الأبصار إنما هو الرؤية
فمعنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق إلا في اللفظ أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رؤيته وما أدركته ببصري ولا عكسه
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكرنا
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته
وإنما قلنا من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام
فإن الأول فضل والثاني عدل
وكلاهما كمال
والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول أن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
و إنا لمدركون أي ملحقون
وأدركت الثمرة
أي وصلت إلى حد النضج
وأدرك الغلام
أي بلغ ثم نقل إلى الرؤية المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة
والرؤية المتكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة
فلا يلزم من نفيها أي نفي المحيطة عن الباري سبحانه وتعالى لامتناع الإحاطة نفيها أي نفي المطلقة عنه
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به من جوانبه
وإن لم يصح عكسه
الثاني من وجوه الجواب أن تدركه الأبصار موجبة كلية لأن موضوعها جمع محلي باللام الاستغراقية وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل قوله لا تدركه (3/200)
الأبصار إسناد النفي إلى الكل بأن يلاحظ أولا دخول النفي ثم ورود العموم عليه فيكون سالبة كلية
ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا ثم ورود النفي عليه فيكون سالبة جزئية
ومع احتمال المعنى الثاني لم يبق فيه حجة لكم علينا لأن أبصار الكفار لا تدركه إجماعا
هذا ما نقوله لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية وقلنا لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية
فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار
وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض
فالآية حجة لنا لا علينا
الثالث من تلك الوجوه أنها أي الآية وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام فإنها لا تعم في الأزمان فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ونحن نقول بموجبة حيث لا يرى في الدنيا
الرابع منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا كما هو العادة فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا
وأما عن الوجه الثاني أي وأما الجواب عن الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بالآية وهو قوله تمدح الباري بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى (3/201)
حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه أي في عدم الرؤية للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد
الثانية من الشبه السمعية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا وقد استعظمه
وذلك في ثلاث آيات
الأولى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا أي مجاوزا للحد مستكبرا رافعا نفسه إلى مرتبة لا يليق بها بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الآية الثانية وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون
ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال
الآية الثالثة يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم سمى الله ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب
والجواب أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة في الآية الأولى واستكبروا إنزال الكتاب في الآية الثالثة مع إمكانهما بلا خلاف
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله أي منعه حين طلبوا أمرا ممتنعا وهو أن يجعل لهم إلها إذ قال (3/202)
إنكم قوم تجهلون ولم يقدم موسى على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وطلبهم وقد مر هذا في المسلك النقلي من مسلكي صحة الرؤية
الثالثة من تلك الشبه قوله تعالى لموسى لن تراني
ولن للتأبيد
وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا
والجواب منع كون لن للتأبيد
بل هو للنفي المؤكد في المستقبل فقط كقوله تعالى ولن يتمنوه أي الموت أبدا
ولا شك أنهم يتمنوه في الآخرة للتخلص من العقوبة
الرابعة منها قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء حصر تكليمه للبشر في الوحي إلى الرسل وتكليمه لهم من وراء حجاب وإرساله إياهم إلى الأمم ليكلمهم على ألسنتهم
وإذ لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا
إذ لا قائل بالفرق
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية والمجسمة وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة ولا مقابلة ولا ما في حكمها إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة ومخالفين لهم في أصل الرؤية
والجواب أنا نمنع الضرورة
وما ذلك أي ادعاء الضرورة منهم (3/203)
ههنا إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود
ولعل هذا الادعاء فرعه
أي فرع ذلك الادعاء
وقد وافقنا الحكماء والمعتزلة على أن حصر الموجود فيما ذكر حكم وهمي مما ليس بمحسوس فيكون باطلا
فكذا الضرورة التي ادعاها الكرامية والمجسمة في الرؤية
المقصد الثاني
المتن في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر
وعليه جمهور المحققين
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين
لنا وجهان
الأول المعلوم منه أعراض عامة كالوجود
أو سلوب ككونه واجبا أزليا أبديا ليس بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة
بل على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة فلا
كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة
بل بأن حقيقته مغايرة لسائر الحقائق
الثاني أن كل ما يعلم منه لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه عن الغير
وهو التوحيد
إلى الدليل
وذاته المخصوصة يمنع تصوره من الشركة
فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه هو المطلوب (3/204)
احتج الخصم بأنه لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وبالصفات
والجواب ظاهر
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم ولا يفيد الحقيقة وإما في الحد
ولا يمكن تحديدها لعدم التركب فيها لما مر
فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك في البديهة والحد لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما ليس ضروريا في شخص بلا سابقة نظر كما سبق أن النظري قد ينقلب ضروريا
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها
الشرح
المقصد الثاني في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول الوقوع
إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر وعليه جمهور المحققين من الفرق الإسلامية وغيرهم
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين من أصحابنا والمعتزلة لنا وجهان
الأول إن المعلوم منه أعراض عامة كالوجود أو سلوب ككونه واجبا لا يقبل العدم أزليا لا يسبقه عدم أبديا لا يلحقه عدم ليس (3/205)
بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما فإن هذه الصفات كلها إضافات لأن الإضافة تطلق على النسبة المتكررة وعلى معروضها
قال الآمدي كل ما ندركه منه صفات خارجة عن ذاته كصفات النفس من العلم والقدرة وغيرهما
والصفات الإضافية ككونه خالقا ومبدأ والصفات السلبية
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة ما هي في حد ذاتها بل تدل هذه الصفات على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة الموصوفة المتميزة فلا تدل هي عليها ولا يوجب العلم بخصوصيتها كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص أعني جذب الحديد عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة بل بأن حقيقته حقيقة مخصوصة مغايرة لسائر الحقائق ممتازة عنها في حد نفسها
الثاني أن كل ما يعلم منه من كونه موجودا وعالما وقادرا ومريدا وخالقا إلى غير ذلك لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه أي نفي ما يعلم منه من صفات الألوهية عن الغير وهو التوحيد إلى الدليل وذاته المخصوصة بمنع تصوره من الشركة لأن الموجودات الشخصية كذلك فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه أعني قولنا ليس ذاته المخصوصة بالمعلوم هو المطلوب
احتج الخصم بأنه لو لم يكن ذاته متصور معلوما لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وامتنع الحكم عليها بالصفات الأخر
والجواب ظاهر وهو أن التصديق لا يتوقف على التصور بالكنه بل بوجه ما
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة وبعض أصحابنا كالغزالي وإمام الحرمين
ومنهم من توقف كالقاضي أبي بكر وضرار بن عمرو
وكلام الصوفية في الأكثر مشعر (3/206)
بالامتناع
وإنما منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة
وحقيقته ليست بديهية
وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم
وهو لا يفيد الحقيقة
وإما في الحد فإذن لا نعلم الحقيقة إلا بالبديهة أو بالحد
وحقيقته تعالى ليست بديهية ولا يمكن تحديدها لعدم التركيب فيها لما مر فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك بالكنه في البديهية والحد والرسم لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما ليس ضروريا بالقياس إلى عموم الناس في شخص بلا سابقة نظر كما سبق من أن النظري قد ينقلب ضروريا لبعض الأشخاص
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها (3/207)
المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها
وقالت المعتزلة بقدرة العبد وحدها
وقالت طائفة بالقدرتين فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء
وقالت الحكماء وإمام الحرمين بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد (3/208)
والضابط أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد أو هما مع اتحاد المتعلقين أو دونه
وحينئذ فإما مع كون إحداهما متعلقة للأخرى
وليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد وإما بدون ذلك
لنا وجوه
الأول إن فعل العبد ممكن
وكل ممكن مقدور الله تعالى لما مر من شمول قدرته
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن
فوقوع المعين منه دونهما لأجل القصد والاختيار مشروط بالعلم به
وأما الاستثنائية فلأن النائم قد يفعل ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد
فيكون البطء لتخلل السكنات
والمتحرك منا لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها
ولا شعور له بها فكيف يعرف حركتها
الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
ويتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح
وذلك المرجح لا يكون منه
وإلا لزم التسلسل ويكون الفعل عنده واجبا وإلا لم يكن الموجود تمام المرجح فيكون اضطراريا
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
وأجيب بالفرق بأن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يخلقها الله فيه دفعا للتسلسل وإرادة الله تعالى قديمة فلا (3/209)
تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد هذا الجواب بأنه لا يدفع التقسيم المذكور والفرق في المدلول مع الاشتراك في الدليل على بطلان الدليل
وفيه نظر فإن مآله إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجيح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث
ويتم الجواب
وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه
واعلم أن هذا الاستدلال إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح كونه اتفاقيا
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة
وذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد إلى المنارة والهاوي منها
ويجعل إنكاره سفسطة
والجواب إن الفرق عائد إلى وجود القدرة وعدمها لا إلى تأثيرها وعدمه
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء مع غيره وجوب الدوران
ولا يلزم من وجوب الدوران العلية ولا من العلية الاستقلال بالعلية ثم يبطل ما قاله أمران
الأول إن من كان قبله بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة
فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة
الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة
وأنه مع الإرادة الجازمة يحصل المراد (3/210)
وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منه فكيف يدعي الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك على الداعي ضروري وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله
ثم بالغ في كون العبد موجدا وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال لكنه لما أبطل الأصول التي عليه مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم
فليس الأمر عليهم في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أي يخفى على المبتدي فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في حدوث الفعل وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول لا في الثاني لأنا نقول غرضنا سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين
فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية
إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله بأن يفعله وبما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل (3/211)
وأما غيره فيستدل عليه بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل لبطل التكليف والتأديب وارتفع المدح والذم والثواب والعقاب ولم يبق للبعثة فائدة
والجواب إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته
وأما الثواب والعقاب فكسائر العاديات
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء فكذا ههنا
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي إلى الفعل فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعة ومعصية
وعلامة للثواب والعقاب
ثم إن هذا إن لزم فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه فهو ممتنع الصدور عن العبد
وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ولا مخرج عنهما
وأنه يبطل الاختيار
الثاني ما أراد الله وجوده وقع قطعا
وما أراد عدمه لم يقع قطعا
الثالث الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به وهو ممتنع لأنه تعالى أخبرنا بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به فيكون مأمورا بأن (3/212)
يؤمن بأنه لا يؤمن
ويصدق بأنه لا يصدق
وهو تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة
وأنه محال
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله
فإن كان ذلك في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه محال
وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال
وربما احتج الخصم بظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول ما فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
الثاني ما فيه مدح وذم ووعد ووعيد وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم نحو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
الخامس الأمر بالاستعانة نحو وإياك نستعين استعينوا
السادس اعتراف الأنبياء بذنبهم
السابع ما يوجد من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو (3/213)
أرجعوني لعلي أعمل صالحا لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره نحو والله خلقكم وما تعملون خالق كل شيء فعال لما يريد وهو يريد الإيمان فكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
وبالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ووجب الرجوع إلى غيرها
الشرح
المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا
فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد
والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له
وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري
وقالت المعتزلة أي أكثرهم هي واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار (3/214)
وقالت طائفة هو واقعة بالقدرتين معا
ثم اختلفوا فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل نفسه
وجوز اجتماع المؤثرين على أثر واحد
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته
أعني بكونه طاعة ومعصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره
وقالت الحكماء وإمام الحرمين هي واقعة على سبيل الوجوب وامتناع التخلف بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع
والضابط في هذا المقام أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد على الانفراد كمذهبي الشيخ وجمهور المعتزلة
أو هما معا
ذلك إما مع اتحاد المتعلقين كمذهب الأستاذ منا والنجار من المعتزلة أو دونه أي دون الاتحاد
وحينئذ فإما مع كون إحديهما أي إحدى القدرتين متعلقة للأخرى
ولا شبهة في أنه ليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد إذ يستحيل تأثير الحادث في القديم فتعين العكس وهو أن تكون قدرة العبد صادرة عن قدرة الله تعالى وموجبة للفعل
وهو قول الإمام والفلاسفة
وإما بدون ذلك أي بدون أن تكون إحداهما متعلقة للأخرى
وهو مذهب القاضي لأن المفروض عدم اتحاد المتعلقتين
فإن قيل جاز أن يكون عكس مذهبه وهو أن أصل الفعل بقدرة العبد وصفته بقدرة الله
قلنا لم يقل به أحد
والمقصود ضبط المذاهب دون الاحتمالات العقلية
لنا على أن الفعل الاختياري للعبد واقع بقدرة الله تعالى لا بقدرته وجوه (3/215)
الأول إن فعل العبد ممكن في نفسه
وكل ممكن مقدور لله تعالى لما مر من شمول قدرته للممكنات بأسرها
وقد مر مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الإسلام في أن كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الوجه الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية أي الملازمة فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن منه إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان فوقوع ذلك المعين منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه
والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البديهة
فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بد أن تكون مقصودة معلومة له
وأما الاستثنائية أي بطلان اللازم فلأن النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
واعترض عليه بأنه يجوز أن يشعر بالتفاصيل ولا يشعر بذلك الشعور أو لا يدوم له الشعور الثاني
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد وتركب الجسم منه فيكون البطء في الحركات لتخلل السكنات والمتحرك منا باختياره لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي وابنه (3/216)
الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان الوجهان أي الثاني والثالث المذكوران في إبطال اللازم لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها لا محالة ولا شعور له بها
فكيف يتوهم أنه يعرف حركتها ويقصدها
الوجه الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
وإلا لم يكن قادرا عليه مستقلا فيه
وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقيا لا اختياريا
ويلزم أيضا أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب فينسد باب إثبات الصانع وذلك المرجح لا يكون منه أي من العبد باختياره وإلا لزم التسلسل لأنا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
ويكون الفعل عنده أي عند ذلك المرجح واجبا أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه
وإلا لم يكن الموجود أي ذلك المرجح المفروض تمام المرجح لأنه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى مع وجود ذلك المرجح فيهما فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت
فلا يكون ما فرضناه مرجحا مرجحا تاما
هذا خلف
وإذا كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطراريا لازما لا اختياريا بطريق الاستقلال كما زعموه
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
ويقال لو كان موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه وأن يتوقف فعله على مرجح إلى آخر ما مر تقريره
فالدليل منقوض بالواجب تعالى (3/217)
وأجيب عن ذلك بالفرق بأن إرادة العبد محدثة أي الفعل يتوقف على مرجح هي الإرادة الجازمة
لكن إرادة العبد محدثة فافتقرت أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادة التي تفرض صدورها عنه
وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد في اللباب هذا الجواب الذي ذكر في الأربعين بأنه لا يدفع التقسيم المذكور إذ يقال إن لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان موجبا لا قادرا مختارا
وإن أمكن فإن لم يتوقف فعله على مرجح كان اتفاقيا واقعا بلا سبب واستغنى أيضا الجائز عن المرجح
وإن توقف عليه
كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريا
والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في الدليل دليل على بطلان الدليل وإنما يندفع النقض إذا بين عدم جريان الدليل في صورة التخلف وفيه أي في هذا الرد نظر
فإن مآله أي مآل ما ذكر من الفرق بين إرادة العبد وإرادة الباري إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث فإن المرجح القديم المتعلق بالفعل الحادث في وقت لا يحتاج إلى مرجح آخر فيصير الاستدلال هكذا إن تمكن العبد من الفعل والترك وتوقف الترجيح على مرجح وجب أن لا يكون ذلك المرجح منه
وإلا كان حادثا محتاجا إلى مرجح آخر
ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجح قديم لا يكون من العبد ويجب الفعل معه فلا يكون العبد مستقلا فيه
وأما فعل الباري فهو محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين
وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون تعالى مستقلا في الفعل
وحينئذ لا يتجه النقض
ويتم الجواب
ولما كان لقائل أن يقول إذ وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا لا مختارا أشار إلى دفعه بقوله وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه وهو أن الوجوب المترتب على (3/218)
الاختيار لا ينافيه بل يحققه
فإن قلت نحن نقول اختيار العبد أيضا يوجب فعله
وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا
قلت لا شك أن اختياره حادث
ولس صادرا عنه باختياره وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار وتسلسل بل عن غيره فلا يكون هو مستقلا في فعله باختياره بخلاف إرادة الباري تعالى فإنها مستندة إلى ذاته
فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه لكن يتجه أن يقال استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة
فإذ وجب الفعل بما ليس اختياريا له تطرق إليه شائبة الإيجاب
واعلم أن هذا الاستدلال أي الوجه الثالث إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري وكون الفعل معه واجبا كأبي الحسين وأتباعه
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور من غير داع إلى ذلك الطرف كما مر
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح وداع كونه اتفاقيا واقعا بلا مؤثر
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة القائلون بأن العبد موجد لأفعاله الاختيارية صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة أي يزعم أن العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى استدلال
وبيان ذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد باختياره إلى المنارة
والهاوي أي الساقط منها
ويعلم أن الأولين من هذين القسمين يستندان إلى دواعيه واختياره
وأنه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء منهما بخلاف الأخيرين إذ لا مدخل في شيء منهما لإرادته ودواعيه
ويجعل أبو الحسين إنكاره أي إنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختيارية سفسطة مصادمة للضرورة
والجواب أن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيار ضروري (3/219)
لكنه عائد إلى وجود القدرة منضمة إلى الاختيار في الأولى
وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدمه أي عدم تأثيرها في غيرها
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياري مع غيره كالقدرة والدواعي وجودا وعدما وجوب الدوران لجواز أن يكون الدوران اتفاقيا ولا يلزم أيضا من وجوب الدوران على تقدير ثبوته العلية أي كون المدار علة للدائر ولا من العلية إن سلم ثبوتها الاستقلال بالعلية لجواز أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلة المستقلة ثم يبطل ما قاله أبو الحسين أمران
الأول إن من كان قبله من الأمة كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه
أما نفي المخالف فظاهر
وأما نفي الموافق فلاستدلاله عليه فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه
الأمر الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته تلك الإرادة بل تحصل له تلك الإرادة سواء أرادها أو لم يردها
وعلم أيضا أنه مع الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع يحصل المراد وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أي من المقدمات التي علمها بوجدانه أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منها
فكيف يدعى الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك أي فعله لأحدهما دون الآخر على الداعي إلى أحدهما ضروري
وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي (3/220)
واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله كما هو مذهبنا ثم بالغ في كون العبد موجدا
وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال الإمام وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال يعني في مسألة خلق الأعمال وما يبتنى عليها
لكنه لما أبطل الأصول التي عليها مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم فليس الأمر عليهم بمبالغته في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أن يخفى على المبتدىء فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق فظهر أنه في هذه المسألة جرى على مذهبنا
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في وجود الفعل
وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية على سبيل التفويض إليه بالكلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول أي التأثير لا في الثاني أي الاستقلال حتى يتجه ما وردتموه عليه لأنا نقول غرضنا في هذا المقام سلب الاستقلال الذي يدعيه أهل الاعتزال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله عبده بما يفعله هو بنفسه وبين أن يأمره بما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل والترك
وأيضا لا فرق بين أن يعذب الله العبد على ما أوجده فيه وبين أن يعذبه على فعل يجب حصوله عند ما وجده فيه لأنه لا فرق في العقول بين فاعل القبيح والظلم وبين فاعل ما يوجب القبيح والظلم
فمن اعترف بوجوب حصول الفعل عند حصوله الإرادة الجازمة انسد عليه (3/221)
باب القول بالاعتزال فظهر أن أبا الحسين أنكر الاعتزال في هذه المسألة
وأن تلك المبالغة منه تمويه وتلبيس
انتهى كلامه
وأما غيره أي غير أبي الحسين فيستدل عليه أي على أن العبد موجد لأفعاله بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف بالأوامر والنواهي لأن العبد إذا لم يكن موجدا لفعله مستقلا في إيجاده لم يصح عقلا أن يقال له إفعل كذا ولا تفعل كذا
وبطل التأديب الذي ورد به الشرع إذ لا معنى لتأديب من لا يستقل بإيجاد فعله
وارتفع المدح والذم إذ ليس الفعل مستند إليه مطلقا حتى يمدح به أو يذم وارتفع الثواب والعقاب الوارد بهما الوعد والوعيد
ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موجودين لأفعالهم فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب عليها بل هي مخلوقة لله تعالى فيجوز حينئذ أن يعكس فيعاقب الأنبياء وأتباعهم ويثبت الفراعنة وأشياعهم
فلا يتصور منفعة للبعثة أصلا
والجواب منع الملازمات المذكورة
وهو المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية حتى يشترط فيهما الاستقلال بالفعل وذلك كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته من الآفة وعاهته فإن ذلك باعتبار أنه محل لها لا مؤثر فيها
وأما الثواب والعقاب المترتبان على الأفعال الاختيارية فكسائر العاديات المترتبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي واتجاه سؤال
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء أو عقيب مماسة الماء فكذا ههنا لا يصح أن يقال لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى ولم لم يفعلها ابتداء أو لم يعكس فيهما
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي للعبد إلى الفعل واختياره فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي (3/222)
يصير الفعل طاعة وذلك إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه
ويصير علامة للثواب والعقاب لا سببا موجبا لاستحقاقهما ثم إن هذا الذي ذكروه إن لزم القائل بعدم استقلاله العبد في أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا
وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب
ولا مخرج عنهما لفعل العبد وأنه يبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب والممتنع فيبطل حينئذ التكليف واخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم
فما لزمنا في مسألة خلق الأفعال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء
قال الإمام الرازي ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها
واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو العلوم ألا يرى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة لأن الفرس في حد نفسه هكذا
ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما
فالعلم بأن زيدا سيقوم غدا مثلا إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس
فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار
وإلا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما
الوجه الثاني ما أراد الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعا
وما (3/223)
أراد الله عدمه منها لم يقع قطعا فلا قدرة له على شيء منهما أصلا
ويرد عليه أيضا النقض بالباري سبحانه وتعالى
على أن المعتزلة ذاهبون على أن ما أراده الله أو لم يرده من أفعال نفسه كان كذلك بخلاف أفعال غيره
الثالث إن الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع لأن الرجحان يناقض الاستواء
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر المرجوح
فلا قدرة للعبد على فعله فبطل تكليفه به
ويرد عليه ذلك النقض
وحله أن وجوب الفعل بمجموع القدرة والداعية لا يخرجه عن المقدورية بل يحققها
وكذا امتناعه لعدم الداعي
فإن معنى كونه قادرا أنه إذا حصل له الإرادة الجازمة بواسطة الداعية مع ارتفاع المانع أثر فيه
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به أي أمر بأن يؤمن دائما وهو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به ومما جاء به أنه لا يؤمن فيكون هو في حال إيمانه على الاستقرار مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ويصدق بأنه لا يصدق
وهو أي تصديقه بعد تصديقه مع كونه مصدقا مستمرا تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة أي إذا كان مصدقا كان عالما بتصديقه علما ضروريا وجدانيا
فلا يمكنه حينئذ التصديق بعدم التصديق لأنه يجد في باطنه خلافه وهو التصديق بل يكون علمه بتصديقه موجبا لتكذيبه في الإخبار بأنه لا يصدق
وأنه أي إيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بل التصديق والتكذيب في حالة واحدة
وإذا كان المكلف به محالا لم يكن للتكليف بإتيانه فائدة
واعترض عليه بأن الإيمان واجب بما علم مجيئه به لا بما جاء به مطلقا سواء علمه المكلف أو لم يعلمه
ولا نسلم أن هذا الخبر مما علم أبو لهب مجيئه به حتى يلزم تصديقه فيه وتلخيصه أن الإيمان هو التصديق (3/224)
الإجمالي
أي كل ما جاء به فهو حق
وليس في هذا التصديق الإجمالي من أبي لهب استحالة
وأما التصديق التفصيلي منه فهو مشروط بعلمه بوجود هذا الخبر ومستلزم للجمع بين النقيضين فهو المحال دون الأول فليتأمل
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله تعالى إجماعا فإن كان ذلك التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه أي تحصيل الحاصل محال فيكون التكليف به ضائعا لا طائل تحته وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه وصدوره عنه كالعدم والقدرة والإرادة وغيرها غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال وعار عن الفائدة
ورد عليه بما مر من أن الغافل من لا يتصور لا من لا يصدق
وبأن التكليف إنما هو للعارف به وبصفاته المذكورة ليعرفه من جهات أخرى كالواحدانية وغيرها من الصفات التي لا تتوقف معرفة التكليف على معرفتها
وربما احتج الخصم على كون العبد موجدا لأفعاله بالظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
الثاني ما فيه مدح وذم نحو وإبراهيم الذي وفى كيف تكفرون بالله وما فيه وعد ووعيد كقوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به (3/225)
فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم كقوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا الذي أحسن كل شيء خلقه وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم أي الآيات الدالة عليه نحو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
الخامس الأمر بالاستعانة نحو وإياك نستعين استعينوا بالله ولا معنى للاستعانة فيما يوجده الله في العبد فيما يوجده العبد بإعانة من ربه
السادس اعتراف الأنبياء بذنوبهم كقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا
وقول يونس عليه السلام سبحانك إني كنت من الظالمين
السابع ما يوجد في الآخرة من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو ارجعون لعلي أعمل صالحا لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه نحو والله خلقكم وما تعملون أي عملكم خالق كل شيء وعمل العبد شيء فعال لما يريد (3/226)
وهو يريد الإيمان إجماعا فيكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
ومعارضة بالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم نحو يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا و ختم الله على قلوبهم وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينية ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية
وقد مر منها ما فيه كفاية لإثبات مذهبنا
المقصد الثاني
المتن في التوليد وفروعه
اعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد والمفتاح
والمعتمد في إبطاله ما بينا من استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه بأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر إلى جهته فإن قلنا حركته تولدت من حركة اليد فإما بهما فيلزم مقدورين قادرين
وإما بأحدهما وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة (3/227)
والمعتزلة ادعوا الضرورة تارة وجنحوا إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته
وليس الاندفاع مباشرا بالاتفاق
فهو بواسطة ما باشره من الدفع ويؤيده اختلاف الأفعال باختلاف القدر
فالأيد يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي
وأنه مكابرة
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها كما بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والمعارف والإيلام
الثاني المدح والذم
الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله
والجواب بعد ما تقدم في الأفعال المباشرة أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب
الأول إن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد وهما مثلان
واجتماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جواز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أعداد من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع بها
وذلك محال ضرورة
والجواب إنه يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين
ثم إذ قد يكون تأثيره في عين ما وقع بالتوليد بشرط عدم السبب فلا يلزم اجتماع المثلين
الثاني قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل (3/228)
جميع أفعاله بالمباشرة
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه
وإلا احتاج في فعله إلى سبب
والجواب إن ذلك بناء على امتناع وقوع الفعل بدون السبب مع أنه لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها
وجوزه بعضهم
ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة
ولا شك أن حركة الرياح من فعل الله تعالى بالمباشرة
والجواب ما سبق في فعل العبد
الثالث قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر بل هو ضروري من فعل الله
فلو وقعت المعرفة بالله به متذكرا لكانت ضرورية فامتنع التكليف بها
ولأنه حينئذ يولد العلم
ولو عارضه الشبهة
وجواب الأول ما مر
والثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
فإن قيل الشبهة من فعل العبد
والتذكر من فعل الله
فيلزم دفع فعل العبد لفعل الله
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء من أن تحركه الرياح سواء كان مباشرا للرب أو متولدا من فعله
الرابع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد
وزاد أبو هاشم التأليفات
ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو (3/229)
أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو إلى جسم آخر بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة
الخامس قسموا المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه
وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه
فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف والوهي المولد للألم
والثاني كالاعتماد اللازم السفلي
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح
والنافي له مراغم لأصله
والمثبت له مراغم للإجماع وللكتاب
قال تعالى هو يحيي ويميت ربي الذي يحيي ويميت
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط فأثبته قوم لحصوله بفعله ومنعه آخرون
وإلا لحصل ذلك بالضرب في كل جسم لأن الأجسام متماثلة فيقال لهم لم لا يستند إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع
فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي
والوهي من الاعتماد لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم القوي المكتنز
وما هو إلا لاختلاف ما يوجب فيهما من الوهي
والجواب إن اختلاف الألم المتفاوت من الاعتماد الواحد كاختلاف الوهي المتفاوت من الاعتماد الواحد فلم لا يستند هو إلى اختلاف القابل كما استند إليه اختلاف الوهي
وأيضا فيبطله تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في (3/230)
الوهي كما يحصل برأس الإبرة وما يحصل بذنابة العقرب
بل ربما كان ما يحصل بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير
التاسع هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
الشرح
المقصد الثاني في التوليد وفروعه
إعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا ورأوا فيها أيضا أن الفعل المترتب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه أصلا فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتب إلى تأثير قدرتهم فيه ابتداء لتوقفه على القصد
قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد
وحركة المفتاح فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أو لم يقصدها
والمعتمد في إبطاله أي إبطال التوليد ما بينا من إسناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه أي على إبطاله بأنه يلزم من التوليد إما اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد
وإما الترجيح بلا مرجح وذلك لأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر في زمان جذبه إلى جهته فإن قلنا حركته أي حركة ذلك الجسم وهي واحدة بالشخص تولدت من حركة اليد
فإما بها أي بالجذب والدفع معا فيلزم مقدور بين قادرين مستقلين بالتأثير
وقد مر استحالته
وإما بأحدهما فقط وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا الاحتجاج الدال على لزوم المحال للتوليد في (3/231)
المثال المذكور لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة
وبيانه على ما في الأبكار أن المتولدات منها ما هي قائمة بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد من النظر ومنها ما هي قائمة بغير محل القدرة
فاختلفت المعتزلة فذهب بعضهم إلى أنها بأسرها فعل لفاعل السبب وإن كان معدوما حال وجود المتولد كمن رمى سهما ومات قبل بلوغ السهم الرمية فإن الإصابة والآلام الحادثة منها من فعل الميت
وذهب ثمامة بن أشرس إلى أنها كلها حوادث لا محدث لها
والنظام إلى أن المتولدات برمتها من فعل الله تعالى لا من فعل العبد الفاعل للسبب
وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد إلى أن ما كان منها في محل قدرة الفاعل فهو من فعله وما كان في محل مباين لمحلها فما وقع منه على وفق اختياره فهو أيضا من فعله كالقطع والذبح وما لا يقع على وفقه
فليس من فعله كالآلام في المضروب والاندفاع والثقيل المدفوع وحركة الجسم المفروض من القسم الأخير
فالإلزام بها لا يقوم بها حجة عليهما
والمعتزلة القائلون بإسناد المتولدات إلى العباد ادعوا الضرورة تارة كأبي الحسين وأتباعه وجنحوا إلى الاستدلال أخرى كالجمهور منهم
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته فيكون اندفاعه صادرا عن الدافع وفعلا له
وليس هذا الاندفاع فعلا له مباشرا بالاتفاق (3/232)
منا ومنكم فهو بواسطة ما باشره من الدفع ومتولد منه
وكذا الكلام في حصول العلم النظري من النظر وحصول أمثاله من أسبابها
واعلم أن الآمدي جعل اندفاع الحجر على حسب قصده وإرادته وجها أول من وجوه استدلالاتهم وليس في كلامه ما يدل على أن أبا الحسين ادعى الضرورة ههنا
ويؤيده اختلاف الأفعال التي سميت متولدة باختلاف القدر الثابتة للعباد فالأيد القوي يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان الفعل المتولد واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي بأن يخلق الله الحركة في الجبل دون الخردلة
وأنه مكابرة صرفة
فاتضح أن المتولدات مستندة إلى القدرة الحادثة لا مباشرة بل يتوسط أفعال أخر
والآمدي جعل هذا التأييد وجها ثانيا من دلائلهم
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها أي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والحدود وبناء المساجد والقناطر والمعارف النظرية كمعرفة الله تعالى وصفاته ومعرفة أحكام الشرع والإيلام بالضرب والطعن والقتل في الجهاد مع الكفار فإنها كلها مأمور بها وجوبا أو ندبا وإيلام ما لا ينبغي إيلامه منهي عنه
فلولا أن هذه الأفعال متعلقة بالقدرة الحادثة لما حسن التكليف بها والحث عليها كما لا يحسن التكليف بإيجاد الجواهر والألوان
ولا شبهة في أنها ليست مباشرة بالقدرة
فهي بواسطة
الثاني المدح والذم فإن العقلاء يستحسنون المدح والذم في أمثال هذه الأفعال ويحكمون باستحقاق الثواب والعقاب
وذلك يدل على أنها من فعل العبد (3/233)
الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله كما في قولهم حمل فلان الثقيل وآلم زيدا بالضرب
وليس هذا من قبيل المجاز عندهم بل من الإسناد الحقيقي
فدل على أن الفعل منه
والجواب بعدما تقدم في الأفعال المباشرة من أن الأمر والنهي والتكليف بالأفعال باعتبار أنها دواع فيخلق الله الفعل عقيبها
وإن استحقاق المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية وترتب الثواب والعقاب كترتب سائر العاديات
وأما حديث النسبة فمبني على الظاهر بحسب العرف
وكلامنا في الواقع بحسب الحقيقة أنه أي الجواب بعدما تقدم أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك هذا الجار متعلق بقوله لا يكفي
أي لم لا يكفي الأجزاء في جميع ما ذكر
فإنه تعالى لما أجرى عادته بإيجاد هذه الأفعال التي يحكم عليها بالتوليد عقيب الفعل المباشر المقدور للعبد كفى ذلك في حسن الأمر والنهي والمدح والذم في النسبة
وإن لم تكن هذه الأفعال مقدورة لهم متولدة من أفعالهم
وأجاب الآمدي عما جعله وجها أول بما أسلفه في الأفعال المباشرة من أن كل عاقل يجد في نفسه أن فعله الاختياري مقارن لقدرته وقصده لا أن قدرته مؤثرة في فعله
وكذا الحال في المتولدات
قال والذي نخصه ههنا أنا وإن سلمنا وقوع الأفعال المباشرة بالقدرة على حسب القصد والداعية فهو غير متصور في المتولدات إذ المتولد عندهم قد يقع بعد عجز فاعل السبب وبعد موته بدهر طويل فكيف يكون على حسب قصده وداعيته
وإن سلم كونها على حسبهما لم يلزم منه أن يكون من أفعاله لأن المباشر إنما كان فعلا له لا لمجرد ذلك بل ومع استقلال قدرته بالإيجاد بلا احتياج إلى سبب
والمتولد محتاج إلى السبب قطعا
وأجاب عما جعل وجها ثانيا بما سبق في خلق الأعمال
وهو أن (3/234)
الاختلاف أي التفاوت إنما هو في كثرة المقدورات لكثرة القدر وليس في ذلك ما يدل على وقوع الغفل بالقدرة
وأجاب عن الوجوه الثلاثة المذكورة في الكتاب بكفاية إجراء العادة
ولك أن تقول جاز أن يكون وجود الاندفاع على حسب القصد والإرادة بطريق الخلق على سبيل العادة
وكذا الحال في تفاوت الحمل بحسب اختلاف القدر
فلا يصح دعوى الضرورة وتأييدها
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه فلا حاجة إلى ذكر فروعه والجواب عنها لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب والتنافي
الفرع الأول من تلك الفروع أن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع باتفاق المعتزلة أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد
وذلك لأن وجوده فيه لوجود سببه ممكن بلا ريبة
والمفروض أنه يمكن وقوعه فيه مباشرا فقد جاز وجودهما فيه مع اتحاد القدرة المؤثرة فيهما
وهما مثلان
وإجماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جوز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أي في الجبل من قدرة الذرة أعدادا من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع الجبل بها أي بتلك الأعداد من الحمل
وذلك محال ضرورة
والجواب أنه أي القول بامتناع اجتماعهما يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين في محل واحد
فإن المعتزلة جوزوا اجتماعهما مطلقا إلا شرذمة منهم فإنهم فصلوا
وقالوا لا يجوز الاجتماع بين حركتين متماثلتين ويجوز في غيرهما كما مر في المرصد الرابع من الموقف الثاني
ثم نقول ليس يلزم من تجويز المباشرة فيما يقع توليدا اجتماع المثلين إذ قد يكون (3/235)
تأثيره بالمباشرة في غير ما وقع بالتوليد مشروطا بشرط عدم السبب كما أن وقوعه تولدا مشروط بوجوده
فلا يلزم اجتماع المثلين لامتناع اجتماع شرطهما بل يكون وقوع كل من المباشرة والتوليد بدلا عن الآخر ويحتمل الكلام وجها آخر وهو أن تأثيره بالمباشرة في عين ما وقع بالتولد لا في غيره
وذلك التأثير على سبيل البدل لما ذكر لئلا يلزم اجتماع تأثيرين على شيء واحد بعينه
وهذا الوجه هو المفهوم من أبكار الأفكار والموافق لذكر لفظة العين
الثاني من الفروع قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل جميع أفعاله عندهم بالمباشرة ومقدور بالقادرية من غير توسط سبب
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه وإلا احتاج في فعله إلى سبب وهو المولد لذلك الفعل كاحتياج العباد إلى أسباب المتولدات وهو على الله محال
والجواب إن ذلك أي لزوم احتياج الباري بناء على امتناع وقوع الفعل المتولد بدون سبب وقد عرفت بطلانه بما أوردناه على الفرع الأول من جواز وقوع المتولد من فعل العبد مباشرا له
وقد قال به أبو هاشم أيضا في الغائب في أحد قوليه وإن منعه في الشاهد مطلقا مع أنه أي الاحتياج إلى السبب المولد لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها إذ ههنا أيضا يلزم احتياجه في إيجاد الأعراض إلى إيجاد الجواهر
فما هو العذر هناك هو العذر ههنا
والتحقيق أنه لا محذور لأن الاحتياج في الحقيقة راجع إلى الفعل (3/236)
المتولد والعرض
وجوزه بعضهم ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم ويشهد به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة واعتمادها عليها
ولا شك أن حركة الرياح واعتمادها من فعل الله تعالى بالمباشرة فتكون حركة الأغصان والأوراق من فعله توليدا
والجواب ما سبق في فعل العبد من أن ترتب فعل على آخر لا يستلزم أن يكون مسببا له لجواز أن يكون الجميع بقدرة الله تعالى ابتداء ويكون الترتب بمجرد إجراء العادة
الثالث من الفروع قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر يعني أنه إذا أغفل عن النظر والعلم بالمنظور فيه ثم تذكر النظر فالعلم الحاصل عند التذكر لا يكون متولدا منه بل مقدورا مباشرا بالقدرة
وذلك لوجهين أشار إلى أولهما بقوله لأنه أي تذكر النظر ضروري من فعل الله تعالى وليس مقدور للبشر
فلو وقعت المعرفة بالله به أي بالنظر حال كونه متذكرا لكانت المعرفة ضرورية من فعل الله أيضا فامتنع التكليف بها وخرجت عن أن تكون مأمورا بها وهو باطل إجماعا وأشار إلى ثانيهما بقوله ولأن أي تذكر النظر حينئذ أي حين كونه مولدا يولد العلم ولو عارضته الشبهة أي لو كان التذكر مولدا للعلم لولده وإن عارضته شبهة لأنه قبل معارضتها كهو بعدها
وجواب الأول ما مر من أنه مبني على أن التكليف لا يكون إلا بما هو مقدور للعبد ومخلوق له
وقد بينا بطلانه في مسألة خلق الأعمال
وجواب الثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح وكلامنا فيه
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
أي وإن سلمنا إمكان عروض الشبهة عند تذكر النظر الصحيح فذلك يمنع توليد (3/237)
التذكر عند عروض الشبهة ولا يمنع توليده عند عدمها كما في ابتداء النظر فإن عروض الشبهة يمنع توليده ولا يمنع ذلك توليده حال عدمها
فإن قيل الشبهة من فعل العبد والتذكر من فعل الله فيلزم من منع الشبهة توليده دفع فعل العبد لفعل الله وذلك باطل بخلاف دفع الشبهة توليد ابتداء النظر الذي هو فعل العبد أيضا
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء الذي يتحرك عند اعتماد الرياح العاصفة عليه من أن تحركه تلك الرياح سواء كانت تحرك ذلك الشيء فعلا مباشرا للرب أو متولدا من فعله الذي هو حركة الرياح فما هو جوابكم فهو جوابنا
الرابع من تلك الفروع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد إذ لا يعقل وجود صوت إلا باعتمادات لبعض الأجرام على بعض واصطكاك بينها وكذا الحال في الألم الحاصل من الآدمي
فلو كانت هذه الأمور واقعة بطريق المباشرة لما توقفت على هذه الأسباب
والجواب لا نسلم أنها أسباب بل جاز أن تكون شروطا لوقوعها من القدرة مباشرة
وزاد أبو هاشم التأليفات على الإطلاق بتوقفها على المجاورة فتكون متولدة منها
وجوابه ما عرفت آنفا ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو ضم اصبعه إلى جسم آخر
وقال هذا التأليف يقع بغير توليد بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة كجسمين مباينين لمحلها فإنه لا يقع بغير التوليد لأن الفعل الصادر عن العباد في محل خارج بتمامه عن محل قدرتهم لا يكون مباشرا بالاتفاق بين القائلين بالتوليد (3/238)
الخامس منها القائلون بالتوليد قسموا السبب المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه إذا لم يمنعه مانع فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف
والوهي أي تفرق الأجزاء المبنية بنية الصحة المولد للألم فإنهما يولدانهما حال الحدوث لا حال البقاء
والثاني كالاعتماد اللازم للسفلي فإنه عند انتفاء الموانع يولد الحركة الهابطة حال حدوثه ودوامه
قال الآمدي ذهبوا إلى ذلك ولم يعلموا أن كلا من المجاورة والوهي في ابتدائه كهو في دوامه
فإذا لم يكن هناك مانع من التوليد لزم من عدم توليدهما في الدوام عدم توليدهما في الحدوث ومن توليدهما في الحدوث توليدهما في البقاء
ولو أخذوا خصوص الابتداء أو ملازمه شرطا في التوليد لزمهم ذلك في جميع الأسباب المولدة ولم يقولوا به
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح أي الحاصل عقيبه هل هو متولد من الآلام المتولدة من الجرح فنفاه قوم وأثبته آخرون
والنافي له مراغم لأصله في التوليد لأن ترتب الموت على الآلام يقتضي تولده منها كما في سائر المتولدات
والمثبت له مراغم للإجماع فإن الأمة أجمعوا على أن المستقبل بالإماتة والإحياء هو الله سبحانه وتعالى
وللكتاب
فإن نصوصه دالة عليه
قال تعالى هو يحيي ويميت ربي الذي يحيي ويميت
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب وغيره في أفعال العبد هل هي متولدة من فعله أو لا وذلك كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط عند طبخه
فأثبته قوم وقالوا مثل هذا الطعم (3/239)
واللون متولد من فعله لحصوله بفعله وعلى حسبه ومنعه آخرون وقالوا لا يقع شيء من الألوان والطعوم من العباد لا مباشرة بقدرتهم وهو ظاهر ولا متولدا من أفعالهم
وإلا لحصل ذلك الطعم أو اللون بالضرب أو نحوه من أفعال العبد في كل جسم لأن الأجسام متماثلة لتركبها من الجواهر الأفراد المتجانسة
فيقال لهم بعد تسليم تماثل الجواهر لم لا يستند حدوث الطعم واللون المتولد من فعل العبد في بعض الأجسام دون بعض إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه فلا يحدث شيء منهما في جسم آخر لم يوجد فيه شرطه وإن تعلق به ذلك الفعل
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وهو مذهب جمهور المعتزلة
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي وكأنه أخذه من قول الحكماء سبب الألم تفرق الاتصال والوهي يتولد من الاعتماد وذلك لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم العضو القوي المكتنز وما هو إلا لاختلاف ما يوجب ذلك الاعتماد فيهما من الوهي
فإن التفرق الحاصل منه في الرخو أكثر وأقوى من الحاصل في المكتنز فلا يكون الألم متولدا من الاعتماد بل من الوهي لأن خاصة التوليد اختلاف المتولدات بحسب اختلاف أسبابها
والجواب إن اختلاف الوهي المتفاوت في القلة والكثرة والقوة والضعف من الاعتماد الواحد كاختلاف الألم المتفاوت من الوهي الواحد
والصحيح كما في الأبكار من الاعتماد الواحد
أي في أن كلا منهما اختلاف في أمر متولد من شيء واحد بلا اختلاف فيه فلم يستند هو أي اختلاف الألم على تقدير تولده من الاعتماد إلى اختلاف القابل كما (3/240)
استند إليه اختلاف الوهي على ما اعترفتم به
والحاصل أنكم جوزتم استناد الوهي المختلف إلى الاعتماد الواحد وعللتم ذلك باختلاف العضوين في قبول الوهي
فإن الرقيق الضعيف بذلك أولى فلم لا يجوزون استناد الألم المختلف إلى الاعتماد الواحد بواسطة اختلاف القابل فلاحاجة إلى توسط الوهي بين الألم والاعتماد كما لا يخفى وأيضا فيبطله أي يبطل تولد الألم من الوهي تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في الوهي كما لا يحصل برأس الإبرة
وما يحصل بذنابة العقرب فإن هذين الألمين يتفاوتان جدا
وليس يوجد هذا التفاوت في الوهي الحاصل في الموضعين
بل ربما كان يحصل من الوهي بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير مع أن حال الألم على عكس ذلك
فلا يكون متولدا منه
التاسع وهو آخر الفروع المذكورة في الكتاب هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
فمن لم يجوز أن يكون فعله تعالى متولدا حكم بأن الألم الصادر عنه تعالى لا يكون بسبب الوهي وتوليده إياه
ومن جوز التوليد في أفعاله جوز كون الألم الصادر عنه متولدا من الوهي
ويعلم من كونه مبنيا على الفرع الثاني أن العبارة الظاهرة ههنا أن يقال هل يمكن من الله تعالى إحداث الألم بالوهي أو لا وحينئذ يكون جزئيا من جزئيات الفرع الثاني
فلا حاجة إلى أفراده ولذلك لم يذكره الآمدي
المقصد الثالث
المتن في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها (3/241)
الأول الطبع والختم
والأكنة ونحوها
أولوها بوجوه
الأول ختم الله على قلوبهم أي سماهما مختوما عليها كما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
الثاني وسمها بسمات تعرفها الملائكة فتميز بها الكافر من المؤمن
الثالث منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة لعلمه أنه لا ينفعهم
فلما لم يوفقوا لذلك فكأنهم ختم على قلوبهم
الرابع منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه
لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو مع الابتناء على أصلهم الفاسد يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك وشيء مما ذكرتم لا يصلح لذلك
الثاني التوفيق والهداية
أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة
والذي يبطله أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما
والدعوة عامة لا اختلاف فيها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم إهدنا الصراط المستقيم
والدعوة حاصلة
واختلاف الناس في الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح دون كونه مدعوا
الثالث الأجل وهو الزمان الذي علم أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله
وموته بفعله تعالى
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من (3/242)
فعل القاتل
وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله
وادعوا فيه الضرورة
واستشهدوا عليه بذم القاتل
ولو كان ميتا بأجله لمات وإن لم يقتله
فهو لم يجلب بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا
فكان لا يستحق الذم
وبأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك ذهب جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع لما قالوا به
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء
وأما هم ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
وبما لا يمنع من الانتفاع به فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع
كل ذلك ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
الخامس في الأسعار
المسعر هو الله على أصلنا كما ورد في الحديث
وأما عندهم فمختلف فيه
فقال بعضهم هو فعل مباشر من العبد إذ ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي من فعله تعالى
الشرح
المقصد الثالث في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها (3/243)
الأول الطبع قال الله تعالى بل طبع الله عليها بكفرهم والختم ختم الله على قلوبهم والأكنة وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ونحوها كالإقفال في قوله تعالى أم على قلوب أقفالها
فذهب أهل الحق إلى أنها عبارة عن خلق الضلال في القلوب
وذلك لأن هذه الأمور في اللغة موانع في الحقيقة
وإنما سميت بذلك لكونها مانعة
وخلق الضلال في القلوب مانع من الهدى فصح تسميته بهذه الأسماء لأن الأصل هو الإطراد إلا أن يمنع مانع
والأصل عدمه
فمن ادعاه يحتاج إلى البيان
والمعتزلة أولوها بوجوه
الأول وهو لأوائل المعتزلة ختم الله على قلوبهم إلى آخر الآيات
أي سماها مختوما عليها ومطبوعا عليها ومجعولا عليها أكنة وأقفالا ووصفها بذلك كما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
أي سموهم بذلك ووصفوهم بالأنوثة إذ لا قدرة لهم على الجعل الحقيقي
الثاني وهو للجبائي وابنه ومن تابعهما وسمها أي وسم الله على قلوب الكافر بسمات وعلامات تعرفها الملائكة فيتميز بها الكافر عن المؤمن
وذلك لأن الختم والطبع في اللغة هو الوسم
ولايمتنع أن يخلق الله في قلوب الفجار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار وتتبين تلك (3/244)
السمة للملائكة فيذمون من اتسم بها وذلك في مصلحة دينية لأنه إذا علم العبد أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها ذمه ولعنه من الملائكة كان ذلك سببا لانزجاره عنه
الثالث وهو للكعبي
منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة المبعد عن المعصية لعلمه انه لا ينفعهم ولا يؤثر فيهم
فلما لم يوفقوا لذلك اللطف فكأنهم ختم على قلوبهم
لأن قطع اللطف مانع من دخول الإيمان كما أن الختم والطبع والأكنة والأقفال موانع من الدخول
الرابع وهو لبعض أصحاب عبد الواحد من المعتزلة منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا لذلك كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو أي ما ذكروه من التأويل مع الابتناء على أصلهم الفاسد وهو أن منع الإيمان وخلق الضلال قبيح فلا يجوز إسناده إلى الله سبحانه وتعالى
وسيأتيك بيان فساده يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك حيث قال سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم
أي لا يؤمنون لأجل الختم
وذلك لأن قوله ختم استئناف لبيان السبب
وشيء مما ذكرتم لا يصلح لذلك أي لكونه سببا لامتناع الإيمان
فإن مجرد الوصف بالختم والطبع وجعل الأكنة والأقفال على (3/245)
قلوبهم لا يمنع من الإيمان
وكذا الوسم بعلامة مميزة ومنع اللطف والإخلاص لا يقتضي امتناع الإيمان فلا يصح الحمل عليها
الثاني من تلك الأمور التي يؤولونها التوفيق والهداية فإن الشارح الأشعري وأكثر الأئمة من أصحابه حملوا التوفيق على خلق القدرة على الطاعة وهو مناسب للوضع اللغوي لأن الموافقة إنما هي بالطاعة وبخلق القدرة الحادثة على الطاعة يحصل تهيؤ الموافقة
وقال إمام الحرمين التوفيق خلق الطاعة لا خلق القدرة إذ لا تأثير لها
وحملوا الهداية على معناها الحقيقي
أعني خلق الاهتداء وهو الإيمان
والمعتزلة أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة وإيضاح سبل المراشد وتيسير مقاصدها والزجر عن طريق الغواية كما في قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم إذ لا شبهة في امتناع حمله على خلق الهدى فيهم والذي يبطله أي هذا التأويل أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما أي في التوفيق والهداية فبعضهم موفق مهدي وبعضهم ليس كذلك
والدعوة عامة لجميع الأمة لا اختلاف فيها فلا يصح تأوليهما بها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم اهدنا الصراط المستقيم اللهم وفقنا لما تحب وترضى
والطلب إنما يكون لما ليس بحاصل
والدعوة المذكورة حاصلة فلا يتصور طلبها
واختلاف الناس ليس في الدعوة نفسها بل في وجود الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح يمدح بهما في المتعارف دون كونه مدعوا
إذ لا يمدح به أصلا فلا يصح حملهما على الدعوة
الثالث من تلك الأمور الأجل
وهو في الحيوان الزمان الذي (3/246)
علم الله أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله الذي قدره الله له وعلم أنه يموت فيه
وموته بفعله تعالى ولا يتصور تغير هذا المقدر بتقديم ولا تأخير
قال تعالى ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من فعل القاتل فهو من أفعاله لا من فعل الله تعالى
وقالوا إنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي قدره الله تعالى له
فالقاتل عندهم غير بالتقديم الأجل الذي قدره الله تعالى له
وادعوا فيه أي في تولده من فعل القاتل وبقائه لولا القتل الضرورة كما ادعوها في تولد سائر المتولدات وانتفائها عند انتفاء أسبابها
واستشهدوا عليه بذم القاتل والحكم بكونه جانيا
ولو كان المقتول ميتا بأجله الذي قدره الله له لمات وإن لم يقتله فهو أي القاتل لم يجلب حينئذ بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا فكان لا يستحق الذم عقلا ولا شرعا لكنه مذموم فيهما قطعا إذا كان القتل بغير حق
واستشهدوا أيضا بأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك أي ولحكم العادة بالامتناع في الخلق الكثير دون غيره ذهبت جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة كما في قتل واحد وما يقرب منه واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل لأن الموت في كلتا الصورتين متولد من فعل القاتل عندهم
فلما إذا كان أحدهم بأجله دون الآخر
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع وهو القدح في المعجزات لما قالوا به
وبيان ذلك أنه لما حكمت العادة بامتناع موت خلق كثير دفعة امتنع أن ينسب موتهم بقتلهم في ساعة إلى الله تعالى
وإلا كان فعلا منه خارقا للعادة لا لإظهار المعجزة
وذلك قدح فيها
وأما نسبة موت جماعة قليلة في لحظة واحدة إليه تعالى فلا (3/247)
امتناع فيها
فحكم العادة بالامتناع في الكثير دون القليل هو الذي حملهم على الفرق كيلا يلزمهم إبطال المعجزات إذا نسبوا الجميع إليه
والجواب أن دعوى الضرورة غير مسموعة
والذم لا يستلزم كونه فاعلا
وحكم العادة ممنوع لأن مثله يقع في الوباء
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء ليس ما ذكره تحديدا للرزق بل هو نفي لما ادعى عن تخصيصه بالحلال
وذلك لأن مذهب الأشاعرة هو أن الرزق كل ما انتفع به حي سواء كان بالتغذي أو بغيره مباحا كان أو حراما
وربما قال بعضهم هو كل ما يتربى به الحيوانات من الأغذية والأشربة لا غير
قال الآمدي والتعويل على الأول
فإن قيل كيف يتصور الإنفاق من الرزق بالمعنى الثاني الذي ذهب إليه بعضهم
وقد قال تعالى ومما رزقناهم ينفقون أجيب بأن إطلاق الرزق على المنفق مجاز عندهم لأنه بصدده
وأما هم أي المعتزلة ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فللبهائم رزق
ولا يتصور في حقها حل ولا حرمة
وفسروه أخرى بما لا يمنع من الانتفاع به أخرى فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع من الأمة قبل ظهور المعتزلة كل ذلك الذي يرد عليهم ويلزمهم ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
وذلك الأصل هو قاعدة الحسن والقبح العقليين فإنهما منشأ لأباطيل كثيرة متفرعة عليها
وبطلان الفروع اللازمة شاهد صدق على بطلان أصلها
الخامس في الأسعار وهو الرخص والغلاء
المسعر هو الله على (3/248)
أصلنا كما ورد في الحديث حين وقع غلاء في المدينة فاجتمع أهلها إليه سعر لنا يا رسول الله
فقال المسعر هو الله
وأما عندهم فمختلف فيه فقال بعضهم هو أي السعر فعل مباشر من العبد إذا ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله تعالى وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي فعله تعالى
المقصد الرابع
المتن إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون
هذا مذهب أهل الحق لكن منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا لايهامه الكفر
وعند الإلباس يجب التوقف إلى التوقيف
ولا توقيف ثمة
وذلك كما يصح أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير
وكما يقال له كل ما في السموات والأرض
ولا يقال له الزوجات والأولاد لا يهامه إضافة غير الملك إليه
وقالت المعتزلة هو مريد للمأمور به كاره للمعاصي والكفر
لنا إما أنه مريد للكائنات فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر
وخالق الشيء بلا إكراه مريد له
وأيضا فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة
ولا بد منها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون
فلأنه تعالى علم من الكافر أنه لا (3/249)
يؤمن فكان الإيمان منه محالا
والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يريده
ولأنه لا يتصور منه صفة مرجحة لأحد طرفيه
ويعضد هذا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والأول دليل الثاني
والثاني دليل الأول
احتجوا بوجوه
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه أمور ثلاثة
الأول إن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل ويحصل مقصوده أطاع أو عصى
الثاني إنه إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به
الثاني لو كان الكفر مرادا لله لكان فعله موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به
وأنه باطل ضرورة
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها
وقد (3/250)
ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر
وهو لفظي
الثالث لو كان الكفر مرادا لله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
والرضاء بالعكس
والفرق بينهما ظاهر
إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق
قلنا الذي يمتنع التكليف به ما لا يكون متعلقا للقدرة عادة لا ما يكون مقدورا للمكلف به
والإيمان في نفسه مقدور وإن لم يكن مقدورا للكافر
لأن القدرة عندنا مع الفعل
فهذه دلائل العقل
وربما احتجوا بآيات
الأولى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم
قلنا قالوا ذلك سخرية
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب دون الكذب
وقال آخر قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين
الثانية كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها
قلنا مكروها (3/251)
للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة أو منهيا عنه مجازا توفيقا للأدلة
الثالثة وما الله يريد ظلما للعباد مع أن الظلم كائن
قلنا أي ظلمه وتصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان لا يكون ظلما
الرابعة والله لا يحب الفساد والفساد كائن
والمحبة الإرادة
قلنا بل إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة ولا يرضى لعباده الكفر
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وهو مأمور بترك الاعتراض
ثم هذه الآيات معارضة بآيات هي أدل على المقصود منها
الأولى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى
الثانية أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
الثالثة فلو شاء لهداكم أجمعين
الرابعة أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم
الخامسة إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون
السادسة ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس (3/252)
السابعة إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وذلك في القرآن كثير
خاتمة في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه
ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية فكان الخير واقعا بالقصد الأول والشر واقعا بالضرورة والعرض
والتزم فعله لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم سابح في البر أو البحر
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون فكل كائن مراد له
وما ليس بكائن ليس بمراد له
هذا مذهب أهل الحق
واتفقوا على جواز إسناد الكل إليه جملة
فيقال جميع الكائنات مرادة لله تعالى
لكن اختلفوا في التفصيل
منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا فلا يقال الكفر أو الفسق مراد لله تعالى لايهامه الكفر وهو أن الكفر أو الفسق مأمور به لما ذهب إليه بعض العلماء من أن الأمر هو نفس الإرادة
وعند الإلباس يجب التوقف عن الإطلاق إلى التوقيف والإعلام من الشارع ولا توقيف ثمة أي في الإسناد تفصيلا
وذلك الذي ذكرناه من صحة الإطلاق إجمالا لا تفصيلا كما يصح بالإجماع والنص أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير مع كونها مخلوقة له اتفاقا
وكما يقال له كل ما في السموات والأرض
أي هو مالكها ولا يقال له الزوجات والأولاد لايهامه إضافة غير الملك إليه
ومنهم من جوز أن يقال الله مريد للكفر والفسق والمعصية معاقبا عليها (3/253)
وقالت المعتزلة هو مريد لجميع أفعاله غير إرادته الحادثة عند من أثبتها
وأما أفعال العباد فهو مريد
للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر
وتفصيله أن فعل العبد إن كان واجبا يريد الله وقوعه ويكره تركه
وإن كان حراما فبعكسه
والمندوب يريد وقوعه ولا يكره تركه
والمكروه عكسه
وأما المباح وأفعال غير المكلف فلا يتعلق بها إرادة ولا كراهة
لنا إما أنه مريد للكائنات بأسرها فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء وخالق الشيء بلا إكراه مريدا له بالضرورة وأيضا قد ثبت أن جميع الممكنات مقدورة لله تعالى
فلا بد في اختصاص بعضها بالوقوع وبأوقاتها المخصوصة من مخصص وهو الإرادة
وهذا معنى قوله فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة كما مر
ولا بد منها أي من الصفة المرجحة في إيجاد بعض المقدورات دون بعض
وفي تخصيص الموجودات بأوقاتها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون فلأنه تعالى علم من الكافر مثلا أنه لا يؤمن فكان الإيمان منه محالا لامتناع أن ينقلب العلم جهلا والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يراه بالضرورة
وأيضا لو أراده فإما أن يقع فيلزم الانقلاب أو لا فيلزم عجزه وقصوره عن تحقيق مراده
ولأنه لا يتصور منه أي من العالم باستحالة الشيء صفة مرجحة لأحد طرفيه لأن أحدهما مستحيل والآخر واجب
فلا معنى لترجيح الصفة
وفيه بحث لأن عدم إيمان الكافر مراد الله مع كونه واجبا
وأيضا هو منقوض بما علم الله وجوده كإيمان المؤمن
فإن أحد طرفيه واجب والآخر ممتنع
فلا وجه لترجيح الصفة
ويعضد هذا الذي هو مذهبنا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن هذا مروي عن (3/254)
النبي
وقد تلقته الأمة بالقبول فيصح أن يكون مؤيدا بل ربما يحتج به أيضا
وإنما صرح بالإطلاق دفعا لتوهم التقييد بأفعاله تعالى أو بما ليس من أفعال العباد الاختيارية كما تأوله به المعتزلة
ويدفع هذا التوهم أنهم كانوا يوردون كلامهم في معرض تعظيم الله وإعلاء شأنه
والأول وهو ما شاء الله كان دليل الثاني
وهو أنه تعالى غير مريد لما لا يكون
وذلك لأنه ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لم يكن لم يشأ الله
والثاني أعني ما يشأ لم يكن دليل الأول لانعكاسه بذلك الطريق إلى قولنا كل ما كان فقد شاء الله
احتجوا أي المعتزلة على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي بوجوه عقلية
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر
وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد عند العقلاء سفيها فيلزم السفه في أحكام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه وجوه ثلاثة
الأول أن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل
أما الأول
وهو أن الصادر منه أمر حقيقة فلأنه إذا أتى العبد بالفعل يقال امتثل أمر سيده
وأما الثاني
وهو أنه لا يريه الفعل منه يحصل مقصوده وهو الامتحان أطاع أو عصى فلا سفه في الأمر بما لا يريده الآمر
الثاني إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك (3/255)
يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل تمهيدا لعذره ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله بل ما يخلصه عنه فقد أمر بخلاف ما يريده ولا سفه
فإن قيل الموجود ههنا صورة الأمر لا حقيقته فإن العاقل لا يأمر بما يؤدي حصوله إلى هلاكه
أجيب بأنه قد يأمر به إذا علم أنه لا يحصل وكان في الأمر به فائدة بخلاف الإرادة
فإنها لا تتعلق به أصلا
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به بل يريد خلافه ولا يعد سفيها
الثاني من وجوه استدلالاتهم لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان فعله والإتيان به موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به وأنه باطل ضرورة من الدين
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها لإنفكاكها عنه في الصور المذكورة
قال الآمدي ويدل على أن موافقة الإرادة ليست طاعة أنه لو أراد شخص شيئا من آخر فوقع المراد من الآخر على وفق إرادة المريد ولا شعور للفاعل بإرادته فإنه لا يعد منه طاعة له
كيف والإرادة كامنة والأمر ظاهر ولهذا يقال في العرف فلان مطاع الأمر
ولا يقال مطاع الإرادة
وقد ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر لأن القول الثاني ينبىء عن الرضاء بالكفر دون الأول
وهو لفظي لا طائل تحته
الثالث لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب إجماعا فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر اتفاقا
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر (3/256)
مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار المتوجه نحو الكفر إنما هو بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
يعني أن للكفر نسبة إلى الله سبحانه باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأول
والرضاء بالعكس
أي الرضاء به إنما هو باعتبار النسبة الأولى دون الثانية والفرق بينهما ظاهر
وذلك لأنه ليس يلزم من وجوب الرضاء بشيء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرضاء به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء وهو باطل إجماعا
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع عندكم كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق لأن الإيمان ممتنع الصدور عنه حينئذ
قلنا الذي يمتنع التكليف به عندنا ما لا يكون متعلقا للقدرة الكاسبة عادة إما لاستحالته في نفسه كالجمع بين النقيضين وإما لاستحالة صدوره عن الإنسان في مجاري العادة كالطيران في الجو لا ما يكون مقدورا بالفعل للمكلف به والإيمان في نفسه أمر مقدور يصح أن تتعلق به القدرة الكاسبة عادة وإن لم يكن مقدورا بالفعل للكافر لأن القدرة عندنا مع الفعل لا قبله
وعدم المقدورية بهذا المعنى لا يمنع التكليف فإن المحدث مكلف بالصلاة إجماعا
فهذه دلائل العقل لهم
وربما احتجوا بآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي
الأولى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا أشركنا بإرادة الله (3/257)
تعالى
ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات
فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم
ثم أنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها بقوله كذلك كذب الذين من قبلهم قلنا قالوا ذلك الكلام سخرية من النبي ودفعا لدعوته وتعللا لعدم إجابته وانقياده لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى
فما صدر عنهم كلمة حق وأريد بها باطل
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي في وجوب اتباعه
والمتابعة دون الكذب لأن ذلك الكلام في نفسه صدق وحق
وقال آخر قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم
الثانية كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فإنها تدل على أن ما كان سيئه أي معصية فإنه مكروه عند الله
والمكروه لا يكون مرادا
قلنا أراد كونه مكروها للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة فليس قوله عند ربك ظرفا لقوله مكروها أو أراد بقوله مكروها كونه منهيا عنه مجازا
وإنما يرتكب هذا التجوز توفيقا للأدلة أي جمعا بين هذه الآية وبين ما ذكرناه من الدلائل
الثالثة وما الله يريد ظلما للعباد مع أن الظلم من العباد كائن بلا شبهة
فبعض الكائنات ليس مراد الله
قلنا أي لا يريد ظلمه لعباده لا ظلم بعضهم على بعض فإنه كائن ومراد بخلاف ظلمه عليهم فإنه ليس بمراد
ولا كائنا بل تصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان ذلك التصرف لا يكون ظلما بل عدلا وحقا (3/258)
الرابعة والله لا يحب الفساد والفساد كائن
والمحبة هي الإرادة
فالفساد ليس بمراد
قلنا بل المحبة إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ومؤاخذة ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة ولا يرضى لعباده الكفر والرضاء هو الإرادة
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وليس مأمورا بإرادتها وهو مأمور بترك الاعتراض عليها فالرضاء
أعني ترك الاعتراض
يغاير الإرادة
ثم هذه الآيات معارضة بآيات أخرى هي أدل على المقصود منها
الأولى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى
الثانية أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
الثالثة فلو شاء لهداكم أجمعين
والمعتزلة حملوا المشيئة في هذه الآيات ونظائرها على مشيئة القسر والإلجاء
وليس بشيء لأنه خلاف الظاهر وتقييد للمطلق من غير دلالة عليه
الرابعة أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وتطهير القلوب بالإيمان فلم يرد الله إيمانهم (3/259)
الخامسة إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون فموتهم على الكفر مراد الله
السادسة ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس والمخلوق لها لا يراد إيمانه ولا طاعته بل كفره ومعصيته
السابعة إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
والاستدلال بهذه الآية بعيد جدا إذ ليست عامة للكائنات ولا دالة على إرادة المعاصي بل على أنه إذا أراد الله شيئا كونه على أيسر وجه
ويمكن أن يستدل بها على أن إيمان الكافر ليس بمراد الله تعالى
إذ لو كان مرادا له لكان مكونا واقعا لكنه مدفوع بأن المعنى إذا أردنا تكوينه فيختص بأفعاله ولا يتناول المعاصي على رأيهم
وذلك أي ما يدل على صحة مذهبنا وفساد مذهبهم في القرآن كثير
خاتمة للمقصد الرابع في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض لا شر فيه أصلا كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم الواقع تحت كرة القمر
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه وكذلك الألم كثير واللذة أكثر منه
فالموجود عندهم منحصر في هذين القسمين
وأما ما يكون شرا محضا أو كان الشر فيه غالبا أو مساويا فليس شيء منها موجودا
ولما كان لقائل أن يقول لماذا لم يجرد هذا العالم عن الشرور أشار إلى جوابه بقوله ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية لأن ما يمكن براءته عن الشرور كلها فهو القسم الأول
وكلامنا في خيرات كثيرة تلزمها شرور قليلة بالقياس إليها
وقطع الشيء عما هو لازم له محال
وحينئذ فكان الخير واقعا بالقصد (3/260)
الأول داخلا في القضاء دخولا أصليا ذاتيا
وكان الشر واقعا بالضرورة وداخلا في القضاء دخولا بالتبع والعرض
وإنما التزم فعله أي فعل ما غلب خيره لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم به سابح في البر أو البحر يرشدك إلى ذلك أنه إذا لدغ أصبع إنسان وعلم أنها إذا قطعت سلم باقي البدن وإلا سرى الفساد إليه فإنه يأمر بقطعها ويريده تبعا لإرادة سلامته من الهلاك
فسلامة البدن خير كثير يستلزم شرا قليلا
فلا بد للعاقل أن يختاره وإن احترز عنه حتى هلك لم يعد عاقلا فضلا عن أن يعد حكيما فاعلا لما يفعله على ما ينبغي
واعلم أن قضاء الله عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدره إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها
وأما عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام
وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها
والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء
والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم
المقصد الخامس
المتن في الحسن والقبح
القبيح ما نهي عنه شرعا
والحسن بخلافه
ولا (3/261)
حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع
بل الشرع هو المثبت له والمبين
ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه
والشرع كاشف ومبين
وليس له أن يعكس القضية
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص
يقال العلم حسن والجهل قبيح
ولا نزاع أن مدركه العقل
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته
وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة
وذلك أيضا عقلي ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه ومفسدة لأوليائه
الثالث تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب
وهذا هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وعند المعتزلة عقلي
قالوا للفعل جهة محسنة أو مقبحة
ثم أنها قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل
ولكن إذا ورد به الشرع علم أن ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان أو مقبحة كصوم (3/262)
أول يوم من شوال
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى إثبات صفة توجب ذلك مطلقا وأبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح دون الحسن
والجبائي إلى نفيه فيهما مطلقا
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
ويتبعه أنه يستحق الذم فاعله
وأنه على صفة تؤثر في استحقاق الذم
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبىء على اتضاع حال الغير
لنا وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح اتفاقا
بيانه أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر
وإن تمكن ولم يتوقف على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقيا
وإن توقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده وإلا جاز معه الفعل والترك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل فيكون اضطراريا
وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبورا
فإن قيل هذا نصب للدليل في مقابلة الضرورة فلا يسمع
وأيضا فإنه ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله
والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
وأيضا فإنه ينفي الحسن والقبح الشرعيين لأنه تكليف ما لا يطاق
وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك
وأيضا فالمرجح داع له يقتضي اختياره للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار
قلنا أما الأول فإن الضروري وجود القدرة لا وقوع الفعل بقدرته
وأما الثاني فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة
ونحن لا نقول بها فإن الترجيح بمجرد (3/263)
الاختيار عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وأيضا فمرجح فاعليته تعالى قديم
ولا يحتاج إلى مرجح
إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان
وأما الثالث فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة
وأما الرابع فمقصودنا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع يحصل له بخلق الله تعالى إياه وقد بيناه
وذلك كاف في عدم الحكم عقلا إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل عنده كما قاله بعض أصحابه
وفي كونه مانعا من حكم العقل عند الخصم
الثاني لو كان قبح الكذب ذاتيا لما تخلف عنه
لأن ما بالذات لا يزول
واللازم باطل
فإنه قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي بل يجب ويذم تاركه قطعا
وكذا إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل
وللأصحاب مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاز الغد فكذبه إما حسن فليس الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن مع أنه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع أو نلتزم قبحه مطلقا لأنه قبيح إما لذاته وإما لاستلزامه القبيح
ونقول الحسن إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
الثاني من قال زيد في الدار
ولم يكن فقبح هذا القول إما لذاته أو مع عدم كون زيد في الدار
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيد في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود (3/264)
قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمتنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه لكونه كذبا إن قام بكل حرف فكل حرف كذب فهو خبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها وتقضي المتقدم عند حصول المتأخر
قلنا هو من صفاته النفسية فلا يستدعي صفة كما هو مذهب بعضهم أو يقوم بكل حرف بشرط انضمام الآخر إليه
فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو بالمجموع لكونه كاذبا فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا
الرابع كونه قبيحا ليس نفس ذاته لتعلقها دونه بل زائد وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم قيام المعنى بالمعنى
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته مع انتقاضه بالإمكان والحدوث
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك ليس له أن يفعله ويلزم قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم
قلنا يحكم العقل باتصافه بالقبح إذا حصل
وهذا هو المانع من فعله
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل الأنبياء بغير حق
وليس ذلك بالشرع إذ يقول به غير المتشرع
ومن لا يتدين بدين أصلا ولا العرف إذ العرف يختلف بالأمم
وهذا لا يختلف (3/265)
والجواب أن ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا
كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه ملائما لمصلحة العالم
والكذب منافرا
ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية
وذلك مجبول في الطبيعة وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه في حق الغير
وأما الإلزاميان فأحدهما لو حسن من الله كل شيء لحسن منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية لأنه قد يكون في تصديقه للنبي كاذبا فلا يمكن تمييز النبي عن المتنبىء
وأنه باطل إجماعا
ولحسن منه خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور
الجواب أن مدرك امتناع الكذب عندنا ليس هو قبحه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا
ودلالة المعجزة عادية وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به (3/266)
قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد ليس من المقصود في شيء كما مر
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وقد مر في باب النظر
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع ثبت أن لا حكم للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب أو تركه فمكروه
وإلا فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل فلا يحكم فيه بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل وأما على سبيل الإجمال فقيل بالحذر والإباحة والتوقف
دليل الحذر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه فيحرم كما في الشاهد
الجواب الفرق بتضرر الشاهد
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
الجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه بالمعنى المتنازع فيه ممنوع
ثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به
فالحكمة تقتضي إباحته
وكيف يدرك تحريمه بالعقل
وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه فيثاب أو لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة
إذ ما لا منع منه فمباح إلا أن يشترط الإذن فيرجع إلى كونه شرعيا
وتارة بعدم العلم
وهذا أمثل لا لتعارض الأدلة بل لعدم الدليل (3/267)
الشرح
المقصد الخامس في الحسن والقبح
القبيح عندنا ما نهي عنه شرعا نهي تحريم أو تنزيه
والحسن بخلافه أي ما لم ينه عنه شرعا كالواجب والمندوب والمباح
فإن المباح عند أكثر أصحابنا من قبيل الحسن وكفعل الله سبحانه وتعالى فإنه حسن أبدا بالاتفاق
وأما فعل البهائم فقد قيل إنه لا يوصف بحسن ولا قبح باتفاق الخصوم
وفعل الصبي مختلف فيه
ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك أي حسن الأشياء وقبحها عائد إلى أمر حقيقي حاصل في الفعل قبل الشرع يكشف عنه الشرع كما تزعمه المعتزلة
بل الشرع هو المثبت له والمبين فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع
ولو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما هو العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه إما لذاته وإما لصفة لازمة له
وإما لوجوه واعتبارات على اختلاف مذاهبهم
والشرع كاشف ومبين للحسن والقبح الثابتين له على أحد الأنحاء الثلاثة
وليس له أن يعكس القضية من عند نفسه
نعم إذا اختلف حال الفعل في الحسن والقبح بالقياس إلى الأزمان أو الأشخاص والأحوال كان له أن يكشف عما تغير الفعل إليه من حسنه أو قبحه في نفسه
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليتضح المتنازع فيه (3/268)
ويرد النفي والإثبات على شيء واحد فنقول وبالله التوفيق الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص فالحسن كون الصفة صفة كمال
والقبح كون الصفة صفة نقصان
يقال العلم حسن أي لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن
والجهل قبيح أي لمن اتصف به نقصان واتضاع حال ولا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها
وأن مدركه العقل
ولا تعلق له بالشرع
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته فما وافق الغرض كان حسنا وما خالفه كان قبيحا
وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا
وقد يعبر عنهما أي عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة فيقال الحسن ما فيه مصلحة والقبيح ما فيه مفسدة
وما خلا عنهما لا يكون شيء منهما
وذلك أيضا عقلي أي مدركه العقل كالمعنى الأول
ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم ومفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم
فدل هذا الاختلاف على أنه أمر إضافي لا صفة حقيقة
وإلا لم يختلف كما لا يتصور كون الجسم الواحد أسود وأبيض بالقياس إلى شخصيتين
الثالث تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا أو الذم والعقاب كذلك فما تعلق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمى حسنا
وما تعلق به الذم في العاجل والعقاب في الآجل يسمى قبيحا
وما لا يتعلق به شيء منهما فهو خارج عنهما
هذا في أفعال العباد
وإن أريد به ما يشمل أفعال الله تعالى اكتفى بتعلق المدح والذم وترك الثواب والعقاب (3/269)
وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وذلك لأن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه
وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها
وعند المعتزلة عقلي فإنهم قالوا للفعل في نفسه مع قطع النظر عن الشرع جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا
ثم إنها أي تلك الجهة المحسنة أو المقبحة قد تدرك بالضرورة من غير تأمل وفكر كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فإن كل عاقل يحكم بهما بلا توقف
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل لا بالضرورة ولا بالنظر
ولكن إذا ورد به الشرع علم أنه ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان حيث أوجبه الشارع أو جهة مقبحة كصوم أول يوم من شوال حيث حرمه الشارع
فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه
وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين
فهو مؤيد لحكم العقل بهما إما بضرورته أو بنظره
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى أن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات فيها تقتضيهما
وذهب بعض من يعدم من المتقدمين إلى إثبات صفة حقيقة توجب ذلك مطلقا أي في الحسن والقبح جميعا فقالوا ليس حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدمنا من أصحابنا
بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما
وذهب أبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن إذ لا حاجة به إلى صفة محسنة له بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبحة
وذهب الجبائي إلى نفيه أي نفي الوصف الحقيقي فيهما مطلقا فقال ليس حسن الأفعال وقبحها لصفات حقيقية فيها بل لوجوه اعتبارية وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطمة اليتيم تأديبا وظلما
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
اعتبر (3/270)
قيد التمكن احترازا عن فعل العاجز والملجأ فإنه لا يوصف بقبح ولا حسن
وقيد العلم ليخرج عنه المحرمات الصادرة عمن لم تبلغه دعوة نبي أو عمن هو قريب العهد بالإسلام
واكتفى بالتمكن من العلم ليدخل فيه الكفر ممن في شاهق الجبل فإنه متمكن من العلم بالله تعالى بالدلائل العقلية
وأراد بقوله ليس له أن يفعله أن الإقدام عليه لا يلائم عقل العقلاء
ويتبعه أو يتبع هذا التعريف المذكور للقبيح تعريفان آخران له
أحدهما أنه فعل يستحق الذم فاعله المتمكن منه ومن العلم بحاله
وذلك أنه لم يكن له أن يفعله
وثانيهما أنه فعل هو على صفة تؤثر في استحقاق الذم إذ لو لم يكن كذلك لكان للقادر العالم به أن يفعله
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبىء عن اتضاع حال الغير وانحطاط شأنه
وإذا تصورت هذا التحرير تقول لنا على أن الحسن والقبح ليسا عقليين وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح لأن ما ليس فعلا اختياريا لا يتصف بهذه الصفات اتفاقا منا ومن الخصوم
بيانه أي بيان كونه مجبورا أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر لأن الفعل حينئذ واجب والترك ممتنع
وإن تمكن من الترك ولم يتوقف وجود الفعل منه على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب يرجح وجوده على عدمه كان ذلك الفعل حينئذ اتفاقيا صادرا بلا سبب يقتضيه
فلا لا يكون اختياريا لأن الفعل الاختياري لا بد له من إرادة جازمة ترجحه
وإن توقف وجود الفعل منه على مرجح لم يكن ذلك المرجح من العبد
وإلا نقلنا الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
وتسلسل
وهو محال
ووجب الفعل عنده أي عند المرجح الذي يتوقف عليه
وإلا جاز معه الفعل والترك واحتاج حينئذ إلى مرجح آخر
إذ لو لم يحتج إليه وصدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى كان اتفاقيا كما (3/271)
مر
وإذا احتاج إلى مرجح آخر نقلنا الكلام إليه وتسلسل فيكون الفعل على تقدير وجوبه مع ذلك المرجح اضطراريا
وعلى التقادير أعني امتناع الترك وكون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا فلا اختيار للعبد في أفعاله فيكون مجبورا فيها فلا يتصف شيء منها بالحسن والقبح العقليين بالإجماع المركب
أما عندنا فلأنه لا مدخل للعقل فيهما
وأما عندهم فلأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن قيل هذا أي استدلالكم على كون العبد مجبورا نصب للدليل في مقابلة الضرورة إذ كل واحد من العقلاء يعلم أن له اختيارا في أفعاله يفرق بين الاختياري والاضطراري منها فلا يسمع لأنه سفسطة باطلة ومكابرة ظاهرة
وأيضا فأنه أي دليلكم ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
فيقال إن لم يتمكن من الترك فذاك
وإن تمكن منه لم يتوقف الفعل على مرجح إلى آخر ما مر
فقد انتقض الدليل المذكور بأفعاله تعالى
وأيضا فإنه أي هذا الدليل كما ينفي الحسن والقبح العقليين ينفي أيضا الحسن والقبح الشرعيين المتفرعين على ثبوت التكليف
وإذا كان العبد مجبورا لم يثبت عليه تكليف لأنه تكليف ما لا يطاق
ونحن لا نجوزه وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك أي تكليفا بما لا يطاق كما لزم من دليلكم
والحاصل أن كون العبد مجبورا ينافي كونه مكلفا فلا يوصف فعله بحسن ولا قبح شرعي مع أنهما ثابتان عندكم فانتقض دليلكم بهما فما هو جوابكم فهو جوابنا
والأظهر أن يقال أنه ينفي الشرعيين أيضا لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن حركة المرتعش والنائم والمغمى عليه لا (3/272)
توصف في الشرع بحسن ولا قبح
ويستلزم أيضا كون التكاليف بأسرها تكليفا بما لا يطاق
ولا قائل به
وأيضا فالمرجح الذي يتوقف عليه فعل العبد داع له يقتضي اختياره الموجب للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار بل يثبته
وهذا السؤال هو الحل وما قبله إما نقض أو في حكمه
قلنا أما الأول فلأن الضروري وجود القدرة والاختيار لا وقوع الفعل بقدرته واختياره
واستدلالنا إنما هو على نفي الثاني دون الأول فلا يكون مصادما للضرورة
وأما الثاني وهو النقض بأفعال الباري فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي لا اختياري إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليها مرجح يسمونه الداعي
ونحن لا نقول بها
فإن الترجيح بمجرد الاختيار المتعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وإذا لم نقل بهذه المقدمة لم يرد علينا النقض بفعل الله تعالى
وأيضا على تقدير صحة هذه المقدمة عندنا ليس هذا الدليل بعينه جاريا في فعله تعالى لأنا نختار أنه متمكن من الترك
وأن فعله يتوقف على مرجح لكن ذلك المرجح قديم فلا يحتاج إلى مرجح آخر حتى يلزم التسلسل في المرجحات كما في فعل العبد إذا كان مرجحه صادرا عنه إذ لا بد أن يكون ذلك الصادر عنه حادثا محتاجا إلى آخر
فالمقدمة القائلة بأن مرجح الفعل إذا كان صادرا عن فاعله لزم التسلسل غير صادقة في حقه تعالى بل في حق العبد
وإلى ما قررناه أشار بقوله فمرجح فاعليته تعالى قديم هو إرادته وقدرته المستندتان إلى ذاته إيجابا والمتعلقتان بالفعل في وقت مخصوص (3/273)
فإن قلت مع ذلك المرجح القديم إن وجب الفعل انتفى الاختيار وإلا جاز أن يصدر معه الفعل تارة ولا يصدر أخرى فيكون اتفاقيا كما مر في العبد
قلت لنا أن نختار الوجوب ولا محذور
لأن المرجح الموجب إرادته المستند إلى ذاته بخلاف إرادة العبد فإنها مستندة إلى غير ذلك
فإذا كانت موجبة لزم الجبر فيه قطعا
وقد مر هذا مرة مع الإشارة إلى ما فيه من شائبة الإيجاب فلا يحتاج ذلك المرجح القديم إلى مرجح آخر حتى يتسلسل إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان بخلاف مرجح فاعلية العبد فإنه حادث محتاج إلى مؤثر
فإن كان مؤثره العبد تسلسل وإن كان غيره كان هو مجبورا في فعله
وأما الثالث وهو النقض بالحسن والقبح الشرعيين فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة أي يكون مما يقارنه القدرة والاختيار في الجملة
ولا يكفي ذلك في الواجب العقلي عندكم إذ لا بد فيه من تأثير القدرة فلا يتجه علينا النقض الشرعي
وأما الرابع وهو الحل فمقصودنا من دليلنا على كون العبد مجبورا ومضطرا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع واختيار يترتب على ذلك الداعي ويوجب الفعل يحصل أي ذلك الداعي مع ما يترتب عليه له بخلق الله تعالى إياه
وقد بيناه أي عدم استقلاله بهذا المعنى وذلك كاف في عدم الحكم بالحسن والقبح عقلا
إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل في العبد كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل (3/274)
عنده كما قال بعض أصحابه كإمام الحرمين
وفي كونه مانعا من حكم العقل الحسن والقبح عند الخصم فإذا كان داعية إلى الاختيار الموجب للفعل من فعل الله فقد تم مطلوبنا
الثاني من الوجهين وإنما ينتهض حجة على غير الجبائي لو كان قبح الكذب ذاتيا أي لذاته أو لصفة لازمة لذاته لما تخلف القبح عنه لأن ما بالذات وكذا ما هو بواسطة لازم الذات لا يزول عن الذات وهو ظاهر
واللازم باطل فإنه أي الكذب قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي من ظالم بل يجب الكذب حينئذ لأنه دفع للظالم على المظلوم ويذم تاركه فيه قطعا فقد اتصف الكذب بغاية الحسن
وكذا يحسن بل يجب إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل ظلما
لا يقال الحسن والواجب هو العصمة والإنجاء وقد يحصلان بدون الكذب إذ يمكن أن يأتي بصورة الخبر بلا قصد إلى الإخبار أو يقصد بكلامه معنى آخر بطريق التعريض والتورية فلا يكون كاذبا في نفس الأمر
ومن ثمة قيل إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
وإذا لم يتعين الكذب للدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا لأنا نقول قد يضيق السائل عليه في السؤال بحيث لا يمكنه عدم القصد والتعريض
ولو جوز حمل كلامه في مثل هذا المقام على عدم القصد بالكلية أو على قصد أي معنى كان لم يحصل الجزم بالقصد في شيء من الإخبار ولا يكون شيء منها كذبا إذ لا كلام إلا ويمكن أن يقدر فيه من الحذف والزيادة ما يصير معه
وإذا حسن الكذب ههنا قبح الصدق لأنه إعانة للظالم على ظلمه فلا يكون حسن الصدق أيضا ذاتيا
وكذا الحال في سائر الأفعال
وللأصحاب في إبطال التحسين والتقبيح العقليين مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاء الغد فكذبه إما حسن فليس (3/275)
الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن
مع أنه أي تركه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح فيلزم أن يكون هذا الترك حسنا وقبيحا معا
وهو باطل فتعين الأول وهو أن لا يكون قبح الكذب ذاتيا لانقلابه حسنا
وهو المطلوب
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع فيكون مثلا الكلام الواحد من حيث تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به حسنا
ومن حيث استلزامه للقبيح الذي هو الكذب فيما قاله أمس قبيحا
ومثل ذلك جائز عند الجبائية القائلين بالوجوه والاعتبارات فلا ينتهض هذا المسلك حجة عليهم كما أن الوجه الثاني كذلك إذ يتجه هناك أن يقال لم يتخلف القبح عن الكذب بل هو قبيح باعتبار تعلقه بالمخبر عنه لا على ما هو به وحسن باعتبار استلزامه للعصمة والإنجاء
وقد نبهناك على ذلك أو نلتزم قبحه أي قبح كلامه في الغد مطلقا لأنه قبيح إما لذاته إن كان كاذبا وإما لاستلزامه القبيح إن كان صادقا
ونقول الحسن كالكلام الصادق فيما نحن فيه إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
وأنت خبير بأن انقلاب الحسن إلى القبيح إنما يتأتى على القول بالوجوه الاعتبارية فضعف هذا المسلك إنما يظهر إذا جعل دليلا على بطلان مذاهب المعتزلة كلها
الثاني من المسالك الضعيفة من قال زيد في الدار ولم يكن زيد فيها فقبح هذا القول إما لذاته وحده أو مع عدم كون زيد في الدار إذ لا قائل بقسم ثالث
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيدا في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود (3/276)
قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه أي قبح الكلام الكاذب لكونه كذبا إن قام بكل حرف منه فكل حرف كذب
إذ المفروض أنه متصف بالقبح المعلل بالكذب فهو خبر لأن الكذب من صفات الخبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها أي ترتب الحروف وتقضي المتقدم منها عند حصول المتأخر
وإذ لم يكن للمجموع وجود فكيف يتصور اتصافه بالقبح الذي هو صفة ثبوتية
فالمصنف ردد في نفس القبح هل هو قائم بكل حرف أو بمجموعها
وأما الآمدي فإنه قال لو كان الخبر الكاذب قبيحا عقلا
فالمقتضي لقبحه إما أن يكون صفة لمجموع حروفه أو لآحادها
والأول باطل لأن ما لا وجود له لا يتصف بصفة مقتضية لأمر ثبوتي لأن المقتضي له لا بد أن يكون ثبوتيا فلا يكون صفة للعدم
والثاني باطل أيضا لأن مقتضى القبح في الخبر الكاذب إنما هو الكذب
ولا يمكن قيامه بكل حرف
وإلا كان كل حرف خبرا وهو محال
قلنا هو أي القبح من صفاته النفسية لا من صفاته المعنوية فلا يستدعي صفة يكون هو معللا بها كما هو مذهب بعضهم القائلين بأن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات حقيقة قائمة بها
وهذا الجواب إنما يتجه على تقرير الآمدي
وأما على تقرير الكتاب فينبغي أن يقال ليس يلزم من كون القبح ذاتيا أي مستندا إلى ذات الشيء أن يكون موجودا خارجيا حتى يمتنع وقوعه صفة لأمر عدمي لجواز أن يقتضي ذات الشيء اتصافه بصفة اعتبارية ويستحيل انفكاكها عنه أو يقوم القبيح بكل حرف بشرط (3/277)
انضمام الآخر إليه فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو يقوم القبيح بالمجموع لكونه كاذبا
وما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في قيام القبح به
الرابع كونه أي كون الفعل قبيحا ليس نفس ذاته ولا جزء منها لتعلقها دونه بل زائد عليها وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم حينئذ قيام المعنى الذي هو القبح بالمعنى الذي هو الفعل
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته
فإن نقيض العدمي لا يجب أن يكون موجودا
وارتفاع النقيضين إنما يستحيل في الصدق دون الوجود
وأيضا لا نسلم امتناع قيام العرض بالعرض إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت مع انتقاضه بالإمكان والحدوث فإن هذا الدليل الذي أوردتموه على كون القبح أمرا موجودا جاز فيهما مع كونهما اعتباريين
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك ليس له أن يفعله فلولا أن ما يقتضي قبحه حاصل قبل وجوده لم يكن كذلك
ويلزم حينئذ قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم لأن مقتضى القبح صفة وجودية
وقد يقال لو كان القبح ذاتيا لزم تقدم المعلول على علته لأن قبيح الفعل حاصل قبله لما عرفت وعلته إما ذات الفعل وصفته وليس شيء منهما حاصلا قبله
قلنا لا نسلم أن القبح أو علته حاصل قبل الفعل بل يحكم العقل باتصافه بالقبح وبما يقتضيه إذا حصل
وهذا الحكم هو المانع من فعله والإقدام عليه لاتصافه بالقبح أو بما يقتضيه
على أن القدماء منهم زعموا أن الذوات ثابتة متقررة في الأزل فيصح عندهم اتصافها بالصفات الثبوتية
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل (3/278)
الأنبياء بغير حق
وكذا يجزمون بحسن العدل والصدق النافع والإيمان وعصمة الأنبياء من أنواع الإيذاء
وليس ذلك الجزم منهم بالقبح أو الحسن بالشرع
إذ يقول به غير المتشرع ومن لا يتدين بدين أصلا كالبراهمة ولا بالعرف إذ العرف يختلف بالأمم على حسب اختلافهم
وهذا الذي ذكرناه لا يختلف بل الأمم قاطبة مطبقون عليه
والجواب أن ذلك أي جزم العقلاء كلهم بالحسن والقبح في الأمور المذكورة بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم إذ لا نزاع لنا في أنهما بهذين المعنيين عقليان
وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع على أنه قد يقال جاز أن يكون هناك عرف عام هو مبدأ لذلك الجزم المشترك
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوفى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا بلا تردد وتوقف
فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما اختاره كذلك
وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا واستغرق في ذلك طوقه
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
بل ربما يتضرر فيه بتعب شاق فلم يبق هناك حامل سوى كون الإنقاذ حسنا في نفسه
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه (3/279)
ملائما لمصلحة العالم
وكون الكذب منافرا لها ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
فاختياره الصدق لملائمة تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية وذلك مجبول في الطبيعة
وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه أي يتصور إشرافه على الهلاك فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه حق الغير
وأما الطريقان الإلزاميان
فأحدهما لو حسن من الله كل شيء كما اقتضاه مذهبكم من القبح إنما هو لأجل النهي الذي لا يتصور في أفعاله تعالى الحسن أي لا يمتنع منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية
لأنه قد يكون في تصديقه للنبي بالمعجزة كاذبا
ولا يمكن حينئذ تمييز النبي عن المتنبىء فلا تثبت الأحكام الشرعية وتنتفي فائدة البعثة وأنه باطل إجماعا ولحسن منه أيضا خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور الذي هو سد باب النبوة
والجواب أن مدرك امتناع الكذب منه تعالى عندنا ليس هو قبحه العقلي حتى يلزم من انتفاء قبحه أن لا يعلم امتناعه منه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا في مباحث كونه تعالى متكلما
ودلالة المعجزة على صدق المدعي عادية فلا تتوقف على امتناع الكذب كما في سائر العلوم العادية التي ليست نقائضها ممتنعة
فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن في نفسه فلا يلزم التباس وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد
ولو توقف الحسن والقبح على ورود الشرع كما زعمتم لامتنع (3/280)
تعليل الأحكام بها
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به
قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد ليس من المقصود في شيء كما مر من أن المصلحة والمفسدة راجعة إلى ملاءمة الغرض ومنافرته
ولا نزاع في أنه عقلي
نعم رعايته تعالى في أحكامه مصالح العباد ودفع مفاسدهم تفضل منه عندنا وواجب عليه عندكم بناء على أصلنا وأصلكم
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوءتهم على تقدير كون الحسن والقبح شرعيين
وقد مر في باب النظر من الموقف الأول
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع دون العقل ثبت أن لا حكم من الأحكام الخمسة وما ينتمي إليها للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل من الأفعال التي ليست اضطرارية ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب
أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب
أو تركه فمكروه
وإلا أي وإن لم يشتمل شيء من طرفيه على مفسدة ولا مصلحة فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل لا في حسنه ولا في قبحه فلا يحكم فيه قبل الشرع بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل إذ لم يعرف فيه جهة تقتضيه
وأما على سبيل الإجمال في جميع تلك الأفعال فقيل بالحظر والإباحة والتوقف
دليل الحظر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه لأن الكلام فيما قبل الشرع فيحرم كما في الشاهد (3/281)
والجواب الفرق بتضرر الشاهد دون الغائب
وأيضا حرمة التصرف في ملك الشاهد مستفادة من الشرع
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
والجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه أي في الأصل بالمعنى المتنازع فيه ممنوع بل إنما يحكم فيه بمعنى الملاءمة وموافقة الغرض والمصلحة
وثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به من الثمار المطعومة وغيرها
فالحكمة تقتضي إباحته أي إباحة الانتفاع وإلا كان حقه عبثا
وكيف يدرك تحريمه بالعقل وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه ويمنع هواه وشهوته فيثاب على ذلك
وهذه منفعة جليلة أو خلقه لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة إذ ما لا منع فمباح إلا أن يشترط في الإباحة الإذن
فيرجع إلى كونه حكما شرعيا لا عقليا
وكلامنا فيه
وإنما يتجه هذا اشترط إذن الشارع لا إذن العقل
وربما يقال هذا التفسير جزم بعدم الحكم لا توقف إلا أن يراد توقف العقل عن الحكم ويفسر تارة بعدم العلم أي هناك حظر أو إباحة لكنا لا نعلمه
وهذا أمثل من التفسير الأول المشتمل على نوع تكلف في معنى التوقف كما عرفت لكن عدم العلم لا لتعارض الأدلة إذ قد تبين بطلانها بل لعدم الدليل على أحد هذين الحكمين بعينه (3/282)
المقصد السادس
المتن إعلم أن الأمة قد أجمعت على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح منه ولا واجب عليه
وأما المعتزلة
فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا فرع المسألة المتقدمة إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل وقد أبطلنا حكمه وبينا أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد
والمعتزلة أوجبوا عليه على أصلهم أمورا
الأول اللطف
وفسروه بأنه الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء
فإنا نعلم أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية
فيقال لهم هذا ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متقين لكان لطفا
وأنتم لا توجبونه بل نجزم بعدمه
الثاني الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وأنه لجد قبيح
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره
وهو باطل إجماعا وإما نفعه وهو المطلوب
فيقال لهم الطاعة لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد (3/283)
وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه
وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض أو لضر قوم ونفع آخرين كما هو الواقع أو ليس ذلك على سبيل الوجوب
الثالث العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وفيه إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل
فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا
الرابع الأصلح للعبد في الدنيا
فيقال الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة ألا يخلق
حكاية تنحى بالقلع على هذه القاعدة قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي ما تقول في ثلاثة أخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة قال يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي فبهت
فترك الأشعري مذهبه إلى المذهب الحق
وكان أول ما خالف فيه المعتزلة
الخامس العوض على الآلام
قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة لم يجب على الله عوضه
وإلا فإن كان الإيلام من الله وجب العوض
وإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته (3/284)
وأعطي المجني عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه
ولهم بناء على هذا الأصل اختلافات شاهدة بفساده
الأول قال طائفة جاز أن يكون العوض في الدنيا
وقال آخرون بل يجب أن يكون في الآخرة كالثواب
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك عبرة له تزجره عن القبيح
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك في الجنة وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها
الشرح
المقصد السادس اعلم ان الأمة قد اجتمعت إجماعا مركبا على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح (3/285)
منه ولا واجب عليه فلا يتصور منه فعل قبيح ولا ترك واجب
وأما المعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا الخلاف في مبنى الحكم المتفق عليه فرع المسألة المتقدمة أعني قاعدة التحسين والتقبيح
إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه
ونحن قد أبطلنا حكمه وبينا فيما تقدم أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا وجوب عليه كما لا وجوب عنه ولا استقباح منه
وأما المعتزلة فإنهم أوجبوا عليه تعالى بناء على أصلهم أمورا فنذكرها هنا ونبطلها بوجوه مخصوصة بها
وإن كان إبطال أصلها كافيا في إبطالها
الأول اللطف
وفسروه بأنه الفعل الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ولا ينتهي إلى حد الإلجاء كبعثة الأنبياء فإنا نعلم بالضرورة أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيقال لهم هذا الدليل الذي تمسكتم به في وجوب اللطف ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متفقين لكان لطفا وأنتم لا توجبونه على الله تعالى بل نجزم بعدمه فلا يكون واجبا عليه
الثاني من الأمور التي أوجبوها الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد على الله بالطاعة
فالإخلال به قبيح
وهو ممتنع عليه تعالى
وإذا كان تركه ممتنعا كان الإتيان به واجبا
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وإنه لجد قبيح خصوصا بالنسبة إلى الحكيم تعالى
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره وهو باطل إجماعا وقبيح من (3/286)
الجواد الكريم
وأما نفعه وهو المطلوب لأن إيصال ذلك النفع واجب لئلا يلزم نقض الغرض فيقال لهم الطاعة التي كلف بها لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه واستحقاقه إياه وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض ولا استحالة فيه كما سيجيء عن قريب
أو هو لضر قوم كالكافرين ونفع آخرين كالمؤمنين كما هو الواقع
أو ليس ذلك على سبيل الوجوب بل هو تفضل على الأبرار وعدل بالنسبة إلى الفجار
الثالث من تلك الأمور العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وهو قبيح كما في الشاهد إذا كان له عبدان مطيع وعاص
وفيه أي في تركه أيضا إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
وذلك لأنه تعالى ركب فيهم شهوة القبائح فلو لم يجزم المكلف بأنه يستحق على ارتكاب القبيح عقابا لا يجوز الإخلال به بل جوز ترك العقاب لكان ذلك إذنا من الله سبحانه وتعالى للعصاة في ارتكاب الشهوات بل إغراء بها
وهو قبيح يستحيل صدوره من الله تعالى
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وترك العقاب لا يستلزم التسوية
فإن المطيع مثاب دون العاصي
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا يعني أنه ليس يلزم من جواز ترك العقاب على المعصية إذن وإغراء
وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن ظن العقاب رجحان على تركه إذ مع رجحانه لا يلزم من مجرد تجويز تركه تجويزا مرجوحا الإذن والإغراء كما أن جواز تركه بل وجوبه على تقدير إثابته التي يمكن صدورها عنه لا يستلزمهما
الرابع من الأمور الواجبة عندهم الأصلح للعبد في الدنيا فيقال لهم الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة أن لا يخلق مع أنه مخلوق فلم يراع في حقه ما كان أصلح له فلا يكون الأصلح واجبا عليه تعالى (3/287)
حكاية شريفة تنحي بالقلع على هذه القاعدة لقائله بوجوب الأصلح على الله سبحانه وتعالى
قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي
ما تقول في ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال الأشعري
فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن
قال الجبائي يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي
فبهت الجبائي فترك الأشعري مذهبه إلى مذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح
وكان هذا أول ما خالف فيه الأشعري المعتزلة ثم اشتعل بهدم قواعدهم وتشييد مباني الحق بعون الله وحسن توفيقه
الخامس من تلك الأمور العوض عن الآلام فإنهم قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة كألم الحد لم يجب على الله عوضه
وإلا أي وإن لم يقع جزاء فإن كان الإيلام من الله وجب العوض عليه فإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته وأعطي المجنى عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه أي لا ينقص عن إيلامه فهو احتراز عما دونه لا عما فوقه
ولهم بناء على هذا الأصل الذي هو وجوب العوض المعرف عندهم أنه نفع مستحق خال عن التعظيم والإجلال اختلافات ركيكة شاهدة بفساده أي بفساد الأصل
الأول قال طائفة كأبي هاشم وأتباعه جاز أن يكون العوض في (3/288)
الدنيا إذ لا يجب دوامه
وقال آخرون كالعلاف والجبائي وكثير من متقدميهم بل يجب أن يكون في الآخرة الوجوب دوامه كالثواب
وذلك لأن انقطاعه يوجب ألما فيستحق بهذا الألم عوضا آخر ويتسلسل
ورد بجواز عدم شعوره بالانقطاع
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع أي هل يجب دوامه أو يجوز انقطاعه وهو أصل الاختلاف الأول
وقد عرفت توجيهه هناك
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب أو لا فمن قال بالإحباط تمسك بأنه لولاه لكان الفاسق والكافر في كل وقت من أوقات الآخرة في نعيم العوض وعقاب الفسق أو الكفر والجمع بينهما محال
ومن لم يقل به ذهب إلى أن عوض أهل النار بإسقاط جزء من عقابهم بحيث لا يظهر لهم التخفيف
وذلك بتفريق الجزء الساقط على الأوقات كيلا يتألم بانقطاع التخفيف
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا يجوز
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به على طريق التفضل مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك الإيلام عبرة له تزجره عن القبيح يعني أن المانعين من جواز التفضل بمثل ما يوصل عوضا اختلفوا فجوز بعضهم الإيلام المجرد عن التعويض واعتبر آخرون أن يكون مع التعويض شيء آخر وهو أن يكون لطفا زاجرا له ولغيره
وقيد العوض بالزائد لأنهم صرحوا بأن العوض من الله (3/289)
يجب أن يكون زائدا بحيث يرضي كل عاقل يتحمل ذلك الألم لأجل ذلك العوض
هذا والمذكور في كلام الآمدي هو أن المانعين من جواز التفضل جوزوا الآلام لمجرد التعويض كالجبائي وأبي الهذيل وقدماء المعتزلة والمجوزين له لم يجوزوا الآلام إلا بشرط التعويض واعتبار الغير بتلك الآلام وكونها ألطافا في زجر غاو عن غوايته
وذهب عباد الضميري إلى جواز الآلام لمحض الاعتبار من غير تعويض
وذهب أبو هاشم إلى أن الآلام لا تحسن لمجرد التعويض مع القدرة على التفضل بمثل العوض إلا إذا علم الله أنه لا ينفعه إلا بجهة التعويض
فعليك بالتأمل في مطابقته لما في الكتاب
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك التعويض في الدنيا أو في الآخرة وإذا كان في الآخرة فهل هو في الجنة أو في غيرها وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء وأنه دائم غير منقطع
هذه اختلافاتهم على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها
المقصد السابع
المتن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب (3/290)
لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وعبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول وكان كأمر الجماد
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه أو إرادته أو إخباره
فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة مع الفعل ولا تتعلق بالضدين
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وجواز التكليف به فرع تصوره
فمنا من قال لو لم يتصور لامتنع الحكم بامتناع تصوره وطلبه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا
وهو منتف ههنا
فإنه إنما يتصور إما منفيا بمعنى أنه ليس لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور إجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين
وذلك غير تصور وقوعه ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له ومراد من قال المستحيل لا يعلم
المرتبة الوسطى أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه كخلق الأجسام أم لا كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا نجوزه
وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وتمنعه المعتزلة وبه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب نصب للدليل في غير محل النزاع (3/291)
الشرح
المقصد السابع تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا في المقصد السادس من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا كما في الشاهد
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وكلف عبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول
وكان كأمر الجماد الذي لا شكل في كونه سفها
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه
أو تعلق إرادته أو إخباره بعدمه فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ولا تتعلق بالضدين بل لكل واحد منهما قدرة على حدة تتعلق به حال وجوده عندنا
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا بالإيمان وترك الكبائر بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا
وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وإعدام القديم
وجواز التكليف به فرع تصوره وهو مختلف فيه
فمنا من قال لو لم يتصور الممتنع لذاته لامتنع الحكم عليه بامتناع تصوره
و (3/292)
امتناع طلبه إلى غير ذلك من الأحكام الجارية عليه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا أي ثابتا لأن الطالب لثبوت شيء لا بد أن يتصور أولا مطلوبه على الوجه الذي يتعلق به طلبه ثم يطلبه
وهو أي التصور على وجه الوقوع والثبوت منتف ههنا أي في الممتنع لنفس مفهومه فإنه يستحيل تصوره ثابتا
وذلك لأن ماهيته من حيث هي هي تقتضي انتفاءه وتصور الشيء على خلاف ما تقتضيه ذاته لذاته لا يكون تصورا له بل لشيء آخر كمن يتصور أربعة ليست بزوج فإنه لا يكون متصورا للأربعة قطعا بل الممتنع لذاته إنما يتصور على أحد وجهين
إما منفيا بمعنى أنه ليس لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور اجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين وذلك أي تصوره على أحد هذين الوجهين كاف في الحكم عليه دون طلبه لأنه غير تصور وقوعه وثبوته ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به أي بأن تصوره كذلك كما نقلناه عنه في باب العلم
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له
كما أشرنا إليه هناك أيضا
ولعله مراد من قال المستحيل لا يعلم أي لا يعلم من حيث ذاته وماهيته
المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه بأن لا يكون من جنس ما تتعلق به كخلق الأجسام فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بإيجاد الجوهر أصلا
أم لا بأن يكون من جنس ما تتعلق به لكن يكون من نوع أو صنف لا تتعلق به كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا أي التكليف بما لا يطاق عادة نجوزه نحن وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وتمنعه المعتزلة لكونه قبيحا عندهم
وبه (3/293)
أي بما ذكرناه من التفصيل وتحرير المتنازع فيه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب وكونه مأمورا بالجمع بين المتناقضين نصب للدليل في غير النزاع إذ لم يجوزه أحد
ولقائل أن يقول ما ذكره من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصورة وإن بعضا منا قالوا تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه
المقصد الثامن
المتن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهب الأشاعرة وخالفهم فيه المعتزلة
لنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء وجهان
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه
وهو معنى الكمال
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض لا يكون عائدا إلى غيره فليس كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه
قلنا نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام
وإلا لم يصلح أن يكون غرضا له كيف وأنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أن غرض الفعل خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فلا يكون شيء من (3/294)
الكائنات إلا فعلا له لا غرضا لفعل آخر لا يحصل إلا به ليصلح غرضا لذلك الفعل وليس جعل البعض غرضا أولى من البعض
وأيضا فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض
ولا يكون ذلك لغرض آخر
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض
احتجوا بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح يجب تنزيه الله عنه
قلنا إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه فهو أول المسألة
وإن أردتم أمرا آخر فلا بد من تصويره ثم من تقريره ثم من الدلالة على امتناعه على الله سبحانه وتعالى
تذنيب إذا قيل لهم فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ قالوا الغرض فيها تعريض العبد للثواب
فإن الثواب تعظيم وهو بدون استحقاق سابق قبيح فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح كما تفضل بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وإن سلم قبحه فيمكن التعريض له بدون هذه المشاق إذ ليس الثواب على قدر المشقة وعوضا
ألا يرى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام
وما يروى أن أفضل العبادات أحمزها
فذلك عند التساوي في المصالح
ثم أنه معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب
ومن أين لكم أن ذلك أكثر من هذا
الشرح
المقصد الثامن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهبت الأشاعرة وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من (3/295)
الأغراض والعلل الغائية ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين
وخالفهم فيه المعتزلة وذهبوا إلى وجوب تعليلها
وقالت الفقهاء لا يجب ذلك
لكن أفعاله تابعة لمصالح العباد تفضلا وإحسانا
لنا في إثبات مذهبنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه تعالى شيء فلا يجب حينئذ أن يكون فعله معلالا بغرض
ولا يقبح منه شيء فلا يقبح أن تخلو أفعاله عن الأغراض بالكلية وذلك يبطل مذهب المعتزلة وجهان يبطلان المذهبين معا
أعني وجوب التعليل ووقوعه تفضلا
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه لا يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه وذلك لأن ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا له على الفعل وسببا لإقدامه عليه بالضرورة
فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه وهو معنى الكمال فإذن يكون الفاعل مستكملا بوجوده وناقصا بدونه
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض قد يكون عائدا إلى الفاعل فيلزم ما ذكرتم من النقصان والاستكمال
وقد يكون عائدا إلى غيره فلا يلزم فليس يلزم من كونه تعالى فاعلا لغرض أن يكون من قبيل الأول
إذ ليس كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه بل ذلك في حقه تعالى محال لتعاليه عن التضرر والانتفاع فتعين أن يكون غرضه راجعا إلى عباده وهو الإحسان إليهم بتحصيل مصالحهم ودفع مفاسدهم
ولا محذور في ذلك
قلنا نفع غيره والإحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام لأنه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النفع والإحسان ما هو أولى به وأصلح له
وإلا أي وإن لم يكن أولى بل كان مساويا أو مرجوحا لم يصلح أن يكون غرضا له لما مر من العلم الضروري بذلك بل نقول كيف ندعي وجوب تعليل أفعاله (3/296)
تعالى بمنافع العباد
وإنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أي ثاني الوجهين أن غرض الفعل أمر خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه أي يكون للفعل مدخل في وجوده
وهذا مما لا يتصور في أفعاله إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فيما سلف
فلا يكون شيء من الكائنات والحوادث وإلا فعلا له صادرا عنه بتأثير قدرته ابتداء بلا واسطة لا غرضا لفعل آخر له مدخل في وجوده بحيث لا يحصل ذلك الشيء إلا به ليصلح أن يكون غرضا لذلك الفعل حاصلا بتوسطه
وليس جعل البعض من أفعاله وآثاره غرضا أولى من البعض الآخر إذ لا مدخل لشيء منها في وجود الآخر على تقدير استنادها بأسرها إليه على سواء فجعل بعضها غرضا من بعض آخر دون عكسه تحكم بحت
فلا يتصور تعليل في أفعاله أصلا
وأيضا إذا عللت أفعاله بالأغراض فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض والمقصود في نفسه
وإلا تسلسلت الأغراض إلى ما لا نهاية لها
ولا يكون ذلك الذي هو غرض ومقصود في نفسه لغرض آخر لأنه خلاف ما فرض
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض إذ قد انتهى أفعاله إلى فعل لا غرض له وهو الذي كان مقصودا في نفسه
وقد يقال لا يجب في الغرض كونه مغايرا بالذات بل يكفيه التغاير الاعتباري
احتجوا أي المعتزلة على وجوب الغرض في أفعاله تعالى بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح بالضرورة يجب تنزيه الله عنه لكونه عالما (3/297)
بقبحه واستغنائه عنه فلا بد إذن في فعله من غرض يعود إلى غيره نفيا للعبث والنقض
قلنا في جوابهم إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه من الأفعال فهو أول المسألة المتنازع فيها إذ نحن نجوز أن يصدر عنه تعالى فعل لا غرض فيه أصلا
وأنتم تمنعونه وتعبرون عنه بالعبث
فلا يجديكم نفعا
وإن أردتم بالعبث أمرا آخر فلا بد لكم أولا من تصويره أي تصوير ذلك الأمر الآخر حتى نفهمه ونتصوره
ثم لا بد ثانيا من تقريره أي بيانه ثبوت ذلك المفهوم للفعل على تقدير خلوه من الغرض ثم لا بد ثالثا من الدلالة على امتناعه أي استحالة الفعل المتصف بذلك المفهوم الآخر على الله سبحانه وتعالى حتى يتم لكم مطلوبكم
وقد يقال في الجواب إن العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى
لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه وعللا مقتضية لفاعليته فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله حتى يلزم استكماله بها بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتبة عليها
فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد
وما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلة الغائية
تذنيب إذ قيل لهم أنتم قد أوجبتم الغرض في أفعاله تعالى فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ
قالوا الغرض فيها عائد إلى العباد وهو تعريض العبد للثواب في الدار الآخرة وتمكينه منه
فإن الثواب تعظيم أي منفعة دائمة مقرونة بتعظيم وإكرام
وهو أي التعظيم المذكور بدون استحقاق سابق قبيح عقلا
ألا يرى أن السلطان إذا أمر بزبال وأعطاه من المال ما لا (3/298)
يدخل تحت الحصر لم يستقبح منه أصلا بل عد جودا وفضلا وإغناء للفقير وتبعيدا له عن ساحة الهوان بالكلية
لكنه مع ذلك إذا نزل له وقام بين يديه معظما له ومكرما إياه وأمر خدمه بتقبيل أنامله استقبح منه ذلك وذمه العقلاء ونسبوه إلى ركاكة العقل وقلة الدراية
فالله سبحانه لما أراد أن يعطي عباده منافع دائمة مقرونة بإجلال وإكرام منه ومن ملائكته المقربين ولم يحسن أن يتفضل بذلك عليهم ابتداء بلا استحقاق كلفهم ما يستحقونه به
فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح بل لا قبح هناك أصلا
ولو سلم قبحه فإنما يقبح ممن يجوز عليه الانتفاع والتضرر لا من الله تعالى
فإنه يجوز أن يتفضل به كما تفضل على عباده بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وأنت خبير بأن المستقبح عندهم هو التفضل بالتعظيم الموعود دون النعم كما صورناه لكنه سند للمنع فلا يجدي دفعه
وإن سلم قبحه من الله تعالى أيضا فيمكن التعريض له أي للثواب بدون هذه المشاق العظيمة
إذ ليس الثواب على قدر المشقة وعوضا مساويا لها
ألا ترى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة كالصلاة والصيام وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي من ظالم يريد إهلاكه أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام إذ يستحق بهذه الكلمة من الثواب ما يزيد على ثواب كثير من العبادات
وإن كانت أشق منها
وما يروى من أن فضل العبادات أحمزها أي أشقها فذلك عند التساوي في المصالح فلا ينافي أن يكون الأخف الأسهل أكثر ثوابا إذا كان أكثر مصلحة وأعظم فائدة
وإذا أمكن التعريض المذكور بدون تلك المشاق كان التكليف بها عاريا عن الغرض ثم إنهم أي ما ذكرتم من أن التكليف تعريض للثواب (3/299)
معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب إذ لولا التكليف لم يستحقا عقابا
ومن أين لكم أن ذلك التعريض للثواب أكثر من هذا أي التعريض للعذاب بل نقول إن الثاني أكثر من الأول لأن الغلبة للكفرة والفسقة
وإذا لم تكن المنفعة أكثر من المضرة لم تصلح تلك المنفعة لأن تكون غرضا للحكيم العالم بأحوال الأشياء كلها الآتي بالأفعال على وجهها
فبطل ما ذكرتموه من غرض التكليف (3/300)
المرصد السابع في أسماء الله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن الاسم غير التسمية
لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه مغاير له والتسمية فعل الواضع
وأنه منقض
وليس الاسم كذلك
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره بل في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي هي أم باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبىء عنه فلذلك قال الشيخ قد يكون الاسم عين المسمى نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنه غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية
ومن مذهبه أنها لا هو ولا غيره كما مر (3/301)
الشرح
المرصد السابع في أسماء الله تعالى وبه تنتهي مباحث الإلهيات
وفيه مقاصد
المقصد الأول الاسم غير التسمية لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه أي تخصيص الاسم بشيء مغاير له
أي للاسم كما تشهد به البديهة
وأيضا التسمية فعل الوضع وأنه منقض فيما مضى من الزمان
وليس الاسم كذلك
وذهب بعضهم إلى أن التسمية هي عين الأقوال الدالة التي هي الأسماء كما سيرد عليك
ولم يلتفت إليه المصنف
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره فإن هذا مما لا يشتبه على أحد بل النزاع في مدلول الاسم هو الذات من حيث هي هي أم هو الذات باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبىء عنه
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعري قد يكون الاسم أي مدلوله عين المسمى أي ذاته من حيث هي نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنها أي تلك النسبة غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته ومن مذهبه أنها أي الصفة الحقيقية القائمة بذاته لا هو ولا غيره كما مر
فكذا الحال في الذات المأخوذة مع تلك الصفة
قال الآمدي اتفق العقلاء على المغايرة بين التسمية والمسمى
وذهب أكثر أصحابنا إلى أن التسمية هي نفس الأقوال الدالة وإن الاسم هو نفس المدلول ثم اختلف هؤلاء فذهب ابن فورك وغيره إلى أن كل اسم هو (3/302)
المسمى بعينه
فقولك الله قول دال على اسم هو المسمى وكذا قولك عالم وخالق فإنه يدل على الرب الموصوف بكونه عالما وخالقا
وقال بعضهم من الاسماء ما هو عين كالموجود والذات
ومنها ما هو غير كالخالق
فإن المسمى ذاته والاسم هو نفس الخالق وخلقه غير ذاته
ومنها ما ليس عينا ولا غيرا كالعالم
فإن المسمى ذاته والاسم علمه الذي ليس عين ذاته ولا غيرها
وذهبت المعتزلة إلى أن الاسم هو التسمية
ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا
وذهب الأستاذ أبو نصر بن أيوب إلى أن لفظ الاسم مشترك بين التسمية والمسمى
فيطلق على كل منهما ويفهم المقصود بحسب القرائن
ولا يخفى عليك أن النزاع على قول أبي نصر إنما هو في لفظة أ س م وأنها تطلق على الألفاظ فيكون الاسم عين التسمية بالمعنى المذكور لا بمعنى فعل الواضع أو تطلق على مدلولاتها فيكون عين المسمى
وكلا الاستعمالين ثابت كما في قولك الأسماء والأفعال والحروف
وقوله تعالى سبح اسم ربك و تبارك اسم ربك أي مسماه
وقول لبيد ثم اسم السلام عليكما
لكن هذا بحث لغوي لا فائدة فيه ههنا (3/303)
وقال الإمام الرازي المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو اسم المسمى وعن المعتزلة أنه التسمية
وعن الغزالي أنه مغاير لهما لأن النسبة وطرفيها متغايرة قطعا
والناس قد طولوا في هذه المسألة
وهو عندي فضول لأن الاسم هو اللفظ المخصوص والمسمى ما وضع ذلك اللفظ بإزائه فنقول الاسم قد يكون غير المسمى
فإن لفظة الجدار مغايرة لحقيقة الجدار
وقد يكون عينه
فإن لفظ الاسم اسم للفظ الدال على المعنى المجرد عن الزمان
ومن جملة الألفاظ لفظ الاسم فيكون لفظ الاسم اسما لنفسه فاتحد ههنا الاسم والمسمى
قال فهذا ما عندي في هذه المسألة
المقصد الثاني في أقسام الاسم
المتن اعلم أن الاسم إما أن يؤخذ من الذات أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعلقها
وقد تكلمنا فيه
وأما المأخوذ من الجزء فمحال عليه لما بينا أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي فجائز
ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا
وقد يكون إضافيا وقد يكون سلبيا
وأما المأخوذ من الفعل فجائز
فهذه أقسامه البسيطة
وقد تتركب ثنائيا وأكثر وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد
الشرح
المقصد الثاني في أقسام الاسم
إعلم أن الاسم الذي يطلق على (3/304)
الشيء إما أن يؤخذ من الذات بأن يكون المسى به ذات الشيء من حيث هو أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل الصادر عنه
فهذه هي أقسام الاسم على الإطلاق
ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعقلها
وقد تكلمنا فيه
فمن ذهب إلى جواز تعقل ذاته جوز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة
ومن ذهب إلى امتناع تعقلها لم يجوز له اسما مأخوذا من ذاته لأن وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهيمه
فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم فلا يتصور بإزائه
وفيه بحث
لأن الخلاف في تعقل كنه ذاته ووضع الاسم لا يتوقف عليه إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه من وجوهه ويوضع الاسم لخصوصيته ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا بكنهها ويكون ذلك الوجه مصححا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم على ما مر من أن لفظ الله اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معنى فيه
وأما المأخوذ من الجزء كالجسم للإنسان مثلا فمحال عليه تعالى لما بينا من أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب فلا يتصور لذاته تعالى جزء حتى يطلق اسمه عليه
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي الداخل في مفهوم الاسم فجائز في حقه تعالى ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا كالعليم
وقد يكون إضافيا كالماجد بمعنى المعالي وقد يكون سلبيا كالقدوس
وأما المأخوذ من الفعل فجائز في حقه تعالى أيضا
فهذه الأقسام المذكورة للاسم هي أقسامه البسيطة وقد تتركب ثنائيا وأكثر
وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد (3/305)
المقصد الثالث
المتن تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها على الإذن فيه
وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما فلنحصها إحصاء
الله اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره
فقيل علم جامد
وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من إله إذا تعبد
وقيل من الوله وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية
وقيل هو القادر على الخلق
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه صفة سلبية
الرحمن
الرحيم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
الملك أي يعز ويذل
ولا يذل
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل التام القدرة
فصفة القدرة
القدوس المبرأ على المعايب
وقيل الذي لا يدركه الأوهام والأبصار
فصفة سلبية
السلام ذو السلامة عن النقائص
فصفة سلبية
وقيل منه وبه السلامة (3/306)
ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى سلام قولا من رب رحيم
فصفة كلامية
المؤمن المصدق لنفسه ورسله
إما بالقول فصفة كلامية أو بخلق المعجز ففعلية
وقيل المؤمن لعباده من الفزع الأكبر إما بفعله الأمن أو بأخباره
المهيمن الشاهد
وفسر بالعلم وبالتصديق بالقول
وقيل الأمين أي الصادق في قوله
العزيز قيل لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته
وقيل لا مثل له
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين
وقيل القادر والعزة القدرة
ومنه المثل من عزيز
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح
ومنه جبر العظم
وقيل بمعنى الإكراه
أي يجبر خلقه على ما يريده
وقيل منيع لا ينال
ومنه نخلة جبارة
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن
وقيل العظيم
أي انتفت عنه صفات النقص
وقيل وحصل له جميع الكمال
المتكبر قيل في معناه ما قيل في العظيم
الخالق البارىء معناهما واحد
المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور والتراكيب
الغفار المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها (3/307)
القهار غالب لا يغلب
الوهاب كثير العطاء
الرزاق يرزق من يشاء
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح
أي النصر
وقيل الحاكم
وهو إما بالإخبار أو بالقضاء
ومنه قوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أي احكم
وقيل الحاكم المانع
ومنه حكمة اللجام
العليم العالم بجميع المعلومات
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة
الخافض من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للنازل
المعز معطي العزة
المذل الموجب لحط المنزلة
السميع
البصير ظاهر
الحكم الحاكم وقيل هو الصحيح علمه وقوله وفعله
العدل لا يقبح منه ما يفعل
اللطيف خالق اللطف
وقيل العالم بالخفيات (3/308)
الخبير العليم
وقيل المخبر
الحليم لا يعجل العقاب
العظيم قد مر
الغفور كالغفار
الشكور المجازي على الشكر
وقيل يثيب على القليل الكثير
وقيل المثني على من أطاعه
العلي
الكبير كالمتكبر
الحفيظ العليم
وقيل لا يشغله شيء عن شيء
وقيل يبقي صور الأشياء
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر
وقيل الشهيد وهو العالم بالغائب والحاضر
الحسيب الكافي يخلق ما يكفي العباد
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا
الجليل كالمتكبر
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود
وقيل العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
المجيب يجيب الأدعية (3/309)
الواسع
الحكيم
الودود المودود كالحلوب والركوب
وقيل الواد
أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق العدل
وقيل الواجب لذاته
وقيل المحق أي الصادق
وقيل مظهر الحق
الوكيل المتكفل بأمور الخلق
وقيل الموكول إليه ذلك
القوي القادر على كل أمر
المتين هي النهاية في القدرة
الولي الحافظ للولاية
الحميد المحمود
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود
وقيل القادر
ومنه علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق
المحيي خالق الحياة (3/310)
المميت خالق الموت
الحي ظاهر
القيوم الباقي الدائم
وقيل المدبر
الواجد الغني
وقيل العالم
الماجد العالي
وقيل من له من الولاية والتولية
الأحد قد مر تفسيره
الصمد السيد
وقيل الحليم
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول
وقيل الصمد ما لا جوف له
القادر المقتدر ظاهر
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة
وقيل الغالب
الباطن المحتجب عن الحواس
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعلي
البر فاعل البر
التواب يرجع لفضله على عباده إذا تابوا إليه
المنتقم المعاقب لمن عصاه (3/311)
العفو الماحي
الرؤوف المريد للتخفيف
مالك الملك يتصرف فيه
ذو الجلال والإكرام كالجليل
المقسط العادل
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المغني المحسن لأحوال الخلق
المانع لما يشاء من المنافع
الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور
الهادي يخلق الهدى
البديع أي المبدع
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم
الشرح
المقصد الثالث تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها (3/312)
على الإذن فيه
وليس الكلام في أسمائه الأعلام الموضوعة في اللغات إنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال
فذهبت المعتزلة والكرامية إلى أنه إذا دل العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك الإطلاق إذن شرعي أو لم يرد
وكذا الحال في الأفعال
وقال القاضي أبو بكر من أصحابنا كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذ لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه
فمن ثمة لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأن المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ولا لفظ الفقيه لأن الفقه فهم غرض التكلم من كلامه
وذلك مشعر بسابقة الجهل ولا لفظ العاقل لأن العقل علم مانع عن الإقدام على ما لا ينبغي مأخوذ من العقال
وإنما يتصور هذا المعنى فيمن يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الفطن لأن الفطانة سرعة إدراك ما يراد تعريضه على السامع فتكون مسبوقة بالجهل ولا لفظ الطبيب لأن الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع إيهام بما لا يصح في حقه تعالى
وقد يقال لا بد من نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقيف
وذهب الشيخ ومتابعوه إلى أنه لا بد من التوقيف
وهو المختار وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا بل لا بد من الاستناد إلى إذن الشرع
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما
فقد ورد في الصحيحين أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ليس فيهما تعيين تلك الأسماء
لكن الترمذي والبيهقي عيناها كما في الكتاب
وإنما قال في المشهور إذ قد ورد التوقيف بغيرها
أما في القرآن فكالمولى والنصير (3/313)
والغالب والقاهر والقريب والرب والناصر والأعلى والأكرم وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وذي الطول وذي القوة وذي المعراج إلى غير ذلك
وأما في الحديث فكالحنان والمنان
وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة كالتام والقديم والوتر والشديد والكافي وغيرها
وإحصاؤها إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعنا وتعدادها مرارا
وإما ضبطها حصرا وتعدادا وعلما وإيمانا وقياما بحقوقها
وبالجملة فلنحصها إحصاء طمعا في دخول الجنة فنقول
الله وهو اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره أي لا يطلق على غيره أصلا
فقيل هو علم جامد لا اشتقاق له
وهو أحد قولي الخليل وسيبويه
والمروي عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان الخطابي والغزالي رحمهم الله تعالى وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من أله بفتح اللام
أي عبد
وهو المراد بقوله إذا تعبد
وقيل الإله مأخوذ من الوله
وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية هي كونه معبودا للخلائق ومختارا للعقول
وقيل معنى الإله هو القادر على الخلق فيرجع إلى صفة القدرة
وقيل هو الذي لا يكون إلا ما يريد
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه على هذين الوجهين (3/314)
صفة سلبية فعلية
والصحيح أن لفظة الله على تقدير كونها في الأصل صفة فقد انقلبت علما مشعرا بصفات الكمال للاشتهار
الرحمن
الرحيم هما بمنزلة الندمان والنديم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
وقيل معطي جلائل النعم ودقائقها
فالمرجع حينئذ صفة فعلية
الملك أي يعز من يشاء ويذل من يشاء
ولا يذل أي يمتنع إذلاله
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل معناه التام القدرة
فصفة القدرة مرجعه
القدوس أي المبرأ عن المعايب
وقيل هو الذي لا يدركه الأوهام والأبصار فصفة سلبية على الوجهين
السلام أي ذو السلامة عن النقائص مطلقا في ذاته وصفاته وأفعاله فصفة سلبية
وقيل معناه منه وبه السلامة أي هو المعطي للسلامة في المبدأ والمعاد ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى سلام قولا من رب رحيم
فصفة كلامية
المؤمن هو المصدق لنفسه فيما أخبر به كالوحدانية مثلا في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو ورسوله فيما أخبروا به في تبليغهم عنه إما بالقول نحو قوله تعالى محمد رسول الله فصفة كلامية أو بخلق المعجز الدال على صدق الرسل وخلق العالم على النظام المشاهد الدال على الوحدانية ففعلية
وقيل معناه المؤمن لعباده المؤمنين من (3/315)
الفزع الأكبر إما بفعله وإيجاده الأمن والطمأنينة فيهم فيرجع إلى صفة فعليه
أو إخباره إياهم بالأمن من ذلك فيكون صفة كلامية
المهيمن أي الشاهد
وفسر كونه شاهدا تارة بالعلم فيرجع إلى صفة العلم وأخرى بالتصديق بالقول فيرجع إلى صفة كلامية
وقيل معنى المهيمن الأمين
أي الصادق في قوله فيكون صفة كلامية
وقيل هو بمعنى الحفيظ
وسيأتي معناه
العزيز قيل معناه لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته ويقرب من هذا تفسيره بالذي لا يرام أو الذي لا يخالف أو الذي لا يخوف بالتهديد
وقيل لا مثل له وهو بهذا المعنى وبالمعنى الأول مشتق عن عز الشيء
يعز بالكسر في المستقبل إذا لم يكن له نظير
ومنه عز الطعام في البلد إذا تعذر
وحاصل الكل يرجع إلى صفة سلبية
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين فيرجع إلى صفة فعلية هي التعذيب أو الإثابة
وقيل القادر
والعزة والقدرة والغلبة ومنه المثل من عزيز أي من قدر وغلب سلب
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح أي المصلح لأمور الخلائق فإنه جابر كل كسير
ومنه جبر العظم أي أصلحه
وقيل من الجبر بمعنى الإكراه
يقال جبره السلطان على كذا
وأجبره إذا أكرهه أي يجبر خلقه ويحملهم على ما يريده فمرجعه على المعنيين صفة فعليه
وقيل معناه منيع لا ينال فإن سبحانه وتعالى متعال عن أن تناله يد الأفكار أو يحيط به إدراك الأبصار
ومنه نخلة جبارة إذا طالت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها
فمرجعه إلى صفة إضافية مع سلبية
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن وقد يعبر عن هذا المعنى بأنه إذ لا يتمنى ما لا يكون ولا يلتهف على ما لم يكن
فمرجعه إلى الصفات السلبية
وقيل هو العظيم هكذا (3/316)
نقل عن ابن عباس ثم فسر المصنف العظيم بقوله أي انتفت عنه صفات النقص فمرجعه صفة سلبية
وقيل أي انتفى عنه تلك الصفات وحصل له جميع صفات الكمال فيرجع إلى الصفات السلبية والثبوتية معا
المتكبر قيل في معناه ما قيل في معنى العظيم وقال الغزالي رحمه الله المتكبر المطلق هو الذي الكل يرى حقيرا بالإضافة إلى ذاته
فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وصاحبه محقا
ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا الله
وإن كانت كاذبة كان التكبر باطلا والمتكبر مبطلا
الخالق
البارىء معناهما واحد أي المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور المختلفة والتراكيب المتفاوتة
فهذه الأسماء الثلاثة من صفات الفعل
قال الغزالي رحمه الله قد يظن أن هذه الثلاثة مترادفة وأنها راجعة إلى الخلق والاختراع
والأولى أن يقال ما يخرج من العدم إلى الوجود يحتاج أولا إلى التقدير وثانيا إلى الإيجاد على وفق ذلك التقدير وثالثا التصوير والتزيين كالبناء بقدرة المهندس ثم يبنيه الباني ثم يزينه النقاش
فالله سبحانه خالق من حيث أنه مقدر وبارىء من حيث أنه موجد ومصور من حيث أنه يرتب صور المخترعات أحسن ترتيب ويزينها أكمل تزيين
الغفار أي المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها فهو راجع إلى صفة الإرادة
واشتقاقه من الغفر بمعنى الستر
القهار غالب لا يغلب فهو صفة فعلية سلبية (3/317)
الوهاب كثير العطاء بلا عوض
فيكون صفة فعلية
الرزاق يرزق من يشاء من الحيوان ما ينتفع به من مأكول ومشروب وملبوس
فهو من صفات الفعل
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح أي النصر وهو على التقديرين راجع إلى الصفات الفعلية
وقيل الحاكم
وهو أي الحكم إما بالإخبار والقول فيكون صفة كلامية أو بالقضاء والقدر فيرجع إلى صفة القدرة والإرادة
والفتاح بمعنى الحاكم مشتق من الفتاحة
وهي الحكم
ومنه قوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أي أحكم
وقيل الحاكم معناه المانع
ومنه حكمه اللجام وهي الحديدة المانعة من جماح الدابة
فهو صفة فعلية
العليم العالم بجميع المعلومات فهو صفة حقيقية
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة في العطية
الخافض دافع البلية من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للمنازل
المعز معطي العزة وفي أكثر نسخ الكتاب معطي القوة
وكلاهما ظاهر
المذل الموجب لحط المنزلة
فهذه كلها صفة فعلية (3/318)
السميع البصير ظاهر معناهما مما سبق
الحكم الحاكم وقد عرفت معناه ومرجعه وقيل الحكم هو الصحيح علمه وقوله وفعله فيرجع إلى هذه الصفات
العدل لا يقبح منه ما يفعل فهو صفة سلبية
اللطيف خالق اللطف يلطف بعباده من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون
وقيل العالم بالخفيات فعلى الأول يرجع إلى الفعل وعلى الثاني إلى العلم
الخبير معناه العليم فصفة علمية
وقيل المخبر فصفة كلامية
الحليم لا يعجل العقاب للعصاة قبل وقته المقدر
فيرجع إلى السلب
العظيم قد مر معناه في تفسير الجبار
الغفور كالغفار بلا فرق على قياس الرحمن الرحيم
الشكور المجازي على الشكر فإن جزاء الشيء يسمى باسمه
وقيل معناه أنه يثيب على القليل من الطاعة الكثير من النعمة
وعلى التقديرين هو صفة فعلية
وقيل معناه المثني على من أطاعه فيكون صفة كلامية
العلي
الكبير هما كالمتكبر في المعنى
الحفيظ معناه العليم من الحفظ الذي هو ضد السهو النسيان (3/319)
ومرجعه العلم
وقيل من لا يشغله شيء عن شيء فمرجعه صفة سلبية
وقيل يبقي صور الأشياء فصفة فعلية من الحفظ الذي يضاد التضييع
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر فيرجع على التقديرين إلى الفعل
وقيل معناه الشهيد هو العالم بالغائب والحاضر كما سيأتي في تفسيره فيرجع إلى العلم
وقيل المقتدر فيرجع إلى القدرة
الحسيب الكافي
يخلق ما يكفي العباد في مصالحهم ومهماتهم فهو صفة فعلية من قولهم أكرمني فلان وأحسبني
أي أعطاني حتى قلت حسبي
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا من خير وشر فيرجع إلى صفة كلامية
الجليل كالمتكبر
وقيل هو المتصف بصفة الجلال والجمال
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود ومرجعهما الفعل والقدرة
وقيل معناه العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي لنفائسها فيرجع إلى صفة إضافية
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
وقال الغزالي هو أخص من الحفيظ
لأن الرقيب هو الذي يراعي الشيء بحيث لا يغفل عنه أصلا ويلاحظه ملاحظة دائمة لازمة لزوما لو عرفه الممنوع عن ذلك الشيء لما أقدم عليه
فكأنه يرجع إلى العلم والحفظ ولكن باعتبار اللزوم وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول (3/320)
المجيب يجيب الأدعية
الواسع هو الذي وسع جوده جميع الكائنات وعلمه جميع المعلومات وقدرته جميع المقدورات فلا يشغله شأن عن شأن
الحكيم العليم ذو الحكمة
وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي
وقيل الحكيم بمعنى المحكم من الإحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير
الودود المودود من الود
وهو المحبة كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب
وقيل معناه الواد كالصبور بمعنى الصابر أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق يوم القيامة
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق معناه العدل
وقيل الواجب لذاته أي لا يفتقر في وجوده إلى غيره
وقيل معناه المحق
أي الصادق في القول
وقيل مظهر الحق (3/321)
الوكيل المتكفل بأمور الخلق وحاجاتهم
وقيل الموكول إليه ذلك فإن عباده وكلوا إليه مصالحهم اعتمادا على إحسانه
القوي القادر على كل أمر
المتين قال الآمدي معناه نفي النهاية في القدرة
يعني أن قدرته لا تتناهى
وفي عبارة الكتاب هي النهاية في القدرة
ولا يبعد أن يكون تصحيفا
والأظهر أن يراد أن المتانة هي بلوغ القدرة إلى النهاية والغاية
وذلك إذا كانت غير متناهية
الولي الحافظ للولاية أي النصر
فمعناه الناصر
وقيل هو بمعنى المتولي للأمر والقائم به
الحميد المحمود فهو صفة إضافية
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود فيرجع إلى صفة الكلام
وقيل القادر
ومنه علم أن لن تحصوه
أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق بعد هلاكه
المحيي خالق الحياة
المميت خالق الموت
الحي ظاهر مما مر
القيوم الباقي الدائم فهو صفة نفسية
وقيل المدبر للمخلوقات بأسرها
فهو صفة فعلية (3/322)
الواجد الغني أي الذي لا يفتقر فهو صفة سلبية
وقيل معناه العالم
الماجد العالي المرتفع فهو صفة إضافية
وقيل من له الولاية والتولية فيكون صفة فعلية
الأحد قد مر تفسيره أي علم ذلك مما سبق في وحدانيته من أنه يمتنع أن يشاركه شيء في ماهيته وصفات كماله
وقد يروى الواحد بدل الأحد
ويفرق بينهما فيقال هو أحدي الذات
أي لا تركيب فيه
وأوحد في الصفات لا مشارك له فيها
الصمد معناه السيد وهو المالك فيكون صفة إضافية
وقيل معناه الحليم أي الذي لا يستفزه ولا تقلقه أفعال العصاة فتكون صفة سلبية
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول الذي يصمد لقضاء الحوائج
وعلى التقديرين هو صفة إضافية
وقيل الصمد ما لا جوف له أي المصمت
فداله مبدلة من التاء
وحاصله نفي التركيب وقبول الانقسام
القادر
المقتدر كلاهما ظاهر والثاني أبلغ من الأول
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال أي أنه قبل كل شيء وليس قبله شيء وبعد كل شيء
وليس بعده شيء
فهما صفتان سلبيتان
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة فهو صفة إضافية
وقيل الغالب فصفة فعلية من ظهر فلان على فلان
أي قهره (3/323)
الباطن المحتجب عن الحواس بحيث لا تدركه أصلا فيكون صفة سلبية
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعالي مع نوع من المبالغة
البر فاعل البر والإحسان
التواب يرجع بفضله على عباده إذا تابوا إليه من المعاصي
المنتقم المعاقب لمن عصاه
العفو الماحي للسيئات والمزيل لآثارها من صحائف الأعمال
الرؤوف المريد للتخفيف على العبيد
مالك الملك يتصرف فيه وفي مخلوقاته كما يشاء
ذو الجلال والإكرام كالجليل
قال الآمدي هو قريب من معنى الجليل
المقسط العادل من أقسط أي عدل
وقسط أي جار
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المانع لما يشاء من المنافع
المغني المحسن لأحوال الخلق (3/324)
الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور الظاهر بنفسه المظهر لغيره بالوجود من العدم
الهادي يخلق الهدى في قلوب المؤمنين
البديع أي المبدع فإنه الذي فطر الخلائق بلا احتذاء مثال
وقيل بديع في نفسه لا مثل له
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد إلى سبيل الخيرات
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى الواردة في الرواية المشهورة
نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا بمنه وكرمه إنه هو الغفور الرحيم الجواد الكريم
ثم إن المصنف تابع الآمدي في تفسير هذه الأسماء على وجه الاختصار تقريبا لفهمها على طلابها فتبعناهما فيه
ومن أراد الاستقصاء في ذلك فعليه بالرسائل المؤلفة في تفسيراتها واشتقاقاتها وما ذكر فيها من المعاني المختلفة والأقوال المتفاوتة (3/325)
الموقف السادس في السمعيات
وفيه مراصد (3/327)
المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في معنى النبي
وهو لفظ منقول في العرف عن مسماه اللغوي
فقيل هو المنبىء من النبأ لإنبائه عن الله تعالى
وقيل من النبوة وهو الارتفاع لعلو شأنه
وقيل من النبي وهو الطريق لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما في العرف فهو عند أهل الحق من قال له الله أرسلتك
أو بلغهم عني ونحوه من الألفاظ
ولا يشترط فيه شرط ولا استعداد بل الله يختص برحمته من يشاء من عباده
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وهذا بناء على القول بالقادر المختار
وأما الفلاسفة فقالوا هو من اجتمع فيه خواص ثلاث
أحدها أن يكون له اطلاع على المغيبات ولا يستنكر
لأن النفوس الإنسانية مجردة ولها نسبة إلى المجردات المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم لكونها مبادىء له فقد تتصل بها وتشاهد ما فيها فتحكيها
ويؤيده ما ترى النفوس وما عليها من التفاوت في طرفي الزيادة والنقصان متصاعدا إلى النفوس القدسية ومتنازلا إلى البلد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف وقد يوجد فيمن قلت شواغله لرياضة أو مرض أو نوم قلنا مردود
إذ الاطلاع على (3/329)
جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا
والبعض لا يختص به كما أقررتم به
ثم إحالة ذلك على اختلاف النفوس وضعفها مع اتحادها بالنوع مشكل
وباقي المقدمات خطابية
وثانيها أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه
ولا يستنكر
فإن النفوس الإنسانية وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد كما نشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب
ومن السقوط من المواضع العالية القليلة العرض بتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أقل عرضا
فلا يبعد أن تقوى نفس النبي حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق
وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وكيف ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص
قلنا هذا بناء على تأثير النفوس في الأجسام
والمقارنة لا تعطيه مع أنه لا يختص بالنبي
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة ويسمع كلامهم وحيا ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس
وربما صار ملكه ويحصل بأدنى توجه
قلنا هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم نفوس مجردة
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام
ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما (3/330)
للمرضى والمجانين على ما صرحوا به
ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق
فكيف من قبل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها
وربما خالف المعقول هذا ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص انقادت له النفوس المختلفة مع ما جبلت عليه من الإباء وذلت لهم الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير سببا لقرار الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان من حيث أنه لا يستقل بما يحتاج إليه في معاشه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات والمعاوضات ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس إلى ما يريده غيره وطمح عين كل إلى ما عند الآخر فحصل التنازع وأدى إلى التواثب والتشاجر والتقاتل والتناحر وشمل الهرج والمرج واختل أمور المعاش والمعاد فوجب في الطبيعة لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات وهدي إلى ما فيه بقاؤه
وبه قوامه
سيما الإنسان وهو أشرف الأنواع سخر له ما عداه وهذا من أعظم مصالحه
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا
الموقف السادس في السمعيات
الشرح أي في الأمور التي يتوقف عليها السمع كالنبوة أو تتوقف هي على السمع كالمعاد
وأسباب السعادة والشقاوة من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية
وفيه مراصد أربعة
ثلاثة منها في الأمور التي ذكرناها وواحد منها في الإمامة
وليست من العقائد الأصلية كما مر
وسيأتي أيضا
المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد تسعة المقصد الأول في معنى النبي
وهو لفظ (3/331)
منقول في العرف عن مسماه اللغوي إلى معنى عرفي
أما المعنى اللغوي فقيل هو المنبىء وإشتقاقه من النبأ فهو حينئذ مهموز لكنه يخفف ويدغم
وهذا المعنى حاصل لمن اشتهر بهذا الاسم
لإنبائه عن الله تعالى
وقيل النبي مشتق من النبوة
وهو الارتفاع يقال تنبى فلان إذ ارتفع وعلا
والرسول عن الله موصوف بذلك لعلو شأنه وسطوع برهانه
وقيل من النبي
وهو الطريق
لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما مسماه في العرف فهو عند أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم من المليين من قال له الله تعالى
من اصطفاه من عباده أرسلتك إلى قوم كذا وإلى الناس جميعا أو بلغهم عني
ونحوه من الألفاظ المفيدة لهذا المعنى كبعثتك ونبئهم
ولا يشترط فيه أي في الإرسال شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات والاستعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء بل الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء من عباده
فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئة فقط
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء كما لا يخفى
وهذا الذي ذهب إليه أهل الحق بناء على القول بالقادر المختار الذي يفعل ما يشاء ويختار ما يريد
وأما الفلاسفة فقالوا هو أي النبي من اجتمع فيه خواص ثلاث يمتاز بها عن غيره (3/332)
إحداها أي إحدى الأمور المختصة به أن يكون له اطلاع على المغيبات الكائنة والماضية والآتية
ولا يستنكر هذا الاطلاع لأن النفوس الإنسانية مجردة في ذاتها عن المادة غير حالة فيها بل هي لا مكانية ولها نسبة في التجرد إلى المجردات العالية والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم العنصري الكائن الفاسد لكونها مبادي له
فقد تتصل النفس الناطقة بها أي بتلك المجردات اتصالا معنويا وتنجذب إليها بواسطة الجنسية
وتشاهد ما فيها من صور الحوادث فتحكيها أي يرتسم فيها من تلك الصور ما لا تستعد هي لارتسامه فيها كمرآة يحاذى بها مرآة أخرى فيها نقوش فينعكس منها إلى الأول ما يقابلها
ويؤيده أي يدل على جواز ما قلنا من أن تكون للنبي نفس قوية بهذه المرتبة ما ترى النفوس أي رؤية النفوس البشرية وما هي عليها من التفاوت في إدراك المعاني العقلية في طرفي الزيادة والنقصان تفاوتا متصاعدا إلى النفوس القدسية التي تدرك النظريات الكثيرة بالحدس في أقرب زمان غير أن يعرض لها غلط
ومتنازلا إلى البليد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف يستنكر ذلك الاطلاع في حق النبي وقد يوجد ذلك فيمن قلت شواغله لرياضة بأنواع المجاهدات أو مرض صارف للنفس عن الاشتغال بالبدن واستعمال الآلة
أو نوم ينقطع به إحساساته الظاهرة
فإن هؤلاء قد يطلعون على مغيبات ويخبرون عنها كما يشهد به التسامع والتجارب بحيث لا يبقى فيه شبهة للمنصفين
قلنا ما ذكرتم مردود بوجوه إذ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا منا ومنكم
ولهذا قال سيد الأنبياء ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء
والبعض أي الاطلاع على البعض لا يختص به أي بالنبي كما أقررتم به حيث جوزتموه للمرتاضين والمرضى والنائمين
فلا يتميز به النبي (3/333)
عن غيره
ثم نقول إحالة ذلك أي الاطلاع المختص بالنبي على اختلاف النفوس في صفاء جوهرها وكدره وشدة قوتها على قطع التعلق والتوجه إلى جانب القدس والملأ الأعلى
وتجردها مع اتحادها بالنوع كما هو مذهبهم مشكل لأن المساواة في الماهية توجب الاشتراك في الأحكام والصفات وإسناد الاختلاف إلى أحوال البدن مبني على القول بالموجب بالذات ونقول أيضا باقي المقدمات من الاتصال بالمبادي العالية بعلة الجنسية وانتقاشها بما فيها من صور الحوادث كما في المرايا المتقابلة خطابية لا تفيد إلا ظنا ضعيفا
وثانيها أي ثاني الأمور المختصة بالنبي أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه في حركاته وسكناته على وجوه شتى وأنحاء مختلفة بحسب إرادته
ولا يستنكر ذلك الانقياد لأن النفوس الإنسانية ليست منطبعة في الأبدان
وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد البدنية كما تشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب هذا نشر على ترتيب اللف وكما نشاهد من السقوط من المواضع العالية القليلة العرض يتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أي في المواضع السافلة أقل عرضا
وإذا كانت إرادات النفس وتصوراتها مؤثرة في البدن مع عدم الانطباع فيه فلا يبعد أن تقوى نفس النبي بحيث تنقاد له الهيولى العنصرية فتؤثر فيها إرادته وتصوراته حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وبالجملة تتصرف نفسه (3/334)
في العنصريات خصوصا في العنصر الذي تكون مناسبته لمزاجه أشد وأقوى بمجرد الإرادة والتصور من غير أن يستعمل آلة
وكيف يستنكر حدوث هذه الأمور الخارقة العجيبة من النبي ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص على ما هو مشهور في كل عصر من الصلحاء
قلنا هذا الذي ذكرتم من كون تصورات النفس وإرادتها مؤثرة في الأبدان بناء على تأثير النفوس في الأجسام وأحوالها
وقد بينا بطلانه بما سلف من أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى
والمقارنة بين التغيرات البدنية وبين التصورات والإرادات النفسية لا تعطيه أي لا تدل على كونها مؤثرة فيه لجواز أن يكون الدوران بطريق العادة مع أنه أي ظهور الأمور العجيبة الخارقة للعادة لا يختص بالنبي كما اعترفتم به فكيف تميزه عن غيره
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة بصور محسوسة ويسمع كلامهم وحيا من الله إليه
ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه من مشاهدة أشخاص يكلمونه بكلام منظوم دال على معان مطابقة للواقع
وذلك لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس فإذا انجذبت إليه واتصلت به في يقظته شاهد المعقولات كمشاهدة المحسوسات
فإن القوة المتخيلة تكسو المعقول المرتسم في النفس لباس المحسوس وتنقشه في الحس المشترك على نحو انتقاش المحسوسات فيه من خارج
وربما صار الانجذاب والاتصال بعالم القدس ملكه أي صفة راسخة للنبي وحينئذ يحصل له ذلك الانجذاب وما يترتب عليه من (3/335)
المشاهدة بأدنى توجه منه
قلنا هذا الذي ذكروه لا يوافق مذهبهم واعتقادهم بل هو تلبيس على الناس في معتقدهم وتستر عن شناعته بعبارة لا يقولون بمعناها
وذلك لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم إما نفوس مجردة في ذواتها متعلقة بأجرام الأفلاك وتسمى ملائكة سماوية أو عقول مجردة ذاتا وفعلا وتسمى بالملأ الأعلى
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام إذ الحرف والصوت عندهم من الأمور العارضة للهواء المتموج كما سلف
فلا يتصور كلام حقيقي للمجردات ومآله أي مآل ما ذكروه في الخاصة الثالثة إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما للمرضى والمجانين فإنهم يشاهدون ما لا وجود له في الخارج على ما صرحوا به وقرروا ماهو السبب فيه
ولا شك أن ذلك إنما يكون على سبيل التخيل دون المشاهدة الحقيقية ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق من العقلاء فكيف يكون نبيا من كان أمره ونهيه من قبيل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها قطعا أو ربما خالف ما دعا إليه المعقول أيضا هذا كما مضى ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص الثلاث انقادت له النفوس البشرية المختلفة بطوعها مع ما جبلت عليه من الإباء عن الانقياد لبني نوعها وذلت له الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير ذلك الانقياد التام ظاهرا وباطنا سببا لقرار أي ثبات الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان
وإنما كان التعاون ضروريا لهذا النوع من حيث أنه لا يستقل واحد منهم بما يحتاج إليه في معاشه من مأكله ومشربه وملبسه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات
وهو أن يعمل كل واحد لآخر مثل ما يعمله الآخر له (3/336)
والمعاوضات
وهي أن يعطي كل واحد صاحبه من عمله بإزاء ما يؤخذ منه من عمله
ألا ترى أنه لو انفرد إنسان وحده لم يتيسر أو لم تحسن معيشته بل لا بد له من أن يكون معه آخرون من بني نوعه حتى يخبز هذا لذلك ويطحن ذاك لهذا ويزرع لهما ثالث . . . وهكذا
فإذا اجتمعوا على هذا الوجه صار أمرهم مكفيا
ولذلك قيل الإنسان مدني بالطبع
فإن التمدن هو هذا الاجتماع
ولا بد لهم في التعاون من معاملة ومعاوضة يجريان بينهم ولا بد فيهما من قانون عدل يحافظ عليه دفعا للظلم
وإليه أشار بقوله ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس أي مدت عنقها إلى ما يريده غيره وطمح أي ارتفع عين كل إلى ما عند الآخر فحصل بينهم التنازع وأدى ذلك التنازع إلى التواثب والتشاجر أي الاختلاف والتقاتل والتناحر وشمل الناس الهرج أي القتل والمرج أي الاختلاط واختل أمور المعاش والمعاد
فوجب في الطبيعة وجود الموصوف بتلك الخواص لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات اللائقة به وهدي أي كل واحد منه إلى ما فيه بقاؤه وبه قوامه سيما نوع الإنسان
فإن العناية به في الإعطاء والهداية أكثر
وهو أشرف الأنواع الحيوانية سخر له ما عداه من تلك الأنواع
وهذا أي وجود من اجتمعت فيه الخواص المذكورة من أعظم مصالحه لما ظهر فيه من جلب المنافع الجليلة والدفع لمضاره الشديدة
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا والحاصل أن وجود النبي سبب للنظام في المعاش والمعاد فيجب ذلك في العناية الإلهية المقتضية لأبلغ وجوه الانتظام في مخلوقاته
فهذه طريقة إثبات النبوة على مذهب الحكماء (3/337)
المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
المتن وهي عندنا ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله
والبحث عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه
لأن التصديق منه لا يحصل بما ليس من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي
وأنتم لا تقدرون عليه
ففعل وعجزوا فإنه معجز ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة ليس فعلا
ومن جعل الترك وجوديا حذفه
الثاني أن يكون خارقا للعادة إذ لا إعجاز دونه
وشرط قوم ألا يكون مقدورا للنبي وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي الحق أنه لا
بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر لم يدل على صدقه
السادس ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذبا له
فلو قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد (3/338)
كذبه
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه
وهو بعد ذلك مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى
وقيل هذا إذا عاش مدة زمانا
ولو خر ميتا في الحال بطل الإعجاز
لأنه كان أحيى للتكذيب
والحق أنه لا فرق لوجود الاختيار في الصورتين
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز
السابع أن لا يكون متقدما على الدعوى بل مقارنا لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قبل لم يدل على صدقه ويطالب به بعد
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال هذا الصندوق فيه كذا وكذا وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا
وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي
لأن المعجز إخباره عن الغيب
واحتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي بناء على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب
وسنبطله
فإن قيل فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة وفي معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه
قلنا إنما هي كرامات
وظهورها على الأولياء جائز
والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء
وقد قال القاضي إن عيسى كان نبيا في صباه لقوله وجعلني نبيا ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن (3/339)
تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها
وقوله وجعلني نبيا كقول النبي كنت نبيا وآدم بين الماء والطين
فهذا في المتقدم
وأما المتأخر
فإما بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر
وإما بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل
فاتفقوا على أنه معجز
فقيل إخباره عن الغيب فيكون مقارنا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ لأن شرطه العلم بكونه معجزا وقبل حصوله فيكون متأخرا
وقيل يصير قوله معجزا عند حصوله فيكون متأخرا
والحق أن المتأخر علمنا بكونه معجزا
البحث الثاني في كيفية حصولها
عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته
وقال الفلاسفة تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه انجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدن كما نشاهده في المرضى أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض تنكف عن التحليل فتمسك عن القوت ما لو أمسك في صحته شطره هلك
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر
وقد تقدم
البحث الثالث في كيفية دلالتها
وهي عندنا إجراء الله عادته بخلق (3/340)
العلم بالصدق عقيبه
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات
لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه
والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب
وقد ضربوا لهذا مثلا
قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد
بل ندعي في إفادته العلم الضرورة العادية
ونذكر هذا للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب ممتنع لأن فيه إيهام صدقه وهو إضلال قبيح من الله
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه غير مقدور لأن لها دلالة على الصدق قطعا
فلا بد لها من وجه دلالة وإن لم نعلمه بعينه
فإن دل على الصدق كان الكاذب صادقا
وإلا انفك عما يلزمه
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق هو أحد العاديات
فإذا جوزنا انخراقها عن مجراها جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب
وأما بدون ذلك فلا
لأن العلم بصدق الكاذب محال (3/341)
تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة
ومنهم من أنكر دلالتها
ومنهم من أنكر العلم بها
وستأتيك شبههم بأجوبتها
الشرح
المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
وهي بحسب الاصطلاح عندنا عبارة عن ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله والبحث فيها عن أمور ثلاثة عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها على صدق مدعي الرسالة
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الشرط الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من التروك
وإنما اشترط ذلك لأن التصديق منه أي من الله تعالى لا يحصل بما ليس من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول التعريف مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه أي على وضع أيديكم عل رؤوسكم ففعل وعجزوا فإنه معجز دال على صدقه ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة فيهم على ذلك الوضع ليس فعلا صادرا عنه تعالى بل هو عدم صرف
ومن جعل الترك وجوديا بناء على أنه الكف حذفه لعدم الحاجة إليه
فالشرط عنده كون المعجزة من فعل الله
وفي كلام الآمدي أن المعجز إن كان عدميا كما هو أصل شيخنا فالمعجز ههنا عدم خلق القدرة فلا يكون فعلا
وإن كان وجوديا كما ذهب إليه بعض أصحابنا فالمعجز هو خلق العجز فيهم فيكون فعلا فلا حاجة إلى قولنا أو ما يقوم مقامه
الشرط الثاني أن يكون المعجز خارقا للعادة
إذ لا إعجاز دونه فإن المعجز ينزل من الله منزلة التصديق بالقول كما سيأتي
وما لا يكون خارقا للعادة بل معتادا كطلوع الشمس في كل يوم وبدو الأزهار في كل ربيع (3/342)
فإنه لا يدل علىالصدق لمساواةغيره إياه في ذلك حتى الكذاب في دعوى النبوة
وشرط قوم في المعجز أن لا يكون مقدورا للنبي إذ لو كان مقدورا له كصعوده إلى الهواء ومشيه على الماء لم يكن نازلا منزلة التصديق من الله تعالى
وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
قال الآمدي هل يتصور كون المعجزة مقدورة للرسول أم لا اختلفت الأئمة فيه فذهب بعضهم إلى أن المعجز فيما ذكر من المثال ليس هو الحركة بالصعود أو المشي لكونها مقدورة له بخلق الله فيه القدرة عليها
إنما المعجز هناك هو نفس القدرة عليها
وهذه القدرة ليست مقدورة له
وذهب آخرون إلى أن نفس هذه الحركة معجزة من جهة كونها خارقة للعادة ومخلوقة لله تعالى
وإن كانت مقدورة للنبي وهو الأصح
وإذا عرفت هذا فلا يخفى عليك ما في عبارة الكتاب من الاختلال
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي وطلب المعارضة كما ذهب إليه بعضهم الحق أنه لا يشترط بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له أي لمدعي النبوة إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل بأن دعا الله فأظهره
فيكون ظهوره دليلا على صدقه ونازلا منزلة التصريح بالتحدي
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر كنتق الجبل مثلا لم يدل على صدقه لعدم تنزله منزلة تصديق الله إياه
السادس أن لا يكون ما ادعاه وأظهره من المعجزة مكذبا له
فلو (3/343)
قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد كذبه لأن المكذب هو نفس الخارق
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه وهو غير مكذب له
إنما المكذب هو ذلك الشخص بكلامه وهو بعد ذلك الإحياء مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى فلا يقدح تكذيبه في دلالة الإحياء على صدقه
وقيل هذا الذي ذكرنا من عدم خروجه عن كونه معجزا إنما هو إذا عاش بعده أي بعد الإحياء زمانا واستمر على التكذيب
قال الآمدي لا أعرف في هذه الصورة خلافا بين الأصحاب
ولو خر ميتا في الحال
قال القاضي بطل الإعجاز لأنه كأنه أحيى للتكذيب فصار مثل تكذيب الضب
والحق أنه لا فرق بين استمرار الحياة مع التكذيب وبين عدمه لوجود الاختيار في الصورتين بخلاف الضب
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز بل يكفي أن يقول أنا آتي بخارق من الخوارق ولا يقدر أحد على أن يأتي بواحد منها
وفي كلام الآمدي أن هذا متفق عليه
قال فإذا كان المعجز معينا فلا بد في معارضته من المماثلة
وإذا لم يكن معينا فأكثر الأصحاب على أنه لا بد فيها من المماثلة
وقال القاضي لا حاجة إليها
وهو الحق لظهور المخالفة فيما ادعاه
السابع أن لا يكون المعجز متقدما على الدعوى بل مقارنا لها بلا اختلاف أو متأخرا عنها على تفصيل سيأتي
وذلك لأنه التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قيل لم يدل (3/344)
على صدقه ويطالب به أي بالإتيان بذلك الخارق أو بغيره أي بعد الدعوى
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال في إظهار المعجزة هذا الصندوق فيه كذا وكذا
وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي لأن المعجز إخباره عن الغيب وهو واقع مع التحدي موافق للدعوى لا خلق ذلك الشيء في الصندوق
و إما احتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي فيكون متقدما على الدعوى مع كونه معجزا فإنه بناء أي مبني على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب وسنبطله
وإنما كان مبنيا على ذلك لأن العلم بالغيب لو كان مخلوقا قبل التحدي لم يكن إخباره به منزلا منزلة التصديق له فيكون هو كاذبا في دعواه أنه آية صدقه ودليل عليه وسيأتيك أنه لا يتصور عندنا ظهور الخارق على يد الكاذب
فإن قيل ما ذكرتموه من امتناع تقدم المعجز على الدعوى يفضي إلى إبطال كثير من المعجزات المنقولة عن الأنبياء
وإليه الإشارة بقوله فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة فإنهما معجزتان له مع تقدمهما على الدعوى
وما تقولون أيضا في معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه فإنها كلها متقدمة على دعوى الرسالة قلنا تلك الخوارق المتقدمة على الدعوى ليست معجزات إنما هي كرامات وظهورها على الأولياء جائز والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا
وحينئذ تسمى إرهاصا
أي تأسيسا للنبوة
من أرهصت للحائط أسسته
والمنكرون للكرامات جعلوها معجزات لنبي آخر في ذلك العصر
وهو مردود لوجودها في عصر لا نبي فيه
هذا وقد قال القاضي إن (3/345)
عيسى كان نبيا في صباه لقوله وجعلني نبيا ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره فلا تكون معجزاته في حال صغره متقدمة على نبوته ودعواه إياها
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة المنقولة عنه ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها وبلغ أربعين سنة
ومن البين أن ثبوت النبوة في مدة طويلة بلا دعوة وكلام مما لا يقول به عاقل
وأما قوله وجعلني نبيا فهو كقول النبي كنت نبيا وآدم بين الماء والطين في أنه تعبير عن المتحقق فيما يستقبل بلفظ الماضي
فهذا الذي قررناه إنما هو في المعجز المتقدم على الدعوى
وأما المتأخر عنها فإما أن يكون تأخره بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر أنه دل على الصدق بخلاف المتقدم بزمان يسير
فإنه لا يدل عليه أصلا
وأما أن يكون تأخره بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل فاتفقوا على أنه معجز دال على ثبوت النبوة لكن اختلفوا في وجه دلالته فقيل إخباره عن الغيب
فيكون المعجز على هذا القول مقارنا للدعوى
لكن تخلف عنها علمنا بكونه معجزا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ أي لم يجب على الناس التصديق بنبوته ومتابعته في الزمان الواقع بين الإخبار وحصول الموعود به
لأن شرطه أي شرط التكليف بالتصديق والمتابعة العلم بكونه معجزا
وذلك إنما يحصل بعد وجود ما وعد به
وقيل حصوله أي حصول الموعود به فيكون المعجز على هذا القول متأخرا عن الدعوى
وقيل يصير قوله أي إخباره معجزا عند حصوله أي حصول الموعود به
فيكون المعجز على هذا القول متأخرا باعتبار صفته أعني كونه معجزا
والحق أن المتأخر هو علمنا بكونه معجزا يعني أن المختار هو القول الأول لأن إخباره كان إخبارا بالغيب في نفس الأمر فيكون معجزا (3/346)
مقارنا للدعوى
والمتخلف عنها هو علمنا بكونه معجزا لا كونه معجزا
فبطل بذلك القول الثالث
وأما القول الثاني فلا طائل تحته لأن ذلك الحصول لا يمكن جعله معجزا إلا إذا كان خارقا للعادة
وربما لم يكن كذلك وإن جعل شرطا لاتصاف الإخبار بالإعجاز فقد رجع إلى الثالث وبطل ببطلانه
ولهذا لم يوجد هذا القول في أبكار الأفكار
البحث الثاني في كيفية حصولها المذهب عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته من دعوى النبوة ممن أرسله إلى الناس ليدعوهم إلى ما ينجيهم ويسعدهم في الدارين
ولا يشترط لإظهارها استعدادا كما لا يشترط في النبوة على ما مر خلافا للحكماء
وقال الفلاسفة إنها تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه إنجذاب النفس الزكية عن الكدورات البشرية إما لصفاء جوهرها في أصل فطرتها وإما لتصفيته بضرب من المجاهدة وقطع العلائق إلى عالم القدس واشتغالها بذلك عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدل كما نشاهده في المرضى من أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض من الأمراض الحادة وتحليلها للمواد الردية تنكف وتمتنع عن التحليل للمواد المحمودة فتمسك عن القوت الذي يحتاج إليه بدلا عما تحلل من هذه المواد ما لو أمسك أي زمانا لو أمسك عنه في أيام صحته شطره أي نصفه بل عشرة هلك بلا شبهة وإذا جاز ذلك في المريض كان جوازه في المتوجه المنخرط في سلك الملأ الأعلى أولى وكيف لا والمرض مضاد للطبيعة (3/347)
ومضعف للقوى فتكون الحاجة إلى الرطوبات المطلوبة لحفظها المبني على تعادل الأركان أشد وأقوى
وأما المتوجه فيوجد فيه من اللذات الروحانية بالأنوار القدسية ما يقوم مقام الغذاء كما أشير إليه بقوله أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر في المقصد الأول من انجذاب نفسه النقية عن الشواغل البدنية إلى الملائكة السماوية وانتقاشها بما فيها من الصور وانتقال الصورة إلى المتخيلة والحس المشترك
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر وقد تقدم بيانه بأن نفسه لقوتها تتصرف في مادة العناصر كما تتصرف في أجزاء بدنه
البحث الثالث في كيفية دلالته على صدق مدعي النبوة
وهذه الدلالة ليست دلالة عقلية محضة كدلالة الفعل على وجود الفاعل ودلالة أحكامه واتقانه على كونه عالما بما صدر عنه
فإن الأدلة العقلية ترتبط لنفسها بمدلولاتها
ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها
وليست المعجزة كذلك
فإن خوارق العادات كانقطاع السموات وانتثار الكواكب وتدكدك الجبال يقع عند تصرم الدنيا وقيام الساعة
ولا إرسال في ذلك الوقت
وكذلك تظهر الكرامات على أيدي الأولياء من غير دلالة على صدق مدعي النبوة ولا دلالة سمعية لتوقفها على صدق النبي فيدور بل هي دلالة عادية كما أشار إليه بقوله وهي عندنا أي الأشاعرة إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه أي عقيب ظهور المعجزة
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة
فلا تكون دلالته عقلية (3/348)
لتخلف الصدق عنه في الكاذب بل عادية كسائر العاديات لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم
وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب مع كونه ممكنا عنه إمكانا عقليا لشمول قدرته تعالى للممسكات بأسرها
وقد ضربوا لهذا مثلا قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم
ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله
ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا الذي ذكرناه من باب قياس الغائب على الشاهد حتى يتجه عليه أن الشاهد تعلل أفعاله بالأغراض لأنه يراعي المصالح ويدرأ المفاسد بخلاف الغائب إذ لا يبالي بالمصلحة والمفسدة
فلا يصح القياس بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية أي ندعي أن ظهور المعجز يفيد علما بالصدق
وإن كونه مفيدا له معلوم لنا بالضرورة العادية
ونذكر هذا المثال للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب مقدور لله تعالى لعموم قدرته لكنه ممتنع وقوعه في حكمته لأن فيه إيهام صدقه
وهو إضلال قبيح من الله فيمتنع صدوره عنه كسائر القبائح
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه أي خلق المعجزة على يد الكاذب غير مقدور في نفسه لأن لها أي للمعجزة دلالة على الصدق قطعا أي (3/349)
دلالة قطعية يمتنع التخلف فيها
فلا بد لها من وجه دلالة إذ به يتميز الدليل الصحيح عن غيره وإن لم نعلمه أي ذلك الوجه بعينه
فإن دل المعجز المخلوق على يد الكاذب على الصدق كان الكاذب صادقا وهو محال وإلا انفك المعجز عما يلزمه من دلالته القطعية على مدلوله
وهو أيضا محال
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق ليس أمرا لازما لزوما عقليا كاقتران وجود الفعل بوجود فاعله بل هو أحد العاديات كما عرفت
فإذا جوزنا انخراقها أي انخراق العاديات عن مجراها العادي جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب إذ لا محذور فيه سوى خرق العادة في المعجزة
والمفروض أنه جائز
وأما بدون ذلك التجويز فلا يجوز إظهاره على يده لأن العلم بصدق الكاذب محال
تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة في نفسها
ومنهم من أنكر دلالتها على صدق مدعي النبوة
ومنهم من أنكر العلم بها وستأتيك في المقصد التالي لهذا المقصد شبههم بأجوبتها
المقصد الثالث في إمكان البعثة
المتن وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد
فإن الدال على الوقوع دال على الإمكان (3/350)
وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر
وقال بعض المعتزلة يجب على الله
وبعضهم إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون
وإلا حسن
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية ولتقرير الشريعة المتقدمة
وقيل إذا اندرست
وهو بناء على أصلهم
ولا يضرنا
فإن ادعينا الإمكان العام
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين
وهم طوائف
الأولى من أحالها
الثانية من قال لا تخلو عن التكليف
وأنه ممتنع
الثالثة من قال في العقل كفاية
الرابعة من قال بامتناع المعجزة
ولا تتصور دونها
الخامسة من منع دلالتها
السادسة من سلم ومنع إمكان العلم بها بالتواتر
السابعة من منع وقوعها
الأولى من قال باستحالة البعثة احتج بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك هو الله
ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن فإنكم أجمعتم على وجوده
الثاني أن من يلقى إليه الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا
وإلا كان ذلك منه مستحيلا
الثالث التصديق بها يتوقف على العلم بوجود المرسل
وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه لا يحصل إلا بغامض النظر
وهو غير مقدر بزمان
فللمكلف الاستمهال ودعوى عدم العلم ويلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا لزم التكليف بما لا يطاق
وأنه قبيح عقلا (3/351)
وجواب الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا أو يخلق علما ضروريا فيه
والثالث أما على أصلنا فلا يجب الإمهال مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم
وإن صرحوا بخلافه
منع الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك مستقبحا في نظر العقلاء ولو هلك ألم يكن ملوما مذموما ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو
الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها باتفاق
ثم أن التكليف ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وأن فعل العبد واقع بقدرة الله
وأن الفعل إما معلوم الوقوع أو معلوم اللاوقوع والتكليف حينئذ قبيح
الثاني التكليف إضرار لما يلزمه من التعب بالفعل أو العقاب بالترك وهو قبيح
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث أو لغرض يعود إلى الله وهو منزه أو إلى العبد وهو إما إضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول
ثم إنه معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
الرابع التكليف إما مع الفعل
ولا فائدة فيه لوجوبه وإما قبل الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال
ومن جوزه لا يقول بوقوعه ولا أن كل تكليف كذلك (3/352)
الخامس وهو لبعض الصوفية أن التكليف بالأفعال الشاقة يشغل عن التفكر في معرفة الله تعالى
وما يجب له ويجوز ويمتنع عليه
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت تربي على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال
والثاني ما في التكليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربي كثيرا على المضرة فيها
والثالث أنه فرع حكم العقل ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني
والرابع عندنا أن القدرة مع الفعل
وعند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل في الحال بالإيقاع في ثاني الحال
وذلك كالإحداث
وهو مما لا شك فيه
فما هو جوابكم فهو جوابنا
والخامس أن ذلك أحد أغراض التكليف وسائر التكاليف معينة عليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربي شغلها على شغل التكاليف
الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة
وهم البراهمة والصابئة والتناسخية غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيت وإدريس فقط
واحتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة لأن الحاجة ناجزة
ولا يعارضها مجرد الاحتمال
ويترك عند عدمها للاحتياط (3/353)
والجواب بعد تسليم حكم العقل أن الشرع فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا وبيان ما يقصر عنه العقل
فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم فيه كوظائف العبادات وتعيين الحدود وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك كالطبيب يعرف الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يحرمون فيه من فوائدها ويقعون في المهالك قبل استكمالها
مع أن اشتغالهم بذلك يوجب إتعاب النفس وتعطل الصناعات والشغل عن مصالح المعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته غنى عن الطبيب
كيف والنبي لا يعلم ما يعلم إلا من جهة الله
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء تتمة لهذا الكلام
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن تجويز خرق العادة سفسطة ولو جوزناه لجاز انقلاب الجبل ذهبا وماء البحر دما ودهنا
وأواني البيت رجالا
وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يده غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي ويوجد مثله
ولا يخفى ما فيه من الخبط والإخلال بالقواعد
والجواب إن خرق العادات ليس أعجب من أول خلق السموات والأرض وما بينهما ومن انعدامها الذي نقول به والجزم بعدم وقوع بعضها لا ينافي إمكانها
وذلك كما في المحسوسات
فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به للحس
والعادة أحد طرق العلم كالحس
ثم إن خرق العادة إعجازا وكرامة عادة مستمرة
الخامسة من قال ظهور المعجزة لا يدل على الصدق لاحتمالات
الأول كونه من فعله لا من فعل الله إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس أو لمزاج خاص في بدنه أو لكونه ساحرا
وقد أجمعتم على (3/354)
حقيته
أو لطلسم اختص بمعرفته أو لخاصية بعض المركبات كالمغناطيس والكهرباء
الثاني استناده إلى بعض الملائكة أو الشياطين أو إلى الاتصالات الكوكبية
وهو قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه
الثالث أن يكون كرامة لا معجزة
الرابع أن لا يقصد به التصديق إذ لا غرض واجبا ولا يتعين إذ لعله غير التصديق كإيهامه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب كإنزال المتشابهات أو لتصديق نبي آخر
الخامس أنه لا يلزم من تصديق الله صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم إذ لا يقبح عندكم منه شيء
السادس لعل التحدي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة أو لعله تركها مواضعة في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وخافوا آخرا لشدة شوكته أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع أو ظهر ثم أخفاه أصحابه عند استيلائهم وطمسوا آثاره
ومع قيام هذه الاحتمالات لا يبقى لها دلالة على الصدق (3/355)
الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي والتفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله والسحر ونحوه إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز كفلق البحر وإحياء الموتى كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر
وإن بلغ فإما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أو معه فلا بد من ألا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب وأنه محال
وعن الثاني أن لا خالق إلا الله
وعن الثالث أن من جوزها فقال بعضهم
منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ درجة المعجزة
وقيل لا تقع على القصد
وقال القاضي تجوز إذا لم تقع على طريق التعظيم والخيلاء لأن ذلك ليس من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة
وعلى التقادير فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض بل نقول إن خلقها يدل على تصديق له قائم بذاته
وعن الخامس قد مر امتناع الكذب عليه
وعن السادس إذا أتى بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه
وعن السابع يعلم عادة المبادرة إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التفوق على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم وعدم الإعراض عنها بحيث لا ينتدب له أحد والقدح فيه سفسطة
وحينئذ فدلالته من جهة الصرفة واضحة
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوه معارضته علم وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا (3/356)
السادسة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم لوجوه
الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم
فكذا الكل إذ ليس كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني أن حكم كل طبقة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم أجاز إفادة التسعة والتسعين له قطعا ولم يحصره في عدد وادعاء الفرق تحكم
فلنفرض طبقة لا تفيده ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده بالغا ما بلغ
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد
واللازم منتف
بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه اجتماع أهل اتفاقا بل يحصل بخبر واحد بعد واحد
فالموجب له هو الخبر الأخير
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة ولا سبيل إلى العلم به
الخامس أن التواتر غير مضبوط بعدد بل ضابطه عندكم حصول العلم به
فإثبات العلم به مصادرة
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل لحكم كل واحد لما يرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
والثاني أن حصول العلم عنده عندنا بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد
كيف وأنه يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين
والثالث أما عندنا فلأنه بخلق الله
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الإخبار أسباب معدة وهي قد لا تجامع المسبب كالحركة للحصول في المنتهى ثم إنا نجد من أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوى بالثاني والثالث إلى ما لا أقوى منه
فيلزم أن الموجب (3/357)
له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وعن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع على شرطه لا أنا نستدل بالتواتر على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر
السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها قالوا تتبعنا الشرائع فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة فعلمنا أنها ليست من عند الله
وذلك كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه وتحمل الجوع والعطش في أيام معينة
والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى
وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجواز في صفقتين مع استوائهما في المصالح والمفاسد
الجواب بعد تسليم حكم العقل فغايته عدم الوقوف على الحكمة ولا يلزم منه عدمها
ولعل مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب أو العقاب
الشرح
المقصد الثالث في إمكان البعثة وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد الدال على الوقوع دال على الإمكان بلا اشتباه (3/358)
وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر من أن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأزلية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل
وقال بعض المعتزلة يجب على الله وفصل بعضهم فقال إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون وجب عليه إرسال النبي إليهم لما فيه من استصلاحهم
وإلا أي وإن لم يعلم ذلك بل علم أنهم لا يؤمنون لم يجب الإرسال بل حسن قطعا لأعذارهم
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه أي خلو البعث عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها لأن البعثة الخالية عنه لا فائدة فيها
وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية فإنه فائدة جليلة
وجوزه أيضا لتقرير الشريعة المتقدمة سواء كانت مندرسة أو لا
وقيل إنما يجوز البعث لتقريرها إذا اندرست وهو أي هذا الذي نقلناه من المعتزلة على الوجوه المختلفة بناء أي مبني على أصلهم الفاسد
أعني قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وما يتفرع عليها من اعتبار الغرض ووجوب الألطاف ورعاية الأصلح فيكون فاسدا أيضا وعلى تقدير صحته لا يضرنا في مدعانا فإنا إنما ادعينا الإمكان العام الذي يجامع الوجوب لا الإمكان الخاص الذي ينافيه
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين للبعثة وهم طوائف
الأولى من أحالها أي حكم باستحالتها لذاتها
الثانية من جوزها ولكن قال لا تخلو البعثة عن التكليف بأوامر ونواه وأنه أي التكليف ممتنع فتنتفي البعثة لانتفاء لازمها (3/359)
الثالثة من جوز التكليف وقال في العقل كفاية في معرفة التكاليف فلا حاجة إلى البعثة بل لا فائدة فيها
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن خرق العادة محال عقلا
ولا تتصور النبوة دونها أي دون المعجزة
الخامسة من جوز وجود المعجزة لكن منع دلالتها على صدق مدعي النبوة
السادسة من سلم دلالتها على صدقه بالنسبة إلى من شاهدها فتفيده العلم بصدقه ومنع إمكان العالم بها للغائبين عنها
فإن العلم بحصول المعجزة لمن غاب عنها إنما يكون بالتواتر
وهو لا يفيد العلم أصلا بل الظن وأنه لا يجدي في المسائل اليقينية
السابعة من اعترف بإمكان البعثة وانتفاء الموانع السابقة لكن منع وقوعها فهذه هي الطوائف المنكرة لها
الأولى منها
وهو من قال باستحالة البعثة في نفسها احتج على استحالتها بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك فبلغ عني هو الله ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن
فإنكم أجمعتم على وجوده وعلى جواز إلقائه الكلام إلى النبي (3/360)
الثاني أن من يلقى إليه أي إلى النبي الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا لكل من حضر حال الإلقاء
وليس الأمر كذلك كما اعترفتم به
وإلا أي وإن لم يكن جسمانيا بل روحانيا كان كذلك أي إلقاء الوحي بطريق التكليم منه مستحيلا إذ لا يتصور للروحانيات كلام
الثالث التصديق بها أي بالرسالة يتوقف على العلم بوجود المرسل وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه أي العلم بما ذكر لا يحصل إلا بغامض النظر لأن هذا العلم ليس ضروريا ولا من النظريات السهلة الحصول كما لا يخفى
وهو أي ذلك النظر الموصل إلى هذا العلم غير مقدر بزمان معين كيوم أو سنة بل هو مختلف بحسب الأشخاص وأحوالهم في قوة الفهم وضعفه على مراتب غير منحصرة
فللمكلف الاستمهال أي يجوز له أن يستمهل لتحصيل النظر وله دعوى عدم العلم في أي زمان كان وحينئذ يلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا أي وإن لم يجز له الاستمهال بل وجب عليه التصديق بلا مهملة لزم التكليف بما لا يطاق لأن التصديق بالرسالة بدون العلم المذكور مما لا يتصور وجوده وأنه قبيح عقلا فيمتنع صدوره عن الحكيم سبحانه وتعالى
وجواب الوجه الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا يعلم به الرسول أن القائل له أرسلتك هو الله تعالى دون الجن بأن يظهر له آيات ومعجزات يتقاصر عنها جميع المخلوقات وتكون مفيده له ذلك العلم
أو يخلق علما ضروريا فيه بأنه المرسل والقائل
وبهذا يعلم الجواب عن الثاني وهو أن يقال جاز أن يكون الملقي جسمانيا
ولا يخلق الله رؤيته في الحاضرين
فإن قدرته لا تقصر عن شيء وجواب الثالث أما على أصلنا في التعديل والتجوير فلا يجب الإمهال لأنا بينا فيما سبق أنه إذا (3/361)
ادعى النبي الرسالة واقترنت بدعواه المعجزة الخارقة للعادة وكان المبعوث إليه عاقلا متمكنا من النظر فقد ثبت الشرع واستقر وجوب المتابعة سواء نظر أو لم ينظر فلا يجوز للمكلف الاستمهال
ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاد العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه
وإليه الإشارة بقوله مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم في التحسين والتقبيح وإن صرحوا بخلافه منع الإمهال يعني أن المعتزلة اعترفوا بوجوب الإمهال عند الاستمهال فلا محيص لهم عن ذلك الإلزام إلا أن اللائق بقاعدتهم المذكورة منع وجوب الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم وذلك لأنه يرشدهم إلى المصالح ويحذرهم عن المهالك ويقربهم من السعادة ويبعدهم عن الشقاوة
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال الولد دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك القول من الولد مستقبحا في نظر العقلاء
ولو هلك
ألم يكن ملوما مذموما
ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو وبما قررناه يندفع الإلزام عن أصلهم أيضا
الطائفة الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها التي لا تخلو هي عنها
وأيضا هي لا تخلو عن التكليف باتفاق وإجماع من القائلين بها
ثم إن التكليف الذي هو لازمها ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وعدم الاختيار في الأفعال وذلك لما تبين (3/362)
من أن فعل العبد واقع بقدرة الله إذ لا تأثير لقدرة العبد عندكم أصلا
والتكليف بفعل الغير تكليف بما لا يطاق
ومن أن الفعل إما معلوم الوقوع من العبد أو معلوم اللاوقوع منه
فعلى الأول يكون ضروريا وعلى الثاني ممتنعا
ولا قدرة على شيء منهما والتكليف حينئذ أي حين إذ ثبت الجبر قبيح فيكون ممتنعا
الثاني التكليف إضرار بالعبد لما يلزمه من التعب بالفعل إذا أقدم عليه أو العقاب بالترك إذا أحجم عنه
وهو أي الإضرار قبيح والله تعالى منزه عنه
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث قبيح أو لغرض يعود إلى الله
وهو محال لأنه تعالى منزه عن الأغراض كلها من جلب المنافع ودفع المضار أو إلى العبد وهو إما اضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع
وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول فإنه منزلة أن يقال له حصل المنفعة لنفسك
وإلا عذبتك أبد الآباد
ولا شك أن أهم مصالحه ترك التعذيب ثم إنه أي النفع الذي يتضمنه التكليف للمؤمنين المطيعين معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
ولا شك أن إضرار جماعة لمنفعة آخرين ظلم قبيح
الرابع التكليف بإيقاع الفعل إما مع وجود الفعل ولا فائدة فيه أصلا لوجوبه وتعين صدوره حينئذ فيكون عبثا قبيحا
وكذا الحال إذا كان التكليف بعد الفعل مع أنه تكليف بتحصيل الحاصل
وإما قبل وجود الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال إذ لا يمكن وجود الشيء حال عدمه
والتكليف بما لا يطاق باطل عند من لا يجوزه
وهو ظاهر
وأما من جوزه فإنه لا يقول بوقوعه ولا أن أي ولا يقول بأن كل تكليف كذلك أي تكليف بما لا يطاق
والتكليف بالفعل قبله يستلزم وقوع التكليف بما لا يطاق
ويستلزم أن كل تكليف من هذا القبيل
فيكون هذا القسم باطلا عنده أيضا
وإذا بطلت الأقسام الحاضرة امتنع التكليف مطلقا (3/363)
الخامس وهو لبعض الصوفية من أهل الإباحة أن التكليف بالأفعال الشاقة البدنية يشغل الباطن عن التفكر في معرفة الله تعالى وما يجب له من الصفات ويجوز ويمتنع عليه من الأفعال
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت وهو النظر فيما ذكر تربى أي تزيد وتفضل على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال من أن قدرة العبد وإن كانت غير مؤثرة إلا أن لها تعلقا بالفعل يسمى كسبا وباعتباره جاز التكليف به فلا يكون تكليفا بما لا يطاق بالكلية
وجواب الثاني أن يقال ما في التكاليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربى كثيرا على المضرة التي هي فيها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل مما لا يجوز
وجواب الثالث أنه فرع حكم العقل بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني وهو أن نقول إن التكليف لغرض يعود إلى العبد وهو المنافع الدنيوية والأخروية التي تربى على مضرة التعب بمشاق الأفعال
وأما عقابه أبدا فليس لأنه لم يحصل منفعته بل لأنه يمثل أمر مولاه وسيده
وفي ذلك إهانة له وإن لم يستجلب بذلك الأمر فائدة لنفسه
والمعارضة بمضرة الكفار والعصاة مدفوعة بأن تلك المضرة مستندة إلى سوء اختيارهم
وجواب الرابع عندنا أن القدرة مع الفعل كما مر
والتكليف به في هذه الحالة ليس تكليفا بالمحال الذي هو تحصيل الحاصل
وإنما يكون كذلك أن لو كان الفعل حاصلا بتحصيل سابق على التحصيل الذي هو ملتبس به وما ذكر من أنه لا فائدة فيه حينئذ لوجوبه فإنما يتم إذا وجب الغرض في أفعاله تعالى
وهو باطل
وجواب الرابع عند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل
وليس ذلك تكليفا بما لا يطاق لأن التكليف في الحال إنما هو بالإيقاع في ثاني الحال لا بالإيقاع في (3/364)
الحال ليكون جمعا بين الوجود والعدم
وذلك أي التكليف كالإحداث يعني أن ما أوردتموه علينا في التكليف يلزمكم في إحداث الفعل فيقال إحداثه إما حال وجوده فيكون تحصيلا للحاصل وإما حال عدمه فيكون جمعا بين النقيضين
وهو أي الإحداث مما لا شك فيه
فما هو جوابكم في الإحداث فهو جوابنا في التكليف
وجواب الخامس أن ذلك أي التفكر في معرفة الله وصفاته وأفعاله أحد أغراض التكليف بل هو العمدة الكبرى منها وسائر التكاليف معينة عليه داعية إليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربى شغلها على شغل التكاليف
الطائفة الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة إذ هو كاف في معرفة التكاليف فلا فائدة فيها وهم البراهمة والصابئة والتناسخية
غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيث وإدريس فقط
وهؤلاء كلهم احتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه من الأفعال يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة إليه لأن الحاجة ناجزة حاضرة فيجب اعتبارها دفعا لمضرة فواتها
ولا يعارضها مجرد الاحتمال أي احتمال المضرة بتقدير قبحه
ويترك عند عدمها للاحتياط في دفع المضرة المتوهمة
والجواب بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح أن الشرع المستفاد من البعثة فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا من مراتب الحسن والقبح والمنفعة والمضرة
وبيان ما يقصر عنه العقل ابتداء فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم العقل فيه بشيء
وذلك (3/365)
كوظائف العبادات وتعيين الحدود ومقاديرها
وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك أي النبي الشارع كالطبيب الحاذق يعرق الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يجربون فيه أي في ذلك الدهر الطويل من فوائدها لعدم حصول العلم بها بعد ويقعون في المهالك قبل استكمالها أي قبل استكمال مدة التجربة إذ ربما يستعملون من الأدوية في تلك المدة ما يكون مهلكا ولا يعلمون ذلك فيهلكهم مع أن اشتغالهم بذلك أي بتحصيل العلم بأحوال الأدوية بطريق التجربة يوجب اتعاب النفس وتعطل الصناعات الضرورية والشغل عن المصالح والمعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته أي معرفة ما ذكر غنى عن الطبيب فكذا لا يقال في إمكان معرفة التكاليف وأحوال الأفعال بتأمل العطل فيها غنى عن المبعوث
كيف والنبي لا يعلم ما لا يعلم إلا من جهة الله بخلاف الطبيب إذ يمكن التوصل إلى جميع ما يعلمه بمجرد الفكر والتجربة
فإذا لم يكن هو مستغنيا عنه كان النبي بذلك أولى
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء وهو أن الإنسان مدني بالطبع فلا بد له من قانون عدل محتاج إلى واضع يمتاز عن بني نوعه بما يدل على أن ما أتى به من عند ربه تتمة لهذا الكلام فإنه يدل على وجوب وجود النبي في العناية الأزلية المقتضية للنظام الأبلغ
الطائفة الرابعة من قال بامتناع المعجزة فلا يثبت النبوة أصلا لأن تجويز خرق العادة سفسطة
ولو جوزناه لجاز إنقلاب الجبل ذهبا وماء (3/366)
البحر دما ودهنا وأواني البيت رجالا كملا وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يد غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي عقيب دعواه بلا مهلة ويوجد مثله في آن إعدامه فيكون ظهور المعجزة على يد المثل
ولا يخفى ما فيه أي في تجويز خرق العادة من الخبط والإخلال بالقواعد المتعلقة بالنبوة وغيرها
إذ يجوز حينئذ أن يكون الآتي بالأحكام الشرعية في الأوقات المتفرقة أشخاصا مماثلة للذي ثبتت نبوته بالمعجزة وأن يكون الشخص الذي تتقاضاه غير الذي كان عليه دينك إلى غير ذلك من المفاسد التي تنافي نظام المعاش والمعاد
والجواب أن خرق العادات ليس أعجب من أول خلق السموات والأرض وما بينهما
ومن إنعدامها الذي نقول نحن به والجزم بعدم وقوع بعضها كما في الأمثلة المذكورة لا ينافي إمكانها في أنفسها وذلك كما في المحسوسات فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به جزما مطابقا للواقع ثابتا لا تتطرق إليه شبهة للحس الشاهد به شهادة موثوقا بها
والعادة أحد طرق العلم كالحس فجاز أن نجزم ذلك الجزم بشيء من جهة العادة مع إمكان نقيضه في نفسه
ثم إن خرق العادة إعجازا لنبي وكرامة لولي عادة مستمرة توجد في كل عصر وأوان
فلا يمكن للعاقل المنصف إنكاره أو فلا يكون حينئذ خرقا للعادة بل أمرا عاديا
والمعجزة عندنا ما يقصد به تصديق مدعي الرسالة وإن لم يكن خارقا للعادة
الطائفة الخامسة من قال ظهور المعجز لا يدل على الصدق في دعوى النبوة لاحتمالات (3/367)
الأول كونه من فعله لا من فعل الله فلا يكون نازلا منزلة التصديق له من الله
وإنما جاز كون المعجز فعلا له مع كون غيره عاجزا عنه
إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس البشرية في الماهية كما ذهب إليه جماعة فيجوز حينئذ أن يصدر عن بعضها ما لا يقدر عليه بعض آخر منها أو لمزاج خاص في بدنه هو أقوى من أمزجة أقرانه فيقوى به على فعل يعجز عنه غيره
وإن توافقا في الماهية أو لكونه ساحرا ماهرا في السحر وقد أجمعتم على حقيقته أي على كون السحر مؤثرا في أمور غريبة كما دل عليه الكتاب كقوله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه والسنة كقصة لبيد بن الأعصم مع النبي أنكره من القدرية فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة أيضا إذ ما من عصر من عهد الصحابة إلى ظهور المخالفين إلا وكان الناس يتفاوضون فيه في أمر السحر وتأثيراته حتى اختلفت الفقهاء في حكم الساحر فقال بعضهم يجب قتله
وقال آخرون هو كافر
وقال الشافعي إذا اعترف الساحر بأن قتله شخصا بسحره وبأن سحره مما يقتل غالبا وجب عليه القود ولم ينكره أحد فكان إجماعا
هكذا ذكره الآمدي أو لطلسم اختص هو بمعرفته يعني أن سلم امتناع السحر في نفسه فلا مجال لإنكار الطلسمات الغريبة التي تؤثر تأثيرات عجيبة فجاز أن يمتاز ذلك الشخص بمعرفة نوع منها لا يعرفه غيره
فإذا أتى به ترتب عليه أمر غريب يعجز عن مثله من هو في عصره
وقالوا الطلسم عبارة عن تمزيج القوى السماوية الفعالة بالقوى الأرضية المنفعلة
وذلك أن القوى السماوية أسباب لحدوث الكائنات العنصرية (3/368)
ولحدوثها شرائط مخصوصة بها يتم استعداد القابل
فمن عرف أحوال الفاعل والقابل وقدر على الجمع بينهما عرف ظهور آثار مخصوصة غريبة
أو لخاصية بعض المركبات إذ لا شك أن المركبات العنصرية لها خواص تستتبع آثارا عجيبة كالمغناطيس الجاذب للحديد والكهرباء التي تجذب التبن وكالحجر الباغض للخل فإنه إذا أرسل على إناء فيه خل لم ينزل بل ينحرف عنه حتى يسقط خارجا عن الإناء
وكالحجر الجالب للمطر وهو مشهور فيما بين الأتراك فجاز أن يكون ذلك الخارق الذي ظهر على يد المدعي تابعا لخاصية بعض المركبات ويكون هو عالما بذلك النوع من التركيب دون غيره
الثاني من تلك الاحتمالات استناده أي استناد المعجز إلى بعض الملائكة فإنها قادرة على أفعال غريبة فلعل ملكا أظهر ما يعجز عنه البشر على يد المتنبىء ليغوي الناس
وأما عصمة الملائكة فإنما تعلم بقول النبي فلا يمكن أن يتمسك بها ههنا
أو الشياطين فإنها موجودة عندكم قادرة على أفعال خارقة أو استناده إلى الاتصالات الكوكبية وأنظارها الحادثة من الحركات الفلكية وهو أي مدعي النبوة قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاطلع على اتصال نادر لا يقع مثله إلا في ألوف من السنين ويستتبع أمرا غريبا فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه فلا يكون حينئذ دالا على صدقه
الثالث منها أن يكون الخارق الظاهر كرامة لا معجزة فلا يكون له دلالة على الصدق (3/369)
الرابع إن لا يقصد به التصديق أي سلمنا أن المعجز من فعله تعالى لكنه ليس تصديقا منه للمدعي
إذ لا غرض واجبا في أفعاله تعالى
وعلى تقدير وجوبه لا يتعين التصديق له لكونه غرضا من ذلك الخارق إذ لعله أي الغرض منه غير التصديق له كإيهامه أي إيهام تصديقه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب بذلك كإنزال المتشابهات
فإنها بظواهرها توهم الخطأ
ولا يمكن للمكلف الاحتراز عن ذلك الخطأ إلا بتحمل المشقة من التأمل الدقيق فيها فيستحق به الثواب
أو يكون ذلك الخارق لتصديق نبي آخر موجود في جانب آخر أو يكون إرهاصا لنبي سيأتي فيما بعد كالأحوال الظاهرة على النبي قبل مبعثه وكالنور الذي كان في جبين آبائه
الخامس إنه لا يلزم من تصديق الله إياه صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم ذلك عقلا إذ لا يقبح عندكم منه شيء ولا سمعا للزوم الدور
السادس لعل التحدي الصادر عن المدعي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة من الذين هم في بعض الأقطار أو لعله أي القادر على المعارضة تركها مواضعة مع المدعي ومواطأة معه في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا وافرا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وظنوا أن دعوته مما لا يتم ولا يلتفت إليه فلم يشتغلوا بمعارضته في ابتداء أمره وخافوه آخرا لشدة شوكته وكثرة أتباعه
أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه أي عن المدعي ومعارضته
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع منع المعارض عن إظهار ما عارض به أو أظهر ثم أخفاه أصحابه أي أتباع المدعي عند استيلائهم وغلبتهم على الناس المخالفين لهم وطمسوا آثاره حتى انمحى بالكلية
ومع قيام هذه الاحتمالات الثمانية لا يبقى لها أي للخارق الذي سمى معجزة دلالة على الصدق (3/370)
الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة أي قررناه مرارا
ومن جملتها جواب الطائفة الرابعة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي كما في المحسوسات
والجواب التفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
فالمعجز لا يكون إلا فعلا له لا للمدعي
والسحر ونحوه إن لم يبلغ حد الإعجاز الذي هو كفلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر أنه لا يلتبس السحرة بالمعجزة فلا إشكال
وإن بلغ السحر حد الإعجاز فأما أن يكون دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أنه لا التباس أو يكون معه أي مع ادعاء النبوة والتحدي
وحينئذ فلا بد من أحد أمرين إما أن لا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب
وأنه محال على الله سبحانه لكونه كاذبا والجواب عن الثاني أن لا خالق إلا الله فلا يكون المعجز مستندا إلى غير
وعن الثالث أن لم يجوز الكرامة فلا إشكال عليه
ومن جوزها فقال بعضهم منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ الكرامة الظاهرة على يد الأولياء درجة المعجز
وقيل لا تقع الكرامة على القصد والاختيار حتى إذا أراد الولي إيقاعها
لم تقع بل وقوعها اتفاقي فقط
وقال القاضي تجوز الكرامة إذا لم تقع على طريق التعظيم والجلال لأن ذلك ليس من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز الكرامة عن المعجز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة وعلى التقادير كلها فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر فلا تشتبه إحداهما بالأخرى
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض أي لا نقول بأن خلق المعجزة لغرض التصديق لأن أفعاله تعالى عندنا غير معللة بالأغراض
بل نقول إن خلقها على يد المدعي يدل على تصديق له قائم بذاته تعالى كما أن حمرة الخجل تفيد العلم الضروري (3/371)
بحصول الخجلة
مع جواز حصولها بدونها
أما على القول باستناد الحوادث إلى القادر المختار فظاهر
وأما على القول بالموجب فلأنه يجوز أن يحدث شكل غريب سماوي يقتضي تلك الحمرة في ذلك الشخص من غير أن يحصل فيه الخجالة
وعن الخامس فقد مر في مسألة الكلام من موقف الإلهيات امتناع الكذب عليه سبحانه وتعالى
وعن السادس إذا أتى مدعي النبوة بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة
وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه في دعواه
وعن السابع يعلم عادة أي يعلم بالضرورة العادية الوجدانية المبادرة بلا توان إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التقوى على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم
ويعلم بالضرورة أيضا عدم الإعراض عنها أي عن المعارضة في مثل هذا الأمر بحيث لا ينتدب له أحد ولا يتوجه نحو الإتيان بالمعارض أصلا
والقدح فيه سفسطة ظاهرة
وحينئذ أي وحين إذ كان الأمر كما ذكرنا فدلالته من جهة الصرفة واضحة
فإن النفوس إذا كانت مجبولة على ذلك كان صرفها عنه أمرا خارقا للعادة دالا على صدق المدعي وإن كان ما أتى به مقدورا لغيره
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوب معارضته على تقدير القدرة علم بالعادة أيضا وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع أي في جميع الأوقات والأماكن بل هذا معلوم الانتفاء بالضرورة العادية
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا من أصحاب المدعي عند استيلائهم
ومن غيرهم أيضا فاندفعت الاحتمالات كلها وثبتت الدلالة القطعية
الطائفة السادسة من منكري البعثة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم فلا يحصل العلم بنبوة أحد لمن لم يشاهد معجزة
وإنما قلنا إن التواتر لا يفيد العلم لوجوه (3/372)
الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم فكذا الكل يجوز عليه الكذب إذ ليس كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني إن حكم كل طبقة من طبقات أعداد الرواة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم جواز إفادة التسعة والتسعين له قطعا
ولم يحصره أي العلم في عدد معين وأيضا إدعاء الفرق بين العددين المذكورين في إفادة العلم تحكم محض
وإذا كان كذلك فلنفرض طبقة لا تفيده أي لا تفيد العلم قطعا كاثنين مثلا ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده شيء من هذه المراتب بالغا ما بلغ لمساواة كل منها لما قيل في عدم الإفادة
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد واللازم منتف اتفاقا بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه إجماع أهله اتفاقا منا ومنكم بل يحصل التواتر بخبر واحد بعد واحد فالموجب له أي للعلم على تقدير حصوله إنما هو الخبر الأخير وحده لا هو مع ما سبق لأنه قد انقضى فقد أفاد خبر الواحد العلم حينئذ
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة بالغة ما بلغت ولا سبيل إلى العلم به أي بالشرط المذكور
وإذا لم يعلم شرط إفادته للعلم لم يحصل العلم منه
الخامس إن التواتر غير مضبوط بعدد معين بل ضابطه عندكم (3/373)
حصول العلم به حتى إذا حصل العلم به علم أنه متواتر
فلا يعلم كونه متواترا إلا بعد حصول العلم به
فإثبات العلم به أي بالتواتر مصادرة على المطلوب ودور صريح
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل من حيث هو كل لحكم كل واحد لما نرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
وجواب الثاني أن حصول العلم عنده أي عند التواتر عندنا معاشر الأشاعرة إنما هو بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد فلا نسلم تساوي طبقات الأعداد في احتمال الكذب وعدم إفادة العلم
كيف وأنه أي حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا يحصل به في واقعة أخرى
وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصين ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد
وكذا يحصل العلم لسامع من عدد ولا يحصل لسامع آخر من ذلك العدد والجواب عن الثالث أما عندنا فلأنه أي العلم عقيب التواتر بخلق الله فقد يخلقه بعد إخبار عدد دون خبر واحد منفرد فلا يكون الخبر الأخير موجبا له
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الأخبار الصادرة عن أهل التواتر أسباب معدة لحصول العلم لا موجبه له
وهي أي الأسباب قد لا تجامع المسبب بل تكون متقدمة عليه كالحركة للحصول في المنتهى فللأخبار السابقة مدخل في حصول العلم كالخبر الأخير وفاعله شيء آخر وهذا الوجه يناسب أصول الحكماء
والمناسب لأصول المعتزلة ما ذكره بقوله
ثم أنا نجد في أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوي ذلك الظن بالثاني والثالث
وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا أقوى منه فيلزم أن الموجب له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وهو المراد بكون التواتر مفيدا للعلم فلا يلزم أن يكون خبر الواحد المنفرد موجبا له
والجواب عن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع في نفس الأمر على شرطه وضابطه لأنا نستدل بالتواتر والعلم بحصول شرطه وضابطه على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر فإن (3/374)
حصول التواتر في نفس الأمر مشتملا على ما يعتبر فيه من الشرائط وإفادته للعلم الضروري بما تواتر الأخبار عنه أمر لا شبهة فيه إذ لا سبيل إلى العلم الضروري بالبلاد النائية والأشخاص الماضية سوى التواتر وليس يعتبر في ذلك العلم بالشرط الذي هو الاستواء حتى يقال إنه غير معلوم ولا العلم بضابطه حتى يلزم منه الدور
نعم إذ استدل على شيء يكون أخباره متواترة مشتملة على شرائط مجتمعة مع ضابطه توجه ما ذكرتم من عدم العلم بحصول الشرط ومن لزوم الدور لكن العلم المستفاد من التواتر ضروري عندنا لا نظري فتدبر
الطائفة السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها
قالوا تتبعنا الشرائع التي أتى بها مدعو الرسالة فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة
فعلمنا أنها ليست من عند الله فلا يكون هناك بعثة
وذلك الذي لا يوافق العقل والحكمة كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه لمنفعة الأكل وغيره
وإيجاب تحمل الجوع والعطش في صوم أيام معينة والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن مع أنه لا منفعة في هذا المنع لله سبحانه وفيه مضار لعباده فيكون مخالفا للحكمة وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجوازه في صفقتين كأن يبيع مد عجوة جيدة بمدين من عجوة رديئة فإنه (3/375)
ربا حرام وإن باعها بدرهم ثم اشترى به مدين من الرديئة كان حلالا بلا شبهة مع استوائهما أي الصفقة والصفقتين في المصالح والمفاسد من جميع الوجوه والجواب بعد تسليم حكم العقل فيه بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى فغايته أي غاية ما ذكرتموه عدم الوقوف على الحكمة في تلك الصور المذكورة ولا يلزم منه عدمها في نفس الأمر
ولعل هناك مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها أي تصرف غلبتها الثابتة فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب والعقاب يعني أن النفس إذا علمت الحكمة والمصلحة في حكم انقادت له لأجل تلك المصلحة لا لمجرد امتثال حكم مولاها سيدها وكان عندها أنها ذات قوة ورسوخ في العلم
فربما صارت بسبب ذلك معجبة بنفسها
فإذا تعبدت بما لا تعلم حكمته كان انقيادها امتثالا مجردا وانكسرت سورتها وإعجابها الثابت لها فيما علمت حكمته
وأيضا في التعبد زيادة ابتلاء في التكليف فإن النفس تأبى عما لا تعلم مصلحته وكل ذلك حكمة ومصلحة حاصلة في الأحكام التعبدية ومعلومة لنا فلا يلزم خلو تلك الصور عن الحكمة والمصلحة المعتد بها المعلومة
المقصد الرابع في إثبات نبوة محمد
وفيه مسالك
المسلك الأول وهو العمدة
أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده
أما الأولى فمتواترة تواترا ألحقه بالعيان
وأما الثانية فمعجزة القرآن وغيره
الكلام في القرآن إما أنه تحدى به فقد تواتر وآيات التحدي (3/376)
كثيرة
وإما أنه لم يعارض فلأنه لو عورض لتواتر سيما والخصوم أكثر من حصى البطحاء وأحرص الناس على إشاعة ما يبطل دعواه
وأما أنه حينئذ يكون معجزا فقد مر
والكلام على هذه الطريقة سؤالا وجوابا يعلم من الفصل المتقدم
ولنتكلم الآن في وجه إعجازه وفي شبه القادحين فيه في فصلين
الفصل الأول في وجه إعجازه وقد اختلف فيه فقيل هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه ومقاطعه وفواصله
وعليه بعض المعتزلة
وقيل كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها وعليه الجاحظ
قالوا البلاغة التعبير باللفظ الرائع عن المعنى الصحيح بلا زيادة ولا نقصان في البيان
وهل رتب البلاغة متناهية والحق أن الموجود منها متناه دون الممكن ثم أصل البلاغة في القرآن متفق عليه لا ينكره من له أدنى تمييز ومعرفة بصياغة الكلام
وأما كونه في الدرجة العالية غير المعتادة وبهذا يحصل الإعجاز ولا حاجة بنا إلى بيان أنه الغاية فيها فلأن من تتبع القرآن وجد فيه فنونها من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل وضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل والاستعارة وحسن المطالع والمقاطع والفواصل والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام وتعريه عن اللفظ الغث والشاذ والشارد إلى غير ذلك بحيث لا يرى المتصفح له المميز نوعا منها إلا وجده فيه أحسن ما يكون
ولا يقدر أحد من البلغاء وإن استفرغ وسعه إلا على نوع أو نوعين منه
وربما لو رام غيره لم يواته
ومن كان أعرف بالعربية وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن (3/377)
وقال القاضي هو مجموع الأمرين
وقيل هو إخباره عن الغيب نحو وهم من بعد غلبهم سيغلبون وذلك كثير
وقيل عدم اختلافه وتناقضه مع ما فيه من الطول ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
وقيل بالصرفة فقال الأستاذ والنظام صرفهم الله مع قدرتهم
وقال المرتضي بل سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة
الفصل الثاني في شبه القادحين في إعجازه والتقصي عنها
قالوا وجه الإعجاز يجب أن يكون بينا لمن يستدل به عليه واختلافكم فيه دلائل خفائه
ثم ما ذكرتم من الوجوه لا يصلح للإعجاز
أما النظم الغريب فلأنه أمر سهل
سيما بعد سماعه
وأيضا فحماقات مسيلمة على وزنه
وأما البلاغة فلوجوه
الأول إذا نظرنا إلى أبلغ خطبة للخطباء وقصيدة للشعراء ثم قسناه إلى أقصر سورة من القرآن وتزعمون التحدي بها ويتناولها قوله تعالى فاتوا بسورة من مثله لم نجد الفرق بينا بل ربما زعم أن الأفصح معارضها
ولا بد في المعجز من ظهور التفاوت إلى حد تنتفي معه الريبة (3/378)
الثاني إن الصحابة اختلفوا في بعض القرآن حتى قال ابن مسعود بأن الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن مع أنها أشهر سورة
ولو كانت بلاغتها بلغت حد الإعجاز لتميزت به فلم يختلفوا
الثالث إنهم عند جمع القرآن إذا أتى الواحد بالآية والآيتين لم يضعوها في المصحف إلا ببينة أو يمين
والتقرير ما مر
الرابع لكل صناعة مراتب وليس لها حد معين ولا بد في كل زمان من فاق أبناءها فلعل محمدا كان أفصح أهل عصره
ولو كان ذلك معجزا لكان كل من فاق أقرانه في صناعة معجزا
وهو ضروري البطلان
وأما مذهب القاضي فلأن ضم غير المعجز إلى مثله لا يصيره معجزا
وأما الإخبار بالغيب فلوجوه
الأول إنه جائز كرامة إلا أن يتكرر إلى أن يصير معجزا
ومراتبه غير مضبوطة
فكيف يعلم بلوغ القرآن مرتبة الإعجاز
الثاني إنه يقع من المنجمين والكهنة وليس بمعجز اتفاقا
الثالث إنه يلزم حينئذ ألا يكون ما خلا عنه من القرآن معجزا
وأما عدم الاختلاف والتناقض فيه مع طوله فلوجوه
الأول قال وما علمناه الشعر وفي القرآن ما هو شعر نحو قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
وقوله ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين سيما إذا تصرف فيه بأدنى تغيير فإنه يوجد فيه شيء كثير
الثاني أن فيه كذبا إذ قال وما فرطنا في الكتاب من شيء
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
ولا شك أنه لا يشتمل على أكثر العلوم (3/379)
الثالث إن فيه اختلافا إذ فيه اللحن نحو إن هذان لساحران قال عثمان إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم
الرابع فيه تكرار بلا فائدة كما في سورة الرحمن
وكقصة موسى وعيسى كذلك
وفيه إيضاح الواضح نحو تلك عشرة كاملة وأي خلل أعظم من الكلام الغير المفيد
الخامس إنه نفى عنه الاختلاف حيث قال ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في معرض الاحتجاج بعدم الاختلاف فيه على كونه من عند الله ثم نجد فيه اختلافا كثيرا لأنه إما في اللفظ أو المعنى
والأول إما بتبديل اللفظ أو التركيب أو الزيادة أو النقصان
والكل موجود فيه
أما تبديل اللفظ فمثل كالصوف المنفوش بدل كالعهن
وفامضوا إلى ذكر الله بدل فاسعوا وفكانت كالحجارة بدل فهي كالحجارة والسارقون والسارقات بدل والسارق والسارقة
وأما تبديل التركيب فنحو ضربت عليهم المسكنة والذلة بدل الذلة والمسكنة ونحو جاءت سكرة الحق بالموت بدل الموت بالحق
وأما الزيادة والنقصان فنحو النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وله تسع وتسعون نعجة أنثى
وأما في المعنى فنحو ربنا باعد بين أسفارنا وربنا باعد بين أسفارنا والأول دعاء والثاني خبر
و هل يستطيع ربك بالغيبة وضم الباء
وهل تستطيع ربك بالخطاب وفتح الباء
السادس إنه يوجد في كثير من الخطب والقصائد الطوال
بحيث لو (3/380)
تتبعها أبلغ البلغاء لم يعثر فيها على سقطة فضلا عن التناقض والاختلاف
ويظهر ذلك كل الظهور في مقدار أقصر سورة تحدى بها
وأما بالقول بالصرفة فلوجوه
الأول الإجماع قبل هؤلاء على أن القرآن معجز
ولو قال أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه
وكان كذلك لم يكن قيامه معجزا بل عجزهم عن القيام
الثاني لو سلبوا القدرة لتناطقوا به عادة ولتواتر ذلك
فإن قيل إنما لم يتذاكروه لئلا يصير حجة عليهم
قلنا إن كان ذلك موجبا لتصديقه امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته
وإن لم يكن موجبا بل احتمل السحر وغيره مثلا لتناطقوا به وحملوه عليه
الثالث كانوا يعارضونه بما اعتيد منهم قبل التحدي به فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به
والجواب قولهم اختلافكم في وجه إعجازه دليل الخفاء
قلنا الاختلاف والخفاء وإن وقع في آحاد الوجوه فلا اختلاف بيننا ولا خفاء في أنه بما فيه من البلاغة والنظم الغريب والإخبار عن الغيب واشتماله على الحكمة البالغة علما وعملا معجز
وإنما وقع الخلاف في وجهه لاختلاف الأنظار ومبلغ أصحابها من العلم وليس إذا لم يكن معجزا بالنظر إلى أحد ما بيناه يلزم أن لا يكون معجزا بجملتها ولا بجملة منها
وكأي من بليغ يقدر على النظم أو النثر ولا يقدر على الآخر
ولا يلزم من القدرة على أحدهما القدرة على الجميع
وليس كل ما ثبت لكل واحد يثبت للكل
هذا وإنا نختار أنه معجز ببلاغته
وأما الشبه فالجواب عن الأولى أن الفرق كان بينا لمن تحدى به
ولذلك لم يعارض
وغيرهم عمي عن ذلك لقصوره في صناعة البلاغة والتمييز بين مراتبها
ثم قياس أقصر سورة إلى أطول خطبة أو قصيدة جور على سواء السبيل
وأيضا فيكفينا كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا (3/381)
قال الوليد بن المغيرة بعد طول محاولته للمعارضة وتوقع الناس ذلك منه عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء وشعر الشعراء فلم أجده منها
وعن الثانية إن الآحاد لا تعارض القاطع
ثم إنهم لم يختلفوا في نزوله على محمد وبلوغه في البلاغة حد الإعجاز
وأما البسملة فالخلاف في كونها آية من كل سورة لا في كونها من القرآن
وعن الثالثة إن اختلافهم في موضعه وفي التقديم والتأخير فإن النبي كان يواظب على قراءته في صلاته
هذاوإن الخبر المحفوف بالقرائن قد يفيد العلم وهو المدعي
ولا علينا أن نثبت بالتواتر أو بالقرائن
ثم لا يضر عدم إعجاز الآية والآيتين
وعن الرابعة إن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله ويبلغون فيه الغاية القصوى فيقفون فيه على الحد المعتاد حتى إذا شاهدوا ما هو خارج عن حد الصناعة علموا أنه من عند الله
وذلك كالسحر في زمن موسى
ولما علم السحرة أن حد السحر تخييل وتوهيم ثم رأوا عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يأفكونه علموا أنه خارج عن السحر فآمنوا به
وفرعون لقصوره يظن أنه كبيرهم الذي يعلمهم السحر
وكذا الطب في زمن عيسى وبعلمهم علموا أن إحياء الموتى وإبراء الأكمه ليس حد الصناعة بل من عند الله
هذا والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها وكتب السير تشهد بذلك
فلما أتى بما عجز عن (3/382)
مثله جميع البلغاء مع ما ظهر عنهم من كثرة المنازعة والتشاجر وإنكار نبوته حتى أن منهم من مات على كفره ومنهم من أسلم لوضوح نبوة النبي عنده ومنهم من أسلم على نفرة منه للصغار ومنهم من اشتغل بالمعارضة الركيكة التي هي ضحكة للعقلاء ومنهم
وهم الأكثرون
من عدل إلى المحاربة وتعريض النفس والمال للدمار فعلم أن ذلك من عند الله قطعا
سلمنا لكن لم لا يكون معجزا بالإخبار عن الغيب وحد المعجز منه تقضي به العادة
وقد بلغ في القرآن ذلك المبلغ ولسنا الآن لتفصيله
وبه خرج جواب الشبهتين
سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المعجز ما انتفى عنه الاختلاف
وأما الشبه فالجواب عن الأول أن ما في القرآن ليس بوزن الشعر إنما يصير إليه بتغير ما من إشباع أو زيادة أو نقصان ثم إن الشعر ما قصد وزنه وتناسب مصاريعه واتحاد رويه
وما يقع من ذلك في نثر البلغاء اتفاقا على الشذوذ لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا
ومن قال لغلامه ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ لم يعد بهذا القدر شاعرا ضرورة
وعن الثانية إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فلا إشكال أو بالعموم المخصوص بما يحتاج إليه في أمر الدين
وعن الثالثة أن للتكرار فوائد
منها زيادة التقرير
ومنها إظهار القدرة على إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في الإيجاز والإطناب
وهو إحدى شعب البلاغة
وأما قوله إن هذان لساحران فقيل غلط من الكاتب ولم يقرأ به
وقيل لغة
نحو (3/383)
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وقيل مخصوص بهذا زيد فيه النون فقط كما فعل في الذين
وقيل ضمير الشأن مقدر ههنا
واللام تدخل خبر المبتدأ إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب العربية
وقول عثمان إن فيه لحنا
أي في الكتابة
وأما قوله تلك عشرة كاملة فدفع لتوهم غير المقصود ولو بوجه بعيد مثل أن يظن أن المراد بالسبعة تمامها
وعن الرابعة إن ما نقل منه آحادا فمردود
وما نقل متواترا فهو مما قال الرسول أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف
وعن الخامسة أن المراد الاختلاف في البلاغة
فإن الكلام الطويل ولو من أبلغ شخص لا يخلو عن غث وسمين وركيك ومتين عادة
أو المراد اختلاف أهل الكتاب فيما أخبر عن القصص لعدم ثبوتها عندهم
وأما الصرفة فنقول بأن الإعجاز ليس بها ولكن ندعيها أو كون القرآن معجزا وأيا ما كان يحصل المطلوب
الكلام في سائر المعجزات
وهي أنواع
الأول انشقاق القمر على ما دل عليه قوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر (3/384)
الثاني كلام الجمادات
قال أنس كنا عند رسول الله كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح
وقال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه مرض رسول الله فأتاه جبريل عليه السلام بطبق فيه رمان وعنب فسبح ذلك العنب والرمان
ولما دعا للعباس وأهل أمن له أسكفة الباب وحيطان البيت
ولما طلب الأعرابي منه الشاهد على نبوته دعا الشجرة وهي على شط الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا حتى قامت بين يديه وشهدت له بالنبوة ورجعت إلى منبتها
وكلام الذراع المسمومة مشهور
الثالث كلام الحيوانات العجم
شهد له الذئب بالنبوة والظبية التي ربطها الأعرابي سألته الإطلاق لترضع خشفيها وضمنت الرجوع فرجعت
ثم سأل الأعرابي أن يطلقها فأطلقها فانطلقت وهي تشهد أن لا إله إلا الله (3/385)
وأن محمدا رسول الله
وشهدت الناقة ببراءة صاحبها من السرقة
ولكل قصة في كتب السير
الرابع حركة الجمادات
منها قصة الشجرة وما روى ابن عباس أنه قال لأعرابي أرأيت لو دعوت هذا العذق فدعاه فجاءه ثم قال ارجع فرجع
وحنين الجذع إليه مشهور
الخامس إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل
السادس نبوع الماء من بين أصابعه
رواه أنس
السابع إخباره بالغيب
فمنه ما ورد به القرآن
ومنه ما نطق به الأحاديث الصحيحة
ومن بحث عن هذا الجنس وجده كثيرا
ثم نقول كل واحدة من هذه وإن لم تتواتر فالقدر المشترك بينها متواتر كشجاعة علي وسخاوة حاتم وهو كاف
المسلك الثاني وارتضاه الجاحظ والغزالي الاستدلال بأحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها
وأخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة وإقدامه حيث يحجم الأبطال
ولولا ثقته بعصمة الله إياه من الناس لامتنع ذلك عادة
وأنه لم يتلون حاله وقد تلونت به الأحوال من أمور من تتبعها علم أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لكن مجموعها مما لا يحصل إلا (3/386)
للأنبياء
فلا يرد ما يحكى عن أفاضل الحكماء من الأخلاق العجيبة التي جعلها الناس قدوة لأحوالهم في الدنيا والآخرة
المسلك الثالث إخبار الأنبياء المتقدمين عليه من نبوته التوراة والإنجيل
فإن قيل إن زعمتم مجيء صفته مفصلا أنه يجيء في السنة الفلانية في البلدة الفلانية وصفته كيت وكيت فاعلموا أنه نبي فباطل
لأنا نجد التوراة والإنجيل خاليين عن ذلك
وأما ذكره مجملا فإن سلم فلا يدل على النبوة بل على ظهور إنسان كامل أو لعله شخص آخر لم يظهر بعد
قلنا المعتمد ظهور المعجزة على يده
وهذه الوجوه الأخر للتكملة وزيادة التقرير
المسلك الرابع وارتضاه الإمام الرازي أنه بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم أني بعثت بالكتاب والحكمة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية والعملية وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح
ففعل ذلك وأظهر دينه على الدين كله كما وعده الله
ولا معنى للنبوة إلا ذلك
وهذا قريب من مسلك الحكماء
واعلم أن المنكرين لبعثته قومان
أحدهما القادحون في معجزته كالنصارى
وقد مر ما فيه كفاية
وثانيهما اليهود إلا العيسوية فإنهم سلموا بعثته لكن إلى العرب خاصة لا إلى الخلق كافة
واحتجوا بوجهين (3/387)
الأول إن نبوته تقتضي نسخ من قبله باتفاق منكم لكن النسخ محال لأنه يدل على الجهل أو البداء
وكلاهما محال على الله تعالى
بيانه أنه لو كان فيه مصلحة لا يعلمها فالجهل
وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ثم أهملها بلا سبب ثانيا فالبداء
والجواب إنه لا يجب رعاية المصلحة عندنا
وإن وجب فربما حدثت مصلحة لم تكن حاصلة قبل
فإن المصالح تختلف بحسب الأوقات كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت
فربما كانت المصلحة في وقت ثبوت الحكم وفي آخر ارتفاعه وكيف والمحكوم عليه هنا ليس بمتحد
الثاني إن موسى نفى نسخ دينه
ولا بد من الاعتراف بصدقه لكونه نبيا
بيانه أنه تواتر عنه تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض
وأيضا إما أن يكون قد صرح بدوام دينه أو بعدم دوامه أو سكت عنهما
والأخيران باطلان
أما الثاني فإنه لو قال ذلك لتواتر لكونه من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها سيما من الأعداء
ومن يدعي نسخ دينه
وذلك أقوى حجة له فيه
وأما الثالث فلأنه يقتضي ثبوت دينه مرة واحدة وعدم تكرره وأنه معلوم الانتفاء لتقرره إلى أوان النسخ
والجواب منع تواتر ذلك عن موسى
ولو كان كذلك لاحتج به على محمد
ولو احتج به لنقل متواترا
وأما الترديد فنختار أنه صرح بدوامه إلى ظهور الناسخ
وإنما لم ينقل تواترا إما لقلة الدواعي إلى نقله لما فيه من الحجة عليهم وإما لقلة الناقلين في بعض الطبقات لأن اليهود جرت لهم وقائع ردتهم إلى أقل القليل ممن لا يحصل التواتر بنقله (3/388)
الشرح
المقصد الرابع في إثبات نبوة محمد وفيه مسالك
المسلك الأول وهو العمدة أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده
أما الأولى فتواتره تواترا ألحقه بالعيان والمشاهدة فلا مجال للإنكار فيها
وأما الثانية فمعجزة القرآن وغيره
الكلام في القرآن وكونه معجزا أن نقول تحدى به ولم يعارض فكان معجزا
أما أنه تحدى به فقد تواتر بحيث لم يبق فيه شبهة
وآيات التحدي كثيرة كقوله تعالى فليأتوا بحديث مثله وقوله فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله فأتوا بسورة من مثله وأما أنه لم يعارض فلأنه لو عورض لتواتر لأنه مما توفرت الدواعي إلى نقله سيما والخصوم أكثر عددا من حصى البطحاء وأحرص الناس على إشاعة ما يبطل دعواه وأما أنه حينئذ أي حين إذ تحدى به ولم يعارض يكون معجزا فقد مر فيما سبق من بيان حقيقة المعجزة وشرائطها
والكلام على هذه الطريقة سؤالا وجوابا يعلم من الفصل المتقدم فإن الشبه التي أوردها منكرو البعثة يمكن إيرادها ههنا
وأجوبتها تعلم من هناك أيضا فلا حاجة بنا إلى إعادتها
ولنتكلم الآن في وجه إعجازه وفي شبه القادحين فيه في فصلين
الفصل الأول في وجه إعجازه
وقد اختلف فيه على مذاهب فقيل هو ما اشتمل عليه من النظم أي التأليف الغريب والأسلوب العجيب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه أي أوائل السور والقصص وغيرها ومقاطعه أي أواخرها وفواصله أي آخر الآي التي هي بزنة الإسجاع في كلامهم
فإن هذه الأمور المذكورة وقعت في القرآن على وجه لم يعهد في كلامهم وكانوا عاجزين عنه وعليه بعض المعتزلة (3/389)
وقيل وجه إعجازه كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم
وعليه الجاحظ وأهل العربية
ثم أنهم قالوا في تفسير البلاغة عبارات مختلفة أحسنها قولهم البلاغة التعبير باللفظ الرائع أي المعجب بخلوصه عن معايب المفردات وتأليفاتها واشتماله على منافيها عن المعنى الصحيح أي المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام
بلا زيادة ولا نقصان في البيان والدلالة عليه
وعلى هذا فكلما ازداد شرف الألفاظ ورونق المعاني ومطابقة الدلالة كان الكلام أبلغ وهل رتب البلاغة متناهية اختلفوا فيه
والحق أن الموجود منها متناه لأنها واقعة في تلك الألفاظ الشريفة الدالة على المعاني الصحيحة
ولا شك أن الموجود من تلك الألفاظ في اللغات متناه دون الممكن من مراتبها
فإنه غير متناه إذ لا يتعذر وجود ألفاظ هي أفصح من الألفاظ الواقعة وأشد مطابقة لمعانيها فتكون أعلى رتبة في البلاغة إلى ما لا يتناهى
ثم أصل البلاغة في القرآن متفق عليه لا ينكره من له أدنى تمييز ومعرفة بصياغة الكلام
وأما كونه في الدرجة العالية غير المعتادة
وبهذا القدر يحصل الإعجاز الذي هو مطلوبنا
ولا حاجة بنا في إثبات إعجازه إلى بيان أنه الغاية القصوى فيها أي في المراتب الممكنة من البلاغة فلأن أي وأما كونه في الدرجة العالية الخارجة عن العادة فثابت لأن من تتبع القرآن من العارفين بالبلاغة وجد فيه فنونها بأسرها من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل ومن ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل أي ضرب المثل وأصناف الاستعارة وحسن المطالع والمقاطع من الكلام وحسن الفواصل (3/390)
والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام وتعريه أي خلوه عن اللفظ الغث أي الركيك والشاذ الخارج عن القياس والشارد النافر عن الاستعمال إلى غير ذلك من أنواع البلاغات بحيث أي وجده مشتمرا على فنون البلاغة بحيث لا يرى المتصفح له أي للقرآن وتراكيبه المميز بين فنون البلاغة نوعا منها أي من تلك الفنون إلا وجده أحسن ما يكون فالقرآن مشتمل على جملتها لم يغادر شيئا منها ولا يقدر أحد من البلغاء الواصلين إلى ذروة البلاغة من العرب العرباء وإن استفرغ وسعه وطاقته في تزيين كلامه إلا على نوع أو نوعين منه أي من المذكور الذي هو فنون البلاغة
وربما لو رام غيره أي غير ذلك النوع لم يواته أي لم يوافقه ولم يتأت له
قال الآمدي إن أفصح فصيح من العرب وأبلغ بليغ من أهل الأدب من أرباب النظم والنثر والخطب غايته الاستيثار بنوع واحد من أنواع البلاغة على وجه لو رام غيره في كلامه لما واتاه وكان فيه مقصرا والقرآن محتو عليها كلها
ومن كان أعرف بالعربية أي لغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن المتفرع على بلاغته
وقال القاضي الباقلاني هو أي وجه إعجازه مجموع لأمرين أي النظم الغريب وكونه في الدرجة العالية من البلاغة
وقيل هو إخباره عن الغيب نحو وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين
أخبر عن غلبة الروم على الفرس فيما بين ثلاث إلى التسع وقد وقع كما أخبر به وذلك كثيرا يعرف بتتبع القرآن وإخباراته عن الأمور المستقبلة الكائنة على وفقها
وقيل وجه إعجازه عدم اختلافه وتناقضه مع ما فيه من الطول (3/391)
والامتداد وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
وقيل إعجازه بالصرفة على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة لكن الله صرفهم عن معارضته واختلف في كيفية الصرف فقال الأستاذ أبو إسحق منا والنظام من المعتزلة صرفهم الله عنها مع قدرتهم عليها
وذلك بأن صرف دواعيهم إليها مع كونهم مجبولين عليها خصوصا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم كالتفريع بالعجز والاستنزال عن الرياسات والتكليف بالانقياد
فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزا
وقال المرتضى من الشيعة بل صرفهم بأن سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة يعني أن المعارضة والإتيان بمثل القرآن يحتاج إلى علوم يقتدر بها عليها وكانت تلك العلوم حاصلة لهم لكنه تعالى سلبها عنهم فلم يبق لهم قدرة عليها
الفصل الثاني في شبه القادحين في إعجازه والتقصي عنها قالوا أولا وجه الإعجاز يحب أن يكون بينا لمن يستدل به عليه بحيث لا يلحقه ريبة واختلافكم فيه أي في وجه الإعجاز أنه ماذا دليل خفائه فكيف يستدل به على إعجازه ثم قالوا ثانيا ما ذكرتم من الوجوه لا يصلح (3/392)
للإعجاز
أما النظم الغريب فلأنه أمر سهل سيما بعد سماعه فلا يكون موجبا للإعجاز
وأيضا فحماقات مسيلمة على وزنه وأسلوبه ومن حماقته قوله الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل
وأما البلاغة فلوجوه
الأول إذا نظرنا إلى أبلغ خطبة للخطباء
وأبلغ قصيدة للشعراء وقطعنا النظر عن الوزن والنظم المخصوص ثم قسناه إلى أقصر سورة من القرآن
وأنتم تزعمون التحدي بها ويتناولها قوله تعالى فأتوا بسورة من مثله لم نجد الفرق بينهما في البلاغة بينا بل ربما زعم أن الأفصح معارضتها الذي قيس إليها
ولا بد في المعجز الذي يستدل به على صدق المدعي من ظهور التفاوت بينه وبين ما يقاس إليه إلى حد تنتفي معه الريبة حتى يجزم بصدقه جزما يقينا
الوجه الثاني إن الصحابة اختلفوا في بعض القرآن حتى قال ابن مسعود بأن الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن مع أنها أشهر سوره
ولو كانت بلاغتها بلغت حد الإعجاز لتميزت به عن غير القرآن
فلم يختلفوا في كونها منه
الوجه الثالث إنهم كانوا عند جمع القرآن إذا أتى الواحد إليهم ولم يكن مشهورا عندهم بالعدالة بالآية والآيتين لم يضعوها في المصحف (3/393)
إلا ببينة أو يمين
والتقرير ما مر
وهو أنه لو كانت بلاغتها واصلة إلى حد الإعجاز لعرفوها بذلك ولم يحتاجوا في وضعها في المصحف إلى عدالة ولا إلى بينة أو يمين
الوجه الرابع لكل صناعة مراتب في الكمال بعضها فوق بعض وليس لها حد معين تقف عنده ولا تتجاوزه
ولا بد في كل زمان من فائق قد فاق أبناءها بأن وصل إلى مرتبة من تلك المراتب لم يصل إليها غيره في عصره
وإن أمكن أن يفوقه شخص آخر في عصر آخر فلعل محمدا كان أفصح أهل عصره فأتى بكلام عجز عن مثله أهل زمانه
ولو كان ذلك معجزا لكان ما أتى به كل من فاق أقرانه في صناعة من الصناعات في عصر من الأعصار معجزا
وهو ضروري البطلان
وأما مذهب القاضي فلأن ضم غير المعجز إلى مثله لا يصيره معجزا
وأما الإخبار بالغيب فلوجوه
الأول إنه جائز كرامة للولي
وعلى سبيل الاتفاق أيضا بلا خرق عادة كما في المرة والمرتين إلا أن يتكرر ذلك الإخبار إلى أن يصير خارقا للعادة فيصير حينئذ معجزا ومراتبه أي مراتب التكرر إلى حد الإعجاز غير مضبوطة بعدد معين فكيف يعلم بلوغ القرآن في الإخبار بالغيب مرتبة الإعجاز
الثاني إنه يقع ذلك الإخبار مكررا من المنجمين والكهنة كما دل عليه التسامع والتجربة وليس بمعجز اتفاقا
الثالث إنه يلزم حينئذ أن لا يكون ما خلا عنه أي عن الإخبار بالغيب من القرآن معجزا فيخرج أكثر القرآن عن صفة الإعجاز وهو باطل
وأما عدم الاختلاف والتناقض فيه مع طوله فلوجوه
الأول إن فيه تناقضا لأنه قال وما علمناه الشعر وفي القرآن ما هو شعر نحو قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه (3/394)
من حيث لا يحتسب
فإنه بدون لفظ مخرجا من بحر المتقارب على وزن فعولن فعولن فعولن فعل
ومنه قوله وأملي لهم إن كيدي متين ونحو قوله ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين فإنه إذا أشبع كسرة الميم في ويخزهم وفتحة النون في مؤمنين كان موزونا بلا شبهة
سيما أي وفي القرآن ما هو شعر لا سيما إذا تصرف فيه بأدنى تغيير فإنه يوجد فيه شيء كثير على أوزان بحور الأشعار
الثاني إن فيه كذبا إذ قال ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ولا شك أنه لا يشتمل القرآن على أكثر العلوم من المسائل الأصولية والطبيعية والرياضية والطبية
ولا على الحوادث اليومية فلا يكون كلامه هذا مطابقا للواقع
الثالث إن فيه اختلافا بالصحة وعدمها إذ فيه اللحن نحو إن هذان لساحران
قال عثمان حين عرض عليه المصحف إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم
الرابع فيه تكرار لفظي بلا فائدة كما في سورة الرحمن
وفيه تكرار معنوي كقصة موسى وعيسى كذلك
وفيه إيضاح الواضح نحو تلك عشرة كاملة وأي خلل أعظم من الكلام الغير المفيد
الخامس إنه نفى عنه الاختلاف حيث قال ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في معرض الاحتجاج بعدم الاختلاف فيه على كونه من عند الله ثم أنا نجد فيه اختلافا كثيرا فلا يكون هذا (3/395)
الاحتجاج صحيحا
وإنما قلنا بكثرة الاختلاف فيه لأنه أي الاختلاف إما في اللفظ أو المعنى
والأول إما بتبديل اللفظ أو التركيب أو الزيادة أو النقصان
والكل موجود فيه
أما بتبديل اللفظ فمثل كالصوف المنفوش بدل كالعهن
ومثل فامضوا إلى ذكر الله بدل فاسعوا
ومثل فكانت كالحجارة بدل فهي كالحجارة
ومثل السارقون والسارقات بدل والسارق والسارقة
وأما تبديل التركيب فنحو وضربت عليهم المسكنة والذلة بدل الذلة والمسكنة ونحو جاءت سكرة الحق بالموت بدل الموت بالحق
وأما الزيادة والنقصان فنحو النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم
ففي هذه القراءة زيادة
وفي المشهورة نقصان
وكذا الحال في قوله له تسع وتسعون نعجة أنثى
وأما الاختلاف في المعنى فنحو ربنا باعد بين أسفارنا بصيغة الأمر ونداء الرب وربنا باعد بين أسفارنا بصيغة الماضي ورفع الرب والأول دعاء والثاني خبر
ونحو هل يستطيع ربك بالغيبة وضم الباء
وهل تستطيع ربك بالخطاب وفتح الباء
والأول استخبار عن حال الرب والثاني عن حال عيسى
السادس إنه يوجد عدم الاختلاف في كثير من الخطب والقصائد الطوال بحيث لو تتبعها أبلغ البلغاء لم يعثر فيها على سقطة فضلا عن (3/396)
التناقض والاختلاف
ويظهر ذلك كل الظهور في مقدار قصر سورة تحدى بها كما هو الظاهر من قوله فأتوا بسورة من مثله فإن هذا المقدار من نظمهم ونثرهم خال عن الاختلاف بلا شبهة فلا يكون عدم الاختلاف موجبا للإعجاز
وأما القول بالصرفة فلوجوه
الأول الإجماع قبل هؤلاء القائلين بها على أن القرآن معجز
وعلى هذا القول يكون المعجز هو الصرف لا القرآن
ألا ترى أنه لو قال أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه وكان كذلك لم يكن قيامه معجزا بل عجزهم عن القيام فهذه المقالة خارقة لإجماع المسلمين السابقين على أن القرآن معجزة لرسول الله دالة على صدقه
الثاني إنهم لو سلبوا القدرة كما قال به الشريف الرضي لعلموا ذلك من أنفسهم
ولتناطقوا به عادة ولتواتر عنهم
ذلك التناطق لجريان العادة بالتحدث بخوارق العادات لكنه لم يتواتر قطعا
فإن قيل إنما لم يتذاكروه ولم يظهروه لئلا يصير حجة عليهم ملجئة لهم إلى الانقياد مع أنهم كانوا حراصا على إبطال حجته وانتكاس دعوته
فلا يتصور منهم حينئذ إظهار ما علموه من أنفسهم
قلنا إن كان ذلك أي سلب القدرة عنهم موجبا لتصديقه إيجابا قطعيا امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته والإعراض بالكلية عن مقتضاه
وإن لم يكن موجبا لتصديقه بل احتمل السحر وغيره كفعل (3/397)
الجن مثلا لتناطقوا به وحملوه عليه وقالوا قد سلب عنا قدرتنا إما بالسحر وإما بغيره
فلا يلزمهم بإظهاره صيرورته حجة عليهم
الثالث إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة
وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به بل قبل نزوله
فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة
والجواب عن الشبهة القادحة في كون القرآن معجزا بسبب الاختلاف في وجه إعجاز أن نقول قولهم اختلافكم في وجه إعجازه دليل الخفاء
قلنا الاختلاف والخفاء وإن وقع في آحاد الوجوه فلا اختلاف بيننا ولا خفاء في أنه أي مجموع القرآن بما فيه من البلاغة والنظم الغريب والإخبار عن الغيب واشتماله على الحكمة البالغة علما وعملا وعلى غيرها مما ذكر في وجه الإعجاز معجز بالنظر
وإنما وقع الخلاف في وجهه لاختلاف الأنظار ومبلغ أصحابها من العلم
وليس إذا لم يكن معجزا بالنظر إلى أحد من وجوه الإعجاز ما بيناه بعينه يلزم أن لا يكون معجزا بجملتها ولا بجملة منها بل ولا بواحد منها لا بعينه لجواز اختلاف الأحكام في هذه الأمور الأربعة
وكأي من بليغ يقدر على النظم أو النثر ولا يقدر على الآخر
ولا يلزم من القدرة على أحدهما القدرة على الجميع
وليس كل ما ثبت لكل واحد يثبت للكل من حيث هو كل ولا لجملة من الأفراد المتعددة كعشرة مثلا
وكذلك قد يختلف حكم الواحد مطلقا ومعينا
فإن الأول قد يكون متعين الثبوت دون الثاني خذ هذا الذي ذكرناه وإنا نختار أنه معجز ببلاغته وأما الشبه القادحة في ذلك فالجواب عن الأولى أن الفرق كان (3/398)
بينا لمن تحدى به من بلغاء عصره
ولذلك لم يعارض
وغيرهم عمي عن ذلك لقصوره في صناعة البلاغة والتميز بين مراتبها فلا اعتداد به ولا مضرة في ذلك لثبوت الإعجاز بمجرد عجز أولئك الأعلام
ثم قياس أقصر سورة إلى أطول خطبة أو قصيدة جور وعدول عن سواء السبيل لأن التحدي بها إنما يكون بما هو على مقدارها المشتمل على مثل بلاغتها لا بما هو أضعافها المشتملة على مثلها كما لا يخفى على ذي مسكة من الإنصاف
وأيضا فيكفينا في إثبات النبوة كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا
وهذا مما لا سترة به
ولذلك قال الوليد بن المغيرة بعد طول محاولته للمعارضة وتوقع الناس ذلك منه عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء وشعر الشعراء فلم أجده منها
والجواب عن الثانية أن الآحاد لا تعارض القاطع يريد أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته
فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على محمد في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وذلك لا يضرنا فيما نحن بصدده
وأما البسملة فالخلاف فيها متحقق بلا شبهة إلا أنه في كونها آية من كل سورة كما هو القول الجديد للشافعي أو من الفاتحة فقط
وفي البواقي كتبت للتيمن كما هو قوله القديم أو كونها آية (3/399)
فردة أنزلت مرة واحدة للفصل بين السور كما اختاره الحنفية لا في كونها من القرآن في أوائل السور إذ لا خلاف فيه
ومن قال به فقد توهم
والجواب عن الثالث أن اختلافهم عند جمع القرآن فيما يأتي به الواحد من آية أو آيتين إنما هو في موضعه من القرآن وفي التقديم والتأخير فيما بينه وبين الآيات الأخر لا في كونه من القرآن وذلك لأن القرآن كله منقول بالتواتر عنه عليه السلام
فإن النبي كان يواظب على قراءته في صلاته بالجماعات
فما أتى به الواحد كان متيقنا كونه من القرآن
وطلب البينة أو التحليف إنما كان لأجل الترتيب فلا إشكال
هذا كما مضى ونقول أيضا إن الخبر المحفوف بالقرائن قد يفيد العلم وهو أي العلم بكونه من القرآن هو المدعي
ولا علينا أن نثبت ذلك العلم بالتواتر أو بالقرائن
قلنا أن نختار أن ما أتى به الواحد إنما ثبت كونه من القرآن بالآحاد المنضمة إلى القرائن
ثم نقول لا يضر فيما نحن بصدده عدم إعجاز الآية والآيتين فإن المعجز هو المجموع أو مقدار سورة طويلة أو قصيرة بتمامها وأقلها ثلاث آيات
والجواب عن الرابعة أن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله ويبلغون فيه الغاية القصوى والدرجة العليا فيقفون فيه أي في ذلك الجنس على الحد المعتاد الذي يمكن للبشر أن يصل إليه حتى إذا شاهدوا ما هو خارج عن حد هذه الصناعة علموا أنه من عند الله ولو لم يكن الحال كذلك لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة التي كانت المعجزة من جنسها أو كانوا متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها
وذلك كالسحر (3/400)
في زمن موسى عليه السلام
فإنه كان غالبا على أهله وكانوا قد ملكوا ذروة سنامه ولما علم السحرة الكاملون فيه أن حد السحر تخييل وتوهيم لما لا ثبوت له حقيقة ثم رأوا عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يأفكونه أي يقلبونه من الحق الثابت إلى الباطل المتخيل من غير أن يزداد حجمها علموا أنه خارج عن السحر وطوق البشر بل هو معجزة من عند الله فآمنوا به
وأما فرعون فإنه لقصوره في هذه الصناعة يظن أنه كبيرهم الذي علمهم السحر
وكذا الطب في زمن عيسى عليه السلام فإنه كان غالبا في أهله وكانوا قد تناهوا فيه وبعلمهم الكامل في بابه علموا أن إحياء الموتى وإبراء الأكمه ليس حد الصناعة الطبية بل هو من عند الله خذ هذا والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول الدرجة العليا وكان بها فخارهم فيما بينهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها وكتب السير تشهد بذلك لمن تتبعها فلما أتى النبي جنس ما تناهوا فيه بما عجز عن مثله جميع البلغاء الكاملين في عصره مع ما ظهر عنهم من كثرة المنازعة والتشاجر وإنكار نبوته حتى أن منهم من مات على كفره ومنهم من أسلم لوضوح نبوة النبي
ومنهم من أسلم على نفرة منه للإسلام ملتزما للصغار أي الذل والهوان كالمنافقين
ومنهم من اشتغل بالمعارضة الركيكة التي هي ضحكة للعقلاء كمعارضة مسيلمة بما مر وبقوله والزارعات زرعا فالحاصدات حصدا والطابخات طبخا فالآكلات أكلا
ومنهم
وهم الأكثرون
من عدل إلى المحاربة والقتال وتعريض النفس والمال والأهل للدمار والهلاك فعلم جواب لما مع الفاء
أي لما أتى بما عجز عنه البلغاء قاطبة وافترقوا من أجله فرقا مختلفة علم أن ذلك من عند الله قطعا
سلمنا أن القرآن ليس معجزا ببلاغته لكن لم لا يكون معجزا بالإخبار عن الغيب
وجواب الشبهة الأولى أن يقال حد المعجز منه أي من هذا الإخبار ليس مجهولا كما ذكرتم بل هو معلوم تقضي به العادة
وهو أن يكثر كثرة خارجة عن المعتاد المتعارف فيما بين أهل العرف ولا شك أنه قد بلغ الإخبار بالغيب في القرآن ذلك المبلغ الخارق للعادة ولسنا الآن لتفصيله إذ (3/401)
يكفينا العلم به إجماعا
وبه أي بما ذكرناه في جواب هذه الشبهة خرج جواب الشبهتين الأخيرتين
أما عن الثانية فبأن يقال إخبار المنجمين والكهنة لم يبلغ ذلك المبلغ وإخبارهم عن الكسوف والخسوف من باب الحساب الذي قلما يقع الغلط فيه لا من قبيل الإخبار بالغيب
وأما عن الثالثة فبأن يقال يكفينا في إثبات النبوة اشتمال القرآن على ما هو خارق للعادة ولا يضرنا عدم اشتمال بعضه عليه
فإن ذلك البعض ليس بمعجز عند هذا القائل
سلمنا أنه لا إعجاز في الإخبار بالغيب لكن لم يجوز أن يكون المعجز ما انتفى عنه الاختلاف
وأما الشبه الموردة عليه فالجواب عن الأولى أن ما في القرآن ليس بوزن الشعر إنما يصير إليه بتغير ما من إشباع أو زيادة أو نقصان وإذا غير بشيء من ذلك خرج عن أسلوب القرآن
ثم أن الشعر ما قصد وزنه وتناسب مصاريعه واتحاد رويه
وما ذكروه من القرآن وإن فرض كونه موزونا بلا تغيير ليس كذلك فلا يكون شعرا
ألا ترى أن ما يقع من ذلك الموزون في نثر البلغاء اتفاقا أي بلا قصد على الشذوذ لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا
ومن قال لغلامه ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ لم يعد بهذا القدر الموزون الصادر عنه شاعرا ولا كلامه شعرا (3/402)
ضرورة
والجواب عن الثانية أن المراد بالكتاب المذكور في الآيتين هو اللوح المحفوظ فلا إشكال
أو المراد القرآن
لكن أريد بالعموم الخصوص بما يحتاج إليه في أمر الدين إذ القرآن مشتمل على جميع أصوله
وعن الثالثة إن للتكرار فوائد منها زيادة التقرير والمبالغة في تحقيق المعنى وتصويره
ومنها إظهار القدرة على إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في الإيجاز والإطناب
وهو إحدى شعب البلاغة
ومنها أن القصة الواحدة قد تشتمل على أمور كثيرة فتذكر تارة ويقصد بها بعض تلك الأمور قصدا وبعضها تبعا وتعكس أخرى
وأما قوله إن هذان لساحران فقيل غلط من الكاتب ولم يقرأ به فإن أبا عمرو قرأ إن هذين وزعم أن كاتب المصحف قد غلط في كتابته بالألف
وقيل إبقاء الألف في التثنية والأسماء السنة في الأحوال كلها لغة لقبائل من العرب نحو قوله
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وعلى هذه اللغة قراءة أهل المدينة والعراق في هذا الموضع
وقيل ليس إبقاء الألف عاما لما ذكر بل هو مخصوص بهذا أي بلفظ هذا فإنه زيد فيه النون فقط ولم تغير الألف عن حالها كما فعل مثل ذلك في الذين حيث زيد فيه النون على لفظ الذي وأبقى الياء على حالها في الأحوال الثلاث
وذلك لأنه خولف بين تثنية المعرب والمبني في كلمة هذا وبين جمع المعرب والمبني في كلمة الذي
وقيل ضمير الشأن مقدر ههنا أي أنه واللام حينئذ تكون داخلة في الخبر
ولا بأس إذ هي تدخل على خبر المبتدأ وإن كان قليلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب العربية مثل ما قيل من أن كلمة أن بمعنى نعم وحال اللام كما مر
وقول عثمان رضي الله عنه إن فيه لحنا
أي في الكتابة وخط المصحف كما يدل عليه نقل القصة (3/403)
وأما قوله تلك عشرة كاملة فدفع لتوهم غير المقصود ولو بوجه بعيد جدا مثل أن يظن على تقدير تركه أن المراد بالسبعة تمامها أي تمام السبعة
وذلك بأن يضم أربعة أخرى إلى الثلاثة المذكورة فيكون المجموع سبعة
والجواب عن الرابعة أن ما نقل منه آحادا فمردود لأنه مما تتوفر الدواعي إلى نقله فلا بد أن ينقل تواترا
وما نقل منه متواترا فهو مما قال الرسول أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف
فلا يكون الاختلاف اللفظي أو المعنوي الواقع في المنقول المتواتر قادحا في إعجازه بل هو أيضا من صفات كماله
وعن الخامسة إن المراد بالاختلاف المنفي عن القرآن هو الاختلاف في البلاغة بحيث يكون بعضه واصلا حد البلاغة وبعضه قاصرا عنه
فإن الكلام الطويل ولو من أبلغ شخص لا يخلو عن غث وسمين وركيك ومتين عادة والقرآن مع طوله خال عن أمثال ذلك إذ هو بجميع أجزائه متصف بالبلاغة الكاملة وإن تفاوتت أجزاؤه في مراتبها
أو المراد اختلاف أهل الكتاب فيما أخبر عن القصص لعدم ثبوتها عندهم على الوجه الذي يذكر في القرآن إذا كان من عند غير الله
واعلم أن الشبهة الثالثة هي اشتمال القرآن على اللحن
والرابعة اشتماله على تكرار لا فائدة فيه وعلى إيضاح الواضح
والخامسة أنه نفى الاختلاف عنه مع وجوده فيه لفظا ومعنى على ما مر في تقرير الشبه فتأمل
وأما الصرفة فنقول بأن الإعجاز ليس بها على التعيين ولكن ندعيها أو كون القرآن معجزا وأيا ما كان يحصل المطلوب أعني إثبات الرسالة بالمعجزة إذ كل منهما معجز خارق للعادة (3/404)
الكلام في سائر المعجزات
أي ما سوى القرآن وهي أنواع
الأول انشقاق القمر على ما دل عليه قوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر وهذا متواتر قد رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره
قالوا قد انشق القمر شقين متباعدين بحيث كان الجبل بينهما وكان ذلك في مقام التحدي فيكون معجزة
النوع الثاني كلام الجمادات
قال أنس كنا عند رسول اللهفأخذ كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان ثم في أيدينا واحدا بعد واحد فلم تسبح
وقال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر الذي أدرك جمعا من الصحابة منهم جابر أنه مرض رسول الله جبريل عليه السلام بطبق فيه رمان وعنب فسبح ذلك العنب والرمان على ذلك الطبق حين ما أكل النبي
ولما دعا للعباس وأهله أمن له أسكفة الباب وحيطان البيت
وذلك أنه روي عنه قال للعباس يا أبا الفضل الزم منزلك غدا أنت وبنوك إن لي فيكم حاجة
فصبحهم رسول الله تقاربوا فزحف بعضهم إلى بعض فاشتمل عليهم بملاءة وقال اللهم هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء من أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم
فقالت عتبة الباب وجدران البيت آمين آمين (3/405)
ولما طلب الأعرابي منه الشاهد على نبوته دعا الشجرة قال ابن عمر كنا مع النبي سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له النبي تريد قال إلى أهلي
ثم قال له هل لك من خير قال وما هو قال تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
فقال له الأعرابي هل لك من شاهد قال أجل هذه الشجرة
فدعا بها رسول الله على شط الوادي فأقبلت تخد الأرض أي تشقها خدا حتى قامت بين يديه وشهدت له بالنبوة ورجعت إلى منبتها وآمن الأعرابي
وكلام الذراع المسمومة مشهور
والنبي عفا عن اليهودية التي سمت تلك الشاة المصلية حتى اعترفت وقالت سممتها وقلت إن كان نبيا لم تضره
وإن كان غيره استرحنا منه
وقيل لما مات بعض أصحابه بذلك السم أمر بقلتها
النوع الثالث كلام الحيوانات العجم
شهد له الذئب بالنبوة
فإن أبا سعيد الخدري رضي الله روى أن راعيا كان يرعى غنما له بالحرة فوثب ذئب إلى شاة فاختطفها فحال الراعي بين الذئب والشاة واسترجعها فأقعى الذئب على ذنبه وقال للراعي أما تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي العجب من ذئب يكلمني بكلام الناس فقال الذئب ألا أحدثك بأعجب من ذلك هذا رسول الله يحدث الناس بأنباء ما قد سبق
فأخذ الراعي الشاة وجاء إلى النبي بذلك فقال صدق (3/406)
إن من اقتراب الساعة كلام السباع
وقد روى أبو هريرة هذا المعنى بعبارة أخرى
والظبية التي ربطها الأعرابي سألته الإطلاق لترضع خشفيها وضمنت الرجوع فرجعت ثم سأل الأعرابي أن يطلقها
فإن أم سلمة روت أن النبي يمشي في الصحراء فناداه مناد مرتين يا رسول الله فالتفت فإذا ظبية موثقة عند أعرابي نائم فقالت إدن مني يا رسول الله
فقال ما حاجتك فقالت إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان في هذا الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع
فقال أتفعلين ذلك قالت إن لم أفعل ذلك يعذبني الله عذاب العشار
فأطلقها فذهبت وأرضعت ورجعت فأوثقها رسول الله الأعرابي من نومه وقال يا رسول الله ألك حاجة قال نعم تطلق هذه الظبية فأطلقها فانطلقت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وشهدت الناقة ببراءة صاحبها من السرقة فإنه روي أن أعرابيا جاء على ناقة حمراء فأناخها على باب المسجد ودخل وسلم على النبي فقال جماعة يا رسول الله الناقة التي تحت الأعرابي سرقة
فقال ألكم بينة قالوا نعم
فقال علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة وإن لم تقم فردوه إلي
فأطرق الأعرابي فقال له النبي قم لأمر الله وإلا فادل بحجتك
فقالت الناقة من خلف الباب والذي بعثك بالكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه (3/407)
ولكل من هذه المذكورات قصة في كتب السير كما أومأنا إليها
النوع الرابع حركة الجمادات إليه منها قصة الشجرة التي كانت على شط الوادي على ما مرت
فإنها تشتمل على كلام الجمادات وعلى حركتها أيضا
ففيها معجزتان
ومنها ما روى ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لأعرابي جاءه وقال بم أعرف أنك رسول الله أرأيت لو دعوت هذا العزق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله فقال نعم فدعاه فجاءه ثم قال ارجع فرجع
وحنين الجذع إليه لما فارقه وصعد المنبر مشهور وكان الجذع مال إليه حال حنينه ليدخل تحت حركات الجمادات آبى إليه
النوع الخامس إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وذلك في صور متعددة منها ما روى أنس من أن أمه أرسلت حيسا في تور إلى النبي جماعة زهاء ثلثمائة وقرأ على التور ما شاء الله أن يقرأ وكانوا يتناوبون عليه حتى شبعوا والتور على حاله
النوع السادس نبوع الماء من بين أصابعه
رواه أنس رضي الله فإنه قال أتي رسول الله زجاج وفيه ماء قليل وهو بقباء فوضع يده فيه فلم تدخل فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع إدخال الإبهام وقال للناس هلموا إلى الشراب
قال أنس فلقد رأيت الماء وهو ينبع من بين أصابعه ولم يزل الناس يردون حتى رووا
وروى أن عدد الواردين كان من بين السبعين إلى الثمانين
النوع السابع إخباره بالغيب فمنه ما ورد به القرآن ومنه ما نطق به (3/408)
الأحاديث الصحيحة
فمن ذلك إخباره بأن زينب أول من يموت بعده من أزواجه وكان كما أخبر
ومنه إخباره عن خلافة الخلفاء الراشدين بقوله الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا
وإخباره عن مقتل الحسن والحسين وهدم الكعبة ورجوع الأمر إلى بني العباس وعلى الاستيلاء عن مملكة الأكاسرة إلى غير ذلك من إخباراته التي ظهر صدقها
ومن بحث عن هذا الجنس وجده كثيرا لا يحصى
ثم نقول كل واحدة من هذه المعجزات المغايرة للقرآن وإن لم تتواتر فالقدر المشترك بينها وهو ثبوت المعجزة متواترا بلا شبهة كشجاعة علي وسخاوة حاتم وهو كاف لنا في إثبات النبوة
المسلك الثاني من مسالك إثبات نبوته ارتضاه الجاحظ من المعتزلة وارتضاه أيضا الغزالي قدس سره في كتابه المسمى بالمنقذ من الضلال الاستدلال بأحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها
وذلك أنه يكذب قط لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا
ولو كذب مرة لاجتهد أعداؤه في تشهيره ولم يقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها
وكان في غاية الفصاحة كما قال أوتيت جوامع الكلم
وقد تحمل في تبليغ الرسالة أنواع المشقات وصبر عليها بلا فتور في عزيمته
ولما استولى على الأعداء وبلغ الرتبة الرفيعة في نفاذ أمره في الأموال والأنفس لم يتغير عما كان عليه بل بقي من أول عمره إلى آخره على طريقة واحدة مرضية
وأخلاقه العظيمة
فإنه في غاية الشفقة على أمته حتى خوطب بقوله تعالى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (3/409)
وقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم وفي غاية السخاوة حتى عوتب بقوله ولا تبسطها كل البسط وكان عديم الالتفات إلى زخارف الدنيا حتى أن قريشا عرضوا عليه المال والزوجة والرياسة حتى يترك دعواه فلم يلتفت إليهم وكان مع الفقراء والمساكين في غاية التواضع ومع الأغنياء وأرباب الثروة في غاية الترفع
وأحكامه الحكيمة التي فصلت في الكتب الفقهية وإقدامه حيث يحجم الأبطال فإنه يفر قط من أعدائه وإن عظم الخوف مثل يوم أحد ويوم الأحزاب وذلك يدل على قوة قلبه وشهامة جنانه ولولا ثقته بعصمة الله إياه من الناس كما وعدها بقوله والله يعصمك من الناس لامتنع ذلك عادة
وأنه عطف على أقدامه المندرج في المحذورات الداخلية في حيز الاستدلال
أي وبأنه لم يتلون حاله وقد تلونت به الأحوال ثم بين قوله بأحواله وما عطف عليه بقوله من أمور من تتبعها علم أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لأن امتياز شخص بمزيد فضيلة عن سائر الأشخاص لا يدل على كونه نبيا
لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء قطعا
فاجتماع هذه الصفات في ذاته أعظم الدلائل على نبوته وعلى ما قررناه فلا يرد ما يحكى من أفاضل الحكماء من الأخلاق العجيبة التي جعلها الناس قدوة لأحوالهم في الدنيا والآخرة
المسلك الثالث من تلك المسالك إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته في التوراة والإنجيل
فإن قيل إن زعمتم مجيء صفته مفصلا أنه يجيء في السنة الفلانية في البلدة الفلانية وصفته كيت وكيت فاعلموا أنه نبي فباطل
لأنا نجد (3/410)
التوراة والإنجيل خاليين عن ذلك
وأما ذكره مجملا فإن سلم فلا يدل على النبوة بل على ظهور إنسان كامل فلا يجديكم نفعا
أو نقول على تقدير تسليم دلالته على النبوة لعله شخص آخر لم يظهر بعد
فلا يثبت مدعاكم
قلنا المعتمد في إثبات نبوته كما مر ظهور المعجزة على يده
وهذه الوجوه الأخر للتكملة وزيادة التقرير
المسلك الرابع وارتضاه الإمام الرازي أنه بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم بل كانوا معرضين عن الحق معتكفين إما على عبادة الأوثان كمشركي العرب وإما على دين التشبيه وصنعة التزوير وترويج الأكاذيب المفتريات كاليهود
وأما على عبادة الألهين ونكاح المحارم كالمجوس وإما على القول بالأب والابن والتثليث كالنصارى
إني بعثت من عند الله بالكتاب المنير والحكمة الباهرة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية بالعقائد الحقة والعملية بالأعمال الصالحة وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح ففعل ذلك وأظهر دينه على الدين كله كما وعده الله فاضمحلت تلك الأديان الزائفة وزالت المقالات الفاسدة وأشرقت شموس التوحيد وأقمار التنزيه في أقطار الآفاق
ولا معنى للنبوة إلا ذلك فإن النبي الذي يكمل النفوس البشرية ويعالج الأمراض القلبية التي هي غالبة على أكثر النفوس فلا بد لهم من طبيب يعالجهم
ولما كان تأثير دعوة محمد علاج القلوب المريضة وإزالة ظلماتها أكمل وأتم وجب القطع بكونه نبيا هو أفضل الأنبياء والرسل
قال الإمام الرازي في المطالب العالية وهذا برهان ظاهر من باب (3/411)
برهان اللم
فإنا بحثنا عن حقيقة النبوة وبينا أن تلك الماهية لم تحصل لأحد كما حصلت له أفضل ممن عداه
وأما إثباتها بالمعجزة فمن باب برهان الآن
قال المصنف وهذا المسلك قريب من مسلك الحكماء إذ حاصله أن الناس في معاشهم ومعادهم محتاجون إلى مؤيد من عند الله يضع لهم قانونا يسعدهم في الدارين
واعلم أن المنكرين لبعثته قومان
أحدهما القادحون في معجزته كالنصارى
وقد مر ما فيه كفاية لدفع مقالتهم
وثانيهما اليهود إلا العيسوية منهم فإنهم سلموا بعثته لكن إلى العرب خاصة لا إلى الخلق كافة
واحتجوا أي اليهود المنكرون بوجهين
الأول أن نبوته تقتضي نسخ دين من قبله إذ قد خالفهم في كثير من الأحكام الشرعية العملية باتفاق منكم
لكن النسخ أمر محال
لأنه يدل إما على الجهل أو البداء
وكلاهما محال على الله تعالى
بيانه أنه لا بد أن يكون الحكم الصادر عنه تعالى مشتملا على مصلحة لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح
وحينئذ لو كان فيه أي في الحكم المنسوخ مصلحة لا يعلمها أي لا يعلم فواتها بنسخه فلذلك نسخه
فالجهل وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ثم أهملها بلا سبب ثانيا فالبداء أي الندم عما كان يفعل (3/412)
والجواب إنه لا يجب رعاية المصلحة في الأحكام عندنا فلا يلزم اشتمال الحكم المنسوخ على مصلحة
وإن وجب أن تراعى المصالح في الأحكام فربما حدثت مصلحة لم تكن حاصلة قبل
فإن المصالح تختلف بحسب الأوقات كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت فربما كانت المصلحة في وقت ثبوت الحكم لاشتماله فيه على ما يجب رعايته وفي وقت آخر ارتفاعه لاشتماله فيه على مصلحة أخرى حادثة بعد زوال الأولى أو مرجوحيتها مقيسة إلى الثانية فلا يلزم ما ذكرتم من الجهل أو البداء
وكيف لا يجوز ما ذكرناه والمحكوم عليه هنا أي في نسخ شرائع من قبلنا بشريعتنا ليس بمتحد إذ تلك لأقوام آخرين وهذه لنا
ولك أن تحمل المحكوم عليه ههنا على الفعل
فإن ما يتعلق به الحكم الناسخ من الأفعال مغاير لما تعلق به الحكم المنسوخ
وحينئذ يجوز النسخ في الأحكام المتعلقة بأفعال شخص واحد
الثاني من الوجهين أن موسى عليه السلام نفى نسخ دينه
ولا بد من الاعتراف بصدقه لكونه نبيا بالاتفاق
وحينئذ لا يصح نبوة من يدعي نسخه وهو المطلوب
بيانه أي بيان أنه نفى نسخ دينه أنه تواتر عنه قوله تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض
وإذا ثبت دوام السبت وامتناع نسخه ثبت امتناعه في سائر أحكامه
بل نقول المراد بدوامه دوام اليهودية كما يتبادر إليه الفهم
وأيضا فإنه إما أن يكون موسى قد صرح بدوام دينه أو بعدم دوامه أو سكت عنهما
والأخيران باطلان
أما الثاني وهو تصريحه بعدم دوامه فلأنه لو قال ذلك وصرح به لتواتر عنه قطعا لكونه من الأمور (3/413)
العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وإشاعتها سيما من الأعداء ومن يدعي نسخ دينه
وذلك لأنه أقوى حجة له أي لمن يدعيه فيه أي في جواز نسخه
فلا بد أن تتوفر دواعيه على نقله لكنه لم يتواتر إجماعا
وأما الثالث وهو سكوته عنهما فلأنه يقتضي ثبوت دينه مرة واحدة وعدم تكرره لأن مقتضى الإطلاق يتحقق بالمرة الواحدة
وأنه معلوم الانتفاء لتقرره إلى أوان النسخ إما بشريعة عيسى أو بشريعة محمد باتفاق بيننا وبينكم
والجواب منع تواتر ذلك أي دوام السبت من موسى عليه السلام
ولو كان كذلك أي متواترا كما زعمتم لاحتج به على محمد
ولو احتج به عليه لنقل ذلك الاحتجاج متواترا لتوفر الدواعي على نقله
ولا تواتر أصلا
كيف وقد اشتهر أنه اختلقه ابن الراوندي لليهود
وأما الترديد فنختار منه أنه صرح بدوامه إلى ظهور الناسخ على لسان نبي يأتي من بعده
وإنما لم ينقل ذلك تواترا إما لقلة الدواعي منهم إلى نقله لما فيه من الحجة عليهم لا لهم
وإما لقلة الناقلين في بعض الطبقات المعتبرة كثرتها في التواتر
لأن اليهود جرت لهم وقائع ردتهم إلى أقل القليل ممن لا يحصل التواتر بنقله
كما في زمن بختنصر فإنه قتلهم وأفناهم إلا من شذ منهم
وأما العيسوية من اليهود فطريق الرد عليهم أنه لما سلموا صحة نبوته بالأدلة القاطعة والمعجزات الباهرة وجب عليهم أن يعترفوا بما تواتر عنه من دعواه البعثة إلى الأمم كافة لا إلى العرب خاصة
فإنه قد علم ذلك منه كما علم وجوده ودعواه الرسالة (3/414)
المقصد الخامس في عصمة الأنبياء
أجمع أهل الملل والشرائع على عصمتهم عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله
وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف
فمنعه الأستاذ وكثير من الأئمة لدلالة المعجزة على صدقهم
وجوزه القاضي مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة
وأما سائر الذنوب فهي إما كفر أو غيره
أما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب وكل ذنب عندهم كفر
وجوز الشيعة إظهاره تقية
وذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف وكثرة المخالفين
وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر
كل منهما إما عمدا وإما سهوا
أما الكبائر عمدا فمنعه الجمهور
والأكثر على امتناعه سمعا
وقالت المعتزلة بناء على أصولهم يمتنع ذلك عقلا
وأما سهوا فجوزه الأكثرون
وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور إلا الجبائي
وأما سهوا فهو جائز اتفاقا إلا الصغائر الخسية كسرقة حبة أو لقمة
وقال الجاحظ بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير (3/415)
من المتأخرين
وبه نقول هذا كله بعد الوحي
وأما قبله فقال الجمهور لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم للعقل
وقال أكثر المعتزلة تمتنع الكبيرة وإن تاب منها لأنه يوجب النفرة وهي تمنع عن أتباعه فتفوت مصلحة البعثة
ومنهم من منع عما ينفر مطلقا كعهر الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الخسية دون غيرها
وقالت الروافض لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة فكيف بعد الوحي لنا وجوه
الأول لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم
وأنه واجب للإجماع ولقوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
الثاني لو أذنبوا لردت شهادتهم
إذ لا شهادة لفاسق بالإجماع ولقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا واللازم باطل بالإجماع
ولأن من لا تقبل شهادته في القليل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم إلى يوم القيامة
الثالث إن صدر عنهم وجب زجرهم لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإيذاؤهم حرام إجماعا ولقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله الآية
ولدخلوا تحت ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم
وقوله ألا لعنة الله على الظالمين وقوله لوما ومذمة (3/416)
لم تقولون ما لا تفعلون و أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
الرابع ولكانوا أسوأ حالا من عصاة الأمة إذ يضاعف لهم العذاب إذ الأعلى رتبة يستحق أشد العذاب لمقابلته أعظم النعم بالمعصية
ولذلك ضوعف حد الحر
وقيل لنساء النبي لستن كأحد من النساء من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب
الخامس ولم ينالوا عهده تعالى لقوله لا ينال عهدي الظالمين وأي عهد أعظم من النبوة
السادس ولكانوا غير مخلصين لأن الذنب بإغواء الشيطان وهو لا يغوي المخلصين لقوله تعالى ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
واللازم باطل لقوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار
وفي يوسف إنه من عبادنا المخلصين
السابع قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك
وإلا فالأنبياء بالطريق الأولى
أو نقول لو كان ذلك الفريق غير الأنبياء لكانوا أفضل من الأنبياء لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم (3/417)
الثامن أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان
فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان فيكونون خاسرين لقوله تعالى ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
التاسع قوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
والجمع المحلى بالألف واللام للعموم
وقوله وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار وهما يتناولان جميع الأفعال والتروك لصحة الاستثناء
فهذه حجج العصمة
وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا وعن الصغيرة عمدا ليست بالقوية
واحتج المخالف بقصص الأنبياء توهم صدور الذنب عنهم
والجواب إجمالا إن ما كان منها منقولا بالآحاد وجب ردها
لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء
وما ثبت منها تواترا فما دام له محمل آخر حملناه عليه ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة وما لم نجد له محيصا حملناه على أنه كان قبل البعثة أو من قبيل ترك الأولى أو صغائر صدرت عنهم سهوا ولا ينفيه تسميته ذنبا ولا الاستغفار منه ولا الاعتراف بكونه ظلما منهم
إذ لعل ذلك لعظمه عندهم
أو إن قصدوا به هضما من أنفسهم
ومن جوز الصغائر عمدا فله زيادة فسحة
ولنفضل ما أجملناه تفصيلا
فمنه قصة آدم عليه السلام وتفيهقوا في التمسك بها من ستة أوجه
الأول قوله تعالى وعصى آدم ربه مؤكدا بقوله فغوى
الثاني قوله تعالى فتاب عليه ولن تكون التوبة إلا عن الذنب
الثالث مخالفته النهي عن أكل الشجرة (3/418)
الرابع قوله تعالى فتكونا من الظالمين
الخامس قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
السادس قوله فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه
قلنا كيف يدعي أنه في الجنة ولا أمة له كان نبيا وهل كان الاجتباء بالنبوة إلا بعد تلك القصة وهل الوقيعة في الأنبياء بمثل هذا الظاهر دفعه إلا للعمه والجهل المفرط
وقد يتمسك في ذنبه بقوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا الآية
والجواب أن أكثر المفسرين على أن الخطاب لقريش
والنفس الواحدة قصي وجعل منها زوجها أي جعلها عربية من جنسه وإشراكهما تسميتهما أبناءهما بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي
فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء
وإن صح أنه لآدم فأين الدليل على الشرك في الألوهية ولعله هو الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته مع الرجوع عنه إلى الله تعالى
وذلك غير داخل تحت الاختيار أو لعله قبل النبوة
ومنه قصة إبراهيم عليه السلام وأظهر ما يوهم الذنب أمران
الأول قوله هذا ربي ولا يخفى أنه صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة الله
وكم بينه وبين النبوة
الثاني قوله رب أرني كيف تحيي الموتى
والشك في (3/419)
قدرة الله كفر
وفي الآية تصريح بأنه طلبه لأن في عين اليقين من الطمأنينة ما ليس في علم اليقين
فإن للوهم بإحداث الوساوس والدغادغ سلطانا على القلب عند علم اليقين دون عين اليقين
هذا وقد قال ابن عباس كان الله وعد أن يبعث نبيا يحيي بدعائه الموتى فأراد أن يعلم أهو هو كيف والشك في قدرة الله تعالى كفر وأنتم لا تقولون به
ومنه قصة موسى عليه السلام والتمسك بها من وجوه
الأول قوله فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن قتله بحق لقوله هذا من عمل الشيطان وقوله رب إني ظلمت نفسي وقوله فعلتها إذا وأنا من الضالين
الجواب إنه كان قبل النبوة
الثاني أنه أذن لهم في إظهار السحر لقوله ألقوا ما أنتم ملقون
الجواب أنه لم يكن حراما حينئذ أو علم أنهم يلقون أذن لهم أم لا بدليل ما أنتم ملقون
أو أراد إظهار معجزته
ولا يتم إلا بذلك فكان واجبا
أو أراد إن كنتم محقين نحو فأتوا بسورة من مثله إلى قوله إن كنتم صادقين
الثالث وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه
وهارون كان نبيا فإن كان له ذنب فذاك هو المطلوب
وإلا فإيذاؤه ذنب
الجواب لم يكن ذلك على سبيل الإيذاء بل كان يدنيه إلى نفسه (3/420)
ليتفحص منه حقيقة الحال فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه لسوء ظنهم بموسى
الرابع قوله للخضر لقد جئت شيئا إمرا و شيئا نكرا قلنا من حيث الظاهر
أو أراد عجبا وفعل الخضر لم يكن منكرا
ومنه قصة داوود
مختلفة مختلقة للحشوية
إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام
بل تسور قوم قصره للإيقاع به
فلما رأوه مستيقظا اخترع أحدهم الخصومة
ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة
ومنه قصة سليمان من وجهين
الأول إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد الآية
الجواب لا دلالة فيه على فوت الصلاة
مع أنه إذا كان فوتها بالنسيان لم يكن ذنبا
وقوله أحببت حب الخير مبالغة في الحب
و عن ذكر ربي أي بسببه لا بالهوى لأن رباط الخيل بأمره
و فطفق مسحا معناه يمسح رؤوسها وأعناقها إكراما لها وحمله على قطعها ضعيف إذ لا دلالة للفظ عليه
ورجوع ضمير توارت إلى الشمس أبعد المحتملين
الثاني ولقد فتنا سليمان (3/421)
الجواب النبي سليمان أطوف الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل إلا واحدة فولدت نصف غلام فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه
ولو أنه قال إن شاء الله كان كما قال
فالإبتلاء إنما كان لترك الاستثناء
وقيل مرض حتى صار كجسد بلا روح
وقيل ولد له ولد فخاف الشياطين أن تهلكه فأمر السحاب أن يحمله وأمر الريح أن تحمل إليه غذاءه فمات فألقي على كرسيه
الثالث قوله وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي حسد
الجواب معجز كل نبي من جنس ما يفتخر به أهل زمانه وكان هو الملك
أو أراد أن ملك الدنيا موروث فطلب ملك الدين
أو أراد الملك العظيم مع القناعة
ومنه قصة يونس
والجواب لعل غضبه كان على قوم كفرة فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه
و إني كنت من الظالمين أي لنفسي بترك الأولى
و ولا تكن كصاحب الحوت أي في قلة الصبر
ومنه قصة نبينا
والاحتجاج بها من وجوه
الأول ووجدك ضالا فهدى
الجواب إنه قبل النبوة
أو ضالا في أمور الدنيا لقوله ما ضل صاحبكم وما غوى
الثاني ما روي أنه قرأ بعد قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى
فأتاه جبريل (3/422)
وقال تلوت على الناس ما لم أتله عليك
فنزل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته . . . الخ
الجواب إنه من إلقاء الشيطان
وإلا كان ذلك كفرا
وأيضا ربما كان قرآنا وتكون الإشارة إلى الملائكة فنسخ تلاوته للإيهام
أو المراد ما يتمناه بوسوسة الشيطان
أو هو استفهام إنكار
الثالث قصة زيد وزينب
الجواب إنه بأمر الله تعالى لنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء
وإنما أخفى في نفسه ذلك خوفا من طعن المنافقين
فقيل له وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وقيل كانت ابنة عمة النبي أن يتزوجها النبي فنشزت على زيد فطلقها
وما يقال إنه أحبها فمما يجب صيانة النبي عن مثله
وإن صح فميل القلب غير مقدور
وفيه ابتلاء الزوج بتطليقها والنبي بالمبالغة في حفظ النظر حذرا عن الخيانة في الوحي أو التعرض للطعن
الرابع ما كان لنبي أن يكون له أسرى . . إلى قوله عذاب عظيم
الجواب إنه عتاب على ترك الأولى فإن التحريم مستفاد من هذه الآية
الخامس عفا الله عنك لم أذنت لهم والعفو إنما يكون عن الذنب
الجواب إنه تلطف في الخطاب
وإلا فلا عتاب بعد العفو
وقلنا ذلك بترك الأولى فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية
السادس ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك (3/423)
الجواب قبل النبوة أو ترك الأولى أو للثقل الذي كان عليه من الغم لإصرار قومه
السابع قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
واستغفر لذنبك و لقد تاب الله على النبي
الجواب إنه قبل النبوة
وحمله على ما تقدم النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه
أو ترك الأولى
أو نسب إليه ذنب قومه
وأما ما يقال إن المصدر مضاف إلى المفعول
فالمعنى ذنب قومك إليك
فلا يخفى ضعفه
فإن ذلك في المصادر المتعدية
الثامن قوله عبس وتولى أن جاءه الأعمى
الجواب إنه ترك الأولى مما يليق بخلقه العظيم
التاسع ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
الجواب النهي لا يدل على الوقوع
العاشر يا أيها النبي اتق الله يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك
الجواب ما مر مع أن الأمر والنهي من أقوى أسباب العصمة
الحادي عشر لئن أشركت ليحبطن عملك الجواب الشرطية لا تقتضي تحقق الطرفين
أو المراد الشرك الخفي وهو الالتفات إلى الناس
أو المراد بالخطاب غيره (3/424)
قال ابن عباس رضي الله عنهما نزل القرآن على إياك أعني فاسمعي يا جارة
الثاني عشر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك
لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
الجواب شرطية
والفائدة في الرجوع إلى أهل الكتاب زيادة قوته وطمأنينته أو لمعرفة كيفية نبوة سائر الأنبياء
واعلم أنا إنما طولنا في مثل هذا ليعلم أن مسألة نسيان الأنبياء وتعمدهم الصغائر لا قاطع فيه نفيا
أو إثباتا مع قيام الاحتمال العقلي
إذ لو فرض نقيضه لم يلزم منه محال لذاته
وظهور المعجزة على يده لا دليل فيه على ذلك
الشرح
المقصد الخامس في عصمة الأنبياء
أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله إلى الخلائق
إذ لو جاز عليهم التقول والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة
وهو محال
وفي جواز صدوره أي صدور الكذب عنهم فيما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف
فمنعه الأستاذ أبو إسحق وكثير من الأئمة الأعلام لدلالة المعجزة على صدقهم في تبليغ الأحكام
فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضا لدلالة المعجزة وهو ممتنع
وجوزه القاضي أبو بكر مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة
فإن المعجزة إنما دلت على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه
وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان فلا دلالة لها على الصدق فيه
فلا يلزم من الكذب هناك (3/425)
نقض لدلالتها
وأما سائر الذنوب يعني به ما سوى الكذب في التبليغ فهي إما كفر أو غيره من المعاصي
وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها
ولا خلاف لأحد منهم في ذلك غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب
وكل ذنب عندهم كفر فلزمهم تجويز الكفر بل يحكى عنهم أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله تعالى أنه يكفر بعد نبوته
وجوز الشيعة إظهاره أي إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك
لأن إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة
وذلك باطل قطعا لأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية وترك تبليغ الرسالة إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف بسبب قلة الموافق أو عدمه وكثرة المخالفين
وأيضا ما ذكروه منقوض بدعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام في زمن نمرود وفرعون مع شدة خوف الهلاك
وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر
وكل منهما إما أن يصدر عمدا وإما أن يصدر سهوا
فالأقسام أربعة وكل واحد منها إما قبل البعثة أو بعدها
أما الكبائر أي صدورها عنهم عمدا فمنعه الجمهور من المحققين والأئمة
ولم يخالف فيه إلا الحشوية
والأكثر من المانعين على امتناعه سمعا
قال القاضي والمحققون من الأشاعرة أن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك
وقالت المعتزلة بناء على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح والأصلح يمتنع ذلك عقلا لأن صدور الكبائر عنهم عمدا يوجب سقوط هيبتهم عن القلوب وانحطاط رتبتهم (3/426)
في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم
ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم
وهو خلاف مقتضى العقل والحكمة
وأما صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوزه الأكثرون والمختار خلافه
وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور إلا الجبائي فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز صدور الصغيرة إلا بطريق السهو أو الخطأ في التأويل
وهذا التجويز منهم إنما هو فيما ليس من صغائر الخسة كما ستعرفه
وأما صدور الصغائر سهو فهو جائز اتفاقا بين أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة إلا الصغائر الخسية وهي ما تلحق فاعلها بالأراذل والسفل والحكم عليه بالخسة ودناءة الهمة كسرقة حبة أو لقمة فإنها لا تجوز أصلا لا عمدا ولا سهوا
والاتفاق المذكور إنما هو فيما ليس منها كنظرة وكلمة سفه نادرة في خصام
وقال الجاحظ يجوز أن يصدر عنهم غير صغار الخسة سهوا بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين من المعتزلة كالنظام والأصم وجعفر بن بشر
وبه نقول نحن معاشر الأشاعرة
هذا كله بعد الوحي والاتصاف بالنبوة
وأما قبله فقال الجمهور أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة عليه أي على امتناع الكبيرة قبل البعثة
ولا حكم للعقل بامتناعها ولا دلالة سمعية عليه أيضا
وقال أكثر المعتزلة تمتنع الكبيرة وإن تاب منها لأنه أي صدور الكبيرة يوجب النفرة عمن ارتكبها
وهي تمنع عن اتباعه فتفوت مصلحة البعثة
ومنهم من منع عما ينفر الطباع عن متابعتهم مطلقا أي سواء لم يكن ذنبا لهم أو كان كعهر الأمهات أي كونها زانيات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم والصغائر الخسيسة دون غيرها من الصغائر (3/427)
وقالت الروافض لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ في التأويل بل هم مبرءون عنها قبل الوحي
فكيف بعد الوحي لنا على ما هو المختار عندنا وهو أن الأنبياء في زمان نبوتهم معصومون عن الكبائر مطلقا وعن الصغائر عمدا
وجوه
الأول لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم فيما صدر عنهم ضرورة أنه يحرم ارتكاب الذنب
وأنه أي اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم واجب للإجماع عليه ولقوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
الثاني لو أذنبوا لردت شهادتهم إذ لا شهادة لفاسق بالإجماع ولقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
واللازم باطل بالإجماع
ولأن من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم أي القائم إلى يوم القيامة
الثالث إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولا شك أن زجرهم إيذاء لهم وإيذاؤهم حرام إجماعا ولقوله تعالى والذين يؤذون الله ورسوله . . . الآية
وأيضا لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم و تحت قوله ألا لعنة الله على الظالمين و تحت قوله لوما ومذمة لم تقولون ما لا تفعلون و قوله أتأمرون (3/428)
الناس بالبر وتنسون أنفسكم فيلزم كونهم موعودين بعذاب جهنم وملعونين ومذمومين
وكل ذلك باطل إجماعا
الرابع ولكانوا على تقدير صدور الذنب عنهم أسوأ حالا من عصاة الأمة إذ يضاعف لهم أي للأنبياء العذاب على الذنب إذ الأعلى رتبة في الكرامة يستحق عقلا ونقلا أشد العذاب لمقابلته أعظم النعم المفاضة عليه بالمعصية
ولذلك ضوعف حد الحر وقيل لنساء النبي لستن كأحد من النساء من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ومن المعلوم أن النبوة أجل من كل نعمة فمن قابلها بالمعصية استحق العذاب أضعافا مضاعفة
الخامس ولم ينالوا أيضا عهده تعالى لقوله لا ينال عهدي الظالمين والمذنب ظالم لنفسه
وأي عهد أعظم من النبوة
فإن حمل ما في الآية على عهد النبوة فذاك
وإن حمل على عهد الإمامة فبطريق الأولى
لأن من لا يستحق الأدنى لا يستحق الأعلى
السادس ولكانوا أيضا غير مخلصين لأن الذنب بإغواء الشيطان وهو لا يغوي المخلصين لقوله تعالى حكاية عنه على سبيل التصديق لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
واللازم باطل لقوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وفي حق يوسف إنه من عبادنا المخلصين وقد رد على هذا بأنه لا يدل على أن غير هؤلاء لم يصل إليهم إغواء إبليس ولم يذنبوا
السابع قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك (3/429)
مطلوبنا وإلا أي وإن لم يكونوا إياهم بل كانوا غيرهم فالأنبياء أيضا لم يتبعوه بالطريق الأولى فإنهم بذلك أحرى من سائر المؤمنين
أو تقول لو كان ذلك الفريق غير الأنبياء لكانوا أفضل من الأنبياء لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم
وتفضيل غير الأنبياء عليهم باطل بالإجماع فوجب القطع بأن الأنبياء لم يتبعوه ولم يذنبوه
الثامن أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان
فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان
وذلك لأن المطيع من حزب الله اتفاقا
فلو كان المذنب منه أيضا لبطل التقسيم فيكونون أي الأنبياء المذنبون خاسرين لقوله تعالى ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
مع أن الزهاد من آحاد الأمة داخلون في المفلحين فيكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء وذلك مما لا شك في بطلانه
التاسع قوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء الذين استجيبت دعوتهم إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
والجمع المحلى بالألف واللام للعموم فيتناول جميع الخيرات من الأفعال والتروك
وقوله وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
وهما يعني قوله المصطفين وقوله الأخيار يتناولان جميع الأفعال والتروك لصحة الاستثناء
إذ يجوز أن يقال فلان من المصطفين إلا في كذا
ومن الأخيار إلا في كذا
فدل على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور
فلا يجوز صدور ذنب عنهم
لا يقال الاصطفاء لا ينافي صدور الذنب بدليل قوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه . . الآية (3/430)
فقسم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق
لأنا نقول الضمير في قوله فمنهم راجع إلى العباد لا إلى المصطفين لأن عوده إلى أقرب المذكورين أولى
فهذه حجج العصمة أوردها الإمام الرازي في الأربعين وغيره من تصانيفه
قال المصنف وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا وعن الصغيرة عمدا ليست بالقوية
فإن الاتباع إنما يجب فيما يصدر عنهم قصدا لا سهوا
ويشترط في القصد أن لا ينهانا عنه
ورد الشهادة مبني على الفسق الذي لا ثبوت له في الصغيرة عمدا ومع الكبيرة سهوا
وأما الزجر فإنما يجب في حق المعتمد للكبائر دون الساهي والصغيرة النادرة عمدا معفوة عن مجتنب الكبائر وعليك بالتأمل في سائر الدلائل
واحتج المخالف الذاهب إلى جواز صدور الكبائر عنهم بعد البعثة سهوا وجواز الصغائر عمدا أيضا بقصص الأنبياء التي نقلت في القرآن أو الأحاديث أو الآثار
وتلك القصص توهم صدور الذنب عنهم في زمان النبوة
والجواب عن تلك القصص إجمالا أن ما كان منها منقولا بالآحاد وجب ردها لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء وما ثبت منها تواترا فما دام له محمل آخر حملناه عليه ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة
وما لم نجد له محيصا حملناه على أنه كان قبل البعثة
أو كان من قبيل ترك الأولى
أو من صغائر صدرت عنهم سهوا ولا ينفيه أي لا ينفي كونه من قبيل ترك الأولى أو الصغائر الصادرة سهوا تسميته ذنبا في مثل قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
ولا (3/431)
الاستغفار منه ولا الاعتراف بكونه ظلما منهم كما في قصة آدم عليه السلام
يعني أن هذه الأمور الثلاثة لا تنافي المحملين الآخرين
إذ لعل ذلك المذكور من التسمية والاستغفار والاعتراف لعظمه عنهم أو عندهم
ألا ترى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين
فلذلك يسمى ترك الأولى منهم
وكذا ارتكاب الصغيرة سهوا ذنبا ويستغفرون منه ويعترفون بكونه ظلما أو أن أي أو لأن قصدوا به هضما من أنفسهم وكسرا لها بأنها ارتكبت ذنبا يحتاج فيه إلى الاستغفار والاعتراف به على سبيل الابتهال والتضرع كي يعفو عنها ربها
ومن جوز الصغائر عمدا فله زيادة فسحة في الجواب إذ يزداد له وجه آخر وهو أن يقول جاز أن يكون الصادر عنهم صغيرة عمدا لا كبيرة
ولنفصل ما أجملناه من استدلال المخالف بالقصص المنقولة
وجوابنا عنه تفصيلا فمنه أي من ذلك المحمل
قصة آدم عليه السلام وتفيقهوا أي تكلموا بملء أفواههم في التمسك بها من ستة أوجه
الأول قوله تعالى وعصى آدم ربه مؤكدا بقوله فغوى
فإن العصيان من الكبائر بدليل قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم
والغواية تؤكد ذلك لأنها اتباع الشيطان لقوله تعالى إلا من اتبعك من الغاوين
الثاني قوله تعالى فتاب عليه ولن تكون التوبة إلا عن الذنب لأنها الندم على المعصية والعزيمة على ترك العود إليها
الثالث مخالفته النهي عن أكل الشجرة وارتكاب المنهي عنه ذنب
الرابع قوله تعالى فتكونا من الظالمين جعلهما الله من الظالمين على تقدير الأكل منها
والظلم ذنب (3/432)
الخامس قوله تعالى حكاية عنهما ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين والظلم ذنب كما مر آنفا والخسران لولا المغفرة دليل كونه كبيرة
السادس قوله تعالى فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه
واستحقاق الإخراج بسبب إزلال الشيطان يدل على كون الصادر عنهما كبيرة
قلنا في الجواب كيف يدعي أنه في الجنة ولا أمة له هناك كان نبيا مبعوثا لتبليغ الأحكام وهل كان الاجتباء بالنبوة إلا بعد تلك القصة كما يدل عليه قوله تعالى فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه
فإن كلمة ثم للتراخي والمهملة
فهذه القصة كانت قبل النبوة
وهل الوقيعة أي الطعن في الأنبياء بمثل هذا المتمسك الظاهر دفعه إلا للعمه والحيرة في الضلالة والجهل المفرط في الغواية
وقد يتمسك في ذنبه أي ذنب آدم بقوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم
وجعل منها زوجها يعني حواء
ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا . . . الآية
فإن الضمير في قوله جعلا له شركاء راجع إليها إذ لم يتقدم ما يصلح لذلك سواهما
والضمير في له لله سبحانه وتعالى
فقد صدر عنه الإشراك وقصته أن حواء لما أثقلت أي حان وقت ثقل حملها جاءها إبليس في غير صورته وقال لها لعل في بطنك بهيمة فقالت ما (3/433)
أدري
فما ازداد ثقلها رجع إليها وقال كيف تجدينك فقالت أخاف مما خوفتني به
فإني لا أستطيع القيام
فقال أرأيت لو دعوت الله أن يجعله إنسانا مثلي ومثل آدم أتسمينه باسمي فقالت نعم
ثم أنها حكت ما جرى بينهما آدم
فجعلا يدعوان الله لئن آتيتنا صالحا أي ولدا سويا لنكونن من الشاكرين
فلما ولدت سويا جاءها إبليس فقال سميه باسمي
قالت ما اسمك
قال عبد الحارث وكان اسمه الحارث فسمته بعبد الحارث
رضي آدم بذلك
والجواب أن أكثر المفسرين على أن الخطاب في خلقكم لقريش وحدهم لا لبني آدم كلهم
والنفس الواحدة قصي
و جعل منها زوجها أي يجعلها عربية قرشية من جنسه لا أنه خلقها منه
وإشراكهما بالله تسميتهما أبناءها بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي
والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما
وعلى هذا فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء
وإن صح أنه لآدم وزوجه فأين الدليل على الشرك في الألوهية وفعله أي لعل الشرك المذكور في الآية هو الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته مع الرجوع عنه إلى الله تعالى بلا مطاوعة للشيطان في الفعل
وذلك الميل المتفرع على الوسوسة غير داخل تحت الاختيار فلا يكون معصية وذنبا
أو لعله كان قبل النبوة
فإن قلت قد مر امتناع الكفر على الأنبياء مطلقا
قلت معنى إشراكهما بالله أنهما أطاعا إبليس في تسمية ولدهما بعبد الحارث كما مر في القصة
وليس ذلك كفرا بل ذنبا يجوز صدوره قبل النبوة
وقد يقال معنى جعلا أنه جعل أولادهما على حذف المضاف كما يدل عليه جمع الضمير في يشركون
ومنه أي ومن ذلك المجمل قصة إبراهيم عليه السلام
وأظهر ما يوهم الذنب في قصته أمران (3/434)
الأول قوله في حق الكواكب هذا ربي فإن كان ذلك عن اعتقاد كان شركا وإلا كان كذبا
والجواب أن يقال لا يخفى أنه أي هذا الكلام صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة الله
وكم بينه وبين النبوة إذ لا يتصور النبوة إلا بعد تمام ذلك النظر فلا إشكال
إذ يختار أنه لم يعتقده فيكون كذبا صادرا قبل البعثة
ولك أن تقول إنما قال ذلك على سبيل الفرض كما في برهان الخلف إرشادا للصابئة إذ حاصل ما ذكره أن الكواكب لو كانت أربابا كما تزعمون لزم أن يكون الرب متغيرا آفلا
وهو باطل
الثاني من الأمرين قوله رب أرني كيف تحيي الموتى والشك في قدرة الله على إحياء الموتى كفر والجواب إن ذلك السؤال لم يكن عن شك في الإحياء أو القدرة عليه بل في الآية تصريح بأنه طلبه لأن في عين اليقين من الطمأنينة ما ليس في علم اليقين
فإن للوهم بإحداث الوساوس والدغادغ سلطانا على القلب عند علم اليقين دون عين اليقين
وقد يقال إنما سأل عن كيفية الإحياء لا عنه لأن الإحاطة بالكيفية المفصلة أقوى وأرسخ من المعرفة الإجمالية المفضية إلى التردد بين الكيفيات المتعددة مع الطمأنينة في أصل الإحياء والقدرة عليه
هذا وقد قال ابن عباس كان الله وعد أن يبعث نبيا يحيي بدعائه الموتى
وذلك علامة أن الله تعالى قد اتخذه خليلا
فأراد إبراهيم أن يعلم أهو هو وكيف لا تحمل الآية على ما مر
والشك في قدرة الله تعالى كفر
وأنتم لا تقولون به فما هو جوابكم فهو جوابنا
ومما يتمسك به من قصة إبراهيم عليه الصلاة و السلام قوله بل فعله كبيرهم فإن كذب
قلنا هو من قبيل الإسناد إلى (3/435)
السبب فإن حامله على الكسر زيادة تعظيمهم لذلك الكبير
ومنه فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم والنظر في علم النجوم حرام
وحكمه بأنه سقيم كذب
قلنا إن النظر في النجوم ليستدل بها على توحيد الله وكمال قدرته من أعظم الطاعات
وأما ترتيب الحكم بالسقم على النظر فلعل الله تعالى أخبره بأنه إذا طلع النجم الفلاني فإنه يمرض
ومنه قصة موسى عليه السلام
والتمسك بها من وجوه
الأول قوله فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن قتله لذلك القبطي بحق أي لم يكن مباحا ولا على سبيل الخطأ بل كان قتل عمد عدوان
لقوله هذا من عمل الشيطان وقوله رب إني ظلمت نفسي وقوله فعلتها إذا وأنا من الضالين
الجواب إنه كان قبل النبوة
وأيضا جاز أن يكون قتله خطأ وما صدر عنه من أقواله محمولا على التواضع وهضم النفس
الثاني إنه أذن لهم في إظهار السحر لقوله ألقوا ما أنتم ملقون وإظهاره حرام فيكون إذنه أيضا حراما
الجواب انه أي إظهار السحر لم يكن حراما حينئذ فإن مما تختلف فيه الشرائع بحسب الأوقات أو علم موسى أنهم يلقون سواء أذن لهم أم لا بدليل ما أنتم ملقون فلا يكون ذلك الإذن حراما بل فيه قلة مبالاة بسحرهم
أو أراد إظهار معجزته في عصاه وتلقفها لما أفكوه
ولا يتم ذلك الإظهار في ذلك المقام إلا بذلك الإذن فكان واجبا لكونه مقدمة للواجب
أو أراد ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين نحو فأتوا بسورة من مثله . . . إلى قوله إن كنتم صادقين (3/436)
الثالث قوله وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وهارون كان نبيا فإن كان له ذنب استحق به التأديب من موسى فذاك هو المطلوب
وإلا فإيذاؤه بلا استحقاق ذنب صدر عن موسى
والجواب أنه لم يكن ذلك الجر على سبيل الإيذاء بل كان يدنيه إلى نفسه لتفحص منه حقيقة الحال في تلك الواقعة
فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه أي يعتقدون أنه يؤذيه وذلك لسوء ظنهم بموسى حتى أنه لما مات هارون في غيبتهم قالوا إن موسى قتله
وقد أجيب أيضا بأن موسى لما رأى جزع هارون واضطرابه لما جرى من قومه أخذه ليسكنه من قلقه كما يفعل الواحد منا إذا أراد إصلاح غضبان أو تسكين مصاب وبأن موسى لما غالب عليه الهم واستيلاء الفكر أخذ برأس أخيه لا على طريقة الإيذاء بل كما يفعل الإنسان بنفسه عن عض يده وشفته وقبضه على لحيته إلا أنه نزل أخاه منزلة نفسه لأنه كان شريكه فيما يناله من خير أو شر
قال الآمدي لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل
الرابع قوله أي قول موسى للخضر لقد جئت شيئا إمرا و شيئا نكرا
وذلك الفعل لم يكن منكرا فكان كلام موسى خطأ
وقد يقال إن كان فعل الخضر منكرا فذاك
وإلا كان موسى كاذبا
قلنا أراد منكرا
من حيث الظاهر على معنى أن من نظر إلى ظاهر هذه الواقعة ولم يعرف حقيقتها حكم عليها بأنها شيء منكر
أو أراد عجبا فإن من رأى شيئا عجيبا جدا فإنه قد يقول هذا شيء منكر
وفعل الخضر لما كان (3/437)
بأمر الله لم يكن منكرا في الحقيقة ومنه قصة داود عليه السلام
وهي أنه طمع في امرأة أوريا
فقصد قتله بإرساله إلى الحرب مرة بعد أخرى
وهذه القصة على الوجه الذي اشتهرت به مختلقة أي مفتراة للحشوية إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام يعني أن الله تعالى مدح داود قبل قصة النعجة بأوصاف كمالية منها أنه ذا الأيدي أي القوة
وأراد القوة في الدين
لأن القوة في الدنيا كانت حاصلة لملوك الكفار ولم يستحقوا بها مدحا والقوة في الدين هي العزم الشديد على أداء الواجبات
وترك المنكرات فكيف يوصف بها من لم يملك منع نفسه عن الميل إلى الفجور والقتل
ومنها إنه أواب
أي رجاع إلى ذكر الله
فكيف يتصور منه أن يكون مواظبا على القصد إلى أعظم الكبائر
ومنها إنه سخر له الجبال يسبحن بالعشي والإشراق وسخر له الطير محشورة كل له أواب
افترى أنه سخر له هذه الأشياء ليتخذها وسائل إلى القتل والزنا
ومنها أنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب
والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا فكيف يعقل أنه اتصف بالحكمة مع إصراره على ما يستنكف عنه أخبث الشياطين من مزاحمة أتباعه في الزوج والمنكوحة
ومدحه أيضا بعد قصة النعجة بأنه جعله خليفة في الأرض وهذا من أجل المدائح
وإذا كان الأمر كذلك لم يصح أن تحمل هذه القصة على أنها إشارة إلى القصة المشهورة في حق داود عليه السلام
بل تصور قوم قصره للإيقاع به
فلما رأوه مستيقظا اخترع أحدهم الخصومة المذكورة في القرآن وزعموا أنهم إنما قصدوه لأجلها لا لسوء به من قتل النفس أو سرقة المال ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة (3/438)
وعلى هذا فمعنى قوله تعالى أنما فتناه
اختبرناه في أنه حين أساء الظن باللصوص مع قدرته عليهم فهل يعالجهم بالعقوبة أو لا فلما لم يعاقبهم كان غاية في الحلم
والاستغفار لا يجب أن يكون لذنب منه بل جاز أن يكون طلبا لعفو الله عنهم وأن يغفر لهم مبالغة في الحلم والشفقة
وقوله فغفرنا له أي غفرنا لأجل حرمته وبركة شفاعته ذلك الفعل المنكر الذي أتى به أولئك المتسورون
وحينئد لا يحتاج إلى نسبة الكذب إلى الملائكة وحمل النعاج على النسوان وخلط الذمة البليغة بأوصاف الكمال
قال الإمام الرازي من أنصف علم أن الحق الصريح ما ذكرناه وأن تلك القصة كاذبة باطلة على الوجه الذي يرويها عليه أهل الحشوية
ومنه قصة سليمان عليه السلام والتمسك بها من وجهين بل من وجوه
الأول التمسك بقوله تعالى إذ عرض عليه بالعشي أي بعد الزوال الصافنات الجياد الآية
فإن ظاهره يدل على أن اشتغاله بتلك الصافنات ألهاه عن ذكر الله حتى روي أنه فاتت عليه صلاة العصر
والجواب أنه لا دلالة فيه على فوت الصلاة مع أنه إذا كان فوتها بالنسيان لم يكن ذنبا وقوله أحببت حب الخير مبالغة في الحب فإن الإنسان قد يحب شيئا ولكن لا يحب أن يحبه فإذا أحبه وأحب أن يحبه فذلك هو الكمال في المحبة
وقوله عن ذكر ربي أي بسببه كما يقال سقاه عن العيمة أي لأجلها
فالمعنى أن ذلك الحب الشديد إنما حصل بسبب ذكره
أي أمره
لا بالهوى وطلب الدنيا
وذلك لأن رباط (3/439)
الخيل في دينهم كان بأمره كما في ديننا إذ هو مندوب إليه وقوله فطفق مسحا معناه يمسح رؤوسها وأعناقها إكراما لها
وإظهارا لشدة شفقته عليها لكونها من أعظم الأعوان في دفع أعداء الدين
وحمله على قطعها كما ذهب إليه طائفة حيث قالوا المعنى أنه عليه الصلاة و السلام جعل يمسح السيف بسوقها وأعناقها
أي يقطعها إما غضبا عليها بسبب ما جرى عليه من أجلها
وإما للتصدق بها ضعيف جدا إذ لا دلالة للفظ عليه كما في قوله وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
نعم لو قيل مسح السيف برأسه لربما فهم منه ضرب العنق
وإما إذا لم يذكر السيف لم يفهم القطع البتة
ورجوع ضمير توارت إلى الشمس أبعد المحتملين يريد أن ذلك الضمير يحتمل أن يعود إلى الشمس إذ قد جرى ما له تعلق بها وهو العشي وأن يعود إلى الصافنات وهذا أولى لأنها مذكورة صريحا دون الشمس
وأيضا هي أقرب في الذكر مع لفظ العشي
فالمعنى حينئذ أنه أمر بإعدامها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر بردها فما وصلت إليه أخذ يمسحها لما مر
الثاني التمسك بقوله تعالى ولقد فتنا سليمان وقصته أنه بلغ سليمان خبر ملك تحصن في جزيرة فخرج إليه بالريح وقتله وأخذ بنته وكانت في غاية الجمال فأحبها وكانت لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها فأمر سليمان الجن بأن يعملوا لها تمثالا على صورة أبيها فكسته كسوة نفيسة وكانت تغدو وتروح إليها مع ولائدها يسجدن له على عادتهن في ملكه فسقط الخاتم من يد سليمان عليه السلام لعصيانه باتخاذ الصنم الذي (3/440)
يسجد له في بيته فقال له آصف إنك مفتون بذنبك فتب إلى الله فخرج إلى الفلاة وقعد على الرماد تائبا إلى الله سبحانه وتعالى
الجواب أن هذه الحكاية الخبيثة التي يرويها الحشوية كتاب الله مبرأ عنها فإنه قال النبي تفسير هذا الكلام قال سليمان أطوف الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولدا يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فلم تحمل من تلك المائة إلا واحدة فولدت نصف غلام فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه ولو أنه قال إن شاء الله كان كما قال فالابتلاء المذكور في الآية إنما كان لترك الاستثناء لا لمعصية وقيل ابتلاؤه كان بالمرض
فإنه مرض حتى صار مشرفا على الموت لا يقدر على حركة كجسد بلا روح
وقيل ولد له ولد
فقالت الشياطين إن عاش ولده لم ينفك عن السحرة فعزمت على قتله فعلم سليمان ذلك فخاف الشياطين أن تهلكه فأمر السحاب أن يحمله وأمر الريح أن تحمل إليه غداءه فمات ذلك الولد في السحاب فألقي على كرسيه فتنبه سليمان على خطئه حيث لم يتوكل على ربه
الثالث التمسك بما حكي عنه في القرآن
وهو قوله وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فإنه حسد فيكون ذنبا
الجواب إنه ليس حسدا بل معجز كل نبي إنما كان من جنس ما يفتخر به أهل زمانه وكان ما افتخر به أهل زمان سليمان هو الملك أي المال والجاه
فلا جرم طلب مملكة فائقة على جميع الممالك لتكون مملكته معجزة له
وأراد أن ملك الدنيا موروث أي ينتقل من واحد إلى آخر
فطلب من ربه بعدما شفي من مرضه الشديد ملك الدين الذي لا يمكن فيه الانتقال فقوله ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري
وأراد الملك العظيم من القناعة وذلك أن الاحتراز عن لذات الدنيا مع القدرة عليها مما لا يمكن عادة فطلب الملك (3/441)
العظيم في الدنيا مع اشتغاله بطاعة ربه وعدم التفاته إلى ذلك الملك العظيم ليعلم الناس أن زخارف الدنيا لا تمنع من خدمة المولى
ومنه قصة يونس عليه السلام فإنه ذهب مغاضبا وظن أن لن يقدر الله عليه واعترف بكونه ظالما والغضب ذنب
والشك في قدرة الله تعالى كفر
والظلم أيضا ذنب
والجواب لعل غضبه كان على قوم كفرة بالغوا في العناد والمكابرة حتى عيل صبره ولم يطق المصابرة معهم
فهذا غضب لله على أعدائه
فلا يكون ذنبا
فظن أن لن نقدر عليه أن لن نضيق عليه فإنه مشتق من القدر كما في قوله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لا من القدرة
و إني كنت من الظالمين أي لنفسي بترك الأولى فاعترافه بالظلم هضم للنفس واستغظام لما صدر عنها مبالغة في التضرع ولا تكن كصاحب الحوت أي في قلة الصبر على الشدائد والمحن لتنال أفضل الرتب
وليس معناه لا تكن مثله في ارتكاب الذنب
ومنه قصة نبينا بها من وجوه
الأول ووجدك ضالا فهدى ولا شك أن الضال عاص
والجواب أنه قبل النبوة
أو أراد ضالا في أمور الدنيا ويجب حمله على هذا لقوله تعالى ما ضل صاحبكم وما غوى إذ المراد به نفي الضلالة والغواية في أمور الدين بلا شبهة فوجه التوفيق بينهما ما ذكرنا (3/442)
الثاني ما روي أنه اشتد عليه إعراض قومه عن دينه تمنى أن يأتيه من الله ما يتقرب به إليهم ويستميل قلوبهم فأنزل الله عليهم سورة النجم فلما اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فلما سمعه قريش فرحوا به وقالوا قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبريل عليه السلام بعدما أمسى وقال له تلوت على الناس ما لم أتله عليك فحزن النبي حزنا شديدا وخاف من الله خوفا عظيما
فنزل لتسليته وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته . . الخ
والجواب على تقدير حمل التمني على القراءة هو أنه من إلقاء الشيطان
يعني أن الشيطان قرأ هذه العبارة المنقولة وخلط صوته بصوت النبي حتى ظن أنه
وإلا أي وإن لم يكن من إلقائه بل كان النبي لها كان ذلك كفرا صادرا عنه وليس بجائز إجماعا
وأيضا ربما كان ما ذكر من العبارة قرآنا وتكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة فنسخ تلاوته للإيهام أي لإيهامه المشركين أن المراد به آلهتهم
أو المراد على تقدير حمل أتمنى على تمني القلب وتفكره ما يتمناه بوسوسة الشيطان ويكون المعنى حينئذ أن النبي إذا تمنى شيئا وسوس إليه الشيطان ودعاه إلى مالا ينبغي ثم أن الله تعالى ينسخ ذلك ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته وعلى هذا تكون الرواية المذكورة من مفتريات الملاحدة
أو نقول عن التقدير الأول أيضا هو أي قوله تلك الغرانيق الخ
كان من القرآن وأريد بالغرانيق الأصنام لكنه استفهام إنكار حذف منه أداته فالمعنى أن هذه المستحقرات ليست كما تدعونها وترجون الشفاعة منها (3/443)
الثالث قصة زيد وزينب
والجواب أنه أي نكاح زينب كان بأمر الله تعالى لنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء
وإنما أخفى في نفسه ذلك خوفا من طعن المنافقين وتوضيحه أن الله تعالى لما أراد أن ينسخ ذلك التحريم أوحى إليه أن زيدا إذا طلق زوجته فتزوج بها
فلما حضر زيد ليطلقها خاف أنه إن طلقها لزمه التزوج بها ويصير سببا لطعنهم فيه فقال لزيد أمسك عليه زوجك وأخفى في نفسه ما أوحى إليه وعزمه على نكاحها فلذلك عوتب فقيل له وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وقيل كانت زينب ابنة عمة النبي في تزوجه أياها فلما خطبها النبي لزيد شق عليها وعلى والديها فنزل قوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله . . . الآية فانقادوا كرها
وطمعت زينب مع ذلك أن يتزوجها النبي خلاصها من قيد ذلك النكاح فنشزت على زيد حتى أعيته فطلقها فتزوجها النبي بأمر من الله بيانا لذلك النسخ
وعلى هذين القولين لا ذنب للنبي في هذه القصة
وما يقال إنه أحبها حين رآها فمما يجب صيانة النبي مثله
وإن صح فميل القلب غير مقدور ثم القائلون بمحبته إياها منهم من قال لما أحبها حرمت على زوجها وهذا باطل
وإلا كان أمره بإمساكها أمرا بالزنا وكان وصفها بكونها زوجا له كذبا ومنهم من قال لم تحرم لكن وجب على الزوج تطليقها قالوا وفيه أي في ميل قلبه إليها وما تفرع عليه ابتلاء الزوج بتطليقها لأن النزول عن الزوجة طلبا لمرضاة الله أمر صعب لا ينقاد له إلا موفق
وابتلاء النبي بالمبالغة في حفظ النظر حذرا عن الخيانة في الوحي بالإخفاء أو التعرض للطعن من الأعداء (3/444)
الرابع ما كان لنبي أن يكون له أسرى . . إلى قوله عذاب عظيم
والجواب إنه عتاب على ترك الأولى الذي هو الإثخان فإن التحريم أي تحريم الفداء مستفاد من هذه الآية فقبل نزولها لا تحريم
ومعنى قوله تعالى لولا كتاب إلى آخر الآية أنه لولا سبق تحليل الغنائم لعذبتكم بسبب أخذكم هذا الفداء
الخامس عفا الله عنك لم أذنت لهم والعفو إنما يكون عن الذنب
الجواب إنه تلطف في الخطاب على طريقة قولك أرأيت رحمك الله وغفر لك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره الذي هو أنه تعالى عفا عنه ثم عاتبه إذ هو باطل قطعا وإليه أشار بقوله وإلا فلا عتاب بعد العفو وعلى هذا فلا دلالة للعفو على الذنب وإن سلم أن هناك عتابا قلنا ذلك العتاب إنما كان بترك الأولى فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية مع تدبير الحروب فإنه جماعة تعللوا بأعذار بالتخلف عن غزوة تبوك وتارك الأفضل في أمور الحرب قد يعاتب
السادس ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك والوزر هو الذنب وإنقاضه الظهر يدل على كبره
الجواب بأن الوزر المذكور محمول على ما كان قد اقترفها قبل النبوة أو هو ترك الأولى
والإنقاض حينئذ محمول على استعظامه إياه أو نقول إنه قد جاء بمعنى الثقل
كقوله تعالى حتى تضع الحرب (3/445)
أوزارها
فجاز أن يكون ههنا مستعملا للثقل الذي كان عليه من الغم الشديد لإصرار قومه على إنكاره والشرك بالله ولعدم استطاعته على تنفيذ أمر الدين
فلما أعلى الله شأنه وشد أزره فقد وضع عنه وزره وثقله
ويقوي هذا التأويل قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك
وقوله فإن مع العسر يسرا
السابع قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقوله واستغفر لذنبك
وقوله لقد تاب الله على النبي إذ لا وجود للتوبة إلا مع الذنب
والجواب إنه قبل النبوة وحمله على ما تقدم النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه إذ يجوز أن يصدر عنه قبل النبوة صغيرتان إحداهما متقدمة على الأخرى
أو أنه ترك الأولى وتسميته بالذنب استعظام لصدوره عنه أو نقول نسب إليه ذنب قومه فإن رئيس القوم قد ينسب إليه ما فعله بعض أتباعه
فالمعنى ليغفر لأجلك ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر منه واستغفر لذنب أمتك وتاب الله على أمة النبي
وأما ما يقال إن المصدر مضاف إلى المفعول فالمعنى ذنب قومك إليك أي ما ارتكبوه من الذنوب بالنسبة إليك كأنواع إيذائهم إياك فلا يخفى ضعفه
فإن ذلك إنما يتأتى في المصادر المتعدية والذنب ليس منها
والاكتفاء بأدنى تعلق في إضافة الذنب إليه مما لا يقبله ذوق سليم
الثامن قوله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى
الجواب إنه ترك الأولى مما يليق بخلقه العظيم ومثله يعاتب على مثله (3/446)
التاسع قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
الجواب النهي لا يدل على الوقوع لاحتمال أن يراد به التثبيت والاستمرار في الزمان الآتي على ما كان عليه في الماضي
العاشر يا أيها النبي اتق الله يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك
الجواب ما مر من قصد التثبيت والاستمرار مع أن الأمر والنهي من أقوى أسباب العصمة كما ستعرفه
فلا يدلان على صدور الذنب
الحادي عشر لئن أشركت ليحبطن عملك
الجواب الشرطية لا تقتضي تحقق الطرفين كما في قولك إن كان زيد حجرا كان جمادا أو المراد الشرك الخفي
وهو الالتفات إلى الناس بل إلى ما سوى الله فيكون من قبيل ترك الأولى
أو المراد بالخطاب غيره على سبيل التعريض ويؤيده أنه قال ابن عباس رضي الله عنهما نزل القرآن على إياك
أعني فاسمعي يا جارة
الثاني عشر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق فلا تكونن من الممترين
الجواب شرطية فلم يوصف بل فرض شكه كما يفرض المحال وأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب على ذلك التقدير
والفائدة في الرجوع إلى أهل الكتاب زيادة قوته وطمأنينته أو لمعرفة كيفية (3/447)
نبوة سائر الأنبياء فيعرف أنه أوتي مثل ما أوتي الأنبياء السالفة
وأنت خبير بأن هاتين الفائدتين إنما تترتبان على الرجوع ابتداء
والمذكور في الآية هو الرجوع على تقدير الشك
قال المصنف واعلم أنما طولنا في مثل هذا ليعلم أن مسألة نسيان الأنبياء وسهوهم في صدور الكبائر عنهم وتعمدهم الصغائر لا قاطع فيه نفيا كما نبه عليه بقوله سابقا
وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا والصغيرة عمدا ليست بالقوية
أو إثباتا إذ قد أجاب عن أدلة المثبتين ههنا مع قيام الاحتمال العقلي إذ لو فرض نقيضه وهو الصدور عنهم لم يلزم منه محال لذاته بلا شبهة
وظهور المعجزة على يده لا دليل فيه على ذلك
يعني عدم الصدور
وعلى هذا يجب أن يسرح ذلك إلى بقعة الإمكان ولا يجترأ على الأنبياء بإطلاق اللسان
المقصد السادس
المتن في حقيقة العصمة
وهي عندنا أن لا يخلق الله فيهم ذنبا
وعند الحكماء ملكة تمنع عن الفجور وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي والاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر وترك الأولى
فإن الصفات النفسانية تكون أحوالا ثم تصير ملكات بالتدريج
وقال قوم تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها (3/448)
صدور الذنب عنه
ويكذبه أنه لو كان كذلك لما استحق المدح بذلك
وأيضا فالإجماع على أنهم مكلفون بترك الذنوب مثابون به
ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان كذلك
وأيضا فقوله قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي لا غير
الشرح
المقصد السادس في حقيقة العصمة آخر بيانها عن التصديق بوجودها لأن الماهية الحقيقة تتوقف على آلهلية وهي عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق الله فيهم ذنبا
وهي عند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب والاعتبار استعداد للقوابل ملكة تمنع عن الفجور وتحصل هذه الصفة النفسانية ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات فإنه الزاجر عن المعصية والداعي إلى الطاعة وتتأكد وتترسخ هذه الصفة فيهم بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي والنواهي الزاجرة عما لا ينبغي ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوز تعمدها
ومن ترك الأولى والأفضل فإن الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا أي غير راسخة ثم تصير ملكات
أي راسخة في محلها
بالتدريج
وقال قوم هي العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه ويكذبه أي هذا القول أنه لو كان صدور الذنب كذلك أي ممتنعا لما استحق المدح بذلك أي بترك الذنب إذ لا مدح ولا ثواب بترك ما هو ممتنع لأنه ليس مقدورا داخلا تحت الاختيار
وأيضا فالإجماع منعقد على أنهم أي الأنبياء مكلفون بترك الذنوب مثابون به
ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر (3/449)
كذلك إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه لما عرفت آنفا وأيضا فقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما رجع إلى البشرية
والامتياز بالوحي لا غير
فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما عن سائر البشر
المقصد السابع في عصمة الملائكة
المتن وقد اختلف فيها
فللنافي وجهان
الأول ما حكى الله عنهم من قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
ولا يخفى ما فيه من وجوه المعصية
إذ فيه غيبة لمن يجعله الله خليفة بذكر مثالبة
وفيه العجب وتزكية النفس
وفيه أنهم قالوا ما قالوه رجما بالظن
واتباع الظن في مثله غير جائز
وفيه إنكار على الله فيما يفعله
وهو من أعظم المعاصي
الثاني إبليس عاص
وهو من الملائكة بدليل استثنائه منهم من قوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس
وبدليل أن قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا وقد تناوله
وإلا لما استحق الذم
ولما قيل له ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
والجواب عن الأول أنه استفسار عن الحكمة
والغيبة إظهار مثالب المغتاب
وذلك إنما يتصور لمن لا يعلمه
وكذلك التزكية ولا رجم بالظن (3/450)
وقد علموا ذلك بتعليم الله أو بغيره
وعن الثاني أن إبليس كان من الجن وصح الاستثناء
وتناوله الأمر للغلبة
وكون طائفة من الملائكة مسمين بالجن خلاف الظاهر مع أن ذكره في معرض التعليل لاستكباره وعصيانه يأباه
وللمثبت الآيات الدالة على عصمتهم نحو قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
و يسبحون الليل والنهار لا يفترون
و يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
والجواب إنما يتم ذلك إذا ثبت عمومها أعيانا وأزمانا ومعاصي ولا قاطع فيه
وإن الظن لا يغني في مثله عن الحق شيئا
الشرح
المقصد السابع في عصمة الملائكة
وقد اختلف فيها
فللنافي وجهان
الأول ما حكى الله عنهم من قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
ولا يخفى ما فيه من وجوه المعصية وهي أربعة إذ فيه غيبة لمن يجعله الله خليفة بذكر مثالبه
وفيه أيضا العجب وتزكية النفس بذكر مناقبها
وفيه أيضا أنهم قالوا ما قالوه من نسبة الإفساد والسفك رجما بالظن إذ لا يليق بحكمة الله مع إرادته إعزاز بني آدم أن يطلع أعداءهم على عيوبهم
واتباع الظن في مثله غير جائز لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم
وفيه أيضا إنكار على الله تعالى فيما يفعله
وهو من أعظم المعاصي
الوجه الثاني إبليس عاص بترك السجود حتى صار مطرودا ملعونا (3/451)
وهو من الملائكة بدليل استثنائه منهم في قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس
وبدليل أن قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا قد تناوله
وإلا لما استحق الذم
ولما قيل له ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
والجواب عن الوجه الأول أنه أي قولهم أتجعل استفسار عن الحكمة الداعية إلى خلقهم لا إنكار على الله في خلقهم
والغيبة إظهار مثالب المغتاب وذلك لا يتصور لمن لا يعلمه
والله سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء ما ظهر منها وما بطن فلا غيبة هناك
وكذلك التزكية إظهار مناقب النفس فلا تتصور بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى
ولا رجم بالظن وقد علموا ذلك بتعليم الله إذ قد يكون فيه حكمة لا نعرفها
أو بغيره كقراءتهم ذلك من اللوح
والجواب عن الوجه الثاني أن إبليس كان من الجن لقوله تعالى كان من الجن ففسق عن أمر ربه
وصح الاستثناء
وتناوله الأمر للغلبة أي لتغليب الكثير على القليل في إطلاق الاسم كما عرف في موضعه
وكون طائفة من الملائكة مسمين بالجن على ما قيل فلا يكون حينئذ كونه من الجن منافيا لكونه من الملائكة خلاف الظاهر
لأن المتبادر من لفظ الجن ما لا يدخل تحت الملك مع أن ذكره أي ذكر كونه من الجن في معرض التعليل لاستكباره وعصيانه كما يتبادر من نظم الآية يأباه أي يأبى كونه من الملائكة لأن طبيعة الملك لا تقتضي المعصية أو يأبى كون الجن اسما لطائفة من الملائكة (3/452)
وللمثبت الآيات الدالة على عصمتهم نحو قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون
إذ يعلم منه أنهم لا يعصون
وإلا حصل الفتور في التسبيح
وقوله يخافون ربهم من فوقهم أي فلا يعصونه
ويفعلون ما يؤمرون
والجواب إنما يتم ذلك الاستدلال بتلك الآيات إذا ثبت عمومها أعيانا وأزمانا ومعاصي حتى يثبت بها أن جميعهم مبرأون عن جميع المعاصي في جميع الأزمنة
ولا قاطع أي في هذا المبحث لا نفيا ولا إثباتا بل أدلة طرفيه ظنية
وإن الظن لا يغني في مثله من المسائل التي يطلب فيها العلم واليقين عن الحق شيئا
المقصد الثامن في تفضيل الأنبياء على الملائكة
المتن لا نزاع في أنهم أفضل من الملائكة السفلية
إنما النزاع في الملائكة العلوية
فقال أكثر أصحابنا الأنبياء أفضل
وعليه الشيعة
وقالت المعتزلة والحليمي منا الملائكة أفضل
وعليه الفلاسفة
احتج أصحابنا بوجوه أربعة
الأول قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وأمر الأدنى بالسجود للأفضل هو السابق إلى الفهم
وعكسه على خلاف الحكمة
لا (3/453)
يقال السجود يقع على أنحاء فلعله لم يكن سجود تعظيم لأنا نقول أرأيتك هذا الذي كرمت علي و أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين يدل على أنه إسجاد تكرمة وينفي سائر الاحتمالات
الثاني قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها والعالم أفضل من غيره لأن الآية سيقت لذلك
ولقوله قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
الثالث أن للبشر عوائق عن العبادة من شهوته وغضبه وحاجاته الشاغلة لأوقاته
وليس للملائكة شيء من ذلك
ولا شك أن العباد مع هذه العوائق أدخل في الإخلاص وأشق فتكون أفضل لقوله أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها
الرابع الإنسان ركب تركيبا بين الملك والبهيمة
فبعقله له حظ من الملائكة وبطبيعته له حظ من البهيمة
ثم أن من غلب طبيعته عقله فهو شر من البهائم لقوله تعالى أولئك كالأنعام بل هم أضل وقوله إن شر الدواب عند الله . . الآية
وذلك يقتضي أن يكون من غلب عقله طبيعته خيرا من الملائكة
احتج الخصم بوجوه عقلية ونقلية
أما العقلية فستة (3/454)
الأول الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل بخلاف السفليات
والتام أكمل من غيره
الثاني الروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الكائنة الفاسدة
ونسبة النفوس كنسبة الأجساد
الثالث الروحانيات مبرأة عن الشهوة والغضب وهما المبدأ للشرور كلها
الرابع الروحانيات نورانية لطيفة والجسمانيات مركبة من المادة والصورة
والمادة ظلمانية مانعة
الخامس الروحانيات قوية على أفعال شاقة كالزلازل والسحب لا يلحقها بذلك فتور بخلاف الجسمانيات
السادس الروحانيات أعلم لإحاطتها بما كان في الأعصر الأول وبما سيكون في الأزمنة الآتية وبالأمور الغائبة
وعلومهم كلية فعلية فطرية آمنة من الغلط
والجسمانيات بخلافه
والجواب إن ذلك كله مبني على القواعد الفلسفية التي لا نسلمها ولا نقول بها
وأما النقلية فسبعة (3/455)
الأول قوله تعالى ولا أقول لكم إني ملك فإنه في معرض التواضع
والجواب لا نسلم أنه في معرض التواضع بل لما نزل والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون والمراد قريش
استعجلوه بالعذاب تهكما به فنزلت لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك بيانا لأنه ليس له إنزال العذاب من خزائن الله
ولا يعلم متى ينزل بهم العذاب ولا هو ملك فيقدر على إنزال العذاب كما يحكى أن جبريل قلب بأحد جناحية المؤتفكات فقد دلت الآية على أن الملك أقدر وأقوى
فأين حديث الأفضلية
الثاني قوله تعالى ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين إذ يفهم منه أنه حرضهما على الأكل من الشجرة لما منعا عنه بأن المقصود قصوركما عن درجة الملائكة
فكلا منها ليحصل لكما ذلك الشرف
والجواب إنهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوة فمناهما مثل ذلك
وخيل إليهما أنه الكمال والفضيلة
الثالث قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وهو صريح في تفضيل الملائكة على المسيح كما يقال لا أنا أقدر على هذا ولا من هو فوقي في القوة
ولا يقال من هو دوني
الجواب إن النصارى استعظموا المسيح لما رأوه قادرا على إحياء الموتى ولكونه بلا أب والملائكة فوقه فيهما فإنهم قادرون على ما لا يقدر عليه
ولكونهم بلا أب ولا أم
فإذا لم يستنكفوا من العبودية ولم يصر ذلك (3/456)
سببا لادعائهم الألوهية
فالمسيح أولى بذلك
وليس ذلك من الأفضلية في شيء
الرابع قوله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته
والمراد بكونهم عنده ليس القرب المكاني بل قرب الشرف والرتبة
وأيضا فجعله دليلا على أنهم إذا لم يستكبروا فغيرهم أولى أن لا يستكبروا فذلك دليل أفضليتهم
الجواب المعارضة بقوله في مقعد صدق عند مليك مقتدر وبقول الرسول حكاية عن الله أنا عند المنكسرة قلوبهم وكم بين من يكون عند الله ومن يكون الله عنده
وأما الاستدلال بعدم الاستكبار فبكونهم أقوى لا أفضل
الخامس أن الملائكة معلمو الأنبياء
قال تعالى علمه شديد القوى
وقال نزل به الروح الأمين على قلبك
والمعلم أفضل
والجواب أنهم المبلغون
والمعلم هو الله
السادس الملائكة رسل الله إلى الأنبياء
والرسول أقرب إلى المرسل من المرسل إليه كالنبي بالنسبة إلى أمته فكون أفضل
الجواب فيجب أن يكون واحد من آحاد الناس إذا أرسله ملك إلى ملك أفضل من الملك المرسل إليه (3/457)
السابع إطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء
والمفضول لا يقدم على سبيل الاطراد
الجواب إن ذلك بحسب ترتيب الوجود أو الإيمان
فإن وجود الملائكة أخفى
فالإيمان به أقوى
الشرح
المقصد الثامن في تفضيل الأنبياء على الملائكة
لا نزاع في أنها أفضل من الملائكة السفلية الأرضية
إنما النزاع في الملائكة العلوية السماوية
فقال أكثر أصحابنا الأنبياء أفضل
وعليه الشيعة وأكثر أهل الملل
وقالت المعتزلة
وأبو عبد الله الحليمي والقاضي أبو بكر منا الملائكة أفضل
وعليه الفلاسفة
احتج أصحابنا بوجوه أربعة
الأول قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فقد أمروا بالسجود له وأمر الأدنى بالسجود للأفضل هو السابق إلى الفهم
وعكسه على خلاف الحكمة لأن السجود أعظم أنواع الخدمة
وإخدام الأفضل للمفضول مما لا تقبله العقول
وإذا كان آدم أفضل منهم كان غيره من الأنبياء كذلك إذ لا قائل بالفضل
لا يقال السجود يقع على أنحاء
فلعله لم يكن سجود تعظيم له إذ يجوز أن يكون سجودهم لله وآدم كان كالقبلة لهم
وعلى تقدير كونه لآدم جاز أن يكون عرفهم في السجود كونه قائما مقام السلام في عرفنا فلا يكون غاية في التواضع والخدمة لأن هذه قضية عرفية يجوز اختلافها باختلاف الأزمنة
وأيضا جاز أن يكون أمرهم بالسجود ابتلاء لهم ليتميز المطيع منهم عن العاصي
فلا يدل على تفضيله عليهم في شيء من هذه الاحتمالات (3/458)
لأنا نقول قوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي و أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين يدل على أنه إسجاد تكرمة وتفضيل وينفي سائر الاحتمالات إذ لم يتقدم هناك ما يصرف إليه التكريم سوى الأمر بالسجود
قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها إلى قوله قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فإنه يدل على أن آدم علم الأسماء كلها ولم يعلموها
والعالم أفضل من غيره
لأن الآية سيقت لذلك
ولقوله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
الثالث أن للبشر عوائق عن العبادة من شهوته وغضبه وحاجاته الشاغلة لأوقاته
وليس للملائكة شيء من ذلك
ولا شك أن العبادة مع هذه العوائق أدخل في الإخلاص وأشق فتكون أفضل لقوله أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها
فيكون صاحبها أكثر ثوابا عليها
الرابع إن الإنسان ركب تركيبا بين الملك الذي له عقل بلا شهوة والبهيمة التي لها شهوة بلا عقل
فبعقله له حظ من الملائكة وبطبيعته له حظ من البهيمة ثم أن من غلب طبيعته عقله فهو شر من البهائم لقوله تعالى أولئك كالأنعام بل هم أضل وقوله إن شر الدواب عند الله . . الآية
وذلك يقتضي بطريق قياس أحد الجانبين على الآخر (3/459)
أن يكون من غلب عقله طبيعته خيرا من الملائكة
احتج الخصم على تفضيل الملائكة بوجوه عقلية ونقلية
أما العقلية فستة
الأول الملائكة أرواح مجردة عن علائق المادة وتوابعها فليس شيء من أوصافها بالقوة بل كمالاتها كلها بالفعل في مبدأ الفطرة بخلاف السفليات أي النفوس الناطقة الإنسانية
فإنها في ابتداء فطرتها خالية عن كمالاتها
وإنما يحصل لها منها ما يحصل على سبيل التدريج والانتقال من القوة إلى الفعل
والتام أكمل من غيره
الثاني الروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية الشريفة المبرأة عن الفساد
وهي الأفلاك والكواكب المدبرة لما في عالمنا هذا باتصالاتها وأوضاعها
والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الكائنة الفاسدة
ونسبة النفوس كنسبة الأجساد
الثالث الروحانيات مبرأة عن الشهوة والغضب
وهما المبدأ للشرور والأخلاق الذميمة كلها
الرابع الروحانيات نورانية لطيفة لا حجاب فيها عن تجلي الأنوار القدسية فهي أبدا مستغرقة في مشاهدة الأنوار الربانية
والجسمانيات مركبة من المادة والصورة
والمادة ظلمانية مانعة عن تلك المشاهدة المستمرة
الخامس الروحانيات قوية على أفعال شاقة كالزلازل والسحب
فإن الزلازل توجد بتحريكاتها والسحاب يعرض ويزول بتصريفاتها
والآثار العلوية تحدث بمعوناتها
وقد نطق به الكتاب الكريم حيث قال فالمقسمات أمرا
وقال فالمدبرات أمرا لا يلحقها بذلك فتور لأن قدرتهم (3/460)
على تغيير الأجسام وتقليب الأجرام وتحريكاتها ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب بخلاف الجسمانيات
السادس الروحانيات أعلم لإحاطتها بما كان في الأعصر الأول وبما سيكون في الأزمنة الآتية وبالأمور الغائبة عنا في الحال وعلومهم كلية إذ لا حواس لها ترتسم فيها المثل الجزئية فعلية لأنها مبادىء للحوادث في عالم الكون والفساد فطرية أي حاصلة في ابتداء فطرتهم لكونها مجردة بريئة عن القوة آمنة من الغلط
والجسمانيات بخلافه
والجواب إن ذلك كله مبني على القواعد الفلسفية التي لا نسلمها ولا نقول بها على أن النزاع من المتكلمين في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب فتدبر
وأما الوجوه النقلية فسبعة
الأول قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك فإنه كلام في معرض التواضع ونفي التعظيم والترفع والنزول عن هذه الدرجات فكأنه قال لا أثبت لنفسي مرتبة فوق البشرية كالإلهية والملكية بل أدعي لها ما ثبت لكثير من البشر وهو النبوة
والجواب لا نسلم أنه في معرض التواضع بل لما نزل ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون
والمراد قريش
استعجلوه بالعذاب تهكما به وتكذيبا له
فنزلت قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك بيانا لأنه ليس له إنزال العذاب من خزائن الله بفتحها
ولا يعلم أيضا متى ينزل بهم العذاب منها ولا هو ملك فيقدر على إنزال (3/461)
العذاب عليهم
كما يحكى أن جبريل عليه السلام قلب بأحد جناحيه المؤتفكات وهي بلاد قوم لوط فقد دلت الآية على أن الملك أقدر وأقوى فأين حديث الأفضلية التي هي أكثر الثواب
الثاني قوله تعالى ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين إذ يفهم منه أنه حرضهما على الأكل من الشجرة لما منعا عنه بأن المقصود بالمنع قصوركما عن درجة الملائكة فكلا منها ليحصل لكما ذلك الشرف
فقبلا منه وأقدما عليه
والجواب إنهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوة منهما فمناهما مثل ذلك وخيل إليهما أنه الكمال الحقيقي والفضيلة المطلوبة
الثالث قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وهو صريح في تفضيل الملائكة على المسيح كما يقال لا أنا أقدر على هذا ولا من هو فوقي في القوة
ولا يقال من هو دوني
وكما يقال لا يستنكف الوزير عن خدمة فلان ولا السلطان ولا يجوز أن يعكس
الجواب إن النصارى استعظموا المسيح لما رأوه قادرا على إحياء الموتى ولكونه بلا أب فأخرجوه عن كونه عبد الله وادعوا له الألوهية
والملائكة فوقه فيهما
فإنهم قادرون على ما لا يقدر عليه ولكونهم بلا أب ولا أم
فإذا لم يستنكفوا من العبودية ولم يصر ذلك سببا لادعائهم الألوهية
فالمسيح أولى بذلك
وليس ذلك من الأفضلية التي نحن بصددها في شيء
الرابع قوله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته والمراد (3/462)
بكونهم عنده ليس القرب المكاني إذ لا مكان له تعالى
بل قرب الشرف والرتبة
أيضا فجعله أي جعل عدم استكبارهم عن عبادته دليلا على هذا الوجه وهو أنهم إذا لم يستكبروا فغيرهم أولى أن لا يستكبروا فذلك دليل أفضليتهم إذ مع التساوي أو المفضولية لا يحسن ذلك الاستدلال
والجواب المعارضة بقوله تعالى في حق البشر في مقعد صدق عند مليك مقتدر فيظهر حينئذ أن العندية تدل على الفضيلة دون الأفضلية والمعارضة بقول الرسول عن الله سبحانه وتعالى أنا عند المنكسرة قلوبهم وكم بين أن يكون عند الله ومن يكون الله عنده كما يشهد به الذوق السليم
وأما الاستدلال بعدم الاستكبار فبكونهم أقوى وأقدر على الأفعال لا بكونهم أفضل
الخامس إن الملائكة معلمو الأنبياء
قال تعالى علمه شديد القوى
وقال نزل به الروح الأمين على قلبك والمعلم أفضل من المتعلم
الجواب إنهم المبلغون
والمعلم هو الله
وإسناد التعليم إليهم من باب المجاز العقلي
السادس الملائكة رسل الله إلى الأنبياء والرسول أقرب إلى المرسل من المرسل إليه كالنبي إلى أمته
فتكون الملائكة أفضل
الجواب إن كان ما ذكرتم قاعدة كلية فيجب أن يكون واحد من آحاد الناس إذا أرسله ملك إلى ملك أفضل من الملك المرسل إليه
وهو باطل قطعا
السابع إطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء
والمفضول لا يقدم على سبيل الاطراد (3/463)
الجواب إن ذلك التقديم المطرد إنما هو بحسب ترتيب الوجود فإن الملائكة مقدمون في الوجود فجعل الوجود اللفظي مطابقا للوجود الحقيقي
أو بحسب ترتيب الإيمان
فإن وجود الملائكة أخفى
فالإيمان به أقوى فيكون تقديم ذكرهم أولى
المقصد التاسع في كرامات الأولياء
المتن وأنها جائزة عندنا واقعة خلافا للأستاذ أبي إسحق والحليمي منا
وغير أبي الحسين من المعتزلة
لنا أما جوازها فظاهر على أصولنا
وأما وقوعها فلقصة مريم وقصة آصف وقصة أصحاب الكهف
وشيء منها لم يكن معجزة لفقد شرطه
وهو مقارنة الدعوى والتحدي
احتج من لم يجوز الخوارق بما مر بجوابه
ومن جوزها وأنكر احتج بأنها لا تتميز عن المعجزة فلا تكون المعجزة دالة على النبوة وينسد باب إثباتها
والجواب إنها تتميز بالتحدي مع ادعاء النبوة وعدمه
الشرح
المقصد التاسع في كرامات الأولياء
وأنها جائزة عندنا خلافا لمن منع جواز الخوارق
واقعة خلافا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا وغير أبي الحسين من المعتزلة (3/464)
قال الإمام الرازي في الأربعين المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء
ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا
وأكثر أصحابنا يثبتونها
وبه قال أبو الحسين البصري من المعتزلة
لنا أما جوازها فظاهر على أصولنا
وهي أن وجود الممكنات مستند إلى قدرته الشاملة لجميعها فلا يمتنع شيء منها على قدرته ولا يجب غرض في أفعاله
ولا شك أن الكرامة أمر ممكن إذ ليس يلزم من فرض وقوعها محال لذاته
وأما وقوعها فلقصة مريم رضي الله عنها حيث حملت بلا ذكر ووجد الرزق عندها بلا سبب وتساقط عليها الرطب من النخلة اليابسة
وجعل هذه الأمور معجزات لزكريا أو إرهاصا لعيسى مما لا يقدم عليه منصف
وقصة آصف وهي إحضاره عرش بلقيس من مسافة بعيدة في طرفة عين
ولم يكن ذلك معجزة لسليمان عليه السلام إذ لم يظهر على يده مقارنا لدعواه النبوة
وقصة أصحاب الكهف وهي أن الله سبحانه وتعالى أبقاهم ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولم يكونوا أنبياء إجماعا وشيء منها أي من هذه الأمور الخارقة الواقعة في تلك القصص لم يكن معجزة لفقد شرطه كما أشرنا إليه وهو مقارنة الدعوى والتحدي
احتج من لم يجوز الخوارق أصلا بما مر بجوابه ومن جوزها وأنكر الكرامة احتج بأنها لا تتميز عن المعجزة فلا تكون المعجزة حينئذ دالة على النبوة وينسد باب إثباتها
والجواب إنها تتميز بالتحدي مع ادعاء النبوة في المعجزة وعدمه أي عدم التحدي مع ذلك الادعاء في الكرامة (3/465)
المرصد الثاني في المعاد
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إعادة المعدوم
المتن وهي جائزة عندنا خلافا للفلاسفة والتناسخية وبعض الكرامية وأبي الحسين البصري
لنا أنه لا يمتنع وجوده الثاني لذاته ولا للوازمه وإلا لم يوجد ابتداء
فإن قيل العود أخص من الوجود
ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص ولا من امتناع الأخص امتناع الأعم
قلنا الوجود أمر واحد لا يختلف ابتداء وإعادة
وكذلك الإيجاد
فإذا يتلازمان إمكانا ووجوبا وامتناعا
ولو جوزنا كون الشيء ممكنا في زمان ممتنعا في زمان آخر معللا بأن الوجود في الزمان الثاني أخص من الوجود مطلقا ومغاير للوجود في الزمان الأول بحسب الإضافة لجاز الانقلاب من (3/466)
الامتناع إلى الوجود
وفيه مخالفة لبديهية العقل وإغناء للحوادث عن المحدث وسد لباب إثبات الصانع
ويمكن أن يقال الإعادة أهون من الابتداء
وله المثل الأعلى
لأنه استفاد بالوجود الأول ملكة الاتصاف بالوجود
والخصم يدعي الضرورة تارة ويلتجىء إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا تخلل العدم بين الشيء ونفسه محال بالضرورة فيكون الوجود بعد العدم غير الوجود قبله فلا يكون المعاد هو المبتدأ بعينه
وأما الاستدلال فهو من وجوه
الأول إنما يكون المعاد معادا بعينه إذا أعيد بجميع عوارضه
ومنها الوقت فيلزم أن يعاد في وقته الأول
وكل ما وقع في وقته الأول فهو مبتدأ فيكون حينئذ مبتدأ من حيث أنه معاد
هذا خلف
الجواب إنما اللازم إعادة عوارضه المشخصة والوقت ليس منها ضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة هو الموجود قبلها بحسب الأمر الخارجي
وما يقال إنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان فأمر وهمي
والتغاير إنما هو بحسب الذهن دون الخارج
ويحكى أنه وقع هذا البحث لابن سينا مع أحد تلامذته وكان مصرا على التغاير فقال له إن كان الأمر على ما تزعم فلا يلزمني الجواب لأني غير من كان يباحثك
فبهت وعاد إلى الحق واعترف بعدم التغاير في الواقع
ولئن سلمنا أن الوقت داخل في العوارض وأنه معاد بوقته الأول فلم قلتم إن الواقع في وقته الأول يكون مبتدأ وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن وقته معادا معه (3/467)
الثاني لو فرضنا إعادته بعينه والله قادر على إيجاد مثله مستأنفا فلنفرضه موجودا
وحينئذ لا يتميز المعاد عن المستأنف ويلزم الإثنينية بدون الامتياز
وهو ضروري البطلان
الجواب منع عدم التمايز بل يتمايزان بالهوية كما يتمايز مبتدأ عن مبتدأ مع التماثل
وكل اثنين متمايزان بالهوية سواء كانا مبتدأين أو معادين أو أحدهما مبتدأ والآخر معادا
وأي اختصاص لهذا بالمبتدأ والمعاد
الثالث الحكم بأن هذا عين الأول يستدعي تميزه حال العدم وأنه محال
الجواب على أصل المعتزلة وهو كون المعدوم شيئا ظاهرا
وعلى أصلنا لأنا نمنع استدعاءه للتميز بل التميز إنما يحصل حال الإعادة وهو أمر وهمي لا حقيقة له
الشرح
المرصد الثاني في المعاد
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إعادة المعدوم فإن المعاد الجسماني يتوقف عليها عند من يقول بإعدام الأجسام دون من يقول بأن فناءها عبارة عن تفرق أجزائها واختلاط بعضها ببعض كما يدل عليه قصة إبراهيم عليه الصلاة و السلام في إحياء الطير
وهي جائزة عندنا وعند مشايخ المعتزلة
لكن عندهم المعدوم شيء
فإذا عدم الموجود بقي ذاته المخصوصة فأمكن لذلك أن يعادوا
وعندنا ينتفي بالكلية مع إمكان الإعادة خلافا للفلاسفة والتناسخية المنكرين للمعاد الجسماني وبعض (3/468)
الكرامية وأبي الحسين البصري ومحمود الخوارزمي من المعتزلة
فإن هؤلاء وإن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم ويقولون إعادة الأجسام هي جمع أجزائها المتفرقة كما نبهنا عليه
لنا في جواز الإعادة أنه لا يمتنع وجوده الثاني لذاته ولا للوازمه
وإلا لم يوجد ابتداء بل كان من قبيل الممتنعات لأن مقتضى ذات الشيء أو لوازمه لا يختلف بحسب الأزمنة وإذا لم يمتنع كذلك كان ممكنا بالنظر إلى ذاته وهو المطلوب
فإن قيل العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخص من الوجود المطلق
ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص
ولا من امتناع الأخص امتناع الأعم فجاز أن يمتنع وجوده بعد عدمه إما لذاته أو لازمه
ولا يمتنع وجوده مطلقا
قلنا الوجود أمر واحد في حد ذاته لا يختلف ذلك الواحد ابتداء وإعادة بحسب حقيقته وذاته بل بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيته وهو الزمان
وكذلك الإيجاد أمر واحد لا يختلف ابتداء وإعادة إلا بحسب تلك الإضافة فإذا يتلازمان أي الوجودان المبدأ والمعاد
وكذا الإيجادان إمكانا ووجوبا وامتناعا لأن الأشياء المتوافقة في المعية يجب اشتراكها في هذه الأمور المستندة إلى ذواتها
ولو جوزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة معللا أي ذلك الكون بأن الوجود في الزمان الثاني أخص من الوجود مطلقا ومغاير للوجود في الزمان الأول بحسب الإضافة
فلا يلزم من امتناع (3/469)
الوجود الثاني امتناع ما هو أعم منه أو امتناع ذلك المغاير لجاز الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معللا بأن الوجود في زمان أخص من الوجود المطلق ومغاير للوجود في زمان آخر فجاز أن يكون ذلك الأخص ممتنعا والمطلق أو المغاير واجبا
وفيه أي في التجويز الثاني اللازم للتجويز الأول مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأن الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان ويقتضي وجوده لذاته في زمان آخر لأن اقتضاء الذات من حيث هي هي لا يتصور انفكاكه عنها
وفيه غناء للحوادث عن المحدث لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة وواجبة لذواتها حال كونها موجودة
فلا حاجة بها إلى صانع يحدثها بل ذواتها كافية في حدوثها
وفيه سد لباب إثبات الصانع تعالى بالاستدلال عليه من مصنوعاته لما عرفت من استغناء الحوادث
ويمكن في إثبات جواز الإعادة أن يقال الإعادة أهون من الابتداء كما ورد في الكلام المجيد
وله المثل الأعلى لأنه أي ذلك المعدوم استفاد بالوجود الأول الذي كان قد اتصف به ملكه الاتصاف بالوجود فيقبل الوجود أسرع
وأشار باقتباس قوله تعالى وله المثل الأعلى إلى أن تلك الأهونية إنما هي بالقياس إلى القدرة الحادثة التي تتفاوت مقدوراتها مقيسة إليها
وأما القدرة القديمة فجميع مقدوراتها عندها على السوية لا يتصور هناك تفاوت بالأهونية
والخصم يدعي الضرورة تارة ويلتجىء إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا تخلل العدم بين الشيء ونفسه محال بالضرورة إذ لا بد للتخلل من طرفين متغايرين فيكون حينئذ الوجود بعد العدم غير الوجود قبله حتى يتصور تخلل العدم بينهما
وعلى هذا فلا يكون (3/470)
المعاد هو المبتدأ بعينه لأن كلا منهما موجودا بوجود مغاير لوجود صاحبه فهما موجودان متغايران فلا يكون الموجود الأول بعينه معادا بعد عدمه
والجواب أنه لا معنى لتخلل العدم ههنا سوى أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه ذلك الوجود في زمان آخر ثم اتصف به في زمان ثالث
ومن هذا تبين أن التخلل بحسب الحقيقة إنما هو لزمان العدم بين زماني الوجود الواحد
وإذا اعتبر نسبة هذا التخلل إلى العدم مجازا كفاه اعتبار التغاير في الوجود الواحد بحسب زمانيه على أن دعوى الضرورة في حكم خالفه جمهور من العقلاء غير مسموعة وأما الاستدلال فهو من وجوه
الأول إنما يكون المعاد معادا بعينه إذا أعيد بجميع عوارضه
ومنها الوقت الذي كان فيه مبتدأ
فيلزم أن يعاد في وقته الأول
وكل ما وقع في وقته الأول فهو مبتدأ فيكون حينئذ مبتدأ من حيث أنه معاد
هذا خلف
الجواب إنما اللازم في إعادة الشيء بعينه إعادة عوارضه المشخصة والوقت ليس منها ضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة هو بعينه الموجود قبلها بحسب الأمر الخارجي أي بحسب الأمر المعتبر وجوده في الخارج لا تفاوت ولا تغاير في ذلك
فلو كان الوقت من المشخصات المعتبرة في وجوده خارجا لكان هو في كل وقت شخصا آخر
وهو باطل قطعا
وما يقال أنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان فأمر وهمي والتغاير الذي يحكم به في هذه الصورة إنما هو بحسب الذهن والاعتبار دون الخارج (3/471)
ويحكى أنه وقع هذا البحث لابن سينا مع أحد تلامذته وكان ذلك التلميذ مصرا على التغاير بحسب الخارج بناء على أن الوقت من العوارض المشخصة
فقال ابن سينا له إن كان الأمر على ما تزعم فلا يلزمني الجواب لأني غير من كان يباحثك وأنت أيضا غير من كان يباحثني فبهت التلميذ وعاد إلى الحق واعترف بعدم التغاير في الواقع وبأن الوقت ليس من المشخصات
ولئن سلمنا أن هذا الوقت داخل في العوارض المشخصة وأنه أي المعدوم معاد بوقته الأول فلم قلتم إن الواقع في وقته الأول يكون مطلقا مبتدأ حتى يلزم كونه مبتدأ ومعادا معا
وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن وقته أيضا معادا معه وبعبارة أخرى الواقع في وقته الأول إنما يكون مبتدأ إذا لم يكن مسبوقا بحدوث آخر
أما إذا كان مسبوقا به فيكون معادا لا مبتدأ
الثاني لو أمكن الإعادة وفرضنا إعادته بعينه والله قادر على إيجاد مثله مستأنفا بلا شبهة فلنفرضه أيضا موجودا مع ذلك المعاد وحينئذ لا يتميز المعاد عن المستأنف ويلزم الإثنينية بدون الامتياز بين ذينك الاثنين وهو ضروري البطلان
الجواب منع عدم التمايز حينئذ بين المعاد والمستأنف المذكورين بل يتمايزان بالهوية أي بالعوارض المشخصة مع الاتحاد في الماهية كما يتمايز مبتدأ عن مبتدأ مع التماثل في الحقيقة
وكل اثنين متماثلين متمايزان بالهوية سواء كانا مبتدأين أو معادين أو أحدهما مبتدأ والآخر معادا
وأي اختصاص لهذا الذي ذكروه من المحال بالمبتدأ والمعاد بل هو جار في المبتدأين أيضا
فلو صح لزم امتناع وجود المبتدأ بعين ذلك الدليل (3/472)
فإن قيل المراد بالمثل المستأنف ما لا يتميز عن المعاد بوجه من الوجوه
قلنا إمكان وجوده بهذا المعنى ممنوع
إذ لا تعدد بلا تمايز
على أن النقض بالمبتدأ إذا فرض له مثل كذلك وارد
الثالث الحكم الصحيح بأن هذا الذي وجد الآن عين الأول يستدعي تميزه حال العدم
وأنه أي التميز حال العدم محال لأن النفي الصرف لا يتصور له تميز
وأما الشرطية فلأن صحة ذلك الحكم تستدعي اتصاف ذلك المعدوم حال عدمه بصحة العود إذ لو لم يتصف بصحة العود لما أمكن عوده
فلا يصح ذلك الحكم عليه
واتصافه بصحة العود يقتضي امتيازه
وإلا لم يكن ذلك الاتصاف أولى به من غيره
الجواب على أصل المعتزلة
وهو كون المعدوم شيئا أي أمرا ثابتا متقررا حال العدم ظاهر
لأن إبطال التالي حينئذ ممنوع
وما ذكر في بيانه مردود
والجواب على أصلنا منع الشرطية لأنا نمنع استدعاءه أي استدعاء ذلك الحكم وصحته للتميز في الخارج
فإن صحة العود صفة اعتبارية هي إمكان الوجود بعد زواله فلا يكون الاتصاف بها مقتضيا للامتياز الخارجي
بل التميز في الخارج إنما يحصل حال الاعادة
أعني زمان الوجود الثاني
وهو أي التميز الحاصل للمعدوم حال عدمه واتصافه بصحة العود أمر وهمي لا حقيقة له بحسب الخارج كالتميز الحاصل في الممكنات التي لم توجد بعد (3/473)
فإن قيل نحن ندعي لزوم هذا التميز
قلنا فبطلانه ممنوع حينئذ
لأن مثل هذا التميز حاصل للمعدومات الصرفة كالممتنعات
المقصد الثاني في حشر الأجساد
المتن أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه
وأنكرهما الفلاسفة
أما الجواز فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيها أمر ممكن كما مر
والله عالم بتلك الأجزاء قادر على جمعها وتأليفها لما بينا من عموم علمه وقدرته وصحة القبول والفعل توجب الصحة قطعا
وأما الوقوع فلأن الصادق أخبر عنه في مواضع لا تحصى بعبارات لا تقبل التأويل حتى صار معلوما بالضرورة كونه من الدين
وكل ما أخبر به الصادق فهو حق
احتج المنكر بوجهين
الأول لو أكل إنسان إنسانا بحيث صار المأكول جزءا منه فتلك الأجزاء إما أن تعاد فيهما وهو محال أو في أحدهما فلا يكون الآخر معادا بعينه
الجواب إن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية
وهي الباقية من أول العمر إلى آخره لا جميع الأجزاء
وهذه هي الآكل فضل
فإنا نعلم أن الإنسان باق مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه
الثاني لو حشر
فإما لا لغرض وهو عبث
وإما لغرض إما عائد إلى (3/474)
الله وهو منزه عنه أو إلى العبد وهو إما الإيلام وأنه منتف إجماعا وببديهة العقل لقبحه وعدم ملاءمته للحكمة والعناية
وإما الإلذاذ وهو أيضا باطل لأن اللذة إنما هو دفع الألم بالاستقراء
وأنه لو ترك لم يكن له ألم
والإيلام ليدفع فيلتذ لا يصلح غرضا إذ لا معنى له
الجواب نختار أنه لا لغرض
وحكاية العبث والقبح العقلي قد مر جوابه
ولا نسلم أن الغرض هو إما الإيلام أو الإلذاذ
ولعل فيه غرضا آخر لا نعلمه
سلمنا
لكن لا نسلم أن اللذة دفع الألم
غايته أن في دفع الألم لذة
وأما أنها ليست إلا هو فلا
ولم لا يجوز أن تكون أمرا آخر يحصل معه تارة ودونه أخرى سلمنا ذلك في اللذات الدنيوية فلم قلتم إن اللذات الأخروية كذلك ولم لا يجوز أن تكون اللذات الأخروية مشابهة للدنيوية صورة ومخالفة لها حقيقة
فتكون حقيقة هذه دفع الألم
وحقيقة تلك أمرا آخر
ولا مجال للوجدان والاستقراء فيها
تذنيب هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت ذلك ولا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل
وما يحتج به من قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه (3/475)
ضعيف فإن التفريق هلاك
فإن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه وزوال التأليف الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم منافعها والتفريق كذلك
الشرح
المقصد الثاني في حشر الأجساد
أجمع أهل الملل والشرائع عن آخرهم على جوازه ووقوعه
وأنكرهما الفلاسفة
أما الجواز فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيهما أمر ممكن لذاته كما مر وذلك أن الأجزاء المتفرقة المختلطة بغيرها قابلة للجمع بلا ريبة
وإن فرض أنها عدمت جاز إعادتها ثم جمعها وإعادة ذلك التأليف فيها لما عرفت من جواز إعادة المعدوم
والله سبحانه وتعالى عالم بتلك الأجزاء وأنها لأي بدن من الأبدان قادر على جمعها وتأليفها لما بينا من عموم علمه تعالى لجميع المعلومات وقدرته على جميع الممكنات وصحة القبول من القابل والفعل من الفاعل توجب الصحة أي صحة الوقوع وجوازه قطعا وذلك هو المطلوب
وأما الوقوع فلأن الصادق الذي علم صدقه بأدلة قاطعة أخبر عنه في مواضع لا تحصى بعبارات لا تقبل التأويل حتى صار معلوما بالضرورة كونه من الدين القويم والصراط المستقيم
فمن أراد تأويلها بالأمور الراجعة إلى النفوس الناطقة فقط فقد كابر بإنكار ما هو من ضرورات ذلك الدين وكل ما أخبر به الصادق فهو حق
احتج المنكر بوجهين
الأول لو أكل إنسان إنسانا بحيث صار المأكول أي بعضه جزءا منه أي من الآكل
فلو أعاد الله ذينك الإنسانين بعينهما فتلك الأجزاء التي كانت للمأكول ثم صارت للآكل إما أن تعاد فيهما أي في كل واحد (3/476)
منهما وهو محال لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه في آن واحد في شخصين متباينين
أو يعاد في أحدهما وحده فلا يكون الآخر معادا بعينه
والمقدر خلافه
فثبت أنه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها كما زعمتم
الجواب إن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية وهي الباقية من أول العمر إلى آخره لا جميع الأجزاء على الإطلاق
وهذه أي الأجزاء الأصلية التي كانت للإنسان المأكول في الآكل فضل
فإنا نعلم أن الإنسان باق مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه
وإذا كانت فضلا فيه لم يجب إعادتها في الآكل بل في المأكول
الثاني لو حشر فإما لا لغرض وهو عبث لا يتصور في أفعاله تعالى
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد وهو إما الإيلام وأنه منتف إجماعا من العقلاء وببديهة العقل أيضا
وذلك لقبحه وعدم ملاءمته للحكمة الإلهية والعناية الأزلية وإما الإلذاذ
وهو أيضا باطل
لأن اللذة الجسمانية لا حقيقة لها إنما هو دفع الألم بالاستقراء
وأنه لو ترك في حاله ولم يعد لم يكن له ألم
فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها وأما الإيلام أولا ليدفع ذلك الألم ثانيا فيلتذ بعدمه
فهو لا يصلح غرضا إذ لا معنى له كأن يمرض عبده ليدفعه عنه فيلتذ به
أي يعود إلى عدم المرض
الجواب نختار أنه لا غرض
وحكاية العبث والقبح العقلي قد مر جوابه
ولا نسلم أن الغرض هو إما الإيلام أو الإلذاذ ولعل فيه غرضا آخر لا نعلمه
سلمنا أن الغرض منحصر فيهما لكن لا نسلم أن اللذة الجسمانية (3/477)
لا حقيقة لها
وأنها دفع الألم
غايته أن في دفع الألم لذة
وأما أنها ليست إلا هو أي دفع الألم فلا دليل عليه
ولم لا يجوز أن تكون تلك اللذة أمرا آخرا يحصل معه أي مع دفع الألم تارة ودونه أخرى والدوران وجودا وعدما في بعض الصور لا ينافي ما ذكرناه
سلمنا ذلك في اللذات الدنيوية
فلم قلتم إن اللذات الجسمانية الأخروية كذلك أي دفع الألم
ولم لا يجوز أن تكون اللذات الأخروية مشابهة للدنيوية صورة ومخالفة لها حقيقة فتكون حقيقة هذه الدنيوية دفع الألم كما ادعيتم وحقيقة تلك الأخروية أمرا آخر وجوديا
ولا مجال للوجدان والاستقراء فيها أي في اللذات الأخروية حتى يدرك بهما حقيقتها كما أدركت حقيقة الدنيوية بهما على زعمكم
تذنيب هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت ذلك ولا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين
وما يحتج به على الإعدام من قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه ضعيف في الدلالة عليه لأن التفريق هلاك كالإعدام فإن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه وزوال التأليف الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم منافعها
والتفريق بالرفع عطفا على زوال يجري منه مجرى التفسير
وقوله كذلك خبر لهما أي زوال التأليف والتفريق خروج للشيء عن صفاته المطلوبة منه فيكون هلاكا
ومثله يسمى فناء عرفا
فلا يتم الاستدلال بقوله تعالى كل من عليها فان على الإعدام أيضا
واعلم أن الأقوال الممكنة في مسألة المعاد لا تزيد على خمسة
الأول ثبوت المعاد الجسماني فقط
وهو قول أكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة (3/478)
والثاني ثبوت المعاد الروحاني فقط
وهو قول الفلاسفة الإلهيين
والثالث ثبوتهما معا
وهو قول كثير من المحققين كالحليمي والغزالي والراغب وأبي زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور من متأخري الإمامية وكثير من الصوفية فإنهم قالوا الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة
وهي المكلف والمطيع والعاصي والمثاب والمعاقب
والبدن يجري منها مجرى الآلة
والنفس باقية بعد فساد البدن فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق به ويتصرف فيه كما كان في الدنيا
والرابع عدم ثبوت شيء منهما
وهذا قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين
والخامس التوقف في هذه الأقسام
وهو المنقول عن جالينوس فإنه قال لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج فينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البنية فيمكن المعاد حينئذ (3/479)
والمصنف قرر أولا مذهب القائلين بالمعاد الجسماني فقط ثم شرع في بيان مذهب القائلين بالمعاد الروحاني فقط بقوله
المقصد الثالث
المتن في حكاية مذهب الحكماء المنكرين لحشر الأجساد في أمر المعاد
قالوا النفس الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة
وهي موجودة بالفعل
فلو قبلت الفناء لكان للبسيط فعل وقوة
وأنه محال لأن حصول أمرين متنافيين لا يكون إلا في محلين متغايرين
وهو ينافي البساطة
ثم إنها إما جاهلة وإما عالمة
أما الجاهلة فتتألم بعد المفارقة أبدا
وذلك لشعورها بنقصانها نفصانا لا مطمع لها في زواله
وأما العالمة فإما لها هيئات رديئة اكتسبتها بملابسة البدن ومباشرة الرذائل المقتضاة للطبيعة وميلها إلى الشهوات أولا
فإن كانت تألمت بها ما دامت باقية فيها لكنها تزول عاقبة الأمر بحسب شدة رسوخها فيها وضعفه لأنها إنما حصلت لها للركون إلى البدن وجرتها محبتها له
وذلك مما ينسى بطول العهد به ويزول بالتدريج وإن لم تكن بل كانت كاملة بريئة عن الهيئات الرديئة التذت بها أبدا مبتهجة بإدراك كمالها
هذا ما عليه جمهورهم
وقال قوم منهم وهم أهل التناسخ إنما تبقى مجردة النفوس الكاملة التي أخرجت قوتها إلى الفعل
وأما الناقصة فإنها تتردد في الأبدان الإنسانية ويسمى نسخا
وقيل ربما تنازلت إلى الحيوانية ويسمى مسخا
وقيل إلى النباتية ويسمى رسخا
وقيل إلى الجمادية ويسمى فسخا
هذا في (3/480)
المتنازلة
وأما المتصاعدة فقد تتخلص من الأبدان لصيرورتها كاملة كما مر
وقد تتعلق ببعض الأجرام السماوية لبقاء حاجتها إلى الاستكمال ولا يخفى أن ذلك كله رجم بالظن بناء على قدم النفوس وتجردها
الشرح
المقصد الثالث في حكاية مذهب الحكماء المنكرين لحشر الأجساد في أمر المعاد الروحاني الذي هو عندهم عبارة عن مفارقة النفس عن بدنها واتصالها بالعالم العقلي الذي هو عالم المجردات وسعادتها وشقاوتها هناك بفضائلها النفسانية ورذائلها
قالوا النفس الناطقة لا تقبل الفناء أي العدم بعد وجودها
وذلك لأنها بسيطة لما مر في مباحث النفس
وهي موجودة بالفعل فلو قبلت الفناء لكان للبسيط الذي هو النفس حال كونها موجودة فعل بالنسبة إلى وجودها
وقوة أي قابلة بالنسبة إلى فنائها وفسادها
وأنه محال
لأن حصول أمرين متنافيين لا يكون إلا في محلين متغايرين
وهو ينافي البساطة
وتلخيصه أن الموجود بالفعل لا يكون هو بعينه متصفا بقابلية فنائه وفساده لأن القابل يجب بقاؤه مع حصول المقبول
ولا بقاء لذلك الموجود مع الفناء والفساد
فبين وجود شيء بالفعل وقابلية فنائه منافاة
فلا يجتمعان في بسيط
فلو اجتمعا في النفس الناطقة لكانت مركبة من جزئين يكون أحدهما قابلا لفسادهما بمنزلة المادة في الأجسام (3/481)
فإن قيل هي قبل حدوثها معدومة بالفعل وقابلة للوجود ولا يمكن اجتماعهما بمثل ما ذكرتموه ولم يلزم من ذلك تركبها
قلنا لأن المصنف بقابلية وجودها هو المادة البدنية الحاصلة عند حدوثها
فلا حاجة إلى إثبات مادة لجوهر النفس بخلاف ما نحن فيه
وإذا لم تقبل الناطقة الفناء كانت باقية بعد المفارقة
ثم إنها إما جاهلة جهلا مركبا وإما عالمة
أما الجاهلة فتتألم بعد المفارقة أبدا كالكافر عندنا
وذلك لشعورها بنقصانها نقصانا لا مطمع لها في زواله
وإنما لم تتألم قبل المفارقة لأنها لما كانت مشتغلة بالمحسوسات منغمسة في العلائق البدنية ولم تكن تعلقاتها صافية عن الشوائب العادية والظنون والأوهام الكاذبة لم تتنبه لنقصانها وفوت كمالاتها بل ربما تخيلت أضداد الكمال كمالا وفرحت بعقائدها الباطلة واشتاقت الوصول إلى معتقداتها
وإذا فارقت صفت تعلقاتها وشعرت بفوت كمالاتها وامتناع نيلها وحصول نفصاناتها شعورا لا يخفى فيه التباس
وأما العالمة فإما أن تكون لها هيآت رديئة اكتسبتها بملابسة البدن ومباشرة الرذائل المقتضاة للطبيعة وميلها إلى الشهوات أو لا
فإن كانت تلك الهيآت حاصلة لها تألمت بها تألما عظيما واشتاقت إلى مشتهياتها التي ألفت بها اشتياق العاشق المهجور الذي لم يبق له رجاء الوصول ما دامت تلك الهيآت باقية فيها لكنها تزول عاقبة الأمر بحسب شدة رسوخها فيها وضعفها لأنها إنما حصلت لها للركون إلى البدن وجرتها أي جرت وكسبت تلك الهيآت للنفس محبتها له أي للبدن وذلك مما ينسى بطول العهد به وتزول بالتدريج وتقطع عقوبتها بها كالمؤمن الفاسق على رأينا
وإن لم تكن تلك الهيآت للنفس بل كانت كاملة بريئة (3/482)
عن الهيآت الرديئة التذت بها أي بوجدان لذاتها كذلك أبدا مبتهجة بإدراك كمالها باقيا سرمدا كالمؤمن المتقي عندنا
وأما النفوس الساذجة التي غلبت عليها سلامة الصدور وقلة الاهتمام بأمور الدنيا فلا عقوبة لها لعدم شعورها بالكمالات وانتفاء اشتياقها إليها كغير المكلفين عندنا
فهذا ما عليه جمهورهم
وقال قوم منهم أي من الفلاسفة وهم أهل التناسخ إنما تبقى مجردة عن الأبدان النفوس الكاملة التي أخرجت قوتها إلى الفعل ولم يبق شيء من الكمالات الممكنة لها بالقوة فصارت طاهرة عن جميع العلائق الجسمانية وتخلصت إلى عالم القدس
وأما النفوس الناقصة التي بقي شيء من كمالاتها بالقوة فإنها تتردد في الأبدان الإنسانية وتنتقل من بدن إلى بدن آخر حتى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها فحينئذ تبقى مجردة مطهرة عن التعلق بالأبدان
ويسمى هذا الانتقال نسخا وقيل ربما تنازلت إلى الأبدان الحيوانية فتنتقل من البدن الإنساني إلى بدن حيواني يناسبه في الأوصاف كبدن الأسد للشجاع والأرنب للجبان ويسمى مسخا
وقيل ربما تنازلت إلى الأجسام النباتية
ويسمى رسخا
وقيل إلى الجمادية كالمعادن والبسائط أيضا ويسمى فسخا
قالوا وهذه التنازلات المذكورة هي مراتب العقوبات
وإليها الإشارة بما ورد من الدركات الضيقة في جهنم
هذا في المتنازلة
وأما المتصاعدة من مرتبة إلى ما هو أكمل منها فقد تتخلص من الأبدان كلها لصيرورتها كاملة في جميع صفاتها كما مر
وقد تتعلق ببعض الأجرام السماوية لبقاء حاجتها إلى الاستكمال
ولا يخفى أن ذلك كله رجم بالظن بناء على قدم النفوس وتجردها
وقد أبطلناهما
قال الإمام الرازي وأما القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني معا فقد أرادوا أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة
فقالوا دل العقل على أن سعادة الأرواح بمعرفة الله تعالى ومحبته وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات
والجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن لأن (3/483)
الإنسان مع استغراقه في تجلي أنوار عالم الغيب لا يمكنه الالتفات إلى شيء من اللذات الجسمانية
ومع استقرائه في استيفاء هذه اللذات لا يمكنه أن يلتفت إلى اللذات الروحانية
وإنما تعذر هذا الجمع لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم
فإذا فارقت بالموت واستمدت من عالم القدس والطهارة قويت وكملت
فإذا أعيدت إلى الأبدان مرة ثانية كانت قوية قادرة على الجمع بين الأمرين
ولا شبهة في أن هذه الحالة هي الغاية القصوى من مراتب السعادات
وأما المنكرون للمعاد مطلقا فهم الذين قالوا النفس هي المزاج
فإذا مات الإنسان فقد عدمت النفس
وإعادة المعدوم عندهم محال
وقالوا أيضا مسألة المعاد مبنية على أركان أربعة وذلك أن الإنسان هو العالم الصغير
وهذا العالم هو العالم الكبير والبحث عن كل واحد منهما إما عن تخريبه أو تعميره بعد تخريبه
فهذه مطالب أربعة
الأول كيفية تخريب العالم الصغير وهو بالموت
والثاني أنه تعالى كيف يعمره بعدما خربه وهو أنه يعيده كما كان حيا عاقلا ويوصل إليه الثواب والعقاب
والثالث أنه كيف يخرب هذا العالم الكبير أيخربه بتفريق الأجزاء أو بالإعدام والفناء
والرابع أنه كيف يعمره بعد تخريبه وهذا هو القول في شرح أحوال القيامة وبيان أحوال الجنة والنار
فهذا ضبط مباحث هذا الباب
والله أعلم بالصواب (3/484)
المقصد الرابع الجنة والنار هل هما مخلوقتان
المتن ذهب أصحابنا وأبو علي الجبائي وأبو الحسين البصري إلى أنهما مخلوقتان وأنكره أكثر المعتزلة وقالوا إنهما يخلقان يوم الجزاء
لنا وجهان
الأول قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة وإخراجهما عنها بالزلة على ما نطق به الكتاب
وإذا كانت الجنة مخلوقة فكذا النار إذ لا قائل بالفصل
الثاني قوله تعالى في صفتهما أعدت للمتقين أعدت للكافرين
بلفظ الماضي
وهو صريح في وجودهما
وأما المنكرون فتمسك عباد بدليل العقل وأبو هاشم بدليل السمع
قال عباد لو وجدتا فإما في عالم الأفلاك أو العناصر أو في عالم آخر
والثلاثة باطلة
أما الأول فلأن الأفلاك لا تقبل الخرق والالتئام
فلا يخالطها شيء من الكائنات الفاسدات
وأما الثاني فلأنه قول بالتناسخ
ولا تقولون به
وقد أبطل بدليله
وأما الثالث فلأن الفلك بسيط وشكله الكرة
ولو وجد عالم آخر لكان كرويا أيضا فينفرض بينهما خلاء
وأنه محال (3/485)
الجواب لا نسلم امتناع الخرق على الأفلاك
وقد تكلمنا على مأخذه
ولا نسلم أنه في عالم العناصر قول بالتناسخ
وإنما يكون كذلك لو قلنا بإعادتها في أبدان أخر
ولا نسلم أن وجود عالم آخر محال
وقد تكلمنا على ذلك فلا نعيده
احتج أبو هاشم بوجهين
الأول قوله تعالى أكلها دائم مع قوله كل شيء هالك إلا وجهه
فلو كانت مخلوقة وجب هلاك أكلها فلم يكن دائما
الجواب أكلها دائم بدلا
أي كلما فني منه شيء جيء ببدله
فإن دوام أكل بعينه غير متصور
وذلك لا ينافي هلاكه
أو نقول المراد أنه هالك في حد ذاته لضعف الوجود الإمكاني فالتحق بالهالك المعدوم
أو نقول إنهما تعدمان آنا ثم تعادان
وذلك كاف في هلاكهما
الثاني قوله تعالى عرضها السموات والأرض ولا يتصور ذلك إلا بعد فناء السموات والأرض لامتناع تداخل الأجسام
الجواب المراد أنها كعرض السموات والأرض لامتناع أن يكون عرضها عرضهما بعينه لا حال البقاء ولا بعد الفناء وللتصريح في آية أخرى بأن عرضها كعرض السموات والأرض
فيحمل هذا على تلك كما يقال أبو يوسف أبو حنيفة (3/486)
الشرح
المقصد الرابع الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أو لا
ذهب أصحابنا وأبو علي الجبائي وبشر بن المعتمر وأبو الحسين البصري إلى أنهما مخلوقتان وأنكره أكثر المعتزلة كعباد الضيمري وضرار ابن عمرو وأبي هاشم وعبد الجبار
وقالوا إنهما يخلقان يوم الجزاء
لنا وجهان
الأول قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة وإخراجهما عنها بالزلة على ما نطق به الكتاب
وإذا كانت الجنة مخلوقة فكذا النار إذ لا قائل بالفصل
الثاني قوله تعالى في صفتهما أعدت للمتقين أعدت للكافرين بلفظ الماضي
وهو صريح في وجودهما ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها شيئا كثيرا مما يدل على وجودهما دلالة ظاهرة
وأما المنكرون فتمسك عباد في استحالة كونهما مخلوقتين في وقتنا هذا بدليل العقل وأبوها هاشم بدليل السمع إذ ليس عنده للعقل دلالة على ذلك
قال عباد لو وجدتا فإما في عالم الأفلاك أو العناصر أو في عالم آخر
والأقسام الثلاثة باطلة (3/487)
أما الأول فلأن الأفلاك لا تقبل الخرق والالتئام فلا يخالطها شيء من الكائنات الفاسدات وهما على الوجه الذي يثبتونه من قبيل ما يتكون ويفسد
وأما الثاني فلأنه قول بالتناسخ لأن النفوس تعقلت حينئذ بأبدان موجودة في العناصر بعد أن فارقت أبدانا فيها وأنتم لا تقولون به
وقد أبطل أيضا بدليله
وأما الثالث فلأن الفلك بسيط وشكله الكرة
ولو وجد عالم آخر لكان كرويا أيضا فينفرض بينهما خلاء سواء تباينا أو تماسا وأنه محال
وأنت خبير بأن هذا دليل لمن ينكر وجودهما مطلقا لا لمن ينكر وجودهما في الحال فقط
الجواب لا نسلم امتناع الخرق على الأفلاك
وقد تكلمنا على مأخذه
ولا نسلم أنه في عالم العناصر قول بالتناسخ
وإنما يكون كذلك لو قلنا بإعادتها في أبدان أخر
ولا نسلم أن وجود عالم آخر محال
وقد تكلمنا على ذلك فلا نعيده
احتج أبو هاشم بوجهين
الأول قوله تعالى في وصف الجنة أكلها أي مأكولها دائم
ثم قوله كل شيء أي موجود هالك إلا وجهه
فلو كانت الجنة مخلوقة وجب هلاك أكلها لاندراجه حينئذ فيما حكم عليه بالهلاك فلم يكن دائما وهو باطل بالآية الأولى فتعين أنها ليست مخلوقة الآن فكذا النار
الجواب أكلها دائم بدلا
أي كلما فني منه شيء جيء ببدله
فإن دوام أكل بعينه غير متصور لأنه إذا أكل فقد فني وذلك أي دوام أكله على سبيل البدل لا ينافي هلاكه
أو نقول المراد بهلاك كل شيء أنه هالك في حد ذاته لضعف الوجود الإمكاني فالتحق بالهالك (3/488)
المعدوم
أو نقول إنهما أي الجنة والنار تعدمان آنا بتفريق الأجزاء دون إعدامها ثم تعودان بجمعها وذلك كاف في هلاكهما فتكونان دائمتين ذاتا هالكتين صورة في آن
الثاني قوله تعالى في وصف الجنة أيضا عرضها السموات والأرض ولا يتصور ذلك إلا بعد فناء السموات والأرض لامتناع تداخل الأجسام
الجواب المراد أنها أي عرضها كعرض السموات والأرض لامتناع أن يكون عرضها عرضهما بعينه لا حال البقاء ولا بعد الفناء إذ يمتنع قيام عرض واحد شخصي بمحلين موجودين معا أو أحدهما موجود والآخر معدوم
وللتصريح في آية أخرى بأن عرضها كعرض السموات والأرض فيحمل هذا على تلك كما يقال أبو يوسف أبو حنيفة
أي مثله
المقصد الخامس
المتن في فروع للمعتزلة على أصلهم في حكم العقل والإيجاب على الله والنظر ههنا في الثواب والعقاب
أما الثواب فأوجبه معتزلة البصرة لأن التكاليف الشاقة ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها
بيانه إنها إما لا لغرض
وهو عبث قبيح وإما لغرض عائد إلى الله
وهو منزه
أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وذلك إما تعذيبه وهو قبيح أو نفعه وهو المطلوب
الجواب منع وجوب الغرض
وقد مر مرارا
وأما العقاب ففيه بحثان (3/489)
البحث الأول أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة لوجهين
الأول أنه أوعد بالعقاب أو أخبر به
فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره
وأنه محال
الجواب غايته وقوع العقاب
فأين وجوبه
الثاني أنه إذا علم المذنب أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له على ذنبه وإغراء للغير عليه
وأنه قبيح مناف لمقصود الدعوة
الجواب منع تضمنه للتقرير والإغراء إذ شمول الوعيد وتعريض الكل للعقاب وظن الوفاء بالوعيد فيه من الزجر والردع ما لا يخفى
واحتمال العفو عن البعض احتمالا مرجوحا لا ينافي ذلك
البحث الثاني قالت المعتزلة والخوارج صاحب الكبيرة مخلد في النار ولا يخرج عنها أبدا
وعمدتهم أن الفاسق يستحق العقاب واستحقاق العقاب مضرة خالصة دائمة واستحقاق الثواب منفعة خالصة دائمة
والجمع بينهما محال
الجواب نمنع الاستحقاق ومنع قيد الدوام
ثم أنه قد يتساقطان ويدخل الجنة تفضلا كما قال تعالى الذي أحلنا دار المقامة من فضله أو يترجح جانب الثواب لأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها
والحسنة (3/490)
تجزى بعشر أمثالها إلى سبعمائة ويضاعف الله لمن يشاء
واستعانوا من النقل بوجهين
الأول بآيات تشعر بالخلود كقوله تعالى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقوله ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
وقوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
قالوا والخلود حقيقة في الدوام لقوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد مع أنه تعالى قد جعل لكثير منهم المكث الطويل
والجواب لا نسلم أن من له حسنات من الإيمان والطاعات فقد أحاطت به خطيئته
وأن من اكتسب كبيرة فقد تعدى حدوده بل بعض حدوده
والمراد من قتل مؤمنا لأنه مؤمن
ولا يكون ذلك القاتل إلا كافرا
سلمنا لكن الخلود هو المكث الطويل
وما ذكرتم معارض بما يقال حبس مخلد ووقف مخلد وخلد الله ملكه
والآية حملناها على الدوام لقرينة الحال
الثاني قوله وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين
ولو خرجوا عنها لكانوا غائبين عنها
الجواب عنها وعما قبلها في الوجه الأول المعارضة بالآيات الدالة على الوعد بالثواب نحو فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
وهو عندهم ينافي استحقاق العقاب
وإن سلمنا فيجب تخصيصها بالآيات الدالة (3/491)
على اختصاص العذاب بالكفار نحو قوله تعالى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى
وقوله إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
وقوله كلما ألقي فيها فوج إلى قوله فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء
واعلم أن اختصاص العذاب بالكفار مذهب مقاتل بن سليمان والمرجئة عملا بظاهر هذه الآيات لكنا نخصصها بالعذاب المؤبد جمعا بينها وبين الأدلة الدالة على وعيد الفساق
الشرح
المقصد الخامس في فروع للمعتزلة على أصلهم في حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها
والإيجاب على الله والنظر ههنا في الثواب والعقاب لا في أمور أخر أوجبوها عليه
أما الثواب فأوجبه معتزلة البصرة لأن التكاليف الشاقة ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها
بيانه أنها أي تلك التكاليف إما لا لغرض
وهو عبث قبيح فيستحيل صدوره عنه تعالى
وإما لغرض عائد إلى الله تعالى
وهو منزه عن ذلك لتعاليه عن الانتفاع والتضرر
أو إلى العبد
أما في الدنيا
وأنه أي الإتيان بها مشقة بلا حظ دنيوي
فإن العبادة عناء وتعب وقطع للنفس عن شهواتها
وأما في الآخرة وذلك إما تعذيبه عليها وهو قبيح جدا أو نفعه
وهو المطلوب
الجواب منع وجوب الغرض
وقد مر مرارا كثيرة
وأما العقاب ففيه بحثان (3/492)
الأول أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة
ولم يجوزوا أن يعفو الله عنه لوجهين
الأول أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به أي بالعقاب عليها
فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره
وأنه محال
الجواب غايته وقوع العقاب فأين وجوبه الذي كلامنا فيه إذ لا شبهة في أن عدم الوجوب مع الوقوع لا يستلزم خلفا ولا كذبا
لا يقال إنه يستلزم جوازهما
وهو أيضا محال لأنا نقول استحالته ممنوعة كيف وهما من الممكنات التي تشملها قدرته تعالى
الثاني أنه إذا علم المذنب أي المرتكب للكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه بل يعفى عنه لم ينزجر عن الذنب بل كان ذلك تقريرا له على ذنبه وعدم التوبة عنه
وكان إغراء للغير عليه
وأنه قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات
الجواب منع تضمنه أي تضمن عدم وجود العقاب للتقرير والإغراء إذ شمول الوعيد وتعريض الكل للعقاب
وظن الوفاء بالوعيد فيه من الزجر والردع ما لا يخفى واحتمال العفو عن البعض احتمالا مرجوحا لا ينافي ذلك يعني أن الوعيد عام يتناول كل واحد من المذنبين بظاهره الذي يقتضي ظن الوفاء به في حقه فيحصل لكل منهم الظن بكونه معاقبا بذنبه
وذلك كاف في زجر العاقل عن استقراره على ذنبه بعدم التوبة عنه وفي ردع غيره عن اقترافه
وأما توهم العفو الناشىء من عدم وجود العقاب فاحتمال (3/493)
مرجوح لا يعارض ظن العقاب المقتضي للانزجار فقد ظهر أن المذنب لا علم له بأنه لا يعاقب بل ولا يظن ذلك ظنا فلا تقرير ولا إغراء
البحث الثاني قالت المعتزلة والخوارج صاحب الكبيرة إذا لم يتب عنها مخلد في النار
ولا يخرج عنها أبدا
وعمدتهم في إثبات ما ادعوه دليل عقلي هو أن الفاسق يستحق العقاب بفسقه واستحقاق العقاب بل العقاب مضرة خالصة لا يشوبها ما يخالفها دائمة لا تنقطع أبدا واستحقاق الثواب بل الثواب منفعة خالصة عن الشوائب دائمة
والجمع بينهما أي بين استحقاقهما محال كما أن الجمع بينهما محال
فإذا ثبت للفاسق استحقاق العقاب وجب أن يزول عنه استحقاق الثواب فيكون عذابه مخلدا
الجواب منع الاستحقاق فإن المطيع لا يستحق بطاعته ثوابا والعاصي لا يستحق بمعصيته عقابا إذ قد ثبت أنه لا يجب لأحد على الله حق
وقد أجبنا عن دليل وجوب العقاب آنفا
ومنع قيد الدوام
لا يقال إذا كانت المضرة أو المنفعة منقطعة لم تكن خالصة لأنا نقول ذلك مممنوع لجواز أن يخلق الله تعالى في المثاب والمعاقب العلم بذلك الانقطاع
فلا يحصل للأول حزن ولا للثاني فرح على أن قيد الخلوص مما يتطرق إليه المنع أيضا وما يتمسك به من أنه لا بد من انفصالها عن مضار الدنيا ومنافعها ولا تنفصل إلا بالخلوص ضعيف
ثم أنا بعد تسليمنا لما ذكرتم من صفات الثواب والعقاب نقول إنه قد يتساقطان فإن كلامكم مبني على المحابطة
وحينئذ جاز أن يتساقط الاستحقاقان معا
ويدخل صاحب (3/494)
الكبيرة الجنة تفضلا كما قال تعالى حكاية عن أهل الجنة الذي أحلنا دار المقامة من فضله وما يقال من أنه يلزم حينئذ التسوية بين الجزاء والتفضل ممنوع لجواز أن يختلفا من وجه آخر
أو نقول بترجح جانب الثواب على جانب العقاب لأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها
والحسنة تجزى بعشر أمثالها إلى سبعمائة من الأمثال ويضاعف الله لمن يشاء أضعافا مضاعفة بغير حساب
واستعانوا بعد إقامة ذلك الدليل العقلي من النقل بوجهين
الأول بآيات تشعر بالخلود كقوله تعالى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
وقوله ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
وقوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
قالوا والخلود حقيقة في الدوام لقوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
مع أنه تعالى قد جعل لكثير منهم المكث الطويل فلو حمل الخلود على المكث الطويل لم تصدق هذه الآيات
والجواب لا نسلم أن من له حسنات من الإيمان والطاعات فقد أحاطت به خطيئته بل من أحاطت به خطيئته لا يكون له حسنة أصلا
ومن كانت له حسنات كانت خطيئته من بعض جوانبه لا محيطة به
ولا نسلم أن من اكتسب كبيرة فقد تعدى حدوده بل تعدى بعض حدوده
والمراد بالآية الثالثة من قتل مؤمنا لأنه مؤمن
ولا يكون ذلك القاتل إلا كافرا فالآيات المذكورة لا تتناول صاحب الكبيرة
سلمنا تناولها إياه لكن الخلود المذكور فيها هو المكث الطويل
وما ذكرتم من الاستدلال على أنه حقيقة في الدوام معارض بما يقال في الاستعمال الشائع حبس مخلده (3/495)
ووقف مخلد وخلد الله ملكه
والمراد طول المدة بلا شبهة
فالأولى حينئذ أن يجعل حقيقة في المكث الطويل سواء كان معه دوام أو لا احتراز عن لزوم المجاز أو الاشتراك
والآية المذكورة حملناها على الدوام الذي هو أحد قسمي المكث الطويل لقرينة الحال فلا يلزم مجاز لأن خصوصية ذلك القسم مستفادة من خارج لا مقصودة بنفس اللفظ
الثاني من الوجهين قوله تعالى وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين
ولو خرجوا عنها لكانوا غائبين عنها
الجواب عن هذه الآية وحدها أن لفظ الفجار لا يتناول إلا من هو كامل في فجوره
وهو الكافر كما يدل عليه قوله أولئك هم الكفرة الفجرة
وأيضا ظاهرها يقتضي كون الفجار في الجحيم في الحال
ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك
فوجب التأويل باستحقاق النار وعدم غيبتهم عن استحقاقها لكن الله أخرهم عنها برحمته مع اتصافهم بذلك الاستحقاق
والجواب عنها وعما قبلها من الآيات المذكورة في الوجه الأول المعارضة بالآيات الدالة على الوعد بالثواب نحو قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقوله ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
وقوله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فقد ثبت لصاحب الكبيرة بإيمانه وسائر ما يكون له من الحسنات استحقاق الثواب
وهو عندهم ينافي استحقاق العقاب فضلا عن كونه مخلدا في العقوبة فلا تكون تلك الآية عامة متناولة له
وإن سلمنا عمومها إياه فيجب تخصيصها بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار نحو قوله تعالى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى
وقوله إن الخزي اليوم (3/496)
والسوء على الكافرين
وقوله كلما ألقي فيها فوج . . إلى قوله فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء
واعلم أن اختصاص العذاب مطلقا بالكفار مذهب مقاتل بن سليمان من المفسرين ومذهب المرجئة عملا بظاهر هذه الآيات
لكنا نخصصها بالعذاب المؤبد جمعا بينها وبين الأدلة الدالة على وعيد الفساق
المقصد السادس
المتن في تقرير مذهب أصحابنا
وفيه مباحث
الأول قالوا الثواب فضل وعد به فيفي به من غير وجوب
لأن الخلف في الوعد نقص تعالى الله عنه والعقاب عدل
فله أن يتصرف فيه وله العفو عنه لأنه فضل
ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا عند العقلاء
الثاني أجمع المسلمون على أن الكفار مخلدون في النار أبدا لا ينقطع عذابهم
وأنكره طائفة لوجوه
الأول أن القوة الجسمانية كما تقدم متناهية
فلا بد من فنائها
الجواب منع تناهيها
وقد مر
الثاني دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل
الجواب هذا بناء على شرط البنية واعتدال المزاج
ولا نقول به
بل هي بخلق الله تعالى
وقد يخلقها دائما أبدا أو يخلق في الحي قوة لا يخرب معها بنيته بالنار كما خلقها في السمندر وهو حيوان مأواه النار (3/497)
الثالث النار يجب إفناؤها الرطوبة بالتجربة قليلا قليلا فتنتهي بالآخرة إلى عدمها وتتفتت الأجزاء فلا تبقى الحياة
الجواب فناء الرطوبة بالنار غير واجب عندنا بل هو بإفناء الله تعالى أو يفنيها ويخلق بدلها مثلها
قال الجاحظ والعنبري هذا في الكافر المعاند
وأما المبالغ في اجتهاده إذ لم يهتد للإسلام ولم تلح له دلائل الحق فمعذور وكيف يكلف بما ليس في وسعه ويعذب بما لم يقع فيه تقصير من قبله
واعلم أن الكتاب والسنة والإجماع يبطل ذلك إذ يعلم قطعا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود
ومنهم من بقي على الشك بعد إفراغ الوسع
لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام
ولم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق
الثالث غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار لقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فإما أن يكون ذلك قبل دخول النار وهو باطل بالإجماع أو بعد خروجه عنها
وفيه المطلوب
الشرح
المقصد السادس في تقرير مذهب أصحابنا في الثواب والعقاب وما يتعلق بهما وفيه مباحث (3/498)
الأول قالوا الثواب فضل من الله تعالى وعد به فيفي به من غير وجوب
لأن الخلف في الوعد نقص تعالى الله عنه
وأما عدم الوجوب فلما مر مرارا
وقالوا العقاب عدل من الله لأن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه كما يشاء وله العفو عنه لأنه فضل
ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا بل يمدح به عند العقلاء
المبحث الثاني أجمع المسلمون على أن الكفار مخلدون في النار أبدا لا ينقطع عذابهم سواء بالغوا في الاجتهاد والنظر في معجزة الأنبياء ولم يهتدوا أو علموا نبوتهم وعاندوا أو تكاسلوا
وأنكره أي تخليدهم في النار طائفة خارجة عن الملة الإسلامية لوجوه
الأول أن القوة الجسمانية كما تقدم متناهية في العدة والمدة فلا بد من فنائها
وإذا فنيت قوة الحياة وما يتبعها من الحس والحركة ولم يبق إحساس فلا يتصور عذاب
وهذه الشبهة بعينها جارية في انقطاع نعيم أهل الجنة
الجواب منع تناهيها
وقد مر فساد ما يتمسك به في إثبات ذلك التناهي
الثاني من تلك الوجوه دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل
الجواب هذا بناء على اعتبار شرط البنية واعتدال المزاج في الحياة
ونحن لا نقول به
بل هي أي الحياة بخلق الله تعالى
وقد يخلقها دائما أبدا
أو يخلق في الحي قوة لا يخرب معها بنيته بالنار مع (3/499)
كونه متأذيا بها كما خلقها في السمندر مع عدم التأذي بها وهو حيوان مأواه النار
الثالث منها النار يجب إفناؤها الرطوبة بالتجربة قليلا قليلا فتنتهي الحال بالآخرة إلى عدمها لكونها متناهية وحينئذ تتفتت الأجزاء التي كانت متماسكة بتلك الرطوبة فلا تبقى الحياة
فلا يدوم العقاب
الجواب فناء الرطوبة بالنار غير واجب عندنا بل هو بإفناء الله تعالى إياها بقدرته
وقد لا يفنيها
أو يفنيها ويخلق بدلها مثلها فلا تتفتت الأجزاء بل تدوم الحياة
قال الجاحظ وعبد الله بن الحسن العنبري هذا الذي ذكرناه من دوام العذاب إنما هو في حق الكافر المعاند والمقصر وأما المبالغ في اجتهاده إذا لم يهتد للإسلام ولم تلح له دلائل الحق فمعذور وعذابه منقطع
وكيف يكلف مثل هذا الشخص بما ليس في وسعه من تصديق النبي يعذب بما لم يقع فيه تقصير من قبله
واعلم أن الكتاب والسنة والإجماع المنعقد قبل ظهور المخالفين يبطل ذلك بل نقول هو مخالف لما علم من الدين ضرورة إذ يعلم قطعا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود
ومنهم من بقي على الشك بعد إفراغ الوسع لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام فلم يهتدوا إلى حقيقته
ولم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق الذي ذكره الجاحظ والعنبري (3/500)
المبحث الثالث غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار لقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ولا شك أن مرتكب الكبيرة قد عمل خيرا هو إيمانه
فإما أن يكون ذلك أي رؤيته للخير قبل دخول النار ثم يدخل النار وهو باطل بالإجماع أو بعد خروجه عنها وفيه المطلوب وهو خروجه عن النار وعدم خلوده فيها
المقصد السابع
المتن في الإحباط
بنى المعتزلة على استحاق العقاب ومنافاته للثواب إحباط الطاعات بالمعاصي
ثم اختلفوا فقال جمهور المعتزلة بمعصية واحدة تحبط جميع الطاعات حتى أن من عبد الله طول عمره ثم شرب جرعة خمر فهو كمن لم يعبده أبدا
ولا يخفى فساده
وقال الجبائي يحبط من الطاعات بقدر المعاصي
فإن بقي له زائد أثيب به
وإلا فلا
ولا يخفى أنه تحكم
وليس إبطال الطاعات بالمعاصي أولى من العكس بل العكس أولى لما مر
وقال أبو هاشم بل يوازن بين طاعاته ومعاصيه فأيهما رجح أحبط الآخر
ولما أبطلنا الأصل بطل الفرع
ثم نقول لهم كل واحد من الاستحقاقين لو أبطل الآخر فإما معا فيكون الشيء موجودا حال كونه معدوما أو لا
بل ينعدم أحدهما فيبطل الآخر ثم يكر عليه فيغلبه وأنه باطل لأنه كان قاصرا عن الغلبة قبل حتى صار مغلوبا فكيف إذا صار مغلوبا (3/501)
تذنيب قد اتفق المعتزلة على أنه لا يتساوى الثواب والعقاب
وإلا تساقطا
فلا يكون ثمة ثواب ولا عقاب
وأنه محال
فعند الجبائي عقلا وعند أبي هاشم للإجماع على أن لا خروج عنهما
والجواب لم لا يجوز أن يثاب لما مر من أن جانب الثواب أرجح
ولجواز التفضل
ويجوز أن لا يثاب ولا يعاقب ويكون من أهل الأعراف كما ورد به الحديث الصحيح
ويجوز أن يجمع له بين الثواب والعقاب كما يرى أحدنا يدوم له غمه وفرحه وألمه ولذته كذلك لا يخلص له أحدهما
الشرح
المقصد السابع في الإحباط
بنى المعتزلة على استحقاق العقاب ومنافاته للثواب واستحقاقه إحباط الطاعات بالمعاصي
ثم اختلفوا فقال جمهور المعتزلة والخوارج أيضا بمعصية أي بكبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات حتى أن من عبد الله طول عمره ثم شرب جرعة خمر فهو كمن (3/502)
لم يعبده أبدا
ولا يخفى فساده لأنه إلغاء للطاعات بالكلية ومناف للعمومات الدالة على ثواب الإيمان والعمل الصالح
قال الآمدي إذا اجتمع في المؤمن طاعات وزلات فإجماع أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم أنه لا يجب على الله ثوابه ولا عقابه
فإن أثابه فبفضله
وإن عاقبه فبعدله
بل له إثابة العاصي وعقاب المطيع أيضا
وذهبت المرجئة إلى أن الإيمان يحبط الزلات فلا عقاب على زلة مع الإيمان كما لا ثواب لطاعة مع الكفر
وقالت المعتزلة إن كبيرة واحدة تحبط ثواب جميع الطاعات وإن زادت على زلاته
وذهب الجبائي وابنه إلى رعاية الكثرة في المحبط
وزعما أن من زادت طاعاته على زلاته أحبطت عقاب زلاته وكفرتها
ومن زادت زلاته على طاعاته أحبطت ثواب طاعاته ثم اختلفا فقال الجبائي إذا زادت الطاعات أحبطت الزلات بأسرها من غير أن ينقص من ثواب الطاعات شيء
وإذا زادت أحبطت الطاعات برمتها من غير أن ينقص من عقاب الزلات شيء
وقال الإمام الرازي مذهب الجبائي أن الطارىء من الطاعات أو المعصية يبقى بحاله ويسقط من السابق بقدره
ومذهب ابنه أنه يقابل أجزاء الثواب بأجزاء العقاب فيسقط المتساويان ويبقى الزائد
وعلى هذا يحمل قوله وقال الجبائي يحبط من الطاعات أي السابقة بقدر المعاصي الطارئة من غير أن ينقص من المعاصي شيء أصلا
فإن بقي له من تلك الطاعات زائد على قدر المعاصي أثيب به
وإلا فلا
ولا يخفى أنه تحكم
وليس إبطال الطاعات بالمعاصي أي إبطال قدر من الطاعات السابقة بمساويه من المعاصي الطارئة أولى من العكس لأنه إبطال أحد المتساويين بالآخر
بل العكس ههنا أولى لما مر من أن الحسنة تجزى بعشر أمثالها والسيئة لا تجزى إلا بمثلها (3/503)
وقال أبو هاشم بل يوازن بين طاعاته ومعاصيه فإيهما رجح أحبط الآخر وينحبط من الراجح أيضا ما يساوي مقدار المرجوح ويبقى الزائد فيكون الراجح حينئذ قد أحبط المرجوح على هذا الوجه الذي لا يستلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر
ولما أبطلنا الأصل الذي هو استحقاق العقاب والثواب بالمعصية والطاعة بطل الفرع المبني عليه وهو الإحباط مطلقا سواء كان بطريق الموازنة أو غيرها
ثم نقول لهم أي للبهشمية كل واحد من الاستحقاقين المتساويين لو أبطل الآخر فإما معا فيكون الشيء موجودا حال كونه معدوما لأن وجود كل منهما يقارن عدم الآخر فيلزم عدمهما معا حال وجودهما معا أو لا معا بل ينعدم أحدهما فيبطل الآخر ثم يكر الآخر عليه فيغلبه
وأنه باطل لأنه لما كان قاصرا عن الغلبة قبل حتى صار مغلوبا فكيف لا يكون قاصرا عنها إذا صار مغلوبا وقد يجاب بأن كل واحد من العلمين يؤثر في الاستحقاق الناشىء من الآخر حتى يبقى من أحد الاستحقاقين بقية بحسب رجحانه
فليس الكاسر والمنكسر واحدا كما لم يتحدا في المزاج أيضا
تذنيب قد اتفق المعتزلة أي الجبائيان وأتباعهما على أنه لا يتساوى الثواب والعقاب أي لا يتساوى الطاعات والزلات
وإلا تساقطا إذ لا يجوز بقاؤهما معا لما مر من التنافي بين الثواب والعقاب وبين استحقاقيهما أيضا
ولا يجوز إسقاط أحدهما بالآخر لتساويهما فرضا
وإذا تساقطا معا فلا يكون (3/504)
ثمة ثواب ولا عقاب
وأنه محال
فعند الجبائي عقلا لأن إبطال كل منهما للآخر إما معا أو على التعاقب
وكلاهما محال لما عرفت
وعند أبي هاشم أن العقل لا يدل على امتناع التساوي إذ ما من مرتبة من مراتب الطاعات إلا ويجوز العقل بلوغ المعاصي إليها
وبالعكس
ولا استحالة من جهة العقل في تساقطهما أيضا لأن كل واحد من العملين يؤثر في استحقاق الآخر كما مر
إنما استحالته للإجماع على أن لا خروج للمكلف عنهما بل كل مكلف إما من أهل الجنة أو النار
ولا بد له من الخلود في إحديهما
ولا يتصور وقوع أحد الخلودين مع التساوي في الموجب
وإنما فسرنا المعتزلة بالجبائيين وأتباعهما لما سلف من أن جمهورهم ذهبوا إلى إحباط جميع الطاعات بمعصية واحدة
وحينئذ فإحباط المعصية للطاعة المساوية لها يكون عندهم أولى
والجواب لم لا يجوز على تقدير تساوي الطاعات والمعاصي أن يثاب لما مر من أن جانب الثواب أرجح فإن الحسنة تجزى بعشر أمثالها والسيئة لا تجزى إلا بمثلها
وأيضا على تقدير التساوي والتساقط معا لا يلزم خلو المكلف عن الثواب والعقاب لجواز التفضل بالثواب عندنا
ويجوز أيضا أن لا يثاب ولا يعاقب
ولا يكون من أهل الجنة ولا النار بل يكون أي من استوت طاعاته ومعاصيه من أهل الأعراف كما ورد به الحديث الصحيح
ويجوز أيضا أن يجمع له بين الثواب والعقاب كما يرى أحدنا يدوم له غمه من جهة وفرحه من جهة أخرى ويدوم له ألمه ولذته
كذلك لا يخلص له أحدهما في حياته الدنيا
ولا نسلم أن الخلوص معتبر في حقيقة الثواب والعقاب (3/505)
المقصد الثامن
المتن في أن الله يعفو عن الكبائر
الإجماع على أنه عفو
فقالت المعتزلة عفو عن الصغائر قبل التوبة وعن الكبائر بعدها
لنا وجهان
الأول أن العفو من لا يعذب على الذنب مع استحقاقه
ولا يقولون به في غير صورة النزاع
الثاني الآيات الدالة عليه نحو قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
و إن الله يغفر الذنوب جميعا
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
الشرح
المقصد الثامن في أن الله تعالى يعفو عن الكبائر
الإجماع منعقد على أنه تعالى عفو
وأن عفوه ليس في حق الكافر بل في حق المؤمن
فقالت المعتزلة هو عفو عن الصغائر قبل التوبة
وعن الكبائر بعدها
وقالت المرجئة عفو عن الصغائر والكبائر مطلقا لما عرفت من مذهبهم
وذهب جمهور أصحابنا إلى أنه يعفو عن بعض الكبائر مطلقا ويعذب ببعضها
إلا أنه لا علم لنا الآن بشيء من هذين البعضين بعينه (3/506)
وقال كثير منهم لا نقطع بعفوه عن الكبائر بلا توبة بل نجوزه
لنا على ما اختاره جمهورنا وجهان
الأول أن العفو من لا يعذب على الذنب مع استحقاقه أي استحقاق العذاب
ولا يقولون يعني المعتزلة به أي بذلك الاستحقاق في غير صورة النزاع إذ لا استحقاق بالصغائر أصلا ولا بالكبائر بعد التوبة
فلم يبق إلا الكبائر قبلها فهو يعفو عنها كما ذهبنا إليه
الثاني الآيات الدالة عليه أي على العفو عن الكبيرة قبل التوبة نحو قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن ما عدا الشرك داخل فيه
ولا يمكن التقييد بالتوبة لأن الكفر مغفور معها
فيلزم تساوي ما نفي عنه الغفران وما ثبت له
وذلك مما لا يليق بكلام عاقل
فضلا عن كلام الله تعالى
وقوله إن الله يغفر الذنوب جميعا فإنه عام للكل
فلا يخرج عنه إلا ما أجمع عليه
وقوله تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم والتقرير ما ذكرناه آنفا إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة (3/507)
المقصد التاسع
المتن في شفاعة محمد
أجمع الأمة على أصل الشفاعة
وهي عندنا لأهل الكبائر من الأمة لقوله شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
ولقوله تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات
أي ولذنب المؤمنين لدلالة القرينة
وطلب المغفرة شفاعة
وقالت المعتزلة إنما هي لزيادة الثواب لا لدرء العقاب لقوله تعالى واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة
وهو عام في شفاعة النبي وغيره
الجواب إنه لا عموم له في الأعيان لأن الضمير لقوم معينين فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم
ولا في الزمان لأنه لوقت مخصوص
فلا يلزم عدم نفعها في غير ذلك الوقت
الشرح
المقصد التاسع في شفاعة محمد
أجمع الأمة على ثبوت أصل الشفاعة المقبولة له
ولكن هي عندنا لأهل الكبائر من الأمة في إسقاط العقاب عنهم لقوله شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
فإنه حديث (3/508)
صحيح
ولقوله تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات أي ولذنب المؤمنين لدلالة القرينة السابقة
وهي ذكر الذنب وسيأتيك في بيان حقيقة الإيمان أن مرتكب الكبيرة مؤمن
وطلب المغفرة لذنب المؤمن شفاعة له في إسقاط عقابه عنه
وقالت المعتزلة إنما هي لزيادة الثواب لا لدرء العقاب لقوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة وهو عام في شفاعة النبي
الجواب إنه لا عموم له في الأعيان لأن الضمير لقوم معينين هم اليهود
فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم
ولا عموم له في الزمان أيضا لأنه لوقت مخصوص هو اليوم المذكور فيه
فلا يلزم عدم نفعها في غير ذلك الوقت
وفيه بحث لأن الضمير في قوله ولا تنفعها راجع إلى النفس الثانية وهي نكرة في سياق النفي فتكون عامة
وإن كانت واردة على سبب خاص
والإمام الرازي
بعدما أورد شبهات المعتزلة في إثبات ما ادعوه
قال والجواب عنها إجمالا أن يقال دلائلكم في نفي الشفاعة لا بد أن تكون عامة في الأشخاص والأوقات
ودلائلنا في إثباتها لا بد أن تكون خاصة فيهما لأنا لا نثبت الشفاعة في حق كل شخص ولا في جميع الأوقات
والخاص مقدم على العام
فالترجيح معنا
وأما الأجوبة المفصلة فمذكورة في التفسير الكبير
المقصد العاشر في التوبة
وفيه بحثان
المتن
الأول في حقيقتها
وهي الندم على معصية من حيث هي معصية مع (3/809)
عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها
فقولنا من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع ونزف العقل والإخلال بالمال والعرض لم يكن تائبا
وقولنا مع عزم أن لا يعود إليها زيادة تقرير لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك
ولذلك ورد في الحديث الندم توبة
وقولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا وانقطع طمعه عن عودة القدرة إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه
الثاني في أحكامها
الأول الزاني المجبوب إذا ندم على الزنا وعزم أن لا يعود إليه على تقدير القدرة فهل يكون ذلك توبة منعه أبو هاشم
وقال به الآخرون
والمأخذ واضح
الثاني إن قلنا لا يقبل فمن تاب لمرض مخيف فهل يقبل لوجود التوبة أم لا لأنه ليس باختياره كالإيمان عند اليأس
الثالث شرط المعتزلة فيها أمورا ثلاثة
رد المظالم
وأن لا يعاود ذلك الذنب
وأن يستديم الندم وهي عندنا غير واجبة فيها
أما رد المظالم فواجب برأسه لا مدخل له في الندم على ذنب آخر (3/510)
وأما أن لا يعاود أصلا فلأن الشخص قد يندم على الأمر زمانا ثم يبدو له
والله مقلب القلوب
وأما استدامته للندم فلأن الشارع أقام الحكمي مقام ما هو حاصل بالفعل كما في الإيمان ولما في التكليف بها من الحرج المنفي عن الدين
الرابع لهم في التوبة المؤقتة مثل أن لا يذنب سنة
والمفصلة نحو أن يتوب عن الزنا دون شرب الخمر خلاف مبني على أن الندم إذا كان لكونه ذنبا عم الأوقات والذنوب
الخامس أنهم أوجبوا قبول التوبة على الله بناء على أصلهم الفاسد
السادس الظاهر أن التوبة طاعة فيثاب عليها لأنها مأمور بها
قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون
والأمر ظاهر في الوجوب لكنه غير قاطع لجواز أن يكون رخصة وإيذانا بقبولها ودفعا للقنوط لقوله تعالى لا تقنطوا من رحمة الله لا تيأسوا من روح الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
الشرح
المقصد العاشر في التوبة
وفيه بحثان
الأول في حقيقتها وهي في اللغة الرجوع
قال الله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا
أي رجع عليهم بالتفضل والإنعام ليرجعوا إلى الطاعة والانقياد
وفي الشرع الندم على معصية من حيث هي معصية مع عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها
فقولنا الندم لما سيأتي من الحديث
وقولنا على معصية (3/511)
لأن الندم على فعل لا يكون معصية بل مباحا لا يسمى توبة
وقولنا من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع ونزف العقل أي خفته وطيشه والإخلال بالمال والعرض لم يكن تائبا شرعا
وقولنا مع عزم أن لا يعود إليها زيادة تقرير لما ذكر أولا
وذلك لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك
ولذلك ورد في الحديث الندم توبة
واعترض عليه بأن النادم على فعل في الماضي قد يريده في الحال أو الاستقبال
فهذا القيد احتراز عنه
وما ورد في الحديث محمول على الندم الكامل
وهو أن يكون مع العزم علىعدم العود أبدا
ورد بأن الندم على المعصية من حيث هي معصية يستلزم ذلك العزم كما لا يخفى
وقولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا وانقطع طمعه عن عود القدرة إليه إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه وفيه بحث
لأن قوله إذا قدر ظرف لترك الفعل المستفاد من قوله لا يعود
وإنما قيد به لأن العزم على ترك الفعل في وقت إنما يتصور ممن قدر على ذلك الفعل وتركه في ذلك الوقت
ففائدة هذا القيد أن العزم علىالترك ليس مطلقا حتى لا يتصور ممن سلب قدرته وانقطع طمعه بل هو مقيد بكونه على تقدير فرض القدرة وثبوتها فيتصور ذلك العزم من المسلوب أيضا
ويؤيد ما قررناه قول الآمدي حيث قال وإنما قلنا عند كونه أهلا لفعله في المستقبل احترازا عما إذا زنى ثم جب أو كان مشرفا على الموت فإن العزم على ترك الفعل في المستقبل غير متصور منه لعدم تصور الفعل منه
ومع ذلك فإنه إذا ندم على ما فعل صحت توبته بإجماع السلف
وقال أبو هاشم الزاني إذا جب لا تصح توبته لأنه عاجز عنه
وهو باطل بما إذا تاب عن الزنا وغيره وهو في مرض مخيف
فإن توبته صحيحة (3/512)
بالإجماع وإن كان جاز ما يعجزه عن الفعل في المستقبل
هذه عبارته
وأيضا فقول المصنف لم يكن ذلك توبة منه يدل على أنه مختار الكل أو الأكثر فينافيه ما صرح به من أن توبة المجبوب صحيحة عند غير أبي هاشم فتدبر
البحث الثاني في أحكامها
الأول الزاني المجبوب أي الذي زنى ثم جب إذا ندم على الزنا وعزم أن لا يعود إليه على تقدير القدرة فهل يكون ذلك توبة منه منعه أبو هاشم وزعم أنه لا يتحقق منه حقيقة العزم على عدم الفعل في المستقبل إذ لا قدرة له على الفعل فيه
وقال به الآخرون بناء على أنه يكفي لتلك الحقيقة تقدير القدرة والمأخذ في هذين القولين واضح كما ذكرناه
الثاني من تلك الأحكام إن قلنا لا يقبل ندم المجبوب فمن تاب عن معصية لمرض مخيف فهل يقبل ذلك منه لوجود التوبة أم لا لم يقبل لأنه ليس باختياره بل بإلجاء الخوف إليه فيكون كالإيمان عند اليأس وظهور ما يلجئه إليه فإنه غير مقبول إجماعا
والترديد الذي ذكره المصنف في توبة المرض المخيف مناف لما نقله الآمدي من الإجماع على القبول كما مر
الثالث منها شرط المعتزلة فيها أي في التوبة أمور ثلاثة
أولها رد المظالم
فإنهم قالوا شرط صحة التوبة عن مظلمة الخروج عن تلك المظلمة
وثانيها أن لا يعاود ذلك الذنب الذي تاب عنه
أي ذنب كان (3/513)
وثالثها أن يستديم الندم على الذنب المتوب عنه في جميع الأوقات وهي عندنا غير واجبة فيها أي في صحة التوبة
أما رد المظالم والخروج عنها برد المال أو الاستبراء عنه أو الاعتذار إلى المغتاب واسترضائه إن بلغه الغيبة ونحو ذلك فواجب برأسه لا مدخل له في الندم على ذنب آخر
قال الآمدي إذا أتى بالمظلمة كالقتل والضرب مثلا فقد وجب عليه أمران التوبة
والخروج عن المظلمة
وهو تسليم نفسه مع الإمكان ليقتص منه
ومن أتى بأحد الواجبين لم تكن صحة ما أتى به متوقفة على الإتيان بالواجب الآخر
كما لو وجب عليه صلاتان فأتى بإحديهما دون الأخرى
وأما أن لا يعاود أصلا إلى ما تاب عنه فلأن الشخص قد يندم على الأمر زمانا ثم يبدو له
والله تعالى مقلب القلوب من حال إلى حال
قال الآمدي التوبة مأمور بها فتكون عبادة
وليس من شرط صحة العبادة المأتي بها في وقت عدم المعصية في وقت آخر بل غايته أنه إذا ارتكب ذلك الذنب مرة ثانية وجب عليه توبة أخرى عنه
وأما استدامة الندم في جميع الأزمنة فلأن النادم إذا لم يصدر عنه ما ينافي ندمه كان ذلك الندم في حكم الباقي لأن الشارع أقام الحكمي أي الأمر الثابت حكما مقام ما هو حاصل بالفعل كما في الإيمان
فإن النائم مؤمن بالاتفاق ولما في التكليف بها أي باستدامة الندم من الحرج المنفي عن الدين
قال الآمدي يلزم من ذلك اختلال الصلوات وباقي العبادات وأن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا
وأن تجب عليه إعادة التوبة
وهو خلاف الإجماع
قال ومهما صحت التوبة ثم تذكر الذنب لم يجب عليه تجديد (3/514)
التوبة خلافا لبعض العلماء
وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ومن أسلم بعد كفره كانوا يتذاكرون ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر ولا يجددون الإسلام ولا يؤمرون به
فكذلك الحال في كل ذنب وقعت التوبة عنه
الرابع من أحكام التوبة لهم في التوبة المؤقتة مثل أن لا يذنب سنة
وفي التوبة المفصلة نحو أن يتوب عن الزنا دون شرب الخمر خلاف مبني على أن الندم إذا كان لكونه ذنبا عم الأوقات والذنوب جميعا
إذ لا يجب عمومه لهما
فذهب بعضهم إلى أنه يجب العموم لأنه إذا ندم على ذنب في وقت ولم يندم على ذنب آخر أو في وقت آخر ظهر أنه لم يندم عليه لقبحه وإلا ندم على قبائحه كلها لاشتراكها في العلة المقتضية للندم وندم أيضا في جميع الأوقات
وإذا لم يكن ندمه لقبحه لم يكن توبة
وذهب آخرون منهم إلى أنه لا يجب ذلك العموم كما في الواجبات
فإنه قد يأتي المأمور ببعضها دون بعض
وفي بعض الأوقات دون بعضها ويكون المأتي به صحيحا في نفسه بلا توقف على غيره مع أن العلة المقتضية للإتيان بالواجب هي كون الفعل حسنا واجبا
فإن قيل مراتب الحسن مختلفة في الأفعال ويتفاوت أيضا اقتضاؤها بحسب الأوقات
قلنا مراتب القبح أيضا كذلك
والأشاعرة وافقوا هؤلاء في صحة التوبتين (3/515)
الخامس أنهم أوجبوا قبول التوبة على الله بناء على أصلهم الفاسد فقالوا التوبة حسنة
ومن أتى بالحسنة وجب مجازاته عليها
وقد عرفت بطلانه
وأما قوله تعالى وهوالذي يقبل التوبة عن عباده
فلا يدل على الوجوب بل على أنه الذي يتولى ذلك ويتقبله وليس لأحد سواه ذلك
السادس اختلف في كون التوبة طاعة
قال الآمدي الظاهر أن التوبة طاعة واجبة فيثاب عليها لأنه مأمور بها
قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون والأمر ظاهر في الوجوب لكنه غير قاطع لجواز أن يكون رخصة وإيذانا بقبولها ودفعا للقنوط لقوله تعالى لا تقنطوا من رحمة الله لا تيأسوا من روح الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
المقصد الحادي عشر
المتن إحياء الموتى في قبورهم
ومسألة منكر ونكير لهم وعذاب القبر للكافر والفاسق كلها حق عندنا
واتفق عليه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف
والأكثر بعده
وأنكره ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة
لنا وجهان (3/516)
الأول قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
عطف عذاب القيامة عليه فعلم أنه غيره وليس غير عذاب القبر اتفاقا فهو هو
وبه ذهب أبو الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر إلى أن الكافر يعذب فيما بين النفختين أيضا
وأما ما ذهب إليه الصالحي من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية من تجويز ذلك على الموتى من غير إحياء فخروج عن المعقول
الثاني قوله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وما هو إلا الإماتة ثم الإحياء في القبر ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للحشر
ومن قال بالإحياء فيه قال بالمسألة والعذاب
هذا والأحاديث الدالة عليه أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر المشترك
احتج المنكر بقوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ولو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين (3/517)
الجواب أن ذلك وصف لأهل الجنة
والضمير في فيها للجنة
أي لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت فلا ينقطع نعيمهم
وإلا الموتة الأولى للجنس لا للوحدة نحو إن الإنسان لفي خسر
وليس فيها نفي تعدد الموت
فهذا معارضة ما احتججنا به من الآيتين
قالوا إنما يمكن العمل بالظواهر إذا لم تكن مخالفة للمعقول
ودليل مخالفتها للمعقول أنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه
ولا نشاهد فيه إحياء ولا مسألة
والقول بهما مع عدم المشاهدة سفسطة
وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها وأبلغ منه من أحرق وذري أجزاؤه في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا
فإنا نعلم عدم إحيائه ومسألته وعذابه ضرورة
وقد تحير الأصحاب في التقصي عن هذا
فقالوا في صورة المصلوب لا يعد في الإحياء
والمسألة مع عدم المشاهدة كما في صاحب السكتة وكما في رؤية النبي جبريل عليهما السلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم
وأما الصورة الأخرى فإن ذلك مبني على اشتراط البنية
وهو ممنوع عندنا
فلا بعد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء أو بعضها
وإن كان خلاف العادة
فإن خوارق العادة غير ممتنعة في مقدور الله تعالى
الشرح
المقصد الحادي عشر إحياء الموتى في قبورهم
ومسألة منكر ونكير لهم
وعذاب القبر للكافر والفاسق كلها حق عندنا
واتفق عليه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف
واتفق عليه الأكثر بعده أي بعد الخلاف وظهوره وأنكره مطلقا ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة وأنكر الجبائي وابنه والبلخي تسمية الملكين منكرا ونكيرا
وقالوا (3/518)
إنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل
والنكير إنما هو تقريع الملكين له
لنا في إثبات ما هو حق عندنا وجهان
الأول قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب عطف في هذه الآية عذاب القيامة عليه أي على العذاب الذي هو عرض النار صباحا ومساء فعلم أنه غيره
ولا شبهة في كونه قبل الإنشار من القبور كما يدل عليه نظم الآية بصريحه
وما هو كذلك ليس غير عذاب القبر اتفاق لأن الآية وردت في حق الموتى فهو هو
وبه أي بما ذكر من الآية ذهب أبو الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر إلى أن الكافر يعذب فيما بين النفختين أيضا
وإذا ثبت التعذيب ثبت الإحياء والمسألة لأن كل من قال بعذاب القبر قال بهما
وأما ما ذهب إليه الصالحي من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية من تجويز ذلك التعذيب على الموتى من غير إحياء فخروج عن المعقول لأن الجماد لا حس له فكيف يتصور تعذيبه
وما ذهب إليه بعض المتكلمين من أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير إحساس بها
فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة
فهو إنكار للعذاب قبل الحشر فيبطل بما قررناه من ثبوته قبله
الوجه الثاني قوله تعالى حكاية على سبيل التصديق ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين
وما هو
أي والمراد بالإماتتين والإحياءين في هذه الآية إلا الإماتة قبل مزار القبور ثم الإحياء في القبر ثم الإماتة فيه أيضا بعد مسألة منكر ونكير
ثم الإحياء للحشر هذا هو الشائع المستفيض بين أصحاب التفسير (3/519)
قالوا والغرض بذكر الإحياءين أنهم عرفوا فيهما قدرة الله على البعث
ولهذا قالوا فاعترفنا بذنوبنا أي الذنوب التي حصلت بسبب إنكار الحشر
وإنما لم يذكر الإحياء في الدنيا لأنهم لم يكونوا معترفين بذنوبهم في هذا الإحياء
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالإماتتين ما ذكر وبالإحياءين الإحياء في الدنيا والإحياء في القبر
لأن مقصودهم ذكر الأمور الماضية
وأما الحياة الثالثة
أعني حياة الحشر
فهم فيها
فلا حاجة إلى ذكرها
وعلى هذين التفسيرين ثبت الإحياء في القبر
ومن قال بالإحياء فيه قال بالمسألة والعذاب أيضا فقد ثبت أن الكل حق
وأما حمل الإماتة الأولى على خلقهم أمواتا في أطوار النطفة وحمل الثانية على الإماتة الظاهرة وحمل الإحياءين على إحياء الدنيا والإحياء عند الحشر
وحينئذ لا يثبت بالآية الإحياء في القبر فقد رد عليه بأن الإماتة إنما تكون بعد سابقة الحياة
ولا حياة في أطوار النطف وبأنه قول شذوذ من المفسرين
والمعتمد هو قول الأكثرين
هذا والأحاديث الصحيحة الدالة عليه أي على عذاب القبر أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر القدر المشترك وإن كان كل واحد منها من قبيل الآحاد منها أنه بقبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير بل لأن أحدهما كان لا يستبرىء من البول
وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة
ومنها قوله استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر من البول (3/520)
ومنها قوله في سعد بن معاذ لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت بها ضلوعه
ومنها أنه يكثر الاستعاذ بالله من عذاب القبر إلى غير ذلك من الأحاديث المشتملة بعضها على مسألة ملكين أيضا
وتسميتها منكرا ونكيرا مأخوذة من إجماع السلف وأخباره مروية عن النبي
احتج المنكر بقوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى
ولو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين
الجواب إن ذلك وصف لأهل الجنة
والضمير في فيها للجنة
أي لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت
فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المسألة وقبل دخول الجنة
وأما قوله إلا الموتة الأولى فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنة على سبيل التعليق بالمحال كأنه قيل لو أمكن ذوقهم الموتة الأولى لذاقوا في الجنة الموت لكنه لا يمكن بلا شبهة
فلا يتصور موتهم فيها
وقد يقال إلا الموتة الأولى للجنس لا للوحدة وإن كانت الصيغة صيغة الواحد نحو إن الإنسان لفي خسر
وليس فيها نفي تعدد الموت لأن الجنس يتناول المتعدد أيضا
فهذا الذي ذكروه من الآية واجبنا عنه معارضة ما احتججنا به من الآيتين ثم أنهم بعد المعارضة قالوا إنما يمكن العمل بالظواهر التي تمسكتم بها إذا لم تكن مخالفة للمعقول
فإنها على تقدير مخالفتها إياه يجب تأويلها وصرفها عن ظواهرها فلا يبقى لكم وجه الاحتجاج بها
ودليل مخالفتها للمعقول أنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ولا مسألة
فالقول بهما (3/521)
مع عدم المشاهدة سفسطة ظاهرة وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها
وأبلغ منه من أحرق حتى تفتت وذري أجزاؤه المتفتتة في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا فإنا نعلم عدم إحيائه ومسألته وعذابه ضرورة
وقد تحير الأصحاب في التقصي عن هذا فقالوا أي القاضي وأتباعه في صورة المصلوب لا يعد في الإحياء
والمسألة مع عدم المشاهدة كما في صاحب السكتة فإنه حي مع أنا لا نشاهد حياته
وكما في رؤية النبي جبريل عليهما السلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم
وقال بعضهم لا بعد في رد الحياة إلى بعض أجزاء البدن فيختص بالإحياء والمسألة والعذاب
وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا
وأما الصورة الأخرى يعني بها ما يشتمل الثانية والثالثة إذ هما من واد واحد فإن ذلك أي التمسك بها مبني على اشتراط البنية في الحياة وهو ممنوع عندنا كما مر فلا بعد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء المتفرقة أو بعضها
وإن كان خلاف العادة
فإن خوارق العادة غير ممتنعة في مقدور الله تعالى كما سلف تقريره
المقصد الثاني عشر
المتن في أن جميع ما جاء به الشرع من الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء حق (3/522)
والعمدة في إثباتها إمكانها في نفسها إذ لا يلزم من فرض وقوعها محال لذاته مع إخبار الصادق عنها
وأجمع عليه المسلمون قبل ظهور المخالف
ونطق به الكتاب نحو قوله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون وقوله والوزن يومئذ الحق
وقوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
وقوله فسوف يحاسب حسابا يسيرا مع الإجماع على تسمية يوم القيامة يوم الحساب
وقوله فأما من أوتي كتابه بيمينه
وقوله إقرأ كتابك
وقوله يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
وقوله إنا أعطيناك الكوثر مع قوله لأصحابه وقد قالوا له أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط أو على الميزان أو على الحوض
وكتب الأحاديث طافحة بذلك بحيث تواتر القدر المشترك
واعلم أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم يعبر عليه المؤمن وغير المؤمن
وأنكره أكثر المعتزلة
وتردد قول الجبائي فيه نفيا وإثباتا
قالوا من أثبته وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من غرار السيف كما ورد به الحديث
ولا يمكن العبور عليه وإن أمكن ففيه تعذيب المؤمنين ولا عذاب عليهم يوم القيامة
الجواب القادر المختار يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين كما جاء في الحديث في صفات الجائزين عليه أن منهم من هو كالبرق الخاطف ومنهم من هو كالريح الهابة
ومنهم من هو كالجواد
ومنهم من تجوز رجلاه وتعلق يداه
ومنهم من يخر على وجهه (3/523)
وأما الميزان فأنكره المعتزلة عن آخرهم لأن الأعمال أعراض
وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف بالخفة والثقل
وأيضا فالوزن للعلم بمقدارها وهي معلومة لله تعالى فلا فائدة فيه فيكون قبيحا تنزه عنه الرب تعالى
والجواب أنه ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن وحديث الغرض من الوزن والقبح العقلي قد مر مرارا
الشرح
المقصد الثاني عشر في أن جميع ما جاء به الشرع من الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء كلها حق بلا تأويل عند أكثر الأمة
والعمدة في إثباتها إمكانها في نفسها
إذ لا يلزم من فرض وقوعها محال لذاته مع إخبار الصادق عنها
وأجمع عليه المسلمون قبل ظهور المخالف
ونطق به الكتاب نحو قوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون
وقوله والوزن يومئذ الحق وقوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فقد ثبت بما ذكر الصراط والميزان بل ثبت أيضا السؤال الذي هو قريب من الحساب
وقوله فسوف يحاسب حسابا يسيرا مع الإجماع على تسمية يوم القيامة يوم الحساب
فهذا الإجماع يؤيد الآية الدالة على ثبوت الحساب
وقوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه وقوله اقرأ كتابك فقد ثبت بها قراءة الكتب
وقوله يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فتحققت به شهادة الأعضاء
وقوله إنا أعطيناك الكوثر
فإنه يدل على الحوض
مع قوله عليه (3/524)
السلام يعني أنه نطق بما ذكرناه الكتاب مع السنة أيضا كقوله وقد قالوا له أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط أو على الميزان أو على الحوض وكتب الأحاديث طافحة أي ممتلئة جدا بذلك الذي ادعينا كونه حقا بحيث تواتر القدر المشترك ولم يبق للمنصف فيه اشتباه
واعلم أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم يعبر عليه جميع الخلائق المؤمن وغير المؤمن
وأنكره أكثر المعتزلة وتردد قول الجبائي فيه نفيا وإثباتا فنفاه تارة وأثبته أخرى
وذهب أبو الهذيل وبشر بن المعتمر إلى جوازه دون الحكم بوقوعه
قالوا أي المنكرون من أثبته بالمعنى المذكور وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من غرار السيف أي حده كما ورد به الحديث الصحيح
وأنه على تقدير كونه كذلك لا يمكن عقلا العبور عليه
وإن أمكن العبور لا يمكن إلا مع مشقة عظيمة
ففيه تعذيب المؤمنين
ولا عذاب عليهم يوم القيامة وحينئذ وجب أن يحمل قوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم على الطريق إليها
الجواب القادر المختار يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين بحيث لا يلحقهم تعب ولا نصب كما جاء في الحديث في صفات الجائزين عليه أن منهم من هو كالبرق الخاطف ومنهم من هو كالريح الهابة ومنهم من هو كالجواد
ومنهم من تجوز رجلاه وتعلق يداه ومنهم من يخر على وجهه
وأما الميزان فأنكره المعتزلة عن آخرهم إلا أن منهم من أحاله عقلا (3/525)
ومنهم من جوزه ولم يحكم بثبوته كالعلاف وابن المعتمر
قالوا يجب حمل ما ورد في القرآن من الوزن والميزان على رعاية العدل والإنصاف بحيث لا يقع فيه تفاوت أصلا لا على آلة الوزن الحقيقي وذلك لأن الأعمال أعراض قد عدمت فلا يمكن إعادتها
وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف الأعراض بالخفة والثقل بل هما مختصان بالجواهر
وأيضا فالوزن للعلم بمقدارها وهي معلومة لله تعالى بلا وزن فلا فائدة فيه فيكون قبيحا تنزه عنه الرب تعالى
والجواب إنه ورد في الحديث حين سئل النبي كيف توزن الأعمال أن كتب الأعمال وصحفها هي التي توزن
وحديث الغرض من الوزن والقبح العقلي فيما لا فائدة فيه قد مر مرارا (3/526)
المرصد الثالث في الأسماء والأحكام
وفيه مقاصد
المقصد الأول في حقيقة الإيمان
المتن إعلم أن الإيمان في اللغة التصديق
قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق
وقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله أي تصدق
وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام فهو عندنا
وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة
فتفصيلا فيما علم تفصيلا
وإجمالا فيما علم إجمالا
وقيل هو المعرفة
فقوم بالله
وقوم بالله وبما جاءت به الرسل
وقالت الكرامية هو كلمتا الشهادة
وقالت طائفة التصديق مع الكلمتين (3/527)
ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله
وقال قوم إنه أعمال الجوارح
فذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعات فرضا أو نفلا
وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل
وقال السلف وأصحاب الأثر إنه مجموع هذه الثلاثة فهو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان
ووجه الضبط أن الإيمان عن فعل القلب والجوارح
فهو إما فعل القلب فقط وهو المعرفة أو التصديق
وإما فعل الجوارح فقط وهو إما اللسان وهو الكلمتان أو غيره وهو العمل بالطاعات
وإما فعل القلب والجوارح معا
والجارحة إما اللسان أو سائر الجوارح
لنا وجوه
الأول الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقلبه مطمئن بالإيمان ومنه الآيات الدالة على الختم والطبع على القلوب ويؤيده دعاء النبي اللهم ثبت قلبي على دينك
وقوله لأسامة وقد قتل من قال لا إله إلا الله هلا شققت قلبه (3/528)
الثاني جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو والذين آمنوا وعملوا الصالحات
فدل على التغاير
الثالث أنه قرن بضد العمل الصالح نحو وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ومنه مفهوم قوله الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
فإن قيل فلم لا تجعلونه التصديق باللسان فإن أهل اللغة لا يعلمون من التصديق إلا ذلك
قلنا لو فرض عدم وضع صدقت لمعنى أو وضعه لمعنى غير التصديق لم يكن المتلفظ به مصدقا قطعا
فالتصديق إما معنى هذه اللفظة أو هذه اللفظة لدلالتها على معناها فيجب الجزم بعلم العقلاء ضرورة بالتصديق القلبي
ويؤيده قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
وقوله قالت الأعراب آمنا . . الآية
احتج الكرامية بأنه تواتر أن الرسول والصحابة والتابعين كانوا يقنعون بالكلمتين ممن أتى بهما لا يستفسرون عن علمه وعمله فيحكمون بإيمانه بمجرد الكلمتين
الجواب معارضته بالإجماع على أن المنافق كافر وبنحو قوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولا نزاع في أنه يسمى إيمانا لغة
وأنه يترتب عليه أحكام الإيمان ظاهرا
وإنما النزاع فيما بينه وبين الله ثم نقول (3/529)
يلزمكم أن من صدق بقلبه وهم بالتكلم بالكلمتين فمنعه مانع من ضرس وغيره أن يكون كافرا وهو خلاف الإجماع
احتج المعتزلة بوجوه منها ما يدل على إثبات مذهبهم
ومنها ما يدل على إبطال مذهب الخصم
القسم الأول أربعة
الأول فعل الواجبات هو الدين
والدين هو الإسلام
والإسلام هو الإيمان
ففعل الواجبات هو الإيمان
أما أن فعل الواجبات هو الدين فلقوله تعالى بعد ذكر العبادة ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
وأما أن الدين هو الإسلام فلقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام
وأما أن الإسلام هو الإيمان فلأن الإيمان لو كان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ولاستثناء المسلمين من المؤمنين في قوله فأخرجنا من كان فيها . . الآية
قلنا لفظ ذلك إشارة إلى الإخلاص
لأنه واحد مذكر
فلا يصح إشارة إلى الكثير والمؤنث وهو أولى من تقدير الذي ذكرتم إذ فيه تقرير اللغة
هذا والثالثة إنما تصح لو كان الإيمان دينا غير الإسلام
وفيه مصادرة لا تخفى
الثاني وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس
قلنا بل التصديق بها (3/530)
الثالث قاطع الطريق ليس بمؤمن لأنه يخزى لقوله تعالى فيهم ولهم في الآخرة عذاب النار مع قوله تعالى ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه
قلنا هو مخصوص بالصحابة
ولا قاطع طريق فيهم
الرابع نحو قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن لا إيمان لمن لا أمانة له
قلنا مبالغة ثم إنها معارضة بالأحاديث الدالة على أنه مؤمن وأنه يدخل الجنة حتى قال لأبي ذر لما بالغ في السؤال عنه وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر
القسم الثاني الوجوه الدالة على بطلان مذهب الخصم
وهي ثلاثة
الأول لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته
وأنه خلاف الإجماع
قلنا المؤمن من آمن في الحال أو في الماضي لا لأنه حقيقة فيه بل لأن الشارع يعطي الحكمي حكم المحقق
وإلا ورد عليهم مثله في الأعمال (3/531)
الثاني من صدق وسجد للشمس ينبغي أن يكون مؤمنا
والإجماع على خلافه
قلنا هو دليل عدم التصديق حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله
الثالث وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
والتصديق بجميع ما جاء به الرسول لا يجامع الشرك لأن التوحيد مما علم مجيئه به
قلنا ذلك مشترك الإلزام لأن الشرك مناف للإيمان إجماعا
ثم إن الإيمان المعدي بالباء هو التصديق
والتصديق بالله لا ينافي الشرك
إذ لعله بوجوده وصفاته لا بالتوحيد
احتج الآخرون بقوله الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
الجواب أن المراد شعب الإيمان قطعا لا نفس الإيمان
فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن بالإجماع
الشرح
المرصد الثالث في الأسماء الشرعية المستعملة في أصول الدين كالإيمان والكفر والمؤمن والكافر
والمعتزلة يسمونها أسماء دينية لا شرعية تفرقة بينها وبين الألفاظ المستعملة في الأفعال الفرعية والأحكام من أن (3/532)
الإيمان هل يزيد وينقص أو لا ومن أنه هل يثبت بين المؤمن والكافر واسطة أو لا وفيه مقاصد
المقصد الأول في حقيقة الإيمان
اعلم أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا
قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق فيما حدثناك به
وقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
أي تصدق
ويقال فلان يؤمن بكذا
أي يصدقه ويعترف به
وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام يعني الثواب على التفاصيل المذكورة فهو عندنا يعني أتباع الشيخ أبي الحسن وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ
ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا فهو في الشرع تصديق خاص
وقيل الإيمان هو المعرفة فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان وقوم بالله وبما جاءت به الرسل إجمالا وهو منقول عن بعض الفقهاء
وقالت الكرامية هو كلمتا الشهادة
وقالت طائفة هو التصديق مع الكلمتين
ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله
وقال قوم إنه أعمال الجوارح فذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعات بأسرها فرضا كانت أو نفلا
وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضة من الأفعال والتروك دون النوافل
وقال السلف أي (3/533)
بعضهم كابن مجاهد وأصحاب الأثر أي المحدثون كلهم أنه مجموع هذه الثلاثة فهو عندهم تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان
ووجه الضبط في هذه المذاهب الثمانية أن الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب
وفعل الجوارح
فهو حينئذ إما فعل القلب فقط وهو المعرفة على الوجهين أو التصديق المذكور
وإما فعل الجوارح فقط
وهو إما اللسان أي فعله وهو الكلمتان أو غيره أي غير فعل اللسان وهو العمل بالطاعات المطلقة أو المفترضة
وإما فعل القلب والجوارح معا
والجارحة إما اللسان وحده أو سائر الجوارح أي جميعها
فقد انضبط بهذا التقسيم المذاهب كلها
لنا على ما هو المختار عندنا وجوه
الأول الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقلبه مطمئن بالإيمان
ومنه أي ومما يدل على محلية القلب للإيمان الآيات الدالة على الختم والطبع على القلوب وكونها في أكنة فإنها واردة على سبيل البيان لامتناع الإيمان منهم ويؤيده دعاء النبي اللهم ثبت قلبي على دينك وقوله لأسامة وقد قتل من قال لا إله إلا الله هلا شققت قلبه (3/534)
وإذا ثبت أنه فعل القلب وجب أن يكون عبارة عن التصديق الذي من ضرورته المعرفة
وذلك لأن الشارع إنما يخاطب العرب بلغتهم ليفهموا ما هو المقصود بالخطاب
فلو كان لفظ الإيمان في الشرع مغيرا عن وضع اللغة لتبين للأمة نقله وتغييره بالتوقيف كما تبين نقل الصلاة والزكاة وأمثالهما ولاشتهر اشتهار نظائره بل كان هو بذلك أولى
الثاني جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو والذين آمنوا وعملوا الصالحات فدل على التغاير وعلى أن العمل ليس داخلا فيه لأن الشيء لا يعطف على نفسه ولا الجزء على كله
الثالث أنه أي الإيمان قرن بضد العمل الصالح نحو وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأثبت الإيمان مع وجود القتال
ومنه أي ومما يدل على كونه مقرونا بضد العمل الصالح مفهوم قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
فإنه يستفاد منه اجتماع الإيمان مع الظلم
وإلا لم يكن لنفي اللبس فائدة
ومن المعلوم أن الشيء لا يمكن اجتماعه مع ضده ولا مع ضد جزئه فثبت أن الإيمان ليس فعل الجوارح ولا مركبا منه فيكون فعل القلب وذلك إما التصديق وإما المعرفة
والثاني باطل لأنه خلاف الأصل لاستلزامه النقل وقد عرفت بطلانه
فإن قيل فلم لا تجعلونه التصديق باللسان يريد أنكم إذا أثبتم النقل عن المعنى اللغوي وجب عليكم أن تجعلوا الإيمان عبارة عن التصديق (3/535)
باللسان كما هو مذهب الكرامية
فإن أهل اللغة لا يعلمون من التصديق إلا ذلك
قلنا لو فرض عدم وضع صدقت لمعنى بل كان مهملا أو فرض وضعه لمعنى غير التصديق لم يكن المتلفظ به على ذلك التقدير مصدقا بحسب اللغة قطعا
فالتصديق إما معنى هذه اللفظة أو هذه اللفظة لدلالتها على معناها
وأيا ما كان فيجب الجزم بعلم العقلاء إلا اللساني ويؤيده أي يؤيد أن الإيمان ليس فعل اللسان بل فعل القلب قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين وقوله قالت الأعراب آمنا . . الآية
فقد أثبت في هاتين الآيتين التصديق اللساني ونفي الإيمان فعلم أن المراد به التصديق القلبي دون اللساني
احتج الكرامية بأنه تواتر أن الرسول والتابعين كانوا يقنعون بالكلمتين ممن أتى بهما ولا يستفسرون عن علمه وتصديقه القلبي وعلمه فيحكمون بإيمانه بمجرد الكلمتين
فعلمنا أنه الإيمان بلا علم وعمل
الجواب معارضته بالإجماع على أن المنافق كافر مع إقراره باللسان وتلفظه بالشهادتين
ومعارضته بنحو قوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وحله بأن يقال لا نزاع في أنه أي التصديق اللساني يسمى إيمانا لغة لدلالته على التصديق القلبي ولا في أنه يترتب عليه في الشرع أحكام الإيمان ظاهرا
فإن الشارع جعل مناط الأحكام الأمور الظاهرة المنضبطة والتصديق القلبي أمر خفي لا يطلع عليه بخلاف الإقرار باللسان فإنه مكشوف بلا سترة فيناط به الأحكام الدنيوية
وإنما النزاع (3/536)
فيما بينه وبين الله النزاع في الإيمان الحقيقي الذي يترتب عليه الأحكام الأخروية
ثم نقول لهم يلزمكم أن من صدق بقلبه وهم بالتكلم بالكلمتين فمنعه منه مانع من خرس وغيره كخوف من مخالف أن يكون كافرا وهو خلاف الإجماع
احتج المعتزلة بوجوه
منها ما يدل على إثبات مذهبهم
ومنها ما يدل على إبطال مذهب الخصم
القسم الأول أربعة
الأول فعل الواجبات هو الدين
والدين هو الإسلام
والإسلام هو الإيمان
ففعل الواجبات هو الإيمان
أما أن فعل الواجبات هو الدين فلقوله تعالى بعد ذكر العبادة ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة إذ لا يخفى أن لفظة ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من الواجبات على معنى ذلك الذي أمرتم به دين الملة القيمة ففعل الواجبات هو الدين
وأما أن الدين هو الإسلام فلقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام
وأما أن الإسلام هو الإيمان فلأن الإيمان لو كان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ولاستثناء المسلمين من المؤمنين في قوله فأخرجنا من كان فيها . . الآية
يعني أن كلمة غير في قوله فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ليست صفة على معنى فما وجدنا فيها أي في تلك القرية شيئا غير بيت من المسلمين أنه كاذب بل هي استثناء
والمراد بالبيت أهل البيت
فيجب أن يقدر المستثنى منه على وجه يصح وهو أن يقال فما (3/537)
وجدنا فيها بيتا من المؤمنين إلا بيتا من المسلمين فقد استثنى المسلم من المؤمن فوجب أن يتحد الإيمان بالإسلام
قلنا لفظ ذلك في تلك الآية إشارة إلى الإخلاص الذي يدل عليه لفظ مخلصين لا إلى المذكورات لأنه واحد مذكر فلا يصلح أن يكون إشارة إلى الكثير والمؤنث فإن أكثر المذكورات مؤنث وهو أي جعله إشارة إلى الإخلاص أولى من تقدير الذي ذكرتم
والظاهر المطابق لنهاية العقول أن يقال من تقدير الذي أمرتم به أو الذي ذكر إذ فيه أي في كونه إشارة إلى الإخلاص تقرير اللغة على أصلها
وفي كونه إشارة إلى المذكور مطلقا إخراجها عنه
هذا كما مضى
وأما المقدمة الثالثة وهي أن الإسلام هو الإيمان فهي إنما تصح وتثبت بالدليل الأول لو كان الإيمان دينا غير الإسلام لأن الآية إنما دلت على أن كل دين مغاير للإسلام فإنه غير مقبول لا على أن كل شيء مغاير له غير مقبول
فالاتحاد بين الإسلام والإيمان إنما يثبت بهذه الآية إذا ثبت كون الإيمان دينا
وفيه مصادرة لا تخفى لأن كون الإيمان دينا
أي عمل الجوارح الذي هو الإسلام في قوة كونه عين الإسلام
فإثبات الثاني بالأول يكون دورا من قبيل أخذ المطلوب في إثباته
ولو اقتصر على منع كونه دينا إذ هو في قوة أول المسألة
أعني كون الإيمان عمل الجوارح لكان أولى
وأما قضية الاستثناء فإنها تدل على تصادق المسلم والمؤمن دون الإسلام والإيمان
ألا يرى أن الضاحك يصدق على الباكي ولا تصادق بين الضحك والبكاء فضلا عن الاتحاد
الثاني من تلك الوجوه قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس
وذلك لنزول الآية بعد تحويل (3/538)
القبلة دفعا لتوهم إضاعة صلوات كانت إليه
قلنا بالتصديق بها أي لا يضيع تصديقكم بوجوب الصلوات التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس
وما ترتب على ذلك التصديق
وهو تلك الصلوات
فلا يلزم حينئذ تغيير اللفظ عن معناه الأصلي
وإن سلم أن المراد الصلاة جاز أن يكون مجاز وهو أولى من النفل الذي هو مذهبكم
الثالث قاطع الطريق ليس بمؤمن فيكون ترك المنهي داخلا في الإيمان
وإنما قلنا هو ليس بمؤمن لأنه يخزى يوم القيامة لقوله تعالى فيهم ولهم في الآخرة عذاب عظيم قال المفسرون أي ولهم في الآخرة عذاب النار
فالمذكور في الكتاب معنى القرآن لا نظمه مع قوله تعالى حكاية على سبيل التصديق والتقرير ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته
فإن هذين القولين معا يدلان على أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة
والمؤمن لا يخزى في ذلك اليوم لقوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه
قلنا عدم الإخزاء لا يعم المؤمنين جميعا بل هو مخصوص بالصحابة كما يدل عليه لفظ معه
ولا قاطع طريق فيهم فلا يتم هذا الاستدلال
وأيضا يجوز أن يكون الموصول مع صلته مبتدأ خبره نورهم يسعى بين أيديهم
وحينئذ جاز أيضا أن يكون المؤمن مخزى في يوم القيامة بإدخاله في النار وإن كان مآله الخروج منها
الرابع نحو قوله لا يزني الزاني وهو مؤمن لا إيمان لمن لا أمانة له
قلنا مبالغة على معنى أن هذه الأفعال ليست من شأن المؤمن كأنها تنافي الإيمان ولا تجامعه
ويجب الحمل على هذا (3/539)
المعنى كي لا يلزم نقل لفظ الإيمان عن معناه اللغوي
ثم أنها أي الأحاديث الدالة على اعتبار الأعمال كترك الزنا مثلا في الإيمان معارضة بالأحاديث على أنه أي مرتكب الزنا مثلا مؤمن وأنه يدخل الجنة حتى قال النبي ذر لما بالغ في السؤال عنه وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر
القسم الثاني من القسمين السابقين الوجوه الدالة على بطلان مذهب الخصم
وهي ثلاثة
الأول لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته
وأنه خلاف الإجماع
قلنا المؤمن من آمن في الحال أو في الماضي لا لأنه حقيقة فيه
وإن أمكن أن يدعي فيه ذلك كما هو مذهب جماعة في المشتقات بل لأن الشارع يعطي الحكمي حكم المحقق
وإلا أي وإن لم يكن الأمر كما ذكرناه
ورد عليهم مثله في الأعمال فإن النائم والغافل ليسا في الأعمال المعتبرة في الإيمان فلا يكونان مؤمنين ولا مخلص إلا بأن الحكمي كالمحقق
الثاني من صدق بما جاء به النبي ذلك سجد للشمس ينبغي أن يكون مؤمنا
والإجماع على خلافه
قلنا هو دليل عدم التصديق أي سجوده لها يدل بظاهرة على أنه ليس بمصدق
ونحن نحكم بالظاهر (3/540)
فلذلك حكمنا بعدم إيمانه لا لأن عدم السجود لغير الله داخل في حقيقة الإيمان حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق
لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أجري عليه حكم الكفر في الظاهر
الثالث قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فإنه يدل على اجتماع الإيمان مع الشرك
والتصديق
بجميع ما جاء به الرسول لا يجامع الشرك لأن التوحيد مما علم مجيئه به فلا يكون الإيمان عبارة عن ذلك التصديق
قلنا ذلك الذي ذكرتموه مشترك الإلزام لأن الشرك مناف للإيمان إجماعا
وفعل الواجبات لا ينافيه فلا يكون إيمانا ثم نقول في حله إن الإيمان المعدى بالباء هو التصديق ولم يقصد به في الآية التصديق
بجميع ما علم مجيئه في الدين بل بما قيد به ظاهرا
وهو الله سبحانه وتعالى
والتصديق بالله لا ينافي الشرك إذ لعله بوجوده وصفاته الحقيقية لا بالتوحيد الذي هو من الصفات السلبية وحاصله أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا
وفي الشرع هو التصديق مقيدا بأمر مخصوص هو جميع ما علم كونه من الدين ضرورة
والمذكور في الآية محمول على معناه اللغوي
واعلم أن الإمام الرازي قرر في النهاية الوجه الثالث هكذا المراد بالإيمان هنا التصديق
وهو مجامع للشرك فالإيمان الذي لا يجامع الشرك وجب أن يكون مغايرا للتصديق ثم أجاب عنه بأن ذلك حجة عليكم لأن أفعال الواجبات قد تجامع الشرك والإيمان لا يجامعه
فدل على أن فعل الواجبات ليس بالإيمان
وعلى هذا التقرير يظهر اشتراك الإلزام لا على ما في الكتاب
احتج الآخرون القائلون بأن الإيمان فعل الطاعات بأسرها والقائلون بأنه مركب من التصديق والإقرار والعمل جميعا
بقوله (3/541)
الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
الجواب أن المراد شعب الإيمان قطعا لا نفس الإيمان فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن بالإجماع فلا بد في الحديث من تقدير مضاف
والمصنف لم يورد دليل القائلين بأن الإيمان هو المعرفة أو التصديق مع الإقرار
المقصد الثاني
المتن في أن الإيمان هل يزيد وينقص أثبته طائفة ونفاه آخرون
قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين هو فرع تفسير الإيمان
فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما
لأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض وهو ولو بأبعد وجه ينافي اليقين
وإن قلنا هو الأعمال فيقبلهما
وهو ظاهر
والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين
الأول القوة والضعف
قولكم الواجب اليقين والتفاوت لاحتمال النقيض
قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك
ثم ذلك يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا
ولقول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي (3/542)
والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين
الثاني التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال
والنصوص دالة على قبوله لهما
الشرح
المقصد الثاني في أن الإيمان هل يزيد وينقص أثبته طائفة ونفاه آخرون
قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين هو بحث لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان
فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما لأن الواجب هو اليقين
وأنه لا يقبل التفاوت لا بحسب ذاته لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض
وهو أي احتماله ولو بأبعد وجه ينافي اليقين فلا يجامعه ولا بحسب متعلقة لأنه جميع ما علم بالضرورة مجيء الرسول به والجميع من حيث هو جميع لا يتصور فيه تعدد
وإلا لم يكن جميعا
وإن قلنا هو الأعمال إما وحدها أو مع التصديق فيقبلهما
وهو ظاهر
والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان لوجهين أي بحسب الذات وبحسب المتعلق
الأول القوة والضعف فإن التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفا قولكم الواجب اليقين والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض
قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط
إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال للنقيض ثم ذلك الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء
وأنه باطل إجماعا
ولقول أي ذلك الذي ذكرتموه ليس بصحيح لاقتضائه تلك المساواة ولقول إبراهيم عليه السلام (3/543)
ولكن ليطمئن قلبي
فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة كما سلف تقريره
والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين في كونه إيمانا حقيقيا
فإن إيمان أكثر العوام من هذا القبيل
وعلى هذا فكون التصديق الإيماني قابلا للزيادة واضح وضوحا تاما
الثاني من وجهي التفاوت أعني ما هو بحسب المتعلق أن يقال التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي
فإذا علم واحد منها بخصوصه وصدق به كان هذا تصديقا مغايرا لذلك التصديق المجمل وجزءا من الإيمان
ولا شك أن التصديقات التفضلية تقبل الزيادة
فكذا الإيمان
والنصوص كنحو قوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا
دالة على قبوله لهما أي قبول الإيمان للزيادة والنقصان بالوجه الثاني كما أن نص قوله ولكن ليطمئن قلبي دل على قبوله لهما بالوجه الأول
المقصد الثالث
المتن في الكفر
وهو خلاف الإيمان
فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة (3/544)
فإن قيل فشاد الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا
قلنا جعلنا الشيء علامة للتكذيب فحكمنا عليه بذلك وهو عند كل طائفة مقابل ما فسر به الإيمان
فقالت الخوارج كل معصية كفر
وقد أبطلناه
وقالت المعتزلة المعاصي ثلاثة إذ منها ما يدل على الجهل بالله ووحدته وما يجوز عليه وما لا يجوز
وبرسالة رسوله كإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات دالة على ذلك فهو كفر
ومنها ما لا يدل على ذلك وهو قسمان قسم يخرج إلى منزله بين المنزلتين لا يحكم على صاحبها بالكفر لسائر أعماله
ولا بالإيمان لإيهامه عدم التصديق
ويعبر عنها بالكبائر
ومنها ما لا يخرج ككشف العورة والسفه
ويسمى بالصغائر وسنزيده بيانا في المقصد الذي يتلوه
تذنيب في تفصيل الكفار
الإنسان إما معترف بنبوة محمدأو لا
والثاني إما معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود والنصارى وغيرهم وإما غير معترف بها
وهو إما معترف بالقادر المختار وهم البراهمة أو لا وهم الدهرية
ثم إنكارهم لنبوته عن عناد وإما عن اجتهاد
والمعترف بنبوته مخطىء في أصل وسنبين أنه ليس بكافر أو لا
وهو إما (3/545)
عن برهان وهو ناج باتفاق أو عن تقليد وقد اختلف فيه
فمن قال إنه ناج فلأن النبي بإسلام من لم يعلم منه ذلك وهم الأكثرون
ومن قال إنه غير ناج فلأن التصديق بالنبوة يتضمن العلم بدلالة المعجزة
وأنه يتضمن العلم بما يجب اعتقاده وإن لم يمكن له تنقيح الأدلة وتحريرها
الشرح
المقصد الثالث في الكفر
وهو خلاف الإيمان
فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه ضرورة
فإن قيل فشاد الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا إذا كان مصدقا له في الكل
وهو باطل إجماعا قلنا جعلنا الشيء الصادر عنه باختياره علامة للتكذيب فحكمنا عليه بذلك أي بكونه كافرا غير مصدق
ولو علم أنه شد الزنار لا لتعظيم دين النصارى واعتقاد حقيته لم يحكم بكفره فما بينه وبين الله كما مر في سجود الشمس
لا يقال أطفال المؤمنين لا تصديق لهم
فيلزم أن يكونوا كفارا لا مؤمنين وهو باطل لأنا نقول هم مصدقون حكما لما علم من الدين ضرورة أنه يجعل إيمان أحد الأبوين إيمانا للأولاد
وهو أي الكفر عند كل طائفة مقابل ما فسر به الإيمان كما هو عندنا مقابل لما فسرناه به
فمن قال الإيمان معرفة الله قال الكفر هو الجهل بالله
وبطلانه ظاهر
ومن قال الإيمان هو الطاعات كالخوارج وبعض المعتزلة قال الكفر هو المعصية لكنهم اختلفوا
فقالت الخوارج كل معصية كفر
وقد أبطلناه (3/546)
وقالت المعتزلة المعاصي أقسام ثلاثة
إذ منها ما يدل على الجهل بالله ووحدته
وما يجوز عليه وما لا يجوز
والجهل برسالة رسوله كإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات دالة على ذلك وكسب الرسول والاستخفاف به فهو كفر
ومنها ما لا يدل على ذلك وهو قسمان
قسم يخرج مرتكبه إلى منزلة بين المنزلتين أي الكفر والإيمان على معنى أنه لا يحكم على صاحبها بالكفر لسائر ما اتصف به من أعماله الصالحة ولا بالإيمان لإيهامه عدم التصديق بل يحكم عليه بالفسق ويعبر عنها أي عن المعاصي المخرجة إلى تلك المنزلة بالكبائر كالقتل العمد العدوان والزنا وشرب الخمر ونظائرها
وأول من أحدث القول بهذا الإخراج واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومنها ما لا يخرج أي قسم لا يخرج ككشف العورة والسفه
ويسمى بالصغائر
ولا يوصف صاحبها بالكفر ولا بالفسق بل بالإيمان
وسنزيده أي نزيد ما ذكرناه في هذا المقصد من قول الخوارج والمعتزلة بيانا في المقصد الذي يتلوه
تذنيب في تفصيل الكفار فنقول الإنسان إما معترف بنبوة محمد لا
والثاني إما معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود النصارى وغيرهم كالمجوس
وإما غير معترف بها أصلا
وهو إما معترف بالقادر المختار
وهم البراهمة
أو لا وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم
ثم إنكارهم لنبوته عن عناد وعذابه مخلدا إجماعا
وإما عن اجتهاد به بلا تقصير
فالجاحظ والعنبري على أنه معذور وعذابه غير مخلد وقد عرفت أنه مخالف لإجماع من قبلهما والأول هو المعترف بنبوته (3/547)
إما مخطىء في أصل من المسائل الأصولية وسنبين في المقصد الخامس أنه ليس بكافر أو لا يكون مخطئا في عقائده المتعلقة بأصول الدين
وهو إما أن يكون اعتقاده عن برهان وهو ناج باتفاق أو عن تقليد
وقد اختلف فيه
فمن قال إنه ناج بهذا الاعتقاد التقليدي فلأن النبي بإسلام من لم يعلم منه ذلك وهم الأكثرون
ومن قال إنه غير ناج به فلأن التصديق بالنبوة يتضمن العلم بدلالة المعجزة
وأنه أي العلم بدلالة المعجزة على صدق النبي العلم بما يجب اعتقاده في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله
فمن كان مصدقا حقيقة كان عالما بهذه الأمور كلها وإن لم يكن له تنقيح الأدلة وتحريرها فإن ذلك ليس شرطا في العلم والخروج عن التقليد
فمن لم يكن عالما بها بأدلتها مفصلة ولا مجملة وكان مقلدا محضا لم يكن مصدقا حقيقة فلا يكون ناجيا ولعل الأكثرين الذين حكم النبي بإسلامهم ونجاتهم كانوا من العالمين علما إجماليا كما مر في قصة الإعرابي لا من المقلدين تقليدا محضا
المقصد الرابع
المتن في أن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة مؤمن
وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الإيمان
وغرضنا ههنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم
ذهب الخوارج إلى أنه كافر
والحسن البصري إلى أنه منافق
والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر
حجة الخوارج وجوه
الأول قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم (3/548)
الكافرون
قلنا المراد من لم يحكم بشيء مما أنزل الله أصلا
أو هو التوراة بقرينة ما قبله وهو إنا أنزلنا التوراة . . . الآية وأمتنا غير متعبدين بالحكم بها فيختص اليهود
الثاني وهل نجازي إلا الكفور قلنا متروك الظاهر إذ يجازي غير الكفور
وهو المثاب
ولقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
الثالث قوله تعالى بعد إيجاب الحج ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
قلنا المراد من جحد وجوبه
الرابع أن العذاب على من كذب وتولى قلنا متروك الظاهر للاتفاق على عذاب شارب الخمر والزاني مع أنه غير مكذب لله تعالى بل اليهود والنصارى
وربما يلزمهم التكذيب
لكن فرق بين المكذب ومن يلزمه التكذيب
الخامس قوله تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى
والفاسق يصلاها
قلنا لعل ذلك نار خاصة
السادس قوله تعالى في حق من خفت موازينه ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون والفاسق من خفت موازينه
قلنا بل ثقلت بالإيمان
السابع يوم تبيض وجوه وتسود وجوه والفاسق ممن وجهه (3/549)
مسود
قلنا لا نسلم أن كل فاسق كذلك بل هي واردة في بعض الكفار لقوله أكفرتم بعد إيمانكم
الثامن أنه من أصحاب المشأمة
وقال تعالى والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة قلنا هو من باب إيهام العكس وينتقض بالزاني والسارق مع عدم تكذيبهما
التاسع ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأنه يقتضي حصر المبتدأ في الخبر
قلنا ممنوع لأن الكافر ابتداء كذلك
العاشر إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون والفاسق آيس من روح الله
قلنا ممنوع للرجاء
الحادي عشر إنك من تدخل النار فقد أخزيته مع قوله إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين قلنا المفرد المحلى باللام لا عموم له أو المراد به الخزي الكامل
الثاني عشر وأما من أوتي كتابه بشماله . . إلى قوله إنه كان لا يؤمن بالله العظيم
قلنا ذكر قسمين لا يدل على عدم الثالث مع أن التخصيص ظاهر
الثالث عشر ألا لعنة الله على الظالمين
قلنا يلزم تكفير الأنبياء حيث اعترفوا بظلمهم
الرابع عشر قوله تعالى وأما الذين فسقوا فمأواهم النار . . . الآية
قلنا يقتضي أن كل فاسق مكذب بالقيامة
وأنه باطل قطعا (3/550)
الخامس عشر قوله تعالى يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر . . إلى قوله وكنا نكذب بيوم الدين
قلنا قد مر جوابه
السادس عشر قوله تعالى وسيق الذين كفروا . . إلى قوله وسيق الذين اتقوا
وقد مر مثله
السابع عشر قوله من ترك صلاة متعمدا فقد كفر وقوله من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
قلنا الآحاد لا تعارض الإجماع
الثامن عشر ولاية الله وعداوته ضدان
فلا واسطة بينهما
وولاية الله إيمان فعداوته كفر
قلنا لا نسلم عدم الواسطة بين كل ضدين
احتج من زعم أنه منافق بوجهين
الأول قوله آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف
وإذا حدث كذب
وإذا ائتمن خان
قلنا هو متروك الظاهر لأن من وعد غيره أن يخلع عليه خلعة نفيسة ثم أخلفه لم يخرج عن الإيمان إلى النفاق إجماعا (3/551)
الثاني أن من اعتقد إن في هذا الجحر حية لم يدخل يده فيه
فإذا زعم ذلك ثم أدخل يده فيه علم أنه قاله لا عن اعتقاده
قلنا مضرة الحية عاجلة محققة بخلاف عقاب الذنب لأنها آجلة إذ يجوز التوبة والعفو فافترقا
احتج المعتزلة بوجهين
الأول أن الفاسق ليس مؤمنا لما مر ولا كافرا بالإجماع لأنهم كانوا يقيمون عليه الحد ولا يقتلونه ولا يحكمون بردته ويدفنونه في مقابر المسلمين
وأيضا فيلزم بينونة المرأة بمجرد رمي الزوج إياها بالزنا من غير لعان وقضاء قاض لأنه إن صدق فهي كافرة وإن كذب فهو كافر
قلنا هو مؤمن وقد مر الكلام فيه
الثاني ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فرجع إلى مذهبه وهو أن فسقه معلوم وإيمانه مختلف فيه فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه
قلنا قد مر أنه مؤمن قطعا ولا خلاف فيه ممن قبله بل قد أجمع على أنه إما مؤمن أو كافر
فالقول بالواسطة خرق للإجماع فيكون باطلا
الشرح
المقصد الرابع في أن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة أي من أهل القبلة مؤمن وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الإيمان
وغرضنا ههنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم
ذهب الخوارج إلى أنه كافر والحسن البصري إلى أنه منافق والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر
حجة الخوارج وجوه (3/552)
الأول قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
فإن كلمة من عامة في كل من لم يحكم بما أنزل فيدخل فيه الفاسق المصدق وأيضا فقد علل كفرهم بعدم الحكم فكل من لم يحكم بما أنزل الله كان كافرا
والفاسق لم يحكم بما أنزل الله
قلنا الموصولات لم توضع للعموم بل هي للجنس تحتمل العموم والخصوص
فنقول المراد من لم يحكم بشيء مما أنزل الله أصلا ولا نزاع في كونه كافرا
أو نقول المراد بما أنزل الله هو التوراة بقرينة ما قبله وهو إنا أنزلنا التوراة . . الآية
وأمتنا غير متعبدين بالحكم فيختص باليهود فيلزم أن يكونوا كافرين إذا لم يحكموا بالتوراة
ونحن نقول بموجبه
الثاني من تلك الوجوه قوله تعالى وهل نجازي إلا الكفور
فإنه يدل على أن كل من يجازى فهو كافر
وصاحب الكبيرة ممن يجازى لقوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم فيكون كافرا
قلنا هو متروك الظاهر لأن ظاهره حصر الجزاء في الكفور
وهو متروك قطعا إذ يجازى غير الكفور وهو المثاب لأن الجزاء يعم الثواب والعقاب
وأيضا ذلك الحصر متروك لقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
فوجب حمل الآية على جزاء مخصوص بالكافر كما يدل عليه سياق الآية
أعني قولك ذلك جزيناهم بما كفروا
فالمعنى وهل يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور
وصاحب الكبيرة جاز أن يجازى جزاء مغايرا لما يختص بالكافر (3/553)
الثالث قوله تعالى بعد إيجاب الحج ومن كفر أي لم يحج فإن الله غني عن العالمين فقد جعل ترك الحج كفرا
قلنا المراد من جحد وجوبه ولا شك في كفره
الرابع قوله تعالى حكاية عن موسى وهارون إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى
فإنه يدل على انحصار العذاب في المكذب
وهو كافر
ولا شك أن الفاسق معذب لما ورد فيه من الوعيد
قلنا هو أيضا متروك الظاهر ومخصوص للاتفاق على عذاب شارب الخمر والزاني مع أنه غير مكذب لله تعالى بل اليهود والنصارى لا يكذبون الله تعالى
وربما يلزمهم التكذيب
لكن فرق بين المكذب ومن يلزمه التكذيب
الخامس قوله تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى
فإنه يدل على أن كل من يصلى النار فهو كافر والفاسق أي مرتكب الكبيرة يصلاها أي النار للآيات العامة الموعدة بدخولها
قلنا لعل ذلك نار خاصة
يعني أن الضمير في يصلاها عائد إلى نار منكرة فلعل تنكيرها للوحدة النوعية فتكون نارا مخصوصة لا يصلاها إلا الكافر
السادس قوله تعالى في حق من خفت موازينه ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون
وحينئذ نقول الفاسق ممن خفت موازينه لقلة حسناته
وكل من خفت موازينه فهو مكذب بالآية المذكورة
وكل مكذب كافر (3/554)
قلنا بل ثقلت موازين الفاسق بالإيمان فلا يندرج فيمن خفت موازينه
السابع قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم
والفاسق ممن وجهه مسود بالمعصية فيكون كافرا
قلنا لا نسلم أن كل فاسق كذلك أي مسود الوجه يوم القيامة
فإن الآية لا تقتضي ذلك
بل هي واردة في بعض الكفار الذين كفروا بعد إيمانهم لقوله أكفرتم بعد إيمانكم
الثامن إنه أي مرتكب الكبيرة من أصحاب المشأمة
وقال تعالى والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة
فدل على أنه كل من كان من أصحاب المشأمة فهو كافر
قلنا هو أي ما ذكرتم من معنى الآية من باب إيهام العكس فإنها تدل على أن كل من كفر كان من أصحاب المشأمة وذلك لا ينعكس كليا كما توهمتموه وأيضا ينتقض استدلالكم بهذه الآية بالزاني والسارق المصدقين بما هو من ضرورات الدين فإنهما من أصحاب المشأمة مع عدم تكذيبهما
التاسع قوله تعالى ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون
وأنه يقتضي حصر المبتدأ في الخبر
والصحيح المطابق للنهاية حصر الخبر في المبتدأ فيصدق حينئذ أن كل فاسق كافر
قلنا الحصر الذي ذكرتموه ممنوع كونه مستفادا من الآية لأن الكافر ابتداء كذلك أي فاسق لغة
وإن لم يطلق لفظ الفاسق في العرف (3/555)
الطارىء على الكافر
فلا ينحصر الفاسق مطلقا فيمن كفر بعد ذلك بل المنحصر فيه الفاسق الكافر الكامل
العاشر قوله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
والفاسق آيس من روح الله أي ثوابه
قلنا كونه آيسا ممنوع للرجاء الحاصل له بسبب إيمانه
الحادي عشر قوله تعالى إنك من تدخل النار فقد أخزيته مع قوله إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
وتقريره أن الفاسق يدخل النار للآيات العامة الموعدة وكل من يدخل النار فهو مخزي للآية الأولى
وكل مخزي كافر للآية الثانية
قلنا المفرد المحلى باللام وهو الخزي ههنا لا عموم له عندنا
فلا يلزم انحصار الخزي مطلقا في الكافر أو نقول المراد به على تقدير عمومه الخزي الكامل فيلزم حينئذ انحصار أفراده في الكافر لا انحصار أفراد الخزي مطلقا فيه
الثاني عشر قوله تعالى وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه . . إلى قوله إنه كان لا يؤمن بالله العظيم
والفاسق لا يؤتى كتابه بيمينه
وهو ظاهر بل بشماله إذ لا ثالث هناك فيكون كافرا
قلنا ذكر قسمين من الناس في ذلك اليوم
أعني من يؤتى كتابه بيمينه ومن يؤتى بشماله لا يدل على عدم القسم الثالث إذ يجوز أن لا يؤتى بعضهم كتابه بأيديهم بل يقرأ عليهم وليس في نظم التنزيل ما ينافي ذلك مع أن التخصيص ظاهر أي إن سلمنا الانحصار في القسمين قلنا إن قوله إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ليس عاما لكل من يؤتى كتابه (3/556)
بشماله لأن فساق أهل القبلة مؤمنون بالله
أي مصدقون به فلا يندرجون في قوله إنه كان لا يؤمن
الثالث عشر الفاسق ظالم على غيره أو على نفسه
وكل ظالم كافر لقوله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون
قلنا يلزم مما ذكرتم تكفير الأنبياء حيث اعترفوا بظلمهم فإنه قال آدم وحواء ربنا ظلمنا أنفسنا وقال موسى إني ظلمت نفسي
وقال يونس إني كنت من الظالمين
وحله أن يقال ما ذكر بعد الظالمين صفة مخصصة فلا يلزم تكفير كل ظاهر
الرابع عشر قوله تعالى وأما الذين فسقوا فمأواهم النار . . الآية
وتمامها كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي الذي كنتم به تكذبون
فإنه يدل على أن كل فاسق كافر
قلنا ليس قوله وأما الذين فسقوا باقيا على عمومه الظاهر لأنه يقتضي أن كل فاسق مكذب بالقيامة
وأنه باطل قطعا
الخامس عشر قوله تعالى يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر . . إلى قوله وكنا نكذب بيوم الدين فثبت بذلك أن كل مجرم داخل في النار كافر
ولا شبهة في أن الفاسق مجرم لا يدخل النار
قلنا قد مر جوابه وهو أن الآية متروكة الظاهر
وإلا لزم كون كل مجرم مكذبا بيوم القيامة
وهو باطل قطعا (3/557)
السادس عشر قوله تعالى وسيق الذين كفروا . . إلى قوله وسيق الذين اتقوا إذ يعلم منه أن الإنسان إما متق يساق إلى الجنة أو كافر يساق إلى النار
والجواب عنه قد مر مثله وهو أن ذكر قسمين لا يدل على عدم قسم ثالث
السابع عشر قوله من ترك صلاة متعمدا فقد كفر وقوله من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
قلنا الآحاد لا تعارض الإجماع المنعقد قبل حدوث المخالفين والثامن عشر ولاية الله وعداوته ضدان فلا واسطة بينهما
وولاية الله إيمان وعداوته كفر
قلنا لا نسلم عدم الواسطة بين كل ضدين
فإن السواد والبياض متضادان وبينهما واسطة
فجاز أن يكون بين ولايته وعداوته واسطة
احتج من زعم أنه أي مرتكب الكبيرة منافق بوجهين
الأول نقلي
وهو قوله آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف
وإذا حدث كذب
وإذا ائتمن خان
قلنا هو متروك الظاهر
لأن من وعد غيره أن يخلع عليه خلعة نفيسة ثم أخلفه لم يخرج بذلك عن الإيمان إلى النفاق إجماعا
وقيل معناه أن هذه الخصال الثلاث إذا صارت معا ملكة الشخص كانت علامة لنفاقه
وأما بدون كونها ملكة فلا
ألا ترى أن إخوة يوسف وعدوا أباهم أن يحفظوا فأخلفوا وائتمنهم أبوهم فخانوا وكذبوا في قولهم (3/558)
فأكله الذئب وما كانوا منافقين اتفاقا
على أن العلامة الدالة على شيء قد لاتكون قطعية الدلالة فيجوز تخلف المدلول عنها
الثاني عقلي وهو أن من اعتقد من العقلاء أن في هذا الجحر حية لم يدخل يده فيه
فإذا زعم ذلك ثم أدخل يده فيه علم أنه قاله لا عن اعتقاد وكذا الحال فيمن ارتكب الكبيرة
قلنا مضرة الحية عاجلة محققة بخلاف عقاب الذنب لأنها آجلة وغير محققة إذ يجوز التوبة والعفو فافترقا
احتج المعتزلة بوجهين
الأول إن الفاسق ليس مؤمنا لما مر من أن الإيمان عبارة عن الطاعات ولا كافرا بالإجماع لأنهم أي الصحابة ومن بعدهم من السلف كانوا يقيمون عليه الحد في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات ولا يقتلونه ولا يحكمون بردته ويدفنونه في مقابر المسلمين مع إجماعهم على أن الكافر لا يعامل معه كذلك
وأيضا فيلزم من كون الفاسق كافرا بينونة المرأة عن زوجها بمجرد رمي الزوج إياها بالزنا من غير لعان وقضاء قاض لأنه إن صدق الزوج فهي كافرة بارتكاب الزنا وإن كذب فهو كافر بارتكاب قذف المحصنة
فكانت البينونة واقعة على التقديرين
قلنا هو مؤمن
وقد مر الكلام فيه في بيان حقيقة الإيمان (3/559)
الثاني ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فرجع عمرو إلى مذهبه
وهو أن فسقه معلوم وفاقا وإيمانه مختلف فيه أي الأمة مجمعة على أن صاحب الكبيرة فاسق
واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه
قلنا قد مر أنه مؤمن قطعا
ولا خلاف فيه ممن قبله من الأمة بل قد أجمع قبله على أنه أي المكلف إما مؤمن أو كافر
فالقول بالواسطة خرق بالإجماع المنعقد على الانحصار في ذينك القسمين فيكون باطلا بلا اشتباه
المقصد الخامس
في أن المخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم لا
المتن جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة
والمعتزلة الذين قبل أبي الحسين تحامقوا فكفروا الأصحاب فعارضه بعضنا بالمثل
وقد كفر المجسمة مخالفوهم
وقال الأستاذ كل مخالف يكفرنا فنحن نكفره
وإلا فلا
لنا إن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالما بعلم أو موجدا لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون
فعلم أن الخطأ فيها ليس قادحا في حقيقة الإسلام (3/560)
فإن قيل لعله منهم ذلك فلم يبحث عنها كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما
قلنا مكابرة
والعلم والقدرة مما يتوقف عليه ثبوت نبوته
فكان الاعتراف بها دليلا للعلم بهما
ولنذكر الآن ما كفر به بعض أهل القبلة
ونفصل القول عنها
وفيه أبحاث
الأول كفر المعتزلة في أمور
الأول نفي الصفات
لأن حقيقة الله ذات موصوفه بهذه الصفات
فمنكره جاهل بالله
والجاهل بالله كافر
قلنا الجهل بالله من بعض الوجوه لا يضر
وإلا لزم تكفير المعتزلة والأشاعرة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه
الثاني إنكارهم إيجاد الله لفعل العبد
وأنه كفر
أما أولا فلأنهم جعلوه غير قادر على فعل العبد
وجعلوا العبد غير قادر على فعله تعالى
فهو إثبات للشريك كما هو مذهب المجوس
وأما ثانيا فللإجماع على التضرع إلى الله في أن يرزقهم الإيمان
وهم ينكرونه لأنهم يقولون قد فعل الله من اللطف ما أمكن لوجوبه عليه
قلنا المجوس كفروا بغيره
وخرق الإجماع ليس بكفر
ثم من يلزمه الكفر ولا يعلم به لم قلتم أنه كافر
الثالث قولهم بخلق القرآن
وفي الحديث الصحيح من قال القرآن مخلوق فهو كافر
قلنا آحاد
أو المراد بالمخلوق المختلق
أي المفتري (3/561)
الرابع قد أجمع من قبلهم على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
وهم ينكرونه
قلنا نمنع الإجماع
ونمنع كون مخالفه كافرا
الخامس قولهم المعدوم شيء
وأنه تصريح بمذهب أهل الهيولى سيما نفاة الأحوال لأن ذاته عندهم وجوده
قلنا والإلزام غير الالتزام
واللزوم غير القول به
السادس إنكارهم الرؤية
وقد قال تعالى بل هم بلقاء ربهم كافرون
قلنا اللقاء مجاز فلعل المراد به لقاء ثواب الله
فإن المفسرين قالوا المراد به الوصول إلى دار الثواب
الثاني تكفير المعتزلة الأصحاب بأمور
الأول إنكار كون العبد فاعلا لفعله لأنه سد باب إثبات الصانع إذ طريقه قياس الغائب على الشاهد
قلنا قد تقدم لنا في إثبات الصانع وجوه لا يحتاج فيها إلى هذا القياس
الثاني نسبة فعل العبد إلى الله تعالى يلزمه كونه فاعلا للقبائح فجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب وجاز الكذب عليه
وفيه إبطال الشرائع بالكلية
قلنا قد أجبنا عنه (3/562)
الثالث إثبات الصفات قول بقدماء
وقد كفر النصارى للقول بقدماء ثلاثة فكيف الستة أو السبعة
قلنا قد مر جوابه
الرابع قولهم القرآن قديم
فإنه يقتضي عدم كون المسموع قرآنا لحدوثه قطعا
قلنا مشترك الإلزام إلا أن تقولوا ما نسمعه حكاية كلام الله فنقول مثله
الثالث قد كفر المجسمة بوجوه
الأول إن تجسيمه جهل به
وقد مر جوابه
الثاني إنه عابد لغير الله كعابد الصنم
قلنا بل معتقد في الله الخالق الرازق العالم القادر ما لا يجوز عليه مما قد جاء به الشرع على تأويل ولم يؤوله بخلاف عابد الصنم
الثالث لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وما ذلك إلا لأنهم جعلوا غير الله إلها فلزم الشرك
وهؤلاء كذلك
قلنا ممنوع
والمستند ما تقدم
الرابع قد كفر الروافض والخوارج بوجوه (3/563)
الأول أن القدح في أكابر الصحابة تكذيب للرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم
قلنا لا ثناء عليهم خاصة
ولا هم داخلون فيه عندهم
أو الثناء عليهم لشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم
الثاني الإجماع على تكفير من كفر عظماء الصحابة
قلنا هو لا يسلم كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم
الثالث قوله من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أحدهما
قلنا آحاد
والمراد مع اعتقاد أنه مسلم
فإن من ظن بمسلم أنه يهودي أو نصراني فقال به يا كافر لم يكن ذلك كفرا بالإجماع
وسنزيد لهذا تحقيقا إذا فصلنا الفرق في ذيل هذا الكتاب
الشرح
المقصد الخامس في أن المخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم لا
جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة
فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم (3/564)
عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم
فهذا مذهبه
وعليه أكثر أصحابنا
وقد نقل عن الشافعي أنه قال لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب
وحكى الحاكم صاحب المختصر في كتب المنتقى عن أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة
وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي وغيره
والمعتزلة الذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا فكفروا الأصحاب في أمور سيأتيك تفصيلها
فعارضه بعضنا بالمثل فكفرهم في أمور أخرى ستطلع عليها
وقد كفر المجسمة مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
وقال الأستاذ أبو إسحق كل مخالف يكفرنا فنحن نكفره
وإلا فلا
لنا على ما هو المختار عندنا وهو أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة أن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالما بعلم أو موجدا لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها
ككونه مرئيا أو لا
لم يبحث النبي اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون
فعلم أن صحة دين الإسلام لا تتوقف على معرفة الحق في تلك المسائل
وأن الخطأ فيها ليس قادحا في حقيقة الإسلام إذا لو توقفت عليها وكان الخطأ فادحا في تلك الحقيقة لوجب أن يبحث عن كيفية اعتقادهم فيها
لكن لم يجر حديث شيء منها في زمانه
ولا في زمانهم أصلا (3/565)
فإن قيل لعله منهم ذلك أي كونهم عالمين بها إجمالا فلم يبحث عنها لذلك كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما
وما ذلك إلا لعلمه بأنهم عالمون على طريق الجملة بأنه تعالى عالم قادر
فكذا الحال في تلك المسائل
قلنا ما ذكرتموه مكابرة لأنا نعلم أن الأعراب الذين جاءوا إليه كانوا كلهم عالمين بأنه تعالى عالم بالعلم لا بالذات وأنه مرئي في الدار الآخرة
وأنه ليس بجسم ولا في مكان وجهة وأنه قادر على أفعال العباد كلها وأنه موجد لها بأسرها
فالقول بأنهم كانوا عالمين بها مما علم فساده بالضرورة
وأما العلم والقدرة فيهما مما يتوقف عليه ثبوت نبوته لتوقف دلالة المعجزة عليهما فكان الاعتراف والعلم بها أي بالنبوة دليلا للعلم بهما ولو إجمالا
فلذلك لم يبحث عنهما
قال الإمام الرازي الأصول التي يتوقف عليها صحة نبوة محمد على ما يليق بأصحاب الجمل ظاهرة فإن من دخل بستانا ورأى أزهارا حادثة بعد أن لم تكن ثم رأى عنقود عنب قد اسود جميع حباته إلا حبة واحدة مع تساوي نسبة الماء والهواء وحر الشمس إلى جميع تلك الحبات فإنه يضطر إلى العلم بأن محدثه فاعل مختار
لأن دلالة الفعل المحكم على علم فاعله واختياره ضرورية
ودلالة المعجزة على صدق المدعي ضرورية أيضا
وإذا عرف هذه الأصول أمكن العلم بصدق الرسول فثبت أن أصول الإسلام جلية
وأن أدلتها مجملة واضحة فلذلك لم يبحث عنها بخلاف المسائل التي اختلف فيها فإنها في الظهور والجلاء ليست مثل تلك (3/566)
الأصول بل أكثرها مما ورد في الكتاب والسنة ما يتخيله المبطل معارضا لما يحتج به المحق فيها
وكل واحد منهما يدعي أن التأويل المطابق لمذهبه أولى
فلا يمكن جعلها مما يتوقف عليه صحة الإسلام فلا يجوز الإقدام على التكفير إذ فيه خطر عظيم
ولنذكر الآن ما كفر به بعض أهل القبلة ونفصل القول عنها على سبيل التفصيل وفيه أبحاث
الأول كفرت المعتزلة في أمور
الأول نفي الصفات
لأن حقيقة الله ذات موصوفة دائما بهذه الصفات الكمالية التي هي العلم والقدرة والحياة ونظائرها فمنكره أي منكر اتصافه بها جاهل بالله
والجاهل بالله كافر
قلنا الجهل بالله من جميع الوجوه كفر لكن ليس أحد من أهل القبلة يجهل كذلك فإنهم على اختلاف مذهبهم اعترفوا بأنه قديم أزلي عالم قادر خالق للسموات والأرض
والجهل به من بعض الوجوه لا يضر وإلا لزم تكفير المعتزلةوالأشاعرة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه أي لو كان الجهل بتفاصيل الصفات قادحا في الإيمان لكفر بعض الأشاعرة بعضهم فيما اختلفوا فيه من تفاصيلها
وكذا الحال في معتزلة البصرة وبغداد
فإنهم اختلفوا أيضا فيها
الثاني من تلك الأمور وإنكارهم إيجاد الله لفعل العبد وإنه كفر
أما أولا فلأنهم جعلوه غير قادر على فعل العبد إما على عينه كالجبائية وأما على مثله كالبلخي وأتباعه وإما على القبيح مطلقا كالنظام (3/567)
ومتابعيه
وجعلوا العبد غير قادر على فعله تعالى فهو إثبات للشريك كما هو مذهب المجوس حيث أثبتوا له شريكا لا يقدر أحدهما على مقدور الآخر
وأما ثانيا فللإجماع المنعقد من الأمة على التضرع والابتهال إلى الله في أن يرزقهم الإيمان ويجنبهم عن الكفر وهم ينكرونه لأنهم يقولون قد فعل الله من اللطف ما أمكن لوجوبه عليه
وأما نفس الإيمان فليس من فعله تعالى بل من فعل العباد كالكفر فلا فائدة في ذلك الابتهال المجمع عليه
قلنا المجوس لم يكفروا بقولهم إن الله لا يقدر على فعل الشيطان بل كفروا بغيره وهو قولهم بتناهي مقدورات الله تعالى وعجزه عن دفع الشيطان واحتياجه في دفعه إلى الاستعانة بالملائكة
وأيضا خرق الإجماع مطلقا ليس بكفر بل خرق الإجماع القطعي الذي صار من ضرورات الدين
ثم إن سلمنا أن خرق الإجماع الذي ذكرتموه كفر
قلنا ذلك الخرق ليس مذهبهم بل غايته أنه لازم منه
ومن يلزمه الكفر ولا يعلم به لم قلتم إنه كافر
الثالث قولهم بخلق القرآن
وفي الحديث الصحيح من قال القرآن مخلوق فهو كافر
قلنا آحاد فلا يفيد علما أو المراد بالمخلوق هو المختلق
أي المفتري يقال خلق الإفك واختلقه وتخلقه
أي افتراه
وهذا كفر بلا خلاف
والنزاع في كونه مخلوقا بمعنى أنه حادث
الرابع قد أجمع من قبلهم من الأمة على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد ورد في الحديث أيضا وهم ينكرونه حيث يدعون أنه قد يشاء الله شيئا ولا يكون
وقد لا يشاء ويكون (3/568)
قلنا نمنع الإجماع
وعلى تقدير ثبوته نمنع كون مخالفه كافرا كما عرفت
الخامس قولهم المعدوم شيء أي ثابت متقرر في الأزل وأنه تصريح بمذهب أهل الهيولى سيما نفاة الأحوال الذين كانوا قبل أبي هاشم لأن ذاته عندهم وجوده يعني أن نافي الأحوال يلزمه القول بأن ذات الشيء عين وجوده
فإذا كانت الذوات عندهم حاصلة في الأزل بلا فاعل كانت وجوداتها كذلك فذوات الممكنات حينئذ موجودة قديمة من غير استناد إلى فاعل أصلا
وهذا أشنع من القول بوجود الهيولى القديمة المستندة إلى فاعل في الجملة
قلنا ما ذكرتم إلزام للكفر عليهم بما ذهبوا إليه
والإلزام غير الالتزام
واللزوم غير القول به كما مر عن قريب
السادس إنكارهم الرؤية
وقد دل القرآن على أن منكرها كافر لأنه قال تعالى بل هم بلقاء ربهم كافرون
قلنا اللقاء حقيقة في الالتقاء والوصول إلى مماسة الشيء وذلك محال في حقه تعالى فتعين أنه في الآية مجاز
فلعل المراد به لقاء ثواب الله لا رؤيته فإن المفسرين كلهم قالوا المراد به الوصول إلى دار الثواب
الثاني من تلك الأبحاث تكفير المعتزلة الأصحاب بأمور
الأول إنكار كون العبد فاعلا لفعله لأنه يسد باب إثبات الصانع إذ طريقه قياس الغائب على الشاهد
وإذا جاز عدم استناد فعلنا إلينا جاز استناد الحوادث لا إلى محدثها أي الطريق إلى احتياج العالم في حدوثه إلى الفاعل هو قياسه على حاجة أفعالنا في حدوثها إلينا
فإذا لم تحتج هي في حدوثها إلينا لم يمكن القياس فالقول به سد لباب إثبات صانع العالم
وهو كفر (3/569)
قلنا ليس الطريق إلى احتياج العالم في حدوثه إلى الصانع منحصرا في القياس المذكور إذ تقدم لنا في إثبات الصانع وجوه خمسة لا يحتاج فيها إلى هذا القياس
الثاني من تلك الأمور نسبة فعل العبد إلى الله تعالى فلأنه يلزمه كونه فاعلا للقبائح فجاز حينئذ إظهار المعجزة على يد الكاذب إذ غايته أنه فعل قبيح
وقد جوزتم صدوره عنه تعالى
فلا يبقى للمعجزة دلالة على صدق النبي
وجاز أيضا الكذب عليه سبحانه فيرتفع الوثوق عن كلامه في وعده ووعيده
وفيه إبطال الشرائع بالكلية
قلنا قد أجبنا عنه بما مر من أنه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى
بل الأفعال كلها يحسن صدورها عنه
ومن أن إظهار المعجزة على يد الكاذب وإن كان ممكنا صدوره عنه عقلا إلا أنه معلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات إلى آخر ما مر في البحث عن كيفية دلالة المعجزة
الثالث إثبات الصفات قول بقدماء متعددة
وقد كفر النصارى للقول بقدماء ثلاثة فكيف الستة أو السبعة أو أكثر
قلنا قد مر جوابه في بحث القدم وأشير إليه في مباحث الصفات
الرابع قولهم القرآن قديم
فإنه يقتضي عدم كون المسموع قرآنا لحدوثه قطعا إذ هو مركب مما لا يجتمع في الوجود معا بل ينعدم المتقدم عند وجود المتأخر
قلنا ما ذكرتم مشترك الإلزام لأن الحروف والأصوات التي يتكلم بها الله على مذهبكم قد انتفت
وما يتكلم به حروف وأصوات أخر
فما تسمعه ليس كلام الله فقد لزمكم الكفر أيضا
ولا مفر لكم إلا أن تقولوا ما (3/570)
نسمعه وإن لم يكن للأمة حقيقة لكنه حكاية كلام الله فلا يلزمنا الكفر فنقول نحن مثله فلا يلزمنا أيضا
الثالث من أبحاث التكفير قد كفر المجسمة بوجوه
الأول أن تجسمه جهل به
وقد مر جوابه وهو أن الجهل بالله من بعض الوجوه لا يضر
الثاني أنه عابد لغير الله فيكون كافرا كعابد الصنم
قلنا ليس المجسم عابدا لغير الله بل هو معتقد في الله الخالق الرازق العالم القادر ما لا يجوز عليه مما قد جاء به الشرع على تأويل ولم يؤوله فلا يلزم كفره بخلاف عابد الصنم فإنه عابد لغير الله حقيقة
الثالث لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وما ذلك الكفر إلا لأنهم جعلوا غير الله إلها فلزم الشرط
وهؤلاء المجسمة كذلك لأنهم جعلوا الجسم الذي هو غير الله إلها
قلنا ما ذكرتموه ممنوع والمستند ما تقدم من أنه اعتقد في الله ما لا يجوز عليه
فلم يجعل غير الله إلها حتى يكون مشركا
الرابع من تلك الأبحاث قد كفر الروافض والخوارج بوجوه
الأول أن القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان تكذيب للقرآن
وللرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم فيكون كفرا
قلنا لا ثناء عليهم خاصة
أي لا ثناء في القرآن على واحد من (3/571)
الصحابة بخصوصه
وهؤلاء قد اعتقدوا أن من قدحوا فيه ليس داخلا في الثناء العام الوارد فيه
وإليه أشار بقوله ولا هم داخلون فيه عندهم فلا يكون قدحهم تكذيبا للقرآن
وأما الأحاديث الواردة في تزكية بعض معين من الصحابة والشهادة لهم بالجنة فمن قبيل الآحاد فلا يكفر المسلم بإنكارها
أو نقول ذلك الثناء عليهم وتلك الشهادة لهم مقيدان بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم فلا يلزم تكذيبهم للرسول
الثاني الإجماع منعقد من الأمة على تكفير من كفر عظماء الصحابة وكل واحد من الفريقين بكفر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافرا
قلنا هؤلاء أي من كفر جماعة مخصوصة من الصحابة لا يسلمون كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم فلا يلزم كفره
الثالث قوله من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أي بالكفر أحدهما
قلنا آحاد وقد أجمعت الأمة على أن إنكار الآحاد ليس كفرا ومع ذلك نقول المراد مع اعتقاد أنه مسلم
فإن من ظن بمسلم أنه يهودي أو نصراني فقال له يا كافر لم يكن ذلك كفرا بالإجماع
واعلم أن عدم تكفير أهل القبلة موافق لكلام الشيخ الأشعري والفقهاء كما مر
لكنا إذا فتشنا عقائد الإسلاميين وجدنا فيها ما يوجب الكفر قطعا كالعقائد الراجعة إلى وجود إله غير الله سبحانه وتعالى
أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس أو إلى إنكار نبوة محمد أو إلى ذمه (3/572)
واستخفافه أو إلى استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات الشرعية وإليه الإشارة بقوله وسنزيد لهذا الذي ذكرناه في المقصد الخامس تحقيقا إذا فصلنا الفرق الإسلامية وبينا عقائدهم في ذيل هذا الكتاب
والله الموفق لتحقيق الحق (3/573)
المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها
المتن عندنا من الفروع وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا
وفيه مقاصد
المقصد الأول في وجوب نصب الإمام
ولا بد من تعريفها أولا
قال قوم الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا
ونقض بالنبوة
والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وبهذا القيد يخرج من ينصبه الإمام في ناحية والمجتهد والآمر بالمعروف
وإذا عرفت هذا فنقول نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعا
وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا
وقال الجاحظ بل عقلا وسمعا
وقالت الإمامية والإسماعيلية بل على الله
إلا أن الإمامية أوجبوه لحفظ قوانين الشرع
والإسماعيلية ليكون معرفا لله (3/574)
وقالت الخوارج لا يجب أصلا
ومنهم من فصل فقال بعضهم يجب عند الأمن دون الفتنة
وقال قوم بالعكس
لنا أما عدم وجوبه على الله وعلينا عقلا فقد مر
وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين
الأول إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي امتناع خلو الوقت عن إمام حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته ألا إن محمدا قد مات
ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به
فبادر الكل إلى قبوله
وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر
فإن قيل لا بد للإجماع من مستند
ولو كان لنقل لتوفر الدواعي
قلنا استغني عن نقله بالإجماع أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها
إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي
الثاني إنه فيه دفع ضرر مظنون وإنه واجب إجماعا
بيانه إنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا
وذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم
فإنهم
مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء
قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب
وربما أدى إلى هلاكهم (3/575)
جميعا
ويشهد له التجربة
والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش وصار كل أحد مشغولا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه
وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين
فإن قيل وفيه إضرار وأنه منفي بقوله لا ضرر ولا ضرار في الإسلام
وبيانه من ثلاثة أوجه
الأول تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة
الثاني قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة فيفضي إلى الفتنة
الثالث أنه لا يجب عصمته كما سيأتي فيتصور منه الكفر والفسوق
فإن لم يعزل أضر بالأمة بكفره وفسقه
وإن عزل أدى إلى الفتنة
قلنا الإضرار اللازم من تركه أكثر بكثير
ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب
احتج المانع بوجوه
الأول توفر الناس على مصالحهم مما يحث عليه طباعهم وأديانهم فلا حاجة إلى نصب من يتحكم عليهم فيما يستقلون به
ويدل عليه انتظام أحوال العربان والبوادي الخارجين عن حكم السلطان
الثاني الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه
ولا يخفى تعذر وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يعن لهم من الأمور الدنيوية عادة
الثالث للإمامة شروط قلما توجد في كل عصر
فإن أقاموا فاقدها لم يأتوا بالواجب
وإلا يقيموه فقد تركوا الواجب
والجواب عن الأول إنه وإن كان ممكنا عقلا فممتنع عادة لما يرى (3/576)
من ثوران الفتن والاختلافات عند موت الولاة
ولذلك صادفنا العربان والبوادي كالذئاب الشاردة والأسود الضارية لا يبقي بعضهم على بعض ولا يحافظ في الغالب على سنة ولا فرض
وليس تشوفهم إلى العمل بموجب دينهم غالبا
ولذلك قيل ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن
وقيل السيف والسنان يفعلان ما لا يفعل البرهان
وعن الثاني لا نسلم أن الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه بل بوصول أحكامه وسياسته ونصبه من يرجعون إليه
وعن الثالث إن تركهم لنصبه لتعذره وعدم شرط الإمامة ليس تركا للواجب
إذ لا وجوب
ثم قال الموجبون إن أصل دفع المضرة واجب قطعا
فكذلك المضرة المظنونة
وذلك مثل أن يعرف الإنسان أن كل مسموم يجب اجتنابه ثم يظن أن هذا الطعام مسموم
فإن العقل الصريح يقضي بوجوب اجتنابه
وكذا من علم أن الحائط الساقط لا يجوز الوقوف تحته
ثم ظن أن هذا الحائط يسقط فالعقل الصريح يقضي بوجوب ألا يقف تحته
والجواب منع حكم العقل
احتج الموجب على الله بأنه لطف لكون العبد معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية
واللطف واجب عليه تعالى
والجواب بعد منع وجوب اللطف
أن اللطف إنما يحصل بإمام ظاهر (3/577)
قاهر
وأنتم لا توجبونه
فالذي توجبونه ليس بلطف
والذي هو لطف لا توجبونه
حجة الخوارج أن نصبه يثير الفتنة لأن الأهواء مختلفة فيدعي كل قوم إمامة شخص وصلوحه لها دون الآخر فيقع التشاجر والتناجز والتجربة شاهدة بذلك
والجواب أنه يجب عندنا تقديم الأعلم
فإن تساويا فالأورع
وإن تساويا فالأسن
وبذلك تندفع الفتنة
وأما الفارقون منهم فقالوا تارة هو حال الفتنة يزيدها
وتارة حال الأمن لا حاجة إليه
الشرح
المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها
ليست من أصول الديانات والعقائد خلافا للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين
إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأمة سمعا
وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا إذ قد جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم للفائدة المذكورة في صدر الكتاب
وفيه مقاصد
المقصد الأول في وجوب نصب الإمام
ولا بد من تعريفها أولا
قال قوم من أصحابنا الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص فقيد العموم احتراز عن القاضي والرئيس وغيرهما
والقيد الأخير احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام عند فسقه
فإن الكل ليس شخصا (3/578)
واحدا
ونقض هذا التعريف بالنبوة
والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وبهذا القيد الأخير يخرج من ينصبه الإمام في ناحية كالقاضي مثلا و يخرج المجتهد إذ لا يجب اتباعه على الأمة كافة بل على من قلده خاصة
ويخرج الآمر بالمعروف أيضا
وإذا عرفت هذا فنقول قد اختلفوا في أن نصب الإمام واجب أو لا واختلف القائلون بوجوبه في طريق معرفته كما أشار إليه بقوله نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعا
وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا
وقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسين من المعتزلة بل عقلا وسمعا معا
وقالت الإمامية والإسماعيلية لا يجب نصب الإمام علينا بل على الله سبحانه
إلا أن الإمامية أوجبوه عليه لحفظ قوانين الشرع عن التغيير بالزيادة والنقصان
والإسماعيلية أوجبوه ليكون معرفا لله وصفاته على ما مر من أنه لا بد عندهم في معرفته من معلم
وقالت الخوارج لا يجب نصب الإمام أصلا بل هو من الجائزات ومنهم من فصل فقال بعضهم كهشام الغوطي وأتباعه يجب عند الأمن دون الفتنة
وقال قوم كأبي بكر الأصم وتابعيه بالعكس أي يجب عند الفتنة دون الأمن
لنا في إثبات مذهبنا أن نقول أما عدم وجوبه على الله أصلا وعدم وجوبه علينا عقلا فقد مر لما تبين من أنه لا وجوب عليه تعالى
ولا حكم للعقل في مثل ذلك
وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين
الأول إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة (3/579)
النبي امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة حين وفاته إن محمدا قد مات
ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به
فبادر الكل إلى قوله
ولم يقل أحد لا حاجة إلى ذلك بل اتفقوا عليه وقالوا ننظر في هذا الأمر وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله
واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق
ولم يزل الناس بعدهم على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام
بيان لذلك أي لم يزل الناس على نصب إمام متبع في كل عصر
فإن قيل لا بد للإجماع المذكور من مستند كما علم في موضعه ولو كان لنقل ذلك المستند نقلا متواترا لتوفر الدواعي إليه
قلنا استغني عن نقله بالإجماع فلا توفر للدواعي أو نقول كان مستنده من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي
الثاني من الوجهين أن فيه أي في نصب الإمام دفع ضرر مظنون وأنه أي دفع الضر المظنون واجب على العباد إذا قدروا عليه إجماعا
بيانه أي بيان أن في نصب الإمام دفع ذلك الضرر أنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا
وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم فإنهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب
وربما أدى إلى هلاكهم جميعا
ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر
بحيث لو تمادى (3/580)
لعطلت المعايش وصار كل أحد مشغولا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه
وذلك يؤدي إلى رفع الدين
وهلاك جميع المسلمين
ففي نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها بل نقول نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي
فإن قيل على سبيل المعارضة في المقدمة وفيه إضرار أيضا وأنه منفي بقوله لا ضرر ولا ضرار في الإسلام
وبيانه أي بيان أن فيه إضرارا من ثلاثة أوجه
الأول تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة
الثاني إنه قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة وفيما سلف من الأعصار فيفضي إلى اختلاف
والفتنة وهو إضرار بالناس
الثالث إنه لا يجب عصمته كما سيأتي تقريره
فيتصور حينئذ منه الكفر والفسوق
فإن لم يعزل أضر بالأمة بكفره وفسقه
وإن عزل أدى إلى الفتنة إذ يحتاج في عزله إلى محاربته
قلنا الإضرار اللازم من تركه أي ترك نصبه أكثر بكثير من الإضرار اللازم من نصبه ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب
احتج المانع من وجوب نصبه بوجوه عارض بها دليلنا على وجوبه علينا (3/581)
الأول توفر الناس على مصالحهم الدنيوية وتعاونهم على أشغالهم الدينية مما يحث عليه طباعهم وأديانهم
فلا حاجة بهم إلى نصب من يحكم عليهم فيما يستقلون به
ويدل عليه أي على ما ذكرناه من عدم الحاجة إليه انتظام أحوال العربان والبوادي الخارجين عن حكم السلطان
الثاني الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه لا يخفى تعذر وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يعن لهم من الأمور الدنيوية عادة فلا فائدة في نصبه للعامة
فلا يكون واجبا بل جائزا
الثالث للإمامة شروط قلما توجد في كل عصر وعند ذلك فإن أقاموا أي الناس فاقدها لم يأتوا بالواجب عليهم بل بغيره وإن لم يقيموه أي وإن لم يقيموا الفاقد فقد تركوا الواجب فوجب نصب الإمام يستلزم أحد الأمرين الممتنعين فيكون ممتنعا
والجواب عن الأول أنه وإن كان ممكنا عقلا فممتنع عادة لما يرى من ثوران الفتن والاختلافات عند موت الولاة
ولذلك صادفنا العربان والبوادي كالذئاب الشاردة والأسود الضارية لا يبقي بعضهم على بعض ولا يحافظ في الغالب على سنة ولا فرض
فقد اختل أمرهم في دنياهم
وليس تشوفهم أي تطلعهم إلى العمل بموجب دينهم غالبا فيهم بحيث يغنيهم عن رياسة السلطان عليهم
ولذلك قيل ما يزغ السلطان أي يكفه أكثر مما يزغ القرآن
وقيل أيضا السيف والسنان يفعلان ما لا يفعل البرهان
والجواب عن الثاني لا نسلم أن الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه فقط
بل ويكون أيضا بوصول أحكامه وسياسته إليهم ونصبه من يرجعون إليه
وعن الثالث أن (3/582)
تركهم لنصبه لتعذره وعدم شرط الإمامة ليس تركا للواجب
إذ لا وجوب ثمة عليهم على ذلك التقدير إنما الوجوب إذا وجد الجامع لشرائطها فلا محذور في ذلك الترك
ثم قال الموجبون لنصب الإمام على الأنام عقلا إن أصل دفع المضرة واجب بحكم العقل قطعا
فكذلك المضرة المظنونة يجب دفعها عقلا
وذلك لأن الجزئيات المظنونة المندرجة تحت أصل قطعي الحكم يجب اندراجها في ذلك الحكم قطعا مثل أن يعرف الإنسان أن كل مسموم يجب اجتنابه ثم يظن أن هذا الطعام مسموم
فإن العقل الصريح يقضي بوجوب اجتنابه وكذا من علم أن الحائط الساقط لا يجوز الوقوف تحته ثم ظن أن هذا الحائط يسقط فالعقل الصريح يقضي بوجوب أن لا يقف تحته
والجواب منع حكم العقل بالوجوب وأخواته بل هي لا تستفاد إلا من الشرع
احتج الموجب لنصب الإمام على الله بأنه لطف لكون العبد معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية واللطف واجب عليه تعالى
والجواب بعد منع وجوب اللطف أن اللطف الذي ذكرتموه إنما يحصل بإمام ظاهر قاهر يرجى ثوابه ويخشى عقابه يدعو الناس إلى الطاعات ويزجرهم عن المعاصي بإقامة الحدود والقصاص وينتصف للمظلوم من الظالم
وأنتم لا توجبونه على الله كما في هذا الزمان الذي نحن فيه
فالذي توجبونه وهو الإمام المعصوم المختفي ليس بلطف إذ لا يتصور منه مع الاختفاء تقريب الناس إلى الصلاح وتبعيدهم عن الفساد
والذي هو (3/583)
لطف لا توجبونه عليه
وإلا لزم كونه تعالى في زماننا هذا تاركا للواجب وهو محال
حجة الخوارج على عدم وجوبه مطلقا أن نصبه يثير الفتنة لأن الأهواء مختلفة فيدعي كل قوم إمامة شخص وصلوحه لها دون الآخر فيقع التشاجر والتناجز
والتجربة شاهدة بذلك
نعم إن اختار الأمة نصب أمير أو رئيس يتقلد أمورهم ويرتب جيوشهم ويحمي حوزتهم كان لهم ذلك من غير أن يلحقهم بتركه حرج في الشرع
وأنت خبير بأن هذه الحاجة على عدم جواز نصب الإمام أدل منها على عدم وجوبه
والجواب إنه إن لم يقع اختلاف في نصبه فذاك
وإن وقع يجب عندنا تقديم الأعلم
فإن تساويا فالأروع
وإن تساويا فالأسن
وبذلك تندفع الفتنة والتخالف
وأما الفارقون أي المفصلون منهم فقالوا تارة هو أي نصب الإمام حال الفتنة يزيدها إذ ربما قتلوه لاستنكافهم عن طاعته فلا يجب
وأما في حال العدل والأمن فيجب نصبه إذ هو أقرب إلى إظهار شعائر الإسلام
وقالوا تارة هو حال الأمن والإنصاف بين الناس لا حاجة إليه
وإنما يجب عند الخوف وظهور الفتن
واعلم أن عبارة الكتاب ههنا وفي ذكر المذاهب أولا تدل على أن القائل بالتفصيل من الخوارج
وهو مخالف لظاهر عبارتي الأبكار والنهاية (3/584)
المقصد الثاني في شروط الإمامة
المتن الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين ذو رأي ليقوم بأمور الملك شجاع ليقوى على الذب عن الحوزة
وقيل لا يشترط هذه الصفات لأنها لا توجد
فيكون اشتراطها عبثا أو تكليفا بما لا يطاق ومستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها
نعم يجب أن يكون عدلا لئلا يجوز عاقلا ليصلح للتصرفات بالغا لقصور عقل الصبي ذكرا إذ النساء ناقصات عقل ودين حرا لئلا يشغله خدمة السيد ولئلا يحتقر فيعصى
فهذه الصفات شروط بالإجماع
وههنا صفات في اشتراطها خلاف
الأول أن يكون قرشيا
ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة
لنا قوله الأئمة من قريش ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث وأجمعوا عليه فصار قاطعا
احتجوا بقوله السمع والطاعة
ولو عبدا حبشيا
قلنا ذلك فيمن أمره الإمام على سرية أو غيرها
الثانية أن يكون هاشميا
شرطه الشيعة (3/585)
الثالثة أن يكون عالما بجميع مسائل الدين
وقد شرطه الإمامية
الرابعة ظهور المعجزة على يده إذ به يعلم صدقه في دعوى الإمامة والعصمة
وبه قال الغلاة
ويبطل الثلاثة أنا ندل على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء مما ذكر
الخامسة أن يكون معصوما شرطها الإمامية والإسماعيلية
ويبطله أن أبا بكر لا تجب عصمته اتفاقا
احتجوا بوجهين
الأول أن الحاجة إلى الإمام إما للتعليم
ولو جاز جهله لما صلح لذلك
وإما لجواز الخطأ على غيره في الأحكام
فلو جاز عليه أيضا لم يحصل الغرض الجواب منع كون الحاجة إليه لأحدهما بل لما تقدم
الثاني قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين
وغير المعصوم ظالم
فلا يناله عهد الإمامة
الجواب لا نسلم أن الظالم من ليس بمعصوم بل من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح
الشرح
المقصد الثاني في شروط الإمامة
الجمهور على أن أهل الإمامة ومستحقها من هو مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين متمكنا من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية مستقلا بالفتوى في النوازل والأحكام والوقائع نصا واستنباطا
لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ولن يتم ذلك بدون هذا الشرط ذو رأي وبصارة بتدبير الحرب والسلم وترتيب الجيوش وحفظ الثغور ليقوم بأمور الملك شجاع قوي القلب ليقوى على الذب عن الحوزة والحفظ (3/586)
لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك كما روي أنه بعد انهزام المسلمين في الصف قائلا أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب أو لا يهوله أيضا إقامة الحدود وضرب الرقاب
وقيل لا يشترط في الإمامة هذه الصفات الثلاث لأنها لا توجد الآن مجتمعة
وإذا لم توجد كذلك فإما أن يجب نصب فاقدها فيكون اشتراطها عبثا لتحقق الإمامة بدونها
أو يجب نصب واجدها فيكون تكليفا بما لا يطاق أو لا يجب لا هذا ولا ذاك
وحينئذ يكون اشتراطها مستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها فلا تكون هذه الأوصاف معتبرة فيها
نعم يجب أن يكون عدلا في الظاهر لئلا يجوز
فإن الفاسق ربما يصرف الأموال في أغراض نفسه
فيضيع الحقوق عاقلا ليصلح للتصرفات الشرعية والملكية بالغا لقصور عقل الصبي
ذكرا إذ النساء ناقصات عقل ودين
حرا لئلا يشغله خدمة السيد عن وظائف الإمامة
ولئلا يحتقر فيعصى
فإن الأحرار يستحقرون العبيد ويستنكفون عن طاعتهم
فهذه الصفات التي هي الثمان أو الخمس شروط معتبرة في الإمامة بالإجماع وفيه على الأول إشارة إلى أن القول بعدم اشتراط الثلاث الأول مما لا يلتفت إليه
وما تمسك به فيه مردود بأنا نختار عدم الوجوب مطلقا لكن للأمة أن ينصبوا فاقدها دفعا للمفاسد التي تندفع بنصبه
وههنا صفات أخرى في اشتراطها خلاف
الأول أن يكون قرشيا اشترطه الأشاعرة والجبائيان
ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة (3/587)
لنا قوله الأئمة من قريش
ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل به يوم السقيفة على الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه وأجمعوا عليه فصار دليلا قاطعا يفيد اليقين باشتراط القرشية احتجوا أي المانعون من اشتراطها بقوله السمع والطاعة ولو عبدا حبشيا فإنه يدل على أن الإمام قد لا يكون قرشيا
قلنا ذلك الحديث فيمن أمره الإمام أي جعله أميرا على سرية وغيرها كناحية
ويجب حمله على هذا دفعا للتعارض بينه وبين الإجماع
أو نقول هو مبالغة على سبيل الفرض
ويدل عليه أنه لا يجوز كون الإمام عبدا إجماعا
الثانية من تلك الصفات أن يكون هاشميا
شرطه الشيعة
الثالثة أن يكون عالما بجميع مسائل الدين أصولها وفروعها بالفعل لا بالقوة
وقد شرطه الإمامية
الرابعة ظهور المعجزة على يده إذ به يعلم صدقه في دعوى الإمامة والعصمة
وبه قال الغلاة
ويبطل هذه الثلاثة واشتراطها في الإمامة أنا ندل عن قريب على خلافة أبي بكر
وكونه إماما حقا ولا يجب له شيء مما ذكر من تلك الأوصاف
فإن كونه هاشميا ممتنع
والآخرين لا يجبان له إجماعا (3/588)
الخامسة أن يكون معصوما
شرطها الإمامية والإسماعيلية
ويبطله أن أبا بكر لا تجب عصمته اتفاقا مع ثبوت إمامته
احتجوا على اشتراط العصمة بوجهين
الأول أن الحاجة إلى الإمام إما للتعليم أي لتعليم الناس المعارف الإلهية كما ذهب إليه الملاحدة
ولو جاز جهله وعدم عصمته لما صلح لذلك ولم يفد تعليمه اليقين إذ يجوز حينئذ خطأ فيما علم
وإما لجواز الخطأ على غيره في الأحكام كما ذهب إليه الإمامية
فلو جاز الخطأ عليه أيضا لم يحصل الغرض منه بل احتاج إلى إمام آخر ويتسلسل
الجواب منع كون الحاجة إليه لأحدهما بل لما تقدم من دفع الضرر المظنون
الثاني من الوجهين قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين في جواب إبراهيم عليه السلام حين طلب الإمامة لذريته
وغير المعصوم ظالم
فلا يناله عهد الإمامة
الجواب لا نسلم أن الظالم من ليس بمعصوم بل من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح
المقصد الثالث
المتن فيما يثبت به الإمامة
وأنها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع
وتثبت ببيعة أهل الحل والعقد خلافا للشيعة
لنا ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة كما سيأتي (3/589)
احتجوا بوجوه
الأول الإمامة نيابة الله تعالى والرسول فلا تثبت بقول الغير
قلنا ذلك دليل لنيابة الله ورسوله
نصباه علامة لحكمهما بها كعلامات سائر الأحكام
الثاني لا تصرف لأهل البيعة في غيرهم فلا يصير فعلهم حجة على من عداهم
قلنا لما كان إمارة من جهة الله ورسوله يسقط هذا الكلام
وأيضا فينتقض بالشاهد والحاكم إذ يجب اتباعهما لجعل الشارع قولهما دليلا على حكم الله
وإن كانا لا تصرف لهما في المشهود عليه والمحكوم عليه
الثالث أن القضاء أمر جزئي ولا ينعقد بالبيعة فكيف الإمامة العظمى قلنا لا نسلم عدم انعقاد القضاء بالبيعة للخلاف فيه
وإن سلم فذلك عند وجود الإمام لإمكان الرجوع إليه في هذا المهم
وأما عند عدمه فلا بد من القول بانعقاده بالبيعة تحصلا للمصالح المنوطة به ودرءا للمفاسد المتوقعة دونه
الرابع إذ ربما تبايع أقوام على أئمة في بلد أو بلاد فيؤدي إلى الفتنة ويعود نفعه ضرا
الخامس وهو عمدتهم أن العصمة والعلم بجميع مسائل الدين وعدم الكفر شرط ولا يعلمها أهل البيعة
وقد مر جوابهما
وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع
إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع بل الواحد والإثنان من أهل الحل والعقد كاف لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا (3/590)
بذلك كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان
ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة فضلا عن إجماع الأمة
هذا ولم ينكر عليهم أحد
وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا
وقال بعض الأصحاب يجب كون ذلك بمشهد بينة عادلة كفا للخصام في ادعاء من يزعم عقد الإمامة له سرا قبل من عقد له جهرا
وهذا من المسائل الاجتهادية ثم إذا اتفق التعدد تفحص عن المتقدم فأمضى
ولو أصر الآخر فهو من البغاة ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار
أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد
وللأمة خلع الإمام بسبب يوجبه وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين
تذنيب قال الجارودية من الزيدية الإمامة شورى في أولاد الحسن والحسين فكل فاطمي خرج بالسيف داعيا إلى الحق وكان عالما شجاعا فهو إمام
فلذلك جوزوا تعدد الأئمة
وهو خلاف الإجماع
الشرح
المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة فإن الشخص بمجرد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما بل لا بد في ذلك من أمر آخر
وأنها (3/591)
تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع وتثبت أيضا ببيعة أهل الحل والعقد عند أهل السنة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية خلافا للشيعة أي لأكثرهم
فإنهم قالوا لا طريق إلا النص
لنا ثبوت إمامة أبي بكر رضي الله عنه بالبيعة كما سيأتي
احتجوا على عدم انعقادها بالبيعة بوجوه
الأول الإمامة نيابة الله تعالى والرسول فلا تثبت بقول الغير الذي هو أهل البيعة
إذ لو ثبت بقوله لكان الإمام خليفة عنه لا عن الله ورسوله
قلنا ذلك أي اختار أهل البيعة للإمام دليل لنيابة الله ورسوله نصباه علامة لحكمهما بها أي بتلك النيابة كعلامات سائر الأحكام
وتلخيصه أن البيعة ليست عندنا مثبتة للإمامة حتى يتم ما ذكرتم بل هي علامة مظهرة لها
كالأقيسة والإجماعات الدالة على الأحكام الشرعية
الثاني لا تصرف لأهل البيعة في غيرهم فلا يصير فعلهم واختيارهم حجة على من عداهم يعني أنهم لا يملكون التصرف بأنفسهم في أمور المسلمين
ومن كان كذلك كيف يملك عليهم شخصا آخر يتصرف فيهم
قلنا لما كان فعلهم وبيعتهم إمارة منصوبة من جهة الله ورسوله دالة على حكمهما بإمامة من توديع يسقط هذا الكلام إذ تصير بيعتهم حينئذ حجة على المسلمين يجب عليهم اتباعها
وأيضا فينتقض ما ذكرتموه بالشاهد والحاكم
إذ يجب اتباعهما لجعل الشارع قولهما دليلا على حكم (3/592)
الله الذي يجب اتباعه وإن كانا لا تصرف لهما في المشهود عليه والمحكوم عليه
يريد أن الشاهد ليس له أن يتصرف بالمدعى عليه
ومع ذلك يجعل القاضي متصرفا فيه بالحكم عليه
وكذا القاضي ليس له حق الاستيفاء منه
ومع ذلك يجعل المدعي مستحقا لذلك
الثالث أن القضاء وكذا الحسبة أمر جزئي
ولا ينعقد بالبيعة فيكف تنعقد بها الإمامة العظمى العامة لجميع المسلمين كافة
قلنا لا نسلم عدم انعقاد القضاء أو الحسبة بالبيعة للخلاف فيه
وإن سلم عدم انعقاده بها فذلك عند وجود الإمام لإمكان الرجوع إليه في هذا المهم
وأما عند عدمه فلا بد من القول بانعقاده بالبيعة تحصيلا للمصالح المنوطة به ودرءا للمفاسد المتوقعة دونه أي دون القضاء
الرابع ثبوت الإمامة بالبيعة يؤدي إلى الفتنة إذ ربما تبايع أقوام على أئمة في بلد واحد أو بلاد متعددة
ويدعي كل منهم أن الإمام الذي اختاره أولى من غيره فيؤدي ذلك إلى الفتنة
ويعود نفعه ضرا
وجوابه ما مر من أن الضرر اللازم من تركه أكثر بكثير من الضر اللازم من نصبه
وإذا تعارضا وجب دفع أعظمهما
الخامس وهو عمدتهم في إثبات مطلبهم أن العصمة والعلم بجميع مسائل الدين على التفصيل بحيث تكون كلها حاضرة عنده بلا احتياج إلى نظر واستدلال
وعدم الكفر شرط لصحة الإمامة
ولا يعلمها أهل البيعة فلا تثبت الإمامة ببيعتهم
وقد مر جوابهما أي جواب الرابع كما قررناه
وجواب الخامس وهو أن البيعة إمارة دالة على حكم الله ورسوله بإمامة صاحب البيعة
وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك (3/593)
الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحل والعقد إذ لم يقم عليه أي على هذا الافتقار دليل من العقل أو السمع بل الواحد والإثنين من أهل الحل والعقد كاف في ثبوت الإمامة ووجوب اتباع الإمام على أهل الإسلام
وذلك لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين وشدة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقها اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والإثنين كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان
ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحل والعقد فضلا عن إجماع الأمة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها هذا كما مضى
ولم ينكر عليهم أحد
وعليه أي على الاكتفاء بالواحد والإثنين في عقد الإمامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا
وقال بعض الأصحاب يجب كون ذلك العقد من واحد أو اثنين بمشهد بينة عادلة كفا للخصام في ادعاء من يزعم عقد الإمامة له سرا قبل من عقد له جهرا
فإنه إذا لم يشترط البينة العادلة توجهت المخاصمة بالعقد سرا
وإذا اشترطت اندفعت لأن ذلك العقد غير صحيح
وهذا الذي ذكر من اعتبار البينة العادلة وعدمه من مسائل الاجتهادية فيجتهد فيها ويعمل بما يؤدي الاجتهاد إليه
ثم إذا اتفق التعدد في بلد أو بلاد تفحص عن المتقدم فأمضى
ولو أصر الآخر فهو من البغاة
فيجب أن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله
فإن لم يكن هناك متقدم أو كان ولم يعلم بعينه وجب إبطال الجميع واستئناف العقد لمن وقع عليه الاختيار
ولا يجوز العقد لإمامين في صقع أي جانب متضايق الأقطار لأدائه إلى وقوع الفتنة واختلال النظام أما في متسعها أي أما العقد لإمامين في صقع متسع الأقطار بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد لوقوع الخلاف (3/594)
وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين
تذنيب قالت الجارودية من الزيدية الإمامة شورى في أولاد الحسن والحسين
فكل فاطمي خرج بالسيف داعيا إلى الحق وكان عالما بأمور الدين شجاعا فهو إمام يجب مطاوعته فلذلك جوزوا تعدد الأئمة في صقع متضايق الأقطار وهو خلاف الإجماع المنعقد من السلف قبل ظهورهم
ولذلك أيضا جعلوا الدعوة طريقا لثبوت الإمامة
قال الإمام الرازي اتفقت الأمة على أنه لا مقتضى لثبوتها إلا أحد أمور ثلاثة النص والاختيار والدعوة
وهو أن يباين الظلمة من هو من أهل الإمامة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو الناس إلى اتباعه
ولا نزاع لأحد في أن النص طريق إلى إمامة المنصوص عليه
وأما الطريقان الآخران فنفاهما الإمامية
واتفق أصحابنا والمعتزلة والخوارج والصالحية من الزيدية على أن الاختيار طريق إليها أيضا
وذهب سائر الزيدية إلى أن الدعوة أيضا طريق إليها
ولم يوافقهم على ذلك سوى الجبائي
المقصد الرابع
المتن في الإمام الحق بعد رسول الله
وهو عندنا أبو بكر
وعند الشيعة علي رضي الله عنهما
لنا وجهان (3/595)
الأول أن طريقة إما النص أو الإجماع
أما النص فلم يوجد لما سيأتي
وأما الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر اتفاقا
الثاني الإجماع على أحد الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس
ثم إنهما لم ينازعا أبا بكر ولو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية لأن العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك
ولأن ترك المنازعة مع إمكانها مخل بالعصمة وأنتم توجبونها
لا يقال لا نسلم إلا مكان لأنا نقول علي في غاية الشجاعة
وفاطمة مع علو منصبها زوجته والحسن والحسين ولداه والعباس مع علو منصبه معه روي أنه قال أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان
والزبير مع شجاعته كان معه حتى قيل إنه سل السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر
وقال أبو سفيان أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي
والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا منا أمير ومنكم أمير
ولو كان على إمامة علي نص جلي لأظهره قطعا
وكيف وأبو بكر عندهم شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة
وكلام الشيعة يدور على أمور
أحدها إن الإمام يجب أن يكون معصوما لما مر
وأبو بكر لم يكن معصوما اتفاقا لما سنذكره (3/596)
والجواب منع وجوب العصمة
وقد تقدم
وثانيها البيعة لا تصلح طريقا إلى إثبات الإمامة
وإمامة أبي بكر إنما تستند إليها اتفاقا
الجواب ما مر
وثالثها علي أفضل الخلائق
ولا يجوز إمامة المفضول وسيأتي تقريرا وجوابا
ورابعها نفي أهلية الإمامة عن أبي بكر لوجوه
الأول أنه كان ظالما
وقال تعالى لا ينال عهدي الظالمين
بيان كونه ظالما أنه كان كافرا قل البعثة
وقد قال تعالى والكافرون هم الظالمون
وأيضا فمنع فاطمة إرثها لفدك وقد كانت مستحقة لنصفها لأنه قال تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف
وفاطمة معصومة لقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت في معرض الامتنان والتعظيم
ولقوله فاطمة بضعة مني
وأنه فكذا بضعته
فتكون صادقة في دعواها الإرث (3/597)
قلنا شرائط الإمامة ما تقدم وكان مستجمعا لها يدل عليه كتب السير والتواريخ
ولا نسلم كونه ظالما
قولهم كان كافرا قبل البعثة تقدم الكلام فيه
قولهم خالف الآية في منع الإرث
قلنا لمعارضتها بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة
حجية خبر الواحد والترجيح مما لا حاجة بنا إليه لأنه كان حاكما بما سمعه من رسول الله وعلم دلالته على ما حمله عليه لانتفاء الاحتمالات بقرينة الحال
قولهم فاطمة معصومة
قلنا ممنوع لأن أهل البيت يتناول أزواجه وأقرباءه كما رواه الضحاك ولم يكونوا معصومين
وقوله بضعة مني مجاز قطعيا
وعصمة النبي قد تقدم ما فيها ولا يجب مساواة البعض الجملة
فإن قيل ادعت أنه نحلها
وشهد علي والحسن والحسين وأم كلثوم فرد أبو بكر شهادتهم
قلنا أما الحسن والحسين فللفرعية
وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة
ولعله لم ير الحكم بشاهد ويمين لأنه مذهب كثير من العلماء
الثاني لم يوله النبي في حال حياته وحيث بعثه إلى مكة ليقرأ سورة براءة على أهلها عزله باتباعه عليا
وقال لا يبلغ عني إلا رجل مني ولم يره أهلا لتبليغ ذلك فأنى يكون أهلا للإمامة العظمى (3/598)
قلنا بل أمره على الحجيج سنة تسع
وأمره بالصلاة بالناس في مرضه
وأنما اتبعه عليا لأن عادة العرب في أخذ العهود أن يتولاه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه
ولم يعزله عما ولاه من أمر الحجيج
قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق والروايات متعاضدة على ذلك
الثالث شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة بل عالما بجميع الأحكام كما مر
ولم يكن أبو بكر كذلك لأنه أحرق فجاءة بالنار
وكان يقول أنا مسلم
وقطع يسار السارق وهو خلاف الشرع
وقال لجدة سألته عن ميراثها لا أجد لك في كتاب الله وسنة رسوله ارجعي حتى أسأل الناس
فأخبر أن رسول الله جعل لها السدس
قلنا الأصل ممنوع
وإنما الواجب الاجتهاد
ولا يقتضي كون جميع الأحكام عتيدة عنده
وأنه مجتهد
إذ ما من مسألة
في الغالب
إلا وله فيها قول مشهور عند أهل العلم
وإحراق فجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنه زنديق
ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح
وأما قطع اليسار فلعله من غلط الجلاد أو رآه في الثالثة وهو رأي الأكثر
ووقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة لأنه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام
الرابع عمر
مع أنه حميمه وناصره وله العهد من قبله
قد ذمه حيث شفع إليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الحطيئة فقال دويبة سوء وهو خير من أبيه
وأنكر عليه عدم قتل خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن (3/599)
نويرة وتزوج بزوجته
وقال لئن وليت الأمر لأقيدنك به
وقال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه
قلنا نسبة الذم إليه من الأكاذيب الباردة
فإن عمر
مع كمال عقله
وكانت إمامته بعهد أبي بكر إليه والقدح في أبي بكر قدح في إمامته
كيف يتصور منه ذلك وإنكاره قتل خالد من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدى إليه اجتهادهم
وأما قوله في بيعة أبي بكر فمعناه أن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه مظنة للفتنة فلا يقدمن عليه أحد على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسر الأمر بلا تبعة ثم إنك خبير بأن أمثال هذه لا تعارض الإجماع على إمامته المستلزم للإجماع على أهليته للإمامة
وخامسها ادعاء النص على إمامة علي إجمالا وتفصيلا
أما إجمالا فقالوا نعلم وجود نص جلي وإن لم يبلغنا بعينه لوجهين
الأول أن عادة الرسول تقضي باستخلافه على الأمة عند غيبته عنهم كما كان يستخلف على المدينة عند نهوضه للغزوات
ولا يخل بذلك البتة ولا يترك أهل البلد فوضى فكيف يجوز أن يخلي الأمة بأجمعها عند الغيبة الكبرى التي لا رجوع بعدها بلا إمام وأيضا شفقته على الأمة معلومة
وعلمهم في أمر خسيس كقضاء الحاجة دقائق آدابه
فكيف لا يعين لهم من يصلح حالهم به معاشا ومعادا
الجواب أنه لما علم أن الصحابة يقومون بذلك ولا يخلون به لم يفعل ذلك لعدم الحاجة إليه
ثم عدم النص معلوم قطعا
لأنه لو وجد لتواتر ولم يكن ستره عادة
وأيضا لو وجد نص جلي على إمامة علي لمنع به غيره عن الإمامة كما منع أبو بكر الأنصار بقوله الأئمة من (3/600)
قريش
مع كونه خبر واحد فأطاعوه وتركوا الإمامة لأجله
فكيف يتصور أن يوجد نص جلي متواتر في علي وهو بين قوم لا يعصون خبر الواحد في ترك الإمامة وشأنهم في الصلابة في الدين ما يشهد به بذلهم الأموال والأنفس ومهاجرتهم الأهل والوطن وقتلهم الأولاد والآباء والأقارب في نصرة الدين ثم لا يحتج عليهم بذلك بل ولا يقول أحد منهم عند طول النزاع في أمر الإمامة ما بالكم تتنازعون والنص قد عين فلانا ولو زعم زاعم أنه فعل ذلك فلم يقبلوه كان مباهتا منكرا للضرورة
وأما تفصيلا فالكتاب والسنة
أما الكتاب فمن وجهين
الأول وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
والآية عامة في الأمور كلها لصحة الاستثناء
ومنها الإمامة وعلي من أولي الأرحام دون أبي بكر
والجواب منع العموم وصحة الاستثناء معارض بصحة التقسيم
الثاني إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
والولي إما المتصرف وإما الناصر تقليلا للاشتراك
والناصر غير مراد لعموم النصرة
قال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
فهو المتصرف
والمتصرف في الأمة هو الإمام
وأجمع أئمة التفسير أن المراد علي
وللإجماع على أن غيره غير مراد
والجواب أن المراد هو الناصر
والأدل على إمامته حال حياة الرسول ولأن ما تكرر فيه صيغ الجمع كيف يحمل على الواحد ولأن ذلك غير (3/601)
مناسب لما قبلها وهو قوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
وما بعدها وهو قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
وأما السنة فمن وجوه
الأول خبر الغدير وهو أنه أحضر القوم وقال لهم ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله
وجه الاستدلال أن المراد بالمولى هو الأولى ليطابق مقدمة الحديث
ولأنه يقال للمعتق والمعتق وابن العم والجار والحليف والناصر والأولى بالتصرف
والستة الأولى غير مرادة قطعا ولأنها تشترك في الولاية فيجب الحمل عليها دفعا للاشتراك
الجواب منع صحة الحديث ودعوى الضرورة مكابرة كيف ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث
ولأن عليا لم يكن يوم الغدير مع النبي فإنه كان باليمن
وإن سلم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث
والمراد بالمولى الناصر بدليل آخر الحديث
ولأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد ولجواز هو أولى من كذا دون مولى من كذا
وأولى الرجلين أو الرجال دون مولى
وإن سلم فأين الدليل على أن المراد الأولى بالتصرف والتدبير بل في أمر من الأمور كما قال الله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه
وتقول التلامذة نحن أولى بأستاذنا
ويقول الأتباع نحن أولى بسلطاننا
ولصحة الاستفسار والتقسيم (3/602)
الثاني قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى
ومن المنازل الثابتة لهارون استحقاقه للقيام مقامه بعد وفاته لو عاش إلا أن ذلك كان له بحكم المنزلة في النبوة وانتفى ههنا بدليل الاستثناء
الجواب منع صحة الحديث أو المراد استخلافه على قومه في قوله اخلفني في قومي لاستخلافه على المدينة
ولا يلزم دوامه بعد وفاته
ولا يكون عدم دوامه عزلا له
ولا عزله إذا انتقل إلى مرتبة أعلى وهو الاستقلال بالنبوة منفرا
كيف والظاهر متروك لأن من منازل هارون كونه أخا ونبيا
هذا ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوته لا للخلافة
وقد نفى النبوة فيلزم نفي مسببه
الثالث قوله سلموا على علي بإمرة المؤمنين
الجواب منع صحة الحديث للقاطع المتقدم
وكذا قوله أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني
وقوله إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين
وبعد الأجوبة المفصلة هذه النصوص معارضة بالنصوص الدالة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
وهي من وجوه
الأول قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وأقل الجمع ثلاثة
ووعد الله حق
ولم يوجد إلا خلافة الخلفاء الأربعة فهي التي وعد الله بها (3/603)
الثاني قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون
وليس الداعي محمدا لقوله تعالى سيقول لك المخلفون . . إلى قوله قل لن تتبعونا
ولا عليا لأنه لم يتفق له قتال لطلب الإسلام ولا من بعده لأنهم عندنا ظلمة وعندهم كفار
فلا يليق بهم قوله فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا فهو أحد الخلفاء الثلاثة
ويلزم خلافة أبي بكر لعدم القائل بالفصل
الثالث لو كانت إمامة أبي بكر باطلة لما كان معظما عند الله لكنه معظم وأفضل الخلق عنده
وسنزيده شرحا
الرابع كانت الصحابة وعلي يقولون له يا خليفة رسول الله
وقد قال تعالى فيهم أولئك هم الصادقون
الخامس لو كانت الإمامة حق علي ولم تعنه الأمة عليه لكانوا شر الأمم لكنهم خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
السادس قول اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر
وأقل مراتب الأمر الجواز
قالت الشيعة هذا خبر واحد
قلنا ليس أقل من خبر الطير والمنزلة وهم يدعون فيما يوافق مذهبهم التواتر
وفيما يخالفه الآحاد تحكما (3/604)
السابع قوله الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا
الثامن أنه أبا بكر في الصلاة وما عزله فيبقى إماما فيها فكذا في غيرها
إذ لا قائل بالفصل
ولذلك قال علي رضي الله عنه قدمك رسول الله في أمر ديننا أفلا نقدمك في أمر دنيانا
تذنيب إمامة الأئمة الثلاثة تعلم ما يثبت منها ببعض الوجود المذكورة
وطريقه في حق عمر نص أبي بكر
وفي حق عثمان وعلي البيعة
الشرح
المقصد الرابع في الإمام الحق بعد رسول الله
وهو عندنا أبو بكر
وعند الشيعة علي رضي الله عنهما
لنا وجهان
الأول إن طريقه أما النص أو الإجماع بالبيعة
أما النص فلم يوجد لما سيأتي
وأما الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر اتفاقا من الأمة
الثاني الإجماع منعقد على حقية إمامة أحد الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس
ثم أنهما لم ينازعا أبا بكر
ولو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية لأن العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك
ولأن ترك المنازعة مع إمكانها مخل بالعصمة إذ هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة
وأنتم توجبونها في الإمام وتجعلونها شرطا لصحة إمامته
لا يقال لا نسلم الإمكان أي إمكان منازعتهما أبا بكر لأنا نقول علي في غاية الشجاعة والتصلب في الأمور الدينية وفاطمة مع علو منصبها زوجته والحسن والحسين مع كونهما سبطي رسول الله ولداه (3/605)
والعباس مع علو منصبه عمه فإنه روي أنه قال لعلي أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه
فلا يختلف فيك اثنان
والزبير مع شجاعته كان معه حتى قيل إنه سل السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر
وقال أبو سفيان أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي
والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر بما مر من قوله الأئمة من قريش ولو كان على إمامة علي نص جلي كما ادعته الشيعة لأظهروه قطعا ولأمكنهم المنازعة جزما
وكيف لا وأبو بكر عندهم أي عند الشيعة شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة
فأنى يتصور امتناع المنازعة معه
وكلام الشيعة في إثبات إمامة علي يدور على أمور
أحدهما إن الإمام يجب أن يكون معصوما لما مر
وأبو بكر لم يكن معصوما اتفاقا لما سنذكره
وكذا العباس فتعينت إمامة علي
والجواب منع وجوب العصمة
وقد تقدم
وثانيها البيعة لا تصلح طريقا إلى إثبات الإمامة
وإمامة أبي بكر إنما تستند إليها اتفاقا
الجواب ما مر من أن البيعة طريقة صحيحة لإثبات الإمامة (3/606)
وثالثها علي أفضل الخلائق بعد رسول الله يجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل
وسيأتي ذلك تقريرا وجوابا
ورابعها نفي أهلية الإمامة عن أبي بكر لوجوه
الأول أنه كان ظالما
وقال تعالى لا ينال عهدي الظالمين
بيان كونه ظالما أنه كان كافرا قبل البعثة
وقد قال تعالى والكافرون هم الظالمون
فحصر الظلم الكامل في الكافر
وأيضا فمنع أبو بكر فاطمة إرثها لفدك وهي قرية بخيبر كانت للنبي عنها
وقد كانت فاطمة مستحقة لنصفها لأنه قال تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف وأيضا فاطمة معصومة لقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت في معرض الامتنان والتعظيم
فوجب أن ينتفي عنهم الرجس بالكلية لأن انتفاء بعضه يشاركهم فيه غيرهم
ولقوله فاطمة بضعة مني وأنه فكذا بضعته فتكون فاطمة صادقة في دعواها الإرث
لأن الكذب عمدا رجس ينافي العصمة
وكذلك الخطأ فيه
قلنا شرائط الإمامة ما تقدم
وكان أبو بكر مستجمعا لها يدل عليه كتب السير والتواريخ
ولا نسلم كونه ظالما
قولهم كان كافرا قبل البعثة تقدم الكلام فيه حيث قلنا الظالم من ارتكب معصية تسقط العدالة بلا توبة وإصلاح
فمن آمن عند البعثة وأصلح حاله لا يكون ظالما
قولهم خالف الآية في منع الإرث
قلنا لمعارضتها بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث
ما تركناه صدقة
فإن قيل لا بد لكم من بيان حجية ذلك الحديث الذي هو من قبيل الآحاد ومن بيان ترجيحه على الآية (3/607)
قلنا حجية خبر الواحد والترجيح مما لا حاجة لنا إليه ههنا لأنه رضي الله عنه كان حاكما بما سمعه من رسول الله فلا اشتباه عنده في سنده وعلم أيضا دلالته على ما حمله عليه من المعنى لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه بقرينة الحال فصار عنده دليلا
قطعيا مخصصا للعمومات الواردة في باب الإرث
قولهم فاطمة معصومة
قلنا ممنوع لأن أهل البيت يتناول أزواجه وأقرباءه كما رواه الضحاك فإنه نقل بإسناده عن النبي قال حين سألته عائشة عن أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس لقد خص الله بهذه الآية فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وعليا والحسن والحسين وجعفر وأزواج محمد وأقرباءه
ولم يكونوا معصومين بالاتفاق
وقوله بضعة مني مجاز قطعا لا حقيقة
فلا يلزم عصمتها وأيضا عصمة النبي قد تقدم ما فيها
ولا يجب أيضا مساواة البعض الجملة في جميع الأحكام
فلعل المراد بها كبضعة مني فيما يرجع إلى الخير والشفقة
فإن قيل ادعت فاطمة أنه أي أعطاها فدكا نحلة وعطية
وشهد عليه علي والحسن والحسين وأم كلثوم
والصحيح أم أيمن وهي امرأة أعتقها رسول الله حاضنة أولاده فزوجها من زيد فولدت له أسامة فرد أبو بكر شهادتهم فيكون ظالما (3/608)
قلنا أما الحسن والحسين فاللفرعية لأن شهادة الولد لا تقبل لأحد أبويه وأجداده عند أكثر أهل العلم
وأيضا هما كانا صغيرين في ذلك الوقت
وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة وهو رجلان أو رجل وامرأتان
ولعله أي أبا بكر لم ير الحكم بشاهد ويمين لأن مذهب كثير من العلماء
وأيضا قد ذهب بعضهم إلى أن شهادة أحد الزوجين للآخر غير مقبولة
الثاني من الوجوه الدالة على نفي أهليته للإمامة أنه لم يوله النبي من الأعمال المتعلقة بإقامة قوانين الشرع والسياسات العامة لجمع كثير في حال حياته وحيث بعثه إلى مكة ليقرأ سورة براءة على أهلها في موسم الحج عزله عنها باتباعه عليا
وقال لا يبلغ عني رجل مني
ولم يره أهلا لتبليغ ذلك
فأنى يكون أهلا للإمامة العظمى والرياسة العامة الشاملة لكل الأمة
قلنا لا نسلم أنه لا يوله شيئا بل أمره على الحجيج سنة تسع من الهجرة بعد فتح مكة في رمضان سنة ثمان
وأمره بالصلاة بالناس في مرضه الذي توفي فيه
وإنما أتبعه عليا في تلك السنة بعد خروجه من المدينة لأن عادة العرب في أخذ العهود ونبذها أن يتولاه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه
ولم يعزله عما ولاه من أمر الحجيج
قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق
والروايات الصحيحة متعاضدة على ذلك فقد روي عن ابن عباس أنه قال لم يصل النبي أحد من أمته إلا خلف أبي بكر وصلى خلف عبد الرحمن ابن عوف في سفر ركعة واحدة
وروي عن رابع بن عمرو بن عبيد عن أبيه (3/609)
أنه قال لما ثقل النبي الخروج أمر أبا بكر أن يقوم مقامه فكان يصلي بالناس
وربما خرج النبي ما دخل أبو بكر في الصلاة فيصلي خلفه ولم يصل خلف أحد غيره إلا أنه صلى خلف عبد الرحمن ركعة واحدة في سفر
وروى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي بهم في مرض موته حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فكدنا نطير من الفرح فنكص أبو بكر على عقبيه
وظن أن النبي خارج إلى الصلاة فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفي في يومه
وفي رواية وأرخى الحجاب
فلم يقدر عليه حتى مات
وأما ما روى البخاري بإسناده إلى عروة عن أبيه عن عائشة أنه أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم
قال عروة فوجد رسول الله من نفسه خفة فخرج إلى المحراب فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله والناس يصلون بصلاة أبي بكر أي بتكبيره
فهو إنما كان في وقت آخر
الثالث من تلك الوجوه شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة بل عالما بجميع الأحكام كما مر
ولم يكن أبو بكر كذلك لأنه أحرق فجاءة المازني بالنار وكان يقول أنا مسلم
وقطع يسار السارق وهو خلاف الشرع
وقال لجدة سألته عن ميراثها لا أجد لك في كتاب الله وسنة رسوله شيئا ارجعي حتى أسأل الناس
فأخبر أن رسول الله جعل لها السدس
قلنا الأصل وهو كون الإمام عالما بجميع الأحكام ممنوع
وإنما (3/610)
الواجب الاجتهاد
ولا يقتضي كون جميع الأحكام عتيدة أي حاضرة عنده بحيث لا يحتاج المجتهد إلى نظر وتأمل
وأنه أي أبا بكر مجتهد
إذ ما من مسألة في الغالب إلا وله فيها قول مشهور عند أهل العلم وإحراق فجاءة إنما كان لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنه زنديق
ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح
وأما قطع اليسار فلعله من غلط الجلاد أو رآه في المرة الثالثة من السرقة
وهو رأي الأكثر من العلماء ووقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك لأنه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام
الرابع من الوجوه النافية لصلوحه للإمامة عمر
مع أنه حميمه
وناصره وله العهد أي عهد الإمامة من قبله
قد ذمه حيث شفع إليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الحطيئة الشاعر فقال دويبة سوء
وهو خير من أبيه
وأنكر عمر عليه أي على أبي بكر عدم قتل خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن نويرة وهو مسلم طمعا في امرأته لجمالها
ولذلك تزوج بزوجته من ليلته وضاجعها فأشار عليه عمر بقتله قصاصا فقال أبو بكر لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار
وقال عمر مخاطبا لخالد لئن وليت الأمر لأقيدنك به
وقال عمر في ذمه أيضا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها
فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه
قلنا نسبة الذم إليه من الأكاذيب الباردة
فإن عمر
مع كمال عقله ووفور حزمه حتى قيل في حقه هو أعقل من أن يخدع وأروع من أين يخدع
وقد كانت إمامته بعهد أبي بكر إليه والقدح في أبي بكر قدح في إمامته
كيف يتصور منه ذلك
وإنكاره عدم قتل خالد أي عدم قتله من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدى إليه اجتهادهم
فإنه نقل أن خالدا إنما قتل مالكا لأنه ارتد
ورد على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة (3/611)
رسول الله
وخاطب خالدا بأنه مات صاحبك
فعلم خالد قصده أنه ليس صاحبا له فتيقن ردته
وأما تزوجه امرأته فلعلها كانت مطلقة قد انقضت عدتها إلا أنها كانت محبوسة عنده
وأما قول في بيعة أبي بكر فمعناه أن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه مظنة للفتنة العظيمة فلا يقدمن عليه أحد على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسر الأمر بلا تبعة
ثم إنك خبير بأن أمثال هذه الوجوه التي تمسكوا بها على انتفاء صلاحيته للإمامة لا تعارض الإجماع على إمامته المستلزم للإجماع على أهليته للإمامة
وخامسها أي خامس الأمور التي عليها مدار كلامهم في إثبات إمامة علي ادعاء النص على إمامة علي إجمالا وتفصيلا
أما إجمالا فقالوا نحن نعلم قطعا ويقينا وجود نص جلي
وإن لم يبلغنا بعينه لوجهين
الأول إن عادة الرسول تقضي باستخلافه على الأمة عند غيبته عنهم في حال حياته كما كان يستخلف على المدينة عند نهوضه للغزوات
ولا يخل بذلك البتة
ولا يترك أهل البلد فوضى أي متساوين لا رئيس لهم
فكيف يجوز أن يخلي الأمة بأجمعها عند الغيبة الكبرى التي لا رجوع بعدها بلا إمام يقتدون به ويرجعون إليه في مصالحهم
والثاني شفقته على الأمة معلومة مكشوفة لا سترة بها حتى قال إنما أنا لكم مثل الوالد لولده
وعلمهم في أمر خسيس كقضاء الحاجة دقائق آدابه فكيف لا يعين لهم من يصلح حالهم به معاشا ومعادا
ومن البين أنه لا نص في حق أبي بكر والعباس فتعين أن يكون في حق علي (3/612)
والجواب إنه لما علم النبي الصحابة يقومون بذلك التعيين
ولا يخلون به لم يفعل ذلك لعدم الحاجة إليه كما أنه ينص على كثير من الأحكام الشرعية بل وكلها إلى آراء المجتهدين الذين هم حماة الدين وأعلام الشرع
ثم عدم النص الجلي معلوم قطعا لأنه لو وجد لتواتر ولم يكن ستره عادة إذ هو ما تتوفر الدواعي إلى نقله
وأيضا لو وجد نص جلي على إمامة علي لمنع به غيره عن الإمامة كما منع أبو بكر الأنصار بقوله الأئمة من قريش مع كونه خبر واحد فأطاعوه وتركوا الإمامة لأجله فكيف يتصور أن يوجد نص جلي متواتر في علي وهو بين قوم لا يعصون خبر الواحد في ترك الإمامة وشأنهم في الصلابة في الدين ما يشهد به بذلهم الأموال والأنفس ومهاجرتهم الأهل والوطن وقتلهم الأولاد والآباء والأقارب في نصرة الدين ثم لا يحتج علي عليهم بذلك النص الجلي بل ولا يقول أحد منهم عند طول النزاع في أمر الإمامة ما بالكم تتنازعون فيها والنص قد عين فلانا لها
ولو زعم زاعم أنه أي عليا فعل ذلك لم يقبلوه كان ذلك الزاعم مباهتا منكرا للضرورة فلا يلتفت إلى زعمه ولا يبالي بشأنه
وأما تفصيلا فالكتاب والسنة
أما الكتاب فمن وجهين
الأول قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
والآية عامة في الأمور كلها لصحة الاستثناء إذ يجوز أن يقال أولى إلا في كذا
ومنها أي ومن الأمور التي تعمها الآية الإمامة والخلافة وعلي من أولي الأرحام دون أبي بكر
والجواب منع العموم
وصحة الاستثناء معارض بصحة التقسيم إذ (3/613)
يجوز أن يقال هذه الأولوية إما من جهة الخلافة أو الإرث أو العطف والشفقة إلى غير ذلك من المحتملات فلا تكون عامة لأن العام يتناول جميع جزئياته لا أحدها فقط
وتحريره أنها مطلقة
فإذا استثنى كان تقدير الكلام أولى من كل الوجوه
وإلا كانت باقية على إطلاقها
الثاني قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
والولي إما المتصرف أي الأولى والأحق بالتصرف كولي الصبي والمرأة
وأما المحب والناصر تقليلا للاشتراك في لفظ الولي
وأيضا لم يعهد له في اللغة معنى ثالث
والناصر غير مراد في هذه الآية لعموم النصرة والمحبة في حق كل المؤمنين قال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض أي بعضهم محب بعض وناصره
فلا يصح حصرها بكلمة إنما في المؤمنين الموصوفين بالصفة المذكورة في الآية
فهو المتصرف والمتصرف في الأمة هو الإمام
وقد أجمع أئمة التفسير على أن المراد بالذين يقيمون الصلاة إلى قوله تعالى وهم راكعون علي
فإنه كان في الصلاة راكعا فسأله سائل فأعطاه خاتمه فنزلت الآية
وللإجماع على أن غيره كأبي بكر مثلا غير مراد فتعين أنه المراد فتكون الآية نصا في إمامته
والجواب إن المراد هو الناصر والأول نظم الآية على إمامته وكونه أولى بالتصرف حال حياة الرسول
ولا شبهة في بطلانه
ولأن ما تكرر فيه صيغ الجمع كيف يحمل على الواحد وكونه نازلا في حقه لا ينافي شموله لغيره أيضا ممن يجوز اشتراكه معه في تلك الصفة
ولأن ذلك (3/614)
أي حمل الولي في الآية على الأولى والأحق بالتصرف غير مناسب لما قبلها وهو قوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
فإن الأولياء ههنا بمعنى الأنصار لا بمعنى الأحقين بالتصرف وغير مناسب ما بعدها
وهو قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
فإن التولي ههنا بمعنى المحبة والنصرة دون التصرف
فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا ليتلاءم أجزاء الكلام
وأما السنة فمن وجوه
الأول خبر الغدير
وهو أنه القوم بعد رجوعه من حجة الوداع بغدير خم وهو موضع بين مكة والمدينة بالجحفة
وأمر بجمع الرحال فصعد عليها وقال لهم أولست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى
قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله
وجه الاستدلال أن المراد بالمولى ههنا هو الأولى ليطابق مقدمة الحدث ولأنه أي لفظ المولى يقال للمعتق والمعتق وابن العم والجار والحليف والناصر والأولى بالتصرف والستة الأولى غير مرادة ههنا قطعا فإن الحمل على المعتق والجار وابن العم يؤدي إلى الكذب والنبي يكن معتقا ولا حليفا لأحد والحمل على الناصر ممتنع
فإن كل واحد يعلم من دينه ضرورة وجوب تولي المؤمنين بعضهم لبعض
فتعين الحمل على الأولى بالتصرف لما ذكرناه
ولأنها أي المعاني المذكورة تشترك في الولاية فيجب الحمل عليها وجعل حقيقة في هذا القدر المشترك دفعا للاشتراك اللفظي
الجواب منع صحة الحديث
ودعوى الضرورة في العلم بصحته لكونه (3/615)
متواترا مكابرة
كيف ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث كالبخاري ومسلم وأضرابهما
وقد طعن بعضهم فيه كابن أبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما من أئمة الحديث
ولأن عليا لم يكن يوم الغدير مع النبي فإنه كان باليمن ورد هذا بأن غيبته لا تنافي صحة الحديث إلا أن يروى هكذا أخذ بيد علي أو استحضره وقال
وإن سلم أن هذا الحديث صحيح فرواته أي أكثرهم لم يرووا مقدمة الحديث وهي ألست أولى بكم من أنفسكم
فلا يمكن أن يتمسك بها في أن المولى بمعنى الأولى
والمراد بالمولى هو الناصر بدليل آخر الحديث وهو قوله وال من والاه . . الخ
ولأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة العربية
وقوله تعالى مأواكم النار هي مولاكم
أي مقركم وما إليه مآلكم وعاقبتكم
ولهذا قال الله تعالى وبئس المصير
وقد قيل المراد ههنا أيضا الناصر فيكون مبالغة في نفي النصرة على طريقة قولهم الجوع زاد من لا زاد له
والاستعمال أيضا يدل على أن المولى ليس بمعنى الأول لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولى من كذا
وأن يقال أولى الرجلين أو الرجال دون مولى الرجلين أو الرجال
وإن سلم أن المولى بمعنى الأولى فأين الدليل على أن المراد الأولى بالتصرف والتدبير بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال الله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه (3/616)
وأراد الأولوية في الاتباع والاختصاص به والقرب منه لا في التصرف فيه
وتقول التلامذة نحن أولى بأستاذنا
ويقول الأتباع نحن أولى بسلطاننا ولا يريدون الأولوية في التصرف والتدبير بل في أمر ما والصحة الاستفسار إذ يجوز أن يقال في أي شيء هو أولى في نصرته أو محبته أو التصرف فيه
ولصحة التقسيم بأن يقال كون فلان أولى بزيد إما في نصرته وإما في ضبط أمواله وإما في تدبيره والتصرف فيه
وحينئذ لا يدل الحديث على إمامته
الثاني من وجوه السنة قوله حين خرج إلى غزوة تبوك واستخلفه على المدينة أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فإنه يدل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي من النبي
إذ لو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل لما صح الاستثناء
ومن المنازل الثابتة لهارون من موسى استحقاقه للقيام مقامه بعد وفاته لو عاش هارون بعده
وذلك لأنه كان خليفة لموسى في حياته بدليل قوله اخلفني في قومي
لا معنى للخلافة إلا القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرفات فوجب أن يكون خليفة له بعد موته على تقدير بقائه
وإلا كان عزله موجبا لتنقصه والنفرة عنه
وذلك غير جائز على الأنبياء إلا أن ذلك القيام مقام موسى كان له بحكم المنزلة في النبوة وانتفى ههنا بدليل الاستثناء
قال الآمدي الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بهذا الحديث هو أن من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكا له في الرسالة
ومن (3/617)
لوازمه استحقاق الطاعة بعد وفاة موسى لو بقي
فوجب أن يثبت ذلك لعلي إلا أنه امتنع الشركة في الرسالة فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي بالدليل بأقصى ما يمكن
الجواب منع صحة الحديث كما منعه الآمدي
وعند المحدثين أنه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد أو نقول على تقدير صحته لا عموم له في المنازل بل المراد استخلافه على قومه في قوله اخلفني في قومي لاستخلافه على المدينة أي المراد من الحديث أن عليا خليفة منه على المدينة في غزوة تبوك كما أن هارون كان خليفة لموسى في قومه حال غيبته
ولا يلزم دوامه أي دوام استخلاف موسى بعد وفاته
فإن قوله اخلفني لا عموم له بحيث تقتضي الخلافة في كل زمان بل المتبادر استخلافه مدة غيبته
ولا يكون حينئذ عدم دوامه بعد وفاة موسى لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه عزلا له كما لو صرح بالاستخلاف في بعض التصرفات دون بعضها ولا عزل إذا انتقل إلى مرتبة أعلى وهو الاستقلال بالنبوة منفرا يعني وإن سلمنا تناول اللفظ لما بعد الموت
وإن عدم بقاء خلافته يعدل عزل له لم يكن ذلك العزل منفرا عنه وموجبا لنقصانه في الأعين
وبيانه أنه وإن عزل عن خلافة موسى فقد صار بعد العزل مستقلا بالرسالة والتصرف على الله تعالى
وذلك أشرف وأعلى من كونه مستخلف موسى مع الشركة في الرسالة
كيف والظاهر متروك
أي وإن فرض أن الحديث يعم المنازل كلها كان عاما مخصوصا لأن من منازل هارون كونه أخا نسبيا ونبيا
والعام المخصوص ليس حجة في الباقي أو حجيته ضعيفة
ولو ترك قوله ونبيا لكان أولى
ثم شرع في الجواب عن الوجه الثاني بقوله هذا ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوته لا للخلافة عن موسى كما اعترفتم به في هذا الوجه
وقد نفى النبوة ههنا لاستحالة كون علي نبيا فيلزم نفي مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر (3/618)
الثالث من وجوه السنة قوله سلموا على علي بإمرة المؤمنين
بكسر الهمزة
الجواب منع صحة الحديث للقاطع المتقدم الدال على عدم النص الجلي
وكذا قوله أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني بكسر الدال
وقوله إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين
وبعد الأجوبة المفصلة على الوجوه المذكورة نقول هذه النصوص التي تمسكوا بها في إمامة علي رضي الله عنه معارضة بالنصوص الدالة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
وهي من وجوه
الأول قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم
والخطاب للصحابة
وأقل الجمع ثلاثة
ووعد الله حق فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكن بها الدين ولم يوجد على هذه الصفة إلا خلافة الخلفاء الأربعة
فهي التي وعد الله بها
الثاني قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون
وليس الداعي إلى هؤلاء القوم لطلب الإسلام محمدا تعالى سيقول لك المخلفون إلى قوله لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فقد علم النبي هذه الآية أنهم لا يتبعون أبدا فكيف يدعوهم إلى القتال
وأيضا فإن المخلفين لم يدعوا إلى المحاربة في حياته
ولا عليا لأنه لم يتفق له في أيام خلافته قتال لطلب الإسلام بل لطلب الإمامة ورعاية (3/619)
عضوضا فقد حكم بأن القائمين بالأمر في مدة ثلاثين سنة بعده بالخلافة عنه في أمر الدين وإعلاء كلمة الله
وأن القائمين به بعدها من أهل الدنيا موصوفون بكونهم ملوكا
وذلك دليل ظاهر على صحة خلافة الخلفاء الأربعة
الثامن إنه أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به
وما عزله كما مر تقريره فيبقى بعده إماما فيها
فكذا في غيرها
إذ لا قائل بالفصل
ولذلك قال علي رضي الله عنه قدمك رسول الله في أمر ديننا أفلا نقدمك في أمر دنيانا
تذنيب إمامة الأئمة الثلاثة تعلم ما يثبت منها ببعض الوجوه المذكورة
يريد أن ما ذكرناه إنما كان لإثبات إمامة أبي بكر
وأما إمامة الأئمة الثلاثة الباقية فأنت تعلم أنها أو بعضا منها يمكن إثباتها ببعض الوجوه السابقة مثل قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا . . . الآية
وقوله الخلافة بعدي . . الحديث
وقوله اقتدوا بالذين من بعدي . . إلى آخره
وطريقه المعول عليه في حق عمر نص أبي بكر وذلك أنه دعا في مرضه عثمان بن عفان وأمره أن أكتب هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالعقبى حالة يبر فيها الفاجر ويؤمن فيها الكافر إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب
فإن أحسن السيرة فذلك ظني به والخير أردت
وإن تكن (3/621)
الأخرى فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
وفي حق عثمان وعلي البيعة
فإن عمر لم ينص على أحد بل جعل الإمامة شورى بين ستة وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص
وقال لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما ترددت فيه
وإنما جعلها شورى بينهم لأنه رآهم أفضل ممن عداهم
وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم
وقال في حقهم مات رسول الله وهو عنهم راض
ولم يترجح في نظره واحد منهم فأراد أن يستظهر برأي غيره في التعيين
ولذلك قال إن انقسموا اثنين وأربعة فكونوا مع الأربعة
ميلا منه إلى الأكثر لأن رأيهم إلى الصواب أقرب
وإن تساووا فكونوا في الحزب الذي فيه عبد الرحمن
ولم يعين أحدا منهم للصلاة عليه كيلا يفهم منه أنه عينه بل وصى بها إلى صهيب
ولما تشاوروا اتفقوا على عثمان وبايعه عبد الرحمن
ولما استشهد عثمان اتفق الناس على بيعة علي رضي الله تعالى عنه
المقصد الخامس
المتن في أفضل الناس بعد رسول الله
هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر رضي الله عنه
وعند الشيعة أكثر متأخري المعتزلة علي
لنا وجوه
الأول قوله تعالى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى (3/622)
قال أكثر المفسرين
واعتمد عليه العلماء إنها نزلت في أبي بكر
فهو أكرم عند الله لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم
وهو الأفضل
وأيضا فقوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى
يصرفه عن علي إذ عنده نعمة التربية
وهي نعمة تجزى
الثاني قوله اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر
عمم الأمر فيدخل في الخطاب علي وهو يشعر بالأفضلية
إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيما عندهم
الثالث قوله الدرداء والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر
الرابع قوله بكر وعمر هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين
الخامس قوله ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره
السادس تقديمه في الصلاة مع أنها أفضل العبادات
وقوله يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر (3/623)
السابع قوله خير أمتي أبو بكر ثم عمر
الثامن قوله لو كنت متخذا خليلا
دون ربي
لاتخذت أبا بكر خليلا
ولكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي
التاسع قوله وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف
العاشر قول علي رضي الله عنه خير الناس
بعد النبيين
أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم
وقوله إذ قيل له ما توصي ما أوصى رسول الله حتى أوصي
ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم
بعد نبيهم
على خيرهم
لهم فيه مسلكان
المسلك الأول ما يدل عليه إجمالا
وهو وجوه
الأول آية المباهلة
وجه الاحتجاج أن قوله وأنفسنا لم يرد به نفس النبي بل المراد به علي دلت عليه الأخبار الصحيحة
وليس نفس علي نفس محمد
فالمراد المساواة فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي
وقد يمنع أن المراد علي بل جميع قراباته وخدمه داخلون فيه يدل عليه صيغة الجمع
الثاني خبر الطير وهو قوله اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل (3/624)
معي هذا الطير فأتى علي والمحبة من الله كثرة الثواب والتعظيم
وأجيب بأنه لا يفيد كونه أحب إليه في كل شيء لصحة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض
الثالث قوله ذي الثدية يقتله خير الخلق وقد قتله علي
وأجيب بأنه ما باشر قتله فيكون من باشره من أصحابه خيرا منه
وأيضا فمخصوص بالنبي ويضعف حينئذ عمومه للباقي
الرابع قوله أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي علي ابن أبي طالب
وأجيب بأنه يدل على أنه خير من يتركه قاضيا ومنجزا
فلا يتناول الكل
الخامس قوله لفاطمة أما ترضين أني زوجتك من خير أمتي
وأجيب بأنه لا يلزم كونه خيرا من كل وجه
ولعل المراد خيرهم لها
السادس قوله خير من أتركه بعدي علي
وأجيب بما مر
السابع قوله أنا سيد العالمين وعلي سيد العرب
أجيب بأن السيادة الارتفاع لا الأفضلية
وإن سلم فهو كالخبر لا عموم له
الثامن قوله إن الله اطلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتخذه نبيا
ثم اطلع ثانية واختار منهم بعلك (3/625)
وأجيب بأنه لا عموم فيه فلعله اختاره للجهاد أو لبعلية فاطمة
التاسع إنه آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه
قيل لا دلالة إذ لعل ذلك لزيادة شفقته عليه للقرابة وزيادة الألفة والخدمة
العاشر قوله ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا منهزمين لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار وأعطاها عليا
وذلك يدل على أن ما وصفه به لم يوجد في غيره فقيل نفي المجموع لا يجب أن يكون بنفي كل جزء منه
بل يجوز أن يكون بنفي كونه كرارا غير فرار
ولا يلزم حينئذ الأفضلية مطلقا
الحادي عشر قوله تعالى في حق النبي فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين
والمراد بصالح المؤمنين علي كما نقله كثير من المفسرين
فقيل معارض بما عليه الأكثر من العموم وقوم من أن المراد أبو بكر وعمر
الثاني عشر قوله من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته
وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى ابن أبي طالب
فقد ساواه بالأنبياء وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعا
وأجيب بأنه تشبيه ولا يدل على المساواة
وإلا كان علي أفضل من الأنبياء لمشاركته لكل في فضيلته
واختصاصه بفضيلة الآخرين
والإجماع على أن الأنبياء أفضل من الأولياء (3/626)
المسلك الثاني ما يدل عليه تفصيلا
وهو أن فضيلة المرء على غيره إنما تكون بما له من الكمالات
وقد اجتمع في علي منها ما تفرق في الصحابة
وهي أمور
الأول العلم
وعلي أعلم الصحابة
لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم ومحمد الناس وأحرصهم على إرشاده وكان في صغره في حجره
وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت
وذلك يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ
وأما أبو بكر فاتصل بخدمته في كبره وكان يصل إليه في اليوم مرة أو مرتين
ولقوله أقضاكم علي والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم فلا يعارضه نحو أفرضكم زيد وأقرؤكم أبي
ولقوله تعالى وتعيها أذن واعية
وأكثر المفسرين على أنه علي
ولأنه نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر وعن رجم الحاملة
فقال عمر لولا علي لهلك عمر ولقول علي لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم
والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت
ولأن عليا ذكر في خطبته من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة
ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع
وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه
وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى
وعلم النحو إنما ظهر منه
وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه
وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة
وكذا علم الفتوة والأخلاق (3/627)
الثاني الزهد
اشتهر عنه أنه
مع اتساع أبواب الدنيا عليه
ترك التنعم
وتخشن في المآكل والملابس حتى قال للدنيا طلقتك ثلاثا
الثالث الكرم كان يؤثر المحاويج على نفسه وأهله حتى تصدق في الصلاة بخاتمه ونزل ما نزل وتصدق في ليالي صيامه المنذور بما كان فطوره ونزل فيه ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
الرابع الشجاعة
تواتر مكافحته للحروب ولقاء الأبطال
وقتل أكابر الجاهلية حتى قال الأحزاب لضربة علي خير من عبادة الثقلين
وتواتر وقائعه في خيبر وغيره
الخامس حسن خلقه حتى نسب إلى الدعابة
السادس مزيد قوته حتى قلع باب خيبر بيده وقال ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية
السابع نسبه وقربه من الرسول نسبا ومصاهرة
وهو غير خفي
وعباس وإن كان عم النبي كان أخا عبد الله من الأب وأبو طالب أخاه من الأب والأم
الثامن اختصاصه بصاحبة كفاطمة وولدين كالحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة ثم أولاد أولاده ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتى كان أبو يزيد سقاء في دار جعفر الصادق رضي الله عنه ومعروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا (3/628)
والجواب عن الكل أنه يدل على الفضيلة
وأما الأفضلية فلا
كيف ومرجعها إلى كثرة الثواب وذلك يعود إلى الاكتساب والإخلاص
وما يعود إلى نصرة الإسلام ومآثرهم في تقوية الدين
واعلم أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين وليست مسألة يتعلق بها عمل فيكتفي فيها بالظن
والنصوص المذكورة من الطرفين
بعد تعارضها
لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لكنا وجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه
فوجب علينا اتباعهم في ذلك
وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله
الشرح
المقصد الخامس في أفضل الناس بعد رسول الله
هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر رضي الله عنه
وعند الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة علي
لنا وجوه
الأول قوله تعالى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى
قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء إنها نزلت في أبي بكر فهو أتقى
ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم
وهو أي الأكرم عند الله هو الأفضل فأبو بكر أفضل ممن عداه من الأمة
وأيضا فقوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى يصرفه عن الحمل على علي إذ عنده نعمة التربية فإن النبي (3/629)
ربى عليا وهي نعمة تجزى وإذا لم يحمل عليه تعين أبو بكر للإجماع على أن ذلك الأتقى هو أحدهما لا غير
الثاني قوله اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر عمم الأمر بالاقتداء فيدخل في الخطاب علي وهو يشعر بالأفضلية إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيما عندهم إذ لا يجوزون إمامة المفضول أصلا كما سيأتي
الثالث قوله الدرداء والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر
الرابع قوله بكر وعمر هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين
الخامس قوله ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره
السادس تقديمه في الصلاة مع أنها أفضل العبادات
وقوله يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر وفي معناه قوله يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر
وذلك أن بلالا أذن بالصلاة في أيام مرضه فقال النبي الله بن (3/630)
زمعة اخرج وقل لأبي بكر يصلي بالناس
فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر
فقال يا عمر صل بالناس
فلما كبر وكان رجلا صيتا وسمع قال ذلك ثلاث مرات
السابع قوله خير أمتي أبو بكر ثم عمر
الثامن قوله لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا
ولكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي
التاسع قوله ذكر عنده أبو بكر وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف
العاشر قول علي رضي الله عنه خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم
وقوله إذ قيل له ما توصي أي أما توصي وما تعين من يقوم مقامك بعدك ما أوصى رسول الله حتى أوصي
ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم
لهم أي للشيعة ومن وافقهم فيه أي في بيان أفضلية علي مسلكان
الأول ما يدل عليه أي على كونه أفضل إجمالا وهو وجوه
الأول آية المباهلة وهي قوله تعالى تعالوا ندع آبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم وجه الاحتجاج أن قوله تعالى (3/631)
وأنفسنا لم يرد به نفس النبي لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به علي
دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل أنه عليا إلى ذلك المقام وليس نفس علي نفس محمد حقيقة فالمراد المساواة في الفضل والكمال
فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي فيساوي النبي في كل فضيلة سوى النبوة فيكون فضل من الأمة
وقد يمنع أن المراد بأنفسنا علي وحده بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفا منزلة نفسه فيه تدل عليه صيغة الجمع
الثاني خبر الطير
وهو قوله حين أهدي إليه طائر مشوي اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فأتى علي وأكل معه الطائر
والمحبة من الله كثرة الثواب والتعظيم فيكون هو أفضل وأكثر ثوابا
وأجيب بأنه لا يفيد كونه أحب إليه في كل شيء لصحة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض
ألا ترى أنه يصح أن يستفسر ويقال أحب خلقه إليه في كل شيء أو في بعض الأشياء وحينئذ جاز أن يكون أكثر ثوابا في شيء دون آخر فلا يدل على الأفضلية مطلقا
الثالث قوله ذي الثدية يقتله خير الخلق
وفي رواية خير هذه الأمة
وقد قتله علي (3/632)
وأجيب بأنه ما باشر قتله فيكون من باشره من أصحابه خيرا منه ومن سائر الخلق
وهو باطل إجماعا
وأيضا فمخصوص بالنبي أي هو خارج من الخلق المذكور في الحديث
وإلا كان علي خيرا منه
ويضعف حينئذ عمومه للباقي
وقيل الصواب في الجواب أن عليا حين قتله كان أفضل الخلق لأن قتله إياه كان في زمن خلافته بعد ذهاب المشايخ الثلاثة
الرابع قوله أخي وزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي علي بن أبي طالب
وأجيب بأنه لا دلالة للأخوة والوزارة على الأفضلية
وأما باقي الكلام فإنه يدل على أنه خير من يتركه قاضيا لدينه ومنجزا لوعده
وذلك لأن قوله يقضي مفعول ثان ل أتركه أو حال من مفعوله
وحينئذ فلا يتناول الكل
الخامس قوله أما ترضين أني زوجتك من خير أمتي
وأجيب بأنه لا يلزم منه كونه خيرا من كل وجه
ولعل المراد خيرهم لها باعتبار القرابة والشفقة ورعاية الموافقة
السادس قوله خير من أتركه بعدي علي وأجيب بما مر من أنه لا يلزم كونه خيرا من كل وجه بل جاز أن يكون ذلك في قضاء الدين وإنجاز الوعد
السابع قوله أنا سيد العالمين وعلي سيد العرب
قالت عائشة رضي الله عنها كنت عند النبي إذ أقبل علي فقال هذا سيد العرب
فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألست سيد العرب فقال أنا . . الحديث
أجيب بأن السيادة هي الارتفاع لا الأفضلية
وإن سلم فهو كالخبر لا عموم له
فلا يلزم كونه سيدا في كل شيء بل في بعض الأشياء (3/633)
الثامن قوله إن الله اطلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتخذه نبيا ثم اطلع ثانية واختار منهم بعلك
وأجيب بأنه لا عموم فيه فلعله اختاره للجهاد أو بعلية فاطمة
التاسع إنه آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه
وذلك يدل على علو رتبته وأفضليته
قيل لا دلالة لاتخاذه أخا على أفضليته إذ لعل ذلك لزيادة شفقته عليه للقرابة وزيادة الإلفة والخدمة
العاشر قوله ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا منهزمين لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار
وأعطاها عليا فإنه روي أنه أبا بكر أولا فرجع منهزما وبعث عمر
فرجع كذلك فغضب النبي
فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية فقال لأعطين . . إلى آخره
فتعرض له المهاجرون والأنصار
فقال أين علي فقيل إنه أرمد العين
فتفل في عينه ثم دفع إليه الراية
وذلك يدل على أن ما وصفه به لم يوجد في غيره ويلزم منه أن يكون أفضل ممن عداه
فقيل نفي هذا المجموع لا يجب أن يكون بنفي كل جزء منه بل يجوز أن يكون بنفي كونه كرارا غير فرار
ولا يلزم حينئذ الأفضلية مطلقا بل في كونه كرارا غير فرار
الحادي عشر قوله تعالى في حق النبي فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والمراد بصالح المؤمنين علي كما نقله كثير (3/634)
من المفسرين والمولى بمعنى الناصر
واختصاص علي من بين الصحابة بنصرة النبي يدل على أنه أفضل منهم لأن نصرته من أفضل العبادات
وأيضا بدأ الله بنفسه ثم بجبريل ثم بعلي فدل على كونه أفضل من غيره
فقيل دليلكم على أن المراد به علي معارض بما عليه الأكثر من العموم الشامل له ولغيره وبما عليه قوم من المفسرين كالضحاك وغيره من أن المراد أبو بكر وعمر
الثاني عشر قوله من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى ابن أبي طالب
فقد ساواه النبي المذكورين وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعا فكذا من ساواهم
وأجيب بأنه تشبيه لعلي بكل واحد من هؤلاء الأنبياء في فضيلة واحدة ولا يدل على المساواة في كل فضيلة لكل واحد منهم وإلا كان علي أفضل من الأنبياء المذكورين لمشاركته ومساواته حينئذ لكل منهم في فضيلته واختصاصه بفضيلة الآخرين
والإجماع منعقد قبل ظهور المخالف الثابت على أن الأنبياء أفضل من الأولياء
المسلك الثاني ما يدل عليه أي على كونه أفضل تفصيلا وهو أن فضيلة المرء على غيره إنما تكون بما له من الكمالات
وقد اجتمع في علي منها ما تفرق في الصحابة
وهي أمور
الأول العلم
وعلي أعلم الصحابة لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم ومحمد الناس وأحرصهم على إرشاده
وكان في صغره في حجره وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت
وذلك الذي ذكرناه من صفاته وصفات معلمه يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ
وأما أبو بكر فاتصل بخدمته في كبره وكان يصل إليه في اليوم مرة ومرتين (3/635)
ولقوله أقضاكم علي
والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم فيكون أعلم فيها جميعا فلا يعارضه نحو أفرضكم زيد
وأقرؤكم أبي فإنهما يدلان على التفضيل في علم الفرائض وعلم القراءة فقط
ولقوله تعالى وتعيها أذن واعية
أي حافظة وأكثر المفسرين على أنه علي
ومقام المدح يقتضي الاختصاص بما مدح به ولأنه أي عليا نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر ونبهه علي أن قوله وتعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين مع قوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا يدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر
ونهاه أيضا عن رجم الحاملة التي أقرت عنده بالزنا
وقال إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها فقال عمر في كل واحدة من القضيتين لولا علي لهلك عمر
ولقول علي لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم
والمقصود إحاطة علمه بما في هذه الكتب الأربعة لا لجواز الحكم بما نسخ
فلا يتجه عليه اعتراض أبي هاشم بأن التوراة منسوخة فكيف يجوز الحكم بها ويدل على ما ذكرناه قوله والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت
ويؤيده أن أول كلامه مشتمل على الفرض والتقدير
وليس يلزم منه جواز (3/636)
الحكم كما تشهد به الفطرة السليمة
ولأن عليا ذكر في خطبته من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام سائر الصحابة فدل على أنه أعلم
ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول الكلامية والفروع الفقهية
وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن
فإن خرقة المشايخ تنتهي إليه
وابن العباس رئيس المفسرين تلميذه
وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى
وعلم النحو إنما ظهر منه
وهو الذي تكلم فيه أولا
وأمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه كما هو المشهور
وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة
وكذا علم الفتوة والأخلاق فإنه كان أعلم بها من غيره
الثاني من تلك الأمور الزهد
اشتهر عنه أنه
مع اتساع أبواب الدنيا عليه ترك التنعم وتخشن في المآكل والملابس ولم يلتفت إلى الملاذ حتى قال للدنيا طلقتك ثلاثا
الثالث الكرم
قد اشتهر عنه أنه كان يؤثر المحاويج والمساكين على نفسه وأهله وكان ذلك عادة منه حتى تصدق في الصلاة بخاتمه ونزل في شأنه وما نزل على ما مر وتصدق أيضا في ليالي صيامه المنذور بما كان فطوره ونزل فيه ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
الرابع الشجاعة
تواتر مكافحته للحروب ولقاء الأبطال وقتل أكابر الجاهلية حتى قال الأحزاب لضربة علي خير من عبادة الثقلين وتواتر وقائعه في خيبر وغيره
الخامس حسن خلقه
قد اشتهر ذلك منه حتى نسب إلى الدعابة
وقد قال حسن الخلق من الإيمان (3/637)
السادس مزيد قوته حتى قلع باب خيبر بيده
وقال ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية
السابع نسبه وقربه من الرسول نسبا ومصاهرة
وهو غير خفي
وعباس وإن كان عم النبي لكن كان أخا عبد الله من الأب وأبو طالب أخاه من الأب والأم
الثامن اختصاصه بصاحبة كفاطمة سيدة نساء العالمين
وولدين كالحسن والحسين
وهما سيدا شباب أهل الجنة كما ورد في الحديث ثم أولاد أولاده ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتى كان أبو يزيد مع علو طبقته سقاء في دار جعفر الصادق رضي الله عنه
وكان معروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا
هذا مما لا شبهة في صحته
فإن معروفا كان صبيا نصرانيا فأسلم على يد علي بن موسى وكان يخدمه
وأما أبو يزيد فلم يدرك جعفرا بل هو متأخر عن معروف
ولكنه كان يستفيض من روحانية جعفر
فلذلك اشتهر انتسابه إليه
وإذا اجتمعت هذه الصفات المذكورة في علي وجب أن يكون أفضل من غيره
والجواب عن الكل أنه يدل على الفضيلة
وأما الأفضلية فلا كيف ومرجعها أي مرجع الأفضلية التي نحن بصددها إلى أكثر الثواب والكرامة عند الله
وذلك يعود إلى الاكتساب للطاعات
والإخلاص فيها
وما يعود إلى نصرة الإسلام ومآثرهم في تقوية الدين
ومن المعلوم في كتب السير أن (3/638)
أبا بكر لما أسلم اشتغل بالدعوة إلى الله فأسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون فتقوى بهم الإسلام
وكان دائما في منازعة الكفار وإعلاء دين الله في حياة النبي وفاته
واعلم أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين إذ دلالة العقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل
وليست هذه المسألة مسألة بتعلق بها عمل فيكتفي فيها بالظن الذي هو كاف في الأحكام العملية بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين
والنصوص المذكورة من الطرفين بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنها بأسرها إما آحاد أو ظنية الدلالة مع كونها متعارضة أيضا
وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادته قطعا بل (3/639)
ظننا لأن الثواب تفضل من الله كما عرفته فيما سلف فله أن لا يثبت المطيع ويثبت غيره
وثبوت الإمامة وإن كان قطعيا لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن
كيف ولا قطع بان إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل
لكنا وجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا اتباعهم في ذلك القول
وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله
قال الآمدي وقد يراد بالتفضيل اختصاص أحد الشخصين عن الآخر إما بأصل فضيلة لا وجود لها في الآخر كالعالم والجاهل وإما بزيادة فيها ككونه أعلم مثلا
وذلك أيضا غير مقطوع به فيما بين الصحابة إذ ما من فضيلة تبين اختصاصها بواحد منهم إلا ويمكن بيان مشاركة غيره له فيها
وبتقدير عدم المشاركة فقد يمكن بيان اختصاص الآخر بفضيلة أخرى
ولا سبيل إلى الترجيح بكثرة الفضائل لاحتماله أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح من فضائل كثيرة إما لزيادة شرفها في نفسها أو لزيادة كميتها
فلا جزم بالأفضلية بهذا المعنى أيضا
المقصد السادس
المتن في إمامة المفضول مع وجود الفاضل
منعه قوم لأنه قبيح عقلا
فإن من ألزم الشافعي حضور درس بعض آحاد الفقهاء والعمل بفتواه عد سفيها قاضيا بغير قضية العقل
وجوزه الأكثرون
إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل
إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده وقوة القيام (3/640)
بلوازمه
ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف وبشرائطها أقوم
وفصل قوم فقالوا نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب
وإلا وجب
الشرح
المقصد السادس في إمامة المفضول مع وجود الفاضل منعه قوم كالإمامية لأنه قبيح عقلا
فإن من ألزم الشافعي حضور درس بعض آحاد الفقهاء والعمل بفتواه عد سفيها قاضيا بغير قضية العقل
وجوزه الأكثرون وقالوا جعل المفضول رئيسا ومقتدى فيما هو مفضول فيه كما في المثال المذكور مستقبح
وأما في غيره كما فيما نحن بصدده فلا
إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل
إذ المعتبر في ولاية كل أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوة القيام بلوازمه
ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة والرياسة أعرف وبشرائطها أقوم وعلى تحمل أعبائها أقدر
وفصل قوم في هذه المسألة فقالوا نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب كما إذا فرض أن العسكر والرعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول
وإلا وجب
المقصد السابع
المتن إنه يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم لأن الله عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه
والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة
ثم إن من تأمل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين (3/641)
وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله لم يتخالجه شك في عظم شأنهم وبراءتهم عما ينسب إليهم المبطلون من المطاعن
ومنعه ذلك عن الطعن فيهم ورأى ذلك مجانبا للإيمان
ونحن لا نلوث كتابنا بأمثال ذلك
وهي مذكورة في المطولات مع التقصي عنها
وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة فالهشامية أنكروا وقوعها
ولا شك أنه مكابرة للتواتر في قتل عثمان ووقعة الجمل وصفين
والمعترفون بوقوعها منهم من سكت عن الكلام
فإن أرادوا أنه اشتغال بما لا يعني فلا بأس به إذ قال الشافعي تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا
وإن أرادوا أنا لا نعلم أوقعت أولا فباطل لوقوعها قطعا
واتفق العمرية أصحاب عمرو بن عبيد الواصلية أصحاب واصل بن عطاء على رد شهادة الفريقين
قالوا لو شهد الجميع بباقة بقل لم نقبلها
أما العمرية فلأنهم يرون فسق الجميع وأما الواصلة فلأنهم يفسقون أحد الفريقين لا بعينه فلا يعلم عدالة شيء منهما
والذي عليه الجمهور
أن المخطيء قتلة عثمان ومحاربو علي لأنهما إمامان فيحرم القتل والمخالفة قطعا (3/642)
الشرح
المقصد السابع أنه يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم لأن الله سبحانه وتعالى عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه كقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
وقوله يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم
وقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم قدرهم وكرامتهم عند الله
والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة منها قوله خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ومنها قوله لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
ومنها قوله الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم
ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم
ومن آذاهم فقد آذاني
ومن آذاني فقد آذى الله
فيوشك أن يأخذه إلى غير ذلك من الأحاديث المشهورة في الكتب الصحاح
ثم إن من تأمل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله لم يتخالجه شك في عظم شأنهم وبراءتهم عما ينسب إليهم المبطلون من المطاعن ومنعه ذلك أي تيقنه بحالهم عن الطعن فيهم (3/643)
فرأى ذلك مجانبا للإيمان
ونحن لا نلوث كتابنا بأمثال ذلك
وهي مذكورة في المطولات مع التقصي عنها فارجع إليها إن أردت الوقوف عليها
وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة فالهشامية من المعتزلة أنكروا وقوعها
ولا شك أنه مكابرة للتواتر في قتل عثمان ووقعة الجمل وصفين
والمعترفون بوقوعها منهم من سكت عن الكلام فيها بتخطئة أو تصويب
وهم طائفة من أهل السنة
فإن أرادوا أنه اشتغال بما لا يعني فلا بأس به
إذ قال الشافعي وغيره من السلف تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا
وإن أرادوا أنا لا نعلم أوقعت أم لا فباطل لوقوعها قطعا
وأنت خبير بأن الشق الثاني من الترديد ينافي الاعتراف بوقوعها
واتفق العمرية أصحاب عمرو بن عبيد والواصلية أصحاب واصل بن عطاء على رد شهادة الفريقين
قالوا لو شهد الجميع بباقة بقلة لم نقبلها
أما العمرية فلأنهم يرون فسق الجميع من الفريقين
وأما الواصلية فلأنهم يفسقون أحد الفريقين لا بعينه فلا يعلم عدالة شيء منهما
والذي عليه الجمهور من الأمة هو أن المخطىء قتلة عثمان ومحاربو علي لأنهما إمامان
فيحرم القتال والمخالفة قطعا
إلا أن بعضه كالقاضي أبي بكر ذهب إلى أن هذه التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق
ومنهم من ذهب إلى التفسيق كالشيعة وكثير من أصحابنا (3/644)
خاتمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المتن أوجبه قوم ومنعه آخرون
والحق أنه تابع للمأمور به والمنهي عنه فيكون الأمر بالواجب واجبا وبالمندوب مندوبا والنهي عن الحرام واجبا وعن المكروه مندوبا
ثم إنه فرض كفاية لا فرض عين
فإذا قام به قوم سقط عن الآخرين لأن غرضه يحصل بذلك
وإذا ظن كل طائفة أنه لم يقم به الآخر أثم الكل بتركه
وهو عندنا من الفروع وعند المعتزلة من الأصول
ولوجوبه شرطان
أحدهما أن يظن أنه لا يصير موجبا لثوران فتنة
وإلا لم يجب
وكذا إذا ظن أنه لا يفضي إلى المقصود
بل يستحب حينئذ إظهارا لشعار الإسلام
وثانيهما عدم التجسس للكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى ولا تجسسوا
وقوله إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . . الآية
وأما السنة فقوله من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته (3/645)
ومن تتبع الله عورته فضحه على رؤوس الأشهاد الأولين والآخرين
وقوله من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليسترها
وعلم من سيرته كان لا يتجسس عن المنكرات
بل يسترها ويكره إظهارها
جعلنا الله ممن اتبع الهدى
واقتدى برسول الله وأصحابه والصالحين من عباده إنه ولي الهداية والتوفيق
والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله وأصحابه أجمعين
الشرح خاتمة للمرصد الرابع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أوجبه قوم ومنعه آخرون
والحق أنه تابع للمأمور به والمنهي عنه فيكون الأمر بالواجب واجبا وبالمندوب مندوبا
والنهي عن الحرام واجبا وعن المكروه مندوبا
ثم إنه فرض كفاية لا فرض عين
فإذا قام به قوم سقط عن الأخرين لأن غرضه يحصل بذلك
وإذا ظن كل طائفة أنه لم يقم به الآخر أثم الكل بتركه
وهو عندنا من الفروع
وعند المعتزلة من الأصول
قال الآمدي ذهب بعض الروافض إلى أنه لا يجب بل لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بنصب الإمام واستنابته كما في إقامة الحدود
وذهب من عداهم إلى وجوبه مطلقا ثم اختلفوا فذهب أهل السنة إلى وجوبه شرعا والجبائي وابنه إلى وجوبه عقلا ثم اختلفا فقال الجبائي يجب مطلقا فيما يدرك حسنه وقبحه عقلا
وقال أبو هاشم إن تضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفع ضرر عن الآمر والناهي ولا يندفع عنه إلا بذلك وجب
وإلا فلا
والذي (3/646)
يدل على وجوبه عندنا الإجماع
فإن القائل قائلان قائل بوجوبه مطلقا وقائل بوجوبه باستنابة الإمام
فقد اتفق الكل على وجوبه في الجملة والكتاب كقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
والسنة كقوله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب
وأما عدم توقف جوازه على استنابة الإمام فيدل عليه أن كل واحد من آحاد الصحابة كان يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استنابة وإذن من الإمام
وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم
ولم يوجد نكير فكان إجماعا على جوازه
ولوجوبه بعد علمه بأن ما يأمر به معروف وأن ما ينهى عن منكر
وأن ذلك ليس من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها اعتقاد الآمر والمأمور والناهي والمنهي شرطان
أحدهما أن يظن أنه لا يصير موجبا لثوران فتنة
وإلا لم يجب
وكذا لا يجب إذا ظن أنه لا يفضي إلى المقصود بل يستحب حينئذ إظهارا لشعار الإسلام فوجوبه إنما هو إذا جوز حصول المقصود بلا إثارة فتنة
وثانيهما عدم التجسس والتفتيش عن أحوال الناس للكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى ولا تجسسوا وقوله إن الذين (3/647)
يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . . الآية
فإنه يدل على حرمة السعي في إظهار الفاحشة
ولا شك أن التجسس سعي في إظهارها
وأما السنة فقوله من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
ومن تتبع الله عورته فضحه على رؤوس الأشهاد الأولين والآخرين
وقوله من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليسترها بستر الله
فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله
وأيضا قد علم من سيرته كان لا يتجسس عن المنكرات بل يسترها ويكره إظهارها
جعلنا الله ممن اتبع الهدى واقتدى برسول الله وأصحابه والصالحين من عباده إنه ولي الهداية والتوفيق والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (3/648)
تذييل
المتن في ذكر الفرق التي أشار إليها الرسول ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة
كلها في النار إلا واحدة
وهي ما أنا عليه وأصحابي
وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به
إعلم أن كبار الفرق الإسلامية ثمانية المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية
الشرح تذييل للكتاب في ذكر الفرق التي أشار إليها الرسول ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة
كلها في النار إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي
وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به
قال الآمدي كان المسلمون عند وفاة النبي على عقيدة واحدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق ثم نشأ (3/649)
الخلاف فيما بينهم أولا في أمور اجتهادية لا توجب إيمانا ولا كفرا
وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي حتى قال عمر إن النبي قد غيبه الوجع حسبنا كتاب الله
وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع
وكاختلافهم بعد ذلك في التخلف عن جيش أسامة فقال قوم بموجب الاتباع لقوله جهزوا جيش أسامة
لعن الله من تخلف عنه
وقال قوم بالتخلف انتظارا لما يكون من رسول الله في مرضه وكاختلافهم بعد ذلك في موته حتى قال عمر من قال إن محمدا قد مات علوته بسيفي
وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم
وقال أبو بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت
وتلا قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . . الآية
فرجع القوم إلى قوله
وقال عمر كأني ما سمعت هذه الآية إلا الآن
وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه بمكة أو المدينة أو القدس حتى سمعوا ما روي عنه من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون
وكاختلافهم في الإمامة وثبوت الإرث عن النبي كما مر
وفي قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر كيف نقاتلهم وقد قال أن (3/650)
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
فقال له أبو بكر أليس قد قال إلا بحقها
ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
ولو منعوني عقالا مما أدوه إلى النبي لقاتلتهم عليه
ثم اختلافهم بعد ذلك في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة ثم في أمر الشورى حتى استقر الأمر على عثمان
ثم اختلافهم في قتله
وفي خلافة علي ومعاوية وما جرى في وقعة الجمل وصفين
ثم اختلافهم أيضا في بعض أحكام الفروعية كاختلافهم في الكلالة وميراث الجد مع الإخوة وعقل الأصابع وديات الأسنان . . إلى غير ذلك من الأحكام
وكان الخلاف يندرج ويترقى شيئا فشيئا إلى آخر أيام الصحابة حتى ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري وخالفوا في القدر وإسناد جميع الأشياء إلى تقدير الله
ولم يزل الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام وأرباب المقالات إلى ثلاث وسبعين فرقة
وإذا عرفت هذا فنقول اعلم أن كبار الفرق الإسلامية ثمانية المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والجبرية والنجارية والمشبهة والناجية (3/651)
الفرقة الأولى المعتزلة
المتن أصحاب واصل بن عطاء الغزال اعتزل عن مجلس الحسن البصري
وأخذ يقرر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ويثبت له المنزلة بين المنزلتين
فقال الحسن قد اعتزل عنا واصل
ويلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم
وأنهم قالوا إن من يقول بالقدر خيره وشره من الله أولى باسم القدرية
ويرده قوله القدرية مجوس هذه الأمة
وقوله هم خصماء الله في القدر
ولقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة
وقالوا جميعا بأن القدم أخص وصف الله وبنفي الصفات
وبأن كلامه مخلوق محدث وبأنه غير مرئي في الآخرة
والحسن والقبح عقليان ويجب عليه رعاية الحكمة في أفعاله وثواب المطيع والتائب
وعقاب صاحب الكبيرة
ثم افترقوا عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا منهم
1 - الواصلية قالوا بنفي الصفات وبالقدر وامتناع إضافة الشر إلى (3/652)
الله وبالمنزلة بين المنزلتين وذهبوا إلى الحكم بتخطئة أحد الفريقين من عثمان وقاتليه
وجوزوا أن يكون عثمان لا مؤمنا ولا كافرا وأن يخلد في النار
وكذا علي ومقاتلوه
وحكموا بأن عليا وطلحة والزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على باقة بقلة لم تقبل كشهادة المتلاعنين
2 - العمرية مثلهم
إلا أنهم فسقوا الفريقين
3 - الهذيلية أصحاب أبي الهذيل العلاف
قالوا بفناء مقدورات الله
وأن أهل الخلدين يصيرون إلى خمود
ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمي الآخرة
وأن الله عالم بعلم هو ذاته قادر بقدرة هي ذاته
ومريد بإرادة لا في محل
وبعض كلامه لا في محل وهو كن
وإرادته غير المراد
والحجة فيما غاب لا تقوم إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة
4 - النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام
قالوا لا يقدر الله أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه
ولا أن يزيد أو ينقص من ثواب وعقاب
وكونه مريدا لفعله أنه خالقه
ولفعل العبد أنه آمر به
والإنسان هو الروح والبدن آلتها
والأعراض أجسام
والجوهر مؤلف من الأعراض
والعلم مثل الجهل
والإيمان مثل الكفر
والله خلق الخلق دفعة والتقدم والتأخر في الكمون والظهور
ونظم القرآن ليس بمعجز
والتواتر يحتمل الكذب
والإجماع والقياس ليس بحجة
وبالطفرة
ومالوا إلى الرفض ووجوب النص (3/653)
على الإمام وثبوته
لكن كتمه عمر
وقالوا من خان فيما دون نصاب الزكاة أو ظلم به لا يفسق
5 - الأسوارية أصحاب الأسواري
زادوا أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه
أو علم عدمه
والإنسان قادر عليه
6 - الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكاف
قالوا الله لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين
7 - الجعفرية أصحاب الجعفرين
ابن مبشر وابن حرب
زادوا أن في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس
والإجماع على حد الشرب خطأ
وسارق الحبة منخلع عن الإيمان
8 - البشرية هو بشر بن المعتمر
قالوا الأعراض من الألوان
والطعوم والروائح وغيرها تقع متولدة
والقدرة سلامة البنية
والله قادر على تعذيب الطفل ظالما
ولو عذبه لكان عاقلا عاصيا
وفيه تناقض
9 - المزدارية وهو أبو موسى عيسى بن صبيح المزدار
وهو تلميذ بشر
قال الله قادر على أن يكذب ويظلم
ويجوز أن يقع فعل من فاعلين (3/654)
تولدا والناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظما
ومن لابس السلطان كافر لا يوارث
وكذا من قال بخلق الأعمال وبالرؤية
10 - الهشامية وهو هشام بن عمرو الغوطي
قالوا لا يطلق اسم الوكيل على الله لاستدعائه موكلا
ولا يقال ألف الله بين القلوب
والأعراض لا تدل على الله ولا رسوله ولا دلالة في القرآن على حلال وحرام
والإمامة لا تنعقد مع الاختلاف
والجنة والنار لم تخلقا بعد ولم يحاصر عثمان ولم يقتل
ومن أفسد صلاة افتتحها أولا فأول صلاته معصية منهي عنه
11 - الصالحية أصحاب الصالحي
جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت
وخلو الجوهر عن الأعراض
12 - الحابطية وهو أحمد بن حابط من أصحاب النظام
قالوا للعالم إلهان
قديم هو الله تعالى
ومحدث هو الذي يحاسب الناس في الآخرة
13 - الحدثية هو فضل الحدثي
زادوا التناسخ
وأن كل حيوان مكلف (3/655)
14 - المعمرية هو معمر بن عباد السلمي
قالوا الله لا يخلق شيئا غير الأجسام
ولا يوصف بالقدم
ولا يعلم نفسه
والإنسان لا فعل له غير الإرادة
15 - الثمامية وهو ثمامة بن أشرس النميري
قالوا الأفعال المتولدة لا فاعل لها
والمعرفة متولدة من النظر
وأنها واجبة قبل الشرع
واليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا
وكذا البهائم والأطفال
والاستطاعة سلامة الآلة
ومن لا يعلم خالقه من الكفار معذور
والمعارف كلها ضرورية
ولا فعل للإنسان غير الإرادة
وما عداها حادث بلا محدث والعالم فعل الله بطبعه
16 - الخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط
قالوا بالقدر
وتسمية المعدوم شيئا وجوهرا وعرضا
وأن إرادة الله كونه غير مكره ولا كاره
وهي في أفعال نفسه الخلق
وفي أفعال عباده الأمر
وكونه سميعا بصيرا أنه عالم بمتعلقهما
وكونه إراداته أو غيره أنه يعلمه
17 - الجاحظية وهو عمرو بن بحر الجاحظ
قالوا المعارف كلها ضرورية ولا إرادة في الشاهد
إنما هي عدم السهو
ولفعل الغير الميل إليه
وأن الأجسام ذوات طبائع ويمتنع انعدام الجواهر والنار تجذب إليها أهلها (3/656)
لا أن الله يدخلها
والخير والشر من فعل العبد والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة
18 - الكعبية هو أبو القاسم بن محمد الكعبي
قالوا فعل الرب واقع بغير إرادته
ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه
19 - الجبائية هو أبو علي الجبائي
قالوا إرادة الرب حادثة لا في محل
والعالم يفنى بفناء لا في محل
والله متكلم بكلام يخلقه في جسم ولا يرى في الآخرة
والعبد خالق لفعله
ومرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر
وإذا مات بلا توبة يخلد في النار
ولا كرامات للأولياء
ويجب لمن يكلف إكمال عقله وتهيئة أسباب التكليف له
والأنبياء معصومون
وشارك فيها أبا هاشم ثم انفرد بأن الله عالم بلا صفة ولا حاله توجب العالمية
وكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به
ويجوز الإيلام للعوض
20 - البهشمية انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم العقاب بلا معصية وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه ولا مع عدم القدرة
ولا يتعلق علم بمعلومين على التفصيل
ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة
الشرح
الفرقة الأولى المعتزلة
أصحاب واصل بن عطاء الغزال
اعتزل (3/657)
عن مجلس الحسن البصري
وذلك أنه دخل على الحسن رجل فقال يا إمام الدين ظهر في زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة
يعني وعيدية الخوارج وجماعة أخرى يرجئون الكبائر ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة فكيف تحكم لنا أن نعتقد في ذلك فتفكر الحسن
وقبل أن يجيب قال واصل أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق
ثم قام إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر
ويثبت له المنزلة بين المنزلتين قائلا إن المؤمن اسم مدح والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا وليس بكافر أيضا لإقراره بالشهادتين
ولو وجود سائر أعمال الخير فيه
فإذا مات بلا توبة
خلد في النار إذ ليس في الآخرة إلا فريقان
فريق في الجنة وفريق في السعير
لكن يخفف عليه ويكون دركته فوق دركات الكفار
فقال الحسن قد اعتزل عنا واصل فلذلك سمي هو وأصحابه معتزلة
ويلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر فيها
وأنهم قالوا إن من يقول بالقدر خيره وشره من الله أولى باسم القدرية منا وذلك لأن مثبت القدر أحق بأن ينسب إليه من نافيه فنقول كما يصح نسبة مثبته إليه يصح نسبة النافي أيضا إذا بالغ في نفيه لأن ملتبس به
ولا يمكن حمل القدرية على المثبتين له لأنه يرده قوله القدرية مجوس هذه الأمة
فإنه يقتضي مشاركتهم للمجوس فيما اشتهروا به من إثبات خالقين لا في قولهم بأن الله خلق شيئا ثم أنكره
والنافون له هم المشاركون لهم في تلك (3/658)
الصفة المشهورة حيث يجعلون العبد خالقا لأفعاله وينسبون القبائح والشرور إليه دون الله سبحانه
ويرده أيضا قوله حق القدرية هم خصماء الله في القدر
ولا خصومة للقائل بتفويض الأمور كلها إليه تعالى
إنما الخصومة لمن يعتقد أنه يقدر على ما لا يريد الله بل يكرهه
والمعتزلة لقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد
وذلك لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة يعني أنهم قالوا يجب على الله ما هو الأصلح لعباده ويجب أيضا ثواب المطيع فهو لا يخل بما هو واجب عليه أصلا وجعلوا هذا عدلا
وقالوا أيضا بنفي الصفات الحقيقة القديمة القائمة بذاته تعالى احترازا عن إثبات قدماء متعددة
وجعلوا هذا توحيدا
وقالوا أي المعتزلة جميعا بأن القدم أخص وصف الله لا يشاركه فيه ذات ولا صفة
وبنفي الصفات الزائدة على الذات
وبأن كلامه تعالى مخلوق محدث مركب من الحروف والأصوات وبأنه غير مرئي في الآخرة بالأبصار وبأن الحسن والقبح عقليان ويجب عليه تعالى رعاية الحكمة والمصلحة في أفعاله
وثواب المطيع والتائب وعقاب صاحب الكبيرة ثم أنهم بعد اتفاقهم على هذه الأمور المذكورة افترقوا عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا
منهم
الواصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء قالوا بنفي الصفات
قال الشهر ستاني شرعت أصحابه في هذه المسألة بعد ما طالعوا كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم إلى أن ردوا جميع الصفات إلى كونه عالما قادرا ثم حكموا بأنهما صفتان ذاتيتان اعتباريتان للذات القديمة كما قاله الجبائي أو حالان كما قاله أبو هاشم
وقالوا بالقدر أي إسناد أفعال العباد إلى قدرهم وامتناع إضافة الشر إلى الله
وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين على ما (3/659)
مر تفصيله
وذهبوا إلى الحكم بتخطئة أحد الفريقين من عثمان وقاتليه
وجوزوا أن يكون عثمان لا مؤمنا ولا كافرا وأن يخلد في النار
وكذا علي ومقاتلوه
وحكموا بأن عليا وطلحة والزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على باقة بقلة لم تقبل شهادتهم كشهادة المتلاعنين
أي الزوج والزوجة
فإن أحداهما فاسق لا بعينه
العمرية مثلهم أي مثل الواصلية فيما ذكر من مذهبهم إلا أنهم فسقوا الفريقين في قصتي عثمان وعلي وهم منسوبون إلى عمرو بن عبيد وكان من رواة الحديث معروفا بالزهد تابع واصل بن عطاء في القواعد المذكورة
وزاد عليه تعميم التفسيق
الهذيلية أصحاب أبي الهذيل بن حمدان العلاف شيخ المعتزلة ومقرر طريقتهم
أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل
قالوا بفناء مقدورات الله وهذا قريب من مذهب جهم حيث ذهب إلى أن الجنة والنار تفنيان وقالوا إن حركات أهل الجنة والنار ضرورية مخلوقة لله إذ لو كانت مخلوقة لهم لكانوا مكلفين ولا تكليف في الآخرة
وأن أهل الخلدين تنقطع حركاتهم ويصيرون إلى خمود دائم وسكون ويجتمع في ذلك السكون اللذات لأهل الجنة والآلام لأهل النار
إنما ارتكب أبو الهذيل هذا القول لأنه التزم في مسألة حدوث العالم أنه لا فرق بين حوادث لا أول لها وبين حوادث لا آخر لها فقال لا أقول أيضا بحركات لا تنتهي إلى آخرها بل تصير إلى سكون
وتوهم أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون
ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمي الآخرة
وقيل إنه قدري الأولى جهمي الآخرة
وقالوا إن الله عالم بعلم هو ذاته قادر بقدرة هي (3/660)
ذاته حي بحياة هي ذاته وأخذوا هذا القول من الفلاسفة الذين يعتقدون أنه تعالى واحد من جميع جهاته لا تعدد فيه أصلا بل جميع صفاته راجعة إلى السلوب والإضافات
وقالوا هو مريد بإرادة حادثة لا في محل وأول من أحدث هذه المقالة هو العلاف
وقالوا في بعض كلامه تعالى لا في محل
وهو كن
وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار
وذلك لأن تكوين الأشياء بكلمة كن فلا يتصور لها محل
وقالوا إرادته تعالى غير المراد
قيل لأن إرادته عبارة عن خلقه لشيء وخلقه لشيء مغاير لذلك الشيء بل الخلق عندهم قول لا في محل
أعني كلمة كن فتأمل
وقالوا الحجة بالتواتر فيما غاب لا تقوم إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر وقالوا ألا تخلو الأرض عن أولياء الله تعالى هم معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون شيئا من المعاصي
فالحجة قولهم لا التواتر الذي هو كاشف عنه وتوفي العلاف سنة خمس وثلاثين ومائة
ومن أصحابه أبو يعقوب الشحام
النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام وهو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة (3/661)
قالوا لا يقدر الله أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه
ولا يقدر أن يزيد في الآخرة أو ينقص من ثواب وعقاب لأهل الجنة والنار
وتوهموا أن غاية تنزيهه تعالى عن الشرور والقبائح لا يكون إلا بسلب قدرته عليها
فهم في ذلك كمن هرب من المطر إلى الميزاب
وقالوا كونه تعالى مريدا لفعله أنه خالقه على وفق علمه وكونه مريدا لفعل العبد أنه آمر به
وقالوا الإنسان هو الروح
والبدن آلتها
وقد أخذه النظام من الفلاسفة إلا أنه مال إلى الطبيعيين منهم فقال الروح جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والدهن في اللبن والسمسم
وقالوا الأعراض كالألوان والطعوم والروائح وغيرها أجسام كما هو مذهب هشام بن الحكم فتارة يحكم بأن الأعراض أجسام وأخرى بأن الأجسام أعراض
وقالوا الجوهر مؤلف من الأعراض المجتمعة
والعلم مثل الجهل المركب
والإيمان مثل الكفر في تمام الماهية
وأخذوا هذه المقالة من الفلاسفة حيث حكموا بأن حقيقتهما حصول الصورة في القوة العاقلة والامتياز بينهما بأمر خارجي هو مطابقة تلك الصورة لمتعلقها وعدم مطابقتها له
وقالوا الله خلق الخلق أي المخلوقات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا
وغير ذلك
فلم يكن خلق آدم متقدما على خلق أولاده إلا أنه تعالى كمن بعض المخلوقات في بعض
والتقدم والتأخر في الكمون والظهور وهذه المقالة مأخوذة من كلام الفلاسفة القائلين بالخليط والكمون والبروز (3/662)
وقالوا نظم القرآن ليس بمعجز إنما المعجز إخباره بالغيب من الأمور السالفة والآتية
وصرف الله العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لأمكنهم الإتيان بمثله بل بأفصح منه
وقالوا التواتر الذي لا يحصى عدده يحتمل الكذب والإجماع
والقياس ليس شيء منهما بحجة
وقالوا بالطفرة ومالوا إلى الرفض ووجوب النص على الإمام وثبوته أي ثبوت النص من النبي على علي رضي الله عنه لكن كتمه عمر
وقالوا من خان بالسرقة فيما دون نصاب الزكاة كمائة وتسعة وتسعين درهما وأربعة من الإبل مثلا أو ظلم به على غيره بالغضب والتعدي لا يفسق
الأسوارية أصحاب الأسواري
وافقوا النظامية فيما ذهبوا إليه
وزادوا عليهم أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه
والإنسان قادر عليه لأن قدرة العبد صالحة للضدين على سواء
فإذا قدر على أحدهما قدر على الآخر فتعلق العلم أو الإخبار من الله تعالى بأحد الطرفين لا يمنع مقدورية الآخر للعبد
الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكاف
قالوا الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين
فإنه يقدر عليه
الجعفرية أصحاب الجعفرين
جعفر ابن مبشر وابن حرب وافقوا الإسكافية
وزادوا عليهم متابعة لابن المبشر أن في فساق الأمة من هو (3/663)
شر من الزنادقة والمجوس
والإجماع من الأمة على حد الشرب خطأ لأن المعتبر في الحد هو النص
وسارق الحبة فاسق منخلع عن الإيمان
البشرية هو بشر بن المعتمر كان من أفاضل علماء المعتزلة
وهو الذي أحدث القول بالتوليد
قالوا الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغيرها كالإدراكات من السمع والرؤية تقع أي يجوز أن تحصل متولدة في الجسم من فعل الغير كما إذا كان أسبابها من فعله
وقالوا القدرة والاستطاعة سلامة البنية والجوارح عن الآفات
وقالوا الله قادر على تعذيب الطفل ولو عذبه لكان ظالما لكنه لا يستحسن أن يقال في حقه ذلك بل يجب أن يقال ولو عذبه لكان الطفل بالغا عاقلا عاصيا مستحقا للعقاب
وفيه تناقص إذ حاصله أن الله يقدر أن يظلم
ولو ظلم لكان عادلا
المردارية هو أبو موسى عيسى بن صريح المردار
هذا لقبه
وهو من باب الافتعال من الزيارة
وهو تلميذ بشر أخذ العلم عنه وتزهد حتى سمي راهب المعتزلة
قال الله قادر على أن يكذب ويظلم
ولو فعل لكان إلها كاذبا ظالما تعالى الله عما قاله علوا كبيرا
ويجوز أن يقع فعل من فاعلين تولدا لا مباشرة
وقال الناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظما وبلاغة كما قاله النظام
وهو الذي بالغ في حدوث القرآن وكفر (3/664)
القائل بقدمه قال ومن لابس السلطان كافر لا يوارث أي لا يرث ولا يورث منه
وكذا من قال بخلق الأعمال وبالرؤية كافرا أيضا
الهشامية وهو هشام بن عمرو الغوطي الذي كان مبالغا في القدر أكثر من مبالغة سائر المعتزلة
قالوا لا يطلق اسم الوكيل على الله مع وروده في القرآن لاستدعائه موكلا ولم يعلموا أن الوكيل في أسمائه بمعنى الحفيظ كما في قوله تعالى وما أنت عليهم بوكيل
ولا يقال ألف الله بين القلوب مع أنه مخالف لقوله تعالى ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم
وقالوا الأعراض لا تدل على الله
ولا على رسوله أي هي لا تدل على كونه تعالى خالقا لها
ولا تصلح دلالة على صدق مدعي الرسالة
إنما الدال هو الأجسام
ويلزمهم على ذلك أن فلق البحر وقلب العصا حية وإحياء الموتى لا يكون دليلا على صدق من ظهر على يده
وقالوا لا دلالة في القرآن على حلال وحرام
والإمامة لا تنعقد مع الاختلاف بل لا بد من اتفاق الكل
قيل ومقصودهم الطعن في إمامة أبي بكر إذ كانت بيعته بلا اتفاق من جميع الصحابة لأنه بقي في كل طرف طائفة على خلافه
والجنة والنار لم تخلقا بعد إذ لا فائدة في وجودهما الآن
ولم يحاصر عثمان ولم يقتل مع كونه متواترا
ومن أفسد صلاة في آخرها وقد افتتحها أولا بشروطها فأول صلاته معصية منهي عنه مع كونه مخالفا للإجماع
الصالحية أصحاب الصالحي ومن مذهبهم أنهم جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت
ويلزمهم جواز كون الناس مع (3/665)
اتصافهم بهذه الصفات أمواتا
وأن لا يكون الباري تعالى حيا
وجوزوا خلو الجوهر عن الأعراض كلها
الحابطية هو أحمد بن حابط نسب أتباعه إلى أبيه
وهو من أصحاب النظام
قالوا للعالم إلهان
قديم هو الله تعالى
ومحدث هو المسيح
والمسيح هو الذي يحاسب الناس في الآخرة وهو المراد بقوله وجاء ربك والملك صفا صفا
وهو الذي يأتي في ظلل من الغمام
وهو المعني بقوله إن الله خلق آدم على صورته
وقوله يضع الجبار قدمه في النار
وإنما سمى المسيح لأنه أبدع الأجسام وأحدثها
قال الآمدي وهؤلاء كفار مشركون
الحدثية هو فضل الحدثي ومذهبهم مذهب الحابطية إلا أنهم زادوا التناسخ
وأن كل حيوان مكلف
فإنهم قالوا إن الله سبحانه وتعالى أبدع الحيوانات عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار وخلق فيهم معرفته والعلم به
وأسبغ عليهم نعمه ثم ابتلاهم وكلفهم شكر نعمته فأطاعه بعض فأقرهم في دار النعيم التي ابتدأهم فيها وعصاه بعض في الجميع فأخرجهم من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار وأطاعه بعض في البعض دون البعض فأخرجهم إلى دار الدنيا وكساهم هذه الأجساد الكثيفة على صور مختلفة كصورة الإنسان وسائر الحيوانات وابتلاهم بالبأساء والضراء والآلام (3/666)
واللذات على مقادير ذنوبهم
فمن كان معاصيه أقل وطاعاته أكثر كانت صورته أحسن
وآلامه أقل
ومن كان بالعكس فبالعكس
ولا يزال يكون الحيوان في الدنيا في صورة بعد صورة ما دامت معه ذنوبه
وهذا عين القول بالتناسخ
المعمرية هو معمر بن عباد السلمي
قالوا الله لم يخلق شيئا غير الأجسام أما الأعراض فتخترعها الأجسام إما طبعا كالنار للإحراق والشمس للحرارة
وإما اختيارا كالحيوان للألوان
قيل ومن العجب أن حدوث الأجسام وفناءها عند معمر من الأعراض فكيف يقول إنها من فعل الأجسام
وقالوا لا يوصف الله بالقدم لأنه يدل على التقادم الزماني
والله سبحانه ليس بزماني ولا يعلم الله نفسه وإلا اتحد العالم والمعلوم
وهو ممتنع
والإنسان لا فعل له غير الإرادة مباشرة كانت أو توليدا بناء على ما ذهبوا إليه من مذهب الفلاسفة في حقيقة
الثمامية هو ثمامة بن أشرس النميري كان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس
قالوا الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ لا يمكن إسنادها إلى فاعل السبب لاستلزامه إسناد الفعل إلى الميت فيما إذا رمى سهما إلى شخص ومات قبل وصوله إليه ولا إلى الله تعالى لاستلزامه صدور القبيح عنه
والمعرفة متولدة من النظر
وأنها واجبة قبل الشرع
واليهود (3/667)
والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون في الآخر ترابا
لا يدخلون جنة ولا نارا
وكذا البهائم والأطفال
والاستطاعة سلامة الآلة وهي قبل الفعل
ومن لا يعلم خالقه من الكفار معذور
والمعارف كلها ضرورية
ولا فعل للإنسان غير الإرادة
وما عداها حادث بلا محدث
والعالم فعل الله بطبعه كأنهم أرادوا به ما يقوله الفلاسفة من الإيجاب ويلزمه قدم العالم
وكان ثمامة في زمان المأمون وله عنده منزلة
الخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمر الخياط
قالوا بالقدر أي إسناد الأفعال إلى العباد
وتسمية المعدوم شيئا أي ثابتا متقررا في حال العدم
وجوهرا وعرضا أي الذوات المعدومة الثابتة متصفة بصفات الأجناس حالة العدم
وأن إرادة الله كونه قادرا غير مكره ولا كاره
وهي أي إرادته تعالى في أفعال نفسه الخلق أي كونه خالقا لها
وفي أفعال عباده الأمر بها
وكونه سميعا بصيرا معناه أنه عالم بمتعلقهما
وكونه يرى ذاته أو غيره معناه أنه يعلمه
الجاحظية هو عمرو بن بحر الجاحظ كان من الفضلاء البلغاء في أيام المعتصم والمتوكل
وقد طالع كتب الفلاسفة وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة اللطيفة (3/668)
قالوا المعارف كلها ضرورية
ولا إرادة في الشاهد أي في الواحد منا
إنما هي إرادته لفعله عدم السهو أي كونه عالما به غير ساه عنه وإرادته لفعل الغير هي الميل أي ميل النفس إليه
وقالوا إن في الأجسام ذوات طبائع مختلفة لها آثار مخصوصة كما ذهب إليه الفلاسفة الطبيعيون ويمتنع انعدام الجواهر
إنما تتبدل الأعراض والجواهر باقية على حالها كما قيل في الهيولى
والنار تجتذب إليها أهلها لا أن الله يدخلها أي يدخلهم فيها
والخير والشر من فعل العبد
والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة
الكعبية هو أبو القاسم بن محمد الكعبي كان من معتزلة بغداد وتلميذ الخياط
قالوا فعل الرب واقع بغير إرادته
فإذا قيل إنه تعالى مريد لأفعاله أريد أنه خالق لها
وإذا قيل مريد لأفعال غيره أريد أنه آمر بها ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه كما ذهب إليه الخياطية
الجبائية هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي من معتزلة البصرة
قالوا إرادة الرب حادثة لا في محل
والله تعالى مريد بتلك الإرادة موصوف بها
والعالم يفنى بفناء لا في محل عند إرادة الله تعالى فناء العالم والله متكلم بكلام مركب من حروف وأصوات يخلقه الله تعالى في جسم
والمتكلم بذلك الكلام من فعل الكلام وخلقه لا من قام به وحل فيه
ولا يرى الله في الآخرة
والعبد خالق لفعله
ومرتكب الكبيرة لا مؤمن (3/669)
ولا كافر
وإذا مات بلا توبة يخلد في النار
ولا كرامات للأولياء
ويجب على الله لمن يكلف أي للمكلف إكمال عقله وتهيئة أسباب التكاليف له
أي يجب عليه اللطف بالمكلف ورعاية ما هو أصلح له
والأنبياء معصومون
وشارك أبو علي فيها أي في الأحكام المذكورة أبو هاشم
ثم انفرد عنه بأن الله عالم لذاته بلا إيجاب صفة هي علم ولا حالة توجب العالمية
وكونه تعالى سميعا بصيرا معناه أنه حي لا آفة به
ويجوز الإيلام للعوض
البهشمية انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية مع كونه مخالفا للإجماع والحكمة
وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه
ويلزمه أن لا يصح إسلام الكافر مع أدنى ذنب أصر عليه
ولا توبة مع عدم القدرة فلا تصح توبة الكاذب عن كذبه بعد ما صار أخرس ولا توبة
والزاني عن زناه بعد ما جب
ولا يتعلق علم واحد بمعلومين على التفصيل
ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة
قال الآمدي هذا تناقض إذ لا معنى لكون الشيء حادثا إلا أنه ليس قديما
ولا معنى لكونه مجهولا إلا أنه ليس معلوما على أن إثبات حالة له غير معلومة مما لا سبيل إليه (3/670)
الفرقة الثانية الشيعة
المتن وهم إثنتان وعشرون فرقة يكفر بعضهم بعضا
أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية
وإمامية
أما الغلاة فثمانية عشر
1 - السبائية قال عبد الله بن سبأ لعلي أنت الإلة حقا
قال وأنه لم يمت وإنما قتل ابن ملجم شيطانا وعلي في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه
وأنه ينزل إلى الأرض ويملؤها عدلا
وهؤلاء يقولون عند سماع الرعد وعليك السلام يا أمير المؤمنين
2 - الكاملية قال أبو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي
وبكفر علي بترك طلب الحق
وبالتناسخ
وأن الإمامة نور يتناسخ
وقد تصير في شخص نبوة
3 - البيانية قال بيان بن سمعان التميمي الله على صورة إنسان (3/671)
ويهلك كله إلا وجهه
وروح الله حلت في علي ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم
ثم في بيان
4 - المغيرية قال مغيرة بن سعيد العجلي الله جسم عن صورة إنسان من نور على رأسه تاج
وقلبه منبع الحكمة
ولما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم فطار فوقع تاجا على رأسه
ثم كتب على كفه أعمال العباد فغضب من المعاصي فعرق فحصل منه بحران
أحدهما ملح مظلم والآخر حلو نير
ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله فانتزعه فجعل منه الشمس والقمر
وأفنى الباقي نفيا للشريك
ثم خلق الخلق من البحرين فالكفر من المظلم
والإيمان من النير
ثم أرسل محمدا والناس في ضلال
وعرض الأمانة
وهي منع علي عن الإمامة
على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان
وهو أبو بكر حملها بأمر عمر بشرط أن يجعل الخلافة بعده له
وقوله تعالى كمثل الشيطان الآية
نزلت في أبي بكر وعمر
والإمام المنتظر زكريا بن محمد بن علي بن الحسين
وهو حي في جبل حاجز
وقيل المغيرة
5 - الجناحية قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الأرواح تتناسخ وكان روح الله في آدم ثم في شيت ثم (3/672)
الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله هذا
وهو حي بجبل بأصفهان
وأنكروا القيامة
واستحلوا المحرمات
6 - المنصورية هو أبو منصور العجلي
قالوا الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين
عرج إلى السماء
ومسح الله رأسه بيده وقال يا بني اذهب فبلغ عني
وهو الكسف
والرسل لاتنقطع والجنة رجل أمرنا بموالاته وهو الإمام
والنار بالضد
وهو ضده
وكذا الفرائض والمحرمات
الخطابية هو أبو الخطاب الأسدي
قالوا الأئمة أنبياء
وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته بل الأئمة آلهة
والحسنان ابنا الله
وجعفر إله لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي
ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم
والإمام بعد قتله معمر
والجنة نعيم الدنيا
والنار آلامها
واستباحوا المحرمات وترك الفرائض
وقيل الإمام بزيغ
وأن كل مؤمن يوحى إليه
وفيهم من هو خير من جبريل وميكائيل وهم لا يموتون بل يرفعون إلى الملكوت
وقيل هو عمرو بن بنان العجلي إلا أنهم يموتون
7 - الغرابية قالوا محمد بعلي أشبه من الغراب بالغراب
فغلط جبريل من علي إلى محمد فيلعنون صاحب الريش يعنون به جبريل
9 - الذمية ذموا محمدا لأن عليا هو الإله
وقد بعثه ليدعو الناس إليه فدعا إلى نفسه
وقيل بإلهيتهما
ولهم في التقديم خلاف
وقيل بإلهية خمسة (3/673)
أشخاص هما وفاطمة والحسنان
ولا يقولون فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث
10 - الهشامية أصحاب الهشامين
ابن الحكم وابن سالم قالوا الله جسد فقال ابن الحكم هو طويل عريض عميق متساو وهو كالسبيكة البيضاء يتلألأ من كل جانب وله لون وطعم ورائحة ومجسة
وليست هذه الصفات المذكورة غيره
ويقوم ويقعد
ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه
وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه
مماس للعرش بلا تفاوت بينهما
وإرادته حركة هي لا عينه ولا غيره
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا قديم ولا حادث
وكلامه صفة له لا مخلوق ولا غيره
والأعراض لا تدل على الباري
والأئمة معصومون دون الأنبياء
وقال ابن سالم هو على صورة إنسان
وله وفرة سوداء
ونصفه الأعلى مجوف
11 - الزرارية هو زرارة بن أعين
قالوا بحدوث الصفات وقبلها لا حياة
12 - اليونسية هو يونس بن عبد الرحمن القمي
قال الله تعالى على العرش تحمله الملائكة
وهو أقوى منها كالكركي يحمله رجلاه
13 - الشيطانية هو محمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق
قال إنه نور غير جسماني على صورة إنسان
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها (3/674)
14 - الرزامية قالوا الإمامة لمحمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله ثم علي بن عبد الله بن عباس ثم أولاده إلى المنصور
ثم حل الإله في أبي مسلم
وأنه لم يقتل
واستحلوا المحارم
15 - المفوضية قالوا الله فوض خلق الدنيا إلى محمد
وقيل إلى علي
16 - البدائية جوزوا البداء على الله
17 - النصيرية والإسحاقية قالوا حل الله في علي
18 - الإسماعيلية ولقبوا بسبعة ألقاب
بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره
وبالقرامطة لأن أولهم حمدان قرمط
وهي إحدى قرى واسط
وبالحرمية لإباحتهم المحرمات والمحارم
وبالسبعية لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع
أي الرسل سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي سابع النطقاء
وبين كل اثنين سبعة أئمة يتممون شريعته
ولا بد في كل عصر من سبعة بهم يقتدي وبهم يهتدي إمام يؤدي عن الله
وحجة يؤدي عنه
وذو مصة يمص العلم من الحجة
وأبواب وهم الدعاة فأكبر برفع درجات المؤمنين
ومأذون يأخذ العهود على الطالبين
ومكلب يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصائد
ومؤمن يتبعه
قالوا ذلك كالسموات والأرضين وأيام الأسبوع
والسيارة وهي المدبرات أمرا كل منها سبعة (3/675)
وبالبابكية إذ اتبع طائفة منهم بابك الخرمي بآذربيجان
وبالمحمرة للبسهم الحمرة في أيام بابك
أو تسميتهم المسلمين حميرا
وبالإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر
وقيل لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل
وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع لأن الغيارية وهم طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم ورأسهم حمدان قرمط
وقيل عبد الله بن ميمون القداح
ولهم في الدعوة مراتب
الذوق وهو تفرس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا ولذلك منعوا إلقاء البذر في السبخة والتكلم في بيت فيه سراج
ثم التأنيس باستمالة كل أحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة
ثم التشكيك في أركان الشريعة بمقطعات السور وقضاء صوم الحائض دون قضاء صلاتها
والغسل من المني دون البول
وعدد الركعات ليتعلق قلبهم بمراجعتهم فيها (3/676)
ثم الربط أخذ الميثاق منه بحسب اعتقاده ألا يفشي لهم سرا وحوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه
ثم التدليس وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله
ثم التأسيس وهو تمهيد مقدمات يقبلها المدعو
ثم الخلع وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية
ثم السلخ عن الاعتقادات
وحينئذ يأخذون في استعجال اللذات وتأويل الشرائع
ومن مذهبهم أن الله لا موجود ولا معدوم
وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة
وحين ظهر الحسن بن محمد الصباح جدد الدعوة على أنه الحجة
وحاصل كلامه ما تقدم في الاحتجاج إلى المعلم
وأما الزيدية فثلاث فرق
1 - الجارودية أصحاب أبي الجارود قالوا بالنص على علي وصفا لا تسمية والصحابة كفروا بمخالفته
والإمامة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما
فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام
واختلفوا في الإمام المنتظر
أهو محمد بن عبد الله وأنه لم يقتل أو محمد بن القاسم ابن علي أو يحيى بن عمير صاحب الكوفة
2 - السليمانية هو سليمان بن جرير
قالوا الإمامة شورى
وإنما (3/677)
تنعقد برجلين من خيار المسلمين
وأبو بكر وعمر إمامان
وإن أخطأ الأمة في البيعة لهما
وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة
3 - البتيرية هو بتير الثومي
توقفوا في عثمان
وأما الإمامية فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق
واختلفوا في المنصوص عليه بعده
وتشعب متأخروهم إلى معتزلة وإلى إخبارية
وإلى مشبهة وسلفية وملتحقة بالفرق الضالة
الشرح
الفرقة الثانية من كبار الفرق الإسلامية الشيعة
أي الذين شايعوا عليا وقالوا إنه الإمام بعد رسول الله بالنص إما جليا وإما خفيا
واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده
وإن خرجت فإما بظلم يكون من غيرهم وإما بتقية منه أو من أولاده وهم إثنتان وعشرون فرقة يكفر بعضهم بعضا
أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية وإمامية
أما الغلاة فثمانية عشر
السبائية قال عبد الله بن سبأ لعلي أنت الإله حقا فنفاه علي إلى المدائن
وقيل إنه كان يهوديا فأسلم
وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى مثل ما قال في علي
وهو أول من أظهر القول بوجوب إمامة علي
ومنه تشعبت أصناف الغلاة
وقال ابن سبأ وأنه لم يمت علي ولم يقتل
وإنما قتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورة علي
وعلي في السحاب
والرعد صوته والبرق سوطه
وأنه ينزل بعد هذا إلى الأرض (3/678)
ويملأها عدلا
وهؤلاء يقولون عند سماع الرعد عليك السلام يا أمير المؤمنين
الكاملية قال أبو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي وبكفر علي بترك طلب الحق
وقال بالتناسخ في الأرواح عند الموت
وأن الإمامة نور يتناسخ أي ينتقل من شخص إلى آخر
وقد تصير في شخص نبوة بعد ما كانت في شخص آخر إمامة
البيانية قال بيان بن سمعان التميمي النهدي اليمني الله على صورة إنسان ويهلك كله إلا وجهه وروح الله حلت في علي ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان
المغيرية قال مغيرة بن سعيد العجلي الله جسم على صورة إنسان بل رجل من نور
على رأسه تاج من نور وقلبه منبع الحكمة
ولما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم فطار فوقع تاجا على رأسه
وذلك قوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى
ثم إنه كتب على كفه أعمال العباد فغضب من المعاصي فعرق فحصل منه أي من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم
والآخر حلو نير ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله فانتزعه
أي انتزع بعضا من ظله فجعل وخلق منه الشمس والقمر
وأفنى الباقي من الظل نفيا للشريك وقال لا ينبغي أن يكون معي إله آخر ثم خلق الخلق من البحرين
فالكفر أي الكفار من المظلم
والإيمان أي المؤمنين من النير ثم أرسل محمدا والناس في ضلالة وعرض الأمانة
وهي منع علي عن الإمامة
على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وهو أبو بكر حملها بأمر عمر حين ضمن أن يعينه على ذلك بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة بعده له
وقوله تعالى كمثل الشيطان . . الآية
نزلت (3/679)
في حق أبي بكر وعمر وهؤلاء يقولون الإمام المنتظر هو زكريا ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي
وهو حي مقيم في جبل حاجر إلى أن يؤمر بالخروج
وقيل المغيرة فإنه لما قتل اختلف أصحابه فقال بعضهم بانتظاره وقال آخرون بانتظار زكريا كما كان هو قائلا به
الجناحية قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الأرواح تتناسخ
وكان روح الله في آدم ثم في شيث ثم الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله
هذا وقالت الجناحية هو عبد الله حي مقيم بجبل بأصفهان
وسيخرج
وأنكروا القيامة
واستحلوا المحرمات من الخمر والميتة والزنا وغيرها
المنصورية هو أبو منصور العجلي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد الباقر
فلما تبرأ منه وطرده ادعى الإمامة لنفسه
قالوا الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين ثم انتقلت عنه إلى أبي منصور
وزعموا أن أبا منصور عرج إلى السماء
ومسح الله رأسه بيده
وقال يا بني اذهب فبلغ عني
ثم أنزله إلى الأرض
وهو الكسف المذكور في قوله تعالى وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم
وكان قبل ادعائه الإمامة لنفسه يقول الكسف على بن أبي طالب
وقالوا الرسل لا تنقطع أبدا
والجنة رجل أمرنا بموالاته وهو الأمام والنار بالضد أي رجل أمرنا ببغضه
وهو ضده أي ضد الإمام وخصمه كأبي بكر وعمر
وكذا الفرائض والمحرمات
فإن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم
والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم
ومقصودهم بذلك أن من ظفر برجل منهم فقد ارتفع عنه التكليف
والخطاب لوصوله إلى الجنة (3/680)
الخطابية هو أبو الخطاب الأسدي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق
فلما علم منه غلوه في حقه تبرأ منه
فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه
قالوا الأئمة أنبياء
وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته
أي زعموا أن الأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب
بل زادوا على ذلك وقالوا الأئمة آلهة
والحسنان ابنا الله
وجعفر الصادق إله ولكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي
وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم
والإمام بعد قتله أي قتل أبي الخطاب معمر
أي ذهب إلى ذلك جماعة منهم فعبدوا معمرا كما كانوا يعبدون أبا الخطاب
وقالوا الجنة نعيم الدنيا والنار آلامها والدنيا لا تفنى
واستباحوا المحرمات وترك الفرائض
وقيل الإمام بعد قتله بزيغ أي ذهب إلى ذلك طائفة أخرى منهم
وقالوا إن كل مؤمن يوحى إليه مستمسكين بقوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله أي بوحي من الله إليه
وفيهم أي في أصحاب بزيغ من هو خير من جبريل وميكائيل
وهم لا يموتون أبدا
بل إذا بلغوا النهاية يرفعون إلى الملكوت
وقيل هو أي الإمام بعد أبي الخطاب عمير بن بنان العجلي
إلا أنهم يموتون أي يقولون بذلك
الغرابية قالوا محمد بعلي أشبه من الغراب بالغراب والذباب بالذباب فبعث الله جبريل إلى علي فغلط جبريل في تبلغ الرسالة من علي إلى محمد قال شاعرهم (3/681)
غلط الأمين فجازها عن حيدره ... فيلعنون صاحب الريش
يعنون به جبريل
الذمية
لقبوا بذلك لأنهم ذموا محمدا لأن عليا هو الإله
وقد بعثه ليدعو الناس إليه فدعا إلى نفسه
وقيل بإلهيتهما
أي قالت طائفة منهم بإلهية محمد وعلي
ولهم في التقديم خلاف فبعضهم يقدم عليا في أحكام الإلهية وبعضهم يقدم محمدا
وقيل بإلهية خمسة أشخاص يسمون أصحاب العباء
هما وفاطمة والحسنان
وهؤلاء زعموا أن هذه الخمسة شيء واحد
وأن الروح حالة فيهم بالسوية لا مزية لواحد منهم على آخر
ولا يقولون فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث
الهشامية أصحاب الهشامين ابن الحكم وابن سالم الجواليقي
قالوا الله جسد اتفقوا على ذلك ثم اختلفوا
فقال ابن الحكم هو طويل عريض عميق متساو طوله وعرضه وعمقه
وهو كالسبيكة البيضاء الصافية يتلألأ من كل جانب
وله لون وطعم ورائحة ومجسة
بفتح الميم هو الموضع الذي يجسه الطبيب كأنهم يريدون بها النبض
قالوا وليست هذه الصفات المذكورة غيره أي غير ذاته تعالى
ويقوم الله ويقعد ويتحرك ويسكن
وله مشابهة بالأجسام لولاها لم تدل عليه ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه مماس للعرش بلا تفاوت بينهما أي على وجه لا يفضل أحدهما على الآخر
وإرادته تعالى حركة هي لا عينه ولا غيره
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها لا قبله بعلم لا قديم ولا حادث لأنه صفة
والصفة لا توصف
وكلامه صفة له لا مخلوق ولا غيره لما مر
والأعراض لا تدل على الباري إنما الدال عليه هو الأجسام لما عرفت من مشابهته إياها
والأئمة معصومون دون الأنبياء لأن (3/682)
النبي يوحى إليه فيتقرب به إلى الله بخلاف الإمام
فإنه لا يوحى إليه فوجب أن يكون معصوما
وقال ابن سالم هو على صورة إنسان له يد ورجل وحواس خمس وأنف وأذن وعين وفم
وله وفرة سوداء ونصفه الأعلى مجوف
والأسفل مصمت إلا أنه ليس لحما ودما
الزرارية هو زرارة بن أعين
قالوا بحدوث الصفات لله
وقبلها أي قبل حدوثها له لا حياة
فلا يكون حينئذ حيا ولا عالما ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا
اليونسية هو يونس بن عبد الرحمن القمي
قال الله تعالى على العرش تحمله الملائكة
وهو أقوى منها أي من الملائكة مع كونه محمولا لهم كالكرسي يحمله رجلاه وهو أقوى منهما
الشيطانية هو محمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق
قال إنه تعالى نور غير جسماني ومع ذلك هو على صورة إنسان
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها
الرزامية قالوا الإمامة بعد علي لمحمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله ثم علي بن عبد الله بن عباس ثم أولاده إلى المنصور ثم حل الإله في أبي (3/683)
مسلم
وأنه لم يقتل واستحلوا المحارم وتركوا الفرائض
ومنهم من ادعى الإلهية في المقنع
المفوضة قالوا الله فوض خلق الدنيا إلى محمد أي الله خلق محمدا وفوض إليه خلق الدنيا فهو الخلاق لها بما فيها
وقيل فوض ذلك إلى علي
البدائية جوز البدء على الله تعالى
أي جوزوا أن يريد الله شيئا ثم يبدو له أي يظهر عليه ما لم يكن ظاهرا له
ويلزمه أن لا يكون الرب عالما بعواقب الأمور
النصيرية والإسحاقية قالوا حل الله في علي
فإن ظهور الروحاني في الجسد الجسماني مما لا ينكر
أما في جانب الخير فكظهور جبريل بصورة البشر
وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان في صورة الإنسان
قالوا ولما كان علي أولاده أفضل من غيرهم وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الأسرار قلنا ظهر الحق تعالى بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم
ومن ههنا أطلقنا الآلهة على الأئمة
ألا ترى أن النبي قاتل المشركين وعليا قاتل المنافقين
فإن النبي يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
الإسماعيلية
ولقبوا بسبعة ألقاب
بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره فإنهم قالوا للقرآن ظاهر وباطن
والمراد منه باطنه وظاهره المعلوم من اللغة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر
والمتمسك بظاهره معذب بالمشقة في الاكتساب
وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره
وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
وهذا القول أخذوه من المنصورية والجناحية
ولقبوا بالقرامطة لأن أولهم الذي دعا الناس إلى مذهبهم رجل (3/684)
يقال له حمدان قرمط
وهي إحدى قرى واسط
وبالخرمية لإباحتهم المحرمات والمحارم
وبالسبعية لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع
أي الرسل سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي سابع النطقاء
وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعته ولا بد في كل عصر من سبعة بهم يقتدى
وبهم يهتدى في الدين
وهم متفاوتون في الرتب إمام يؤدي عن الله وهو غاية الأدلة إلى دين الله وحجة يؤدي عنه أي عن الإمام ويحمل علمه ويحتج به له
وذو مصة يمص العلم من الحجة أي يأخذه منه
فهذه ثلاثة
وأبواب
وهم الدعاة فأكبر أي داع أكبر هو رابعهم يرفع درجات المؤمنين
وداع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من أهل الظاهر فيدخلهم في ذمة الإمام ويفتح لهم باب العلم والمعرفة
وهو خامسهم
ومكلب قد ارتفعت درجته في الدين ولكن لم يؤذن له في الدعوة بل في الاحتجاج على الناس فهو يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصائد حتى إذا احتج على أحد من أهل الظاهر وكسر عليه مذهبه بحيث رغب عنه
وطلب الحق أداه المكلب إلى الداعي المأذون ليأخذ عليه العهود
قال الآمدي وإنما سموا مثل هذا مكلبا لأن مثله مثل الجارح يحبس الصيد على كلب الصائد على ما قال تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين وهو سادسهم
ومؤمن يتبعه أي يتبع الداعي
وهو الذي أخذ عليه العهد وآمن وأيقن بالعهد ودخل في ذمة الإمام وحزبه
وهو سابعهم
قالوا ذلك الذي ذكرناه كالسموات والأرض والبحار وأيام الأسبوع
والكواكب السيارة
وهي المدبرات أمرا
كل منها سبعة كما هو المشهور
ولقبوا بالبابكية إذ اتبع طائفة منهم بابك الخرمي في الخروج بأذربيجان (3/685)
وبالمحمرة للبسهم الحمرة في أيام بابك أو تسميتهم المخالفين لهم من المسلمين حميرا
وبالإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق وهو أكبر أبنائه
وقيل لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل
وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع لأن الغيارية وهم طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم
وذلك أنهم اجتمعوا فتذاكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك وقالوا لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف لغلبتهم واستيلائهم على الممالك
لكنا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا ونستدرج به الضعفاء منهم
فإن ذلك يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم
ورأسهم في ذلك حمدان قرمط
وقيل عبد الله بن ميمون القداح
ولهم في الدعوة واستدراج الطعام مراتب الذوق وهو تفرس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا ولذلك منعوا إلقاء البذر في السبخة أي دعوة ما ليس قابلا لها
ومنعوا التكلم في بيت فيه سراج أي في موضع فيه فقيه أو متكلم
ثم التأنيث باستمالة كل أحد من المدعوين بما يميل إليه بهواه وطبعه من زهد وخلاعة
فإن كان يميل إلى الزهد زينه في عينه وقبح نقيضه
وإن كان يميل إلى الخلاعة زينها وقبح نقيضها حتى يحصل له الأنس به
ثم التشكيك في أركان الشريعة بمقطعات السور بأن يقول ما معنى الحروف المقطعة في أوائل السور وقضاء صوم الحائض دون قضاء (3/686)
صلاتها أي لم يجب أحدهما دون الآخر
ووجوب الغسيل من المني دون البول وعدد الركعات أي لم كان بعضها أربعا وبعضها ثلاثا وبعضها اثنتين إلى غير ذلك من الأمور التعبدية
وإنما يشككون في هذه الأشياء ويطوون الجواب عنها ليتعلق قلبهم بمراجعتهم فيها
ثم الربط
وهو أمران الأول أخذ الميثاق منه بأن يقولوا قد جرت سنة الله بأخذ المواثيق والعهود ويستدلوا على ذلك بقوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ثم يأخذوا من كل أحد ميثاقه بحسب اعتقاده أن لا يفشي لهم سرا
والثاني حوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه من الأمور التي ألقاها إليه فإنه العالم بها ولا يقدر عليها أحد حتى يترقى من درجته وينتهي إلى الإمام
ثم التدليس
وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله إلى ما دعاه إليه
ثم التأسيس
وهو تمهيد مقدمات يقبلها ويسلمها المدعو وتكون سائقة له إلى ما يدعوه إليه من الباطل
ثم الخلع
وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية
ثم السلخ عن الاعتقادات الدينية
وحينئذ أي وحين إذا آل حال المدعو إلى ذلك يأخذون في الإباحة والحث على استعجال اللذات وتأويل الشرائع
كقولهم الوضوء عبارة عن موالاة الإمام
والتيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة
والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
والاحتلام عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله بغير قصد منه
والغسل تجديد العهد
والزكاة تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من (3/687)
الدين
والكعبة النبي
والباب علي والصفا هو النبي
والمروة علي والميقات الإيناس والتلبية إجابة الدعوة
والطواف بالبيت سبعا موالاة الأئمة السبعة
والجنة راحة الأبدان عن التكاليف
والنار مشقتها بمزاولة التكاليف إلى غير ذلك من خرافاتهم
ومن مذهبهم أن الله لا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز وكذلك في جميع الصفات
وذلك لأن الإثبات الحقيقي يقتضي المشاركة بينه وبين الموجودات
وهو تشبيه
والنفي المطلق يقتضي مشاركته للمعدومات
وهو تعطيل
بل هو واهب هذه الصفات ورب المتضادات
وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة فقالوا إنه تعالى أبدع بالأمر العقل التام وبتوسطه أبدع النفس التي ليست تامة فاشتاقت النفس إلى العقل التام مستفيضة منه فاحتاجت إلى الحركة من النقصان إلى الكمال
ولن تتم الحركة إلا بآلتها فحدثت الأجرام الفلكية وتحركت حركة دورية بتدبير النفس فحدثت بتوسطه الطبائع البسيطة العنصرية وبتوسط البسائط حدثت المركبات من المعادن والنباتات وأنواع الحيوانات وأفضلها الإنسان لاستعداده لفيض الأنوار القدسية عليه واتصاله بالعالم العلوي
وحيث كان العالم العلوي مشتملا على عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية تكون مصدرا للكائنات وجب أن يكون في العالم السفلي عقل كامل يكون وسيلة إلى النجاة وهو الرسول الناطق ونفس ناقصة تكون نسبتها إلى الناطق في تعريف طرق النجاة نسبة النفس الأولى إلى العقل الأول فيما يرجع إلى إيجاد (3/688)
الكائنات وهي الإمام الذي هو وصي الناطق وكما أن تحرك الأفلاك بتحريك العقل والنفس كذلك تحرك النفس إلى النجاة بتحريك الناطق والوصي
وعلى هذا في كل عصر وزمان
قال الآمدي هذا ما كان عليه قدماؤهم
وحين ظهر الحسن بن محمد الصباح جدد الدعوة على أنه الحجة الذي يؤدي عن الإمام الذي لا يجوز خلو الزمان عنه
وحاصل كلامه ما تقدم في الاحتجاج إلى المعلم
ثم إنه منع العوام عن الخوض في العلوم والخواص عن النظر في الكتب المتقدمة كيلا يطلع على فضائحهم ثم أنهم تفلسفوا ولم يزالوا مستهزئين بالنواميس الدينية والأمور الشرعية
وتحصنوا بالحصون
وكثرت شوكتهم
وخافت ملوك السوء منهم فأظهروا إسقاط التكاليف وإباحة المحرمات وصاروا كالحيوانات العجماوات بلا ضابط ديني ولا وازع شرعي
نعوذ بالله من الشيطان وأتباعه
وأما الزيدية وهم المنسوبون إلى زيد بن علي زين العابدين فثلاث فرق
الجارودية أصحاب أبي الجارود الذي سماه الباقر سرحوبا وفسره بأنه شيطان يسكن البحر
قالوا بالنص من النبي في الإمامة على علي وصفا لا تسمية
والصحابة كفروا بمخالفته وتركهم الاقتداء بعلي بعد النبي
والإمامة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام كما مر
واختلفوا في الإمام المنتظر أهو محمد بن عبد الله ابن الحسين بن علي الذي قتل بالمدينة في أيام المنصور فذهب (3/689)
طائفة منهم إلى ذلك
وزعموا أنه لم يقتل أو هو محمد بن القاسم بن علي ابن الحسين صاحب طالقان الذي أسر في أيام المعتصم وحمل إليه فحبسه في داره حتى مات فذهب طائفة أخرى إليه وأنكروا موته
أو هو يحيى بن عمير صاحب الكوفة من أحفاد زيد بن علي دعا الناس إلى نفسه واجتمع عليه خلق كثير وقتل في أيام المستعين بالله فذهب إليه طائفة ثالثة وأنكروا قيله
السليمانية هو سليمان بن جرير
قالوا الإمامة شورى فيما بين الخلق وإنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين
وتصح إمامة المفضول مع وجود الأفضل
وأبو بكر وعمر إمامان
وإن أخطأ الأمة في البيعة لهما مع وجود علي لكنه خطأ لم ينته إلى درجة الفسق
وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة
البتيرية هو كثير النواء
وافقوا السليمانية إلا أنهم توقفوا في عثمان
هذه فرق الزيدية وأكثرهم في زماننا مقلدون يرجعون في الأصول إلى الاعتزال وفي الفروع إلى مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة
وأما الإمامية فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي
وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم
وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق
واختلفوا في المنصوص عليه بعده
والذي استقر عليه رأيهم أنه ابنه موسى الكاظم وبعده علي بن موسى الرضا وبعده محمد بن علي التقي وبعده علي بن محمد النقي
وبعده الحسن بن علي الزكي وبعده محمد بن الحسن
وهو الإمام المنتظر
ولهم (3/690)
في كل من المراتب التي بعد جعفر اختلافات أوردها الإمام في آخر المحصل وكانت الإمامية أولا على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعب متأخروهم إلى معتزلة إما وعيدية أو تفضيلية
وإلى إخبارية يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة
وهؤلاء ينقسمون إلى مشبهة يجرون المتشابهات على أن المراد بها ظواهرها
وسلفية يعتقدون أن ما أراد الله بها حق بلا تشبيه كما عليه السلف
وإلى ملتحقة بالفرق الضالة (3/691)
الفرقة الثالثة الخوارج
المتن وهم سبع فرق 1 - المحكمة وهم الذين خرجوا على علي عند التحكيم وكفروه
وهم إثنا عشر ألف رجل
قالوا من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام
ولم يوجبوا نصب الإمام
وكفروا عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة
2 - البيهسية هو بيهس بن الهيصم بن جابر
قالوا الإيمان الإقرار والعلم بالله وبما جاء به الرسول
فمن وقع فيما لا يعرف أحلال هو أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عليه
وقيل لا حتى يرفع إلى الإمام فيحده
وقيل لا حرام إلا ما في قوله تعالى قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما . . الآية
وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرا أو غائبا
والأطفال كآبائهم إيمانا وكفرا
والسكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه بما قال وفعل
وقيل هو مع الكبيرة كفر
ووافقوا القدرية
3 - الأزارقة هو نافع بن الأزرق
قالوا كفر علي بالتحكيم (3/692)
وابن ملجم محق
وكفرت الصحابة
والقعدة عن القتال وتحرم التقية
ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم
ولا رجم على الزاني ولا حد للقذف على النساء
وأطفال المشركين في النار مع آبائهم
ويجوز نبي كان كافرا
ومرتكب الكبيرة كافر
4 - النجدات هو نجدة بن عامر الحنفي
منهم العاذرية عذروا بالجهالات في الفروع
وقالوا لا حاجة إلى الإمام
ويجوز لهم نصبه
وخالفوا الأزارقة في غير التكفير
5 - الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر
يخالفون الأزارقة في تكفير القعدة وفي إسقاط الرجم وفي أطفال الكفار
ومنع التقية في القول
وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يسمى صاحبها إلا بها
وما لا حد فيه لعظمه كترك الصلاة والصوم كفر
وقيل تزوج المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية
6 - الأباضية هو عبد الله بن أباض
قالوا مخالفونا كفار غير مشركين يجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب دون غيره
ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم
وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم
ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن
والاستطاعة قبل الفعل
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
ويفنى العالم كله بفناء أصل التكليف
ومرتكب الكبيرة (3/693)
كافر كفر نعمة لا ملة
وتوقفوا في أولاد الكفار وفي النفاق أهو شرك وجواز بعثة رسول بلا دليل
وتكليف اتباعه
وكفروا عليا وأكثر الصحابة وافترقوا أربعا
الأولى الحفصية هو أبو حفص بن أبي المقدام
زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة الله تعالى
فمن عرف الله وكفر بما سواه أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك
الثانية اليزيدية
أصحاب يزيد بن أنيسة
قالوا سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة
وأصحاب الحدود مشركون
وكل ذنب شرك
الثالثة الحارثية أصحاب أبي الحارث الأباضي خالفوا الأباضية في القدر
وفي الاستطاعة قبل الفعل
الرابعة القائلون بطاعة لا يراد بها الله
7 - العجاردة هو عبد الرحمن بن عجرد
زادوا على النجدات وجوب البراءة عن الطفل حتى يدعي الإسلام
ويجب دعاؤه إليه إذا بلغ
وأطفال المشركين في النار
وهم عشر فرق
الأولى الميمونية هو ميمون بن عمران
قالوا بالقدر والاستطاعة قبل الفعل وأن الله يريد الخير دون الشر
ولا يريد المعاصي
وأطفال الكفار في الجنة
ويروى عنهم تجويز نكاح البنات للبنين وللبنات ولأولاد الأخوة والأخوات وإنكار سورة يوسف (3/694)
الثانية الحمزية
هو حمزة بن أدرك
وافقوهم إلا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار
الثالثة الشعيبية
هو شعيب بن محمد
وهو كالميمونية
إلا في القدر
الرابعة الحازمية
هو حازم بن عاصم
وافقوا الشعيبية
الخامسة الخلفية
أصحاب خلف
أضافوا القدر خيره وشره إلى الله
وحكوا بأن أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك
السادسة الأطرافية
عذروا أهل الأطراف فيما لم يعرفوه
ووافقوا أهل السنة في أصولهم وفي نفي القدر
السابعة المعلومية هم كالحازمية إلا أن المؤمن عندهم من عرف الله بجميع أسمائه
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
الثامنة المجهولية
قالوا يكفي معرفته تعالى ببعض أسمائه
وفعل العبد مخلوق له
التاسعة الصلتية
هو عثمان بن أبي الصلت
وقيل الصلت من الصامت
هم كالعجاردة
لكن قالوا من أسلم واستجار بنا توليناه
وبرئنا من أطفاله
وروي عن بعضهم أن الأطفال لا ولاية لهم ولا عداوة
العاشرة الثعالبة
هو ثعلب بن عامر
قالوا بولاية الأطفال
وقد نقل عنهم أن الأطفال لا حكم لهم ويرون أخذ الزكاة من العبيد إذا استغنوا وإعطاءها
لهم إذا افتقروا
وتفرقوا أربع فرق
الأولى الأخنسية
أصحاب أخنس بن قيس
هم كالثعالبة إلا أنهم (3/695)
توقفوا فيمن هو في دار التقية إلا من علم حاله
وحرموا الاغتيال بالقتل والسرقة
ونقل عنهم تزويج المسلمات من مشركي قومهم
الثانية المعبدية
هو معبد بن عبد الرحمن
خالفوهم في التزويج من المشركين
وخالفوا الثعالبة في زكاة العبيد
الثالثة الشيبانية
هو شيبان بن سلمة
قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة
الرابعة المكرمية
هو مكرم العجلي
قالوا تارك الصلاة كافر لجهله بالله
وكذا كل كبيرة
وموالاة الله ومعاداته لعباده باعتبار العاقبة
فكذا نحن فإذن فرق الخوارج عشرون
الشرح
الفرقة الثالثة من كبار الفرق الإسلامية الخوارج وهم سبع فرق المحكمة وهم الذين خرجوا على علي عند التحكيم وما جرى بين الحكمين
وكفروه
وهم إثنا عشر ألف رجل كانوا أهل صلاة وصيام
وفيهم قال النبي يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم
وصومه في جنب صومهم
ولكن لا يجازو إيمانهم تراقيهم
قالوا من نصب من قريش وغيرهم وعدل فيما بين الناس فهو إمام
وإن غير السيرة وجار وجب أن يعزل أو يقتل
ولم يوجبوا نصب الإمام بل جوزوا أن لا يكون في العالم إمام
وكفروا عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة
البيهسية هو بيهس بن الهيصم بن جابر
قالوا الإيمان هو الإقرار والعلم بالله وبما جاء به الرسول
فمن وقع فيما لا يعرف أحلال هو أم حرام فهو كافر
لوجوب الفحص عليه حتى يعلم الحق (3/696)
وقيل لا يكفر حتى يرفع أمره إلى الإمام فيحده
وكل ما ليس فيه حد فهو مغفور
وقيل لا حرام إلا ما في قوله تعالى قل لا أحد في ما أوحي إلي محرما . . الآية
وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرا أو غائبا
وقالوا الأطفال كآبائهم إيمانا وكفرا
وقال بعضهم السكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه بما قال وفعل بخلاف السكر من شراب حرام
وقيل هو أي السكر مع الكبيرة كفر
ووافقوا القدرية في إسناد أفعال العباد إليهم
الأزارقة هو نافع بن الأزرق قالوا كفر علي بالتحكيم
وهو الذي أنزل فيه ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام
وابن ملجم محق في قتله
وهو الذي أنزل فيه ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله وفيه قال مفتي الخوارج وزاهدها عمران ابن حطان (3/697)
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أو في البرية عند الله ميزانا وكفرت الصحابة أي عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم وقضوا بتخليدهم في النار
وكفروا القعدة عن القتال وإن كانوا موافقين لهم في الدين
وقالوا تحرم التقية في القول والعمل
ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم
ولا رجم على الزاني المحصن إذ هو غير مذكور في القرآن
ولا حد للقذف على النساء
أي القاذف إن كان إمرأة لم يحد لأن المذكور في القرآن هو صيغة الدين وهو للمذكرين
قال الآمدي وأسقطوا حد قذف المحصنين من الرجال دون النساء
أي المقذوف المحصن إن كان رجلا لا يحد قاذفه
وإن كان امرأة يحد قاذفها
وهذا أظهر
وأطفال المشركين في النار مع آبائهم
ويجوز نبي كان كافرا وإن علم كفره بعد النبوة
ومرتكب الكبيرة كافر
النجدية هو نجدة بن عامر الحنفي منهم العاذرية الذين عذروا الناس بالجهالات في الفروع
وذلك أن نجدة وجه ابنه مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوهم وأسروا نساءهم ونكحوهن قبل القسمة وأكلوا من الغنيمة قبلها أيضا
فلما رجعوا إلى نجدة أخبره بما فعلوا فقال لم يسعكم ما فعلتم فقالوا لم نعلم أنه لا يسعنا فعذرهم بجهالتهم فاختلف أصحابه بعد ذلك
فمنهم من تابعه وقالوا الدين أمران (3/698)
أحدهما معرفة الله ورسوله وتحريم دماء المسلمين
أي الموافقين لهما
والإقرار بما جاء به الرسول جملة
فهذا لا يعذر فيه الجاهل به
والثاني ما سوى ذلك
والجاهل به معذور
فهؤلاء منهم سموا عاذرية
وقالوا أي النجدات كلهم لا حاجة للناس إلى الإمام
بل الواجب عليهم رعاية النصفة فيما بينهم
ويجوز لهم نصبه إذ رأوا أن تلك الرعاية لا تتم إلا بإمام يحملهم عليها
وخالفوا الأزارقة في غير التكفير
أي وافقوهم في التكفير
وخالفوهم في الأحكام الباقية
الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر
يخالفون الأزارقة في تكفير القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين لهم في الدين
وفي إسقاط الرجم فإنهم لم يسقطوه
وفي أطفال الكفار أي لم يكفروا أطفالهم
ولم يقولوا بتخليدهم في النار
ومنع التقية في القول أي جوزوا التقية في القول دون العمل
وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يسمى صاحبها إلا بها فيقال مثلا سارق أو زان أو قاذف
ولا يقال كافر
وما لا حد في لعظمه كترك الصلاة والصوم كفر
فيقال لصاحبه كافر
وقيل تزوج المؤمنة أي المعتقدة لما هو دينهم من الكافر المخالف لهم في دار التقية دون دار العلانية
الأباضية هو عبد الله بن أباض
قالوا مخالفونا من أهل القبلة (3/699)
كفار غير مشركين يجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم من سلاحهم وكراعهم حلال عند الحرب دون غيره
ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم
وقالوا تقبل شهادة مخالفيهم عليهم
ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان
والاستطاعة قبل الفعل
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
ويفنى العالم كله بفناء أصل التكليف
ومرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا ملة
وتوقفوا في تكفير أولاد الكفار وتعذيبهم
وتوقفوا في النفاق أهو شرك أم لا وفي جواز بعثة رسول بلا دليل
ومعجزة وتكليف اتباعه فيما يوحى إليه
أي ترددوا أن ذلك جائز أو لا
وكفروا عليا وأكثر الصحابة وافترقوا فرقا أربعا
الأولى الحفصية
هو أبي حفص بن أبي المقدام
زادوا على الأباضية أن بين الإيمان والشرك معرفة الله تعالى
فإنها خصلة متوسطة بينهما
فمن عرف الله وكفر بما سواه من رسول أو جنة أو نار أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك
الثانية اليزيدية
أصحاب يزيد بن أنيسة زادوا على الأباضية أن قالوا سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة
ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة المذكورة في القرآن (3/700)
وقالوا أصحاب الحدود مشركون
وكل ذنب شرك كبيرة كانت أو صغيرة
الثالثة الحارثية
أصحاب أبي الحارث الأباضي
خالفوا الأباضية في القدر أي كون أفعال العباد مخلوقه
وفي كون الاستطاعة قبل الفعل
الرابعة القائلون بطاعة لا يراد بها الله أي زعموا أن العبد إذا أتى بما أمر به ولم يقصد الله كان ذلك طاعة
العجاردة هو عبد الرحمن بن عجرد
وهم آخر السبع من فرق الخوارج زاودا على النجدات بعد أن وافقوهم في مذهبهم وجوب البراءة عن الطفل أي يجب أن يتبرأ عنه حتى يدعي الإسلام بعد البلوغ
ويجب دعاؤه إليه أي إلى الإسلام إذا بلغ
وأطفال المشركين في النار
وهم عشر فرق
الأولى الميمونية
هو ميمون بن عمران
قالوا بالقدر
أي إسناد الأفعال إلى قدر العباد
ويكون الاستطاعة قبل الفعل وأن الله يريد الخير دون الشر
ولا يريد المعاصي كما هو مذهب المعتزلة
قالوا وأطفال الكفار في الجنة
ويروى عنهم تجويز نكاح البنات للبنين وللبنات وللأولاد الأخوة والأخوات أي جوزوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات
وإنكار سورة يوسف
فإنهم زعموا أنها قصة من القصص
ولا يجوز أن تكون قصة الفسق قرآنا
الثانية من فرق العجاردة الحمزية هو حمزة ابن أدرك (3/701)
وافقوهم أي الميمونة فيما ذهبوا إليه من البدع إلا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار
الثالثة منهم الشعيبية
هو شعيب بن محمد وهم كالميمونية في بدعهم إلا في القدر
الرابعة الحازمية
هو حازم بن عاصم
وافقوا الشعيبية ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي
ولا يصرحون بالبراءة عنه كما يصرحون بالبراءة عن غيره
الخامسة الخلفية
أصحاب خلف الخارجي
وهم خوارج كرمان ومكران أضافوا القدر خيره وشره إلى الله وحكموا بأن أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك
السادسة الأطرافية هم على مذهب حمزة
ورئيسهم رجل من سجستان يقال له غالب
إلا أنهم عذروا أهل الأطراف فيما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل ووافقوا أهل السنة في أصولهم وفي نفي القدر أي إسناد الأفعال إلى قدرة العبد
وفي بعض النسخ
وفي نفي القدرة
أي نفي المقدرة المؤثرة عن العباد
السابعة المعلومية
هم كالحازمية إلا أن المؤمن عندهم من عرف الله بجميع أسمائه وصفاته
ومن لم يعرفه كذلك
فهو جاهل لا مؤمن
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
الثامنة المجهولية مذهبهم كمذهب الحازمية أيضا إلا أنهم قالوا يكفي معرفته تعالى ببعض أسمائه فمن علمه كذلك فهو عارف به مؤمن وفعل العبد مخلوق لله تعالى (3/702)
التاسعة الصلتية
هو عثمان بن أبي الصلت
وقيل الصلت بن الصامت
هم كالعجاردة لكن قالوا من أسلم واستجار بنا توليناه وبرئنا من أطفاله حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقبلوا
وروي عن بعضهم أن الأطفال سواء كانوا للمسلمين أو المشركين لا ولاية لهم ولا عداوة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام ويقبلوا أو ينكروا
العاشرة من فرق العجاردة
الثعالبة هو ثعلبة بن عامر
قالوا بولاية الأطفال صغارا كانوا أو كبارا حتى يظهر منهم إنكار الحق بعد البلوغ
وقد نقل عنهم أيضا أن الأطفال لا حكم لهم من ولاية أو عداوة إلى أن يدركوا
ويرون أخذ الزكاة من العبيد إذا استغنوا
وإعطاءها لهم إذا افتقروا
وتفرقوا أي الثعالبة أربع فرق
الأولى الأخنسية
أصحاب أخنس بن قيس
هم كالثعالبة
إلا أنهم امتازوا عنهم بأن توقفوا فيمن هو في دار التقية من أهل القبلة فلم يحكموا عليه بإيمان ولا كفر إلا من علم حاله من إيمانه أو كفره
وحرموا الاغتيال بالقتل لمخالفيهم والسرقة من أموالهم
ونقل عنهم أنه يجوز تزويج المسلمات من مشركي قومهم
الثانية المعبدية
هو معبد بن عبد الرحمن
خالفوهم أي الأخنسية في التزويج أي تزويج المسلمات من المشركين
وخالفوا الثعالبة في زكاة العبيد أي أخذها منهم ودفعها إليهم (3/703)
الثالثة الشيبانية
هو شيبان بن سلمة قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة
الرابعة المكرمية هو مكرم بن عبد الله العجلي
قالوا تارك الصلاة كافر لا لترك الصلاة بل لجهله بالله
فإن من علم أنه مطلع على سره وعلنه ومجازيه على طاعته ومعصيته لا يتصور منه الإقدام على ترك الصلاة وكذا كل كبيرة فإن مرتكبها كافر لجهله بالله لما ذكرناه
وموالاة الله ومعاداته لعباده باعتبار العاقبة وما هم صائرون إليه عند موافاة الموت إلا باعتبار أعمالهم التي هم فيها إذ هي غير موثوق بدوامها
وكذا نحن فمن وصل إلى حالة الموت فإن كان مؤمنا في تلك الحالة واليناه
وإن كان كافرا عاديناه
فإذن فرق الخوارج عشرون
لأن العجاردة عشر فرق نضمها إلى الست السابقة تصير ست عشرة وتتشعب من الثعالبة والأباضية أربع فرق أخرى
فالمجموع عشرون
وفيه بحث لأن المقسم لا يعد مع أقسامه
فلا تعتبر الثعالبة عاشرة أقسام العجاردة مع فرقها الأربع
بل يكتفي عنها بهذه الأربع فتكون الفرق حينئذ تسع عشرة
وأيضا إذا اعتبر فرق الأباضية وفرق الثعالبة معا كانت الفرق كلها اثنتين وعشرين
واعتبار إحدى الأربعين دون الأخرى تحكم محض (3/704)
الفرقة الرابعة المرجئة
المتن لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية
فهم يعطون الرجاء
وفرقهم خمس
1 - اليونسية هم يونس النميري
قالوا الإيمان المعرفة بالله والخضوع له
والمحبة بالقلب
ولا يضر معها ترك الطاعات
وإبليس كان عارفا بالله وإنما كفر باستكباره
2 - العبيدية أصحاب عبيد المكذب
زادوا أن علم الله لم يزل شيئا غيره
وأنه تعالى على صورة الإنسان
3 - الغسانية أصحاب غسان الكوفي
قالوا الإيمان المعرفة بالله ورسوله وبما جاء من عندهما إجمالا
وهو يزيد ولا ينقص
وذلك مثل أن يقول قد فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة
ولعلها بغير مكة
وبعث محمدا ولا أدري أهو الذي بالمدينة أم غيره
وغسان كان يحكيه عن أبي حنيفة
وهو افتراء (3/705)
4 - الثوبانية أصحاب ثوبان المرجىء
قالوا الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله
واتفقوا على أنه تعالى لو عفا عن عاص لعفا عن كل من هو مثله
وكذا لو أخرج واحدا من النار
ولم يجزموا بخروج المؤمنين من النار
واختص غيلان بالقدر والخروج من حيث أنه قال يجوز أن لا يكون الإمام قرشيا
5 - التومنية أصحاب أبي معاذ التومني
قالوا الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار
وترك كله أو بعضه كفر
وليس بعضه إيمانا ولا بعضه
وكل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقال فيه إنه فسق وعصى
ولا يقال إنه فاسق
ومن ترك الصلاة مستحلا
كفر
وبنية القضاء لم يكفر
ومن قتل نبيا أو لطمه كفر لأنه دليل لتكذيبه وبغضه
وبه قال ابن الرواندي وبشر المريسي
وقالا السجود للصنم علامة الكفر
فهذه هي المرجئة الخالصة
ومنهم من جمع إليه القدر كالصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب وغيلان
الشرح
الفرقة الرابعة من كبار الفرق الإسلامية المرجئة
لقبوا به لأنهم (3/706)
يرجئون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد
من أرجأه أي أخره
ومنه أرجئه وأخاه أي أمهله وأخره
أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهم يعطون الرجاء وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظه المرجئة
وفرقهم خمس
اليونسية وهو يونس النميري
قالوا الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له والمحبة بالقلبت فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن
ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي
ولا يعاقب عليها
وإبليس كان عارفا بالله
وإنما كفر باستكباره وترك الخضوع لله كما دل عليه قوله أبى واستكبر وكان من الكافرين
العبيدية أصحاب عبيد المكذب
زادوا على اليونسية أن علم الله لم يزل شيئا غيره أي غير ذاته
وكذا باقي صفاته
وأنه تعالى على صورة الإنسان لما ورد في الحديث من أن الله خلق آدم على صورة الرحمن
الغسانية أصحاب غسان الكوفي
قالوا الإيمان هو المعرفة بالله ورسوله
وبما جاء من عندهما إجمالا لا تفصيلا
وهو أي الإيمان يزيد ولا ينقص
وذلك الإجمال مثل أن يقول قد فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة
ولعلها بغير مكة
وبعث محمدا
ولا أدري أهو الذي بالمدينة أم غيره
وحرم الخنزير ولا أدري أهو هذه الشاة أم غيرها
فإن القائل بهذه المقالات مؤمن ومقصودهم بما ذكروه أن هذه الأمور ليست داخلة في حقيقة الإيمان
وإلا فلا شبهة في أن عاقلا لا يشك فيها
وغسان كان (3/707)
يحكيه أي القول بما ذهب إليه عن أبي حنيفة
ويعده من المرجئة
وهو افتراء عليه قصد به غسان ترويج مذهبه بموافقة رجل كبير مشهور
قال الآمدي
ومع هذا فأصحاب المقالات قد عدوا أبا حنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة
ولعل ذلك لأن المعتزلة في الصدر الأول كانوا يلقبون من خالفهم في القدر مرجئا
أو لأنه لما قال الإيمان هو التصديق
ولا يزيد ولا ينقص ظن به الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان
وليس كذلك إذا عرف منه المبالغة في العمل والاجتهاد فيه
الثوبانية أصحاب ثوبان المرجىء
قالوا الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله
وأما ما جاز في العقل أن يفعله فليس الاعتقاد به من الإيمان
وأخروا العمل كله عن الإيمان
ووافقهم على ذلك مروان بن غيلان
وقيل أبو مروان غيلان الدمشقي وأبو شمر ويونس بن عمران
والفضل الرقاشي
وهؤلاء كلهم اتفقوا على أنه تعالى لو عفا في القيامة عن عاص لعفا عن كل من هو مثله
وكذا لو أخرج واحدا من النار لأخرج كل من هو مثله
ولم يجزموا بخروج المؤمنين من النار
واختص ابن غيلان
أو غيلان من بينهم بالقدر
إذ قد جمع بين الإرجاء والقول بالقدر
أي إسناد الأفعال إلى العباد
والخروج من حيث أنه قال يجوز أن لا يكون الإمام قرشيا
التومنية أصحاب أبي معاذ التومني
قالوا الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول وترك كله أو بعضه كفر
وليس بعضه إيمانا ولا بعضه أي ولا بعض إيمان
وكل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقل أنه فسق وعصى
ولا يقال إنه (3/708)
فاسق
ومن ترك الصلاة مستحلا كفر لتكذيبه بما جاء به النبي
ومن تركها بنية القضاء لم يكفر
ومن قتل نبي أو لطمه كفر لا لأجل القتل أو اللطمة بل لأنه دليل لتكذيبه وبغضه
وبه قال ابن الراوندي وبشر المريسي
وقالا السجود للصنم ليس كفرا بل هو علامة الكفر
فهذه هي المرجئة الخالصة
ومنهم من جمع إليه أي إلى الإرجاء القدر
كالصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب وغيلان (3/709)
الفرقة الخامسة النجارية
المتن أصحاب محمد بن الحسين النجار
هم موافقون لأهل السنة في خلق الأفعال
وأن الاستطاعة مع الفعل والعبد يكتسب فعله
وللمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام وفرقهم ثلاث
الأولى البرغوتية قالوا كلام الله إذا قرىء عرض
وإذا كتب فهو جسم
الثانية الزعفرانية قالوا كلام الله غيره
وكل ما هو غيره مخلوق
ومن قال كلام الله غير مخلوق فهو كافر
الثالثة المستدركة استدركوا عليهم
وقالوا إنه مخلوق مطلقا لكنا وافقنا السنة والإجماع في نفيه وأولناه بما هذه حكايته
وقالوا أقوال مخالفينا كلها كذب حتى قولهم لا إله إلا الله
الشرح
الفرقة الخامسة من كبار الفرق الإسلامية
البخارية
أصحاب محمد بن الحسين البخار
هم موافقون لأهل (3/710)
السنة في خلق الأفعال
وإن الاستطاعة مع الفعل
وأن العبد يكتسب فعله
وموافقون للمعتزلة في نفي الصفات الوجودية على وحدوث الكلام ونفي الرؤية بالإبصار
ووافقهم على ذلك ضرار بن عمرو وحفص الفرد
وفرقهم ثلاث
الأولى البرغوثية
قالوا كلام الله إذا قرىء عرض
وإذا كتب بأي شيء كان فهو جسم
الثانية الزعفرانية
قالوا كلام الله غيره
وكل ما هو غيره مخلوق
ومن قال كلام الله غير مخلوق
فهو كافر
الثالثة المستدركية
استدركوا عليهم أي على الزعفرانية وقالوا إنه أي كلام الله مخلوق مطلقا لكنا وافقنا السنة الواردة بأن كلام الله غير مخلوق
والإجماع المنعقد عليه في نفيه
وأولناه بما هذه الصورة حكايته أي حملنا قولهم غير مخلوق على أنه غير مخلوق على هذا الترتيب والنظم من هذه الحروف والأصوات
بل هو مخلوق على غير هذه الحروف
وهذه حكاية عنها
وقالوا أقوال مخالفينا كلها كذب حتى قولهم لا إله إلا الله فإنه كذب أيضا (3/711)
الفرقة السادسة الجبرية
المتن والجبر إسناد فعل العبد إلى الله
والجبرية متوسطة تثبت للعبد كسبا كالأشعرية
وخالصة ولا تثبته كالجهمية وهم أصحاب جهم بن صفوان
قالوا لا قدرة للعبد أصلا
والله لا يعلم الشيء قبل وقوعه
وعلمه حادث لا في محل
ولا يتصف بما يوصف به غيره كالعلم والقدرة
والجنة والنار تفنيان
ووافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام وإيجاب المعرفة بالعقل
الشرح الفرقة السادسة من تلك الفرق الكبار الجبرية والجبر إسناد فعل العبد إلى الله
والجبرية متوسطة أي غير خالصة في القول بالجبر المحض بل متوسطة بين الجبر والتفويض تثبت للعبد كسبا في الفعل بلا تأثير فيه كالأشعرية والنجارية والضرارية
وخالصة لا تثبته كالجهمية وهم أصحاب جهم بن صفوان الترمذي
قالوا لا قدرة للعبد أصلا لا مؤثرة ولا كاسبة بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها
والله لا يعلم الشيء قبل وقوعه وعلمه حادث لا (3/712)
في محل ولا يتصف الله بما يوصف به غيره إذ يلزم منه التشبيه كالعلم والقدرة لو أبدل القدرة بالحياة كما ذكره الآمدي لكان أولى لأن جهما لا يثبت لغير الله قدرته
والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما حتى لا يبقى موجود سوى الله سبحانه
ووافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام وإيجاب المعرفة بالعقل قبل ورود الشرع (3/713)
الفرقة السابعة المشبهة
المتن شبهوا الله بالمخلوقات
وإن اختلفوا في طريقه
فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كما تقدم
ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمى
قالوا هم جمس من لحم ودم
وله الأعضاء حتى قال بعضهم إعفوني عن اللحية والفرج
وسلوني عما وراءه
ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام
وأقوالهم متعددة غير أنها لا تنتهي إلى من يعبأ به
فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم
وهو أن الله على العرش من جهة العلو
ويجوز عليه الحركة والنزول
واختلفوا أيملأ العرش أم لا وقال بعضهم بل هو محاذ للعرش
واختلفا أببعد متناه أو غيره ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم
ثم هل هو متناه من الجهات أو من جهة تحت أو لا وتحل الحوادث في ذاته
وزعموا أنه إنما يقدر عليها دون الخارجة عن ذاته
ويجب أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال
والنبوة والرسالة صفتان سوى الوحي والمعجزة والعصمة
وصاحبها رسول
ويجب على الله إرساله لا غير
وهو حينئذ مرسل
وكل مرسل رسول بلا عكس
ويجوز عزله دون الرسول
وليس من الحكمة رسول واحد
وجوزوا إمامين كعلي ومعاوية
إلا أن إمامة على علي وفق السنة بخلاف معاوية
لكن يجب طاعة رعيته له
والإيمان قول الذر في الأزل بلى وهو باق في الكل إلا المرتدين
وإيمان المنافق كإيمان الأنبياء
والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة
فهذه هي الفرق الضالة الذين قال فيهم رسول الله كلهم في النار (3/714)
الشرح الفرقة السابعة منها المشبهة
شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالحادثات
وهم لأجل ذلك جعلناهم فرقة واحدة قائلة بالتشبيه
وإن اختلفوا في طريقه فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كالسبائية والبيانية والمغيرية وغيرهم
كما تقدم من مذاهبهم القائلة بالتجسيم والحركة والإنتقال والحلول في الأجسام
إلى غير ذلك
ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس
والهيجمى قالوا هو جسم لا كالأجسام من لحم ودم لا كاللحوم والدماء
وله الأعضاء والجوارح ويجوز عليه الملامسة والمصافحة والمعانقة للمخلصين الذين يزورونه في الدنيا ويزورهم حتى نقل أنه قال بعضهم إعفوني عن اللحية والفرج وسلوني عما وراءه
ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام
قيل هو بكسر الكاف وتخفيف الراء
وفيه قيل
الفقه فقه أبي حنيفه وحده ... والدين دين محمد بن كرام وأقوالهم في التشبيه متعددة مختلفة غير أنها لا تنتهي إلى من يعبأ (3/715)
به ويبالي بقوله فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم
وهو أن الله على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا
ويجوز عليه الحركة والنزول
واختلفوا أيملأ العرش أم لا يملأه بل هو على بعضه
وقال بعضهم ليس هو على العرش بل هو محاذ للعرش
واختلف أببعد متناه أو غيره ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم ثم اختلفوا هل هو متناه من الجهات كلها أو متناه من جهة تحت فقط أو لا أي ليس متناهيا بل هو غير متناه في جميع الجهات
وقالوا تحل الحوادث في ذاته
وزعموا أنه إنما يقدر عليها أي على الحوادث الحالة فيه دون الخارجة عن ذاته
ويجب على الله أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال
وقالوا النبوة والرسالة صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحي وسوى أمر الله بالتبليغ
وسوى المعجزة والعصمة
وصاحبها أي صاحب تلك الصفة رسول بسبب إتصافه بها من غير إرسال ويجب على الله إرساله لا غير أي لا يجوز إرسال غير الرسول
وهو حينئذ أي حين إذا أرسل مرسل
وكل مرسل رسول بلا عكس كلي
ويجوز عزله
أي عزل المرسل عن كونه مرسلا دون الرسول فإنه لا يتصور عزله عن كونه رسولا وليس من الحكمة رسول واحد أي لا يجوز الاقتصار على إرسال رسول واحد
بل لا بد من تعدده وجوزوا إمامين في عصر واحد كعلي ومعاوية إلا أن إمامة علي وفق السنة بخلاف إمامة معاوية لكن يجب طاعة رعيته له وقالوا الإيمان قول الذر في الأزل
بلى أي الإيمان هو الإقرار الذي وجد من الذر حين قال تعالى لهم ألست بربكم
وهو باق في الكل على السوية إلا المرتدين
وإيمان المنافق مع (3/716)
كفره كإيمان الأنبياء لاستواء الجمع في ذلك الإيمان والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة
فهذه هي الفرق الضالة الذين قال فيهم رسول الله كلهم في النار
المتن وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قال فيهم هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة
ومذهبهم خال عن بدع هؤلاء
وقد أجمعوا على حدوث العالم ووجود الباري تعالى
وأنه لا خالق سواه
وأنه قديم متصف بالعلم والقدرة وسائر صفات الجلال لا شبيه له ولا ضد ولا ند
ولا يحل في شيء
ولا يقوم بذاته حادث
ليس في حيز ولا جهة ولا يصح عليه الحركة والانتقال
ولا الجهل ولا الكذب ولا شيء من صفات النقص
مرئي للمؤمنين في الآخرة
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
غني لا يحتاج إلى شيء ولا يجب عليه شيء
إن أثاب فبفضله
وإن عاقب فبعدله لا غرض لفعله ولا حاكم سواه
لا يوصف فيما يفعل أو يحكم بجور ولا ظلم وهو غير متبعض ولا له حد ولا نهاية
وله الزيادة والنقصان في مخلوقاته
والمعاد حق
وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار
وخلود أهل الجنة فيها والكفار في النار ويجوز العفو والشفاعة حق
وبعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد
وأهل بيعة الرضوان وأهل بدر من أهل الجنة
والإمام يجب نصبه على المكلفين
والإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
والأفضلية بهذا الترتيب ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع والأفضلية القادر العليم
أو شرك أو إنكار للنبوة أو ما علم مجيئه ضرورة أو لمجمع عليه كاستحلال المحرمات
وأما ما عداه فالقائل به مبتدع غير كافر
وللفقهاء في معاملتهم خلاف (3/717)
هو خارج عن فننا هذا
وليكن هذا آخر الكلام من كتاب المواقف
ونسأل الله تعالى أن يثبت قلبنا على دينه ولا يزيغه بعد الهداية ويعصمنا عن الغواية ويوفقنا للإقتداء برسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ويعفو عن طغيان القلم وما لا يخلو عنه البشر من السهل والزلل وأن يعاملنا بفضله ورحمته
إنه هو الغفور الرحيم
الشرح وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قالوا النبي فيهم هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة
ومذهبهم خال عن بدع هؤلاء
وقد أجمعوا على حدوث العلم خلافا لبعض الغلاة القائلين بقدمه ووجود الباري تعالى خلافا للحابطية حيث قالوا لا موجود ولا معدوم
وأنه لا خالق سواه خلافا للقدرية وأنه قديم خلافا للمعمرية القائلين بأنه لا يوصف بالقدم متصف بالعلم والقدرة وسائر صفات الجلال خلافا لنفاة الصفات لا شبيه له خلافا للمشبهة
ولا ضد ولا ند خلافا للحابطية
حيث أثبتوا إلهين
ولا يحل في شيء خلافا لبعض الغلاة
ولا يقوم بذاته حادث خلافا للكرامية ليس في حيز ولا جهة ولا يصح عليه الحركة والانتقال
ولا الجهل ولا الكذب ولا شيء من صفات النقص خلافا لمن جوزها عليه كما تقدم
مرئي للمؤمنين في الآخرة بلا انطباع ولا شعاع
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
غني لا يحتاج في شيء إلى شيء
ولا يجب عليه شيء
إن أثاب فبفضله
وإن عاقب فبعدله
لا غرض لفعله (3/718)
ولا حاكم سواه
لا يوصف فيما يفعل أو يحكم بجور ولا ظلم
وهو غير متبعض
ولا له حد ولا نهاية وله الزيادة والنقصان في مخلوقاته
والمعاد الجسماني حق
وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار
وخلود أهل الجنة فيها
وخلود الكفار في النار
ويجوز العفو عن المذنبين
والشفاعة حق
وبعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد
وأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة
والإمام يجب نصبه على المكلفين
والإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
والأفضلية بهذا الترتيب
ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع القادر العليم أو شرك أو إنكار للنبوة أو إنكار المجمع عليه كاستحلال المحرمات التي أجمع على حرمتها
فإن كان ذلك المجمع عليه مما علم ضرورة من الدين فذلك ظاهر داخلا فيما تقدم ذكره
وإلا فإن كان إجماعا ظنيا فلا كفر بمخالفته
وإن كان قطعيا ففيه خلاف
وأما ما عداه فالقائل به مبتدع غير كافر
وللفقهاء في معاملتهم خلاف هو خارج عن فننا هذا
قال المصنف وليكن هذا آخر الكلام من كتاب المواقف ونسأل الله تعالى أن يثبت قلبنا على دينه ولا يزيغه بعد الهداية ويعصمنا عن الغواية ويوفقنا للاقتداء برسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان
ويعفو عن طغيان القلم وما لا يخلو عنه البشر من السهو والزلل وأن يعاملنا بفضله ورحمته
إنه هو الغفور الرحيم
وأنا أقول هذا ما تيسر لنا بعون الله وحسن توفيقه من كشف مشكلاته وتوضيح معضلاته وتحرير مسائله وتقرير دلائله معرضين عن الإطناب الممل والإيجاز المخل ومشيرين في بعض المواضع إلى ما يتوجه (3/719)
على كلامه من الأسئلة وما يمكن أن يتمسك به في دفعها من الأجوبة
نفع الله به الطالبين وجعله ذخرا لنا يوم الدين
إنه خير موفق ومعين
وقد وقع الفراغ من تأليفه يوم السبت قريب العصر من أوائل شوال
سنة سبع وثمانمائة بمحروسة سمرقند صينت عن الآفات وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير
وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنام وآله الكرام وصحبه العظام وسلم تسليما كثيرا كثيرا آمين
تم بحمد الله (3/720)