2) انظر مجموعة التوحيد ص302.
(3) سورة النساء آية (97، 98).
(4) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص514 - 515.(2/867)
وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (1). ولا توصف باستحباب لكونها غير مقدور عليها.
الضرب الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها ولكنه يتمكن من إظهار دينه في دار الكفار، فتستحب له ليتمكن من جهاد الكفار وتكثير سواد المسلمين، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، فقد روي أن نعيم (2) النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، وأكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بأيتام بني عدي، وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قومك كانوا خيرًا لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك» فقال: يا رسول الله: «بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله» أو نحو هذا القول (3).
ومما تقدم يتبين لنا أن الناس في سفرهم وإقامتهم مع المشركين ينقسمون إلى قسمين:-
القسم الأول: من يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم:-
أولاً: من يقصد بسفره الدعوة إلى الله بقوله وفعله وهو متمكن من إظهار
__________
(1) سورة النساء آية (98، 99).
(2) هو نعيم بن عبد الله النحام بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أسلم قديمًا وكان من الأوائل في الإسلام. قيل أسلم بعد عشرة أنفس وقيل بعد ثمانية وثلاثين إنسانًا وكان يكتم إسلامه أول الأمر، ثم أظهره وأراد الهجرة فمنعه قومه لأنه كان ينفق على الأرامل من بني عدي، فقالوا له أقم عندنا على أي دين شئت، فوالله لا يتعرض إليك أحد إلا ذهبت أنفسنا جميعًا دونك، ثم قدم مهاجرًا بعد ست سنين من الهجرة واستشهد في اليرموك سنة خمس عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقيل استشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق (رضي الله عنه).
انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج5 ص33 - 34.
(3) انظر: المغني والشرح الكبير ج10 ص514.(2/868)
دينه مأمون عليه من الفتنة في ظاهر حاله مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين.
الثاني: من يكون سفره مباحًا شرعًا وهو من سافر لبيع وشراء أو علاج أو نحو ذلك وهو عارف بدينه مأمون عليه في ظاهر حاله من الفتنة مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين.
الثالث: المستضعفين من النساء والولدان ونحوهم الذين لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك.
القسم الثاني: الذي لا يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم:
أولاً: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار حرام أو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من يسافر لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه، مأمون عليه من الفتنة، ولكنه لا يستطيع إظهار دينه، وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة.
ثانيًا: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار ردة وكفر وذلك في حق من أظهر الموافقة للكفار على كفرهم، واستحسن ما هم فيه من كفر ومدحه، ولم يتميز عنهم بتحليل الحلال وتحريم الحرام (1)، فهو صورة طبق الأصل لهم وقد قال الله فيمن هذه صفته (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (2).
وبناءً على ذلك فإن الأصل في منهج الإسلام هو إبقاء المسلم في دار الإسلام، والانتقال إليها من دار الكفر، وأما عكس ذلك وهو الانتقال من دار الإسلام إلى دار الكفر، فهذا مشروط بشروط ومقيد بقيود يجب على المسلم الملتزم بالإسلام حقًا وصدقًا الوقوف عندها، وعدم تجاوزها، وقد
__________
(1) انظر الجهاد: تأليف/ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص 31 - 32.
(2) سورة المائدة آية (51).(2/869)
أشرنا فيما تقدم إلى ثلاثة أنواع من المسلمين يجوز لهم السفر والإقامة بين الكفار وفي دار الكفر، وذلك أن سفرهم ومقامهم بين الكفار إما لمصلحة الدعوة الإسلامية كالذين يدعون إلى الإسلام، أو الذين يزاولون أعمالاً مشروعة مع محافظتهم على الواجبات وترك المحرمات وإظهار الحق ومودته، وانتقاد الباطل وكراهيته، وإما لمصلحة النفس وهؤلاء هم المستضعفون من المسلمين، وتلك الحالات الثلاث لا تنطبق على معظم المبتعثين إلى الدول الكافرة ولا على المسافرين إليها.
وعلاج هذه الظاهرة في رأيي لا يكون بإغلاق الحدود بيننا وبين الكفار ولكن بتعميق مفهوم الإيمان في النفوس وغرس القناعة الذاتية في الأفراد فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقم حواجز حول المدينة ليبحث مقاصد المسافرين ويمنع الناس من السفر إلى بلاد الشام ومكة قبل الفتح وإنما كان يعلم أن لدى كل مسلم حصانة ذاتية من داخل النفس بسبب صدق الإيمان وقوة الإسلام.
أما اليوم وقد فُقِدَت هذه الحصانة الذاتية والمناعة الداخلية فإنه يجب على الدول التي تدعي الإسلام أن لا تسمح للمسلم بالخروج إلى دار الكفار إلا إذا أبرز المسلم شهادة تزكية معتبرة تدل على صلاحه واستقامته في ظاهر حاله وأنه مظنة التأثير دون التأثر، وأنه يتمتع بقسط كبير من التقوى والورع الذي يمنح النفس القدرة على مقاومة إغراءات الكفار ومفاسدهم كما يقاوم الجسم القوي السليم عدوى الأمراض الجسدية والوبائية.
واشتراط شهادة التزيكة والعدالة أمر لا اعتراض عليه حسب معرفتي وتقديري، لأنه إذا كانت الدول تشترط على المسافرين منها وإليها إحضار شهادة تطعيم دولية ضد الأمراض المعدية الحسية، فإن خطر الأمراض الاعتقادية والفكرية والسلوكية على الإنسان المسلم أشد من خطر الأمراض الجسدية لأن إصابة الإنسان في عقيدته وسلوكه قد تجعله من المخلدين في نار جهنم.(2/870)
ولذلك يجب دراسة أحوال المبتعثين والمسافرين إلى الدول الكافرة ومعرفة موقف تلك الدول من أبناء المسلمين الموجودين فيها ومدى تمكينها لهم من مزاولة واجبات الإسلام، وهل تسعى إلى إفسادهم بالطرق المختلفة أم لا؟
فإذا توفرت الأسباب الصالحة والمبيحة للمقام بين الكفار جاز ابتعاث الطلاب والسفر إلى الدول الكافرة، عند الحاجة إلى ذلك.
ولكن الحاصل في عصرنا الحاضر خلافًا لما يجب أن يكون، فأعداء الأمة الإسلامية هم الآمرون الناهون في معظم الأقطار الإسلامية، ولذلك تراهم قد جعلوا الابتعاث والسفر إلى بلاد الكفار بابًا من أبواب تكفير المسلمين وارتدادهم عن الإسلام وذلك أن الابتعاث يشتمل على سلبيات هي كما يلي:-
أولاً: إرسال شباب صغار السن من المرحلة الثانوية وما في مستواها وهم أجهل ما يكونون في عقيدتهم ودينهم، ولا يعرفون عيوب وسيئات الأنظمة والديانات في بلاد الكفار.
ثانيًا: إن معظم الشباب يبتعثون ويشترط عليهم أن يكونوا غير متزوجين، أو لا يشجعون على استصحاب أزواجهم معهم مما يترتب على ذلك فساد أخلاق كثير من المبتعثين وسقوطهم في حمأة الرذيلة، إلا من عصم الله.
ثالثًا: إغراق المبتعثين بالناحية المالية إما من أهله إن كان من أبناء التجار أو من ذوي السلطان، أو من الدولة حيث تدفع بعض الدول الإسلامية وخاصة النفطية مبالغ طائلة مما يكون لذلك مردود عكسي على معظم الطلاب في المجتمعات الكافرة أو شبه الكافرة.
رابعًا: إن الابتعاث يتم في كثير من الأحيان لأغراض تافهة ومقاصد هزيلة مثل أن يبتعث أناس لدراسة الموسيقى أو الرياضة أو ما إلى ذلك من(2/871)
قضايا سطحية لا تفيد الأمة في دينها ودنياها ولا تخدمها في قضاياها الأساسية والمصيرية.
خامسًا: إن الدول التي تبعث بأبنائها إلى بلاد الكفار، لا توفر لهم الحماية اللازمة، في إظهار دينهم، وحرية عبادتهم في بلاد الكفار ولا تدعمهم بمالها وجاهها في ذلك، رغم أنها لوجدت في هذا الموضوع لاستطاعت تحقيق شيء مرضى في ذلك، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
سادسًا: إن التجربة أثبتت فشل معظم المبتعثين في عقيدتهم وسلوكهم وفي العلوم التي ابتعثوا لتحصيلها، نظرًا إلى أنهم يُرْمَون في بلاد الكفار بلا حسيب أو رقيب، سوى العيون التي تطارد كل من ينال من مقام الحاكم وقدسيته، أما مسألة العقيدة والأخلاق فإن الطالب في حل من ذلك، فليعتقد كل إنسان ما شاء، وليتخلق كل إنسان بما شاء من أخلاق الكفار وصفاتهم ما دام يعطي الولاء لصاحب السيادة والسلطان.
وقد عاد آلاف من الطلاب من الشرق والغرب، ومع ذلك فإن حال المسلمين تسير من سيء إلى أسوأ، فماذا حقق الطلاب الذاهبون الآيبون على مدى نصف قرن للبلاد الإسلامية؟ هل حققوا تقدمًا عسكريًا يستردون به الأوطان السليبة ويعيدون به الكرامة المهدورة تحت أقدام الصهاينة اليهود.
الأعداء ليسوا أغبياء كي يعلموا أبناء المسلمين علمًا هو سبب قوة الأعداء ضد الإسلام والمسلمين، فاللص مهما يكن غبيًا لا يسلم سلاحه لعدوه، لأنه يعرف أن سر تفوقه على عدوه هو هذا السلاح الذي بيده، وقد عاد إلينا كثير من الأبناء بقشور الغرب والشرق دون أن يحلموا معهم اللباب، فهم إما ببغاوات لمهازل الغرب، أو إمعات لسخافات الشرق، قد فقدوا أصالتهم الاعتقادية وشعائرهم التعبدية وأصبحوا ذيولاً لصهاينة الشرق والغرب.(2/872)
والذي نستنتجه من هذا العرض المتقدم أن البلاد الإسلامية لو أخلصت دينها لله، وصدق قادتها في ولائهم للإسلام والمسلمين لحرصوا على ابتعاث الشباب المؤمن الصادق في إيمانه المخلص في عقيدته ولتحققت لهم ثلاثة أهداف رئيسية:
أولاً: أن يكون ابتعاث الشباب المؤمن وسيلة من وسائل الدعوة في بلاد قد خيم على أهلها ظلام الجاهلية، وظلم أنظمتها، حيث إن المسلم الملتزم بالإسلام يكون داعية بقوله وفعله وسلوكه في المجتمع الذي هو فيه كما حصل من معظم المسلمين، كانوا دعاة إلى الإسلام في أسفارهم إلى أفريقيا وجنوب شرقي آسيا.
الثاني: أن الشباب المؤمن سوف يكون جادًا في تعلم العلم النافع والتحصيل المفيد، مما يترتب على ذلك وجود الخبرة اللازمة للعلوم والصناعات الأساسية اللازمة لنمو الأمة وتطورها تطورًا صحيحًا، فإن الذي يطلب العلم بغير عقيدة أو مبدأ كريم لا يجني إلا القشور.
ثالثًا: إنه في أقل الأحوال تسلم عقيدة هؤلاء الشباب من الانحراف والتبديل، ويسلم المجتمع من شر المبادئ الهدامة والعقائد الضالة التي عاد بها كثير من المبتعثين إلى بلاد الإسلام.
فالسلامة في أقل الأحوال غنيمة بالقياس إلى من خسر الدنيا والآخرة نتيجة مخالطة الكفار والمقام بينهم كما هو شان كثير من المبتعثين والمسافرين إلى بلاد الكفار بصورة غير شرعية، فهل نتعظ بما سلف؟ أم لا تزال الأمة الإسلامية تلدغ عشرات المرات وهي في سباتها لا تفيق.
وخلاصة القول في موضوع السفر والإقامة بين الكفار أن هذا الأمر يدور على أربعة أحكام هي:-
1 - الاستحباب.
2 - الإباحة.(2/873)
3 - التحريم الذي لا يخرج من الملة.
4 - التحريم الذي يقتضي الردة والكفر.
وقد فصلنا المقتضى لهذه الأحكام في أول هذا المبحث تفصيلاً نعتقد أن فيه الكفاية والله حسبنا ونعم الوكيل.(2/874)
الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم
إن المسلم الحقيقي هو الذي ينطلق من قاعدة التشريع الإسلامي في أعماله ومعاملاته وفي شئون حياته كلها، وبما أن وضع المسلم نفسه في خدمة مصالح الكفار والعمل لديهم قد يدخل في باب التعاون على الإثم والعدوان، ومظاهرة الكافرين على المؤمنين فقد تناول الفقهاء هذا الموضوع بالدراسة والتحليل على ضوء ما ورد في هذا الخصوص من الكتاب والسنة.
فقال الحنابلة: إنه لا يجوز للمسلم أن يمكن من نفسه للكافر أن يستأجره ليخدمه، سواء كان هذا الكافر ذميًا أو مستأمنًا أو محاربًا (1). لأن استخدام الكافر للمسلم استذلال له، فكأن في إجارة المسلم نفسه من الكافر إذلال لنفسه وليس من حق المسلم أن يذل نفسه للكافر، لأن الله تعالى يقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (2). ولأن
__________
(1) انظر المغني/ لابن قدامة ج5 ص505.
(2) سورة النساء آية (141).(2/875)
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقد ذهب الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عدم جواز عمل المسلم عند الكافر استنادًا إلى هذه الآية (1).
وعند الحنفية يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر مع الكراهية لذلك وهو قول الشافعي (رحمه الله) وحجتهم في ذلك هو أن تأجير النفس عقد معاوضة على منفعة فيجوز كالبيع (2).
ويستدلون على ذلك بروايات وأحداث مختلفة هي كما يلي:-
1 - ما روي أن عليًا بن أبي طالب (رضي الله عنه) أجر نفسه من يهودي يسقي له، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبذلك فلم ينكر عليه لأنه عقد معاوضة، لا يتضمن إذلالاً للمسلم فأشبه بمبايعته (3).
2 - ما روى الطبراني عن كعب بن عجرة (رضي الله عنه) أنه اشتغل عند يهودي، فسقى له إبله كل دلو بتمرة، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فما أنكر عليه شيئًا (4).
3 - ما حصل من يوسف عليه السلام مع فرعون مصر حيث عرض يوسف نفسه على فرعون مصر كما ذكر الله -عز وجل- ذلك حكاية عن يوسف (عليه السلام) بقوله تعالى: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (5).
قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إلى يوسف (6). اهـ.
__________
(1) الدرر السنية ج9 ص187.
(2) المغني/ لابن قدامة ج5 ص505.
(3) المغني/ لابن قدامة ج5 ص505.
(4) رواه الطبراني عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، وروى أبو يعلى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). انظر التعصب والتسامح بين النصرانية والإسلام/ محمد الغزالي ص55.
(5) سورة يوسف آية (55).
(6) انظر تفسير القرطبي ج9 ص215.(2/876)
وقد استدل أهل العلم في هذه الآية أنه يباح للرجل الفاضل أن يعمل عند الرجل الفاجر والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الرجل الفاجر وشهوته وفجوره، فلا يجوز ذلك (1)، وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهو اليوم غير جائز (2)، بناء على الخلاف الأصولي حول موضوع هل شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت ما يخصصه من شرعنا.
وقد رجح القرطبي القول بالجواز في العمل عند الكفار بالشروط المتقدمة (3). وقال الماوردي: إن كان المولى ظالمًا فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين:-
الأول: جواز تولي الوظيفة من قبل الكافر إذا عمل المتولي للوظيفة بالحق فيما تقلده من مهمة دون تدخل من الكافر، لأن يوسف ولي من قبل فرعون، باعتبار يوسف ذا سلطة مطلقة، فهو يتصرف بفعله لا بفعل غيره.
الثاني: أنه لا يجوز تولي العمل إذا كان المولّى للعمل ظالمًا، لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم على ظلمهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم (4). وأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين:-
1 - إن فرعون يوسف كان صالحًا، وإنما الطاغي فرعون موسى.
2 - إن يوسف نظر في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه.
وقال جماعة من أهل العلم: إن العالم العامل والرجل الصالح إذا
__________
(1) نفس المصدر السابق ج9 ص215.
(2) نفس المصدر السابق نفس المكان.
(3) نفس المصدر السابق نفس المكان.
(4) انظر تفسر القرطبي ج9 ص215.(2/877)
علم كل منهما أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بتولية من قبل الكافر أو الفاسق فله أن يعمل عنده (1).
وقال الماوردي: إن الأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه المسلم من جهة الكافر أو الظالم على ثلاثة أقسام:-
الأول: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه مثل الصدقات وأنواع الزكاة فيجوز للمسلم أن يتولى هذه الأمور من جهة الظالم لأن النص على مستحقها قد أغنى عن الاجتهاد فيها، وجواز تفرد أربابها بها قد أغنى عن التقليد.
الثاني: ما لا يجوز أن يتفرد به أربابه ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليها من جهة الظالم، لأنه يتصرف بغير حق ويجتهد فيما لا يستحق.
الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل - كالقضاء وإصدار الأحكام فإن كان النظر تنفيذًا للحكم بين متراضيين، وتوسطًا بين متخاصمين جاز، وإن كان إلزامًا وإجبارًا لم يجز (2).
ويقول الشوكاني في الفتح: «إنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان الظالم أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل» أن يطلب ذلك لنفسه، وجاز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيب فيما يرومه (3). اهـ.
ويقول ابن العربي في تفسيره: إن يوسف عليه السلام لم يسأل العزيز
__________
(1) انظر جامع البيان في تفسير القرآن/ للطبري ج13 ص19 مع حاشيته - غرائب القرآن ورغائب الفرقان/ تأليف: الحسن بن محمد النيسابوري. وانظر تفسير القرطبي ج9 ص108.
(2) انظر الأحكام السلطانية - للماوردي ص72 - 75.
(3) انظر فتح القدير للشوكاني ج3 ص35.(2/878)
أن يجعله على خزائن الأرض سؤال ولاية، وإنما كان سؤال تخل وترك لينتقل الأمر إليه كله، بتمكين الله ومشيئته (1)، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) (2). اهـ.
وذكر الشوكاني في الفتح عند تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (3). فقال إن هذه الآية خاصة بالمشركين، وإن النهي المذكور في الآية مراد به المشركين وقد وصفوا بالظلم لأن الشرك ظلم (4)، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (5). اهـ. والصحيح أن الآية عامة للمشركين وغيرهم من أهل البدع والمعاصي، فإن الصحبة لهم قد تكون كفرًا أو معصية في بعض الأحوال (6).
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية، وهي الإكراه الملجئ في النطق بالكفر دون فعله، ودون الاعتداء على الناس ظلمًا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فقد سبق بيان ذلك بشروطه المعلومة (7).
أما العمل مع الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فينظر في ذلك إلى المصلحة الغالبة، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من أعمالهم التي أمرها إليهم، وجب عليه ذلك فضلاً عن أن يقال له جائز (8)، إذا كان في ذلك طاعة لله كالمناصب الدينية والأعمال المباحة، وكان واثقًا
__________
(1) انظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج3 ص1080.
(2) سورة يوسف آية (56).
(3) سورة هود آية (113).
(4) انظر فتح القدير/ للشوكاني ج2 ص531.
(5) سورة لقمان آية (13).
(6) انظر تفسير القرطبي ج9 ص108.
(7) انظر صفحة 395 - 414 من هذه الرسالة. وانظر تفسير القرطبي ج4 ص57 وص417، ج6 ص2، ج9 ص108.
(8) انظر فتح القدير/ للشوكاني ج2 ص531.(2/879)
من نفسه القيام بما وكل إليه من أعمال الخير بشرط أن لا يمدح هؤلاء الظالمين أو يدافع عن ذمهم، أو يبرر أخطاءهم.
وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة وأعمال الولاة فذلك مقيد بعدم القدرة على عصيان الأمر إذا صدر فيما لا تصح الطاعة فيه، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به من واجبات مباحة (1)، أما مخالطة الظلمة والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم، لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على مثل هذا الفعل، فهو مخصص بالأدلة الشرعية الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية (2).
وفي الجملة يجب على من ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، أن يزن أقواله وأفعاله، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع وأن يرجح مصلحة الدعوة على مصلحته الخاصة، في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل (3).
فقد كان يوسف الصديق عليه السلام نائبًا لفرعون مصر وكان فرعون وقومه مشركين، ومع ذلك فعل يوسف من العدل والخير ما أقدره الله عليه ودعاهم إلى الإيمان حسب الطاقة والإمكان (4).
وقد قال علماء الأصول في مسألة شرع من قبلنا، هل يكون شرعًا لنا؟
__________
(1) المصدر السابق نفس المكان.
(2) انظر فتح القدير للشوكاني ج2 ص531. وانظر مورد الظمآن عبد العزيز بن سلمان ج3 ص123.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) انظر أسباب اختلاف الفقهاء. د/ عبد الله عبد المحسن التركي ص125.(2/880)
فقال بعضهم: إذا ورد النص في شرعنا، حكاية عن شرع من قبلنا على جهة الاستدلال والإقرار من غير إنكار، تقرر ضمنًا الاستدلال به والعمل بموجبه (1). وهذا هو المفهوم من قصة يوسف مع عزيز مصر كما أعتقد والله أعلم بالصواب. والذي أرجحه في هذه المسألة، هو أن ينظر المسلم الذي يريد أن يعمل عند الكافر أو من في حكمه من المرتدين - إلى نوع العمل هل هو من الأعمال التي ينظر إليها حسب العرف الشرعي بأنها أعمال فيها امتهان للكرامة وقضاء على العزة أم لا؟ فإن كان العمل مثل الكتابة والتعليم والنيابة في البيع والشراء ونحو ذلك فلا بأس بها ما دام يعمل بعزة وكرامة وهو قادر على ترك العمل عند رؤية أية إهانة أو جفاء. أما الأعمال التي تشعر بالذلة والامتهان والاحتقار، فلا يجوز للمسلم مزاولتها عند الكفار وما دونهم من الظلمة وأهل الفسوق نظرًا لقضائها على عزة المسلم التي أمر الله بالمحافظة عليها، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (2) فإعزاز المسلم لنفسه إعزازًا لدينه وإهانته لنفسه إهانة لما يحمله من مبدأ وعقيدة في الحياة.
ومن أمثلة الأعمال التي يكون فيها إهانة للمسلم عند أعداء الله أن يعمل لديهم طباخًا أو حمالاً أو غسالاً، أو عامل نظافة أو نحو ذلك، أو أن يعمل لهم ما هو من شعائر كفرهم وخصائص ملتهم، كأن يكنس كنائسهم أو يذبح لهم خنزيرهم، أو يصنع لهم الخمر أو يقدمها بين أيديهم. فقد سأل الإمام أحمد بن حنبل رجل بناء فقال: «أأبني للمجوس ناووسا (3)؟ قال لا تبني لهم، ولا تعنهم على ما هم فيه من كفر» (4). اهـ.
__________
(1) انظر الحسبة أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.
(2) سورة المنافقون آية (8).
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص232.
(4) الناووس صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت. انظر المعجم الوسيط ج2 ص971.(2/881)
وقد نُقِلَ عن محمد بن الحكم وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بكراء؟ قال: لا بأس به (1).
والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم.
وقد ورد سؤال من محمد بن عبد الله بن فاضل من مدينة فاس بالمغرب إلى الشيخ أحمد حسن مسلم عضو لجنة الفتوى بالأزهر قال فيه: «إن ابني يعمل في إحدى المؤسسات الإنشائية بفرنسا وهذه المؤسسة تتولى أحيانًا بناء فنادق تضم صالات للقمار والرقص والخمر وما إلى ذلك، فماذا تقولون في عمله هذا؟ فرد الشيخ بأنه يجب عليه أن يبتعد عن المشاركة في أعمال يكون مآلها إلى معصية الله» (2).
وبناء على ما تقدم فإن العمل عند الكفار يكون موالاة لهم إذا توفرت الشروط التالية أو بعض منها في العامل لديهم من المسلمين وهذه الشروط كما يلي:-
1 - إذا كان يتابع الكفار متابعة مطلقة، وينفذ أوامرهم في معصية الله.
2 - إذا كان عاجزًا عن القيام بأوامر الله، وإظهار شرعه تحت ولاية الكفار في حدود ما تشمله ولايته.
3 - إذا كان مادحًا للكفار راضٍ عن كفرهم، مواليًا لأوليائهم عدوًا لأعدائهم.
4 - إذا كان يعمل لديهم بأعمال تتنافى مع مبدأ العزة والشرف والكرامة والاستعلاء.
فكل من يعمل مع الكفار وتتوفر فيه واحدة من هذه الصفات أو أكثرها
__________
(1) المصدر السابق نفس المكان.
(2) انظر مجلة المسلمون العدد (3) الجمعة 17 محرم 1402هـ ص21.(2/882)
فعمله معهم محرم، وهو موال لأعداء الله مجانب لما أمر الله به بقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1).
__________
(1) سورة آل عمران آية (139).(2/883)
الفصل الثالث: العقوبات المترتبة على موالاة الكفار
1 - المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار.
2 - المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار.
3 - المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار.(2/885)
المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار
سبق أن أوضحنا في تعريف الموالاة أنها تعني محبة الكفار ومناصرتهم وتأييدهم، ومساعدتهم بما يظهر به كفرهم، ويقوى به باطلهم على المسلمين. ولذلك فإن من يشارك بمثل هذه الأمور بأية صورة، وعلى أي وجه من الوجوه يكون مواليًا للكفار أو متواليًا لهم ويعاقب على ذلك عقوبة مغلظة شرعًا بموجب ما دلت عليه الشريعة الإسلامية، وتنفذ هذه العقوبة الدولة الإسلامية إذا وُجِدَتْ. وهذه العقوبة تختلف تبعًا لدرجة الموالاة للكفار. فمن الموالاة ما يوجب القتل، ومنها ما يوجب العقوبة بما دون القتل بمراتب متفاوتة، حيث إن عقوبة الموالاة عقوبة تعزيرية كما هو الرأي الراجح من أقوال العلماء (1).
فالقتل يكون في حق من تولى الكفار توليًا تامًا، أو والاهم موالاة
__________
(1) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773، وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج7ص205.(2/887)
مطلقة «أي بمعنى أنه يجب القتل على من كانت موالاته موجبة للردة عن الإسلام، وذلك مثل إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم من غير إكراه ملجئ». وكذلك يقتل من كانت موالاته للكفار كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك مثل الذين يتجسسون على المسلمين لغرض دنيوي مع سلامة العقيدة وكراهية الكفر، فهذا النوع من الموالاة للكفار لا يحكم بردة الفاعل لذلك، وإنما يقتل بخطيئته بعد قيام البينة الشرعية على ذلك.
قال بذلك ابن القاسم وسحنون والقرطبي، ويروى عن ابن سحنون أنه قال: «إن ماله لورثته» (1). اهـ. وهذا يرجح القول بأنه يقتل تعزيرًا لا حدًا لأنه لو كان قتله حدًا لكان مرتدًا والمرتد لا يرث ولا يورث (2).
وذهب إلى القول بقتل من يوالي الكفار بتجسس أو نحوه الإمام مالك، وصحح ذلك القرطبي معللاً هذا الأمر بقوله: «إن ذلك يضر بالمسلمين ويفسد حالهم» (3). اهـ.
وقال ابن القاسم (4) وأشهب (5) يجتهد في ذلك الإمام حسبما يراه من التعزير المناسب، وقال عبد الملك بن جريج: إذا تكرر منه ذلك وكانت
عادته قُتِلَ لأنه جاسوس، وبذلك قال ابن الماجشون (6)، واشترط التكرار في
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص205.
(2) المصدر السابق نفس المكان.
(3) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773.
(4) هو عبد الرحمن بن القاسم العتقي (191). انظر الأعلام للزركلي م5 ص171.
(5) هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو ولد سنة (145هـ). وهو فقيه الديار المصرية في عصره كان صاحب الإمام مالك. قال عنه الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب، وأشهب لقب له، مات سنة (204هـ) بمصر في نفس البلد والعام الذي توفي فيه الإمام الشافعي. انظر الأعلام للزركلي ج1 ص333.
(6) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة التيمي، المدني (أبو عبد الله) (ابن الماجشون)،
فقيه محدث، حافظ، أصله من أصبهان، نزل المدينة، ثم قصد بغداد فتوفي بها سنة (164هـ) ودفن في مقابر قريش.
انظر معجم المؤلفين ج5 ص251.(2/888)
هذا معللاً هذا الاشتراط بأن حاطبًا لم يتكرر منه ذلك، ولذلك أخذ في أول فعلة باللوم على ذلك (1).
وفي رأيي أن اشتراط التكرار لا يلزم الأخذ به، فإن العلة الظاهرة في ترك قتل حاطب (رضي الله عنه) أنه شهد بدرًا، وهذه العلة التي قامت به منتفية في حق غيره والله أعلم (2).
وبناء على ذلك فإن الذي يتجسس على المسلمين من أدعياء الإسلام لحساب الكفار بالأصالة أو العمالة يجب قتله وهو إما أن يقتل مرتدًا، إذا كان يحب ظهور الكفر وخذلان الإسلام، أو يقتل تعزيرًا بكبيرته إذا تعاون مع أعداء الإسلام لمصلحة دنيوية مع سلامة الإعتقاد، وحبه للإسلام وكراهيته للكفر.
ولذلك يجب على كل مسلم حين إطلاعه على شخص أو جماعة توالي الكفار أن يرفع أمرهم إلى الحاكم المسلم مع الدولة المسلمة إذا وجدا، ليرى فيهم صاحب الولاية الشرعية رأيه في ذلك بموجب القضاء الشرعي المستقل عن هيمنة الحاكم وتدخلاته غير الشرعية (3).
فإذا لم يكن الحاكم قائمًا بشرع الله ومنفذًا له أنكر المسلم أو جماعة المسلمين حسب القدرة والاستطاعة في ذلك.
وقد قال ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد وابن العربي وغيرهما
__________
(1) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53، وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773.
(2) انظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص68.
(3) انظر فتح الباري ج6 ص144 - 169.(2/889)
بوجوب القتل لمن يناصر الكفار على المسلمين بتجسس ونحوه وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد (رحمهم الله): «إن من تعاون مع الكفار من المنتسبين إلى الإسلام بتجسس ونحوه لا يقتل ويفهم من كلامهم أنه يعزر بما دون القتل» (1). اهـ.
والرأي الراجح فيما يظهر لي من القولين السابقين هو القول بالقتل إذا كانت الموالاة موجبة للردة أو كانت كبيرة من كبائر الذنوب لأن الأصل في هذه المسألة معاملة الرسول لحاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (2).
فإن ظاهر العلة في ترك حاطب (رضي الله عنه) أنه شهد بدرًا ولو لم يكن كذلك لكان مستحقًا للقتل، لأنه علله بعلة مانعة من القتل منتفية في حق غيره ولو كان الإسلام مانعًا من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى حجة والله أعلم (3).
ويؤيد هذا القول موقف عمر (رضي الله عنه) فقد رُوِيَ أن ابن الجارود سيد ربيعة أخذ درباسًا وقد بلغه أنه يخاطب المشركين بعورات المسلمين، وهم بالخروج إليهم، فصلبه ابن الجارود فصاح يا عمراه - ثلاث مرات - فأرسل إليه عمر، فلما قدم على عمر أخذ عمر الحربة فعلا بها
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص155.
(2) انظر تفسير القرطبي ج18 ص50.
(3) انظر زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص68. وانظر تفسر القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر الدرر السنية ج1 ص235.
وانظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1770 - 1772.(2/890)
لحيته، وقال: لبيك يا درباس - ثلاث مرات - فقال لا تعجل، إنه كاتب العدو، وهم بالخروج إليهم، فقال عمر قتلته على الهم (1) وأينا لا يهم. فأمضى عمر اجتهاد ابن الجارود فيه.
وقد اختلف العلماء. هل المتولي للكفار بالتجسس أو نحو ذلك إذا قتل بذلك الذنب يكون القتل مكفرًا لذنبه أم لا؟
فقال النووي: «إذا قتل المرتد وهو متمسك بردته، فإن قتله على هذه الصفة لا يكون كفارة له عن ذلك» (2). اهـ.
ورجح الشوكاني هذا الرأي، حيث يرى أن المرتد يقتل وهو على الكفر كما يقتل غيره من الكفار أثناء الحرب (3).
وعلى هذا يمكن القول بأن من تولى الكفار توليًا تامًا أو موالاة مطلقة ثم قتل على ذلك ولم يتب قبل موته أنه داخل تحت هذا الوعيد الشديد ومتعرض لعذاب الله في الدنيا بالقتل وفي الآخرة لعذاب النار وسوء القرار أعاذنا الله من ذلك.
أما ما يقع من موالاة للكفار لا تصل إلى درجة الردة والكفر، ولم تكن كبيرة من كبائر الذنوب، فإن هذه الأنواع من الموالاة يعزر من ارتكب شيئًا منها بما هو دون القتل كما هو رأي الإمام الشافعي وأحمد وأبو حنيفة (رحمهم الله) (4).
وفي ذلك يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «إن موالاة الكفار لأجل دنياهم مع بغض القلب لهم موجبة
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1772.
(2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص97.
(3) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص205 - 212.
(4) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص155. وانظر زاد المعاد/ لابن القيم ج2 ص68. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية ص502.(2/891)
للتعزير، والهجر والتأديب، ونحو ذلك مما يزجر الفاعل وأمثاله عن موالاة الكفار ومداهنتهم» (1). اهـ.
ومن العقوبات المترتبة على موالاة الكفار أنه إذا كان الموالي للكفار حاكمًا، فإن موالاته للكفار هذه إما أن تكون موالاة كفر وردة عن الإسلام وفي هذه الحال تسقط البيعة للحاكم والحكومة بنص القرآن الكريم وإجماع الأمة، قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (2) فلا يجوز أن يكون للكافرين تسلطًا واستيلاء على المؤمنين، وإن وجد شيء من ذلك، فهو على خلاف الشرع ولا شك، فلا يجوز إقراراه (3). لأن ولاية الكافرين على المسلمين أعظم سبيل للتسلط والاستيلاء عليهم.
وقد أمر الله عز وجل بعدم الإذعان والطاعة لولي الأمر إذا كان كافرًا بالردة أو بالأصالة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4). فطاعة المؤمنين واجبة بنص الآية لولي الأمر إذا كان مؤمنًا من المؤمنين، والمرتد بالولاء للكفار قد خرج بردته من أن يكون مسلمًا فضلاً عن أن يكون مؤمنًا من المؤمنين، وبذلك يفقد حق السمع والطاعة من الأمة، فلا حرج ولا إثم عليها لو سحبت البساط من تحته، بعد أن فقد أهليته لهذا المنصب بسبب موالاته للكفار ومناصرته لهم.
وقد تكون موالاة الحاكم والحكومة للكفار كبيرة من كبائر الذنوب لا ترقى إلى درجة الكفر ولكنها توجب فسق وجور الحكومة أو الحاكم وقد اختلف العلماء في جواز الخروج على الحاكم الفاسق أو الجائر كما تقدمت الإشارة إلى ذلك (5).
__________
(1) انظر مجموعة التوحيد ص126.
(2) سورة النساء آية (141).
(3) تفسير ابن سعدي ج2 ص200.
(4) سورة النساء آية (59).
(5) انظر صفحة 467 - 486 من هذه الرسالة.(2/892)
ولكن مبدأ التسامح مع الحكام أو الحكومات التي تتصف بصفة الفسق أو الجور أو الظلم في موالاتها لأعداء الله وتقريبهم، مبدأ خطير على كيان الأمة ووجودها، في الوقت الذي يعتبر فيه المساس بدستور وضعي في دولة غير إسلامية خيانة عظمى يعاقب المتعدي في ذلك بأقصى العقوبات فضلاً عن التنحية والاستبدال (1).
أما إذا كانت الموالاة للكفار من صغائر الذنوب التي لا ترقى إلى درجة الكبائر فالواجب في ذلك هو نصح الحاكم أو الحكومة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن حتى يرجعوا عما ارتكبوه من إثم وخطيئة.
وأما إذا كانت الموالاة للكفار صادرة من فرد أو جماعة من الناس لا يمثلون رأي الحاكم أو الحكومة فإن الواجب رفع أمرهم إلى الحاكم أو الحكومة لإيقاع العقوبة اللازمة عليهم فيما إذا كانت الموالاة للكفار موجبة لردة الموالي لهم، أو كانت تمثل كبيرة من كبائر الذنوب، وقد ذكرنا أن العقوبة الراجحة في مثل ذلك هي القتل (2).
أما إذا كانت الموالاة للكفار مما يوجب فسق الموالي لهم وعصيانه فقد أشرنا إلى كيفية التعامل مع الفسقة والعصاة في قضية الموالاة والمعاداة فيما تقدم (3).
أما كيفية التعامل مع من يتولى الكفار أو يواليهم من الأفراد في القضايا الخاصة مثل أكل الذبائح التي يذبحها من يتولى الكفار، أو التزوج بالنساء اللاتي يوالين الكفار، أو تزويج الرجال الذين يتولون الكفار، فقد
__________
(1) انظر رسالة في عزل الرئيس الأعلى للدولة في نظام الحكم في الإسلام د/ علي بن فهيد السرباتي ص131 - 132.
(2) انظر صفحة 825 - 826 من هذه الرسالة.
(3) انظر صفحة 425 - 445 من هذه الرسالة.(2/893)
اختلف العلماء في ذلك. هل يحكم بردة من يتولى الكفار فيعامل معاملة المرتدين في أكل الذبائح وفي حكم الزواج، أم يلحق بمن تولاهم من الكفار؟.
فإن تولى اليهود فحكم التعامل معه حكم التعامل مع اليهود، وإن تولى النصارى فحكم التعامل معه حكم التعامل مع النصارى، وإن تولى الشيوعيين أو الوثنيين فحكمه حكمهم.
ومرجع الاختلاف في ذلك هو الاختلاف في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1).
فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال هي:-
القول الأول: إن المراد بذلك أهل الأوثان من العرب غير المسلمين لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية أو اليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم، فلا تؤكل ذبيحته، وإذا كانت المرتد إلى الكفار امرأة فلا تنكح ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (2). فيقتل لردته. ولهذا رجح جماعة من المفسرين بأن المراد بذلك هم العرب الوثنيون لا المسلمون المرتدون عن الإسلام بالولاء للكفار (3).
القول الثاني: إن الآية خطاب للمسلمين وإخبار بأن من تولاهم أي اليهود والنصارى فهو كافر مثلهم بموالاته إياهم، والحكم عليه بالكفر لا يمنع مع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم، إذا كانوا لا يزالون ينتسبون إلى
__________
(1) سورة المائدة آية (51).
(2) رواه البخاري: انظر فتح الباري ج6 ص149.
(3) انظر أحكام القرآن - للجصاص ج2 ص444 - 445. وانظر تفسير الطبري ج6 ص179. وانظر تفسير القرطبي ج3 ص217. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج2 ص630.(2/894)
أهل الإسلام، وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من كفر وما يفعلون من مفاسد، وكان أبو الحسن الكرخي (1) ممن يذهب إلى ذلك (2).
القول الثالث: ما روي عن الإمام الشافعي (رحمه الله) أنه قال: إنما أباح الله عز وجل ذبائح ونساء أهل الكتاب من بني إسرائيل خاصة أما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم فلم يعن بهذه الآية وليس هو ممن يحل أكل ذبيحته أو تزوج نسائه لأنه ليس ممن أوتي الكتاب في نظر المسلمين.
وهذا القول مروي أيضًا عن عمر وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) فقد روي عن علي أنه قال: «لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر» (3).
والذي أرجحه من هذه الأقوال هو القول بأن من تول اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار فإنه يحكم بردته وكفره فإن كان الذي تولاهم يهودًا أو نصارى أو ما زال يدعي الإسلام يتظاهر به بعض الأحيان، لم يَحْرم أكل ذبائحه أو التزوج بالنساء اللائي هنَّ بهذا الوصف.
وإن كان الذين تولاهم مدعي الإسلام شيوعيين أو وثنيين فحكمه كحكمهم في الكفر والعمالة وهذا ما يتفق مع ظاهر الآية في قوله تعالى:
__________
(1) وهو عبيد الله بن الحسين بن دلال الكرخي الحنفي (أبو الحسن) ولد سنة (260هـ). وتوفي ببغداد في (15) شعبان سنة 340هـ (فقيه، أديب، من تصانيفه شرح الجامع الكبير، وشرح الجامع الصغير، وكلها في فروع الفقه الحنفي، وله مسألة الأشربة وتحليل نبيذ التمر) .. انظر معجم المؤلفين/ ج6 ص239.
(2) انظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص444 - 445.
(3) انظر أحكام القرآن - للإمام الشافعي ج2 ص58. وانظر تفسير الطبري ج6 ص63 - 65.(2/895)
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (1). وفي الحديث: «من كثر سواد قوم فهو منهم» (2). وعلى هذا نقول: إن الموالي يتخذ حكم من والاه سواء بسواء ويعامل معاملة من تولاه من الكفار.
__________
(1) سورة المائدة آية (51).
(2) رواه أبو يعلى وعلي بن معبد عن عبد الله بن مسعود في كتاب الطاعة وله تتمة، وكذا الديلمي وابن المبارك عن أبي ذر موقوفًا.
انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ سعيد حوى ص183.(2/896)
المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار ويؤذون المؤمنين
من خلال قراءة التاريخ يتبين أن نهاية الظالمين بالموالاة للكفارة والمعاداة للمؤمنين واحدة ويبدو أن هناك سنة ربانية يجهلها كثير من الفراعنة وجنودهم بسبب بعدهم عن الله، وتلك السنة الربانية قد دل عليها الحديث القدسي «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» (1). قال ابن هبيرة «ويستفاد من هذا الحديث تقديم الأعذار على الإنذار» (2). ووجه ذلك أنه لما قدم معاداة من هو بهذه الصفة من الولاية لله فكأنه أعذر إلى كل سامع بل إلى كل عارف له، إن من هذا شأنه لا ينبغي أن يعادى، بل يجب أن يحب ويوالي، فإذا لم يفعل فقد أعذر الله إليه، ونبهه على أن من عادى ولي الله فقد استحق العقوبة البالغة على عداوته له، فقال تعالى منذرًا له في الحديث القدسي: «فقد آذنته بالحرب» أي جزاء على ما صنع مع وليّ (3).
__________
(1) رواه البخاري، انظر فتح الباري ج11 ص340 - 341.
(2) المصدر السابق ج11 ص342.
(3) انظر ولاية الله والطريق إليها/ إبراهيم هلال ص347.(2/897)
فإن الحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب الهلاك، والله عز وجل لا يغلبه غالب. فكان المعنى: أن من عادى ولي الله بالقول أو الفعل أو بهما معًا، فقد تعرض لإهلاك الله له، فأطلق الحرب وأريد لازمه، أي عمل به ما يعمل العدو والمحارب (1).
ولذا يمكن أن نقول: إن الموالي للكافرين والمحارب للمؤمنين جعل نفسه في مكان المعاند لله عز وجل بعداوته لأولياء الله ومحبته لأعداء الله فكأنه أمام نفسه مقام المحارب لله أصالة، وهو أحقر وأذل من أن يحارب ربه، لكنه خيلت له نفسه الأمارة بالسوء هذا الخيال الباطل، فعادى من أمره الله بموالاته ومحبته مع علمه بأن ذلك مما يسخط الرب ويوجب حلول العقوبة عليه. وإيقاعه في المهالك التي لا ينجو منها (2).
قال الفاكهاني: «في هذا الحديث وعيد وتهديد شديد، لأن من حارب الله تعالى أهلكه الله» (3). وهو من المجاز البليغ، لأن من كره ما أحبه الله تعالى، خالف الله سبحانه وتعالى، ومن خالف الله عز وجل عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة، ثبت ضده في جانب الموالاة.
فمن والى أولياء الله عز وجل أكرمه الله وحماه (4).
فإذا كان مجرد العداوة لولي من أولياء الله مؤذنًا بحرب الله عز وجل لمن عاداه.
فكيف إذا تعدى الأذى لأكثر من مجرد العداوة، فآذنوا بالقول والفعل ولأكثر من ولي بل عادوا أولياء الله جميعًا في كل صقع من أصقاع الأرض؟
__________
(1) انظر فتح الباري ج11 ص342.
(2) انظر ولاية الله والطريق إليها/ إبراهيم هلال ص347.
(3) انظر فتح الباري ج11 ص342.
(4) المصدر السابق ج11 ص343.(2/898)
ألا يكون ذلك مؤذنًا بحرب الله لهم، إن الله يمهل ولا يهمل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» (1).
وقد وعد الله عز وجل بالمدافعة عن المؤمنين من أوليائه جميعًا فضلاً عن الدفاع عن الولي الواحد. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (2).
ومن سنة الله عز وجل أن يعامل من يتولون الكفار بنقيض قصدهم حيث إن أهم الأسباب التي تدفع إلى موالاة الكفار، طلب العزة من قبل الكفار كما يتصور ذوي النفوس المريضة، ولكن سنة الله الربانية تحول دون تحقق أحلامهم تلك.
إن آيات القرآن الكريم توضح لنا بجلاء أنه لا يتولى الكفار ويتقرب إليهم بالمودة والنصرة إلا منافق ظاهر النفاق، قال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (3).
فنفى سبحانه وتعالى عن أهل الإيمان موالاة الكفار وأثبت ذلك للمنافقين في قوله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (4). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا
__________
(1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج8 ص354.
(2) سورة الحج آية (38).
(3) سورة آل عمران آية (28).
(4) سورة النساء آية (138، 139).(2/899)
عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (1). فتبين من ذلك أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء، يوالونهم بالمودة والنصرة متجاوزين ولاية المؤمنين معرضين عنها، معلقين طلب العزة والتمكين على الأعداء متناسين قول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (2).
وقد جرب حكام هذه الأمة وشعوبها عبر التاريخ ألوانًا من موالاة الأعداء فما جنوا من ذلك سوى الخيبة والذل والعار والمهانة في الدنيا والآخرة.
ففي الأندلس كان الولاء للأعداء لعبة قذرة سلكها أمراءُ الطوائف حتى نفض الصليبيون البساط من تحت أقدامهم وألقوا بهم في مزبلة التاريخ وأصبحت هذه البلاد حسرة في نفس كل مسلم حين يذكر ما فيها من حضارة وآثار للمسلمين ثم يذكر أولئك الأوباش الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين (3).
لقد وصلت الحماقة والخيانة والنذالة والذلة إلى أن يوالي أحدهم الكافر ضد أبيه المسلم.
فقد تعاون مخزاة (أبو عبد الله محمد الخائن) مع الصليبيين «فرديناندو إيزبلا» ضد والده محمد بن سعد (المعروف بالزغل) وضد عمه حتى تم النصر للنصارى ضد المسلمين، وبعد ذلك انقلب فرديناند على أبي عبد الله فسلب منه ممتلكاته وسلم هذا الخائن مفاتيح آخر مدينة إسلامية بالأندلس لفرديناند، وهو يبكي كما تبكي النساء على بلد إسلامي أضاعه، وخيانة لن ينساها له التاريخ تمثلت بموالاة الأعداء ضد أقرب الناس إليه فخرج هذا الخائن (897هـ - 1492م) ذليلاً محتقرًا إلى أفريقية
__________
(1) سورة المائدة آية (51 - 52).
(2) سورة المنافقون آية (8).
(3) انظر موسوعة التاريخ الإسلامي/ أحمد شلبي ج4 ص36 - 40.(2/900)
ليقضي بقية عمره يعيش على السؤال والاستجداء (1). فهل من متعظ ومعتبر؟
وقبل صحوة الأمة الإسلامية على يد «محمود نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي» تنافس على وزارة مصر كل من «شاور وضرغام» واستعان كل منهما بالصليبيين على منافسه ولولا أن قيض الله لمصر صلاح الدين الأيوبي لأصبحت مصر مثل الأندلس أو أشد (2). وفي عهد المماليك كان الأمراء وحكام الولايات الصغيرة يعيدون لعبة ملوك الطوائف، فيستعينون بالصليبيين والتتار على إخوانهم، ويدفعون قيمة تلك الاستعانات من كرامتهم وكرامة أمتهم ولولا أن من الله على المسلمين بالمظفر قطز، والظاهر بيبرس لصارت حال المسلمين على غير ما كانت عليه بوجودهما.
وبعد ذلك بمدة من الزمن ظهر بين المسلمين صنيعة اليهود (كمال أتاتورك) الذي كان أعظم نموذجًا للخيانة والولاء للأعداء، فقد ملك عليه حبه وولاؤه للأعداء كل شيء، وأعلن ذلك دون خجل أو وجل (3) أو حياء أو مواربة (4)، وأعلن الحرب على الإسلام والمسلمين في تركيا وخارجها فقضى على الخلافة الإسلامية وبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية وألغى الآذان بلغة القرآن، وفرض الأزياء الغربية، وأمر بنزع الحجاب عن المرأة المسلمة، وأشاع المنكرات، وأعلن أنه يدين بالولاء الكامل للغرب النصراني اليهودي، وأنه لا علاقة لتركيا بالإسلام (5).
ولقد كان لهذا الولاء المطلق للأعداء آثاره السيئة والمدمرة على أتاتورك نفسه حيث باع آخرته ودنياه لأعداء الله الذين لا يملكون له نفعًا ولا
__________
(1) انظر المصدر السابق ج4 ص78.
(2) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج12 ص255 - 256.
(3) رجل: أي خوف وفزع - النظر المعجم الوسيط ج2 ص1025.
(4) مواربة: أي مخاتلة أو مخادعة - انظر المعجم الوسيط ج2 ص1035.
(5) انظر كتاب «الرجل الصنم» / تأليف ضابط تركي سابق - ترجمة/ عبد الله عبد الرحمن ص440.(2/901)
ضرًا في الدنيا والآخرة، وعلى تركيا كلها حيث إنها بولائها لأعداء الإسلام قد خسرت كل شيء، فلا هي حفظت دينها وكرامتها، ولا هي نعمت بالرخاء المزعوم من دول الغرب الصليبية، فغدت ضائعة تتخبط في متاهات الحياة إلى وقتنا الحاضر (1).
ولقد سلك طريق الولاء للأعداء الشريف «عبد الله بن حسين بن علي» فشارك في الحرب العالمية الأولى مساعدًا بريطانيًا ضد دولة الخلافة وأنصارها وكذلك فعل أثناء الحرب العالمية الثانية، فكافأته بريطانيا على ذلك بأن نصبته ملكًا على المملكة الأردنية الهاشمية (1946م) بعد أن كان يحلم بإمبراطورية عربية واسعة ثم كانت نهايته الاغتيال عام (1951م) (2).
ونتيجة لهذه الموالاة سقطت دولة الخلافة، واقتسم الحلفاء البلاد الإسلامية، وكان من آثار ذلك استيلاء اليهود على فلسطين واستيلاء المستعمرين على بقية البلاد الإسلامية التي ما زالت تكتوي بنار الاستعمار وعملاء الاستعمار وفي شاه إيران عبرة وعظة للذين يوالون أعداء الله، فقد أعطى ولاءه الكامل للصليبيين واليهود ولكنهم خذلوه وأسلموه في نهاية الأمر حتى لقد قال في مذكراته التي بدأ ينشرها في أول نفيه: «إن الرئيس الأمريكي كارتر قد ألقى به خارج إيران كالفأر الميت» (3).
وقد صدر كتاب بعنوان (رهينة الخميني) ألفه (روبرت كارمن دريغيوس) نشر فيه معلومات تفصيلية عن علاقة المخابرات المركزية الأمريكية بإسقاط الشاه والقضاء عليه (4).
__________
(1) انظر مجلة الأمان عدد (79) السنة الثانية في 27/ 9ك 1400 هـ ص19 - 20.
(2) انظر الموسوعة العربية الميسرة/ شفيق غربال ج2 ص1178.
(3) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (47) السنة التاسعة والعشرون جمادى الأولى (1400هـ) ص24.
(4) نشرت هذا الموضوع صحيفة السياسة الكويتية على شكل حلقات متواصلة وانظر هذه الصحيفة عدد (4774) السنة السادسة عشرة الثلاثاء 15/ 12/1401هـ ص15.(2/902)
وكذلك فعل الروس بمن والاهم في أفغانستان فقد قضوا على (داود خان) و (نور تراقي) و (حفيظ الله أمين) و (بابراك كارمل في الطريق وقد كان هؤلاء كلهم من الذين تولوا أعداء الله السوفيت فسلط الله الظلمة على أتباعهم، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (1).
وكذلك شأن السادات فقد أعلن الولاء التام للنصارى في أمريكا واليهود في إسرائيل وتنكر لمبادئ الإسلام والمسلمين، وضحى بهما من أجل ترضية أعداء الإسلام، وكان يظن أنه سوف يجد بولاء اليهود والنصارى العزة والتمكين فخاب ظنه وصدق عليه قول الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (2).
فقد هلك غير مأسوف عليه من قبل الأعداء والأصدقاء جميعًا وصدق فيه قول الشاعر:
قد كان ينظر للحياة مديدة
لا البؤس يطرقها ولا هي تقطع
في كل يوم خطبة مشئومة
فيها الوعيد لكل سمع يقرع
في لحظة هوت الزعامة جثة
والروح في أحشائه تتقطع
وكفى موالاة اليهود جناية
لا شيء يمحو عارها أو يشفع (3)
__________
(1) سورة الأنعام آية (129).
(2) سورة النساء آية (138، 139).
(3) انظر المجتمع الكويتية عدد (550) في 13/ 1/1402هـ ص43.(2/903)
وهذه السنة الإلهية الماضية على من يوالي أعداء الله ليست خاصة بالحكام بل تشمل كل من تعاون مع أعداء الله من العلماء والعساكر والجنود.
فقد يقف بعض أدعياء العلم مع الحكام الظلمة يبررون لهم ظلمهم للمؤمنين ومطاردتهم للموحدين وخذلانهم للمجاهدين، ومن هذا النوع موقف ابن أبي دؤاد في تأليبه السلطان على الإمام أحمد بن حنبل، فقد وقف يطالب بدمه جهارًا نهارًا، ولكن الله كتمه غيظه في صدره فقد أصيب بالفالج فبقي عظامًا بدون لحم، فقال ابن شراعة البصري فيه قصيدة منها هذين البيتين:
لم تخش من رب السماء عقوبة ... فسننت كل ضلالة وفساد
كم من كريمة معشر أرملتها ... ومحدث أوثقت بالأقياد (1)
وقد دارت الدائرة على عساكر عبد الناصر وزبانيته فهم ما بين مجنون ومقتول ومطرود وكذلك شأن البعثيين في سوريا فقد انقلبوا على كل من أيدهم من أهل الانتماء إلى المسلمين السنة أمثال نور الدين الأتاسي وصلاح البيطار وأمين الحافظ وغيرهم من المخدوعين بموالاة الكفرة من النصيريين والصليبيين (2).
وهذه نماذج سقناها للذكرى والاعتبار وبيان سنة الله فيمن يوالي أعداءه ويعادي أولياءه مهما اختلف الزمان وبعد المكان ... فهل من متعظ ومعتبر؟؟.
__________
(1) انظر كتاب أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا/ أحمد عبد الجواد ص42 - 43.
(2) انظر: الأخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا ص43. جابر رزق.(2/904)
المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار
لقد بين الله عز وجل في أكثر من آية عقوبة الذين يتولون الكفار في الآخرة، وأن جزاءهم جهنم وبئس القرار. قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (1). وقال تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (2). وقال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (3).
__________
(1) سورة الفرقان آية (27 - 29).
(2) سورة الأحزاب آية (68).
(3) سورة البقرة آية (167).(2/905)
وعن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث أحلف عليهن لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة، الصلاة والصوم والزكاة ولا يتولى الله عبدًا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قومًا إلا جُعِل معهم» (1).
فمودة المنافقين والمرتدين لأسيادهم من أهل الكفر والضلال لا تنفعهم يوم القيامة في شيء فهي شبيهة بمودة أهل الأوثان لأوثانهم، فمن تولى الكفار ووالاهم، فقد اتخذهم أوثانًا من دون الله، وذلك بحبه لهم وتقديم محبتهم على محبة الله، وتعظيمهم على تعظيم الله، وتقديم مقامهم على مقام الله عز وجل، وجزاء هذا الأمر ما ذكره الله تعالى في قوله: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (2).
فليفقه وليتيقظ وليستيقظ من يوالي الكفار على خطورة هذا الأمر قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (3).
فهل يتعظ الحكام والأشخاص والشعوب من تلك النهاية التي يؤول إليها من يوالي الكفار، فيقطعوا موالاتهم ونصرتهم ومحبتهم عن الكفار بالأصالة أو بالردة، ويعطوا ولاءهم لله ورسوله والمؤمنين كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
__________
(1) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود. انظر مورد الظمآن لدروس الزمان - تأليف عبد العزيز بن محمد السلمان ج1 (ط - 10) ص121.
(2) سورة العنكبوت آية (25).
(3) سورة الزمر آية (56 - 58).(2/906)
وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (1).
فمن بدَّل موالاة الله ورسوله والمؤمنين بموالاة الكافرين فقد استحق الوعيد الشديد، كما دل على ذلك الآيات المتقدمة. وقد أنشد في هذا المعنى الشيخ صالح السالم آل بنيان في قصيدة له فيمن يوالي أعداء الله منها ما يلي:-
فيا من تعادون الإله وحزبه
وتنقصون أهل الدين والدين فاسمعوا
لتصلون نارًا قد أعدت وهيئت
بها مكان للكفار مأوى ومضجع
وصبرًا ذوي الإسلام من قول مبغض
عدو لكم أمسى من الغيظ مترع (2)
__________
(1) سورة المائدة آية (55 - 56).
(2) انظر المجموع رقم (1638) من المجاميع المخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض ص306.(2/907)
الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين
إن المسلم اليوم عندما يحاول دراسة واقع المسلمين المعاصرين خاصة في موضوع الموالاة في الله والمعاداة فيه، لا يدري من أين يبدأ؟ ولا أين ينتهي؟ حيث سيواجه واقعًا مؤلمًا محزنًًا مبكيًا يدع الحليم حيرانا.
لأنه ما من بقعة من بقاع الأرض إلا وفيها صوت من أصوات المسلمين المعذبين تحت وطأة الكفار أو عملاء الكفار.
فلا أدري كما يقول الشاعر:
من أين أبتدئ الحكاية؟ كلها ... غصص تثير كوامن الأشجان (1)
وكما يقول الآخر:
في كل أفق على الإسلام دائرة ... ينهد من هولها رضوى وثهلان
__________
(1) انظر مجلة الأمة العدد الحادي عشر السنة الأولى ذي القعدة 1401هـ ص32 شعر مأمون فريز جرار.(2/908)
ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا ... كما أعدت لتشفي الحقد نيران
يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة ... فلم يغثهم بيوم الروع أعوان
فاليوم لا شاعر يبكي ولا صحف ... تحكي ولا مرسلات عند شان
هل هذه غيرة أم هذه ضعة؟ ... للكفر ذكر وللإسلام نسيان (1)
فمآسي المسلمين أكثر من أن تحصر ومعظمها أشهر من أن يذكر ولكن حسبنا أن نذكر نماذج وأمثلة موجزة لأولئك المعذبين الذين لا ذنب لهم إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومع ذلك تخلى عنهم أدعياء الإسلام وتركوهم وحدهم بين أنياب الوحوش القذرة في الشرق أو الغرب، أو أسلموهم إلى أيدي القصابين الأجراء العملاء لهذين المعسكرين، وكأن الأمر لا يعني هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام في قليل أو كثير.
إنه ليس سهلاً على المسلم أن يقف متفرجًا وإخوانه في الإسلام يذبحون أمامه كما تذبح الشياه، وليس سهلاً على المؤمن أن يشاهد دولة كبرى - تعادي الإسلام - كروسيا الشيوعية تجتاح دولة إسلامية صغيرة ضعيفة كأفغانستان لتقتل أبناءها وتفتنهم عن دينهم وتشردهم من أوطانهم في مخيمات واهية يفترشون الثلج ويلتحفون صقيع النجوم ويأكلون القليل من الطعام.
إن المنافق يسكت عن هذا العمل ولا يبالي.
وإن الكافر يؤيد هذا العمل ولا يبالي.
وإن المؤمن هو الذي لا يرضى بذلك ولا يقر الضيم على الناس كافة فكيف بإخوانه في الإسلام؟ فهل نفد المؤمنون في بلاد الإسلام ولم يبق فيها إلا الكفار والمنافقون؟
هذا ما يظهر من لسان حال القاطنين في ديار الإسلام لأنه لو كان
__________
(1) انظر كتاب أغاني الكفاح - بقلم شعراء الدعوة الإسلامية ص65.(2/909)
العكس لظهر ذلك واقعًا عمليًا ولكن المنافقين والكفار المرتدين الذين يرتبطون بعجلة الغرب أو الشرق هم الذين يرضون بالخنوع والخضوع والذلة والضعة لأن كلا منهم عبد للمادة والمصلحة يقول الشاعر العربي:
ولا ينام على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشدَّ فلا يرثي له أحد (1)
إن الدخول في تفاصيل المصائب والمآسي التي تقع على المسلمين شيء لا يمكن حصره ونخشى لو اطلع على ذلك أحد من ضعاف الإيمان لأصيب باليأس والقنوط لشدة ما يرى وهول ما يسمع كما يقول الشاعر:
أمسك بقلبك أن يطير مفزعًا ... وتول عن دنياك حتى حين
فالهول عات والحقائق مرة ... تسمو على التصوير والتبيين (2)
وسنحاول بإيجاز ذكر بعض البلاد التي ابتليت بتسلط الكفار على المسلمين، وماذا قدم لها المسلمون بمقتضى واجب الموالاة في الله والمعاداة فيه؟ وسنبدأ بذلك حسب الأهمية والموقع ومقدار البلوى ومكانتها وما تقتضيه الحكمة وتسمح به الظروف.
أولاً: فلسطين:
منذ ثلث قرن واليهود يستوطنون فلسطين وتزداد رقعة دولتهم يومًا بعد يوم، ولقد استبيحت أموال الشعوب الإسلامية ودماؤها باسم فلسطين وتحرير فلسطين ومع ذلك لم يتحقق شيء لأن الذين تولوا القيادات في الدول التي تدعي مناهضة اليهود، هم صنائع لليهود ولذلك ضربوا الإسلام
__________
(1) انظر مجلة الفكر الإسلامي العدد الثالث - السنة التاسعة - ربيع الثاني (1400هـ) ص25.
(2) انظر نافذة على الجحيم ص135 ملحمة شعرية عدد أبياتها (296) بيتًا من الشعر تحكي قصة التعذيب داخل السجن الحربي في مصر أيام عبد الناصر، وهي من شعر الدكتور/ يوسف القرضاوي.(2/910)
في بلادهم ومهدوا الطريق للتوسع اليهودي، وعندما شرد اليهود بعض اللاجئين من فلسطين كيف استقبلهم أهل البلاد المجاورة؟ لقد أنزل بهم أهل البلاد التي فروا إليها مذبحة عظيمة، لم يتلقوها داخل إسرائيل نفسها فصارت حالهم كحال القائل:
والمستجير بعمر عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
لقد أخرجهم الملك حسين من الأردن بعد أن قتل منهم حوالي ثلاثة آلاف نفس، ثم ذهبوا إلى لبنان فلحق بهم الطاغية النصيري فأحرقهم تحت مخيم تل الزعتر في الموقعة المشهورة والمعلومة لدى الجميع (1). ثم تحالف عليهم اليهود مع الصليبيين في لبنان بطريقة حرب الاستنزاف وتلك الحرب قائمة حتى كتابة هذه الرسالة.
ولكن الحقيقة التي يجب أن لا ننساها أن معظم الفلسطينيين وخاصة من يتزعمون مناهضة اليهود أهل لما أصابهم لأنهم أناس ابتعدوا عن منهج الله ووالوا أعداء الله في أول أمرهم وآخره ولذلك لم ينصرهم الله على أعدائهم، فهم رغم ضعفهم وهوانهم والتصاقهم بالتراب لم يتعظوا بما أصابهم ولم يرجعوا إلى ربهم، بل لقد وقف بعضهم موقف المؤيد للغزاة المجرمين الذين غزو أفغانستان ليضموا بذلك سقوط بلد آخر يضاف إلى فلسطين فقد صرح بمثل هذه التصريحات (ياسر عبد ربه) و (فاروق قدومي) من كبار الناطقين باسم منظمة التحرير الفلسطينية (2).
ولكن لا يعني هذا تبرير تخاذل المسلمين في قضية شعب مسلم هو الشعب الفلسطيني الذي فيه الصالحون والطالحون، فيجب أن يكون الولاء والمودة لأهل الخير والصلاح من أهل فلسطين وأن نضع أيدينا في أيديهم لتحرير القدس وبقية أرض الإسلام من اليهود وأذناب اليهود في فلسطين وما حولها.
__________
(1) انظر ص542 من هذه الرسالة.
(2) انظر البلاغ العدد (526) في 9/ 3/1400 هـ ص19.(2/911)
ثانيًا: أفغانستان:
إن شعب أفغانستان كما هو معلوم شعب مسلم عريق في الإسلام شديد التمسك به، وبعد أن بدأت الشيوعية تترنح للسقوط في الاتحاد السوفيتي وفي بولندا، وبسبب نقص المواد الغذائية وفشل المزارع والمعامل الجماعية التي تسيطر عليها الدولة، وعادت كل من تركيا وإيران إلى محاولة التشبث بالإسلام، أحس أعداء الله بالخطر الذي يكاد يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، فعمد السوفييت إلى الهجوم على أفغانستان، كما عمد الصليبيون إلى قلب نظام الحكم في تركيا وإشعال فتيل الحرب بين العراق وإيران، وما إن دخلت جيوش الروس إلى أفغانستان بواسطة بعض العملاء والخونة حتى هب الشعب الأفغاني المسلم وأعلن الجهاد ضد الغزاة، وقد وصل هذا الشعب بتضحياته حدًا يؤكد عظمة الإسلام واستعلاء أهل الإيمان في كل زمان ومكان.
فهم رغم أنهم لم يتلقوا أي دعم جدي ممن كان يجب عليهم ذلك إلا أنهم لم يستذلوا ويستكينوا للأعداء فقد باعوا مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ليشتروا بها الطلقات النارية، والقنابل الصغيرة والبنادق من تجار السلاح الذين يبيعونها عليهم بأغلى الأثمان، ولقد وصل الأمر إلى أن باعت نساؤهم حليها لشراء السلاح، واقتصروا في قوتهم على الخبز الجاف (1) كل ذلك حفاظًا على دينهم وإسلامهم وجرحاهم لا يتلقون أي شكل من أشكال العناية الصحية والطبية إلا على نطاق محدود في باكستان، ومع ذلك كله فما وهنوا وما ضعفوا لما أصابهم في سبيل الله.
أما عن موقف بقية المسلمين من أفغانستان فقد ذكرنا موقف بعض أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية من غزو أفغانستان وتأييدهم ذلك وكذلك
__________
(1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (476) السنة الحادية عشرة ق29/ 5/400هـ ص20.(2/912)
وقفت كل من حكومة سوريا النصيرية وحكومة عدن وليبيا والجزائر موقف المؤيد للعميل بابراك كارمل العميل الشيوعي للسوفيت ضد المسلمين وهذا الموقف غير غريب على تلك الدول لأنها لا تمثل الإسلام ولا تمثل شعوبها المسلمة تمثيلاً صحيحًا.
وبعض الدول المنتسبة إلى الإسلام التزمت جانب الصمت حيال هذا الموضوع وتناست هذا الشعب وتجاهلت تلك المأساة وكأن شيئًا من ذلك لم يحدث.
وقد قال عبد الرب سياف المتحدث الرسمي باسم المجاهدين الأفغان «إن المجاهدين لم يستلموا فلسًا واحدًا أو درهمًا واحدًا من الحكومات ولم يستلموا رصاصة واحدة منهم ... وحتى على المستوى الإعلامي فهناك إهمال وعدم مبالاة بالقضية الأفغانية إلا فيما يخدم المعسكر الغربي المعادي للشيوعية. وقد زار عبد رب الرسول سياف كلاً من الكويت ودولة الإمارات العربية بعد عقد مؤتمر الطائف بهدف جمع بعض المساعدات للمجاهدين فلم يؤبه له ولم يحظ بأي استقبال أو ترحيب رسمي أو إعلامي، مما جعله يكتب كتابًا بيده إلى حاكم الإمارات قال فيه: لو أنني كنت على رأس وفد رياضي أو غنائي لكانت حفاوتكم بي تبلغ مداها» (1).
وقد علقت المجتمع بقولها: كيف تستقبل الكويت قائدًا يمثل جهادًا هزم أقوى دولة في العالم وزعيمًا يمثل شعبًا مجاهدًا وعالمًا من أوعى علماء الإسلام في أفغانستان بمثل هذا التهاون واللامبالاة؟ بينما ترتعد فرائض هذه الدولة نفسها إكرامًا وحفاوة لشاعر الإباحية الجنسية نزار قباني الذي زار الكويت بعد زيارة ذلك المجاهد العملاق (2).
__________
(1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (550) السنة الحادية عشرة في 13/ 1/1402هـ ص7.
(2) المصدر السابق المكان نفسه.(2/913)
ما عذرنا أمام الله عز وجل؟ ثم أمام إخواننا الذين يجاهدون عدوًا شرسًا يستهدف الإسلام والمسلمين ليس في أفغانستان وحدها وإنما في كل الرقعة الإسلامية، ومع ذلك نبخل عليهم بقليل من المال والتقدير في حين أن أموال المسلمين يستثمرها أعداء الإسلام من يهود وصليبيين ووثنيين أفلا نكون بعملنا هذا نخذل أنفسنا وإخواننا الذين هم خط الدفاع الأول عنا وعن إسلامنا،؟ فهل يكون أهل الشيوعية أشد موالاة ونصرة منا نحن المسلمين؟.
ثالثًا: الفلبين:
تقع الفلبين على بعد حوالي (805) ميلاً من ساحل جنوب شرق آسيا وتتكون من سبعة آلاف ومائة جزيرة أكبرها جزيرة (لوزون) في المنطقة الجنوبية وعدد سكانها ستة وأربعون مليونًا وأربعمائة ألف منهم عشرون في المائة من المسلمين وقد دخل الإسلام إليها في أوائل القرن الحادي عشر الهجري السادس عشر للميلاد، وبعد أن استقلت الفلبين اسميًا عام 1946م وضمت إليها الإمارات الإسلامية أراد أعداء الإسلام القضاء على الإسلام فيها على ثلاث مراحل:
1 - المرحلة الأولى: هي محاولة تحويل المسلمين إلى نصارى عن طريق التكفير والتضليل بإدخالهم في الديانة النصرانية.
2 - المرحلة الثانية: هي محاولة إفساد المجتمع الإسلامي ونشر جميع عوامل الفساد والإفساد في هذا المجتمع.
3 - المرحلة الثالثة: هي حملات الإبادة التي تشنها الحكومة ضد المسلمين.
إن المسلمين في جنوب الفلبين يتعرضون لأبشع أنواع الظلم والطغيان بل إنهم يتعرضون لحرب الإبادة المستمرة، فالحكومة الفلبينية العميلة للاستعمار والأداة المنفذة لخططه في جنوب شرق آسيا تقوم باستمرار(2/914)
بعمليات التقتيل الجماعي والمذابح المروعة ضد المسلمين الأبرياء حتى وصل بها الأمر إلى تدمير قرى المسلمين وإحراقها بمن فيها وضرب تجمعات المسلمين في المساجد والمدارس وإتلاف محاصيلهم الزراعية والحيوانية.
ولذلك فإن من الواجب على المسلمين في كل مكان، الوقوف مع إخوانهم المسلمين في الفلبين، وأن يقدموا لهم كل ما يمكن من الدعم المادي والمعنوي لإنقاذ الإسلام والمسلمين في تلك البقعة.
ولكن للأسف فإن المسلمين في الفلبين لا يتلقون الدعم المادي والمعنوي سواء على مستوى الشعوب أو على مستوى الحكومات إلا من نزر يسير جدًا الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على تحقيق الدفاع المطلوب عن أنفسهم، ضد قوات ماركوس الصليبي الذي يدعمه اليهود والصليبيون دعمًا قويًا، وبعض الدول الإسلامية تمتلك وسيلة ضغط مناسبة على ماركوس وهي عدم بيعه البترول الذي يتدفق من أراضي المسلمين ليكون وقودًا للطائرات والدبابات التي تطارد المسلمين وتقتلهم فإن الشرع يحرم التعاون معه في المجالات المختلفة ما دام يحارب أهل الإسلام. قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1).
رابعًا: سوريا:
إن سوريا المسلمة تعيش مأساة عظيمة على يد السفاحين النصيريين لم يلاقيها أي بلد إسلامي في أعتى عصور الاستعمار وقد أشرنا فيما سبق (2) إلى نماذج من حربهم للإسلام والمسلمين ومع ذلك وللأسف
__________
(1) سورة الممتحنة آية (9).
(2) انظر ص542 - 549 من هذه الرسالة.(2/915)
الشديد تجد الدول التي تنتمي إلى الإسلام تتعامل معهم بشكل عادي كأنهم لم يرتكبوا إثمًا ولم يقترفوا ذنبًا وكأن المسلمين والمسلمات الذين يذبحون صباح مساء قطيعًا من الماشية لا يهتم بهم ولا يؤبه لهم.
مال هذا العالم العجيب؟ قد تبلد إحساسه وانقطعت الشفقة والرحمة من فؤاده كيف تحصل فيه أعتى المآسي وأدمى المجازر ولا يستطيع أحد أن يرفع صوته منكرًا للظلم على الظالمين؟ ماذا نقول للتاريخ وللأجيال القادمة؟ حينما يعلمون أن فظائع دامية وجرائم عاتية كانت ترتكب بحق شعب مسلم مؤمن وله مئات الملايين من إخوانه يتفرجون عليه وهو يداس تحت الأقدام.
ماذا نقول لربنا الذي أمرنا بالتعاون مع إخواننا في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (1)؟. أنقول: إننا كنا لاهين بأموالنا وشهوتنا، ننفق آلاف الملايين على الأمور التافهة، والقضايا الهزيلة وإخواننا في كل مكان بحاجة إلى كل درهم لطعام يسدون به رمق الجوع أو لثوب يسترون به العورات المكشوفة، أو لبيت وسكن بدل الخيام والعراء، أو لطلقة في نحر عدو كافر يستهدف الإسلام وكل المسلمين؟.
أم نقول: إننا خشينا اغتصاب أولئك القوم لئلا يكشفوا عُوَرَانا ... «ومن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجر». إن جرائم أولئك العصابة القذرة يعجز الوصف والبيان عن تصويرها وبيانها، ويقف المرء في خجل وانكسار حين ينتسب إلى أمة بمثل هذا العدد ومع ذلك يفعل بأبنائها مثل ذلك الفعل المشين.
صديق ليس ينفع يوم بؤس ... قريب من عدو في القياس
تنكرت البلاد ومن عليها ... كأن أناسها ليسوا بناس (2)
__________
(1) سورة المائدة آية (2).
(2) ديوان الإمام الشافعي ص50.(2/916)
خامسًا: المسلمون في كمبوديا:
يروي الأستاذ الدكتور/ علي جريشة عن أحد التلاميذ الفارين من الشيوعية في كمبوديا، أنه كان في كمبوديا مليونان من المسلمين وسط سبعة ملايين من الوثنيين وحدث الانقلاب الشيوعي عام (1973م) فماذا فعل الشيوعيون بالمسلمين؟
يقول: لقد قتلت الشيوعية ثلثي عدد المسلمين ولم يبق من المسلمين إلا بضعة آلاف لاجئين في خيام وفي صحراء تايلند يعانون الفقر والجوع والعري والحرمان، ويعانون ما هو أشد من ذلك حيث تعرض عليهم تايلند أن يقبلوا (التنصير) ويصبحوا نصارى حتى يعطوا من المساعدات التي تأتي من الجهات الصليبية، وإما أن يعودوا إلى كمبوديا الشيوعية ليلحقوا بمن سبقهم من إخوانهم الذين دفنوا تحت الأرض بعمق عشرة أمتار.
وعن طريقة إبادة المسلمين في تايلند أفاد بأنهم يكلفون عددًا من الرجال بحفر حفرة عمقها عشرة أمتار وعرضها خمسون مترًا، ثم يلقون بالناس فيها وهم أحياء وتأتي الجرافات وتهيل عليهم التراب وأما الأطفال فلهم طريقة أخرى وهي أنهم يضعونهم في أكياس من النايلون المقوي، ثم يوثقون رباطها ويربطونهم في جذوع الشجر ويتركونهم يتقلبون داخلها حتى يختنقوا داخل الأكياس وهكذا قضوا على حوالي مليون وسبعمائة ألف (1). اهـ. وللمسلم أن يتساءل أين الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان؟
أم أنهم لا يهتمون إلا بالإنسان الصليبي أو اليهودي أو الشيوعي أو الوثني أما المسلم فلا قيمة له في نظر أولئك، ولا بواكي له من أدعياء الإسلام.
أين المسلمون؟ أين أمة تعد اليوم ألف مليون مسلم؟
__________
(1) انظر المجتمع عدد 477 السنة الحادية عشرة في 7/ 6/1400هـ ص31.(2/917)
أين أمة تمتلك أهم الموارد الاقتصادية في العالم؟ ومع ذلك تنتهك حرمتها وتستباح كرامتها، ويستهين بها أعداؤها.
سادسًا: بورما:
إن المسلمين في أراكان من (بورما) قد لقوا الكثير من الظلم والإرهاب وحرب الاستئصال فقد قتل البوذيون مئة ألف مسلم واختطفوا خمسة آلاف من النساء وفعلوا الفاحشة بما لا يقل عن خمسمائة مسلمة أمام أزواجهن وأبنائهن وإخوانهن وقد فر حوالي (200) مئتي ألف مسلم إلى الصحراء، وغدت قرى المسلمين خرابًا بلقعا، واجتاز حوالي (15) ألف من هؤلاء نهر (نان) بحثًا عن مأوى في بنجلادش (1).
وهكذا نرى هؤلاء المسلمين البؤساء كغيرهم دون مأوى أو عناية أو رعاية من إخوانهم المسلمين في كل مكان.
سابعًا: المسلمون في الهند:
يضطهد المسلمون في الهند تحت الحكم الوثني اضطهادًا مريرًا. فمنذ عام (1946م) - إلى عام (1979م) وقعت تسعة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون مجزرة ضد المسلمين (2).
ذهب ضحيتها عشرات الملايين من المسلمين ما بين قتيل وجريح ومشرد، وفي عام (1400هـ) أطلق عباد البقر مجموعة من الخنازير على المسلمين وهم في مصلى العيد، للسخرية واستهزاء بالمسلمين ثم أعقبوا
__________
(1) المصدر السابق عدد (516) السنة الحادية عشرة في 12/ 4/1401هـ ص33 - 35.
(2) انظر إحصائية في مجلة (سوريا انديا) الهندية الشهرية عدد يونيو عام (1979م) وانظر ترجمة ذلك في المجتمع عدد (525) في 16/ 6/1401هـ ص10.(2/918)
ذلك بهجوم على المسلمين ذهب ضحيته خمسمائة من المسلمين عدا الجرحى والمفقودين (1).
وفي أثناء انفصال باكستان عن الهند قضى الهنود الوثنيون على قرابة خمسة ملايين مسلم أثناء هجرتهم من الهند إلى باكستان (2).
وعندما أراد مجيب - الشيطان - زعيم البنغاليين فصل باكستان الشرقية عن باكستان الغربية وقف الهنود الوثنيون مع هذا العميل وخاضوا المعركة ضد باكستان وألحقوا بها هزيمة منكرة حتى تم لهم ما أرادوا من فصل باكستان الشرقية ببنغلاديش حاليًا - عن باكستان الغربية.
ومع كل هذه الجرائم والمآسي ترتبط معظم الدول المحسوبة على الإسلام بعلاقات ودية وتعاونية مع تلك الدولة الوثنية، وتقدم لها عامة الدول في العالم الإسلامي المساعدات الاقتصادية والتأييد السياسي بلا حدود في الوقت الذي تحارب فيه حكومة الهند المسلمين في داخل الهند وخارجها.
ففي داخل الهند تقوم هذه الحكومة الوطنية باضطهاد المسلمين وتحرمهم حتى من أبسط حقوقهم السياسية والاجتماعية، رغم تشدقها بالديمقراطية، ولكنها على كل حال مثل الديمقراطية العربية، لأنها شعار بلا محتوى، واسم بلا مسمى، كما هو شأن الديمقراطية العربية في مفهوم القادة العرب.
وفي خارج الهند تقف الحكومة الهندية موقف الصديق المخلص مع دولة اليهود في فلسطين، وقد نشرت جريدة السياسة الكويتية بعددها الصادر في 28/ 8/1980م عن صفقة سرية بين الهند وإسرائيل تقوم الهند بتزويد
__________
(1) انظر مجلة الاعتصام العددان الثامن والتاسع السنة الرابعة والأربعون شعبان ورمضان 1401، ص17.
(2) انظر العلاقات الدولية في الإسلام. د/ كامل سلامة الدفس صفحة 162 - 163.(2/919)
إسرائيل بقطع غيار الدبابات الإسرائيلية. فإذا كان هذا ما تفعله حكومة الهند الوثنية بالمسلمين في الهند وبالمسلمين خارج الهند، فماذا قدمت الدول المحسوبة على الإسلام لمسلمي الهند؟ بماذا عاقبت الدول المحسوبة على الإسلام حكومة الهند في تعاملها مع اليهود؟ أليس الجواب لا شيء في كلا الحالين؟ وهذا يعني أن لا موالاة ولا معاداة في الله، من قبل حكام البلاد الإسلامية، فهل هان علينا ديننا وإخواننا في الهند؟ أم هانت علينا فلسطين والمسجد الأقصى؟ حتى ننسى أعداءنا ومن يقف مع أعدائنا من أهل الأوثان. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثامنًا: جزر القمر:
هي مجموعة من الجزر يقدر عدد سكانها بحوالي ثمانمائة ألف نسمة وقد استقلت اسميًا عام (1975م) وبعد ذلك تسمت بجمهورية جزر القمر الإسلامية، وهو اسم بلا مسمى وإنما قصد بذلك خديعة المسلمين في الخارج واستغلال سذاجتهم في أخذ القروض والمنافع الاقتصادية منها أما في الداخل فكل شيء يسير مناقضًا للإسلام ورغبات المسلمين، فقد استقدم رئيس النظام في هذه الجزر سبعة آلاف من المرتزقة الفرنسيين لحماية نظامه وتأييده في ضرب الشعب المسلم في الداخل حتى لقد كافأ الرئيس حراسه الفرنسيين بالزواج الأسمى من بنات المسلمين (1)، الأمر الذي لم يجرؤ عليه أحد من قبل في أن يجعل ولاية للكافر على المسلمة وهو أمر مجمع على تحريمه بين كل المسلمين كما تقدم (2).
وهذه الجمهورية التي تتسمى بالإسلام تلزم الناس بالعمل وقت صلاة الجمعة وتعطل يوم الأحد، ومع ذلك يستقبل ممثلوها في البلاد الإسلامية
__________
(1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (480) السنة الحادية عشرة في 28/ 6/1400هـ ص21 - 22.
(2) انظر ص712 - 714 من هذه الرسالة.(2/920)
كأعز الأصدقاء وخير الأوفياء فهل هان علينا أمر ديننا إلى هذا الحد حتى نستقبل المحاربين له أعز من استقبال المؤمنين؟، اللهم رحمتك يا رب.
تاسعًا: المسلمون اليونانيون:
إن حكومة اليونان الصليبية تفتك بمسلمي تراقيا الذين يبلغ عددهم (170) ألف مسلم يوناني وقد تنازلت تركيا عن هذا الجزء حين توقيع معاهدة (لوزان) وقد بدأت السلطات اليونانية بتطبيق سياسة التجنيس القائمة على إذابة المسلمين في بوتقة الصليبية وعلى طرح حجج مفادها بأن المسلمين الموجودين في اليونان هم من أصل نصراني وعليهم أن يرجعوا إلى أصلهم ونسبهم المتصل بإسكندر المقدوني، وقد عملوا على غسل أدمغة الأطفال والمراهقين بدعايات مسموعة تفرض عليه تلقي التعاليم النصرانية المتعارضة مع الإسلام، ولم تكتف السلطات اليوناية بذلك بل منعت إطلاق الأسماء الإسلامية على المواليد مثل أحمد، ومحمد وحسين وعلي وعمر ونحو ذلك (1).
وقد بدأت السلطات باعتقال الأئمة والعلماء ومنع تدريس القرآن في المساجد، وقد منعت الحكومة مسلمي تراقيا من تملك العقارات رغم قدمهم في التاريخ وحاولت الضغط والإكراه والضرب بغية إجبار المسلمين على بيع مساكنهم ومزارعهم لقصد إضعافهم وطردهم من بلادهم، وحتى موتى المسلمين لم يسلموا من الأذى فقد اجتاحوا مقابر المسلمين واعتدوا على حرمتها وتناسوا أبسط القواعد الأخلاقية في ذلك، علمًا بأن مقابر النصارى في اسطنبول في تركيا تحفظ وتصان وتحاط بأسوار وحدائق غناء كل ذلك دليل على أخلاقية المسلمين العالية في حين أن الأعداء لا يحترمون للمسلمين أي شعور (2).
__________
(1) انظر مجلة المجتمع عدد 478 السنة الحادية عشرة في 14/ 6/1400هـ ص30 - 32.
(2) انظر مجلة المجتمع عدد 478 السنة الحادية عشرة في 14/ 6/1400هـ ص30 - 32.(2/921)
إن الصمت والسكوت الرهيب لما يتعرض له المسلمون في تراقيا وعدم الإصغاء لإغاثتهم، أو التفكير في نجدتهم لهو مما يمزق القلوب ويلصق العار بالمسلمين والعالم أجمع.
عاشرًا: المسلمون في تونس:
تفيد الأنباء الواردة من تونس أن خلافًا جرى بين (محمد الصياح) أمين الحزب الحاكم، وبين رئيس مجلس الوزراء (الهادي نويرة) حيث يطلب الأول أن تكون الحملة ضد الإسلام على الطريقة السوفياتية بينما يطلب الثاني أن تكون الحملة على الطريقة الأمريكية وهي عملية القتل البطئ (1).
وسواء كانت الطريقة الأولى أو الثانية هي المتبعة في حرب الإسلام في تونس فإن المستفيد من ذلك هم الأعداء، وحتى الحكومة التونسية وإن حققت بعض المصالح العاجلة فإنها في النهاية لن تحصد سوى الدمار لها ولشعبها.
فلقد سفك عبد الناصر دم الآلاف من الشباب المؤمن وسجن الكثير واستخدم أكثر من أسلوب، فما الذي جناه عبد الناصر لنفسه ولشعبه؟.
وشاه إيران الذي أستذل شعبه، ومثل به أشد أنواع التمثيل، وسرق خيراته وتركه يئن ألمًا وفقرًا، فماذا حل بعد ذلك بالشاه؟ لقد ذهب كل من عبد الناصر وشاه إيران والسادات ليلقى كل منهم جزاءه العادل عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور الذي قال: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (2).
إن واجب الشعوب الإسلامية والحكومات الحقة أن لا تمنح ودها ونصرتها وتعاطفها لأولئك الأنذال الذين يريدون ربط المسلمين بأذناب الشرق أو الغرب، وأن تعرف حقيقة من تتعامل معهم وأن لا تعطي ولاءها
__________
(1) انظر المجتمع عدد (468) السنة العاشرة في 18/ 3/1400هـ ص16 - 17.
(2) سورة السجدة آية (22).(2/922)
إلا لمن يستحق ذلك الولاء، ولكن أين من يفهم ذلك ويطبقه؟ لقد حصل في تونس ما لم يحصل في تاريخ الدول الإسلامية قط. فقد دخل الحزب الشيوعي الانتخابات كحزب معترف به من قبل الدولة ومن قبل المرتدين عن الإسلام من الشعب وكذلك دخل الاشتراكيون الذين هم فصيلة من فصائل الشيوعية وحصلوا على نسبة 4.16% (1).
بينما وصف (مزالي) حركة الاتجاه الإسلامي بأنهم أقلية، وقبيل الانتخابات تم اعتقال أربعين عضوًا من أنصار الحركة الإسلامية واودعوا في غياهب السجون بدون ذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله (2). ولم تسجل لهم دوائر الانتخابات أي نسبة ولو 99.1% (3).
فقل لي بربك هل هذه دولة إسلامية؟ أم هل هذا شعب مسلم؟ يصوت فيه لصالح الماسونيين والشيوعيين والاشتراكيين، ويسدل الستار فيه على حزب الله وأهله، كأن لم يكن للإسلام والمسلمين وجود في هذه البقعة من العالم فإلى الله المشتكي، وهو وحده المرتجى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والمغرب مثل تونس ومثل بقية البلاد الإسلامية، ففي المغرب يعتقل مجموعة من الشباب المسلم منذ خمس سنوات بدون محاكمة بتهمة قتل أحد الدعاة إلى الشيوعية الماركسية (4).
فيا ترى لو كان المقتول مسلمًا بأيدي الشيوعيين هل يعتقل الشيوعيون مثل هذه المدة؟ وهل يعاملون بمثل ما يعامل به المسلمون داخل السجون من قتل وإهانة وتعذيب؟ أم أن الوضع يختلف بالنسبة لغير المسلمين؟.
__________
(1) انظر مجلة اليمامة عدد (676) في 24/ 1/1402هـ ص36 - 37.
(2) انظر المجتمع عدد (538) في 11/ 10/1401هـ ص18 - 25.
(3) انظر مجلة اليمامة عدد (676) في 24/ 1/1402هـ ص36 - 37.
(4) انظر المجتمع عدد (481) السنة الحادية عشرة في 5/ 7/1400هـ ص3 وص16 - 18.(2/923)
وفي رسالة بعثتها مجموعة من الطالبات المسلمات المغربيات من مدينة طنجة من إحدى الثانويات ذكرن فيها أن مدير هذه المدرسة جمع الفتيات المحجبات وقال لهن: ارمين هذا الحجاب وإلا رميت بكن في الشارع وتلفظ بألفاظ بذيئة فاسقة، وتقول إحداهن لماذا ينصح المدير - المفضل - ويطالب برمي الحجاب في الوقت الذي يشجع فيه الطالبات اللاتي يتعاطين الحشيش والأفيون والخمر، ويقضين الليل كله مع الأجانب، وهذا يحصل بعلم المدير ومساعدته أحيانًا؟ (1). اهـ.
فانظر كيف يحافظ الحكام على الخارجين على الإسلام وعلى حقوق الشيوعيين والنصارى بينما حقوق المسلمين مهدرة في كل مكان.
إن حكم الشرع يقتضي من كل دولة مسلمة أن تقتل كل مرتد عن الإسلام سواء كان شيوعيًا أو بعثيًا أو اشتراكيًا أو ماسونيًا أو غير هؤلاء من دعاة الإلحاد والفساد في الأرض.
وواجب الشعوب الإسلامية أن لا ترضى عن وجود هؤلاء بينها، وعلى قمة السلطة في بلادها، فكيف وهؤلاء يقومون بإذلال المسلمين من أجل عيون الكفار ونيل رضاهم؟ فهل هؤلاء الذين يحاربون المسلمين ويحمون المرتدين من شيوعيين وبعثيين، هل هم من الإسلام في شيء والله عز وجل يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)؟ (2).
الحادي عشر: موزمبيق:
إن بلاد موزمبيق ما تزال تحمل اسم القائد المسلم (موسى بن بيق) يسكن فيها ما يزيد عن أربعة ملايين من المسلمين يشكلون أكثر من 40% من مجموع السكان، وقد أعلن رئيسها (سامورا) عداءه للدين حتى قال «أنا
__________
(1) انظر مجلة المسلمون عدد (7) في 15/ 2/1402هـ ص7.
(2) سورة المائدة آية (51).(2/924)
أتوقع الزمان الذي يصبح فيه الدين ليس إلا أحداثًا من الماضي ليست لها قيمة في تاريخ الحركة الشيوعية» (1).
وليس هناك من جديد في توقع كهذا من حاكم شيوعي ولكن الجديد في ذلك هو قوة الحملة العنيفة التي شنها ضد المسلمين والتي لم يتجرأ عليها النظامان الشيوعيان في أنغولا وأثيوبيا حيث لم يتجرأ على إبطال الأعياد الدينية في حين أن (سامورا) أعلن إلغاءها دون حرج، إن (ستالين موزمبيق) قد فرض الإلحاد على المسلمين في جميع المدارس وقد أصدر أمرًا بحظر استيراد نسخ القرآن الكريم أو تداولها في المكتبات، وقد أمر بوقف تدريس القرآن الكريم في المدارس والمساجد، وكذلك فإن طباعة الكتب الإسلامية أو استيرادها أمر محظور فقد وضع القيود الصارمة والغرامات الباهظة جدًا، ومنع إلقاء الخطب والمواعظ في المساجد والأماكن العامة إلا بعد الموافقة المسبقة من الدولة، وقد أصدر أمرًا بالتجنيد الإجباري للرجال والنساء على حد سواء وهذا غيض من فيض ولكن لو ألقينا نظرة على موقف الدول والشعوب التي تنتمي إلى الإسلام لوجدنا أنها تدعم نظام (سامورا ماتشل) بالمساعدات الاقتصادية والمواقف المعنوية وبعضها قد يرتبط معه بولاء نظرًا إلى انتمائهم إلى الشيوعية الماركسية، والبعض الآخر قد يجهل أو يتجاهل موقف ذلك المأجور العميل لأعداء الإسلام، إن المسلمين لا يتعاملون مع غيرهم من منطلق الإسلام ولذلك هانوا أمام أعدائهم، وأمام المسلمين الغيورين على الإسلام.
الثاني عشر: أوغندا:
لعل الناس في خضم الأحداث الخطيرة التي تجتاح العالم الإسلامي قد نسوا البلد الأفريقي الذي افترسه الصليبيون وذلك البلد هو (أوغندا) لقد زحفت القوات الصليبية على أوغندا تحت سمع العالم الإسلامي وبصره
__________
(1) انظر الأمان عدد 79 في السنة الثانية - رمضان (1400هـ) ص32.(2/925)
وهو واقف يتفرج حتى تحقق للصليبين ما أرادوا، وعند سيطرتهم على الأمور في أوغندا شنوا حرب إبادة على المسلمين، تمثلت في القتل والتعذيب ومصادرة الأموال وهدم المساجد (1). وأصبح كل من يعلن إسلامه مجرمًا وقد عمل الحكام الجدد على تحويل المسجد الجامع الكبير بالعاصمة إلى فندق أطلقوا عليه اسم (نيريري) الصليبي رئيس حكومة تنزانيا، وألغت الحكومة الجديدة بعد عيدي أمين العطلة في يوم الجمعة واستبدلت ذلك بيوم الأحد وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فإن الإسلام سيمحى كليًا من أوغندا إلا أن يشاء الله (2).
وليست هذه المشكلات التي ذكرناها هي كل مشكلات المسلمين اليوم في العالم الإسلامي وليس يحارب الإسلام في هذه البلدان وحدها بل إن هناك بلدانًا أهلها أكثر التصاقًا بالإسلام ومع ذلك يحارب الإسلام فيها بصور متعددة، فنحن كما يقول الشاعر:
إنى اتجهت إلى إسلام في بلد ... تجده كالطير مقصوصًا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها ... وبات يحكمنا شعب ملكناه (3)
ومن أقوى ما يصور واقع المسلمين قول الشاعر فيما يلي:
في كل أرض بلد موثق ... يعيش في القيد وفي كربه
قد عقه الخارج من صلبه ... وخانه النابت من تربه
قسوا عليه وهم أهله ... في محنة الدهر وفي خطبه
قد شاركوا الطاعم من لحمه ... وساعدوا الغاصب في غصبه
يرتزق الخائن من بيعه ... ويسعى مع الساعي إلى صلبه
__________
(1) انظر المصدر السابق المكان نفسه.
(2) انظر المجتمع عدد 479 السنة الحادية عشرة في 21/ 6/1400هـ ص13. وانظر البلاغ عدد (616) في يوم الأحد الموافق 18/ 1/1402هـ ص11.
(3) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ج2 ص65.(2/926)
ألسنة تهذي لتضليله ... وأنمل تمتد إلى سلبه (1)
وواقع المسلمين اليوم من الموالاة في الله والمعاداة فيه هو ما يصوره شاعر الدعوة في قوله ما يلي:
أيها القوم أعيروا سمعكم ... إنني أقذف نارًا لا كلامًا
ما أنا الشاكي ولكن أمة ... أصبحت تشكو كما يشكو اليتامى
تبصر الشر ولا تنكره ... وعن المعروف جنبًا تتحامى
وتداري كل دجال ولو ... بث في أبنائها الرأي الحراما
وترجى من أعاديها الهدى ... وتواليهم قضاء واحتكامًا
كم صفيق الوجه صفقنا له ... وسفيها قد جعلناه إمامًا
بحت الأصوات في تمجيده ... وهو للأعداء سهمًا وحساما
وشريف القصد شهرنا به ... وظلمناه اعتداء واتهاما (2)
وقد يسأل الإنسان نفسه سؤالاً لماذا يُحَارَبُ الإسلام بهذه القوة والوحشية حتى من بعض أدعياء الإسلام؟.
والجواب على ذلك هو أن أعداء الإسلام على اختلاف نزعاتهم وتعدد مذاهبهم قد اتفقوا على شيء واحد وهو حرب الإسلام ومقاومته، وذلك أن الدين الإسلامي يفسد عليهم خططهم ومآربهم الدنيئة التي لا تعيش إلا في ظل مجتمع ونظام جاهلي يتخذ من الأفراد آلهة من دون الله.
(أ) فالاستعمار:
يعلم علم اليقين أنه لا حياة له مع وجود الإسلام ... لأنه - أي الإسلام - يحتم على أتباعه أن يكونوا أعزة في ديارهم كرامًا في أوطانهم وهذا أمر لا يقره الاستعمار ولا يرضاه.
(ب) الطغاة والمتجبرون والمستعبدون:
واثقون كل الثقة بأن لا وجود لهم عند وجود الإسلام الحقيقي لأن
__________
(1) المصدر السابق ج1 ص34.
(2) المصدر السابق ج5 ص24 - 26.(2/927)
الإسلام أول ما يحارب الظلم والطغيان والاستبداد والبطش والجبروت والتعدي على الناس بغير حق.
(ج) الإباحيون ودعاة الانحلال والفساد والتهتك والرذيلة:
يعلمون كل العلم أن في قيام الإسلام موتًا لهم وتجفيفًا لمستنقعاتهم الآسنة حيث يدعو الإسلام إلى حياة شريفة كريمة نظيفة من كل دنس ورجس.
(د) دعاة الشيوعية والاشتراكية التي تحارب الظلم - كما يقول ببغاواتها:
يعلمون أن لا وجود لهم في بلد يسعى لتطبيق الإسلام الحق لأن أول ما يهدف إليه الإسلام تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة المسلمة وإقامة العدل في الأرض والمساواة في توزيع الثروة الجماعية ونشر المحبة والأخوة والسلام، والتكافل الاجتماعي هو بيت العنكبوت الذي يتمسك به دعاة الشيوعية والاشتراكية، فإذا لم يوجد المبرر لهم فكيف يحافظ هؤلاء على مغتصباتهم ومغتصبات أسيادهم في بلاد المسلمين فهم جميعًا كما يقول الشاعر:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم (1)
ومن هذا الاستعراض المتقدم لمآسي المسلمين ومصائبهم ودور المسلمين عامة والحكومات خاصة في موالاة المؤمنين المنكوبين على أيدي أعداء الإسلام من الشرق والغرب أو أيدي عملائهم المخلصين نجد الحقيقة المرة التي تقول «إن المسلمين قد عطلوا هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وقطعوا أوثق عرى الإيمان فلم يوالوا في الله من تجب موالاته ولم يعادوا في الله من تجب معاداته ولم يكتفوا بهذا الموقف المتبع من أهل الحق والباطل على حد سواء بل قد عكسوا الصورة رأسًا على عقب
__________
(1) الدرر السنية ج9 ص364.(2/928)
فحاربوا أولياء الله حربًا، لا هوادة فيها مستغلين كل الوسائل الممكنة في ذلك، وتولوا الكفار موالاة تامة بالقول والفعل والاعتقاد، وقد دأبوا على تحقيق هذا المفهوم الزائف والكفر البواح بكل قوة ووسيلة يمتلكونها لتحقيق هذا الغرض الذي هو مطلب من مطالب الكفار في القضاء على الإسلام والمسلمين».
ولكن أملنا بالله عز وجل كبير في أن يرد المسلمين إلى منهج الإسلام فيوالوا أولياء الله ويعادوا أعداءه وما ذلك على الله بعزيز.(2/929)
الخاتمة
لقد اتضح لي مما أجملناه في نتائج ما سبق من مباحث هذه الرسالة أن «الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية» ترتكز على أساس ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكلاهما وحي من الله تعالى: الأول باللفظ والمعنى والثاني بالمعنى دون اللفظ.
وقد طُبقَ هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام في صدر هذه الأمة عندما كانت هذه الأمة جادة في إسلامها مخلصة في انتمائها للإسلام والمسلمين.
لقد كان المسلمون في الصدر الأول كالجسد الواحد في آلامهم وآمالهم، عندهم كانت شجرة الإيمان باسقة الأغصان ندية الأوراق مزهرة مثمرة، تستقي من النبع الصافي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث قد تخبثت النفوس بانصرافها إلى التزود من المصادر الكدرة، والمستنقعات العكرة الآسنة، فجفت الأوراق وذبلت الأغصان وتداعى كيان الأمة الإسلامية، وكان أول شرخ أصاب الأمة في مقتلها هو(2/931)
إضعاف روح الموالاة والمعاداة بين المسلمين أو الانحراف بالولاء والعداء عما يجب أن يكونا فيه، إلى ما لا يصح أن يكونا فيه، وقد ابتدأ الصدع مع بداية مكائد ابن سبأ اليهودي وبدأ يتسع حتى عصرنا الحاضر حيث لا يزال المسلمون يكتوون بنار التفرقة وتعدد الولاءات، وقلة المبالاة بقضايا الإسلام والمسلمين.
لقد كان الدافع لي وراء هذا البحث هو معرفة منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، فتبين لي من خلال دراستي لهذا الموضوع في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفعل الصحابة (رضي الله عنهم) وسلف هذه الأمة وعلمائها الأعلام في مختلف العصور وأغلب الأماكن. أن الحب في الله والبغض في الله، وما يتصل بهما من أعمال القلب والجوارح أصل عظيم من أصول الإسلام، لا يصح إسلام المرء إلا بهما كما قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (1).
وقد أكد البحث حقيقة الوحدة الإسلامية وأن المسلمين كانوا ويجب أن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وذلك من خلال صور الموالاة والمعاداة التي طبقها المسلمون تطبيقًا واقعيًا في عصور مختلفة وأماكن متباينة.
وقد كان يؤرقني ما يصيب المسلمين من مصائب ودواهي عظام تستقبل من حكام المسلمين وشعوبهم بعدم الاكتراث واللامبالاة وكنت أعتقد أن هؤلاء الذين يقفون من الإسلام وقضاياه موقف المتفرج، أو يلوذون بالصمت الرهيب في صراع الحق مع الباطل، أنهم على خطأ جسيم وإثم عظيم، وقد صح ما توقعته، فقد أدى بي البحث إلى نتائج مهمة في هذا الشأن كما يلي:
__________
(1) سورة النحل آية (36).(2/932)
أولاً: أن من لم يحب الإسلام وأهله ولم يبغضهم، فهو ناقص الإيمان والتوحيد إن كان مسلمًا، وهذا النقص قد يؤدي به إلى الشرك، إن لم يكن هناك ملابسات أو قرائن تصرفه عن ذلك (1).
ثانيًا: أن من لم ينكر الشرك ويعادي أهله فليس بمؤمن ولو عبد الله ووحده، لأن من صحة التوحيد الكفر بالطاغوت وأهله، والكفر بالطاغوت يعني العداوة للشرك وأهله (2).
ثالثًا: أن من يكره الإسلام ويكره من ينضم إلى جماعة المسلمين فهو كافر وإن ادعى الإسلام وعمل به (3).
رابعًا: أن من يدعو إلى مبادئ الكفر، أو يسعى في مناصرة الكفار وتأييدهم، ويحب من دخل في هذا الأمر، ويكره من خالف ذلك فهو كافر وإن زعم أنه مسلم وأن عمله هذا لا يتعارض مع الإسلام (4).
وللأسف الشديد فإن كل هذه الأصناف الأربعة لها وجود كبير بين المسلمين اليوم، وهو وجود مخالف لأصل الإسلام ولما يجب أن يكون عليه المسلمون.
إن الكفار اليوم لا يمكن مقارنتهم مع المسلمين المعاصرين في مجال الموالاة والمعاداة، حيث إن الكفار يتمسكون بهذا الأمر بكل قوة وحزم بينما المسلمون لا يبالون بهذا الأمر ولا يفكرون فيه مجرد التفكير، والدليل على ذلك نسوق حادثتين إحداهما عند الكفار والأخرى عند المسلمين ثم ننظر إلى حجم الحادثتين وردود الفعل من قبل الكفار، ومن قبل المسلمين
__________
(1) انظر صفحة 158 - 159 من هذه الرسالة.
(2) انظر صفحة 159 - 161 من هذه الرسالة.
(3) انظر صفحة 161 - 162 من هذه الرسالة.
(4) انظر صفحة 162 من هذه الرسالة.(2/933)
ليتبين لنا كيف يهتم الكفار بعضهم ببعض؟ وكيف لا يبالي المسلمون بعضهم ببعض؟ مهما ادلهم الخطب وعظمت المصيبة.
نسوق الحادثة الأولى في حق الكفار، فقد اعتدى رجال الشرطة في بولندا بالضرب على ثلاثة من العمال أعضاء في منظمة التضامن العمالية فكان رد الفعل على هذا الاعتداء أن أضرب عن العمل من الغد عشرة ملايين عامل احتجاجًا على ضرب ثلاثة منهم (1).
فانظر كيف تكون الموالاة والمناصرة بينهم!
أما الحادثة الثانية: فنسوقها في حق المسلمين المعاصرين فقد بلغ عدد الذين استشهدوا في أفغانستان منذ التدخل السوفيتي حتى 27 كانون الأول - ديسمبر (1981م) - نهاية السنة الثانية للاحتلال (800) ثمانمائة ألف شهيد عدا اللاجئين والمشردين من الأيتام والنساء الأرامل والعجزة الذين يبلغ عددهم مليونين وأربعمائة ألف نسمة (2).
ومع هذا كله يرسل بعض رؤساء الدول العربية إلى بريجينيف وبابراك كارمل رسائل تعبر عن خالص المودة والرضا والتقدير لهؤلاء السفاحين (3). وكأنهم لم يغتصبوا شبرًا ولم يقتلوا بريئًا.
أليس من الأليق بهؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ في نصرة الإسلام والمسلمين في أفغانستان أن يلتزموا الصمت عند عجزهم عن القيام بالواجب؟
تلك حالنا وحال أعدائنا في الموالاة والمعاداة
__________
(1) إذاعة المملكة العربية السعودية، النشرة الإخبارية صباح يوم الجمعة الساعة السابعة تاريخ 25/ 12/1401هـ.
(2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (550) السنة الحادية عشرة في 13/ 1/1402هـ ص23. وانظر مجلة البلاغ عدد (616) في 18/ 1/1402هـ ص18.
(3) انظر مجلة الإرشاد العدد (9) السنة الثالثة رمضان سنة (1401هـ) ص49. وانظر مجلة اليمامة عدد (675) السنة الثلاثون 17/ 1/1402هـ ص14.(2/934)
فقل لي بربك هل يوجد في العالم كله أرخص من دماء المسلمين ونفوسهم وحقوقهم؟
أليس جثث المسلمين تتناثر في أفغانستان وفي الفلبين وفي تايلند وفي الهند وفي سوريا وفي فلسطين ولبنان و ... و ... و ... ومع ذلك فلا عين تدمع ولا قلب يحزن، ولا يد تنفق، ولا لسان ينطق، فهل الإسلام والمسلمين على ما يرام؟
أيمة طالما ذلت لقاتلها ... حتى متى تخفضين الرأس للذنب؟
ألا ترين دماء الطهر قد سفكت ... في كل ناحية صوت المنتحب؟
حتى متى تقبلين الضيم خاشعة ... لكل باغ ومأفون ومغتصب؟ (1)
؟
إن هناك مؤامرة كبرى ضد الإسلام والمسلمين تنسج خيوطها في الخفاء في بعض الأقطار الإسلامية وتطبق بنودها في وضح النهار في البعض الآخر ولكن الحال كما يقول الشاعر:
ماذا أقول ومن سيفقه قولتي ... وإذا صرخت فمن سيسمع صرختي؟
أسفي على صف تمزق شمله ... وغدا مثالا قاتلا ... للفرقة
ثالوث شرك في العداء تعانقت ... أقطابه لتبيد دين العزة
كل العدى قد جندوا طاقاتهم ... ضد الهدى والنور، ضد الرفعة
والعرب سكرى في الصراع كأنما ... لم يعلموا أبدًا خيوط الفتنة (2)
وحتى الذين يتظاهرون بالإسلام في أغلب الأحيان لا يكون حظ الإسلام منهم سوى الخطب الرنانة والوعود الكاذبة.
__________
(1) انظر مجلة الأمة العدد الحادي عشر السنة الأولى ذي القعدة 1401هـ ص59 صرخة الأمة شعر عبد الغني أحمد التميمي.
(2) ديوان شعراء الدعوة الإسلامية ج3 ص80 - 81.(2/935)
يقول الشاعر:
والمدعون هوى الإسلام سيفهم ... مع الأعادي على أبنائه النجب
يخادعون به أو يتقون به ... وما له منهم رفد سوى الخطب (1)
إن نقطة البدء في أية حركة إسلامية صحيحة هي تعرية الواقع الجاهلي الذي تعيشه معظم البلاد الإسلامية وتجريد هذا الواقع من ردائه الزائف، وإظهاره على حقيقته وما يمثله من كفر وشرك وردة ونفاق ووصفه بالوصف الذي يمثل واقعه، حتى ينتبه الناس إلى حقيقة واقعهم وما انتهى إليه أمرهم في شأن الإسلام والمسلمين (2).
فيوالوا الدول والأفراد على حسب قربهم من الله ويعادونهم على حسب بعدهم عنه.
إن واجبنا ليس مجرد إقامة الحجة على الناس بالردة أو الكفر والعصيان، بل الواجب يقضي أن ندعو الأفراد والحكومات إلى التمسك بالصراط المستقيم بعد أن بينا الخطر المحدق بهم في الدنيا والآخرة، عند موالاتهم لأعداء الله ومعاداتهم لأولياء الله.
إن الموالاة في الإسلام هي التطبيق العملي لمفهوم الأخوة في الإيمان قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (3). وأخوة الإيمان ليست شعارًا مجردًا عن القول والفعل، بل إن الأخوة الحقة تقتضي التناصر والتعاون بين المسلمين لإحقاق الحق وإبطال الباطل ورد المعتدي وإجارة المهضوم، فلا يجوز شرعًا وعقلاً أن يترك المسلم أخاه يكافح وحده قوى الشر والعدوان والظلم والطغيان، وهو ينظر إليه نظر المتفرج الذي لا يعنيه الأمر، إنه لا بد من الوقوف مع المسلم على أي حال كان، فيجب على الأخ المسلم أن
__________
(1) المصدر السابق ج1 ص84.
(2) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م4 ج10 ص215.
(3) سورة الحجرات آية (10).(2/936)
يرشد أخاه إذا ضل ويمنعه إن تطاول، ويدافع عنه إذ هوجم، ويقاتل معه إذا اعتدي عليه واستبيح حماه، وذلك هو معنى التناصر الذي فرضه الله ومعنى الموالاة التي أرادها الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منع عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (1).
إن خذلان المسلم لأخيه شيء عظيم، وهو إن حدث ذريعة لخذلان المسلمين جميعًا حيث تنتشر عدوى الأنانية وحب الذات، وإيثار الراحة والمصلحة الخاصة على مشاركة الغير آلامهم وآمالهم، فيكثر التنصل من المسئولية بين المسلمين، حتى يقضي عليهم أعداؤهم واحدًا تلو الآخر فتموت فيهم خلال الآباء والشهامة ونجدة الملهوف، وإغاثة المنكوب وسوف يجنح المظلوم والضعيف إلى الأعداء طوعًا أو كرهًا، لما يقع به من ضيم وما يصيبه من خذلان من إخوانه ثم ينزوي بعيدًا عنهم، وتنقطع عرى الأخوة بينه وبين من خذلوه وأسلموه للأعداء.
إن كلاً منا يسمع ويرى ما أصاب المسلمين مما تنفطر له الأكباد ويقشعر لهوله الفؤاد، ومع ذلك لم نقدم شيئًا، كل منا يمضي في شأنه ويطلب ملذاته، وكأن الأمر لا يعنيه في قليل أو كثير.
إن هذا التخاذل قد جر على المسلمين الذلة والعار والخزي والصغار، وقد حارب الإسلام هذا الاتجاه الخطير حربًا شعواء ولعن من يقبعون في ظلال العزلة والأنانية والمصلحة الخاصة العاجلة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقفنّ أحدكم موقفًا يضرب فيه رجلاً ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» (2).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم - انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص246 رقم الحديث (226).
(2) رواه الطبراني - انظر حقوق الإنسان/ محمد الغزالي ص62.(2/937)
إنه يجب على المسلم إذا رأى إساءة نزلت بأخيه أو مهانة لحقت به أو وقعت عليه، أن يريه من نفسه الاستعداد لمناصرته ومظاهرته على ما أصابه، حتى ينال الحق الذي له ويرد وقوع الظلم عليه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزول الأقدام» (1).
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله (2) ولا يحقره ... » الحديث (3).
فمن ترك أخاه يجوع ويعرى ويقتل ويسجن ويمزق بين أيدي الظالمين، وهو قادر على إطعامه وكسوته ودفع أذى الظالمين عنه بطرق متعددة، فماذا يقول عند قدومه على ربه؟
أيقول: إني كنت عن هذا من الغافلين؟:
يأيها الناس إن الله يأمركم ... ألا تكونوا لأهل الظلم أعوانًا
يا يقوم لا تنصروا من ليس ينصره ... ولا تكونوا لمن عاداه إخوانًا
يلقى العدا طاعة منكم ومسكنة ... مهما أرادوا ويلقى الله عصيانا
إني أخاف عليكم حادثًا جللا ... لا تملكون له ردًا إذا حانا (4)
ولكن يجب أن يعلم كل مسلم أنه مهما بلغ مكر أعدائنا بنا ومهما أصابنا ومهما انقطعت أسباب الموالاة بيننا ومهما والى بعض المنتسبين منا أعداءنا، فإن ذلك كله لا يعفينا من مسئوليتنا أمام الله عز وجل، وأمام إخواننا الصامدين على طريق الإسلام، إن الظروف الصعبة المحيطة بنا من
__________
(1) رواه الأصبهاني - المصدر السابق المكان نفسه.
(2) قال العلماء الخذل ترك الإعانة والنصرة، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعي في تركه، انظر صحيح مسلم ج4 ص1986 رقم الحديث (2564).
(3) المصدر السابق المكان نفسه.
(4) شعراء الدعوة الإسلامية ج4 ص68 - 69.(2/938)
أعدائنا في الداخل والخارج لا يصح أن تكون المشجب الذي نعلق عليه قصورنا وتخاذلنا عن إخواننا.
إن مواجهة الظروف القاسية هي محك الإيمان ومقياس التوحيد قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (1).
وأريد أن أطمئن الذين يساورهم الشك واليأس في قدرة هذه الأمة على القيام بواجبها، بسب الصور القاتمة والمحزنة التي ذكرناها فيما سلف، أن هذا الوضع رغم بعده عن واقع الإسلام والمسلمين حيث الهوية ضائعة، والذاكرة مفقودة، والأرواح مسلوبة، والثروات منهوبة، والعقول معتقلة، حيث يتسلى الأعداء والعملاء بمناظر المؤمنين والدماء تنزف من أجسامهم الطاهرة، ويتصبر الذين لم يلحقوا بهم بالأمل والرجاء، نجد أن شجرة الإيمان قد سقتها دماء الشهداء، وشعلة الجهاد قد أذكى جذوتها أنين الجرحى، فخرجت من وسط هذه الليل البهيم فئة مؤمنة وطليعة مجاهدة قلبت موازين الأعداء ومخططاتهم رأسًا على عقب، فبعد أن كاد الأعداء أن يعلنوا ويستبشروا بموت هذه الأمة، واستسلامها لهم إذ بهم يفاجئون (2) بانبعاث الإيمان من مواضع الركام التي غمروها بتصورات الجاهلية وقوانينها منذ قرن من الزمان، فهذه تركيا تعود إلى الإسلام بعد أن حرمت منه ثلثي قرن من الزمن، وفي المغرب والجزائر وتونس وليبيا قوافل مؤمنة رغم أنف المستعمر وأذنابه، وفي مصر والسودان وسوريا وإيران والأردن والعراق وأندونيسيا وباكستان وغيرها من بلدان الإسلام قوافل مؤمنة رغم جهود الكفار والعملاء. وهذا الأمر ليس مستغربًا في حس المؤمن وشعوره لأن ذلك تصديق لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه من حديث طويل قوله:
__________
(1) سورة العنكبوت آية (2، 3).
(2) لأن الهمزة متوسطة مضمومة وبعدها حرف مد ويمكن وصل ما بعدها بما قبلها. انظر دليل الإملاء تأليف عامر سعيد ص68 مثل يلجئون.(2/939)
«ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» (1).
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة» (2).
فلم يسع أعداء الإسلام إلا أن يقفوا منكسي الرءوس على ما بذلوه وما أفنوه من مال وجهد وهم يشهدون أصالة هذا الدين وعدم قابليته للفناء وأصالة هذه القلة المؤمنة، في مواجهة الزيف والقهر والظلم والاستبداد ولقد أدرك هؤلاء الأعداء وأذنابهم أن الإسلام هو روح هذه الأمة، وأن أبناء القرآن وأتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن ينسخلوا من دينهم لأنهم يؤمنون بقول الله عز وجل: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (3).
وقبل أن أودع القارئ الكريم أريد أن أقول أنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها، من حب في الله وبغض في الله وموالاة في الله ومعاداة في الله.
يا إخوة الدرب نعم الدين آصرة ... للمؤمنين ونعم الحبل أقواه
تلك السبيل فلا تنسوا معالمها ... ولتحذروا أن تضلوا إثر من تاهوا
منها جنا (الدين) والتوحيد صبغته ... والعدل شرعته الكبرى ومبناه
__________
(1) رواه أبو داود في سننه ج4 ص98 (باب الفتن). ورواه ابن ماجه والترمذي. انظر تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص322.
(2) رواه أبو داود في سننه ج4 ص98 (باب الفتن).
(3) سورة الأعراف آية (128).(2/940)
كم حاول الكيد مسعورًا ليطمسه ... عبر الضلوع فلم يظفر بمسعاه
غدا تطل على الدنيا طلائعه ... غلابة ... يا لبشرانا بلقياه (1)
هذا ما رأيت تدوينه، وما توصل إليه بحثي وعلمي المحدود ولا أعتقد أني بلغت الغاية في ذلك والكمال ولكن حسبي أن أتمثل قول الشاعر:
لعمري لقد أنفقت في البحث قوتي ... ولم آل جهدًا في اقتناص العواليا
وطفت وفتشت الطروس وليتني ... خلصت كفافًا لا عليا ولا ليا (2)
وأريد أن أوضح للقارئ الكريم أنني في هذه الرسالة المتواضعة ما قصدت رضا غالب الناس أو ذمهم، بل كل ما أردت هو أن أخطو خطوات في سبيل الله ومرضاته بغض النظر عن موقف الناس من ذلك، فمثلي في ذلك هو قول القائل:
قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا (3)
اللهم اجعلنا من الذين وصفتهم بقولك: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (4).
اللهم اجعلنا سلما لأوليائك، حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء منا، وعليك الإجابة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية ج3 ص93 - 94.
(2) مشاهير علماء نجد/ للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص3.
(3) الدرر السنية ج9 ص326.
(4) سورة الحشر آية (10).(2/941)
دليل الفهارس
أ- دليل: الآيات القرآنية.
ب- دليل: الأحاديث.
ج- دليل: الآثار.
د- دليل: المراجع.
هـ- دليل: الموضوعات.(2/943)