أنه إذا فسر الإرادة باعتقاد النفع أو الميل التابع له جاز تعلقها بنفسها لجواز أن يعتقد الشخص أن في اعتقاده لمنفعة فعل من الأفعال أو في ميله إليه نفعا له ثم يميل إلى ذلك الاعتقاد وما يتبعه وأما إذا فسرت بما اختاره من أنها صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع فلا يجوز تعلقها بنفسها لأن إرادتنا ليست مقدورة لنا وإلا احتاج حصولها فينا إلى إرادة أخرى وهكذا إلى ما لا يتناهى اللهم إلا أن يذكروا هذا الفرق على تقدير إقدار الله تعالى إيانا على الإرادة فإن العلماء بناء على هذا التقدير اختلفوا في أن تلك الإرادة المقدورة هل تكون مرادة للعبد بإرادة أخرى أو لا أوجبه الأشاعرة إذ لا يصدر فعل عن فاعل قادر عالم بن ذاكر له إلا بإرادته
وقال الجبائي يستحيل كون الفاعل للإرادة مريدا لها بإرادة أخرى
الوجه الثاني أن الإنسان قد يريد شرب دواء كريه غاية الكراهة فيشربه ولا يشتهيه بل ينفر عنه وقد يشتهي الطعام اللذيذ ولا يريده إذا علم أن فيه هلاكه فقد وجد كل واحدة من الإرادة والشهوة بدون الأخرى وقد يجتمعان في شيء واحد فبينهما عموم من وجه بحسب الوجود وكذا الحال بين الكراهة والنفرة إذ في الدواء المذكور وجدت النفرة دون الكراهة المقابلة للإرادة وفي اللذيذ الحرام توجد الكراهة من الزهاد دون النفرة الطبيعية وقد يجتمعان أيضا في حرام منفور عنه
المقصد الخامس
المتن
إنها غير التمني فإنها لا تتعلق إلا بمقدور مقارن والتمني قد يتعلق بالمحال وبالماضي والميل الذي يسمونه إرادة هو بالتمني أشبه منه بالإرادة (2/109)
الشرح
المقصد الخامس إنها أي الإرادة غير التمني فإنها لا تتعلق إلا بمقدور مقارن لها عند أهل التحقيق والتمني قد يتعلق بالمحال الذاتي وبالماضي وقد توهم جماعة أن التمني نوع من الإرادة حتى عرفوه بأنه إرادة ما علم أنه لا يقع أو شك وقوعه واتفق المحققون من الأشاعرة والمعتزلة على أن التمني غير الإرادة والميل الذي يسمونه إرادة كما مر هو بالتمني أشبه منه بالإرادة فتأمل
المقصد السادس
المتن
قال الشيخ إرادة الشيء كراهة ضده بعينها إذ لو كانت غيرها فإما مثلها أو ضدها فلا تجامعها وإما مخالف لها فيجامع ضدها إذ المخالف للشيء يجوز اجتماعه معه ومع ضده ولكن ضد إرادة الشيء إرادة الضد فيلزم كراهة الضد مع إرادته وأنه محال
والجواب لا نسلم أن المخالف للشيء يجامع ضده لجواز تلازمهما وكون الشيء ضدا للمتخالفين كالنوم هو ضد للعلم والقدرة ثم ما ذكرتم وإن دل على ما ادعيتم فعندنا ما ينفيه وهو أن شرط كراهة الضد الشعور به اتفاقا وقد لا يشعر به فتنفك الإرادة عن كراهة الضد فلا تكون نفسها
وبالجملة فاستلزام الشيء لنفسه لا يتوقف على شرط وإذا ظهر التغاير فهل الإرادة مستلزمة لكراهة الضد بشرط الشعور به فمختلف فيه (2/110)
قال القاضي والغزالي مستلزمة والظاهر خلافه لجواز أن يريد الضدين كل واحد من وجه إرادة على السوية أو يترجح أحدهما بحسب ما فيه من نفع راجح
الشرح
المقصد السادس قال الشيخ الأشعري وكثير من أصحابه إرادة الشيء كراهة ضده بعينها إذ لو كانت إرادة الشيء غيرها أي غير تلك الكراهة فإما مثلها أو ضدها فلا تجامعها لامتناع اجتماع المتماثلين والمتضادين وإما مخالف لها أي أمر لا يماثلها ولا يضادها فيجامع ضدها بل يجامع كل واحدة منهما ضد الأخرى إذ المخالف للشيء يجوز اجتماعه معه ومع ضده كالحركة المخالفة للسواد فإنها تجامعه وتجامع البياض أيضا ولكن ضد كراهة الضد هو إرادة الضد فيلزم جواز اجتماع إرادة الشيء مع إرادة ضده لكن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان فلا يجوز اجتماعهما وكذا ضد إرادة الشيء إرادة الضد فإذا جوز اجتماع كراهة الضد مع ضد إرادة الشيء فيلزم كراهة الضد مع إرادته أي يلزم جواز اجتماعهما وإنما لم يقل ضد إرادة الشيء كراهة ذلك الشيء فيلزم حينئذ كراهة الضدين لأن استحالته ممنوعة بخلاف استحالة إرادتهما معا واستحالة إرادة الشيء مع كراهته وأنه أي اجتماع كراهة الضد مع إرادته محال
والجواب عن استدلال الشيخ أن لا نسلم أن المخالف للشيء يجامع ضده لجواز تلازمهما أي تلازم الشيء وتخالفه بأن يكون كل منهما ملزوما للآخر ولا شك أن الملزوم يمتنع اجتماعه مع ضد اللازم فلا (2/111)
يجوز حينئذ اجتماع شيء من المتخالفين مع ضد صاحبه و جواز كون الشيء الواحد ضد للمتخالفين وعلى هذا أيضا لا يجوز اجتماع الشيء مع ضد ما يخالفه وإلا لجاز اجتماعه مع ضده كالنوم هو ضد للعلم والقدرة المتخالفين ولا يجامعه شيء منهما ثم ما ذكرتم من الدليل وإن دل بظاهره على ما ادعيتم فعندنا ما ينفيه وهو أن شرط كراهة الضد الشعور به اتفاقا وضرورة وقد لا يشعر به أي بالضد حال إرادة الشيء إذ يجوز أن يخطر شيء بالبال وتتعلق به الإرادة مع الغفلة عن ضده فتنفك حينئذ الإرادة المتعلقة بالشيء عن كراهة الضد فلا تكون الإرادة نفسها
وبالجملة فاستلزام الشيء لنفسه لا يتوقف على شرط وهو ظاهر واستلزام إرادة الشيء كراهة ضده متوقف على الشعور بالضد الذي ربما لا يكون حاصلا مع حصول الإرادة فلا تكن الإرادة نفس تلك الكراهة ومنهم من قال إن الشيخ لم يدع أن الإرادة عين الكراهة على الإطلاق بل ادعى أن إرادة الشيء عين كراهة ضده حال الشعور بالضد ولا يذهب عليك أن مثل هذا الكلام مما لا يلتفت إليه وإذا ظهر التغاير بين إرادة الشيء وكراهة ضده بما بيناه فهل الإرادة مستلزمة لكراهة الضد لا مطلقا إذ قد تبين انفكاكها عن الكراهة في بعض الصور بل بشرط الشعور به أي بالضد مختلف فيه
قال القاضي أبو بكر و الإمام الغزالي مستلزمة أي إرادة الشيء مع الشعور بضده تستلزم كون الضد مكروها عند ذلك المريد والظاهر عند المصنف خلافه لجواز أن يريد الشخص الضدين كل واحد منهما من وجه إرادة على السوية أو يترجح أحدهما بحسب ما فيه من نفع راجح على نفع الآخر فيكونان مرادين لا على السوية وهذا الظاهر الذي ذكره (2/112)
إنما يتأتى إذا فصلت الإرادة باعتقاد النفع أو ما يتبعه وأما إذا فصلت بصفة مخصصة لأحد طرفي الفعل مقارنة كما هو رأي الأشاعرة فلا لأن إرادة الضدين تستلزم اجتماعهما معا
المقصد السابع
المتن
قال القاضي وأبو عبد الله البصري الإرادة تفيد متعلقها صفة فللفعل كونه طاعة ومعصية وللقول كونه أمرا أو تهديدا فإن أرادا أنها تفيد صفة ثبوتية منع وما ذكراه اعتباري كيف والقول لا وجود لجملته فكيف تقوم به صفة
الشرح
المقصد السابع قال القاضي من الأشاعرة وأبو عبد الله البصري من المعتزلة لا إرادة تفيد متعلقها صفة زائدة عن ذات المتعلق سواء كان ذلك المتعلق فعلا أو قولا فللفعل تفيد كونه طاعة كالسجود بإرادته لله تعالى ومعصية كالسجود بإرادته للصنم وللقول تفيد كونه أمرا أو تهديدا فإن أرادا أي القاضي والبصري أنها أي الإرادة تفيد متعلقها صفة ثبوتية موجودة في الخارج منع كون الإرادة كذلك وما ذكراه من كون الفعل طاعة أو معصية وكون القول أمرا أو تهديدا وصف اعتباري لا تحقق له في الخارج كيف والقول لا وجود لجملته معا فكيف تقوم به صفة وجودية وإن أرادا أنها تفيد متعلقها صفة اعتبارية فذلك مما لا ينازع فيه ولا يتصور في ذكره مزيد فائدة (2/113)
النوع الرابع القدرة
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في تعريف القدرة وهي صفة تؤثر وفق الإرادة فخرج ما لا يؤثر كالعلم وما يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة
وقيل ما هو مبدأ قريب للأفعال المختلفة فالنفس الفلكية قدرة على الأول دون الثاني والنفس النباتية بالعكس وأما الحيوانية فقدرة على التفسيرين والقوى العنصرية ليست قدرة على التفسيرين ويرد عليهما القدرة الحادثة على رأينا فإنها لا تؤثر وليست مبدأ لأثر ويسمى كسبا والدليل أنه لو كان فعل العبد بقدرته وأنه واقع بقدرة الله لما سنبرهن على أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فلو أراد شيئا وأراد العبد ضده لزم إما وقوعهما أو عدمهما أو كون أحدهما عاجزا
لا يقال نختار أنه يقع مقدور الله تعالى لأن قدرته أتم ألا ترى أنها أعم لأنا نقول عموم القدرة لا يؤثر فإن تعلق القدرة بغير المقدور المعين لا أثر له في هذا المعين ضرورة وبهذا الدليل بعينه نفي جهم الحادثة وأنه غلو (2/114)
في الجبر وأنه مكابرة لأن الفرق بين الصاعد بالاختيار والساقط عن علو ضروري فالأول له اختيار دون الثاني ويندفع الإشكال بما ذكرناه من عدم تأثير قدرته فإن قال لا نريد بالقدرة إلا الصفة المؤثرة وإذ لا تأثير فلا قدرة كان منازعا في التسمية
الشرح
النوع الرابع من الكيفيات النفسانية القدرة وفيه مقاصد أربعة عشر بل ثلاثة عشر كما ستطلع عليه
المقصد الأول في تعريف القدرة وفي صفة تؤثر على وفق الإرادة فخرج من هذا التعريف ما لا يؤثر كالعلم إذ لا تأثير له وإن توقف تأثير القدرة عليه و خرج أيضا ما يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة للبسائط العنصرية
وقيل القدرة ما هو مبدأ قريب للأفعال المختلفة والمراد بالمبدأ هو الفاعل المؤثر والقريب احتراز عن البعيد الذي يؤثر بواسطة كالنفوس الحيوانية والنباتية فإنها مبادئ لأفعال مختلفة مثل الإنماء والتغذية والتوليد لكنها بعيدة لكونها مبادئ لها باستخدام الطبائع والكيفيات هكذا قيل وفيه بحث لأن المؤثر في هذه الأفاعيل إن كان هو الطبائع والكيفيات دون النفوس النباتية والحيوانية كانت هذه النفوس خارجة بقيد المبدأ لأنه الفاعل وإن كان المؤثر فيها هو النفوس وكانت الطبائع والكيفيات آلات لها لم تخرج بقيد القريب لأن الفاعل القريب قد يحتاج إلى استعمال الآلة وقد يقال معنى استخدامها إياهما أنها تنهضهما للتأثير في هذه الأفاعيل وبهذا الإنهاض أشبهت الفاعل كالقاسر في الحركة القسرية فإنه يسخر طبيعة المقسور للتحريك فكانت بحسب الظاهر داخلة في المبدأ وخارجة بالقريب (2/115)
فالنفس الفلكية قدرة على التفسير الأول لأنها تؤثر على وفق الإرادة وهذا إنما يصح إذا حملت الصفة على ما يتناول الجوهر والعرض معا كتناول القوة إياهما أو يراد بالنفس الفلكية ما يكون صفة للفلك لا نفسه الجوهرية وإن كان مستبعدا جدا دون التفسير الثاني لأنها ليست مبدأ لأفاعيل مختلفة بل لفعل واحد على نسبة واحدة مع الشعور به والنفس النباتية هكذا في النسخ المشهورة وقيل هو سهو من الناسخ لما مر من أن النفس النباتية ليست مبدأ قريبا والصواب أن يقال والقوة النباتية لكن ما في الكتاب موافق للملخص بالعكس فإنها قدرة على التفسير الثاني لكونها مبدأ قريبا لأفاعيل مختلفة دون التفسير الأول إذ لا شعور لها بأفاعيلها وأما القوة الحيوانية فقدرة على التفسيرين لكونها صفة مؤثرة على وفق الإرادة ومبدأ قريبا لأفعال مختلفة والقوى العنصرية سواء أريد بها ما هو صورة مقومة لها ففي الأجسام البسيطة تسمى طبيعة كالنارية والمائية وفي الأجسام المركبة تسمى صورة نوعية لذلك المركب كالصورة المبردة التي للأفيون والمسخنة التي للقربيون أو ما هو عرض قائم بها كالحرارة والبرودة ليست قدرة على التفسيرين إذ لا إرادة لها ولا شعور وليست أفعالها مختلفة بل هي على نهج واحد ويرد عليهما أي على التفسيرين القدرة الحادثة على رأينا معاشر الأشاعرة فإنها لا تؤثر في فعل أصلا فلا تدخل في التفسير الأول وليست مبدأ الأثر قطعا فلا تدخل في التفسير الثاني و إن كان لها عندنا تعلق بالفعل يسمى ذلك التعلق كسبا والدليل على أن القدرة الحادثة (2/116)
ليست مؤثرة أنه لو كان فعل العبد بقدرته وتأثيرها فيه وأنه أي والحال إن فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى أي قدرته تعالى متعلقة بفعل العبد بل هو واقع بتأثيرها فيه لما سنبرهن على أنه تعالى قادر على جميع الممكنات بل جميعها صادرة عنه فلو أراد الله شيئا من الأفعال المقدورة للعباد وأراد العبد ضده لزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين أو عدمهما معا ولا شك أن المانع من وقوع مراد كل منهما وقوع مراد الآخر فإذا لم يقعا وجب وقوعهما معا ويلزم ذلك المحال وأيضا إذا فرض ضدان لا واسطة بينهما كان عدمهما معا محالا أو كون أحدهما عاجزا غير قادر على ما فرض قدرته عليه وتأثيره فيه وهو أيضا محال
لا يقال نختار أنه يقع مقدورا لله تعالى لأن قدرته أتم من قدرة العبد ألا ترى أنها أعم منها لتعلقها بما لا يتصور تعلق قدرة العبد به ولا يلزم حينئذ عدم تأثير قدرة العبد في فعل أصلا بل يلزم تخلف أثرها عنه في هذه الصورة المفروضة لمانع أقوى منها أعني قدرة الله تعالى ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في دليل التمانع على الوحدانية لأن تخلف الأثر نقصان في القدرة والناقص لا يكون إلها ويجوز أن يكون عبدا لأنا نقول عموم القدرة لا يؤثر فإن تعلق القدرة بغير المقدور المعين لا أثر له في هذا المعين ضرورة فلما فرض تعلق قدرتهما بمقدور معين كانت القدرتان متساويتين بالقياس إليه فكان تأثيرهما في طرفيه على سواء فكون تأثير إحديهما مانعا من تأثير الأخرى دون العكس ترجيح بلا مرجح وفيه بحث لأن تعلق القدرتين بمقدور معين لا يستلزم تساويهما لجواز أن يكون أحد القادرين أقدر عليه من الآخر مع تشاركهما في كون ذلك المعين مقدورا لهما فإن اختلاف مراتب القدرة بحسب الشدة والضعف جائز وبهذا الدليل الذي نفينا به تأثير القدرة الحادثة بعينه نفي جهم القدرة الحادثة فقال لو كان للعبد قدرة على فعل مع أن ذلك الفعل مقدور لله تعالى فإن فرض أن الله (2/117)
أراد شيئا وأراد العبد ضده إلى آخره وأنه أي ما ذهب إليه جهم بن صفوان الترمذي من نفي قدرة العبد بالكلية غلو وتجاوز عن الحد في الجبر لا توسط بين الجبر والتفويض كما هو الحق وأنه أي ما ذهب إليه مكابرة أيضا ودفع لما هو معلوم بالبديهة أن الفرق بين الصاعد إلى موضع عال بالاختيار و بين الساقط عن علو ضروري فالأول له اختيار أي له صفة يوجد الصعود عقيبها ويتوهم كونها مؤثرة فيه وتسمى تلك الصفة قدرة واختيارا دون الثاني إذ ليس له تلك الصفة بالقياس إلى سقوطه ويندفع الإشكال اللازم من تمانع قدرة الله وقدرة العبد بما ذكرناه من عدم تأثير قدرته أي قدرة العبد فلا حاجة في دفعه إلى ما ارتكبه من الغلو فإن قال جهم لا نريد بالقدرة إلا الصفة المؤثرة وإذ لا تأثير كما اعترفتم به فلا قدرة أيضا كان منازعا في التسمية فإنا نثبت للعبد ذات الصفة المعلومة بالبديهة ونسميها قدرة فإذا اعترف جهم بتلك الصفة وقال إنها ليست قدرة لعدم تأثيرها كان نزاعه معنا في إطلاق لفظ القدرة على تلك الصفة وهو بحث لفظي وإن قال حقيقة القدرة وماهيتها أنها صفة مؤثرة منعناه بأن التأثير من توابع القدرة وقد ينفك عنها كما في القدرة الحادثة عندنا
المقصد الثاني
المتن
هل يجوز مقدور بين قادرين جوزه أبو الحسين البصري مطلقا والأصحاب بناء على إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة مع شمول قدرة الله تعالى (2/118)
ومنعه المعتزلة بناء على امتناع قدرة غير مؤثرة فيلزم التمانع والمجوزون من أصحابنا اتفقوا على امتناع قدرتين مؤثرتين للتمانع وقدرتين كاسبتين لأن الكسب هو أن يخلق الله للقدرة الحادثة وأنها لا تتعلق بفعل خارج عن المحل فلا يقدر زيد على فعل عمرو ولا يتصور اثنان هما محل لفعل واحد
الشرح
المقصد الثاني هل يجوز مقدور بين قادرين جوزه أبو الحسين البصري من المعتزلة مطلقا قيل معناه من غير تفصيل بين أن يكون القادران مؤثرين أو كاسبين أو أحدهما مؤثرا والآخر كاسبا ويرد عليه أن أبا الحسين لم يقل بقدرة كاسبة بل هذا مذهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم ويحتمل أن يقال معنى الإطلاق بالنسبة إلى الخالق والمخلوق والمخلوقين وكأنه نظر إلى أن دليل التمانع إنما يتم إذا كان حصول مراد أحدهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجح كما في تعدد الآلهة وأما في غيره فلا يتم فإن الخالق أقدر من المخلوق ويجوز أن يكون أحد المخلوقين أقدر من الآخر فلا يكون وقوع مراد الأقدر تحكما و جوزه الأصحاب لا مطلقا بل بين قادر خالق وقادر كاسب بناء على إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة في مقدوره بل متعلقة به تعلق الكسب مع شمول قدرة الله تعالى لجميع الأشياء فيكون مقدور العبد كسبا مقدورا لله تعالى تأثيرا ومنعه المعتزلة أي منعوا جواز كون مقدور بين قادرين مطلقا بناء على امتناع قدرة غير مؤثرة على رأيهم بل لا تكون القدرة عندهم إلا مؤثرة فيلزم التمانع على تقدير كون مقدور بين قادرين والمجوزون من أصحابنا لكون مقدور بين قدرة كاسبة وقدرة مؤثرة كما مر اتفقوا على امتناع مقدور بين قدرتين مؤثرتين للتمانع و على امتناع مقدور بين قدرتين كاسبتين لأن الكسب هو أن يخلق الله تعالى فعلا متعلقا للقدرة الحادثة وأنها أي القدرة الحادثة لا تتعلق بفعل خارج عن المحل أي محل (2/119)
تلك القدرة الحادثة فلا يقدر زيد على فعل عمرو ولا يتصور اثنان هما في محل لفعل واحد بل يكون كل واحد من الاثنين محلا لفعل مغاير ولو بالشخص لفعل الآخر فلا يمكن اجتماع قدرتين كاسبتين على فعل واحد شخصي
المقصد الثالث
المتن
وقال بشر بن المعتمر القدرة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات فمن أثبت صفة زائدة فعليه البرهان وقال ضرار بن عمرو وهشام بن سالم إنها بعض القادر وقيل بعض المقدور
الشرح
المقصد الثالث اتفقت الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم على أن القدرة صفة وجودية يتأتى معها الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل وقال بشر بن المعتمر القدرة الحادثة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات فجعلها (2/120)
صفة عدمية قال فمن أثبت صفة زائدة على سلامة البنية فعليه البرهان واختار الإمام الرازي في المحصل مذهبه حيث قال المرجع بالقدرة في حقنا إن كان إلى سلامة الأعضاء فهو معقول وإن كان إلى أمر آخر ففيه النزاع وقال ضرار بن عمرو وهشام بن سالم إنها أي القدرة الحادثة بعض القادر فالقدرة على الأخذ عبارة عن اليد السليمة والقدرة على المشي عبارة عن الرجل السليمة وقيل القدرة بعض المقدور وفساده أظهر من أن يخفى
المقصد الرابع
المتن
اختلف في طريق إثباتها والحق أنها تعرف بالوجدان كما أشرنا إليه وقال الهمداني من المعتزلة هو تأتي الفعل من بعض الموجودين دون بعض قلنا الممنوع قادر عندك ولا يتأتى منه الفعل فإن قال يتأتى منه بتقدير ارتفاع المانع قلنا فالعاجز يتأتى منه الفعل بتقدير ارتفاع المانع وهو العجز وقال الجبائي هو العلم بصحة الشخص قلنا قد توجد ولا قدرة بأضدادها إجماعا
الشرح
المقصد الرابع اختلف في طريق إثباتها أي إثبات القدرة الحادثة والعلم بها والحق ما عليه الأشاعرة وهو أنها تعرف ويعلم وجودها بالوجدان كما أشرنا إليه حيث قلنا إن الفرق بين الصاعد بالاختيار والساقط عن علو ضروري فإنا نجد حالة الصعود أمرا ثابتا لها دون حالة السقوط وكذا نجد تفرقة ضرورية بين حركة الارتعاش وحركة الاختيار
وقال الهمداني من المعتزلة هو أي طريق إثباتها تأتي الفعل أي تيسره من بعض الموجودين دون بعض فإذا علمنا تيسر فعل من موجود (2/121)
وتعذره من غيره علمنا أن الأول له قدرة دون الثاني قلنا الممنوع من الفعل قادر عندك على الفعل ومعلوم قدرته عليه ولا يتأتى منه الفعل حال كونه ممنوعا منه بل يتعذر عليه فلا يختص طريق إثباتها بتأتي الفعل فإن قال الهمداني يتأتى الفعل منه أي الممنوع بتقدير ارتفاع المانع قلنا فالعاجز يتأتى منه الفعل بتقدير ارتفاع المانع وهو العجز فيلزم أن يكون العاجز قادرا فإن قال القدرة مصححة للفعل لا موجبة له ولا شك أن الممنوع موصوف بما يصححه إلا أنه تخلف عنه لأجل المانع بخلاف العاجز إذ ليس معه ما يصحح الفعل قلنا المعلوم بلا شبهة هو أن الفعل يتعذر عليهما ما داما على حالهما وإذا فرض زوال ما بهما يتأتى الفعل منهما فمن أين لك وجود المصحح مع أحدهما دون الآخر وقال أبو علي الجبائي هو أي طريق العلم بالقدرة العلم بصحة الشخص وسلامته عن الآفات قلنا قد توجد تلك الصحة للشخص ولا قدرة له عند اتصافه بأضدادها من النوم والعجز فلا يكون العلم بتلك الصحة مستلزما للعلم بثبوت القدرة كيف والصحيح المتصف بتلك الأضداد لا قدرة له إجماعا
المقصد الخامس
المتن
قال الشيخ القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل وإلا فلنفرض فهي حال الفعل هذا خلف
فإن قيل القدرة في الحال على إيقاع الفعل في ثاني الحال وهو لا يستدعي إمكانه في الحال بل في ثاني الحال قلنا الإيقاع إن كان نفس الفعل فمحال في الحال لما ذكرنا وإن كان غيره عاد الكلام فيه ولزم (2/122)
التسلسل وفيه نظر يرجع إلى تحقيق معنى قوله حصول الفعل قبل الفعل محال فإنه قد يراد به بشرط كونه قبل الفعل فلا كلام إذ لا شك أنه تناقض وقد يراد به في زمان عدم الفعل بل بأن يفرض خلوه عن عدم الفعل ووقوع الفعل بدله وأنه غير محال وذلك كقعود زيد فإنه محال بشرط قيامه أي يمتنع كونه قائما قاعدا معا ولا يمتنع في زمان قيامه فإنه لا يستحيل أن يعدم القيام ويوجد بدله القعود
وقالت المعتزلة القدرة قبل الفعل فمنهم من قال ببقائها حال الفعل وإن لم تكن قدرة عليه فإنها شرط كالبنية ومنهم من نفاه ودليلهم وجوه
الأول إن تعلق القدرة معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال
قلنا إيجاده بذلك الوجود جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود مستندا إلى الموجد
الثاني يلزم القدرة على الباقي
قلنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة أو نفرق باحتياج الموجود عن عدم إلى المقتضى دون غيره أن ننقض أو لا بتأثير العلم في الإتقان وفي كون الفاعل فاعلا والإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء
الثالث أنه يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره
أجيب بأن الفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به وفيه نظر إذ فيه التزام وما ذكروه بيان للسبب وأيضا فالتعلق قبله بزمان لا يمتنع فيرد الإشكال بحسبه
الرابع يلزم أن لا يكون الكافر مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له ولو جوز فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض (2/123)
قلنا يجوز تكليف المحال عندنا والفرق أن ترك الإيمان بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض
وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون هو متعلقا للقدرة أو ضده
فروع للمعتزلة
الأول هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته جوزه أبو هاشم وأتباعه مطلقا وفصل الجبائي فجوزه عند المانع ومنعه عند عدمه في المباشر دون المولد
الثاني تنقسم الأفعال المقدورة إلى ما لا يحتاج إلى آلة كالقائمة بالمحل وإلى ما يحتاج كالخارجة عنه
الثالث اتفقوا على أنها لا تبقى غير متعلقة فقيل القدرة تتعلق بالفعل عقيبها وقيل بما بعدها مطلقا فالجبائي الفاعل في الحالة الأولى يفعل وفي الثانية فعل وابنه في الأولى سيفعل وفي الثانية يفعل وابن المعتمر يفعل مطلقا
الرابع قال العلاف القدرة على أفعال القلوب معها وعلى أفعال الجوارح قبلها
الشرح
المقصد الخامس قال الشيخ وأصحابه القدرة الحادثة مع الفعل أي أنها توجد حال حدوث الفعل وتتعلق به في هذه الحالة ولا (2/124)
توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلقها به إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل بل يمتنع وجوده فيه وإلا أي وإن لم يمتنع وجوده قبله بل أمكن فلنفرض وجوده فيه فهي أي فالحالة التي فرضناها أنها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك بل هي حالة الفعل هذا خلف محال لأن كون المتقدم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين أعني كونه متقدما وغير متقدم فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ولا شك أن وجود القدرة بعد الفعل مما لا يتصور فتعين أن تكون موجودة معه وهو المطلوب
فإن قيل نحن لا ندعي أن القدرة إذا وجدت في حال كانت متعلقة بوجود الفعل في ذلك الحال حتى يلزم إمكان وجوده فيه بل نقول القدرة في الحال إنما هي على إيقاع الفعل في ثاني الحال وهو أي تعلق القدرة السابقة بالفعل على هذا الوجه لا يستدعي إمكانه أي إمكان الفعل في الحال بل في ثاني الحال فلا يضرنا ما ذكرتم من أن الفعل ليس بممكن قبل حدوثه في جواز كون القدرة موجودة قبله
قلنا الإيقاع الذي هو تأثير القدرة الحادثة في الفعل وإيجادها إياه على رأيكم إن كان نفس الفعل على معنى أن التأثير في الفعل هو عين حصول الأثر الذي هو الفعل فمحال أي فالإيقاع محال في الحال لما ذكرنا من أن حصول الفعل مستحيل قبل زمان حدوثه وإن كان غيره عاد الكلام فيه لأن الإيقاع ممكن حادث فلا بد له من تأثير القدرة فيه فللإيقاع إيقاع آخر ولزم التسلسل بأن يكون بين القدرة والفعل إيقاعات وتأثيرات غير متناهية لا يقال الإيقاع أمر اعتباري فلا حاجة به إلى إيقاع (2/125)
آخر لأنا نقول اتصاف الموقع بصفة الإيقاع دون اللا إيقاع يحتاج إلى ترجيح قطعا وهو المراد بالتأثير والإيقاع وفيه أي فيما ذكرنا من دليل الشيخ نظر يرجع ذلك النظر إلى تحقيق معنى قوله حصول الفعل قبل الفعل محال فإنه قد يراد به أن حصول الفعل في زمان بشرط كونه قبل الفعل محال فلا كلام فيه إذ لا شك أنه تناقض لاستلزامه أن يكون ذلك الزمان متقدما على الفعل وأن لا يكون متقدما عليه بل معه واستلزامه أيضا اجتماع وجود الفعل وعدمه معا لكن هذا المحال لم يلزم من وجود الفعل في ذلك الزمان وحده حتى يلزم امتناعه فيه بل منه مع فرض كون ذلك الزمان قبل الفعل مقارنا لعدمه فيكون هذا المجموع محالا دون الفعل وحده بل هو ممكن في ذاته قطعا فلا يتصف بالامتناع الذاتي أصلا بل بالامتناع الغيري وذلك لا ينافي تعلق القدرة به وقد يراد به معنى آخر وهو وجود الفعل في زمان عدم الفعل لا بأن يجتمع فيه مع عدمه بل بأن يفرض خلوه أي خلو ذلك الزمان عن عدم الفعل و يفرض وقوع الفعل فيه بدله وأنه غير محال في نفسه ولا يستلزم محالا أيضا فيجوز تعلق القدرة به قبل حدوثه على هذا الوجه وذلك الذي ذكرناه من أن الفعل قبله محال بشرط كونه قبل الفعل وليس بمحال إذ لم يؤخذ بذلك الشرط كقعود زيد فإنه محال بشرط قيامه أي يمتنع كونه قائما قاعدا معا فيكون الاجتماع محالا لا القعود في نفسه ولا يمتنع قعوده في زمان قيامه فإنه لا يستحيل أن يعدم القيام ويوجد بدله القعود وقد وافق الشيخ في أن القدرة الحادثة مع الفعل كثير من المعتزلة كالنجار (2/126)
ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وأبي عيسى الوراق وغيرهم
وقالت المعتزلة أي أكثرهم القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها بالفعل حال حدوثه ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه أي على ذلك الفعل لامتناع تعلقها به حال وجوده لكن يجب بقاؤه إلى زمان وجود مقدورها فإنها شرط لوجود المقدور كالبنية المخصوصة المشروطة في وجود الأفعال المقدورة ومنهم من نفاه أي وجوب البقاء وجوز انتفاء القدرة حال وجود الفعل كما جوزوا كلهم انتفاء الفعل حال وجود القدرة ودليلهم على أن القدرة وتعلقها بالفعل إنما هو قبله لا معه وجوه
الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال أوجده فوجد
قلنا هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه نقول ايجاده أي إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه مامر من أن التأثير مع حصول الأثر (2/127)
بحسب الزمان وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما
الوجه الثاني إن جاز تعلق القدرة بالفعل الحادث حال حدوثه يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة بالباقي ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا أو نقول وجود الباقي هو نفس الوجود حال الحدوث فلو تعلقت القدرة به حال الحدوث لتعلقت به حال البقاء لأن المتعلق واحد ولا تأثير لتعاقب الأوقات في أحكام الأنفس
قلنا نلتزمه أي نلتزم تعلق القدرة بالباقي لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بين الحادث والباقي بما تبطل به الملازمة المذكورة أعني باحتياج الموجود عن عدم إلى المقتضى لوجوده دون غيره وهو الباقي ومعناه أن الحادث هو الموجود بعد العدم فلو لم تتعلق به القدرة لبقي على عدمه وقد فرضنا وجوده هذا خلف بخلاف الباقي فإنه كان موجودا حال الحدوث فلو لم تتعلق به القدرة لبقي على الوجود وليس بمحال لكونه مطابقا للواقع أو ننقض دليلهم أو لا بتأثير العلم في الإتقان فإن المؤثر في إتقان الفعل وأحكامه هو العلم أو العالمية عندهم ولم يشترطوا مقارنة شيء منهما للإتقان حالة البقاء وإن كان ذلك مشروطا عندهم حال حدوثه و ثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في اتصاف الفاعل بكونه فاعلا حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا عندهم لا يؤثر في اتصافه بالفاعلية حال البقاء وننقضه ثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها أي يوجبون مقارنتها للموجود حال الحدوث دون البقاء فلم يلزم (2/128)
من عدم المقارنة حال البقاء عدم المقارنة حال الحدوث فكذا الحال في القدرة
قال الآمدي ولو راموا الفرق بين هذه الصور الثلاث وبين القدرة لم يجدوا إليه سبيلا
الوجه الثالث أنه أي كون القدرة مع الفعل لا قبله يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته أو من قدم قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطل بل قدرته أزلية إجماعا ومتعلقة في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا
أجيب عن ذلك بأن الفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به القدرة القديمة
قال المصنف وفيه أي في هذا الجواب الذي ذكره الآمدي نظر إذ فيه التزام لمذهب الخصم أعني وجود القدرة قبل الفعل وما ذكروه في الجواب بيان للسبب الذي به كان المقدور متأخرا عن القدرة فهو تأييد لمذهبه لا دفع له فإن قلت إن المعتزلة ادعوا وجود القدرة قبل الفعل مع تعلقها به والمجيب سلم وجودها ومنع تعلقها فلا يكون التزاما لمقالتهم قلت وجود القدرة مع انتفاء التعلق بالكلية مما تأباه البديهة فلا بد أن يقال هناك تعلق معنوي غير كاف في وجود المقدور وبذلك تثبت القدرة قبل الفعل مع تعلقها به في الجملة وأيضا إن امتنع تعلق القدرة بالفعل في الأزل لامتناع كون الفعل أزليا فالتعلق أي تعلقها بالفعل قبله بزمان متناه لا يمتنع فيرد الإشكال بحسبه أي بحسب هذا التعلق إذ حينئذ تكون القدرة (2/129)
موجودة قبل الفعل ومتعلقة به أيضا قبله بزمان محدود كان الفعل فيه ممكنا فالصواب في الجواب أن يقال القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القدرة القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها فاندفع الإشكال بحذافيره
الوجه الرابع إن كانت القدرة على الفعل معه لا قبله يلزم أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب دفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة ولو جوز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض مما ليس مقدورا له إذ لا مانع من التكليف بهذا الخلق سوى كونه غير مقدور وقد فرضنا أنه لا يصلح مانعا قلنا يجوز تكليف المحال عندنا فيلزم جواز التكليف بالخلق المذكور و لنا الفرق وهو أن ترك الإيمان من الكافر حال كفره إنما هو بقدرته وإن لم يكن وجوده مقدورا له حينئذ بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها
وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون (2/130)
هو أي ذلك الشيء متعلقا للقدرة أو يكون ضده متعلقا لها وهذا الشرط حاصل في الإيمان فإنه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه لكن تركه بالتلبس بضده الذي هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا بخلاف أحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له فعله ولا تركه فلا يجوز التكليف به وأما ما ذكروه من قصة الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وسيأتي بطلانها
فروع المعتزلة مبنية على مذهبهم في القدرة الحادثة
الأول هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته جوزه أبو هاشم وأتباعه مطلقا وفصل الجبائي فجوزه أي الخلو عن جميع المقدورات عند وجود المانع ومنعه عند عدمه في المباشر دون المولد أي لم يجوز الخلو عند عدم المانع في الأفعال المباشرة وجوزه في الأفعال المولدة وقد تبين أن القدرة الحادثة لا تخلو عن مقدورها عند الأشاعرة
الفرع الثاني أنهم اتفقوا على أنه تنقسم الأفعال المقدورة إلى ما لا يحتاج في وقوعه إلى آلة كالقائمة بالمحل أي كالأفعال القائمة بمحل القدرة مثل حركة اليد وإلى ما يحتاج في وقوعه إلى آلة كالخارجة عنه أي كالأفعال الخارجة عن محل القدرة مثل حركة الحجر بتحريك اليد وعند الأشاعرة أن القدرة الحادثة لا تتعلق بما في غير محلها
الفرع الثالث اتفقوا على أنها لا تبقى غير متعلقة أي يستحيل أن توجد القدرة مع أنها لا تتعلق بمقدورها أصلا لكنهم اختلفوا في كيفية (2/131)
تعلقها به فقيل القدرة الحادثة تتعلق بالفعل عقيبها أي هي في وقت وجودها متعلقة بالمقدور في الحالة الثانية فقط فلا تتعلق به في الحالة الثالثة إلا في الحالة الثانية وكذلك المقدور في الحالة الرابعة لا تتعلق به القدرة إلا في الحالة الثالثة وهكذا
وقيل القدرة حال وجودها متعلقة بما بعدها مطلقا أي هي في تلك الحالة متعلقة بوجود الفعل في الحالة الثانية والثالثة وما بعدها وليس يختص تعلقها بوجود الفعل في الحالة الثانية فقط
قال الآمدي ثم إن المخصصين لتعلقها بالحالة الثانية اختلفوا فالجبائي قال الفاعل في الحالة الأولى التي وجد فيها القدرة دون الفعل يقال في حقه يفعل وفي الحالة الثانية التي هي حال وجود الفعل يقال فعل ولا يقال يفعل و قال ابنه يقال في الحالة الأولى سيفعل ويقال في الحالة الثانية يفعل و قال ابن المعتمر يقال يفعل مطلقا أي في الحالتين معا وما ذهب إليه أبو هاشم أقرب إلى قواعد العربية فإن صيغة المضارع إذا أطلقت مجردة عن قرائن الاستقبال يتبادر منها الحال وكأن ابن المعتمر اختار مذهب الاشتراك والجبائي جعلها حقيقة في الاستقبال
الفرع الرابع قال أبو الهذيل العلاف القدرة على أفعال القلوب معها ولا يجوز تقدمها عليها والقدرة على أفعال الجوارح يجب أن تكون قبلها
قال الآمدي هذا وأمثالها من الاختلافات التي لا مستند لها يظهر (2/132)
فسادها بأوائل النظر فيها والاشتغال بها تضييع للزمان في غيرهم فلذلك أعرضنا عنها
المقصد السادس
المتن
الممنوع عن الفعل هل هو قادر عليه منعه الأشاعرة إذ القدرة مع الفعل وقال به المعتزلة قالوا العجز يضاد القدرة والمنع المقدور وجوديا مضادا للمقدور أو مولدا لضده أو عدميا وادعوا الضرورة في الفرق بين الزمن والمقيد وذلك لأنه لم يتبدل ذاته ولا صفته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة وعندنا لا فرق إلا ما يعود إلى جريان العادة بخلق الفعل فيه وعدمه ونمنع عدم تبدل صفاته فإن الله تعالى لم يخلق فيه القدرة ولا حاجة إلى طرو ضد
الشرح
المقصد السادس الممنوع عن الفعل هل هو قادر عليه حال كونه ممنوعا عنه منعه الأشاعرة إذ القدرة عندهم مع الفعل فلا يتصور كون الممنوع عن فعل قادر عليه في حالة المنع إذ لا فعل حينئذ فلا قدرة عليه وقال به أي بكون الممنوع قادرا على الفعل المعتزلة وفرقوا بين العجز والمنع حيث قالوا العجز يضاد القدرة دون المقدور والمنع بعكسه فإنه لا يضاد القدرة بل يضاد المقدور وينافيه مع بقاء القدرة سواء كان المنع وجوديا مضادا بنفسه للمقدور كالسكون بالنسبة إلى الحركة (2/133)
المقدورة أو وجوديا مولدا لضده أي ضد المقدور كالاعتمادات السلفية المولدة للحركة السفلية المضادة للحركة العلوية أو كان عدميا كانتفاء شرط من شرائط المقدور مثل انتفاء العلم بالفعل المحكم فإنه ينافي وجود الأحكام دون القدرة عليه وادعوا الضرورة في الفرق بين الزمن والمقيد أي قالوا لو لم يكن الممنوع قادرا على ما منع منه لم يكن فرق فبين الزمن الذي لا يتصور منه الحركة أصلا وبين المقيد الصحيح السالم عن الآفات المانعة عن الحركة لأن كل واحد منهما غير قادر على الحركة والانتقال من مكانه لكن الضرورة العقلية شاهدة بالفرق بينهما وليس ذلك إلا بأن المقيد قادر على الحركة دون صاحبه
وقالوا أيضا إن الصحيح السالم عن الآفات إذا قيد كان قادرا على الحركة كما كان قادرا عليها قبل القيد وذلك لأنه لم يتبدل ذاته ولا صفته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة حال القيد الذي ليس هو ضدا لها فوجب بقاء قدرته قطعا و الجواب عن الأول أن يقال عندنا لا فرق بينهما إلا ما يعود إلى جريان العادة من الله سبحانه بخلق الفعل مع القدرة فيه أي في المقيد حال ارتفاع القيد فإن هذا الارتفاع معتاد وعدمه أي عدم جريان العادة بخلق الفعل مع القدرة في الزمن فإن ارتفاع زمانته غير معتاد وهذا المقدار من الفرق كاف بشهادة البديهة و الجواب عن الثاني أنا نمنع عدم تبدل صفاته حال القيد فإن الله تعالى لم يخلق فيه القدرة حال كونه مقيدا وخلقها فيه حال كونه مطلقا ماشيا ولا حاجة لانتفاء القدرة في المقيد إلى طرو ضد من أضدادها عليه بل يكفيه انتفاء خلقها فيه (2/134)
المقصد السابع
المتن
قال الشيخ بناء على كون القدرة مع الفعل أنها لا تتعلق بالضدين بل بمقدورين مطلقا
وقالت المعتزلة تتعلق بجميع مقدوراته وقول أبي هاشم متردد فقال مرة القدرة القائمة بالقلب تتعلق بجميع متعلقاتها دون القائمة بالجوارح وتارة أخرى كل واحدة منهما تتعلق بجميع متعلقاتها دون متعلقات الأخرى وتارة كل واحدة منهما تتعلق بمتعلقاتهما جميعا غير أن كلا لا يؤثر في متعلقات الأخرى لعدم الآلة ومرة القدرة القلبية تتعلق بمتعلقيهما دون العضوية
وقال ابن الراوندي تتعلق القدرة بالضدين بدلا لا معا
وأجمعت المعتزلة على أنها تتعلق بالمتماثلات مع اتفاقهم على أنه لا يقع بها مثلان في محل في وقت وأنهم يدعون فيما ذهبوا إليه الضرورة إذ لا معنى للقدرة إلا التمكن من الطرفين ومن لا يكون قادرا على عدم الفعل فهو مضطر لا قادر وعليه بنيت الدعوة والثواب والعقاب
قال الإمام الرازي القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة ولا شك أن نسبتها إلى الضدين سواء وهي قبل الفعل وتطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ولا شك أنها لا تتعلق بالضدين بل هي بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى الآخر لاختلاف الشرائط وهي مع الفعل ولعل الشيخ أراد بالقدرة القوة المستجمعة والمعتزلة مجرد القوة وفيه بحث
الشرح
المقصد السابع قال الشيخ وأكثر أصحابه بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله أنها أي القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين وإلا لزم اجتماعهما لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلقة بهما بل قالوا إن (2/135)
القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين مطلقا سواء كانا متضادين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة الواحدة لا تتعلق إلا بمقدور واحد وذلك لأنها مع المقدور ولا شك أن ما نجده عند صدور أحد المقدورين منا مغاير لما نجده عند صدور الآخر
وقالت المعتزلة أي أكثرهم قدرة العبد تتعلق بجميع مقدوراته المتضادة وغير المتضادة وقول أبي هاشم من بينهم متردد ترددا فاحشا فقال مرة القدرة القائمة بالقلب تتعلق بجميع متعلقاتها كالاعتقادات والإرادات ونحوها دون القدرة القائمة بالجوارح فإنها لا تتعلق بجميع مقدوراتها من الاعتمادات والحركات وغيرها وقال تارة أخرى كل واحدة منهما أي من قدرة القلب وقدرة الجوارح تتعلق بجميع متعلقاتها دون متعلقات الأخرى وقال تارة ثالثة كل واحدة منهما تتعلق بمتعلقاتها التي هي أفعال القلوب والجوارح جميعا غير أن كلا منهما لا يؤثر في متعلقات الأخرى لعدم الآلة أي يمتنع إيجاد أفعال الجوارح بالقدرة القائمة بالقلب لعدم الآلات والبنية المخصوصة المناسبة لتلك الأفعال وكذا العكس وقال مرة رابعة القدرة القلبية تتعلق بمتعلقاتهما معا دون القدرة العضوية فإنها تتعلق بأفعال الجوارح دون أفعال القلوب
وقال ابن الراوندي من المعتزلة وكثير من أصحابنا تتعلق القدرة الحادثة بالضدين بدلا لا معا وأجمعت المعتزلة على أنها أي القدرة الواحدة تتعلق بالمتماثلات من جنس واحد من المقدورات على تعاقب الأزمنة والأوقات مع اتفاقهم بأسرهم على أنه لا يقع بها أي بتلك القدرة الواحدة مثلان في محل واحد في وقت واحد وأنهم أي المعتزلة يدعون فيما ذهبوا إليه من تعلق القدرة بالضدين الضرورة إذ لا (2/136)
معنى للقدرة إلا التمكن من الطرفين أي طرفي الفعل المقدور ومن لا يكون قادرا على عدم الفعل وتركه الذي هو ضده ومنافيه فهو مضطر وملجأ إلى الفعل بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه لا قادر عليه وهو باطل كيف وعليه أي على كون المكلف قادرا متمكنا من الفعل بنيت الدعوة إلى دين الحق والثواب والعقاب على الأفعال القلبية والقالبية وإذا ثبت تعلقها بالمتضادات فتعلقها بغيرها أولى
وأجيب عن ذلك بأنه إن أريد بكونه مضطرا أن فعله غير مقدور له فهو ممنوع وإن أريد به أن مقدوره ومتعلق قدرته متعين وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواه فهذا عين ما ندعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في تسميته مضطرا فإن الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ألا ترى أن من أحاط به بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فإنه قادر على الكون في مكانه بإجماع منا ومنهم مع أنه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره
قال الآمدي ولئن سلمنا أن القادر على الشيء لا بد أن يكون قادرا على ضده قلنا جاز أن تكون القدرة المتعلقة بهما متعددة لا واحدة
قال الإمام الرازي القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة الحيوانية وهي القوة العضلية التي هي بحيث متى انضم إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضد ومتى انضم إليها إرادة الضد الآخر حصل ذلك الآخر ولا شك أن نسبتها أي نسبة هذه القوة إلى الضدين سواء وهي قبل الفعل و القدرة تطلق أيضا على القوة المستجمعة لشرائط التأثير برمتها ولا شك أنها أي القوة المستجمعة لا تتعلق بالضدين معا وإلا اجتمعا في الوجود بل هي أي القوة المستجمعة بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى المقدور الآخر سواء كانا متضادين أو غير (2/137)
متضادين وذلك لاختلاف الشرائط المعتبرة في وجود المقدورات المختلفة فإن خصوصية كل مقدور لها شرط مخصوص به يعين وجودها من بين المقدورات المشتركة في تلك القوة المجردة ألا ترى أن القصد المتعلق بها شرط لوجودها دون غيرها وهي مع الفعل لأن وجود المقدور لا يتخلف عن المؤثر التام ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة فهذا وجه الجمع بين المذهبين وفيه بحث هذا ملحق ببعض النسخ وتوجيهه أن يقال القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير وقد يقال أيضا يلزم من تفسيرها بهذه القوة أن يكون إطلاق القدرة على أفرادها بالاشتراك اللفظي وليس بشيء لأن مفهوم القوة المستجمعة مشترك بينهما وإن كانت هي في أنفسها متخالفة بالماهية أو الهوية
المقصد الثامن
المتن
العجز عرض مضاد للقدرة خلافا لأبي هاشم في آخر أقواله حيث ذهب إلى أنه عدم القدرة وللأصم من حيث أنه نفى الأعراض لنا التفرقة ضرورية بين الزمن والممنوع ولأبي هاشم أن يجعلها عائدة إلى عدم القدرة (2/138)
ثم قال الشيخ العجز إنما يتعلق بالموجود فالزمن عاجز عن القعود لا عن القيام فإن التعلق بالمعدوم خيال محض وله قول ضعيف أنه إنما يتعلق بالمعدوم وإليه ذهبت المعتزلة وكثير من أصحابنا وجواز تعلقه بالضدين فرع ذلك معتمد القول الأول أنه ضد القدرة فمتعلقهما واحد والقدرة متعلقة بالموجود والثاني الإجماع على عجز الزمن عن القيام ولو قيل يلزم عدم عجز المتحدي بمعارضة القرآن وأنه خلاف الإجماع والمعقول لكان حسنا ويمكن الجواب بأن العجز يقال باشتراك اللفظ لعدم القدرة ولصفة تستعقب الفعل لا عن قدرة
الشرح
المقصد الثامن العجز عرض موجود مضاد للقدرة باتفاق من الأشاعرة وجمهور المعتزلة خلافا لأبي هاشم في آخر أقواله حيث ذهب إلى أنه أي العجز عدم القدرة ونفى كونه معنى موجودا مع أنه معترف بوجود الأعراض وخلافا للأصم فإنه نفى كون العجز عرضا موجودا من حيث أنه نفي الأعراض مطلقا لنا في إثبات كونه وجوديا التفرقة الضرورية بين الزمن والممنوع من الفعل فإن كل عاقل يجد من نفسه التفرقة بين كونه زمنا وكونه ممنوعا من القيام مع سلامته وما هي إلا أن في الزمن صفة وجودية هي العجز وليس هذه الصفة في الممنوع ولأبي هاشم أن يجعلها أي التفرقة الضرورية عائدة إلى عدم القدرة في الزمن ووجودها في الممنوع فإن الممنوع قادر على رأيه كما مر
قال الإمام الرازي لا دليل على كون العجز صفة وجودية وما يقال من أن جعل العجز عبارة عن عدم القدرة ليس أولى من العكس ضعيف (2/139)
لأنا نقول كلاهما محتمل وإذا لم يقم دليل على أحدهما كان الاحتمال باقيا وفي نقد المحصل أن القدرة إن فسرت بسلامة الأعضاء فالعجز حينئذ عبارة عن آفة تعرض للأعضاء وتكون القدرة أولى بأن لا تكون وجودية لأن السلامة عدم الآفة وإن فسرت القدرة بهيئة تعرض عند سلامة الأعضاء وتسمى بالتمكن أو بما هو علة له وجعل العجز عبارة عن عدم تلك الهيئة كانت القدرة وجودية والعجز عدميا وإن أريد بالعجز ما يعرض للمرتعش وتمتاز به حركة الارتعاش عن حركة الاختيار فالعجز وجودي ولعل الأشاعرة ذهبوا إلى هذا المعنى فحكموا بكونه وجوديا ثم قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في الأصح من قوليه العجز إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم على قياس القدرة فالزمن عاجز عن القعود الموجود لا عن القيام المعدوم فإن التعلق بالمعدوم خيال محض لا عبرة به أصلا وأختار على هذا القول أن العجز لا يسبق المعجوز عنه ولا يتعلق بالضدين على نحو ما ذكره في القدرة وله قول ضعيف هو أنه أي العجز إنما يتعلق بالمعدوم دون الموجود وإليه ذهب المعتزلة وكثير من أصحابنا وعلى هذا فالزمن عاجز عن القيام المعدوم لا عن القعود الموجود وإن كان مضطرا إليه بحيث لا سبيل له إلى الانفكاك عنه وجواز تعلقه أي تعلق العجز بالضدين فرع ذلك أي يجوز على هذا القول تعلق الهجز الواحد بالضدين وإن لم يجز تعلق القدرة الواحدة بهما وذلك لأن العجز متعلق بالعدم ويجوز اجتماع الضدين فيه والقدرة متعلقة بالوجود ولا يجوز اجتماعهما فيه وكذا يتقدم العجز على المعجوز عنه في هذا القول وأما على القول الأول فلا سبق ولا تعلق بالضدين كما عرفت معتمد القول الأول الذي هو الأصح أنه أي العجز ضد القدرة في جهة التعلق فمتعلقها واحد وإلا لما تضادا في التعلق والقدرة متعلقة بالموجود كما مر فيكون العجز متعلقا به أيضا ونظير ذلك (2/140)
الإرادة والكراهة فإنهما لما تضادتا كان متعلقهما واحدا إذ لو اختلف متعلقهما لم تتضادا و معتمد القول الثاني هو الإجماع من العقلاء على عجز الزمن عن القيام مع أنه معدوم
قال المصنف ولو قيل في الاستدلال على القول الثاني إن لم يتعلق العجز بالمعدوم يلزم عجز المتحدي بمعارضة القرآن أي يلزم أن لا يكون المتحدي بمعارضته عاجزا عن الإتيان بمثله بل يكون عاجزا عن عدم الإتيان بمثله وأنه خلاف الإجماع لأن الأمة مجمعون على عجزه عن الإتيان بمثل القرآن وخلاف المعقول أيضا لأن العقل يحكم بأن المعارضة إنما تكون بالأمثال لا بإعدامها لكان حسنا جدا
ويمكن الجواب عن الاستدلالين بأن العجز يقال باشتراك اللفظ لعدم القدرة وهو ظاهر ولصفة وجودية تستعقب الفعل لا عن قدرة كما في المرتعش فالزمن عاجز عن القيام بالمعنى الأول دون الثاني وعاجز عن القعود بالمعنى الثاني والمتحدون عاجزون بالمعنى الأول عن الإتيان بمثل القرآن وكأن الشيخ بنى قوليه على هذين المعنيين كما أشير إليه
المقصد التاسع
المتن
المقدور هل هو تبع للعلم أو للإرادة للمعتزلة فيه خلاف فمن قال تبع للإرادة فلأنه حقيقة القدرة ومن قال تبع للعلم فلأن صاحب الملكة يصدر عنها أفعال لا يقصدها فإن الكاتب يراعي دقائق في حرف واحد ولو لاحظها لفاته كثير منها (2/141)
الشرح
المقصد التاسع المقدور هل هو تبع للعلم أو للإرادة للمعتزلة فيه خلاف فمن قال منهم هو تبع للإرادة فلأنه أي كون المقدور تبعا للإرادة حقيقة القدرة ومقتضاها فإنها صفة تؤثر على وفق الإرادة فيكون المقدور تبعا للإرادة قطعا ومن قال منهم هو تبع للعلم فلأن صاحب الملكة في صناعة زاولها مدة مديدة يصدر عنها أفعال محكمة متقنة لا يقصدها أي لا يقصد تفاصيل أجزائها ولو قصدها لم توجد على تلك الوجوه من الحسن والأحكام فإن الكاتب الحاذق يراعي دقائق كثيرة في حرف واحد بلا قصد إليها ولو لاحظها وقصد إليها لفاته كثير منها وأما الأشاعرة فقد حكموا بأن مقدورات العباد مخلوقة لله تعالى بإرادته المتعلقة بتفاصيلها
المقصد العاشر
المتن
هل النوم ضد للقدرة اتفقت المعتزلة وكثير منا على امتناع صدور الأفعال المتقنة الكثيرة من النائم وجواز القليلة بالتجربة فقيل هي مقدورة له
وقال الأستاذ أبو إسحق هي غير مقدورة له وتوقف القاضي وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الهواء والبنية المخصوصة وأما عند الأصحاب إذا لم يشترطوا شيئا من ذلك فلأنه خلاف العادة والنوم ضد للأدراك (2/142)
وقال الأستاذ إنه إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وبين ما يجده اليقظان فلو جاز التشكيك فيه لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة ولم يخالف في كون النوم ضدا لكنه زعم أن الإدراك يقوم بجزء غير ما يقوم به النوم
وقال الحكماء المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك ويكون ذلك على وجهين
الأول أن يرد عليه من النفس وهي تأخذه من العقل الفعال فإن جميع الصور الكائنات مرتسم فيه ثم يلبسه الخيال لما جبل عليه من الانتقال والتفصيل والتركيب صورا إما قريبة أو بعيدة فيحتاج إلى التعبير وهو أن يرجع المعبر قهقريا مجردا له عن تلك الصور حتى يحصل ما أخذته النفس فيكون هو الواقع وقد لا يتصرف فيه الخيال فيؤديه كما هو بعينه فيقع من غير حاجة إلى التعبير
الثاني أن يرد عليه إما من الخيال مما ارتسم فيه في اليقظة ولذلك فإن من دام فكره في شيء يراه في منامه وإما مما يوجبه مرض كثوران خلط أو بخار ولذلك فإن الدموي يرى في حلمه الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض وهذا بقسميه من قبيل أضغاث الأحلام لا يقع هو ولا تعبيره
فروع للمعتزلة
الأول اختلفوا فيمن يتمكن من حمل مائة من فقط ولا يتمكن من حمل مائة أخرى معها فقيل عاجز عن حملها وقيل لا يوصف بالعجز ولا بالقدرة وقيل قادر على حمل إحداهما من غير تعيين والكل مناقض لأصلهم في تعلق القدرة بجميع المقدورات
فإن قيل مذهبنا أن لا تتعلق في وقت في محل من جنس بأكثر من واحد
قلنا المحل المحمول وهو مختلف (2/143)
الثاني شخصان يقدر كل على حمل مائة من إذا اجتمعا عليه فمنهم من قال حملها واقع بقدرة كل واحد واحد ويلزمه اجتماع قادرين على مقدور واحد وربما التزم ومنهم من قال هذا حامل للبعض وذاك للبعض ولا يخفى ما فيه من التحكم فإن نسبة كل جزء إلى كل واحد على السوية
الثالث قالوا القدرة الواحدة قد تولد في محال متفرقة حركات إلى جهات مختلفة وأما في محال مجتمعة فلا بل يجتمع على عشرة أجزاء مجتمعة عشرة أجزاء من القدرة فالقدرة على تحريك كل جزء غير القدرة على تحريك الآخر وإلا لكان قدرة على تحريك الأجزاء بالغة ما بلغت
الرابع قال الجبائي الاجتماع يمنع التحريك كالقيد وهو فرع أن المعدوم مقدور وبه منع كون القادر على حمل مائة من قادرا على حمل المائة الأخرى
الشرح
المقصد العاشر هل النوم ضد للقدرة فلا يكون حينئذ فعل النائم مقدورا له أو ليس ضدا لها فجاز أن يكون فعله مقدورا له فنقول اتفقت المعتزلة وكثير منا على امتناع صدور الأفعال المتقنة الكثيرة من النائم وجواز صدور الأفعال المحكمة القليلة منه بالتجربة ثم اختلف المجوزون في هذه الأفعال القليلة فقيل هي مقدورة له وإن كان لا علم له بها فإن النوم لا يضاد القدرة مع كونه مضادا للعلم وغيره من الإدراكات باتفاق العقلاء
وقال الأستاذ أبو إسحق هي غير مقدورة له فإن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم وسائر الإدراكات وتوقف القاضي أبو بكر وكثير من (2/144)
أصحابنا وقالوا لا قطع بكون تلك الأفعال مكتسبة للنائم ولا بكونها ضرورية له بل كلاهما محتمل بلا ترجيح
قال الآمدي قد ندعي الضرورة في العلم بكونها مقدورة للنائم من حيث أنا نفرق بين ارتعاد يده في نومه وبين تقلبه وقبض يده وبسطها كما نفرق بينهما في حق المستيقظ من غير فرق ومن رام التسوية بينهما في النائم لم يبعد عنه التشكيك في تسويتهما في حق اليقظان وهو بعيد عن المعقول قال هذا وإن كان في غاية الوضوح لكن فيه من مذهب القاضي نوع حزازة لأن الدليل يوافق مذهبه فإنا قطعنا بكون الرعدة ضرورية وكون القيام مثلا مكتسبا في حق المستيقظ فلعل الاستيقاظ شرط في الاكتساب أو النوم مانع منه ولما كان لقائل أن يقول إذا كان النوم مضادا للعلم وباقي الإدراكات فماذا نقول فيما يراه النائم ويدركه بالبصر والسمع وغيرهما أشار إلى جوابه بقوله وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أي جمهورهم أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الهواء الشفاف والبنية المخصوصة وانتفاء الحجاب إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراكات فما يراه النائم ليس من الإدراكات في شيء بل هو من قبيل الخيالات الفاسدة والأوهام الباطلة وأما عند الأصحاب إذا لم يشترطوا في الإدراك شيئا من ذلك أي مما ذكر من الشرائط المعتبرة عند المعتزلة فلأنه أي الإدراك في حالة النوم خلاف العادة أي لم تجر عادته تعالى بخلق الإدراك في الشخص وهو نائم ولأن النوم ضد للإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة بل من قبيل الخيال الباطل (2/145)
وقال الأستاذ أبو إسحاق إنه أي المنام إدراك حق بلا شبهة إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه في نومه من إبصار للمبصرات وسمع للمسموعات وذوق للمذوقات وغيرها من الإدراكات وبين ما يجده اليقظان في يقظته من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيه أي فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة ولم يخالف الأستاذ في كون النوم ضدا للإدراك لكنه زعم أن الإدراك يقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل واحد
وقال الحكماء المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك وذلك أن الحس المشترك مجمع المحسوسات الظاهرة فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة ثم أن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصور الخارجية فإن الخارجية لم تكن مشاهدة لكونها صورة الخارجية بل لكونها مرتسمة في الحس المشترك ومن طباع القوة المتخيلة التصوير والتشبيح دائما حتى لو خليت وطباعها لما فترت عن هذا الفعل أعني رسم الصور في الحس المشترك إلا أن هناك أمرين صارفين لها عن فعلها
أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك فإنه إذا انتقش بهذه الصور لم يتسع لانتقاشه بالصور التي تركبها المتخيلة فيعوقها ذلك عن عملها لعدم القابل (2/146)
وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها فتتعوق بذلك عن عملها وإذا انتفى هذان الشاغلان أو أحدهما تفرعت لفعلها وظهر سلطانها في التصوير ولا شك أن الشخص إذا نام انقطع عن الحس المشترك توارد الصور من الخارج فيتسع لانتقاش الصور من الداخل إذا عزفت هذا فنقول ما يدركه النائم ويشاهده صور مرتسمة في الحس المشترك موجودة فيه ويكون ذلك أي وجدانه في الحس المشترك وارتسامه فيه على وجهين
الأول أن يرد ذلك المدرك عليه أي على الحس المشترك من النفس الناطقة وهي تأخذه من العقل الفعال فإن جميع صور الكائنات من الأزل إلى الأبد مرتسم فيه بل في جميع المبادئ العالية والملائكة السماوية ومن شأن النفس الناطقة أن تتصل بتلك المبادئ اتصالا معنويا روحانيا وتنتقش ببعض ما فيها مما كان أو سيكون أو هو كائن إلا أن استغراقها في تدبير بدنها يعوقها عن ذلك فإذا حصل لها بالنوم أدنى فراغ فربما اتصلت بها فارتسم فيها ما يليق بها من أحوالها وأحوال من يقرب منها من الأهل والولد والإقليم والبلد حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها ثم إن ذلك الأمر الكلي المنتقش في النفس يلبسه ويكسوه الخيال أي القوة المتخيلة لما جبل الخيال عليه من المحكاة والانتقال من شيء إلى آخر مشابه له بوجه ما ومن التفصيل بين الأشياء المتصلة والتركيب بين الأمور المتفاصلة على وجوه مختلفة وأنحاء شتى صورا أي يلبسه صورا جزئية إما قريبة من ذلك الأمر الكلي أو بعيدة منه فيحتاج في معرفة ما ارتسمت في النفس على الوجه الكلي إلى التعبير وهو أن يرجع المعبر رجوعا قهقريا مجردا له أي لما رآه النائم عن تلك الصور التي صورها المتخيلة حتى يحصل المعبر بهذا التجريد إما بمرتبة أو (2/147)
بمراتب على حسب تصرف المتخيلة في التصوير والكسوة ما أخذته النفس من العقل الفعال فيكون هو الواقع المطابق لما في نفس الأمر وقد لا يتصرف فيه أي فيما أخذته النفس الخيال فيؤديه كما هو بعينه أي لا يكون هناك تفاوت إلا بالكلية والجزئية فيقع ما رآه النائم من غير حاجة في الرؤيا إلى التعبير وقد يتصرف فيه تصرفا كثيرا فينتقل منه إلى نظيره ومن ذلك النظير إلى آخر وهكذا مع تفاوت وجوه المناسبة في تلك النظائر حتى ينسد على المعبر طريق الوصول إليه
الوجه الثاني أن يرد عليه أي على الحس المشترك لا من النفس بل إما من الخيال الذي هو خزانة صور المحسوسات بالحواس الظاهرة مما ارتسم فيه في اليقظة فإن القوة المتخيلة لما وجدت الحس المشترك خاليا صورت فيه بعض الصور الخيالية ولذلك فإن من دام فكره في شيء وارتسمت صورته في الخيال يراه في منامه وقد تركب المتخيلة صورة واحدة من الصور الخيالية المتعددة وتنقشها في الحس المشترك فتصير مشاهدة مع أن تلك الصورة لم تكن مرتسمة في الخيال من الأمور الخارجة وقد تفصل أيضا بعض الصور المتأدية إليه من الخارج وترسمها هناك ولذلك قلما يخلو النوم عن المنام من هذا القبيل وأما مما يوجبه مرض كثوران خلط من الأخلاط الأربعة أو بخار فإن المرض إذا أثار خلطا أو بخارا أو تغير مزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة تغيرت أفعالها بحسب تلك التغيرات ولذلك فإن الدموي يرى في حلمه الأشياء الحمر والصفراوي يرى النيران والأشعة والسوداوي يرى الجبال والأدخنة والبلغمي يرى المياه والألوان البيض
وبالجملة فالمتخيلة تحاكي كل خلط أو بخار بما يناسبه وهذا الوارد على الحس المشترك بقسميه الواردين عليه من الخيال أو مما يوجبه (2/148)
مرض أو غلبة خلط من قبيل أضغاث الأحلام لا يقع هو ولا تعبيره بل لا تعبير له
فروع للمعتزلة متفرعة على القدرة والعجز
الأول اختلفوا فيمن يتمكن من حمل مائة من فقط ولا يتمكن من حمل مائة أخرى معها أي مع المائة الأولى فقيل هو عاجز عن حملها أي عن حمل المائة الأخرى هذا هو الموافق لكلام الآمدي وإن كان الموجود في أكثير النسخ حملهما وقيل هولا يوصف بالعجز ولا بالقدرة بالنسبة إلى الأخرى فلا يقال هو عاجز عن حمل المائة الأخرى ولا هو قادر عليها وقيل هو قادر على حمل إحديهما أي إحدى المائتين من غير تعيين وغير قادر على إحديهما من غير تعيين أي هو قادر على حمل مائة غير معينة من هذه الجملة وليس بقادر على حمل مائة منها غير معينة أيضا والكل أي جميع هذا الأقوال الثلاثة مناقض لأصلهم ومذهبهم في وجوب تعلق القدرة بجميع المقدورات فإن المائة الأخرى معينة كانت أو غير معينة من جنس مقدورات العبد فالقول بأنه عاجز عنها أو غير قادر عليها يناقض ذلك الأصل فإن قيل مذهبنا ما ذكرتم لكن لا مطلقا بل بشرط وهو أن لا تتعلق القدرة الواحدة في وقت واحد في محل واحد من جنس واحد بأكثر من مقدور واحد ولو كانت القدرة على حمل مائة قدرة على حمل مائة أخرى لكان ذلك مخالفا لأصلنا المشروط بما ذكرنا قلنا في الرد عليهم المحل فيما نحن فيه هو المحمول المتحرك وهو مختلف يعني أن المقدور ههنا هو الحركة ومحلها المائتان فهو متعدد لا واحد فلا يكون تعلق القدرة بحركتهما مخالفا لذلك الشرط (2/149)
فإن قالوا المحل وإن كان مختلفا إلا أنه لم يوجد له من القدرة غير ما يوازي الاعتمادات في إحدى المائتين فهو لا يقدر على حمل الجميع إلا بزيادة في القدرة موازية لاعتمادات المائة الأخرى حتى لو خلق له ذلك الزائد لكان قادرا على رفع الجميع
قلنا هذا وإن تخيل في المائتين المتلاصقتين فما يقولون في مائة أخرى منفصلة عن المائة المحمولة فإن قلتم إنه متمكن من حملها مع حمل الأولى مع أنه لم يوجد له من القدرة غير ما يوازي اعتمادات الأولى فهلا يجوزون ذلك في المائتين المتصلتين وإن قلتم إنه لا يتمكن من حملها بالقدرة التي تمكن بها من حمل المحمولة فقد ناقضتم أصلكم لا محالة لأن المقدورين من جنس واحد من محلين مختلفين
الفرع الثاني شخصان يقدر كل منهما على حمل مائة من إذا اجتمعا عليه أي على حمل المائة وحملاها معا فقد اختلفت المعتزلة ههنا فمنهم من قال وهم أكثرهم حملها واقع بقدرة كل واحد واحد فكل منهما يفعل في كل جزء من أجزاء المائة حال الاجتماع ما كان يفعله حال الانفراد ويلزمه اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد فيستغني بكل منهما عن الآخر وربما التزم هذا القائل جواز اجتماعهما وإن كان مستبعدا جدا بل مستحيلا ومنهم من قال وهو عباد الضيمري والكعبي هذا حامل للبعض بحيث لا يشاركه فيه صاحبه وذاك حامل للبعض الآخر كذلك فلا يثبت لهما فعلان في جزء واحد من المائة المحمولة ولا يخفى (2/150)
ما فيه من التحكم إذ لا بد أن يكون فعل كل منهما في بعض معين في نفس الأمر ولا سبيل إلى ذلك فإن نسبة كل جزء من أجزاء المائة المذكورة إلى كل واحد من القادرين على السوية فلا يتعين شيء منها لفعل أحدهما
الفرع الثالث وهو مبني على تأثير القدرة الحادثة والتوليد أيضا
قالوا القدرة الواحدة قد تولد في محال متفرقة حركات متعددة إلى جهات مختلفة فيجوز أن يحرك الشخص بقدرة واحدة جزءا إلى جهة وجزءا آخر إلى جهة أخرى وجزءا ثالثا إلى جهة ثالثة وهكذا بأن يضرب مثلا يده عليها دفعة فتتفرق في تلك الجهات وأما في محال مجتمعة كأجزاء متلاصقة فلا يجوز أن تولد القدرة الواحدة فيها حركات متعددة بأن تتحرك معا إلى جهة واحدة بل يجتمع على عشرة أجزاء مجتمعة متلاصقة عشرة أجزاء من القدرة فالقدرة على تحريك كل جزء من تلك العشرة المجتمعة غير القدرة على تحريك الجزء الآخر فيكون هناك عشر قدر بإزاء عشر أجزاء
وبالجملة يجب أن يكون عدد القدرة القائمة بالقادر على التحريك مساويا لعدد الأجزاء المجتمعة وإلا أي وإن لم تكن القدرة على تحريك جزء غير القدرة على تحريك الجزء الآخر بل جاز أن يكون القدرة على تحريك جزء قدرة على تحريك جزئين لكان أي تلك القدرة وذكرها بتأويل التمكن قدرة على تحريك الأجزاء بالغة ما بلغت إذ ليس عدد أولى من عدد فيلزم أن تقدر البقة على تحريك الجبل وهو باطل بالضرورة وقد عرفت بطلان عدم الأولوية
قال الآمدي هذا الفرع مما اتفق عليه القائلون بالتوليد وهو من (2/151)
قبيل تحكماتهم الباردة ودعاويهم الجامدة فإنه إذا قيل لهم لم كانت القدرة الواحدة تحرك الأجزاء المتفرقة وتوجب في كل واحد منها حركة ويمتنع عليها ذلك عند انضمام الأجزاء مع أنه لم يحدث بالانضمام ثقل ولا زيادة في الأجزاء بل لا فارق هناك سوى الاجتماع والافتراق لم يجدوا إلى الفرق سبيلا ولذلك قال أبو هاشم وغيره من فضلاء المعتزلة لا ندري لذلك سببا غير أنا وجدنا أن ما يسهل علينا تحريكه عند الافتراق يعسر علينا عند ذلك الاجتماع وهذا الذي قالوه وإن كان حقا إلا أنه لا يدل على وجوب اجتماع قدر موازية لأعداد الأجزاء المتلاصقة ولا على أن يكون هناك حركات بعدد الأجزاء لجواز أن يقال جرى عادته تعالى بخلق القدرة على التحريك حال الافتراق دون الاجتماع وأن يقال أيضا جاز التحريك في المجتمعة على وجود قدرة أخرى منضمة إلى الأولى من غير أن يكون عدد القدر بعدد الأجزاء ولا محيص لهم عن ذلك
وأما الجبائي فإنه قال انضمام الأجزاء مانع من التحريك ألا ترى أنا نجد القادر على المشي يمتنع عليه المشي بالربط والتقييد وليس ذلك إلا بسبب انضمام أجزاء القيد إلى رجليه وهو مبني على أصله في جواز منع القادر وقد بان بطلانه وإن سلمنا صحة المنع فلا نسلم صحة التعليل بانضمام أجزاء القيد إلى رجليه بل جاز أن يكون المنع لمعنى مختص بصورة القيد ولا وجود له فيما نحن فيه من الأجزاء المجتمعة وكيف لا والفرق واقع بينهما من جهة أن مانع القيد لا يزول وإن تضاعفت القدرة بخلاف الأجزاء المجتمعة فإنه قال بزوال المانع بتقدير أن يوجد قدر موازية لعدد الأجزاء المنضمة
ومما نقلناه تبين أن كلام الجبائي من تتمة الفرع الثالث كما هو المناسب لكن الموجود في أكثر نسخ الكتاب هكذا (2/152)
الرابع أي من الفروع قال الجبائي الاجتماع يمنع التحريك كالقيد فإنه مانع عن المشي لمن هو قادر عليه وهو أي كون القيد مانعا من الفعل فرع أن المعدوم مقدور حتى يتصور كون القادر على فعل ممنوعا منه إذ لا مجال للمنع بالقياس إلى الفعل الموجود لكنا بينا بطلان كون المعدوم مقدورا بما ثبت من وجوب كون القدرة مع الفعل لا قبله وبه أي يكون الاجتماع مانعا عن التحريك منع الجبائي كون القادر على حمل مائة من قادر على حمل المائة الأخرى معها وحكم بأنه ليس قادرا على حملها وفيه بحث لأن كون الاجتماع مانعا من الفعل يقتضي كون ذلك القادر قادرا على حمل الأخرى ممنوعا منه لا كونه غير قادر عليه
المقصد الحادي عشر
المتن
القدرة المحركة يمنة ويسرة هل تقدر على التصعيد منهم من جوزه ومنهم من منعه للفرق بين الدحرجة والرفع ضرورة وعليه البهشمية وأوجبوا زيادة قدرة واحدة ولا يخفى ما فيه من التحكم (2/153)
الشرح
المقصد الحادي عشر أي من مقاصد هذا النوع وكأنه سهو من الناسخ فإن هذا المبحث من فروع المعتزلة لا من مقاصد النوع الرابع فإن جعل كلام الجبائي من تتمة الفرع الثالث كما فعله بعضهم في شرح هذا الكتاب كان هذا فرعا رابعا وإن جعل فرعا على حدة كان هذا فرعا خامسا وأما جعله مقصدا حادي عشر فلا وجه له القدرة المحركة يمنة ويسرة هل تقدر وتقوى على التصعيد والرفع إلى جهة الفوق منهم من جوزه ومنهم من منعه للفرق بين الدحرجة والرفع ضرورة فإن كل عاقل يجد تفاوتا بينهما ويعلم أن رفع شيء أشق وأقوى من تحريكه دحرجة وعليه أي على المنع البهشمية أي الطائفة التابعة لرأي أبي هاشم وأوجبوا للتصعيد والرفع زيادة قدرة واحدة على القدرة المحركة يمنة ويسرة ولا يخفى ما فيه من التحكم إذ لا وجه لحصر الزيادة الكافية على القدرة الواحدة لجواز الاحتياج إلى ما يزيد عليها
المقصد الثاني عشر
المتن
القدرة مغايرة للمزاج من وجهين
الأول المزاج وأثرة من جنس الكيفيات المحسوسة دون القدرة
الثاني المزاج قد يمانع القدرة كما عند اللغوب
الشرح
المقصد الثاني عشر بل الحادي عشر لما عرفت القدرة مغايرة للمزاج من وجهين
الأول المزاج وأثره من جنس الكيفيات المحسوسة بالقوة اللامسة وذلك لأن المزاج كيفية متوسطة بين الكيفيات الأربع المشهورة وهي (2/154)
بالحقيقة من جنسها إلا أنها منكسرة ضعيفة بالنسبة إليها فيكون أثرها وحكمها من جنس أحكام هذه الكيفيات إلا أنه يكون أضعف من أحكامها ولا شك أن أحكام هذه الأربع وآثارها من جنسها أيضا فالمزاج وأثره من جنس الكيفيات الملموسة دون القدرة فإنها ليست مدركة باللمس وليس أثرها من جنس هذه الكيفيات فليست القدرة نفس المزاج بل هي كيفية تابعة له
الثاني المزاج قد يمانع القدرة كما عند اللغوب فإن من أصابه لغوب وإعياء يصدر عنه أفعاله بقدرته واختياره ومزاجه يمانع قدرته في تلك الأفعال والشيء لا يمانع نفسه فالقدرة غير المزاج
المقصد الثالث عشر
المتن
القوة تقال للقدرة والمراد هنا جنسها وهو مبدأ التغير في آخر من حيث هو آخر وقولنا من حيث هو آخر ليدخل فيه المعالج لنفسه فإنه يؤثر من حيث هو عالم بصناعة الطب ويتأثر من حيث هو جسم ينفعل عما يلاقيه من الدواء وتقال للإمكان المقابل للفعل لأنه سبب للقدرة عليه مجازا وهذا غير الإمكان الذاتي فإنه قد يقارن الفعل وينعكس من الطرفين دون هذا وقد تقال في العرف للقدرة نفسها ولما به القدرة على الأفعال الشاقة ولعدم الانفعال
الشرح
المقصد الثالث عشر بل الثاني عشر قال الإمام الرازي لفظ القوة وضع أولا للمعنى الموجود في الحيوان الذي يمكنه به أن يصدر عنه أفعال (2/155)
شاقة من باب الحركات ليست بأكثرية الوجود عن الناس ثم إن للقوة بهذا المعنى مبدأ ولازما أما المبدأ فهو القدرة أعني كون الحيوان إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل وأما اللازم فهو أن لا ينفعل عن الشيء بسهولة وذلك لأن مزاول التحريكات الشاقة إذا انفعل عنها صده ذلك عن اتمام فعله فلا جرم صار اللاانفعال دليلا على الشدة ثم إنهم نقلوا اسم القوة إلى ذلك المبدأ وهو القدرة وإلى ذلك اللازم وهو اللاانفعال ثم أن للقدرة وصفا هو كالجنس لها أعني الصفة المؤثرة في الغير ولها لازم هو الإمكان لأن القادر لما صح منه أن يفعل وصح منه أن لا يفعل كان إمكان الفعل لازما للقدرة فنقلوا اسم القوة إلى ذلك الجنس وذلك اللازم فيقولون للأبيض إنه أسود بالقوة أي يمكن أن يصير أسود وسموا الحصول والوجود فعلا وإن كان في الحقيقة انفعالا بناء على أن المعنى الذي وضع له لفظ القوة أولا كان متعلقا بالفعل فلما سموا ههنا الإمكان قوة سموا الأمر الذي تعلق به الإمكان وهو الوجود والحصول فعلا والمهندسون يجعلون مربع الخط قوة له كأنه أمر ممكن في ذلك الخط خصوصا إذا اعتقد ما ذهب إليه بعضهم من أن حدوث المربع بحركة ذلك الخط على مثله ولذلك قالوا وتر القائمة قوي على ضلعيها أي مربعه يساوي مربعيهما وإذا انتقشت هذه المعاني على صحيفة خاطرك فلنرجع إلى ما في الكتاب فنقول القوة تقال للقدرة والمراد هنا جنسها أي المقصود في المقصد بيان القوة التي هي جنس (2/156)
القدرة وهو كما قاله ابن سينا مبدأ التغير في آخر من حيث هو آخر وقولنا من حيث هو آخر ليدخل فيه أي في هذا الحد المعالج لنفسه فإنه يؤثر من حيث هو عالم بصناعة الطب عامل بمقتضاها ويتأثر من حيث هو جسم ينفعل عما يلاقيه من الدواء وهذا مبني على ما يتبادر إلى الأوهام من أن الإنسان هو هذا الجسم والتحقيق أن المعالج المؤثر هو النفس الناطقة والمعالج المتأثر هو البدن وهما متغايران بالذات فالأولى أن يمثل بمعالجة الإنسان نفسه في إزالة الأخلاق الرديئة التي هي أمراض نفسانية وإنما كان هذا القيد موجبا لعموم الحدود ودخول ما كان خارجا عنه لأن المتبادر من لفظ الآخر هو المغاير بالذات فلما قيد بالحيثية علم أن التغاير بالاعتبار كاف والقوة بهذا المعنى تنقسم إلى أقسام أربعة لأن الصادر من القوة إما فعل واحد أو أفعال مختلفة وعلى التقديرين إما أن يكون لها شعور بما يصدر عنها أو لا فالأول النفس الفلكية والثاني الطبيعة العنصرية وما في معناها والثالث القوة الحيوانية والرابع النفس النباتية وقد مرت الإشارة إليها قال الإمام الرازي بعض هذه الأقسام صور جوهرية وبعضها صور أعراض فلا تكون القوة مقولة عليها قول الجنس بل قول العرض العام لامتناع اشتراك الجواهر والأعراض في وصف جنسي وتقال القوة للإمكان المقابل لفعل لأنه أي هذا الإمكان سبب للقدرة عليه أي على الشيء الذي تعلق به هذا الإمكان مجازا وذلك لأن القدرة إنما تؤثر وفق الإرادة التي يجب مقارنتها لعدم المراد فلولا الإمكان المقارن للعدم وهو الذي يقابل الفعل لم تؤثر القدرة في ذلك المراد فهذا الإمكان سبب للقدرة بحسب الظاهر ولما كانت القدرة مسماة بالقوة أطلق اسمها على سببها وإنما لم يجعل الإمكان المقابل للفعل لازما للقدرة كما زعمه الإمام الرازي ووجهه بأن القادر هو الذي يصح منه الفعل أو الترك كما نقلناه لأن اللازم للقدرة على توجيهه هو الإمكان الذاتي لا المقابل للفعل وللتنبيه على ذلك قال المصنف وهذا أي الإمكان المقابل المسمى بالقوة غير الإمكان الذاتي فإنه أي الإمكان الذاتي قد يقارن الفعل فإن الأسود بالفعل يمكن سواده إمكانا ذاتيا وينعكس من الطرفين أي طرفي الوجود والعدم فإن ممكن الوجود ممكن العدم أيضا (2/157)
وبالعكس دون هذا الإمكان المقابل فإنه لا يتصور مقارنته للفعل ولا ينعكس إذ لا يمكن أن يكون وجود السواد وعدمه معا بالقوة
فإن قلت قد علم مما ذكرت أن الإمكان الذاتي إذا قيد بمقارنة العدم كان مقابلا للفعل ومسمى بالقوة
قلت قد يكون الأمر كذلك كما في مثال السواد وقد لا يكون فإن الهواء يمكن أن يكون ماء بهذا الإمكان دون الإمكان الذاتي والنطفة أن تكون إنسانا مع صدق قولنا لا شيء من النطفة بإنسان بالضرورة فتأمل وقد تقال القوة في العرف للقدرة نفسها وهذا تكرار لما ذكره أولا وتقال القوة لما به القدرة على الأفعال الشاقة وهذه العبارة توهم أن القوة بهذا المعنى سبب للقدرة ومبدأ لها وليس كذلك بل الأمر بالعكس القدرة مبدأ لهذه القوة ففي المباحث المشرقية أن القوة بهذا المعنى كأنها زيادة وشدة في المعنى الذي هو القدرة وقد قيل أراد هنا بالقدرة على الأفعال الشاقة التمكن منها وتقال القوة لعدم الانفعال والقوة بهذا المعنى من الكيفيات الاستعدادية وهي بمعنى القدرة إذا خصت بالأعراض من الكيفيات النفسانية
المقصد الثالث عشر
المتن
الخلق ملكة تصدر عنها الأفعال بلا روية كمن يكتب شيئا من غير أن يروي في حرف حرف أو يضرب الطنبور من غير أن يفكر في نغمة نغمة (2/158)
وينقسم إلى فضيلة ورذيلة وغيرهما فالفضيلة الوسط والرذيلة الأطراف وغيرهما ما ليس منهما
فالعفة هيئة للقوة الشهوية بين الفجور والخمود والشجاعة هيئة للقوة الغضبية بين التهور والجبن والحكمة هيئة للقوة العقلية بين الجربزة والبلاهة والخلق مغاير للقدرة سيما إن جعل نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء
الشرح
المقصد الثالث عشر وفي النسخ المشهورة الرابع عشر الخلق ملكة تصدر عنها أي عن النفس بسببها الأفعال بلا روية كمن يكتب شيئا من غير أن يروي في حرف حرف أو يضرب الطنبور من غير أن يفكر في نغمة نغمة أو في نقرة نقرة فالكيفية النفسانية إذا لم تكن ملكة لا تسمى خلقا وإذا كانت ملكة ولم تكن مبدأ لصدور الفعل عن النفس لم تسم أيضا خلقا وإذا كانت مبدأ له بعسر وتأمل لم تكن خلقا وإذا اجتمعت فيها هذه القيود معا كانت خلقا وينقسم الخلق إلى فضيلة هي مبدأ لما هو كمال ورذيلة هي مبدأ لما هو نقصان وغيرهما وهو ما يكون مبدأ لما ليس شيئا منهما والنفس الناطقة من حيث تعلقها بالبدن وتدبيرها إياه تحتاج إلى قوى ثلاث
إحداها القوة التي تعقل بها ما تحتاج إليه في تدبيره وتسمى قوة عقلية ملكية
وثانيتها القوة التي بها تجذب ما ينفع البدن ويلائمه وتسمى قوة شهوية بهيمية (2/159)
وثالثتها ما يدفع به ما يضر البدن ويؤلمه وتسمى قوة غضبية سبعية ولكل واحدة من هذه القوى أحوال ثلاثة طرفان ووسط فالفضيلة الخلقية هي الوسط من أحوال هذه القوى والرذيلة هي الأطراف من تلك الأحوال وغيرهما أي غير الفضيلة والرذيلة ما ليس شيئا منهما أي من الوسط والأطراف فالفضائل الخلقية أصولها ثلاثة هي الأوساط من أحوال القوى المذكورة والرذائل الخلقية أصولها ستة هي أطراف تلك الأوساط ثلاثة منها من قبيل الإفراط وثلاثة أخرى من قبيل التفريط كلا طرفي كل الأمور ذميم
فالعفة هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطها والشجاعة هيئة للقوة الغضبية متوسطة بين التهور الذي هو إفراط في هذه القوة والجبن الذي هو تفريط فيها
والحكمة هيئة للقوة العقلية العملية متوسطة بين الجربزة التي هي إفراط هذه القوة والبلاهة التي هي تفريطها
فهذه الأوساط الثلاثة أصول الفضائل الخلقية ومجموعها يسمى عدالة ومقابل العدالة شيء واحد هو الجور وفي الملخص قد ظن بعضهم أن الحكمة المذكورة ههنا هي التي جعلت قسيمة للحكمة النظرية حيث قيل الحكمة إما نظرية وإما عملية وهو ظن باطل إذ المقصود من هذه الحكمة ملكة تصدر عنها أفعال متوسطة بين أفعال الجربزة والغباوة والمراد بتلك الحكمة العملية العلم بالأمور التي وجودها من أفعالنا والفرق بين العلم المذكور والملكة المذكورة معلوم بالضرورة وقد تبين مما نقلناه أيضا أن الحكمة المذكورة ههنا مغايرة للحكمة التي قسمت إلى النظرية والعملية (2/160)
لأنها بمعنى العلم بالأشياء مطلقا سواء كانت مستندة إلى قدرتنا أو لا ومما يجب التنبه له أن الأفراط المذموم إنما يتصور في القوة العقلية العملية دون النظرية فإن هذه القوة أعني النظرية كلما كانت أشد وأقوى كانت أفضل وأعلى وأن العدالة المركبة من العفة والشجاعة والحكمة تكون أفضل من كل واحدة من أجزائها لا من الحكمة النظرية إذ لا كمال أشرف من معرفته تعالى بصفاته ومعرفة أفعاله في المبدأ والمعاد والاطلاع على حقائق مخلوقاته وأحوالها وليست هذه داخلة في العدالة كما يظهر بأدنى تأمل في مقالتهم لمن له فطرة سليمة والخلق مغاير للقدرة لأن الخلق يعتبر فيه صدور الأفعال بسهولة من غير تقدم روية وليس يعتبر ذلك في أصل القدرة وأيضا لا يجب في الخلق أن يكون مع الفعل كما وجب ذلك عند الأشاعرة في القدرة فالفرق بينهما ظاهر سيما أن جعل نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء فإن الخلق لا يتصور فيه ذلك بل لا بد أن يكون متعلقا بأحد طرفي الفعل وأحد الضدين
خاتمة
المتن
في تفسير كيفيات نفسانية قريبة مما مر
الأول المحبة قيل هي الإرادة فمحبة الله لنا إرادته لكرامتنا ومحبتنا لله إرادتنا لطاعته
الثاني عند المعتزلة أن الرضاء هو الإرادة وعندنا ترك الاعتراض
الثالث الترك عدم فعل المقدور وقيل إن كان قصدا ولذلك يتعلق به الذم وقيل إنه من أفعال القلوب وقيل هو فعل الضد لأنه مقدور والعدم مستمر فلا يصلح أثرا للقدرة
الرابع العزم هو جزم الإرادة بعد التردد وهذا كله إنما يصلح إذا لم نفسرها بالصفة المخصصة بل بالميل (2/161)
الشرح
خاتمة في تفسير كيفيات نفسانية قريبة مما مر في النوع الثالث والرابع
الأول من هذه الأمور القريبة المحبة قيل هي الإرادة فمحبة الله لنا إرادته لكرامتنا ومثوبتنا على التأبيد ومحبتنا لله إرادتنا لطاعته وامتثال أوامره ونواهيه وقد يقال محبتنا لله سبحانه كيفية روحانية مترتبة على تصور الكمال المطلق الذي فيه على الاستمرار ومقتضيه للتوجه التام إلى حضرة القدس بلا فتور وفرار وأما محبتنا لغيره فكيفية تترتب على تخيل كمال فيه من لذة أو منفعة أو مشاكلة تخيلا مستمرا كمحبة العاشق لمعشوقه والمنعم عليه لمنعمه والوالد لولده والصديق لصديقه
الثاني من تلك الأمور عند المعتزلة أن الرضاء هو الإرادة فإذ لم يرض الله لعباده الكفر لم يكن مريدا له أيضا وعندنا أن الرضاء هو ترك الاعتراض فالكفر مع كونه مرادا له ليس مرضيا عنده لأنه يعترض عليه
الثالث الترك بحسب اللغة هو عدم فعل المقدور سواء كان هناك قصد من التارك أو لا كما في حالة الغفلة والنوم وسواء تعرض لضده أو لم يتعرض وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يسمى تركا ولذلك لا يقال ترك فلان خلق الأجسام وقيل إن كان قصدا أي عدم فعل المقدور إنما يسمى تركا إذا كان حاصلا بالقصد فلا يقال ترك النائم الكتابة ولذلك يتعلق به أي بالترك الذم والمدح والثواب والعقاب فلولا أنه اعتبر فيه القصد لم (2/162)
يكن كذلك قطعا وقيل إنه أي الترك من أفعال القلوب لأنه انصراف القلب عن الفعل وكف النفس عن ارتياده وقيل هو أي الترك فعل الضد لأنه مقدور والعدم أي عدم الفعل مستمر من الأزل فلا يصلح أثرا للقدرة الحادثة وقد يقال دوام استمراره مقدور لأنه قادر على أن يفعل ذلك الفعل فيزول استمرار عدمه فمن هذه الجهة صلح أن يكون العدم أثرا للقدرة
قالوا ولا بد أن يكون كلا الضدين مقدورين حتى يكون ارتكاب أحدهما تركا للآخر فإذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مقدورا لم يصح استعمال الترك هناك فلا يقال ترك بقعوده الصعود إلى السماء ولا ترك بحركته الاضطرارية حركته الاختيارية ولا ترك بحركته الاضطرارية الصعود
الرابع من تلك الأمور العزم وهو جزم الإرادة بعد التردد الحاصل من الدواعي المختلفة المنبعثة من الآراء العقلية والشهوات والنفرات النفسانية فإن لم يترجح أحد الطرفين حصل التحير وإن ترجح حصل العزم وهذا كله أي الذي ذكرناه في تفسير ما عدا الترك إنما يصح إذا لم يفسرها أي الإرادة بالصفة المخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع بل بالميل أو ما يقتضيه من اعتقاد النفع أو ظنه أما إذا فسرناه بالصفة المخصصة فلا يصح لأن الصفة المخصصة قد تخصص ما لا يكون محبوبا ولا مرضيا والعزم قد يكون سابقا على الفعل الذي يجب أن تقارنه الصفة المخصصة (2/163)
النوع الخامس بقية الكيفيات النفسانية
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن
اللذة والألم بديهيان فلا يعرفان وقيل اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والملائم هو كمال الشيء الخاص به كالتكيف بالحلاوة والدسومة للذائقة والجاه والتغلب للغضبية وقولنا من حيث هو ملائم لأن الشيء قد يلائم من وجه دون وجه كالدواء الكريه إذا علم أن فيه نجاة من العطب وذلك لم يثبت فإنا ندرك حالة هي لذة ونعلم أن ثمة إدراكا للملائم وأما أن اللذة هل هي نفس ذلك الإدراك أو غيره وإنما ذلك سبب لها وهل يمكن أن تحصل بسبب آخر أم لا فلم يتحقق فوجب التوقف فيه وقال ابن زكريا الطبيب الرازي لا لذة وما يتصور منها إنما هو دفع ألم كالأكل لألم الجوع والجماع لألم دغدغة المني لأوعيته ولا نمنع جواز أن يكون ذلك أحد أسبابه إنما ننازعه في مقامين
أحدهما إنه دفع الألم
وثانيهما أنه لا يمكن أن تحصل بطريق آخر ومما ينبه أنه قد تحدث ما يوجب اللذة دفعة بلا شوق إليه ولا أن يخطر بالبال حتى يقال (2/164)
إنها دفع لألم الشوق وذلك مثل النظر إلى وجه مليح والعثور على مال بغتة ثم قال الحكماء الألم سببه تفرق الاتصال بالتجربة وأنكره الإمام الرازي فإن من عقر بسكين شديد الحدة لم يحس بالألم إلا بعد زمان ولو كان ذلك سببا لامتنع التخلف عنه بل تفرق الاتصال يعد لسوء المزاج وحصوله يستدعي زمانا ما فريثما يبتدئ العضو بالاستحالة إلى مزاج سيئ يحصل الألم وربما احتج بأن التفرق عدم الاتصال وهو عدمي وبأن التغذي مداخلة الغذاء لجميع الأجزاء ولا تتصور إلا بتفريق فيجب أن يؤلم وزاد ابن سينا سببا آخر وهو سوء المزاج المختلف ولذلك تؤلم لسعة العقرب ما لا تؤلم الإبرة بخلاف المتفق فإنه لا يؤلم أما أنيته فإن حرارة المدقوق أكثر من حرارة صاحب الغب بكثير والثاني مدرك دون الأول وأما لميته فإن الإحساس شرطه مخالفة ما لكيفية الحاس والمحسوس إذ مع الاتفاق لا يحصل تأثر فلا يكون إحساس فإذا تمكن الكيفية المنافرة في العضو وأزال كيفية العضو الأصلية فليس ثمة كيفيتان متخالفتان فلم يكن فعل وانفعال فلا يحس به ولذلك فإن المحسوسات إذا استمرت يضعف الشعور بها متدرجا حتى ربما لم يشعر بها وإن شئت فقس من دخل الحمام يستسخن الماء الحار بحيث يشمئز منه حتى إذا لبث فيه قاب ساعة أثر فيه هواء الحمام فيسخن فتراه لا يدرك سخونته بل ربما استبرده
النوع الخامس من أنواع الكيفيات النفسانية في بقية الكيفيات النفسانيه وفيه أي في هذا النوع مقصدان
الشرح
اللذة والألم بديهيان لأن كل عاقل بل كل حساس يدركهما من نفسه ويميز كل واحد منهما عن صاحبه ويميزهما عما عداهما بالضرورة فلا يعرفان لتحصيل ماهيتهما فإن الإحساس الوجداني بجزئياتهما قد أفاد العلم بتلك الماهية على وجه لا يتأتى لنا تحصيل مثله بطريق الاكتساب كما في سائر المحسوسات على ما مر وهذا مما لا يخفى على ذي انصاف (2/165)
نعم قد يقصد في المحسوسات شرح الاسم وذكر الخواص دفعا للالتباس اللفظي وقيل اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر والملائم هو كمال الشيء الخاص به كالتكيف بالحلاوة والدسومة للذائقة واستماع النغمات الطيبة المتناسبة للقوة السامعة والجاه أي وكالجاه والرفعة والتغضب للغضبية وكإدراك حقائق الأشياء وأحوالها على ما هو عليه للقوة العقلية وقولنا من حيث هو ملائم لأن الشيء قد يلائم من وجه دون وجه كالدواء الكريه إذا علم أن فيه نجاة من العطب والهلاك فإنه ملائم من حيث اشتماله على النجاة وغير ملائم بل منافر من حيث اشتماله على ما تنفر الطبيعة عنه فإدراكه من حيث أنه ملائم يكون لذة دون إدراكه من حيث أنه منافر فإنه ألم لا لذة وبهذا أيضا ظهر فائدة قيد الحيثية في تعريف الألم
قال الإمام الرازي وذلك أي كون اللذة عين الإدراك المخصوص لم يثبت بالبرهان فإنا ندرك بالوجدان عند الأكل والشرب والوقاع حالة مخصوصة هي لذة ونعلم أيضا أن ثمة إدراكا للملائم الذي هو تلك الأشياء وإما أن اللذة هل هي نفس ذلك الإدراك أو غيره وإنما ذلك الإدراك سبب لها أي اللذة و أنه هل يمكن أن تحصل اللذة بسبب آخر مغاير لذلك الإدراك أم لا وأنه هل يمكن حصول ذلك الإدراك بدون اللذة أو لا يمكن فلم يتحقق شيء من هذه الأمور بدليل فوجب التوقف فيه أي في الكل إلى قيام البرهان وكذا الحال فيما بين الألم وإدراك المنافر (2/166)
فإن قلت كيف يتأتى له هذه المناقشات وقد اختار أن تصورهما بديهي وأجلي من تصور الملائم والمنافر
قلت لعله أوردها على تقدير احتياجهما إلى التعريف دون استغنائها وأيضا تصور الكنه مانع عن الالتباس وبداهة تصورهما على وجه أبلغ مما يذكر في تعريفهما لا يستلزم تصور كنههما وقال ابن زكريا الطبيب الرازي لا لذة أي ليست اللذة أمرا محققا موجودا في الخارج بل هي أمر عدمي هو زوال الألم وإليه أشار بقوله وما يتصور منها أي من اللذة إنما هو دفع ألم من الآلام كالأكل فإنه دفع لألم الجوع والجماع فإنه دفع لألم دغدغة المني لأوعيته وبالجملة ليست اللذة إلا العود إلى الحالة الطبيعية بعد الخروج عنها أعني زوال الحالة الغير الطبيعية إلى الحالة الطبيعية ولا نمنع نحن جواز أن يكون ذلك أي دفع الألم وزواله أحد أسبابه أي أحد أسباب حصول اللذة إذ بالعود إلى الحالة الملائمة يحصل إدراكها فإن الأمور المستمرة لا يشعر بها فإذا زالت الحالة الطبيعية المستمرة ثم عادت بزوال ما ليست طبيعية حصل إدراكها الذي هو اللذة إنما ننازعه في مقامين
أحدهما أنه أي اللذة وتذكير الضمير للنظر إلى الخبر دفع الألم فإن من المعلوم البين أن اللذة أمر وراء زوال الألم (2/167)
وثانيهما أنه لا يمكن أن تحصل اللذة بطريق آخر سوى دفع الألم ومما ينبه على أنه قد تحدث اللذة بطريق سواه ما يوجب اللذة دفعة بلا شوق إليه ولا أن يخطر بالبال حتى يقال إنها أي اللذة التي أوجبها ذلك الشيء دفع لألم الشوق إليه إذ لا إمكان للشوق بدون الشعور وذلك الموجب للذة دفعة مثل النظر إلى وجه مليح والعثور على مال بغته والاطلاع على مسألة علمية فجأة فإن الإنسان يلتذ بهذه الأشياء ولم يكن له ألم بفقدانها فقد ظهر أن دفع الألم على تقدير كونه سببا لحصول اللذة ليس سببا مساويا لها وقد يقال إنه كان مدركا لكليات هذه الأشياء ومشتاقا إليها في ضمن جميع جزئياتها ومتألما بفقدانها وإن لم يكن له شعور بهذه المعينات فإذا حصلت له هذه الجزئيات زال عنه بعض ذلك الألم وإذا حصل له جزئيات أخر زال بعض آخر وهكذا فلا يتحقق لذة بلا زوال ألم ثم قال الحكماء الألم سببه الذاتي تفرق الاتصال فقط بالتجربة وهذا مذهب جالينوس فالحار إنما يوجع ويؤلم لأنه يفرق الاتصال وكذا البارد يلزمه تفرق الاتصال لأنه لشدة تكثيفه وجمعه يوجب انجذاب الأجزاء إلى ما يتكاثف إليه ويلزم من ذلك تفرقها مما تنجذب عنه والأسود الحالك المظلم يؤلم لشدة جمعه والأبيض اليقق لشدة تفريقه والمر والحامض من المذوقات يؤلمان لفرط التفريق والعفص والقابض لفرط التقبيض المستشيع للتفريق وكذا الحال في المشمومات فبعضها مفرق وبعضها مكثف والأصوات القوية تؤلم بالتفريق التابع لعنف الحركة الهوائية عند ملاقاة الصماخ (2/168)
وبالجملة اتفق الأطباء على أن تفرق الاتصال سبب ذاتي للوجع وأنكره الإمام الرازي فإنه من عقر أي جرح يده بسكين شديدة الحدة في الغاية لم يحس بالألم إلا بعد زمان ولو كان ذلك أي تفرق الاتصال سببا ذاتيا قريبا لامتنع التخلف منه وحيث تخلف الألم عن القطع والتفريق ظهر أنه ليس سببا كذلك بل تفرق الاتصال الحاصل بالقطع يعد العضو لسوء المزاج الذي هو الألم وحصوله يستدعي زمانا ما وإن كان قليلا فريثما يبتدئ العضو المقطوع بالاستحالة إلى مزاج سيء يحصل الألم الذي هو مسببه وربما احتج الإمام على ما أنكره من كون تفرق الاتصال سببا ذاتيا للألم بأن التفرق عدم الاتصال عما من شأنه أن يكون متصلا وهو عدمي فلا يجوز أن يكون سببا ذاتيا للألم الذي هو وجودي بالضرورة و احتج أيضا على ذلك بأن التغذي مداخلة الغذاء لجميع الأجزاء ولا تتصور هذه المداخلة إلا بتفريق فيما بين الأجزاء فالغذاء إنما يصير جزءا من المغتذى بالفعل بأن يفرق اتصال أجزاء المغتذى ويتوسط بينها ويتشبه بها والاغتذاء حاصل لأكثر أجزاء المغتذى في أكثر الأوقات فيكون التفرق أيضا حاصلا لأكثر الأجزاء في أكثر الأوقات فيجب أن يؤلم المتغذي وليس كذلك لأن المتغذي لا يجد ألما أصلا فلا يكون التفرق مؤلما بالذات وكذا نقول إن النمو لا يحصل إلا بتفرق الاتصال مع أنه غير مؤلم بل نقول إن أعضاء البدن لا شك أنها دائما في التحلل ولا معنى له إلا أن ينفصل عن العضو ما كان متصلا به وليس هذا التحلل مختصا بظاهر العضو دون باطنه وذلك لأن المحلل هو الحرارة السارية في ظاهر العضو وباطنه فيكون تفرق الاتصال شاملا لظواهره وأعماقه مع أنه لا ألم فيه
فإن قيل التفرق الحاصل من التغذي والنمو والتحلل تفرق في أجزاء صغيرة جدا فلصغر هذا التفرق لم يحصل الألم
قلنا إن كل واحد من تلك التفرقات وإن كان صغيرا جدا إلا أن تلك التفرقات كثيرة جدا لأن هذه الأمور الموجبة للتفرق لا تختص بجزء من البدن دون جزء بل هي حاصلة في جميع الأجزاء فالتفرق الناشئ منها يعم (2/169)
الأجزاء كلها فلو كان مؤلما بالذات لعم الألم الأعضاء بأسرها لا يقال تلك التفرقات مؤلمة إلا أن آلامها لما استمرت لم يحس بها كسائر الكيفيات المستمرة لأنا نقول لا نعني بالألم إلا المعنى المخصوص الذي يجده الحي من نفسه فإذا لم يحس به مع سلامة الحس والتوجه إلى إدراكه دل على عدمه قطعا فإن قيل الحس شاهد بأن تفرق الاتصال مؤلم قلنا تفرق الاتصال يستعقب سوء المزاج الذي هو المؤلم بالذات فإن اختلاط العناصر لما زال بالتفرق عاد طبيعة كل منها إلى اقتضاء الكيفية الخارجة عن الاعتدال بالفاعل للمزاج السيء هو طبائعها لا التفرق العدمي فلا يلزمنا جعل العدمي سببا للوجودي واحتج في الملخص بوجه آخر إلزامي وهو أن الفلاسفة متفقون على أن الكيفيات والصور الحادثة في الأجسام التي تحت كرة القمر إنما تحدث عن مبدأ عام الفيض وإنما تختلف الأعراض والصور في تلك الأجسام لاختلافها في الاستعداد فالجسم المركب يختص بصورة أو كيفية لأن مزاجه أفاده استعدادا لقبول تلك الصورة أو الكيفية من واهب الصور فعلى هذا يكون السبب القريب للذة والألم ثبوتا وانتفاء هو المزاج لا التفرق وزاد ابن سينا للألم سببا آخر فقال السبب القريب للألم أمران
أحدهما هو تفرق الاتصال على ما ذكره جالينوس
وثانيهما هو سوء المزاج وهو على قسمين متفق ومختلف فالمتفق مزاج غير طبيعي يرد على العضو ويزيل مزاجه الطبيعي ويتمكن فيه بحث يصير كأنه المزاج الطبيعي والمختلف مزاج غير طبيعي يرد عليه ولا يبطل مزاحه الطبيعي بل يخرجه عن الاعتدال والمؤلم من هذين سوء المزاج المختلف ولذلك أي ولأن سوء المزاج المختلف سبب للألم تؤلم لسعة (2/170)
العقرب ما لا تؤلم الإبرة بل تلك اللسعة أشد إيلاما من الجراحة الكبيرة ولو كان المؤلم تفرق الاتصال فقط لم يكن الأمر كذلك بخلاف سوء المزاج المتفق فإنه لا يؤلم ويدل عليه برهان آني ولمي أما أنيته فإن حرارة المدقوق أكثر من حرارة صاحب الغب بكثير لأن حرارة الدق مستقرة في جوهر الأعضاء الأصلية ومذيبه لها وحرارة الغب واردة من مجاورة خلط صفراوي على أعضاء هي على مزاجها الطبيعي حتى إذا تنحى عنها ذلك الخلط كانت باقية على أمزجتها الأصلية
والثاني من المذكورين أعني حرارة الغب مدرك دون الأول فإن صاحب الغب يجد التهابا شديدا ويضطرب اضطرابا عظيما دون المدقوق وأما لميته فإن الإحساس شرطه مخالفة ما لكيفية الحس و كيفية المحسوس إذ مع الاتفاق بين كيفيتهما لا يحصل تأثر للحاس من المحسوس فلا يكون هناك إحساس لكونه مشروطا بالتأثر فإذا تمكن الكيفية المنافرة في العضو وأزال ذلك المتمكن كيفية العضو الأصلية كما في سوء المزاج المتفق على ما عرفت فليس ثمة كيفيتان متخالفتان فلم يكن فعل وانفعال فلا يحس به أي بالمنافرة الذي هو تلك الكيفية القريبة فلا يكون هناك ألم وأما في سوء المزاج المختلف فالكيفية الأصلية باقية مع الكيفية الواردة فتحقق المنافاة والإحساس بالمنافي الذي هو الألم ولذلك أي ولأن شرط الإحساس التأثر المتوقف على المخالفة والمنافاة فإن المحسوسات إذا استمرت زمانا يضعف الشعور بها متدرجا إذ بحسب استمرارها تقل المخالفة بينها وبين كيفية الحاس بها فيضعف التأثر والأحساس أيضا حتى ربما يشعر بها أي بتلك المحسوسات المستمرة (2/171)
لحصول الموافقة بين كيفيتي الحاس والمحسوس ويكون لها في أول الوهلة سورة ثم تضمحل وإن شئت شاهدا على ما ذكرناه فقس من داخل الحمام فإنه عند دخوله فيه يستسخن الماء الحار بحيث يشمئز منه ويتأذى به وذلك لمخالفة كيفية بدنه لكيفية الماء حتى إذا لبث فيه قاب ساعة أثر فيه الحمام فيسخن وصار كيفية بدنه موافقة لكيفية الماء فتراه حينئذ لا يدرك سخونته بل ربما استبرده بسبب زيادة سخونة بدنه لأجل الهواء على سخونة الماء
المقصد الثاني
المتن
الصحة ملكة أو حالة يصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة وهذا يعم أنواعها وربما تخص بالحيوان أو بالانسان فيقال كيفية لبدن الحيوان أو لبدن الإنسان كما وقع الجميع في كلام ابن سينا وأورد الإمام الرازي على جعلها من الحالة والملكة أن مقابلها المرض وليس منها إذ أجناسه سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال وهي إما من المحسوسة أو من الوضع أو عدم ولا شيء منها بكيفية نفسانية وأورد على هذا الحد الذي ذكره شكوكا
الأول لم قدم الملكة وإنما تكون حالة ثم تصير ملكة
قلنا الملكة اتفق على كونها صحة أو لأن الملكة غاية الحالة
الثاني فيه اضطراب إذ أسند الفعل إلى الموضوع وإلى الصحة ولا يكون إلا أحدهما
قلنا الموضوع فاعل والصحة آلته (2/172)
الثالث السليم هو الصحيح فالتعريف دوري
قلنا والصحة في الأفعال محسوسة وفي البدن غير محسوسة فعرف غير المحسوس بالمحسوس لكونه أجلى وإذا عرفت هذا المرض خلاف الصحة فهي حالة أو ملكة يصدر بها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة فلا واسطة بينهما إذ لا خروج عن النفي والإثبات وأثبت جالينوس فقال الناقة ومن ببعض أعضائه آفة أو يمرض مدة ويصح مدة لا صحيح ولا مريض وأنت تعلم أن ذلك لإهمال شروط التقابل من اتحاد المحل والزمان والجهة وأنه إذا روعي شروط التقابل فلا واسطة وكذا كل متقابلين يمتنع بينهما الواسطة فإنما هو باعتبار شرائط التقابل
الشرح
المقصد الثاني الصحة على ما ذكره ابن سينا في الفصل الأول من القانون ملكة أو حالة لم يكتف بذكر أحديهما تنبيها على أن الصحة قد تكون راسخة وقد لا تكون كصحة الناقه يصدر عنها أي يصدر لأجلها وبواسطتها الأفعال من الموضوع لها سليمة غير مألوفة وهذا التعريف يعم أنواعها إذ يدخل فيه صحة الإنسان وسائر الحيوانات وصحة النبات أيضا إذ لم يعتبر فيه إلا كون العقل الصادر عن الموضوع سليما فالنبات إذا صدر (2/173)
عنه أفعاله من الجذب والهضم والتغذية والتنمية والتوليد سليمة وجب أن يكون صحيحا وربما تخص الصحة وتعريفها بالحيوان أو بالإنسان فيقال الصحة كيفية لبدن الحيوان إلى آخر ما مر أو يقال كيفية لبدن الإنسان إلى آخره كما وقع الجميع في كلام ابن سينا أما الأول فكما عرفت وأما الثاني فقد ذكره في الفصل الثاني من سابعة قاطيغورياس من منطق الشفاء فإنه قال هناك الصحة ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مألوفة وكأنه لم يذكر الحالة ههنا إما للاختلاف فيها وإما لعدم الاعتداد بها وأما الثالث فقد ذكره في الفصل الثاني من التعليم الأول من الفن الثاني من كتاب القانون حيث قال الصحة هيئة بها يكون بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سالمة وأورد الإمام الرازي على جعلها أي جعل الصحة من الحالة والملكة أي من الكيفيات النفسانية سؤالا هو أن مقابلها المرض وليس المرض منها أي من الكيفيات النفسانية فلا تكون الصحة أيضا منها وإنما قلنا إن المرض ليس منها إذ أجناسه أي أنواعه المندرجة تحته باتفاق الأطباء ثلاثة سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال وهي أي هذه الأمور المذكورة إما من الكيفيات المحسوسة أو من مقولة الوضع أو عدم فإن سوء المزاج الذي هو مرض إنما يحصل إذا صار إحدى الكيفيات الأربع أزيد أو أنقص مما ينبغي بحيث لا تبقى الأفعال سليمة فهناك أمور ثلاثة تلك الكيفية وكونها غريبة منافرة وإتصاف البدن بها فإن جعل المرض الذي هو سوء المزاج عبارة عن تلك الكيفية كأن يقال الحمى هي تلك الحرارة الغريبة كان من الكيفيات المحسوسة وإن (2/174)
جعل عبارة عن كون تلك الكيفية غريبة منافرة كان من باب المضاف وإن جعل عبارة عن اتصاف البدن بها كان من قبيل الانفعال واقتصر المصنف من هذه الأقسام الثلاثة على الأول فلذلك حكم بأن سوء المزاج من المحسوسات وأما سوء التركيب فهو عبارة عن مقدار أو عدد أو شكل أو وضع أو انسداد مجرى يخل بالأفعال وليس شيء منها من الكيفيات النفسانية وهو ظاهر وكون هذه الأمور غريبة منافرة من قبيل المضاف واتصاف البدن بها من مقولة أن ينفعل واقتصر المصنف من بينها على اعتبار الوضع فعد سوء التركيب منه وأما تفرق الاتصال فظاهر أنه أمر عدمي فلا يكون كيفية نفسانية ومنهم من أجاب عن ذلك بأن عبارة الأطباء فيها مسامحة والمقصود أن أنواع المرض كيفيات نفسانية غير معتدلة تابعة للأمور المذكورة ومخلة بالأفعال ولا شيء منها أي من الكيفيات المحسوسات والوضع والعدم بكيفية نفسانية فلا يكون شيء من سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال من الكيفيات النفسانية فلا يكون المرض الذي هو جنسها منها أيضا فلا تكون الصحة منها أيضا لأنها تكون عبارة إما عن أمور وجودية مقابلة للأمور التي سميناها مرضا وهو المزاج الملائم والهيئة الملائمة والاتصال الملائم وإما عن أمور عدمية هي عدم تلك الأشياء المسماة بالمرض وعلى التقديرين لم تكن الصحة كيفية نفسانية اللهم إلا إذا ثبت أن هناك كيفيات أخر مغايرة لتلك الوجوديات (2/175)
وهذه العدميات وجعل الصحة عبارة عنها لكن ذلك مما لم يقم عليه شبهة فضلا عن حجة وأورد الإمام الرازي في المباحث المشرقية على هذا الحد الذي ذكره للصحة شكوكا وأجاب عنها أيضا
الأول لم قدم الملكة على الحالة في الذكر وإنما تكون الكيفية النفسانية التي هي الصحة أولا حالة ثم تصير ملكة قلنا الملكة اتفق على كونها صحة والحالة اختلف فيها فقيل هي صحة وقيل واسطة فقدمت لذلك أو لأن الملكة غاية الحالة والعلة الغائية متقدمة في الذهن وإن كانت متأخرة في الوجود
الثاني فيه أي في الحد اضطراب إذ أسند فيه الفعل وصدوره إلى الموضوع وإلى الصحة فإن قوله يصدر عنها الأفعال يدل على أن مبدأ الأفعال هو تلك الحالة والملكة وقوله من الموضوع يدل على أن مبدأها هو الموضوع ولا يكون المسند إليه الفعل بحسب الواقع إلا أحدهما لامتناع صدور فعل واحد من شيئين على أن يكون كل واحد منهما فاعلا له على حدة
قلنا الموضوع فاعل للفعل السليم والصحة آلته في صدور الفعل السليم عنه فقوله عنها أراد به لأجلها وبواسطتها كما أشرنا إليه وقد صرح بهذا المعنى في التعريف الثاني وفي الثالث أيضا وأما ما يقال من أن فاعل أصل الفعل هو الموضوع وفاعل سلامته هو الحالة أو الملكة فليس بشيء إلا أن يؤول بما ذكرناه
الثالث السليم هو الصحيح فالتعريف دوري أي تحديد للشيء بنفسه حيث عرف الصحة بالصحة
قلنا السلامة المأخوذة في تعريف صحة البدن هو صحة الأفعال والصحة في الأفعال محسوسة معلومة بمعاونة الحس والصحة في البدن غير محسوسة فعرف غير المحسوس بالمحسوس لكونه أجلى فلا إشكال وإذا عرفت هذا الذي ذكرناه من حد الصحة وما تعلق به فالمرض (2/176)
خلاف الصحة ومقابلها فهي حالة أو ملكة يصدر بها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة بل مأوفة وهذا يعم أنواع الأمراض في الحيوانات والنباتات وقد يخص على قياس ما تقدم في الصحة بالحيوان أو بالإنسان وأنت خبير بما يرد على هذا الحد مما ذكره الإمام من عدم اندراج المرض في الكيفيات النفسانية وبأن المرض على هذا الحد يقابل الصحة تقابل التضاد وفي القانون أن المرض هيئة مضادة للصحة وفي الفصل الثاني من سابعة قاطيغورياس الشفاء مثل ذلك وفي الفصل الثالث من هذه المقالة السابعة أن المرض من حيث هو مرض بالحقيقة عدمي لست أقول من حيث هو مزاج أو ألم وهذا يدل على أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وفي المباحث المشريقة لا مناقضة بين كلاميه إذ في وقت المرض أمران
أحدهما عدم الأمر الذي كان مبدأ للأفعال السليمة
وثانيهما مبدأ للأفعال المأوفة فإن سمي الأول مرضا كان التقابل تقابل العدم والملكة وإن جعل الثاني مرضا فالتقابل من قبيل التضاد والأظهر أن يقال إن اكتفى في المرض بعدم سلامة الأفعال فذلك يكفيه عدم الصحة المقتضية للسلامة وإن أثبت هناك آفة وجودية فلا بد من إثبات هيئة تقتضيها فكأن ابن سينا كان مترددا في ذلك فلا واسطة بينهما أي بين الصحة والمرض المعرفين بهذين التعريفين إذ لا خروج عن النفي والإثبات فالكيفية التي بها تصدر الأفعال عن موضوعها إما أن تكون أفعالها سليمة أو غير سليمة فالأولى هي الصحة والثانية هي المرض وأثبت جالينوس بينهما واسطة وسماها الحالة الثالثة فقال الناقة ومن ببعض أعضائه آفة أو يمرض مدة كالشتاء ويصح مدة كالصيف لا صحيح ولا مريض وأنت تعلم أن ذلك أي إثبات الواسطة إنما هو لأهمال شروط التقابل من اتحاد (2/177)
المحل والزمان والجهة وتعلم أنه إذا روعي شروط التقابل بين الصحة والمرض فلا واسطة بينهما أصلا لأن العضو الواحد في زمان واحد من جهة واحدة لا يخلو من أن يكون فعله سليما أو غير سليم فلا يتصور واسطة بين الصحة والمرض المعرفين بما مر إذا روعي الشرائط المعتبرة في التقابل وكذا كل متقابلين يمتنع بينهما الواسطة فإنما هو أي امتناع الواسطة بينهما باعتبار شرائط التقابل فإنه إذا أهمل شيء من شرائطه جاز ارتفاعهما معا وحينئذ تثبت الواسطة بينهما
قال ابن سينا من ظن أن بين الصحة والمرض وسطا هو لا صحة ولا مرض فقد نسي الشرائط التي يجب أن تراعى فيما له وسط وما ليس له وسط وتلك الشرائط أن يفرض الموضوع واحدا بعينه في زمان واحد وتكون الجهة والاعتبار واحدا وحينئذ إن جاز أن يخلو الموضوع عنهما كان هناك واسطة وإلا فلا وإذا فرض إنسان واحد واعتبر منه عضو واحد في زمان واحد فلا بد أن يكون إما معتدل المزاج سوي التركيب بحيث يكون فعله سليما وإما أن لا يكون كذلك فلا واسطة إلا أن يحد الصحة والمرض بحد آخر ويشترط فيه شروط لا حاجة إليها يعني أن يشترط في حد الصحة سلامة جميع الأفعال فيخرج سالم البعض ومن كل عضو فيخرج من كان بعض أعضائه مأوفا وفي كل وقت فيخرج من يصح مدة ويمرض مدة وأن لا يكون هناك استعداد يقتضي سهولة الزوال فيخرج الناقة والشيح والطفل ويشترط في حد المرض آفة جميع الأفعال من جميع الأعضاء في جميع الأوقات فتخرج الأمور المذكورة من حده أيضا وتثبت الواسطة قطعا إلا أن النزاع حينئذ يكون لفظيا (2/178)
الفصل الثالث في الكيفيات المختصة بالكميات
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن
أنها عارضة للكم إما وحدها فللمنفصلة كالزوجية والفردية وللمتصلة التثليث والتربيع وإما مع غيرها كالحلقة فإنها مجموع شكل وهو عارض للكم مع اعتبار لون وكالزاوية فإنها هيئة إحاطة الضلعين بالسطح مثلا في ملتقاهما لا باستقامة ومنهم من جعل الزاوية من باب الكم لقبولها التفاوت وأنها توصف بالأصغر والأكبر وبكونها نصفا وثلثا
والجواب أنه إنما يتم أن لو كان عروض ذلك لها بالذات وأنه ممنوع بل لأنه عارض للكم ويبطله أنها تبطل بالتضعيف وتنعدم بخلاف الكم فإنه يزيد
الشرح
الفصل الثالث من فصول الكيف في الكيفيات المختصة بالكميات وفيه مقصدان (2/179)
المقصد الأول أنها أي الكيفيات المختصة بالكميات عارضة للكم وإما وحدها فللمنفصلة كالزوجية والفردية العارضتين للعدد وكذلك الأولية والتركيب وسائر الأعراض الذاتية للأعداد وللمتصلة التثليث والتربيع أي كالتثليث والتربيع فإنهما عارضان للمثلث والمربع وكذلك التخميس والتسديس وغيرهما من الهيئات العارضة للسطوح الكثيرة الأضلاع وإما مع غيرها كالخلقة فإنها مجموع شكل وهو عارض للكم المتصل من حيث أنه محاط بحد واحد أو أكثر مع اعتبار لون
قال الإمام الرازي هذا النوع من الكيفيات هو الكيفية التي تعرض أولا وبالذات للكميات وبتوسطها لغيرها ويدخل في ذلك ما يكون كذلك إما لنفسه كالشكل العارض للمقدار وإما لجزئه كالخلقة فإنها كذلك بواسطة جزئها الذي هو الشكل
فإن قيل الخلقة عارضة للجسم الطبيعي إذ لولاه لم يكن خلقة
قلنا العارض للكمية إما أن يعرض لها من حيث أنها كمية أو من حيث أنها كمية شيء مخصوص وكلا القسمين عارض للكمية ثم إن اللون حامله الأول هو السطح الذي هو نهاية الجسم الطبيعي بتوسط الجسم التعليمي ومعنى كون الجسم ملونا أن سطحه ملون فكلا جزئي الخلقة حامله الأول هو المقدار فالخلقة عارضة بالذات للكم
قال ويتوجه على هذا أن يكون اللون والضوء داخلين في هذا النوع من الكيفيات لأن حاملها الأول هو السطح إذ لا لون ولا ضوء في عمق الجسم وقد يقال اللون قد يكون نافذا في داخل الجسم وكذلك الضوء في المضيء بالذات كالشمس فلا يختصان بالسطح والمتبادر من قوله (2/180)
وكالزاوية أن الزاوية كالخلقة في أنها مركبة من الكيفية المختصة بالكميات مع غيرها وليست كذلك كما يدل عليه قوله فإنها هيئة إحاطة الضلعين بالسطح مثلا في ملتقاهما بالاستقامة فالزاوية هي تلك الهيئة لا الأمر المركب من تلك الهيئة والضلعين والسطح كما يتوهم وأشار بقوله مثلا إلى أن ما ذكره تعريف للزاوية المسطحة دون مطلقها المتناول للزاوية المجسمة وتلخيصه أن الزاوية المسطحة هيئة عارضة للسطح عند ملتقى خطين يحيطان به من غير أن يتحدا خطا واحدا فإنه إذا اتصل خطان على نقطة في سطح من غير أن يتحدا كذلك عرض لذلك السطح عند ملتقاهما هيئة انحدابية فيما بين الخطين المتصلين هي الزاوية وقد تطلق الزاوية على المقدار ذي الزاوية كما يطلق الشكل على المشكل وليس يعتبر في تحققها إحاطتهما بذلك السطح إحاطة تامة بل ربما امتنع إحاطتهما به كذلك كما إذا كان الخطان مستقيمين ولا يعتبر أيضا أن يكون هناك خط آخر يحيط معهما به ولا أن يكون ذانك الخطان متناهيين أو غير متناهيين قصيرين أو طويلين بخلاف الشكل إذ لا بد فيه من الإحاطة التامة فالشكل العارض للمثلث يتوقف على أضلاعه الثلاثة وكل واحدة من زواياه تتوقف على ضلعين فقط فقولنا من غير أن يتحدا احتراز عما إذا اتصل قوسان على نقطة وصارتا قوسا واحدة وأما قوله لا باستقامة فمستغنى عنه إذ لا إحاطة أصلا مع الاستقامة ثم إن الزاوية على التعريف المذكور من مقولة الكيف ومنهم من جعل الزاوية من باب الكم لقبولها التفاوت والتساوي وأنها أي ولأنها توصف بالأصغر والأكبر وبكونها نصفا وثلثا لزاوية أخرى ولا شك أن هذه الصفات أعراض ذاتية للكم فتكون الزاوية كما ولذلك عرف المسطحة بأنها سطح أحاط به خطان يلتقيان عند نقطة من غير أن يتحدا خطا واحدا
والجواب أنه أي هذا الاستدلال إنما يتم أن لو كان عروض ذلك التفاوت والتجزي لها أي للزاوية بالذات حتى يلزم كونها كما وأنه ممنوع بل عروضه لها يجوز أن يكون لأنه أي لأن هذا المعروض الذي هو (2/181)
الزاوية عارض للكم كما في الشكل فإنه يعرض له ذلك بواسطة معروضه الذي هو الكم ويبطله أي يبطل كون الزاوية من الكم أنها تبطل بالتضعيف وتنعدم أما القائمة فإنها كلها تبطل بالتضعيف مرة واحدة بحيث لا تبقى هناك زاوية أصلا وأما الحادة فإنها تبطل إذا كانت نصف قائمة بالتضعيف مرتين كذلك بخلاف الكم فإنه يزيد بالتضعيف ولا يبطل فلا تكون الزاوية القائمة ولا الحادة المذكورة من مقولة الكم فلا يكون مطلق الزاوية من هذه المقولة أيضا ولو أبدل التضعيف بالزيادة لشمل البطلان الزوايا كلها فإن كل زاوية زيد عليها ما يجعلها مساوية لقائمتين لم يبق هناك زاوية أصلا وأما التضعيف فقد لا يبطل المنفرجة ولا الحادة التي هي أصغر من نصف قائمة أو أكبر منه إذ يجوز أن يبقى هناك زاوية في الجهة الأخرى من الخط الآخر نعم يلزم من تضعيف المنفرجة بطلان بعضها وكذا الحال في تلك الحادة إذا ضعفت مرارا وقد يكتفى بذلك في الاستدلال لأن الكم إذا ضعف لم يبطل منه شيء بل يزداد أبدا ومما يدل على أن الزاوية ليست سطحا أنها لا تقبل الانقسام على موازاة الوتر فإن الخط الواصل بين ضلعيها يحدث مثلثا هي بعينها إحدى زواياه كما يشهد به التخيل الصحيح واتفاق المهندسين عليه قاطبة ومنهم من جعل الزاوية من الإضافة فقال هي تماس خطين من غير أن يتحدا وبطلانه ظاهر فإن التماس لا يوصف بالصغر والكبر بخلاف الزاوية ومنهم من جعلها من مقولة الوضع وذهب جماعة إلى أنها أمر عدمي أعني انتهاء السطح عند نقطة مشتركة بين خطين يحيطان به فهذه أقوال خمسة أوردها بعضهم في رسالة صنفها لتحقيق الزاوية وما قيل فيها (2/182)
المقصد الثاني
المتن
قال المهندسون الخط المستقيم خط تقع النقط المفروضة فيه كلها متوازية وأنه إذا أثبت أحد طرفيه وأدير حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الدائرة وهي شكل يحيط به خط في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء ثم إذا أثبت قطر نصف الدائرة وأدير نصف الدائرة حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الكرة وهي جسم يحيط به سطح في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء وإذا أثبت أحد ضلعي المربع المتوازي الأضلاع وأدير حصل الإسطوانة وهو شكل يحيط به دائرتان من طرفيه هما قاعدتاه يصل بينهما سطح مستدير يفرض وسطه خط مواز لكل خط يفرض على سطحه بين قاعدتيه وإذا أثبت الضلع المحيط بالقائمة من المثلث وأدير المثلث حصل المخروط وهو جسم أحد طرفيه دائرة والآخر نقطة ويصل بينهما سطح يفرض عليه الخطوط الواصلة بينهما مستقيمة وهذا كله أمور وهمية لا يعلم وجودها خارجا وعليها مبني علمهم الذي يدعون فيه اليقين
الشرح
المقصد الثاني قال المهندسون الخط المستقيم خط تقع النقطة المفروضة فيه كلها متوازية أي على سمت واحد لا يكون بعضها أخفض وقالوا إنه إذا أثبت أحد طرفيه على حالة وأدير الخط المستقيم على سمت واحد حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الدائرة وهي شكل أي مشكل يحيط به خط في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه أي من تلك النقطة إلى ذلك الخط سواء فتلك النقطة مركز الدائرة وذلك الخط محيطها والخطوط الخارجة منها إليه أنصاف أقطارها والخط (2/183)
المستقيم الخارج من المركز إلى المحيط من الجانبين قطرها وهو منصف لها ثم إذا أثبت قطر نصف الدائرة على وضعه وأدير نصف الدائرة حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الكرة وهي جسم يحيط به سطح في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه أي إلى ذلك السطح سواء فتلك النقطة مركز الكرة وذلك السطح محيطها وتلك الخطوط أنصاف أقطارها والمستقيم الواصل من المركز إلى المحيط في الجانبين قطرها وإذا أثبت أحد ضلعي المربع المتوازي الأضلاع وأدير ذلك المربع حتى عاد إلى وضعه الأول حصل الإسطوانة والعبارة الظاهرة أن يقال إذا أثبت أحد أضلاع سطح متوازي الأضلاع وأدير حصل الإسطوانة المستديرة وهو شكل يحيط به دائرتان متوازيتان من طرفيه هما قاعدتاه يصل بينهما سطح مستدير يفرض وسطه خط مواز لكل خط يفرض على سطحه بين قاعدتيه وذلك لأن الخط المتوسط هو ذلك الضلع المثبت والسطح الواصل بين القاعدتين إنما ارتسم من الضلع الآخر الموازي للمثبت كما أن القاعدتين ارتسمتا من الضلعين الباقيين المتوازيين فلذلك كانتا متوازيتين وإذا أثبت الضلع المحيط بالقائمة أي أحد ضلعي القائمة من المثلث وأدير المثلث حتى يعود إلى وضعه الأول حصل المخروط المستدير وهو جسم أحد طرفيه دائرة هي قاعدته والآخر نقطة هي رأسه ويصل بينهما سطح ينفرض عليه أي على ذلك السطح الخطوط الواصلة بينهما أي بين محيط الدائرة وتلك النقطة مستقيمة واعلم أن ما نقله عنهم إنما ذكروه لتسهيل تخيل هذه الأمور لا لأن وجودها في أنفسها يكون بهذا الطريق كيف والخط عندهم عرض حال في السطح الحال في الجسم فلا يمكن حصول السطح بحركة الخط المتأخر عنه في الوجود ولا حصول الجسم من حركة السطح المتأخر عنه (2/184)
ومن هذا القبيل ما قيل إنه إذا فرض نقطتان تحرك أحديهما إلى الأخرى على سمت واحد حصل الخط المستقيم وإذا أثبت أحد طرفيه وتحرك الخط مسافة قبل أن يصل إلى وضع الاستقامة حصل المثلث وإذا فرض تحرك خط على مثله بحيث يكون قائما عليه دائما حصل المربع الذي هو في اصطلاحهم سطح متساوي الأضلاع قائم الزوايا
قال المصنف وهذا الذي ذكره المهندسون من الخطوط والسطوح والمجسمات كله أمور وهمية لا يعلم وجودها خارجا وعليها مبني علمهم الذي يدعون فيه اليقين وقد يقال قامت البراهين على وجودها في مواضعها وإن سلم كونها أمورا وهمية فلا ينافي ذلك كون أحكامها يقينية ألا ترى أن العدد المركب من الوحدات التي هي أمور اعتبارية له أحكام صادقة بلا شبهة ومن أنكر كونها يقينية فقد كابر وكذا الحال في المباحث الهندسية يعلمها من يزاولها
فإن قيل لا كمال في معرفته أحوال الموهومات
قلنا إن الموهومات قد تكون عارضة في نفس الأمر للأعيان الموجودة فيحصل لتلك الأعيان بسبب ذلك أحكام مطابقة للواقع وقد يستدل بأحكام الأمور الوهمية على أحوال الأمور العينية ولا يخفى شيء من ذلك على من له شعور ببراهين علم الهيئة من الحساب والهندسة
تنبيه
المتن
لو اعتبر المركبات حصلت مقولات غير متناهية والخلقة إنما اعتبرت باعتبار وحدة بحسبها يتصف بالحسن والقبح وهما غير العارضين للشكل وحده أو للون وحده وهذا عذر غير واضح (2/185)
الشرح
تنبيه على ما يرد على جعل الخلقة من الكيفيات المختصة بالكميات وهو أن المعتبر من أنواع المقولات العشر ما يندرج تحت واحدة منها فقط ولو اعتبر المركبات في المقولات وأنواعها حصلت مقولات غير متناهية أي غير محصورة بل كثيرة جدا بحسب الازدواجات الحاصلة بينهما ثناء وثلاث إلى عشار وحصلت أيضا أنواع غير منحصرة فيما ذكروه من أنوعها بحسب التركيب فيما بين تلك الأنواع كأن تركب مثلا الأقسام الأربعة التي للكيف بعضها مع بعض وعلى هذا كان ينبغي أن لا تعد الخلقة من الكيفيات المختصة بالكميات لكونها مركبة من نوعين متخالفين ولكنهم قالوا الخلقة إنما اعتبرت وجعلت داخلة في هذا النوع باعتبار وحدة عرضت لمجموع الشكل واللون بحسبها أي بحسب تلك الوحدة يتصف بالحسن والقبح يعني أن الشكل إذا قارن اللون وحصلت منهما كيفية وحدانيه باعتبارها يصح أن يقال للشيء أنه حسن الصورة أو قبيح الصورة وهما أي الحسن والقبح بحسب الصورة غير الحسن والقبح العارضين للشكل وحده أو للون وحده
قال المصنف وهذا عذر غير واضح لأنهم إن ادعوا أن بين الشكل واللون وحدة حقيقة منعناها وإن اكتفوا بالوحدة الاعتبارية جاز اعتبارها في كل أمرين يجتمعان وقد يقال قد اعتبر الوحدة بينهما في متعارف الناس حيث عبر عنهما بالخلقة ووصف الشخص بحسبهما بحسن الصورة وقبحها فلذلك عددناهما كيفية واحدة وأدرجناهما فيما اندرج فيه جزؤها كما عرفت ولم نجد لها نظيرا في ذلك فاكتفينا بها (2/186)
الفصل الرابع في الكيفيات الاستعدادية
المتن
إما نحو القبول ويسمى ضعفا وإما نحو الدفع واللاقبول ويسمى قوة ولا ضعفا وأما قوة الفعل فليست منها فإن المصارعة مثلا تتعلق بعلم وصلابة الأعضاء لئلا يتأثر بسرعة وبالقدرة وشيء منها ليس من هذا الجنس
الشرح
الفصل الرابع من فصول الكيف في الكيفيات الاستعدادية وهي إما استعداد نحو القبول والانفعال ويسمى ضعفا ولا قوة كالممراضية وإما استعداد نحو الدفع واللاقبول ويسمى قوة ولا ضعفا كالمصحاحية وأما قوة الفعل كالقوة على المصارعة فليست منها أي من الكيفيات الاستعدادية كما ظنه قوم وجعلوا أقسامها ثلاثة فإن المصارعة مثلا تتعلق بعلم بهذا الصناعة وصلابة الأعضاء لئلا يتأثر بسرعة ولا يمكن عطفها بسهولة وتتعلق بالقدرة على هذا الفعل وشيء منها أي من هذه الثلاثة التي تعلق بها المصارعة ليس من هذا الجنس الذي هو الكيفية الاستعدادية لأن العلم والقدرة من الكيفيات النفسانية وصلابة الأعضاء من الكيفيات الملموسة على ما مر (2/187)
المرصد الرابع في النسب
وفيه مقدمة وفصلان
المقدمة
المتن
أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين لوجوه
الأول لو وجدت لزم التسلسل أما أولا فلأن محلها يتصف بها فله إليها نسبة موجودة ويعود الكلام فيها وأما ثانيا فلأن لوجودها إليها نسبة وأما ثالثا فلأن لأجزاء الزمان بعضها إلى بعض نسبة
الثاني لو وجدت لوجدت الإضافة وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين فيوجد المتقدم والمتأخر معا (2/188)
الثالث لو وجدت لزم اتصاف الباري تعالى بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة بأنه موجود معه وقبله بأنه متقدم عليه وبعده بأنه متأخر عنه وأثبتها ضرار والتزم التسلسل ومن ثم أثبت أعراضا غير متناهية
واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض مما نعلمه ضرورة وأجابوا عن أدلة الخصم بأنها إنما تنفي كون جميع النسب موجودة في الخارج ونحن نقول به فإن من الإضافات أمورا موجودة في الخارج حقيقتها أنها إضافة ومنها إضافات يخترعها العقل عند ملاحظة أمرين كالتقدم والتأخر والأول ينتهي عند حد دون الثاني
الشرح
المرصد الرابع من مراصد الموقف الثالث في النسب أي المقولات النسبية وفيه مقدمة لبيان أنها موجودة في الخارج أولا وفصلان لبيان مباحث ما اتفق على وجوده أعني الأين تارة على رأي المتكلمين وتارة على رأي الحكماء
المقدمة أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين فإنهم اعترفوا بوجوده وأنكروا وجود ما عداه منها لوجوه
الأول لو وجدت الأعراض النسبية لزم التسلسل في الأمور الموجودة أما أولا فلأن هذه الأعراض لا بد لها من محل ولا شك أن محلها يتصف بها فله إليها نسبة بالمحلية والاتصاف وهذه النسبة (2/189)
موجودة أيضا على ذلك التقدير ويعود الكلام فيها بأن يقال هذه النسبة أيضا لها محل يتصف بها فله إليها نسبة ثالثة موجودة وهكذا إلى ما لا نهاية له فهذا تسلسل وأما ثانيا فلأن لوجودها الزائد على ماهيتها لما مر إليها نسبة هي اتصافها بالوجود وهذه النسبة أيضا موجودة على ذلك التقدير فلوجودها إليها نسبة ثالثة وهكذا وهذا تسلسل ثان وأما ثالثا فلأن لأجزاء الزمان بعضها إلى بعض نسبة بالتقدم والتأخر فلو كانت النسب موجودة في الأعيان لكان التقدم والتأخر موجودين مع موصوفيهما وما مع المتقدم مقدم فيكون التقدم الموجود مع الزمان المتقدم متقدما على التأخر الموجود مع الزمان المتأخر فللتقدم تقدم آخر وهكذا للتأخر تأخر آخر فهناك تسلسل ثالث بل رابع أيضا
الوجه الثاني لو وجدت النسب لوجدت الإضافة لأنها من النسب لكونها نسبة متكررة وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين مجتمعين ومن أقسام الإضافة التقدم والتأخر فيوجد المتقدم والمتأخر من أجزاء الزمان معا وأنه باطل قطعا
الوجه الثالث لو وجدت النسب في الخارج لزم اتصاف الباري تعالى بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة ثابتة إليه بأنه موجود معه و له قبله أي قبل كل حادث إضافة أخرى إليه بأنه متقدم عليه و له بعده إضافة ثالثة إليه بأنه متأخر عنه وهذه الإضافة حادثة أما التي مع الحادث أو بعده فلا شبهة في حدوثها وأما التي قبله فقد زالت حال وجوده والقديم لا يزول وأثبتها أي الأعراض النسبية ضرار والصواب كما في المحصل معمر فإنه من قدماء المتكلمين لما رأى قوة الحجة التي ذكرها الحكماء على وجودها أذعن لها وحكم بوجودها و حيث لم يجد دفعا للتسلسلات المذكورة التزم التسلسل ومن ثم أثبت أعراضا غير متناهية يقوم بعضها ببعض ولا مخلص له من برهان التطبيق واحتج الحكماء (2/190)
على وجود الأمور النسبية بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض وأمثالهما من النسب مما نعلمه ضرورة أي نعلم بالضرورة أنها ثابتة حاصلة سواء وجد هناك فرض فارض واعتبار معتبر أو لم يوجد ولقائل أن يقول إن ادعيتم أن الفوقية مثلا من الموجودات الخارجية منعناه بل هذا هو المتنازع فيه فيكف يدعي الضرورة فيه وإن قلتم السماء موصوفة بالفوقية في الخارج فلذلك لا يستلزم وجود الفوقية فيه لجواز اتصاف الأعيان الخارجية بالأمور العدمية فإن زيدا أعمى في الخارج وليس العمى موجودا خارجيا وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الشيء قد لا يكون فوقا ثم يصير فوقا فالفوقية التي حصلت بعد العدم لا تكون عدمية وإلا كان نفي النفي نفيا وهو محال ويجاب عنه بأن حصول الفوقية بعد ما لم تكن عبارة عن اتصاف الشيء بها بعد ما لم يكن متصفا وذلك لا يستلزم وجودها كما عرفت وأجابوا عن أدلة الخصم بأنها إنما تنفي كون جميع النسب موجودة في الخارج أي هذه الأدلة تدل على سلب الموجبة الكلية ونحن نقول به فإن من الإضافات والنسب أمورا موجودة في الخارج حقيقتها أنها إضافة كالفوقية والمقابلة ونظائرهما ومنها إضافات لا تحقق لها في الخارج بل يخترعها العقل عند ملاحظة أمرين كالتقدم والتأخر بين أمرين لا يجوز اجتماعهما كأجزاء الزمان والقسم الأول من هذين ينتهي عند حد أي يجب انتهاؤه إلى حد لا يتجاوزه دون الثاني إذ لا يقف عند حد لا يمكن (2/191)
للعقل أن يتجاوزه ويفرض إضافة أخرى بعده وعلى هذا فقد انجلت تلك الأدلة واندفع التسلسل في الأمور الخارجية لجواز أن تنتهي السلسلة إلى نسبة موجودة يكون ما بعدها من النسب اعتبارية إذ ليس يلزم من وجود الفوقية في نفسها أن يكون حلولها في محلها أمرا موجودا أيضا ولا من وجود حلولها وجود حلول الحلول وكون هذه النسب متوافقة في الماهية لا يقتضي اشتراكها في الوجود لجواز أن يكون بعض أفراد الماهية موجودا وبعضها معدوما وقد يجاب عن بعض تلك الأدلة بكونه منقوضا بالأين (2/192)
الفصل الأول في مباحث المتكلمين في الأكوان
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
المتكلمون وإن أنكروا سائر المقولات النسبية فقد اعترفوا بالأين وسموه بالكون وزعم قوم منهم أن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر فسموا الحصول في الحيز بالكائنية والصفة التي هي علة بالكون
قال الإمام الرازي حصول الصفة للشيء معناه تحيزها تبعا لتحيزه فيلزم الدور
والجواب ما قد عرفته مع أنه قد تكون ذات الصفة علة للحصول ويكون تحيزها معللا به فلا دور وربما قال قيام الصفة إن توقف على التحيز لزم الدور وإلا جاز انفكاك العلة عن المعلول وقد يقال إن التوقف بمعنى عدم جواز الانفكاك لا يوجب دورا ممتنعا وهو غير وارد إذا تأملت
تنبيه الأحياز الجزئية الممكنة للمتحيز نسبتها إليه سواء وإنما يقتضي حصوله في حيز ما بحسب ما يقارنه من شرط يعينه والكون هو نسبته إلى (2/193)
الحيز المخصوص فالفرق ظاهر لكن الكلام في ثبوت ذلك المقتضي فإن الحصول في الحيز المخصوص عندنا بخلق الله تعالى
الشرح
الفصل الأول في مباحث المتكلمين في الأكوان وفيه مقاصد سبعة
الأول المتكلمون وإن أنكروا سائر المقولات النسبية فقد اعترفوا بالأين وسموه بالكون والجمهور منهم على أن المقتضي للحصول في الحيز هو ذات الجوهر لا صفة قائمة به فهناك شيئان ذات الجوهر والحصول في الحيز المسمى عندهم بالكون وزعم قوم منهم أعني مثبتي الحال أن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر فسموا الحصول في الحيز بالكائنية والصفة التي هي علة للحصول بالكون فهناك ثلاثة أشياء ذات الجوهر وحصوله في الحيز وعلته
قال الإمام الرازي في الأربعين هذا عندنا باطل إذ حصول الصفة للشيء معناه تحيزها تبعا لتحيزه فإذا فرض أن حصول الجوهر في الحيز معلل بقيام صفة أخرى بالجوهر كان كل واحد من الحصول وتلك الصفة متوقفا على الآخر فيلزم الدور والجواب ما قد عرفته في المرصد الأول من هذا الموقف وهو أنا لا نسلم أن معنى القيام ما ذكر بل هو الاختصاص الناعت مع أنه إن سلم أن معنى القيام ذلك فلا نسلم لزوم الدور لأنه قد تكون ذات الصفة لا قيامها بالجوهر علة للحصول ويكون تحيزها الذي هو قيامها معللا به أي بالحصول فلا دور وقوله ربما قال إشارة إلى (2/194)
ما وجد في نسخة أخرى من الأربعين هكذا قيام الصفة التي هي علة للحصول إن توقف على التحيز أي الحصول في الحيز لزم الدور لأنه لما عللنا حصول الجوهر في حيزه بتلك الصفة القائمة به كان الحصول متوقفا على قيامها به والمفروض أن قيامها به متوقف على ذلك الحصول وهو الدور يرد عليه ما مر من أن العلة ذات الصفة من حيث وجودها في نفسها ولا يلزم من هذا توقف الحصول على قيامها بالجوهر وإلا أي وإن لم يتوقف قيام الصفة على الحصول في الحيز جاز انفكاك العلة التي هي تلك الصفة القائمة بالجوهر عن المعلول الذي هو الحصول في الحيز لأنه لما لم يتوقف قيامها به على الحصول أمكن القيام بدون الحصول فأمكن أن توجد تلك الصفة قائمة بالجوهر خالية عن معلولها الذي هو الحصول وقد يقال إن التوقف بمعنى عدم جواز الانفكاك لا يوجب دورا ممتنعا وتقريره على ما في كتاب الأربعين أنه إن عني بالتوقف وجوب تأخر الموقوف عن الموقوف عليه لم يلزم من عدم التوقف إمكان حصول العلة بدون المعلول وإن عنى به عدم جواز وجوده بدون الموقوف عليه لم يلزم من التوقف بهذا المعنى الدور لجواز أن تكون العلة والمعلول متلازمين مع كون المعلول محتاجا إلى علته بلا عكس
قال المصنف وهو أي ما ذكره هذا القائل غير وارد على كلام الإمام يظهر ذلك عليك إذا تأملت وقد وجهه بعض تلامذته بأن مجرد امتناع الانفكاك من الجانبين وإن لم يستلزم دورا ممتنعا إلا أن ههنا أمرا آخر يستلزمه إذ قد صرح الإمام بأن قيام الصفة بالشيء معناه أن تحيزها تابع لتحيزه ولا شك أن تحيز الجوهر تابع لقيام الصفة لكونه علة له فيلزم (2/195)
الدور الممتنع وهذا مردود أما أولا فلأنه لا تصريح بذلك المعنى في هذه النسخة بل فيها أن قيام الصفة المذكورة بالجوهر إما أن يتوقف على حصوله في الحيز أو لا يتوقف فاستفسار هذا القائل متعلق بما ذكر فيها واعتراضه وارد عليه وأما ثانيا فلأن التمسك بمعنى القيام وجه مستقل كما في النسخة الأولى فلا وجه لجعله جزءا لدليل آخر وأما ثالثا فلأن هذا التوجيه اختيار للشق الأول وهو قوله إن عنى بالتوقف وجوب تأخر الموقوف الخ وهو أن قيام الصفة متوقف على الحصول توقف تأخر وقد أبطله هذا القائل بأن عدمه لا يستلزم إمكان وجود العلة بدون المعلول كما نقلناه عنه لا للشق الثاني المذكور في الكتاب
تنبيه على ما يتمسك به من أثبت الكون علة للكائنية مع الجواب عنه أما التمسك فهو أنهم قالوا الأحياز الجزئية الممكنة للمتحيز الذي هو الجوهر نسبتها إليه سواء فإن ذات الجوهر تقتضي حصوله في حيز ما أي حيز كان وإنما يقتضي حصوله في حيز ما مخصوص بحسب ما يقارنه من شرط يعينه أي يعين ذلك الحيز المخصوص وحصوله فيه فهناك أمران
أحدهما الكائنية أعني الحصول في الحيز المخصوص
وثانيهما الكون الذي هو نسبته أي المقتضى لنسبته إلى الحيز المخصوص وحصوله فيه فالفرق بين الكون الذي هو مقتضي وبين الحصول في الحيز أعني الكائنية المقتضاة ظاهر وأما الجواب فهو قوله لكن أي نحن نسلم أن نسبة الجوهر إلى الأحياز الممكنة على السوية وأنه لا بد لحصوله في حيز معين من مقتض خارج عن ذاته لكن الكلام في ثبوت ذلك المقتضى وأنه ماذا فنحن لا نسلم أن حصوله في الحيز معلل (2/196)
بصفة أخرى قائمة به مسماة بالكون كما يزعمون فإن الحصول في الحيز المخصوص إنما يثبت له عندنا بخلق الله تعالى فلا حاجة إلى إثبات صفة أخرى له
المقصد الثاني
المتن
أنواع الكون أربعة لأن حصوله في الحيز إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا والثاني إن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون وإن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة فالسكون حصول ثان في حيز أول والحركة حصول أول في حيز ثان ويرد على الحصر الحصول في أول الحدوث فإنه غير مسبوق بكون آخر
وقال أبو هاشم إنه سكون
ثم منهم من قال الحركة مجموع سكنات فإن قيل الحركة ضد السكون فكيف تكون مركبة منه قلنا الحركة من الحيز ضد السكون فيه وأما الحركة إلى الحيز فلا تنافي السكون فيه فإنها نفس الكون فيه وهو مماثل للكون الثاني فيه وأنه سكون فكذا هذا ويلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة لأنه مثل الكون الأول وهو حركة إلا أن يعتبر في الحركة ألا تكون مسبوقة بالحصول في ذلك الحيز لا أن تكون مسبوقة بالحصول في حيز آخر وحينئذ لا تكون الحركة مجموع سكنات والنزاع لفظي وأما الأول فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين ذلك الآخر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع وإنما قلنا إمكان التخلل دون وقوع التخلل لجواز أن يكون بينهما خلاء عند المتكلمين فالاجتماع واحد والافتراق مختلف فمنه قرب وبعد متفاوت ومجاورة واعلم أن الاجتماع قائم بكل جزء بالنسبة إلى الآخر لا أنه أمر قائم بهما أو وضع أحدهما إلى الآخر فإنهم لا يثبتونه فالجوهران كل له اجتماع بالآخر فاحفظ هذا فإنه مما يذهب على كثير من عظماء الصناعة (2/197)
الشرح
المقصد الثاني أنواع الكون أربعة هي السكون والحركة والافتراق والاجتماع وذلك لأن حصوله أي حصول الجوهر في الحيز إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا والثاني وهو ما لا يعتبر بالقياس إلى جوهر آخر قسمان لأنه إن كان ذلك الحصول مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون وإن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة وعلى هذا فالسكون حصول ثان في حيز أول والحركة حصول أول في حيز ثان ويرد على الحصر أي على حصر القسم الثاني في الحركة والسكون الحصول في أول الحدوث أي حصول الجوهر في الحيز في أول زمان حدوثه فإنه كون غير مسبوق بكون آخر لا في ذلك الحيز ولا في حيز آخر فلا يكون سكونا ولا حركة فذهب أبو الهذيل إلى بطلان الحصر وقال الجوهر في أول زمان حدوثه كائن لا متحرك ولا ساكن وقال أبو هاشم وأتباعه أنه أي الكون في أول الحدوث سكون لأن الكون الثاني في ذلك الحيز سكون وهما متماثلان لأن كل واحد منهما يوجب اختصاص الجوهر بذلك الحيز وهو أخص صفاتهما فإذا كان أحدهما سكونا كان الآخر كذلك فهؤلاء لم يعتبروا في السكون اللبث والمسبوقية بكون آخر فيلزمهم تركب الحركة من السكنات إذ ليس فيها إلا الأكوان الأول في الأحياز المتعاقبة ثم منهم من التزم ذلك وقال الحركة مجموع سكنات في تلك الأحياز فإن قيل في إبطال ما التزمه هذا القائل الحركة لا شك أنها ضد السكون فكيف تكون الحركة مركبة منه فإن أحد الضدين لا يكون جزءا للآخر قلنا في درء هذا الإبطال ليست الحركة والسكون متضادين على الإطلاق بل الحركة من الحيز ضد السكون (2/198)
فيه إذ لا يتصور اجتماعهما أصلا وأما الحركة إلى الحيز فلا تنافي السكون فيه فإنها أي الحركة إلى الحيز نفس الكون الأول فيه وذلك لأن الخروج عن الحيز السابق عليه عين الدخول فيه وهو أي الكون الأول فيه مماثلا للكون الثاني فيه لما مر من اشتراكهما في أخص صفات النفس وأنه أي الكون الثاني فيه سكون باتفاق فكذا هذا أي الكون الأول لأن المتماثلين لا يتخالفان
قال الآمدي ذلك الاشتراك لا يوجب التماثل لأن المتخالفين قد يشتركان في بعض الصفات ولا نسلم أن ما ذكره أخص صفاتهما وأيضا يلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة لأنه مثل الكون الأول وهو حركة باتفاق وكذا الثاني
قال الآمدي وهذا إشكال مشكل ولعل عند غيري جوابه وأشار المصنف إلى الجواب بقوله إلا أن يعتبر أي يلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة إلا أن يعتبر في الحركة أن تكون مسبوقة بالحصول في ذلك الحيز إلا أن تكون مسبوقة بالحصول في حيز آخر كما مر إذ على هذا لا يكون الكون الثاني حركة لأنه مسبوق بكون آخر في ذلك الحيز ويكون الكون الأول حركة عن المكان السابق مع كونه سكونا في هذا المكان والحاصل أنا لا نعتبر في السكون المسبوقية بكون آخر حتى يكون الكون في أول زمان الحدوث سكونا ونلتزم حينئذ أن تكون الحركة مركبة من السكنات لكنا نعتبر في الحركة عدم المسبوقية بالكون في ذلك الحيز ولا نكتفي بما مر من كونها مسبوقة بالكون في حيز آخر حتى لا يلزمنا أن يكون الكون الثاني حركة وإنما حملنا عبارة الكتاب على اعتبار الأمرين معا (2/199)
في الحركة إذ لو حملت على اعتبار الأول فقط كما هو ظاهرها لزم أن يكون الكون في أول زمان الحدوث حركة ولا قائل به ثم أورد على جوابه إشكالا بقوله وحينئذ أي حين اعتبر في الحركة ما ذكر اندفع ذلك الإشكال لكن لا تكون الحركة مجموع سكنات لأن الكون الثاني سكون وليس جزءا للحركة وهو مردود بأنهم يدعون أن جميع أجزاء الحركة سكنات لأن كل سكون يجب أن يكون جزءا للحركة وهو ظاهر فإن الكون في أول الحدوث سكون عندهم وليس جزءا لحركة أصلا والنزاع في أن الكون في أول زمان الحدوث سكون أو ليس بسكون لفظي فإنه إن فسر السكون بالحصول في المكان مطلقا كان ذلك الكون سكونا ولزم تركب الحركة من السكنات لأنها مركبة من الأكوان الأول في الأحيان كما عرفت وإن فسر بالكون المسبوق بكون آخر في ذلك الحيز لم يكن ذلك الكون سكونا ولا حركة بل واسطة بينهما ولم يلزم أيضا تركب الحركة من السكنات فإن الكون الأول في المكان الثاني أعني الدخول فيه هو عين الخروج من المكان الأول ولا شك أن الخروج عن الأول حركة فكذا الدخول فيه وأما الأول وهو أن يعتبر حصول الجوهر في الجوهر في الحيز بالنسبة إلى جوهر آخر فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين ذلك الآخر جوهر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع وإنما قلنا إمكان التخلل دون وقوع التخلل لجواز أن يكون بينهما خلاء أي مكان خال عن المتحيز عند المتكلمين فإنهم يجوزونه فالاجتماع واحد لا يتصور إلا على وجه واحد هو أن لا يمكن تخلل ثالث بينهما والافتراق مختلف على وجوه متنوعة فمنه قرب ومنه بعد متفاوت في مراتب البعد ومنه مجاورة جعلها من أقسام الافتراق وسيصرح بأن المجاورة عين الاجتماع واعلم أن الاجتماع قائم بكل جزء أي جوهر بالنسبة إلى الآخر لا أنه أمر واحد قائم بهما معا فإنه غير جائز عندهم لما مر من أن العرض الواحد لا يقوم بشيئين لا على أن يقوم بكل واحد منهما وهو ظاهر ولا أن يقوم بهما معا وإلا لم يكن واحدا حقيقة أو وضع أحدهما أي ولا أن الاجتماع (2/200)
وضع أحد الجوهرين بالنسبة إلى الآخر فإنهم أي المتكلمين لا يثبتونه أي الوضع ويثبتون الاجتماع فالجوهران المجتمعان كل واحد منهما له اجتماع بالآخر قائم به فهناك اجتماعان متحدان بالماهية ومختلفان بالهوية فاحفظ هذا الذي ذكرناه فإنه مما يذهب على كثير من عظماء الصناعة الكلامية فمنهم من يتوهم أن اجتماعا واحدا قائم بمحلين ومنهم من يتوهم أن الاجتماع من مقولة الوضع
المقصد الثالث
المتن
الكون وجوده ضروري وكذا أنواعه الأربعة إذ حاصلها كما علمت عائد إلى الكون والمميزات أمور اعتبارية نحو كونه مسبوقا بكون آخر أو غير مسبوق به وإمكان تخلل ثالث وعدمه
وقال الحكماء السكون عدم الحركة عما من شأنه أن يكون متحركا
تنبيه إذا قلنا ليس في الخارج إلا الكون والفصول المميزة أمور اعتبارية كان تسميتها أنواعا مجازا وإنما هو نوع واحد بل إذ الكون الواحد بالشخص يعرض له أنه اجتماع بالنسبة إلى جزء وافتراق بالنسبة إلى جزء آخر ولو فرضنا جوهرا فردا خلقه الله تعالى وحده لم يتصف باجتماع ولا افتراق وإذا خلق معه غيره عرضا له والكون بحاله
الشرح
المقصد الثالث الكون أي الحصول في الحيز وجوده ضروري (2/201)
بشهادة الحس وكذا أنواعه الأربعة على رأي المتكلمين موجودة إذ حاصلها كما علمت من التقسيم عائد إلى الكون الذي هو نوع واحد في الحقيقة والمميزات التي بها تميزت تلك الأنواع بعضها عن بعض أمور اعتبارية لا فصول حقيقية منوعة نحو كونه مسبوقا بكون آخر إما في مكان آخر كما في الحركة أو في ذلك المكان كما في السكون على رأي أو غير مسبوق به أي بكون آخر على معنى أنه لا يعتبر كونه مسبوقا بكون آخر كما في السكون على رأي آخر ونحو إمكان تخلل ثالث بينهما وعدمه كما في الافتراق والاجتماع ولا شبهة في أن هذه الأمور الاعتبارية لا وجود لها في الخارج
وقال الحكماء السكون عدم الحركة عما من شأنه أن يكون متحركا فالمجردات لا توصف بالسكون الذي هو أمر عدمي عندهم إذ ليس من شأنها الحركة
تنبيه إذا قلنا ليس في الخارج إلا الكون والفصول المميزة المذكورة أمور اعتبارية لا فصول حقيقية منوعة كان تسميتها أنواعا مجازا وإنما هو نوع واحد يعرض له صفات متخالفة لا توجب اختلافا في الماهية بل ربما لا توجب أيضا اختلافا في الهوية الشخصية إذا الكون الواحد بالشخص يعرض له أنه اجتماع بالنسبة إلى جزء وافتراق بالنسبة إلى جزء آخر ولو فرضنا جوهرا فردا خلقه الله تعالى وحده لم يتصف باجتماع ولا افتراق ما دام منفردا وإذا خلق الله تعالى بعد ذلك معه غيره عرضا له والكون الثابت له أو لا باق بحاله لم تتغير ذاته الشخصية بل صفته (2/202)
المقصد الرابع
المتن
فيما اختلف في كونه متحركا وذلك في صورتين
الأولى إذا تحرك الجسم فاتفقوا على حركة الجواهر الظاهرة منه واختلفوا في المتوسط الباطن فقيل متحرك إذ لو سكن لزم الانفكاك ولأنه في الكل والكل في حيز الكل فهو في حيز الكل وقد خرج عنه إلى آخر وقيل غير متحرك إذ حيزه الجواهر المحيطة به والأولون جعلوه هو البعد المفروض الذي يشغله وكذلك اختلف في المستقر في السفينة المتحركة وأنه أولى بالحركة إذ هو يفارق بعض السطح المحيطة به
الحق أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير الحيز كما نبهتك عليه
الثانية إذا كان الجوهر مستقرا في مكانه وتحرك عليه آخر بحيث تتبدل المحاذاة فالمستقر متحرك وألزم ما إذا تحرك عليه جوهران كل إلى جهة فيجب أن يكون متحركا إلى جهتين في حالة واحدة فيقال وذلك إنما يمتنع في حركة يزول بها المتحرك عن مكانه دون ما يزول بها المكان عنه وشدد النكير عليه ولا معنى له لأنه نزاع في التسمية
الشرح
المقصد الرابع فيما اختلف في كونه متحركا وذلك في صورتين
الأولى إذا تحرك جسم من مكان إلى آخر فاتفقوا على حركة الجواهر الظاهرة منه لأنها قد فارقت أحيازها واختلفوا في الجوهر المتوسط الباطن منه فقيل متحرك وإلا كان ساكنا إذ لا واسطة بينهما فيما هو قابل لهما بعد أول زمان حدوثه وليس بساكن إذ لو سكن مع (2/203)
حركة باقي الأجزاء لزم الانفكاك وانفصال بعض الأجزاء عن بعض والمحسوس خلافه ولأنه أي الجوهر المتوسط داخل في الكل والكل داخل في حيز الكل فهو داخل في حيز الكل فيكون متحيزا به أيضا وقد خرج الجوهر المتوسط عنه أي عن حيز الكل إلى حيز آخر إذ المفروض أن الكل خرج بتمامه عن حيزه فيكون هو أيضا متحركا وقيل الجوهر المتوسط غير متحرك إذ حيزه الجواهر المحيطة به وأنه لم يفارقها ولم ينفصل عنها فهو مستقر في حيزه فلا يكون متحركا والأولون القائلون بكونه متحركا جعلوه أي جعلوا حيز الجوهر المتوسط هو البعد المفروض الذي يشغله الجوهر المتوسط وهو بعض من حيز الكل ولا شك أنه قد فارقه فيكون متحركا فالاختلاف راجع إلى تفسير الحيز كما سيصرح به وكذلك اختلف في المستقر في السفينة المتحركة فقيل ليس بمتحرك كالجوهر المتوسط وقيل متحرك وكيف لا وأنه أولى بالحركة من الجوهر المتوسط إذ هو يفارق بعض السطح المحيط به أعني الجواهر الهوائية التي أحاطت به من فوقه بخلاف المتوسط فإنه لا يفارق شيئا من السطح المحيط به والحق أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير الحيز كما نبهتك عليه آنفا فإن فسر بالبعد المفروض كان المستقر في السفينة المتحركة متحركا كالجوهر المتوسط لخروج كل منهما حينئذ من حيز إلى حيز آخر وإن فسر بالجواهر المحيطة لم يكن الجوهر الوسطاني مفارقا لحيزه أصلا وأما المستقر المذكور فإنه يفارق بعضا من الجوهر المحيطة به دون بعض وإن فسر الحيز بما اعتمد عليه ثقل الجوهر كما هو المتعارف عند الجمهور لم يكن المستقر مفارقا لمكانه أصلا
الصورة الثانية قال الأستاذ أبو إسحق إذا كان الجوهر مستقرا في (2/204)
مكانه وتحرك عليه جوهر آخر من جهة إلى جهة بحيث تتبدل المحاذاة بينهما فالمستقر في مكانه متحرك وألزم على هذا القول ما إذا تحرك عليه أي على الجوهر المستقر جوهران كل منهما إلى جهة مخالفة لجهة الآخر فيجب أن يكون الجوهر المستقر متحركا إلى جهتين مختلفتين في حالة واحدة وهو باطل بالضرورة فيقال لدفع هذا الإلزام الحركة قسمان قسم يزول به المتحرك عن مكانه وقسم لا يزول به عنه بل يزول به مكانه عنه وذلك الذي ذكرتموه من كون الشيء الواحد في حالة واحدة متحركا إلى جهتين إنما يمتنع في حركة يزول بها المتحرك عن مكانه دون ما يزول بها المكان عنه كما في الصورة التي فرضتموها وشدد النكير عليه أي على قول الأستاذ ولا معنى له أي للإنكار وتشديده لأنه نزاع في التسمية فإن الأستاذ أطلق اسم الحركة على اختلاف المحاذيات سواء كان مبدأ الاختلاف في المتحرك أو في غيره فلزمه اجتماع الحركتين إلى جهتين فالتزمه كما أن جماعة أطلقوا اسم السكون على الكون مطلقا فلزمهم تركب الحركة من السكنات بل كون الحركة عن المكان الأول عين السكون في المكان الثاني فالتزموها والمخالفون له يطلقونه على القسم الأول ولا مشاحة في الاصطلاحات
المقصد الخامس
المتن
يجوز وجود جوهر فرد محفوف بستة جواهر من جهاته الست إلا ما نقل عن بعض المتكلمين أنه منع ذلك حذرا من لزوم تجزيه وهو مكابرة (2/205)
للمحسوس ومانع من تأليف الأجسام من الجواهر واتفقوا على المجاورة والتأليف بين ذلك الجوهر والجواهر المحيطة به ثم اختلفوا
فقال الشيخ والمعتزلة المجاورة غير الكون لحصول حال الانفراد دونها والتأليف والمماسة غير المجاورة بل هما أمران يتبعان المجاورة والمباينة أي الافتراق ضد للمجاورة فلذلك تنافي التأليف لا لأنه ضده
ثم قال الشيخ المجاورة واحدة وأما المماسة والتأليف فيتعدد فهنا ست تأليفات وهي تغنيه عن كون سابع يخصصه بحيزه
وقالت المعتزلة المجاورة بين الرطب واليابس تولد تأليفا قائما بهما فههنا تأليف واحد وإذا جاز قيامه بالكثير فلا فرق بين الاثنين وأكثر
وقيل ست تأليفات لا سبع حذرا من انفراد كل جزء بتأليف وأبطلوا وحدة التأليف بأنه يزول بمباينة واحدة تأليف جوهر معه وتأليف الخمسة معه باق فظهر التغاير إذ ما بطل غير ما لم يبطل ضرورة
وقال الأستاذ المماسة نفس المجاورة وأنهما متعددتان ضرورة فالمباينة ضد لهما حقيقة
وقال القاضي إذا خص جوهر بحيز ثم توارد عليه مماسات ومجاورات آخر ثم زالت فالكون قبل وبعد واحد لم يتغير وإنما تعددت الأسماء بحسب اعتبارات وهذا أقرب إلى الحق بناء على عدم اشتراط البينة
فروع
الأول الجوهر الفرد له ست مماسات معينة وضدها ست مباينات (2/206)
غير معينة هذا قبل المماسة وأما بعدها فقال في قول يضادها ست مباينات غير معينة وفي قول ست معينة هي الطارئة على المماسات هذا بناء على أن المماسة غير الكون
الثاني المتوسط بين الجوهرين كلما قرب من أحدهما بعد عن الآخر
فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين البعد من الآخر
وقال الأستاذ غيره إذ قد يقرب من أحدهما ولا يبعد من الآخر بأن يتحرك الآخر معه إلى جهة حركته اللهم إلا أن يراد أن الكون واحد كما هو مذهب الأستاذ وليس ثمة أمر زائد هي المباينة والمجاورة فيكون النزاع لفظيا
الثالث الجوهر إذا ماس من جهة فهل يقال إنه مباين من الجهة الأخرى لعدم المماسة أم لا لأنه لا يمكن المجاورة من تلك الجهة حينئذ وهذا نزاع لفظي
الرابع يجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم
وقيل لا إذ لا تجوز المجاورة ويكفي جوازه بدلا والذي حداني على إيراد هذه الأبحاث أمران معرفة اصطلاح القوم وتحقيق ما ذهبوا إليه في حقيقة الأكوان تسلقا إليها مما قالوا به من لوازمها وأن لا تظن بكتابنا هذا إعوازه لها قصورا وإلا فلا تجدي في المطالب المهمة زيادة طائل ولولا هاتان الغايتان لم نطول الكتاب وليس من دأبي الإسهاب وأذكر هذا العذر لدي ما عسى تعثر عليه في غير هذا الموضع فتكف عني لائمتك
الشرح
المقصد الخامس اتفق القائلون بالأكوان على أنه يجوز وجود (2/207)
جوهر فرد محفوف بستة جواهر ملاقية له من جهاته الست إلا ما نقل عن بعض المتكلمين من أنه منع ذلك ولم يجوز ملاقاة الجوهر الفرد لأكثر من جوهر واحد حذرا من لزوم تجزيه وهو مكابرة وإنكار للمحسوس فإن الحس يشهد بالتلاقي بين الجواهر من جميع الجهات وهو مانع من تأليف الأجسام من الجواهر الفردة فإنه إذا لم يمكن التلاقي من جميع الجوانب كيف يتحصل منها الجسم الطويل العريض العميق بل لا يكون هناك إلا جواهر مبثوثة غير متلاقية ولا ممكنة التلاقي واتفقوا أيضا على المجاورة والتأليف بين ذلك الجوهر والجواهر المحيطة به ثم اختلفوا فقال الشيخ الأشعري والمعتزلة المجاورة أي الاجتماع الذي هو كون الجوهرين بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث كما مر غير الكون الذي يوجب تخصيص الجوهر بحيزه بل هي أمر زائد عليه وذلك لحصوله أي حصول الكون للجوهر حال الانفراد عما عداه من الجواهر دونها أي دون المجاورة فإنها غير حاصلة للجوهر حال انفراده عن غيره فيتغايران قطعا وقال الشيخ والمعتزلة أيضا التأليف والمماسة غير المجاورة بل هما أمران زائدان على المجاورة يتبعان المجاورة ويحدثان عقيبها وقالوا أيضا المباينة أي الافتراق المفسر بما تقدم ضد للمجاورة التي هي شرط للتأليف فلذلك تنافي المباينة التأليف لأن ضد الشرط ينافي المشروط لا لأنه ضده أي لا لأن المباينة بتأويل الافتراق ضد التأليف
ثم قال الشيخ وحده المجاورة القائمة بالجوهر الفرد واحدة وإن تعدد المجاور له وأما المماسة والتأليف فيتعدد كل واحد منهما بحسب (2/208)
تعدد المؤتلف معه والمماس له فههنا أي فيما إذا أحاط بالجوهر الفرد ستة من الجواهر في جهاته ست تأليفات وست مماسات ومجاورة واحدة وهي أي المماسات الست تغنيه عن كون سابع يخصصه بحيزه وقالت المعتزلة المجاورة بين الجوهر الرطب و الجوهر اليابس تولد تأليفا واحدا بينهما قائما بهما ثم اختلفوا فيما إذا تألف الجوهر مع ستة من الجواهر فقيل يقوم بالجواهر السبعة تأليف واحد فإنه لما لم يبعد قيامه بجوهرين لم يبعد قيامه بأكثر وإليه أشار بقوله فههنا أي فيما إذا أحاط بجوهر واحد ستة من الجواهر في جهاته تأليف واحد وإذا جاز قيامه بالكثير فلا فرق بين الاثنين وأكثر وقيل ههنا ست تأليفات لا سبع حذرا من انفراد كل جزء من الجواهر السبعة بتأليف على حدة وأبطلوا أي أبطل هؤلاء وحدة التأليف التي ذهبت إليها الطائفة الأولى بأنه قد مر أن الماهية مضادة لشرط التأليف أعني المجاورة فتكون منافية له ولا شك أنه يزول بمباينة واحدة تأليف جوهر واحد من الستة معه أي مع الجوهر المحاط بها وتأليف الخمسة معه باق بحاله فظهر التغاير إذ ما بطل غير ما لم يبطل ضرورة لاستحالة أن يبطل التأليف الواحد من وجه دون وجه
وقال الأستاذ أبو إسحاق المماسة بين الجواهر نفس المجاورة بينهما وأنهما متعددان بحسب تعدد المجاور المماس ضرورة فالمباينة على رأيه ضد لهما حقيقة وذلك لأنها ضد للمجاورة بالاتفاق والمجاورة عين المماسة والتأليف على أصله فتكون المباينة عنده ضد المماسة والتأليف حقيقة
وقال القاضي أبو بكر إذا خص جوهر بحيز أي حصل فيه ثم توارد عليه مماسات ومجاورات من جواهر أخر ثم زالت تلك المماسات والمجاورات عنه فالكون الحاصل لذلك الجوهر قبل وبعد أي قبل (2/209)
المماسات وبعدها واحد لم يتغير ذاته ولم يتعدد وإنما تعددت الأسماء بحسب اعتبارات فإن الكون الحاصل له قبل انضمام الجواهر إليه يسمى سكونا والكون المتجدد له حال الانضمام وإن كان مماثلا للكون الأول يسمى اجتماعا وتأليفا ومجاورة ومماسة والكون المتجدد له بعد زوال الانضمام يسمى مباينة والأكوان المختلفة على أصله ليست غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة على أصله ليست غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة وهذا الذي ذكره القاضي أقرب إلى الحق بناء على أصول أصحابنا من عدم اشتراط البينة المخصوصة لقيام عرض من الأعراض بمحله ومن امتناع أن يكون الجوهر أو ما قام به مؤثرا في حكم جوهر آخر لأن حكم الجوهر يمتنع أن يستفاد مما ليس قائما به سواء كان مباينا له أو غير مباين واقتصر المصنف على حكاية هذه المذاهب والتنبيه على أن قول القاضي أقرب إلى الصواب ولم يتعرض لما أورده الآمدي من تزييفاتها لأنه زيادة تضييع للأوقات
فروع على أصول أصحابنا في الاجتماع والافتراق
الأول الجوهر الفرد المنفرد من غيره يتصور له ست مماسات معينه لأن ما يماسه لا يكون إلا معينا وضدها أي ضد تلك المماسات المعينة ست مباينات غير معينة لأن ما باينه من الجواهر غير معين فإن ضم إليه جوهر واحد كان فيه خمس مباينات غير معينة مضادة لخمس مماسات معينة وعلى هذا النحو إذا ضم إليه جوهر ثالث أو أكثر هذا إذا كانت المباينة قبل المماسة وأما إذا كانت بعدها فقال الشيخ في قول يضادها أي يضاد المماسات الست المعينة ست مباينات غير معينة كما في القسم الأول و قال في قول آخر يضادها ست من المباينات معينة هي المباينات الطارئة على المماسات المعينة (2/210)
قال الآمدي هذا بناء من الشيخ على أن المماسة وكذا المباينة عرض غير الكون المخصص للجوهر بحيزه كما هو بحيز كما هو مذهبه ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون ما للجوهر من الكون غير مختلف ويكون الاختلاف عائدا إلى التسميات كما ذكره القاضي
الفرع الثاني الجوهر المتوسط بين الجوهرين الكائنين في حيزين بينهما أحياز كلما قرب من أحدهما بعد عن الآخر بلا شبهة فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين البعد من الآخر وقال الأستاذ غيره وهو الحق إذ قد يقرب من أحدهما ولا يبعده من الآخر بأن يتحرك الآخر معه إلى جهة حركته بمقدار حركته فبطل ما قاله الأصحاب اللهم إلا أن يراد أن يكون مرادهم بما قالوه أن الكون واحد أي الكون الموصوف بالقرب عين الكون الموصوف بالبعد كما هو مذهب الأستاذ وليس ثمة أمر زائد على الكون هي المباينة والمجاورة فيكون النزاع لفظيا إذ مرادهم أن نفس الكون لا يختلف إنما المختلف هو الاعتبارات ومراده أن الكون المأخوذ مع ما وصف به مختلف
قال الآمدي إذا ضم جوهر ثالث إلى أحد هذين الجوهرين فلا شك أنه قريب من المنضم إليه وبعيد من الآخر فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين بعده من الآخر وقال الأستاذ القرب غير البعد ألا يرى أنه إذا قدر انضمام الجوهر البعيد إلى القريب زال بعد المتوسط عن ذلك البعيد ولم يزل قربه من القريب قال وما ذكره الأستاذ مبني على أن البعد هو المباينة والقرب هو المجاورة وأن كل جوهر فرد له ست مباينات لستة (2/211)
جواهر فإذا جاور جوهرا فقد زالت مباينة واحدة وبقيت خمس مباينات على ما هو أصله والحق ما ذكره الأصحاب فإنه مبني على أن الكون القائم بالجوهر لا يختلف وإنما يختلف التسميات كما ذكره القاضي
الفرع الثالث الجوهر الفرد إذا ماس جوهرا آخر من جهة فهل يقال إنه مباين لذلك الجوهر الآخر من الجهة الأخرى كما ذهب إليه بعض المتكلمين لعدم حصول المماسة في تلك الجهة الأخرى أم لا يقال ذلك كما ذهب إليه الأستاذ لأنه لا يمكن المجاورة والمماسة من تلك الجهة الأخرى حينئذ أي حين هو مماس له من الجهة الأولى وهذا نزاع لفظي لأنه إن اعتبر في المباينة إمكان المماسات في تلك الحالة فالحق هو الثاني وإن لم يعتبر فالحق هو الأول
الفرع الرابع يجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم بحيث لا يتصف شيء منها بالاجتماع مع غيره كما إذا تبدلت وزال تركيبها بالكلية وقيل لا يجوز إذ لا تجوز المجاورة بين الكل ولا بد في المباينة من إمكان المجاورة
قال المصنف ويكفي يعني في الوصف بالمباينة جوازها أي جواز المجاورة بين الكل بدلا ولا شبهة في هذا الجواز وإنما الممتنع هو المجاورة بين الكل على الاجتماع ثم قال والذي حداني وبعثني على إيراد هذه الأبحاث أمران
أحدهما معرفة اصطلاح القوم وتحقيق ما ذهبوا إليه في حقيقة الأكوان تسلقا تعليل للتحقيق إليها أي إلى حقيقة الأكوان مما قالوا به من لوازمها وأحوالها يعني أنه إذا عرف الاصطلاح لم يقع الخبط في المسائل المبنية على الاصطلاحات المختلفة وإذا حقق ما قالوه في تفسير الأكوان وأحوالها فربما يتوصل به إلى معرفة حقيقتها
وثانيهما أن لا تظن بكتابنا هذا إعوازه لها أي لهذه الأبحاث قصورا فيه وإلا فلا تجدي المباحث المذكورة في المطالب المهمة (2/212)
التي هي العقائد الدينية وما تتوقف هي عليها زيادة طائل وفائدة ولولا هاتان الغايتان المذكورتان لم نطول الكتاب بذكرها وليس من دأبي الإسهاب في الكلام بل تحقيق المرام بالإيجاز الضابط لما هو مقتضى المقام واذكر أي احفظ وتذكر هذا العذر الذي مهدناه لك ههنا لدى ما عسى تعثر عليه من قبيل هذه الأبحاث في غير هذا الموضع فتكف بالنصب على أنه جواب الأمر عني لائمتك أي لومك
المقصد السادس
المتن
من لم يجعل المماسة كونا أطلق القول بتضاد الأكوان لأن الكونين إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد أو بحيزين والأول اجتماع المثلين والثاني يوجب حصول الجوهر في آن واحد في حيزين ومن جعلها كونا كالشيخ والأستاذ فلم يجعلها أضدادا ولا مماثلة بل مختلفة
الشرح
المقصد السادس من لم يجعل المماسة كونا قائما بالجوهر كالقاضي وأتباعه أطلق القول بتضاد الأكوان على معنى أن كل كونين فهما متضادان لأن الكونين المجتمعين فرضا إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد أو بحيزين والأول اجتماع المثلين لأن كل واحد من الكونين مثل للآخر والمثلان ضدان لا يجتمعان بل لا يتصور وجودهما في الجوهر إلا على سبيل التعاقب كما إذا كان مستقرا في حيز واحد أكثر من (2/213)
زمان فإن الكون المتجدد في الزمن الثاني مماثل للكون الموجود في الزمن الأول لقيام كل واحد منهما مقام الآخر في تخصيص الجوهر بذلك الحيز والثاني يوجب حصول الجوهر في آن واحد في حيزين فامتنع اجتماع الكونين مطلقا فهما متضادان ومن جعلها أي المماسة كونا مخصوصا قائما بالجوهر وجوز قيام المماسات المتعددة بالجوهر الواحد كالشيخ والأستاذ فلم يجعلها أي الأكوان أضدادا ولا مماثلة بل مختلفة لجواز اجتماعها في جوهر واحد
قال الآمدي والحق هو الأول لما سبق من أن المماسة المباينة اعتبارات موجبة للاختلاف في التسمية
المقصد السابع
المتن
في اختلافات للمعتزلة بناء على أصولهم
أحدها أنهم بعد اتفاقهم على بقاء الأعراض اختلفوا في بقاء الحركة فنفاه الجبائي وأكثر المعتزلة إذ لو بقيت كانت سكونا والتالي باطل أما الملازمة فإذ لا معنى للسكون إلا الكون المستمر في حيز واحد وأما بطلان التالي فلتضاد الحركة والسكون
وبالجملة فالحاصل في الآن الثاني سكون فيجب أن يكون كونا آخر لا الكون الأول وإلا فالسكون هو الحركة بعينه والضرورة تنفيه كيف والحركة توجب الخروج عن ذلك الحيز دون السكون ويمكن الجواب بما مر من أن المنافي للسكون هو الحركة من الحيز لا إليه والحركة لا توجب الخروج عنه بل هو الخروج وأنه نفس الحصول في الحيز الثاني الذي هو السكون وبه قال أبو هاشم (2/214)
ثانيها ذهب أبو هاشم وأكثر المعتزلة إلى بقاء السكون واستثنى الجبائي صورتين
الأولى ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات فأمسكه الله تعالى في الجو لأن من أصله أن الطارى الحادث أقوى من الباقي فلو كان السكون باقيا لهوى الثقيل بما يتجدد فيه من الاعتمادات
الثانية السكون المقدور للحي إذ لو بقي لم يكن مقدورا فيجب لو أمر بالحركة ولم يتحرك أن لا يأثم وهو خلاف الاجماع ولزب هذا بأبي هاشم والتزم العقاب بعدم الفعل فلقب بالذهني
ثالثها قال الجبائي الحركة والسكون مدركان لحاسة البصر واللمس فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينيه وهو ساكن أو متحرك أدرك التفرقة بين الحالتين ومنعه أبو هاشم بأن الكون لو كان مدركا لكان مدركا بخصوصيته إذ الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود بل بخصوصية المدرك واللازم باطل فإن راكب السفينة قد لا يدرك حركة السفينة ولا سكون الشط ومن نقل في النوم إلى غير حيزه فإذا استيقظ لم يدركه بخلاف ما لو لون بغير لونه
رابعها قال الجبائي التأليف ملموس ومبصر إذ نفرق بين الأشكال المختلفة وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة ومنعه ابنه في أحد قوليه فقال ذلك قد يكون بالنظر إلى الأكوان أو المحاذيات أو غيرها واحتج بأنه لو رؤي التأليف وهو قائم بالصفحتين من الجسم العليا وما تحتها لرؤيت الصفحتان وإنما يصح لو لم يقل إن المدرك جواهر الصفحة العليا وتأليف جواهرها بعضها مع بعض لا تأليف الصفحتين
خامسها قال الجبائي التأليف مختلف باختلاف الأشكال لما مر (2/215)
ومنعه ابنه لأن التأليفين مشتركان في أخص صفة النفس وهو القيام بمحلين بناء على أصله وإن سلم ففيه مصادرة
سادسها قال الجبائي التأليف قد يقع مباشرا كمن يضم أصبعيه ومنعه ابنه إذ يمتنع دون المجاورة المولدة له
سابعها ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الرطب واليابس وإن ولدت التأليف فليست شرطا له لأنها لو كانت شرطا للابتداء لكانت شرطا في الدوام كأصل المجاورة وليس كذلك كاليواقيت الصم الصلاب وهو منقوض بالقدرة عندهم ومنهم من قال إنها للدوران ومع ضعفه فلعل ذلك عائد إلى اختلاف أجناس التأليف
الشرح
المقصد السابع في اختلافات للمعتزلة في أحكام الأكوان بناء على أصولهم
أحدها أنهم بعد اتفاقهم على بقاء الأعراض اختلفوا في بقاء الحركة فنفاه الجبائي وأكثر المعتزلة إذ لو بقيت الحركة كانت سكونا والتالي باطل أما الملازمة فإذ لا معنى للسكون إلا الكون المستمر في حيز واحد والحركة هي الكون في الحيز الأول فلو كانت باقية كانت في الزمن الثاني كونا مستمرا في الحيز الثاني فيكون عين السكون وأما بطلان (2/216)
التالي فلتضاد الحركة والسكون ومن المستحيل أن يكون أحد الضدين عين الآخر وبالجملة فالحاصل أي فالكون الحاصل في الآن الثاني في الحيز الثاني سكون بالاتفاق فيجب أن يكون الحاصل في الآن الثاني كونا آخر متجددا لا الكون الأول الذي هو حركة وإلا فالسكون هو الحركة بعينه والضرورة تنفيه كيف والحركة التي هي الكون الأول في الحيز الثاني توجب الخروج عن ذلك الحيز أي الحيز الأول دون السكون الذي ذكرناه وهو الكون الثاني في الحيز الثاني فإنه لا يوجب ذلك الخروج فيتغايران قطعا ويمكن الجواب بمنع بطلان التالي بما مر من أن المنافي للسكون والمضاد له هو الحركة من الحيز فإنها لا تجامع السكون فيه لا الحركة إليه فإنها لا تنافي السكون فيه فجاز أن تكون الحركة إلى مكان عين السكون فيه وقولهم الحركة توجب الخروج عن الحيز الأول ليس بصحيح لأنها لا توجب الخروج عنه بل الحركة هو الخروج عن الحيز الأول وأنه نفس الحصول في الحيز الثاني الذي هو السكون
فإن قلت لا يخفى أن الكون الأول في الحيز الثاني هو عين الخروج عن الحيز الأول كما ذكرتم إلا الكون الثاني في الحيز الثاني ليس عين الخروج عن الأول فهما متغايران
قلت إنما يصح ذلك أن لو ثبت تعدد الكونين في الحيز الثاني على تقدير اتحادهما كان الثاني منهما كالأول عين الخروج عن الحيز الأول وبه قال أبو هاشم أي أنه قال ببقاء الحركة وبأن الكون الأول في الحيز الثاني هو الحركة وهو بعينه الكون الذي في الزمن الثاني المسمى بالسكون
ثانيها أي ثاني الاختلافات أنه ذهب أبو هاشم وأكثر المعتزلة إلى (2/217)
بقاء السكون من غير تفصيل واستثنى الجبائي ومن تابعه صورتين أي قالوا ببقاء السكون إلا في صورتين
الأولى ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات المتجددة فأمسكه الله تعالى في الجو من غير أن يكون تحته ما يقله فلا بد ههنا من تجدد السكون فيه وإنما ذهب إلى ذلك لأن من أصله أن الطارئ الحادث أقوى من الباقي فلو كان السكون باقيا لا متجددا لهوى ذلك الجسم الثقيل بما يتجدد فيه من الاعتمادات
الصورة الثانية السكون المقدور للحي فإنه لا بد أن يكون متجددا إذ لو بقي لم يكن مقدورا لأن تأثير القدرة إنما هو الإحداث ولا يتصور الإحداث حالة البقاء فيجب حينئذ لو أمر الحي بالحركة ولم يتحرك بل استمر على ما كان عليه من السكون أن لا يأثم إذ لا إثم على أصلهم إلا على أمر مقدور والسكون المضاد للحركة إذا كان باقيا لم يكن مقدورا فلا يكون آثما به وهو خلاف الإجماع بخلاف ما إذا كان السكون متجددا ولزب هذا الذي ذكره الجبائي في إثبات الصورة الثانية بأبي هاشم فلم يجد عنه محيصا والتزم التأثم والعقاب بعدم الفعل في هذه الصورة مع انتفاء القدرة على ضده المستلزم لعدمه إذ ليس هناك شيء يتصور صدوره عنه سوى هذا الضد الذي هو السكون فلقب بالذهني إما لأنه رجع عن مقتضى أصولهم في أن الثواب والعقاب إنما يتعلقان بما يصدر عن المكلف بقدرته وستر مذهبه في الذهن وإما لأنه أثبت التأثم والعقاب بأمر يدرك بالذهن وليس صادرا عن المكلف أصلا
ثالثها قال الجبائي الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينه وهو أي ذلك الجوهر ساكن أو متحرك أدرك بالحاستين التفرقة بين الحالتين أي حالتي السكون (2/218)
والحركة وعلم أنه إما ساكن أو متحرك ضرورة ومنعه أبو هاشم واحتج بأن الحركة عين الكون في الحيز بعد أن كان في غيره وذلك الكون هو السكون بعينه في الزمن الثاني كما هو مذهبه ثم إن الكون ليس مدركا بالحواس إذ لو كان مدركا لكان مدركا بخصوصيته إذ الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود بل بخصوصية المدرك واللازم باطل فإن خصوصية الكون في الأحياز المعينة غير مدركة ألا يرى أن راكب السفينة قد لا يدرك حركة السفينة ولا سكون الشط فإنها إذا كانت سهلة الجري على الماء غير مضطربة عليه فإن راكبها لا يدرك تفرقة بين خصوصيات أكوانها في الأحياز الهوائية المتبدلة عليها بخرقها الهواء بل ربما توهم أنها ساكنة في حيز واحد من الهواء وأن الشط متحرك إلى خلاف جهة حركتها ومن نقل في النوم إلى غير حيزه تبدل عليه كونه بكون آخر فإذا استيقظ لم يدركه ولم يجد اختلافا في حالتيه مع القطع باختلاف الكونين المخصصين له بالحيزين ويظهر ذلك فيمن كان هاويا في الجو متبدلا أحيازه عليه فلو غلبه عيناه وهو في حيز وانتقل منه في نومه إلى حيز آخر ثم استيقظ فإنه لا يجد تفرقة بين كونيه في حيزيه بخلاف ما لو لون في نومه بغير لونه فإنه يدركه ويميزه عن لونه السابق بالضرورة
ورابعها قال الجبائي التأليف ملموس ومبصر أي مدرك بالقوة اللامسة والباصرة إذ نحن نفرق بين الأشكال المختلفة ونميز بعضها عن بعض وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة أو لمسها فلا بد أن تكون تلك التأليفات محسوسة بهاتين الحاستين ومنعه ابنه في أحد قوليه فقال ذلك الفرق قد يكون بالنظر إلى الأكوان أي المجاورات المختلفة المولدة للتأليفات المتفاوتة أو المحاذيات المتخالفة أو غيرها من الأمور المتعلقة بالجواهر سوى التأليف (2/219)
واحتج أبو هاشم على سبيل المعارضة بأنه لو رؤي التأليف وهو أمر واحد قائم بالصفحتين من الجسم العليا وما تحتها لرؤيت الصفحتان معا وذلك لأن تأليفا واحدا قام بكل جزئين من الصفحتين فإذا رؤي قائما بالصفحة العليا فقد رؤي قائما بالصفحة التي تحتها ضرورة اتحاده وإنما يصح هذا الاحتجاج على أبيه لو لم يقل أن المدرك جواهر الصفحة العليا وتأليف جواهرها بعضها مع بعض لا تأليف الصفحتين يعني أنه لا يقول أن التأليف جواهر الصفحة العليا مع ما تحتها مدرك حتى ينتهض عليه هذه المعارضة بل يقول إن المرئي تأليف جواهر الصفحة العليا فيما بينها على أن لقائل أن يقول إذا جاز عندك قيام تأليف واحد بجوهرين فلم لا يجوز انقسامه بحيث يكون مدركا من أحد الطرفين دون الآخر فلا يلزم رؤية الصفحتين معا
خامسها قال الجبائي التأليف مختلف باختلاف الأشكال لما مر من أنا نفرق بين الأشكال المختلفة وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة فإنه لو قدر التساوي والتشابه في تأليفات الأجسام لما اختلفت أشكالها ومنعه ابنه وقال إن التأليفات متجانسة لأن التأليفين مشتركان في أخص صفة النفس وهو القيام بمحلين بناء على أصله الفاسد وإن سلم ذلك الأصل ففيه أي في هذا الاستدلال مصادرة لأنه يجوز أن تكون التأليفات مختلفة ومشتركة في عارض يلزمها وكون ما ذكره من أخص صفات التأليف إنما يثبت إذا لم تكن التأليفات مختلفة فالمقدمة المذكورة في الدليل متوقفة على ثبوت المطلوب وهو المصادرة
سادسها قال الجبائي التأليف قد يقع مباشرا بالقدرة كمن يضم إصبعيه ومنعه ابنه إذ يمتنع وقوع التأليف دون المجاورة المولدة له وهذا (2/220)
لازم على الجبائي لاتفاق المعتزلة على أن المتولد من السبب لا يكون مباشرا بالقدر الحادثة دون توسط السبب وإن كان ذلك باطلا على أصول أصحابنا
سابعها ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الجوهر الرطب والجوهر اليابس وإن ولدت التأليف بينهما كما مر فليست المجاورة المذكورة شرطا له لأنها لو كانت شرطا للابتداء أي شرطا للتأليف في ابتداء حدوثه لكانت شرطا له في الدوام كأصل المجاورة فإنه شرط للتأليف ابتداء ودواما وليس الأمر كذلك وليس الأمر كذلك كاليواقيت والصخور الصم الصلاب ونحوها فإنها لا رطوبة فيها أصلا مع قوة التأليف فيما بين جواهرها وهو أي هذا الاستدلال منقوض بالقدرة فإن تعلقها بالمقدور عندهم شرط لوجوده ابتداء لا دواما
ومنهم من قال إنها أي المجاورة بين الرطب واليابس شرط للدوران فإن التأليف الذي يصعب معه الفك والتجزئة لا يتحقق بدون الرطوبة واليبوسة ويتحقق معهما فهذا التأليف دائر مع المجاورة المذكورة وجودا وعدما فهي شرط له ومع ضعفه أي ضعف الدوران وعدم دلالته على أن المدار شرط للدائر فلعل ذلك أي الاختلاف بين المتجاورات في صعوبة التفكيك والتجزئة عائد إلى اختلاف أجناس التأليف كما ذهب إليه الجبائي لا إلى رطوبة بعض الجواهر المتجاورة ويبوسة بعضها (2/221)
الفصل الثاني في مباحث الأين
على رأي الحكماء وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
قال الحكماء الحركة كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة وذلك أن كل ما هو بالقوة فإنه لا يكون بالقوة من كل وجه وإلا فعدم محض بل بالفعل من وجه وبالقوة من وجه آخر والمتحرك له حركة بالفعل وهو أمر حصل له بعد أن لم يكن فهو كمال له إذ معنى الكمال ذلك وإنه يؤدي إلى حصول ممكن آخر له وهو الحصول في المنتهى فهذا كمال ثان وذلك كمال أول ثم إنه ما دام متحركا فشيء منه بعد بالقوة فهو لما هو بالقوة وكونه بالقوة باعتبار عارض للمتحرك وإلا فهو كمال أيضا فلذلك اعتبرنا الحيثية وفي انطباق هذا الحد على الحركة المستديرة نظر إذ لا منتهى لها إلا بالوهم فليس هناك كمالان أول وثان وهذا قريب مما قاله قدماؤهم أنها خروج من القوة إلى الفعل بالتدريج لكن عدلوا عن ذلك لأن التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان فيقع في تعريفه الزمان وهو يعرف بأنه مقدار الحركة فيلزم الدور وبقولهم بالتدريج وقع الاحتراز عن مثل تبدل الصورة النارية بالهوائية فإنه دفعي
الشرح
الفصل الثاني في مباحث الأين على رأي الحكماء وفيه مقاصد ثلاثة عشر (2/222)
المقصد الأول قال الحكماء الجسم إما أن يكون متحركا أو لا يكون والثاني هو الساكن لأن السكون عندهم كما مر عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك والحركة عرفها أرسطو ومن تابعه بأنها كمال أول لما بالقوة أي لمحل يكون بالقوة من حيث هو بالقوة وبيان ذلك أن كل ما هو بالقوة من الموجودات فإنه لا يكون بالقوة من كل وجه وإلا فعدم محض إذ يكون حينئذ بالقوة في كونه موجودا فلا يكون موجودا هذا خلف ويلزم أيضا أن يكون بالقوة في كونه بالقوة فتكون القوة حاصلة وغير حاصلة بل يكون بالفعل من وجه ولو في كونه موجودا ومتصفا بالقوة لا أقل من ذلك ويكون بالقوة من وجه آخر لأنا فرضناه كذلك فظهر أن الموجود يستحيل أن يكون بالقوة من جميع الوجوه فهو إما بالفعل من جميع الجهات كالعقول على رأيهم أو بالفعل في بعضها وبالقوة في بعضها والقسم الأول يستحيل عليه الحركة لأنها طلب لشيء وتوجه إليه وذلك غير متصور فيه لأن جميع ما يمكن أن يكون له فهو حاصل بالفعل فلا طلب فلا حركة بل لا تغير فيه ولا انتقال من حال إلى حال أصلا بخلاف القسم الثاني إذ يتصور فيه الحركة والانتقال الدفعي أيضا وإذا عرفت هذا فنقول المتحرك أي الموصوف بالحركة له حركة بالفعل حال اتصافه بها وهو أي الحركة أمر حصل له بعد أن لم يكن حاصلا له عند استقراره في مكانه أو على حاله فهو أي ذلك الأمر الحاصل بعد ما لم يكن كمال له أي للمتحرك إذ معنى الكمال ذلك هذا إشارة إلى المطلق (2/223)
المذكور في ضمن المقيد أي معنى الكمال هو الحاصل بالفعل سواء كان مسبوقا بالقوة كما في حركات الحيوانات أو غير مسبوق بها كما في الكمالات الدائمة الحصول والحركات الأزلية على رأي الفلاسفة وإنما سمي الحاصل بالفعل كمالا لأن في القوة نقصانا والفعل تام بالقياس إليها وهذه التسمية لا تقتضي سبق القوة بل يكفيها تصورها وفرضها وقد يعتبر في مفهوم الكمال كونه لائقا بما حصل فيه لكنه ليس بمعتبر ههنا إذ لا يجب أن تكون الحركة لائقة بصاحبها وأنه أي ذلك الأمر الذي هو الحركة يؤدي المتحرك إلى حصول ممكن آخر له وهو الحصول في المنتهى مثلا فهذا الممكن الآخر كمال ثان إذا حصل بالفعل وذلك الأمر المؤدي إليه وهو الحركة الحاصلة كمال أول بالقياس إلى ذلك الممكن الذي يترتب عليه ويجب أن يكون ثابتا بالقوة مادامت الحركة ثابتة بالفعل ثم إنه أي المتحرك مادام متحركا بالفعل فشيء منه أي من الكمال الأول الذي هو الحركة بعد بالقوة فهو أي ذلك الكمال الأول إنما يثبت لما هو بالقوة من وجهين
أحدهما ذلك الكمال الثاني المترقب حال الحركة
وثانيهما نفس هذا الكمال الأول وتوضيحه أن الجسم إذا كان في مكان مثلا وأمكن حصوله في مكان آخر فله هناك إمكانان إمكان الحصول في المكان الثاني وإمكان التوجه إليه وكل ما هو ممكن الحصول له فإنه إذا حصل كان كمالا له فكل من التوجه إلى المكان الثاني والحصول فيه كمال إلا أن التوجه متقدم على الحصول لا محالة فوجب أن يكون الحصول بالقوة ما دام التوجه بالفعل فالتوجه كمال أول للجسم الذي يجب أن يكون بالقوة في كماله الثاني الذي هو الحصول ثم إن التوجه ما دام موجودا فقد بقي منه شيء بالقوة فالحركة تفارق سائر الكمالات بخاصتين
إحديهما إنها من حيث أن حقيقتها هي التأدي إلى الغير والسلوك إليه تستلزم أن يكون هناك مطلوب ممكن الحصول غير حاصل معها بالفعل ليكون التأدي إليه وليس شيء من سائر الكمالات بهذه الصفة (2/224)
وثانيتهما أنها تقتضي أن يكون شيء منها بالقوة فإن المتحرك إنما يكون متحركا إذا لم يصل إلى المقصد فإنه إذا وصل إليه فقد انقطعت حركته وما دام لم يصل فقد بقي من الحركة شيء بالقوة فهوية الحركة مستلزمة لأن يكون محلها حال اتصافه بها مشتملا على قوتين قوة بالقياس إليها وأخرى بالقياس إلى ما هو المقصود بها أما القوة التي بالنسبة إلى المقصود فمشتركة بلا تفاوت بين الحركة بمعنى القطع والحركة بمعنى التوسط فإن الجسم مادام في المسافة لم يكن واصلا إلى المنتهى وإذا وصل إليه لم يبق حركة أصلا وأما القوة الأخرى ففيها تفاوت بينهما فإن الحركة بمعنى القطع حال اتصاف المتحرك بها يكون بعض أجزائها بالقوة وبعضها بالفعل فالقوة والفعل في ذات شيء واحد والحركة بمعنى التوسط إذا حصلت كانت بالفعل ولم يكن هناك قوة متعلقة بذاتها بل بنسبتها إلى حدود المسافة وتلك النسب خارجة عن ذاتها عارضة لها كما ستطلع عليه فقد انكشف لك أن الحركة كمال بالمعنى المذكور للجسم الذي هو بالقوة في ذلك الكمال وفيما يتأدى إليه ذلك الكمال وبقيد الأولية تخرج الكمالات الثانية وبقيد الحيثية المتعلقة بالأول تخرج الكمالات الأولى على الإطلاق أعني الصور النوعية لأنواع الأجسام والصور الجسمية للجسم المطلق فإنها كمالات أولى لما بالقوة لكن لا من هذه الحيثية بل مطلقا لأن تحصل هذه الأنواع والجسم المطلق في أنفسها إنما هو بهذه الصور وما عداها من أحوالها تابعة لها بخلاف الحركة فإنها كمال أول من هذه الحيثية فقط وذلك لأن الحركة في الحقيقة من الكمالات الثانية بالقياس إلى الصور النوعية والجسمية وإنما اتصف بالأولية لاستلزامها ترتب كمال (2/225)
آخر عليها بحيث يجب كونه بالقوة معها فهي أول بالقياس إلى ذلك الكمال وكونه بالقوة معها لا مطلقا وكونه أي كون المتحرك بالقوة إنما هو باعتبار عارض للمتحرك وذلك العارض هو الكمال الثاني المقصود حصوله بالحركة ونفس الحركة أيضا فإن المتحرك موصوف بالقوة باعتبار هذين العارضين لا باعتبار ذاته بالفعل في صورته الجسمية والنوعية فلا يصح أن يقال لما بالقوة ويراد أن محل الحركة بالقوة في ذاته لأنه إذا كان بالقوة في ذاته لم يتصور اتصافه بالحركة فقوله لما بالقوة معناه لما هو بالقوة في شيء من عوارضه لا في ذاته وإلا أي وإن لم يرد له هذا المعنى فهو أي المتحرك كمال أي بحسب ذاته وصورته أيضا كمالا بحسب حركته والمقصود أنه إن لم يرد به كونه بالقوة في عارضه بل أريد كونه بالقوة في ذاته لم يصح لأنه ليس بالقوة في ذاته بل بالفعل فلذلك أي فلأن كونه بالقوة إنما هو باعتبار عارض اعتبرنا الحيثية إذ لو أريد كونه بالقوة في ذاته كما يتبادر من العبارة لم يكن لاعتبار الحيثية معنى وحاصل ما ذكره أن قيد الحيثية يفيد أن القوة بحسب العارض دون الذات وذلك لا ينافي كونه احترازا عما ذكرناه
قال المصنف وفي انطباق هذا الحد على الحركة المستديرة الأزلية الأبدية على زعمهم نظر إذ لا منتهى لها إلا بالوهم فليس هناك كمالان أول هو الحركة وثان هو الوصول إلى المنتهى نعم إذا اعتبر وضع من الأوضاع واعتبر ما قبله دون ما بعده كانت الحركة السابقة كمالا أولا بالقياس إلى ذلك الوضع إلا أن هذا منتهى بحسب الوهم دون الواقع فيكون بمنزلة ما إذا اعتبر حد من الحدود الواقعة في أثناء مسافة الحركة (2/226)
ويجعل ذلك منتهى للحركة السابقة عليه ولا شبهة في أن المتبادر من التعريف أن تكون الحركة كمالا أولا بحسب نفس الأمر لا بمجرد التوهم فقط وفي الملخص أن تصور الحركة أسهل مما ذكر في هذا التعريف فإن كل عاقل يدرك التفرقة بين كون الجسم متحركا وبين كونه ساكنا وأما الأمور المذكورة في تعريفها فمما لا يتصورها إلا الأذكياء من الناس وقد أجيب عنه بأن ما أورده يدل على تصورها بوجه ما والتصديق بحصولها للأجسام لا على تصور حقيقتها وهذا الذي ذكره المعلم الأول وأتباعه في تحديد الحركة قريب مما قاله قدماؤهم من أنها خروج من القوة إلى الفعل بالتدريج فإنهم قالوا الخروج من القوة إلى الفعل إما أن يكون دفعة أو لا دفعة والثاني هو المسمى بالحركة فحقيقة الحركة هي الحدوث أو الحصول أو الخروج من القوة إلى الفعل إما يسيرا يسيرا أو لا دفعة أو بالتدريج وكل واحدة من هذه العبارات صالحة لإفادة تصور الحركة لكن متأخروهم عدلوا عن ذلك لأن التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان بل نقول هو وقوع الشيء في آن بعد آن فيتوقف تصور التدريج على تصور الآن المتوقف تصوره على تصور الزمان لأنه طرفه وكذا معنى يسيرا يسيرا هو معنى التدريج وتصور اللادفعة موقوف على تصور الدفعة وهي عبارة عن الحصول في الآن فإن الأمور الواقعة في تعريف الحركة ينتهي تحليلها إلى تصور الزمان الذي هو مقدار الحركة فالتعريف دوري وإلى هذا أشار بقوله فيقع في تعريفه أي تعريف التدريج الزمان وهو يعرف بأنه مقدار الحركة فيلزم الدور
قال الإمام الرازي أجاب بعض الفضلاء عن ذلك بأن تصور الدفعة واللادفعة والتدريج ويسيرا يسيرا تصورات أوليه لإعانة الحس عليها وأما الآن (2/227)
والزمان فهما سببان لهذه الأمور في الوجود لا في التصور فجاز أن تعرف حقيقة الحركة بهذه الأمور الأولية التصور ثم تجعل الحركة معرفة للآن والزمان اللذين هما سببا هذه الأمور في الوجود قال وهذا جواب حسن وبقولهم بالتدريج أو ما في معناه وقع الاحتراز عن مثل تبدل الصورة النارية بالهوائية فإنه انتقال دفعي ولا يسمونه حركة بل كونا فاسدا
المقصد الثاني
المتن
إن الحركة تقال لمعنيين
الأول التوجه وهو كيفية بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى لا يكون في حيز آنين وهو أمر مستمر من أول المسافة إلى آخرها وهي بهذا المعنى تنافي الاستقرار فتكون ضدا للسكون في الحيز المنتقل عنه وإليه بخلاف من جعلها الكون في الحيز الثاني واعلم أن مبناه اتصال الأحياز وعدم تفاصلها أصلا بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وسنتكلم عليه ونستوفي القول فيه
الثاني الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها ولا وجود لها إلا في التوهم إذ عند الحصول في الجزء الثاني من المسافة بطل نسبتها إلى الجزء الأول منها ضرورة نعم لما ارتسم نسبته إلى الجزء الثاني في الخيال قبل أن تزول نسبته إلى الأول عنه يتخيل أمر ممتد كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة المدارة في الحس المشترك فيرى خطا أو دائرة وأنت تعلم من هذا أن قبولها للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام لا يمنع أن يكون وهميا فلا يتم دليل إثبات الزمان (2/228)
الشرح
المقصد الثاني ذهب أرسطو إلى أن الحركة تقال بالاشتراك اللفظي لمعنيين
الأول التوجه إلى المقصد وهو كيفية وصفة بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى اللذين للمسافة ولا يكون في حيز من الأحياز الواقعة فيما بين المبدأ والمنتهى آنين بل يكون في كل آن في حيز آخر ويسمى الحركة بمعنى التوسط وقد يعبر عنها بأنها كون الجسم بحيث أي حد من حدود المسافة يفرض لا يكون هو قبل آن الوصل إليه ولا بعده حاصلا فيه وبأنها كون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى بحيث أي آن يفرض يكون حاله في ذلك الآن مخالفا لحاله في آنين يحيطان به والاعتراض بأن تصور الآن والقبلية والبعدية يتوقف على تصور الزمان المتوقف على تصور الحركة فيلزم الدور مردود بأن هذه الأمور جلية غير محتاجة إلى تعريف كما أشرنا إليه وهو أي الحركة بهذا المعنى أمر موجود في الخارج فإنا نعلم بمعاونة الحس أن للمتحرك حالة مخصوصة ليست ثابتة له في المبدأ ولا في المنتهى بل فيما بينهما مستمر من أول المسافة إلى آخرها فإن هذه الحالة توجد دفعة وتستمر إلى المنتهى وتستلزم اختلاف نسب المتحرك إلى حدود المسافة كما عرفت فهي باعتبار ذاتها مستمرة وباعتبار نسبتها إلى تلك الحدود سيالة وبواسطة استمرارها وسيلانها تعقل في الخيال أمرا ممتدا غير قار هو الحركة بمعنى القطع كما مر
فإن قيل الحركة الممدودة لا تكون عبارة عن التوسط المطلق لأنه أمر كلي ولا وجود للكليات في الخارج فإذن الحركة الموجودة هي الحصول في حد معين وذلك الحصول أمر آني غير منقسم في امتداد (2/229)
المسافة والذي يليه يكون مغايرا له فتكون الحركة مركبة من أمور آنية الوجود متتالية فيلزم تركب المسافة من أجزاء لا تتجزأ وهو باطل عندهم
قلنا الحركة بمعنى التوسط أمر موجود في الآن ومستمر باستمرار الزمان على معنى أنه موجود في كل آن يفرض في ذلك الزمان كالبياض الواحد الموجود في الآن مع استمراره في الزمان وهي متشخصة بوحدة الموضوع والزمان وما فيه فالحركة الواحدة بالعدد هي التوسط بين المبدأ والمنتهى الحاصل لموضوع واحد في زمان واحد في شيء واحد فإذا فرض في المسافة حدود معينة فعند وصول المتحرك إلى واحد منها يعرض لذلك التوسط آن صار حصولا في ذلك الوسط ووصولا إلى ذلك الحد وهذا أمر زائد على ذاته الشخصية عارض له فإذا خرج الجسم عن ذلك الحد فقد زال عنه عارض من عوارض ذاته المشخصة وحصل عارض آخر ثم إن تعاقب هذه العوارض بحيث لا يمكن فرض عارض ثالث بين عارضين متعاقبين منها لا يتصور إلا بتتالي النقط في المسافة إذا امتنع هذا امتنع تتالي العوارض أيضا وهي بهذا المعنى أي الحركة بمعنى التوجه والتوسط تنافي الاستقرار أي استقرار المتحرك في حيز واحد سواء كان منتقلا عنه أو منتقلا إليه أما منافاته للأول فظاهرة وأما منافاته للثاني فلأنه للثاني فلأنه لو استقر بعد المبدأ في حيز لكان حاصلا في المنتهى لا متوسطا بينه وبين المبدأ فتكون الحركة ضدا للسكون في الحيز المنتقل عنه وللسكون في الحيز المنتقل إليه أيضا بخلاف من جعلها أي الحركة الكون في الحيز الثاني فإنها إذا جعلت نفس الكون في الحيز الثاني كانت مضادة للسكون في المنتقل عنه دون السكون في المنتقل إليه كما مر واعلم أن مبناه أي مبنى ما ذكره من الحركة بمعنى التوسط ووجودها في الخارج اتصال (2/230)
الأحياز في أنفسها وعدم تفاصلها إلى أمور لا تنقسم أصلا بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وسنتكلم عليه ونستوفي القول فيه وذلك لأن الجسم إذا كان مركبا من الجواهر الأفراد فإذا تحرك لم يكن هناك حركة واحدة ومتحرك واحد بل هناك حركات ومتحركات بعد تلك الجواهر فالمتحرك الواحد هو الجوهر الفرد الواحد وإذا كانت المسافة مركبة من تلك الجواهر وفرضنا أن جوهرا واحدا انتقل من جوهر إلى جوهر آخر متصل به فقد حصل الحركة قطعا وليس هناك توسط بين المبدأ والمنتهى بل ليس هناك إلا الكون في الجوهر الأول وليس بحركة قطعا والكون في الجوهر الثاني وهو الحركة المعرفة بالكون الأول في الحيز الثاني وأما إذا قيل بامتناع الجوهر الفرد وتركب الجسم منه فالجسم إذا انتقل من مكان إلى آخر فلا بد أن يكون بينها امتداد منقسم في جهة الحركة هو المسافة فالمكان الأول مبدأ تلك المسافة والمكان الثاني منتهاها وتلك المسافة يمكن أن يفرض فيها حدود غير منقسمة في امتداد الحركة والمسافة نقطا كانت أو خطوطا أو سطوحا لا يمكن فرضها متتالية وإلا كانت المسافة مركبة من أجزاء لا تتجزأ إما بالفعل أو بالقوة وذلك محال فالمتحرك فيها له فيما بين مبدئها ومنتهاها حالة مخصوصة شخصية تختلف نسبتها إلى تلك الحدود بحسب الآنات المفروضة التي لا يمكن أيضا فرضها متتالية بل كل آنين مفروضين بينهما زمان يمكن أن يفرض فيه آنات أخر
المعنى الثاني للحركة هو الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها وهو الحركة بمعنى القطع ولا وجود لها إلا في التوهم لاستحالة وجودها في الأعيان إذ عند الحصول في الجزء الثاني من المسافة بطل نسبتها أي نسبة الحركة والأظهر أن يقال بطل نسبته إلى نسبة المتحرك (2/231)
إلى الجزء الأول منها ضرورة فلا يوجد هناك أمر ممتد من مبدئها إلى منتهاها وبعبارة أخرى المتحرك ما لم يصل إلى المنتهى لم توجد الحركة بتمامها وإذا وصل فقد انقطعت الحركة فلا وجود لها في الخارج أصلا
فإن قلت إذا وصل إلى المنتهى فالحركة اتصفت حال الوصول بأنها وجدت في جميع ذلك الزمان لا في شيء من أجزائه
قلت حصول الشيء الواحد في نفسه على سبيل التدريج غير معقول لأن الحاصل في الجزء الأول من الزمان لا بد أن يكون مغايرا لما يحصل في الجزء الثاني لامتناع أن يكون الموجود عين المعدوم فيكون هناك أشياء متغايرة متعاقبة لا يتصل بعضها ببعض اتصالا حقيقيا لامتناع أن يتصل المعدوم بالموجود كذلك ويكون كل واحد منها حاصلا دفعة لا تدريجا فلا وجود للحركة بمعنى القطع في الخارج نعم لها وجود في الذهن فإنه لما ارتسم نسبته أي نسبة المتحرك إلى الجزء الثاني الذي أدركه في الخيال قبل أن تزول نسبته إلى الجزء الأول الذي ترك عنه أي عن الخيال يتخيل أمر ممتد يعني أن للمتحرك نسبة إلى المكان الذي تركه ونسبة إلى المكان الذي أدركه فإذا ارتسمت في الخيال صورة كونه في المكان الأول وقبل زوالها عن الخيال ارتسمت فيه صورة كونه في المكان الثاني فقد اجتمعت الصورتان في الخيال فيشعر الذهن بالصورتين معا على أنهما شيء واحد ممتد كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة المدارة أمر ممتد في الحس المشترك فيرى لذلك خطا أو دائرة كما مر في صدر الكتاب في مباحث أغلاط الحس وإنما لم تكن الحركة بمعنى القطع مرئية مثلهما لأن اجتماع الصور فيها إنما هو في الخيال لا في الحس المشترك (2/232)
وأنت تعلم من هذا الذي ذكرناه في تحقيق الحركة معنى القطع وتصويرها أن قبولها للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام لا يمنع أن يكون هي أمرا وهميا لأن قبولها لهذه الأمور إنما هو بحسب التوهم فإن الأمر الممتد الموهوم يتصف بها قطعا فلا يتم دليل إثبات الزمان وذلك إما لأن العمدة في إثباته قبوله للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام كما مر ويجوز أن يكون قبوله لها في التوهم فقط وذلك لا يمنع كونه أمرا وهميا وإما لأن الزمان مقدار الحركة بمعنى القطع على المذهب المختار عندهم فإذا لم يكن لهذه الحركة وجود لم يكن لمقدارها أيضا وجود فيكون هذا معارضا لأدلة وجوده فلا يترتب عليها مدلولها وهو المراد بعدم تمامها وقد سلف منا في مباحث الزمان تحقيق أن الموجود من الحركة والزمان أمر لا ينقسم في امتداد المسافة وأنهما يرسمان في الخيال الحركة والزمان المنقسمين في ذلك الامتداد فارجع إليه
المقصد الثالث
المتن
فيما يقع فيه الحركة من المقولات عندهم وهي أربع
الأولى الكم وهو على أربعة أوجه
الأول التخلخل وهو ازدياد حجم الجسم من غير أن ينضم إليه جسم آخر ويثبته أن الماء إذا انجمد صغر حجمه وإذا ذاب عاد إلى حجمه الأول فبين أنه لم يكن انفصل عنه جزء ثم عاد وأيضا فالقارورة تكب على الماء فلا يدخلها فإذا مصت مصا قويا ثم كبت عليه دخلها (2/233)
وما ذلك لخلاء حدث فيها لامتناعه بل لأن المص أحدث في الهواء تخلخلا فكبر حجمه ثم أوجد فيه البرد تكاثفا فصغر حجمه فدخل فيه الماء ضرورة امتناع الخلاء فهذا يعطي أنيته وأما لميته فهو أن الهيولى ليس لها في ذاتها مقدار فقد تكون في بعض الأشياء قابلة للمقادير المختلفة تتوارد عليها بحسب ما يعدها لذلك ولا يلزم أن يكون الكل كذلك لجواز أن يختص البعض بمقدار معين لأسباب منفصلة أو لأن مادته لا تقبل إلا ذلك كما هو رأيهم في الأفلاك
وبالجملة فهذا مصحح ولا يلزم من تحققه تحقق الأثر
الثاني التكاثف وهو ضد التخلخل واعلم أنهما غير الانفشاش وهو أن تتباعد الأجزاء ويداخلها الهواء وغير الاندماج وهو ضده وإن كان يطلق عليهما الاسم بالاشتراك اللفظي فإن هذين من مقولة الوضع وقد يطلق على الرقة وعلى الثخانة وهو من باب الكيف
الثالث النمو وهو ازدياد حجم الجسم بما ينضم إليه ويداخله في جميع الأقطار بنسبة طبيعية بخلاف السمن والورم
الرابع الذبول عكسه
الثانية الكيف وتسمى الحركة فيه استحالة كما يتسود العنب ويتسخن الماء ومن الناس من أنكر ذلك وزعم أن ذلك كمون لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأولى وبروز لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأخرى وهما (2/234)
موجودان فيه دائما إلا أن ما يبرز منها يحس بها وما كمن لا يحس بها وهذا باطل وإلا لكانت الأجزاء الحارة كامنة في الماء البارد بل وفي الجمد وأنه ضروري البطلان ومع ذلك فمن أدخل يده فيه كان يجب أن يحس بحره أو يقل برده وإيضا فإن شررا إذا صادف جبلا من كبريت صير كله نارا ونعلم بالضرورة أن ذلك كله لم يكن كامنا فيه
الثالثة الوضع كحركة الفلك على نفسه فإنه لا يخرج عن مكان إلى مكان ويتبدل بها وضعه وفي حركة كل جزء منه نظر فمنهم من قال لا جزء له بالفعل فكيف يتحرك بل ذلك أمر موهوم ومنهم من قال بتبادل النصفين الأعلى والأسفل وتغير نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة مع عدم حركتها غير معقول فعليك بالتأمل
الرابعة الأين وهو النقلة التي يسميها المتكلم حركة وباقي المقولات لا يقع فيها حركة وأما الجوهر فلا شك أنه تتبدل صورته ومنعه بعض المتكلمين وسلم الاستحالة وهو من قال العنصر الواحد إما النار والباقية بالتكاثف أو الأرض والباقية بالتخلخل أو هو متوسط والبواقي بالتكاثف والتخلخل والطبيعة محفوظة في الأحوال كلها وأبطله ابن سينا بوجهين
الأول مبرهن أن كل ما يصح عليه الكون والفساد تصح عليه الحركة المستقيمة وتنعكس إلى قولنا بعض ما يصح عليه الحركة المستقيمة يصح عليه الكون والفساد
الثاني اختصاص الجزء المعين من الجسم بحيز طبعا لصورته وهذا أيضا إنما يتصور إذا كانت حادثة
وجواب الأول أن الأصل وإن أخذ حقيقيا صدق وكان العكس كذلك ولا يلزم صدقه خارجيا لأنه أخص فلا يفيد الوجود (2/235)
والثاني منع وجوب الحدوث بل المعتمد التجربة والتعويل على المشاهدة كما سيأتي ثم نقول الصور لا تقبل الاشتداد ولا التنقص لأن في الوسط إن بقي نوعه لم يكن التغير في الصورة أيضا فمبدأ الحركة موجود والمادة وحدها لا وجود لها
وأما المضاف فطبيعة غير مستقلة بل تابعة لغيرها فإن كان متبوعها قابلا للأشد والأضعف قبلهما وإلا فلا
وأما متى فقال في النجاة إن وجوده للجسم يتبع الحركة فكيف تقع فيه الحركة وفي الشفاء الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة وهو كالإضافة لأنه نسبة تابعة لمعروضها وكذا الملك
وأما أن يفعل وأن ينفعل فأثبت بعضهم فيهما الحركة وأبطل بأن المنتقل من التسخن إلى التبرد لا يكون تسخنه باقيا وإلا لزم التوجه إلى الضدين معا فبينهما زمان سكوت والحق أنهما تبع الحركة إما في القوة إرادة كانت أو طبيعة أو في الآلة وإما في القابل
الشرح
المقصد الثالث فيما يقع فيه الحركة من المقولات عندهم ذهب جماعة إلى أن معنى وقوع الحركة في مقولة هو أن تلك المقولة مع بقائها بعينها تتغير من حال إلى حال على سبيل التدريج فتكون تلك المقولة هي الموضوع الحقيقي لتلك الحركة سواء قلنا إن الجوهر الذي هو موضوع تلك المقولة موصوف بتلك الحركة بالعرض وعلى سبيل التبع أو لم نقل (2/236)
وهو باطل لأن التسود مثلا ليس هو أن ذات السواد يشتد لأن ذلك السواد إن عدم عند الاشتداد فليس فيه اشتداد قطعا وإن بقي ولم تحدث فيه صفة زائدة فلا اشتداد فيه أيضا وإن حدثت فيه صفة زائدة فلا تبدل ولا اشتداد و لا حركة في ذات السواد بل في صفته والمفروض خلافه وذهب آخرون إلى أن معنى وقوعها في مقولة هو أن تلك المقولة جنس لتلك الحركة قالوا إن من الأين ما هو قار ومنه ما هو سيال وكذا الحال في الكم والكيف والوضع فالسيال من كل جنس من هذه الأجناس هو الحركة فتكون الحركة نوعا من ذلك الجنس وهو أيضا باطل إذ لا معنى للحركة إلا تغير الموضوع في صفاته على سبيل التدريج ولا شك أن التغير ليس من جنس المتغير والمتبدل لأن التبدل حالة نسبية إضافية والمتبدل ليس كذلك فإذا كان المتبدل في الحركة هذه المقولات لم يكن شيء منها جنسا للتبدل الواقع فيها والصواب أن معنى وقوعها فيها هو أن الموضوع يتحرك من نوع لتلك المقولة إلى نوع آخر منها أو من صنف إلى صنف أو من فرد إلى فرد وهي أي المقولات التي تقع فيها الحركة أربع كما هو المشهور
الأولى الكم وهو أي وقوع الحركة فيه على أربعة أوجه لأن الحركة في الكم إما بطريق الازدياد أو بطريق الانتقاص
والأول إما أن يكون بانضمام شيء أو لا
والثاني إما أن يكون بانفصال شيء أو لا
الأول التخلخل وهو ازدياد حجم الجسم من غير أن ينضم إليه (2/237)
جسم آخر ويثبته أي يدل على ثبوته أن الماء إذا انجمد صغر حجمه وإذا ذاب عاد إلى حجمه الأول فبين أي ظاهر مكشوف أنه لم يكن انفصل عنه جزء حين صغر حجمه ثم عاد ذلك الجزء أو ما يساويه إليه حين عاد هو إلى حجمه الأول بل صغر حجمه بلا انفصال ثم ازداد بلا انضمام فتحقق التخلخل والتكاثف فيه وأيضا فالقارورة الضيقة الرأس تكب على الماء فلا يدخلها أصلا فإذا مصت مصا قويا وسد رأسها بالإصبع بحيث لا يتصل برأسها هواء من خارج ثم كبت عليه دخلها وبهذا الطريق يملأون الرشاشات الطويلة الأعناق الضيقة المنافذ جدا بماء الورد وما ذلك الدخول لخلاء حدث فيها بأن يخرج المص منها بعض الهواء ويبقى مكان ذلك البعض الخارج خاليا لامتناعه على رأيهم بل لأن المص أخرج بعض الهواء وأحدث في الهواء الباقي تخلخلا فكبر حجمه بحيث شغل مكان الخارج أيضا ثم أوجد فيه أي في ذلك الهواء المتخلخل البرد الذي في الماء تكاثفا فصغر حجمه أو عاد بطبعه إلى مقداره الذي كان له قبل المص فدخل فيه أي في ذلك الزجاج الماء ضرورة امتناع الخلاء فثبت ههنا التخلخل والتكاثف معا أيضا فهذا الذي ذكرناه في إثبات التخلخل يعطي ويثبت أنيته وتحققه ولا يفيد العلم بعلته وأما لميته أي لمية إمكانه وصحته كما ستعرفه فهو أن الهيولى ليس لها في ذاتها مقدار وما لا مقدار له في حد ذاته كان نسبته إلى المقادير كلها على سواء فقد تكون الهيولى في بعض الأشياء كما في العناصر قابلة للمقادير المختلفة تتوارد تلك المقادير عليها بحسب ما يعدها من الأسباب الخارجة عن ذاتها لذلك الوارد عليها من تلك المقادير المختلفة فإذا ورد عليها مقدار أكبر مما كان لها ثبت التخلخل وإذا ورد ما هو أصغر منه ثبت التكاثف ولا (2/238)
يلزم من كون الهيولى لا مقدار لها في ذاتها أن يكون الكل كذلك أي أن يكون كل الأجسام بحيث تتوارد عليه المقادير المختلفة على سبيل البدل لجواز أن يختص البعض من الأجسام بمقدار معين لا يتعداه إلى غيره لأسباب منفصلة تقتضي اختصاصه بذلك المقدار أو يختص البعض بمقدار معين لأن مادته لا تقبل إلا ذلك المقدار المعين كما هو رأيهم في الأفلاك فإن كل واحد منها له مادة مخالفة في الحقيقة لمادة الآخر وكل مادة منها لا تقبل إلا مقدارا مخصوصا عند بعضهم ولما كان القول بأن مادة الأفلاك لا تقبل إلا مقدارا معينا ينافي القول بأن الهيولى لا مقدار لها في نفسها وما كان كذلك تساوت نسبته إلى المقادير كلها عدل عن ذلك بقوله وبالجملة فهذا الذي ذكرناه من حال الهيولى مصحح للتخلخل والتكاثف ولا يلزم من تحققه أي من تحقق المصحح تحقق الأثر حتى يلزم ثبوت التخلخل والتكاثف في جميع الأجسام بل يجوز أن يكون مع المصحح مانع يمتنع به تحقق الأثر كالصور النوعية في الأجسام الفلكية فإن كل واحدة منها تقتضي لزومها لهيولاها واختصاصها بمقدار معين وكالجزئية في الأجسام العنصرية فإن الجزء ما دام جزءا يستحيل أن يكون مقداره مساويا لمقدار كله أما إذا انفصل أمكن أن يتصف بمقدار الكل ولا يجوز الانفصال في أجزاء الفلك عندهم بخلاف العناصر فيتجه عليهم تجويز أن تكون قطرة من البحر حال انفصالها عنه قابلة لمقدار كلية البحر
الوجه الثاني التكاثف وهو ضد التخلخل يعني أنه انتقاص حجم الجسم من غير أن ينفصل عنه جزء وقد مر ما يدل على أنيته ولميته واعلم أنهما أي التخلخل والتكاثف المذكورين في الحركة الكمية غير الانفشاش وهو أن تتباعد الأجزاء بعضها عن بعض ويداخلها الهواء أو جسم آخر غريب كالقطن المنفوش وغير الاندماج وهو ضده فهو أن تتقارب الأجزاء الوحدانية الطبع بحيث يخرج عنها ما بينها من الجسم الغريب كالقطن الملفوف بعد نفشه وإن كان يطلق عليهما الاسم أي يطلق اسم التخلخل على الانفشاش واسم التكاثف على الاندماج باشتراك اللفظ فإن هذين أي (2/239)
الانفشاش والاندماج من مقولة الوضع فإن الأجزاء بسبب حركتها الأينية إلى التباعد والتقارب تحصل لها هيئة باعتبار نسب بعضها إلى بعض وقد يطلق اسم التخلخل على الرقة رقة القوام واسم التكاثف على الثخانة وهو أي المذكور أعني التخلخل والتكاثف بمعنى الرقة والثخانة من باب الكيف فلكل واحد منهما ثلاثة معان اثنان منها من مقولتي الكيف والوضع وواحد منها حركة في مقولة الكم
الوجه الثالث النمو وهو ازدياد حجم الجسم بما ينضم إليه ويداخله في جميع الأقطار بنسبة طبيعية بخلاف السمن والورم أما السمن فإنه على ما قيل ليس في جميع الأقطار إذ لا يزداد به الطول وأما الورم فليس على نسبة طبيعية
الوجه الرابع الذبول وهو عكسه أي عكس النمو فهو انتقاص حجم الجسم بسبب ما ينفصل عنه في جميع الأقطار على نسبة طبيعية
قال الإمام الرازي قد يشتبه النمو والذبول بالسمن والهزال والفرق أن الواقف في النمو قد يسمن كما أن المتزايد في النمو قد يهزل وتحقيقه أن الزيادة إذا أحدثت المنافذ في الأجزاء الأصلية ودخلت فيها وتشبهت بطبيعتها واندفعت الأجزاء الأصلية إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة مناسبة لطبيعة النوع فذلك النمو وأما الشيخ إذا صار سمينا فإن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها والنفوذ فيها فلذلك لا تتحرك أعضاؤه الأصلية إلى الزيادة فلا يكون ناميا لكن لحمه يتحرك إلى الزيادة فيكون ذلك نموا في اللحم إلا أن اسم النمو مخصوص بحركة الأعضاء الأصلية (2/240)
قال والمشهور أن النمو والذبول من الحركات الكمية وهو بعيد عندي فإن الأجزاء الأصلية والزائدة في المغتذي باق كل واحد منها على مقداره الذي كان عليه نعم ربما تحرك كل واحد منها في أينة أو وضعه أو كيفه لكن ذلك ليس حركة في الكم
وقد أجيب عنه بأن الأجزاء الأصلية زاد مقدارها عند النمو على ما كانت عليه قبل ذلك ضرورة دخول الأجزاء الزائدة في منافذها وتشبهها بها ونقص مقدارها عند الذبول عما كانت عليه قبله وإنكار هذا مكابرة أقول إن كان اتصال الزائدة بعد المداخلة بالأصلية على وجه يصير به المجموع متصلا واحدا في نفسه فالصواب ما قاله المجيب فالقول ما قاله الإمام واعلم أنه إذا عد النمو والذبول من الحركات الكمية فالوجه أن يعد السمن والهزال منها أيضا
الثانية من المقولات التي تقع فيها الحركة الكيف وتسمى الحركة فيه بحسب الاصطلاح استحالة كما يتسود العنب ويتسخن الماء فقد انتقل الجسم من كيفية إلى أخرى على سبيل التدريج فلا بد ههنا من أمرين
أحدهما انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى
وثانيهما أن لا يكون ذلك الانتقال دفعة بل تدريجا ومن الناس من أنكر ذلك أي انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى فالحار عنده لا يصير باردا ولا البارد حارا وزعم أن ذلك الذي يدرك من انقلاب أحدهما إلى الآخر بشهادة الحس ليس تغيرا وانقلابا في الكيفية بل هو كمون واستنار (2/241)
لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأولى كالبرودة مثلا وبروز وظهور لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأخرى كالحرارة مثلا وهما أي هذان القسمان من الأجزاء أعني المتصفة بالصفة الأولى والمتصفة بالصفة الأخرى موجودان فيه أي في ذلك الجسم دائما إلا أن ما يبرز منها أي من تلك الأجزاء يحس بها وبكيفيتها وما كمن منها لا يحس بها وبكيفيتها وهؤلاء أعني أصحاب الكمون والبروز زعموا أن الأجسام لا يوجد فيها ما هو بسيط صرف بل كل جسم فإنه مختلط من جميع الطبائع المختلفة لكنه يسمى باسم الغالب الظاهر فإذا لقيه ما يكون الغالب عليه من جنس ما كان مغلوبا فيه فإنه يبرز ذلك المغلوب من الكمون ويحاول مقاومة الغالب حتى يظهر وتوصلوا بذلك إلى إنكار الاستحالة وإنكار الكون والفساد وهذا القول باطل وإلا لكانت الأجزاء الحارة كامنة في الماء البارد جدا بل وفي الجمد أيضا وأنه ضروري البطلان ومع ذلك ننبهك على بطلانه ونقول إن صح كمون الأجزاء الحارة في الماء البارد فمن أدخل يده فيه كان يجب أن يحس بحره أي بحر باطنه أو يقل برده بحيث يدرك صاحب اليد التفاوت وهو باطل إذ ربما يجد باطنه أبرد من ظاهره وأيضا فإن شررا إذا صادف جبلا من كبريت صير كله نارا مشاهدة ونعلم بالضرورة بأن ذلك الذي نشاهده فيه من النار كله لم يكن كامنا فيه كيف ولو كان في ذلك الجبل بعض من تلك الأجزاء النارية لأحرقته فوجب أن يكون حدوث النار فيه بطريق الكون دون البروز من الكمون وذهب جماعة من القائلين بالتخليط إلى أن الحار مثلا إذا صار باردا فقد فارقه الأجزاء الحارة ومنهم من قال الجسم إنما يصير حارا بدخول أجزاء نارية فيه من خارج ومنهم من (2/242)
قال ينقلب بعض أجزائه نارا ويختلط بالأجزاء المائية فهذه الطائفة معترفون بالكون والفساد دون الاستحالة وهذه الأقوال أيضا باطله كما لا يشتبه على ذي فطنة وحينئذ فقد صح انتقال الأجسام من كيفية إلى أخرى وأما أن ذلك الانتقال بالتدريج فكأنهم قنعوا فيه بما يحس به من انتقال الماء إلى السخونة يسيرا يسيرا
الثالثة من تلك المقولات الوضع كحركة الفلك على نفسه فإنه لا يخرج بهذه الحركة عن مكان إلى مكان لتكون حركته أينية ولكن يتبدل بها وضعه لأنه يتغير بها نسبة أجزائه إلى أمور خارجة عنه إما حاوية وإما محويه وإذا تغيرت تلك النسبة تغيرت الهيئة الحاصلة بسببها وهي الوضع وكلام ابن سينا يوهم أنه الذي وقف على الحركة الوضعية دون من قبله من الحكماء وليس الأمر كذلك فإن الفارابي قال في عيون المسائل حركات الأفلاك دورية وضعيه وفي حركة كل جزء منه أي من الفلك حركة مكانية نظر وتأمل فمنهم من قال لا جزء له بالفعل بل بالفرض فكيف يتحرك في الخارج ما لا وجود له فيه بل ذلك أي تحرك جزء الفلك مع كونه مفروضا أمر موهوم ومنهم من قال بتبادل النصفين الأعلى والأسفل وتغير نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة أو المحوية مع عدم حركتها غير معقول لأن مبدأ هذا التبادل والتغير قائم بتلك الأجزاء لا بالأمور الخارجة عنها فعليك بالتأمل حتى يظهر لك ما هو الحق من هذين القولين (2/243)
فإن قلت إذا كان كل واحد من أجزائه متحركا حركة مكانية على القول الثاني لزم أن يكون الفلك أيضا متحركا حركة مكانية
قلت ليس يلزم من تحرك الأجزاء عن أمكنتها وأينها أن يكون مجموعها كذلك وأما الكواكب فهي متحركة حركة أينية على القول بأن المكان هو البعد وتطلق الاستدارة على حركتها كما تطلق على حركة من يطوف حول شيء مع أنها حركة مكانية يتبدل بها أمكنته بلا شبهة
الرابعة من تلك المقولات الأين وهو أي التحرك في الأين النقلة التي يسميها المتكلم حركة فإن المتكلمين إذا أطلقوا الحركة أرادوا بها الحركة الأينية المسماة بالنقلة وهي المتبادرة في استعمالات أهل اللغة أيضا وقد تطلق عندهم على الوضعيه دون الكمية والكيفية ثم إن في الحركة شبهة عامة وهي أن يقال المتحرك في الأين إن كان له من مبدأ المسافة إلى منتهاها أين واحد فليس متحركا في الأين بل هو ساكن مستقر على أين واحد وإن كان له أيون متعددة فإما أن يستقر على واحد من تلك الأيون في أكثر من آن واحد فقد انقطعت حركته وإما أن لا يستقر فلا يكون في كل أين إلا آن واحد ولا شك أن تلك الأيون الآنية متعاقبة متتالية إذ لو كانت متفاصلة بزمان ولم يوجد في ذلك الزمان شيء من تلك الأيون لزم انقطاع تلك الحركة الأينية وإذا كانت تلك الأيون متعاقبة كانت الآنات متتالية وهو باطل عندهم وهكذا يقال في الحركة الكمية والوضعيه والكيفية ولا مخلص عنها إلا بأن يقال للمتحرك في الأين من مبدأ المسافة إلى منتهاها أين واحد مستمر هو كونه متوسطا بين المبدأ والمنتهى لكنه غير مستقر بل تختلف نسبته إلى حدود المسافة ويتعدد بحسب تعددها وكما أن حدود المسافة تتعدد بالفرض كذلك تتعدد الأيون بحسب الفرض وكما أنه لا يمكن أن يفرض في المسافة حدان متلاقيان ليس بينهما مسافة أصلا كذلك لا يمكن أن يفرض في ذلك الأين المستمر أينان متصلان بل كل أينين مفروضين في ذلك الأين المستمر يمكن أن يفرض بينهما أيون أخر كما أن نقطتين مفروضتين على خط يمكن أن يفرض بينهما نقط أخرى فلا يلزم تتالي (2/244)
الآنات ولا انقطاع الحركة ولا كون المتحرك ساكنا وكذا نقول للمتحرك في الكيف كيفية واحدة غير قارة ففي كل آن يفرض يكون له فيه كيفية أخرى مفروضة ولا يمكن أن يفرض في تلك الكيفية غير القارة كيفيتان متصلتان بل كل كيفيتن يفرض فيها يمكن أن يفرض فيما بينهما كيفيات أخر كما أن كل آنين يفرض في الزمان يمكن أن يفرض بينهما آنات أخر فلا يلزم شيء من المحذورات وباقي المقولات لا يقع فيها حركة أما الجوهر فلا شك أنه تتبدل صورته بصورة أخرى لكن هذا التبدل دفعي لا تدريجي كما سيأتي فيكون من قبيل الكون والفساد دون الحركة في الجوهر ومنعه أي منع تبدل الصورة بعض المتكلمين وقال لا كون ولا فساد في الجواهر والتبدل الواقع فيها إنما هو في كيفياتها دون صورها فأنكر الكون وسلم الاستحالة وهو أي ذلك البعض من قال العنصر واحد وذلك الواحد أما النار والباقية من العناصر إنما حصلت من النار بالتكاثف أعني غلظ القوام على مراتب متفاوتة فإن الهواء كثيف بالقياس إلى النار والماء أكثف منه والأرض أكثف من الماء أو الأرض والباقية تكونت منها بالتخلخل أي برقة القوام أو هو أي ذلك الواحد متوسط بين العنصرين المذكورين وهذا المتوسط إما الماء أو الهواء والبواقي تكونت منه بالتكاثف والتخلخل معا فإن فرض أنه الماء كان حصول الأرض بالتكاثف وحصول الباقيين بالتخلخل وإن فرض إنه الهواء كان حصول النار بالتخلخل وحصول الباقيين بالتكاثف والطبيعة العنصرية الثابتة لذلك العنصر الذي هو الأصل محفوظة ثابتة في الأحوال كلها أي في جميع مراتب التكاثف والتخلخل فلا تبدل في الصور أصلا بل في الكيفيات وأبطله أي قول ذلك البعض ابن سينا بوجهين (2/245)
الأول أنه مبرهن فيما بعد كما ستطلع عليه أن كل ما يصح عليه من الأجسام الكون والفساد أعني تبدل الصورة بصورة أخرى تصح عليه الحركة المستقيمة المقتضية لخروج الجسم عن مكانه وتنعكس هذه الموجبة الكلية بالعكس المستوي إلى قولنا بعض ما يصح عليه الحركة المستقيمة يصح عليه الكون والفساد فثبت صحة تبدل الصور في بعض الأجسام وبطل القول بكونه محالا
الوجه الثاني اختصاص الجزء المعين من الجسم العنصري كالماء مثلا بحيز طبعا أي بحيز معين من أجزاء الحيز الطبيعي لذلك الجسم إنما يكون لصورته أي صورة ذلك الجزء وهذا أعني استناد ذلك الاختصاص إلى صورة ذلك الجزء أيضا إنما يتصور إذا كانت تلك الصورة حادثة فإن ذلك الاختصاص لا يجوز أن يستند إلى ذات الصورة من حيث هي لأنا نشاهد أن الأجزاء المتساوية في الصورة حاصلة في أحياز متباينة ولا يجوز أن تستند إلى ناقل نقل ذلك الجزء إلى ذلك الحيز إذ لو قدرنا عدم الناقل لكانت أجزاء العنصر حاصلة في أحيازها ولا بد لحصولها فيها حينئذ من سبب ولا سبب سوى أن الجزء المعين كان في ابتداء تكونه حاصلا في حيز تخصص به حدوثه عن الفاعل واستمر بعد ذلك فيه باقتضاء صورته وإنما كان في ابتداء التكون حاصلا في ذلك الحيز لكونه متصورا بصورة أخرى حالها على قياس هذه الصورة وهكذا إلى مالا نهاية له
وجواب الأول أن الأصل إن أخذ خارجيا منعنا صدقه لعدم وجود الموضوع عندنا فلا يلزم صدق العكس وإن أخذ حقيقيا صدق وكان العكس كذلك أي حقيقيا أيضا ولا يلزم من صدق العكس حقيقيا صدقه (2/246)
خارجيا لأنه أي الموجب الجزئي الخارجي أخص من الموجب الجزئي الحقيقي ومن صدق الأخص لا يلزم صدق الأعم فلا يفيد الوجود أي فلا يفيد البيان المذكور أن في الخارج جسما موجودا يصح عليه الكون والفساد لجواز أن تصدق الموجبة الجزئية الحقيقية مع السالبة الكلية الخارجية التي تدعيها
وجواب الثاني منع وجوب الحدوث لجواز أن يكون مخصص الأجزاء بأحيازها أمرا مفارقا وتساوي نسبته إلى الكل ممنوع إذ يجوز أن يكون المفارق متعددا على وجه يقتضي ذلك الاختصاص في تلك الأجزاء فلا اعتماد على شيء من هذين الوجهين بل المعتمد في إبطال نفي الكون والفساد هو التجربة والتعويل على المشاهدة لدلالتهما على أن العناصر ينقلب بعضها إلى بعض كما سيأتي في الموقف الرابع ثم نقول في بيان أن تبدل الصورة بأخرى لا يجوز أن يكون تدريجيا فلا يكون حركة بل كونا وفسادا الصور لا تقبل الاشتداد بأن يتحرك محل الصورة إلى الصورة أقوى منها ولا التنقص بأن يتحرك محلها إلى صورة أضعف منها على قياس الكيفيات التي تقع فيها الحركة بل الصور لا تقبل الانتقال التدريجي مطلقا بأن ينتقل محل الصورة إلى صورة أخرى يسيرا يسيرا سواء كانت الأخرى أقوى أو أضعف أو مساوية لأن في الوسط أي في وسط الاشتداد أو التنقص بل في وسط الانتقال التدريجي إن بقي نوعه أي نوع الجوهر المنتقل منه لم يكن التغير في الصورة أي لم يكن فيها اشتداد ولا تنقص بحسب ذاتها بل في لوازمها وصفاتها ولو قيل إن بقي شخصه لكان أشمل وإن لم يبق نوعه أو شخصه كان ذلك عدم الصورة لا اشتدادها ولا تنقصها ولا الحركة فيها إذ لا بد أن يحصل عقيبها صورة أخرى فنقول (2/247)
تلك الصور المتعاقبة إن كان فيها ما يوجد في أكثر من آن واحد فقد سكنت الحركة في الصورة وإلا كانت كلها آنية الوجود فإن تعاقبت بلا فصل تتالت الآنات وإن وجد فيما بين متعاقبين زمان خال عن تلك الصور الآنية كانت الحركة منقطعة ونقض هذا الدليل بالحركة في الكيف وغيره من المقولات
وأجيب عنه بأن بقاء الموضوع بدون الكيفيات وسائر الأعراض جائز فلا يلزم من خلوه عنها انتفاء المتحرك حال كونه متحركا كما يلزم ذلك من خلو المتحرك عن الصور المتعاقبة لأن المتحرك في الصورة إما الجسم أو المادة ولا وجود لشيء منهما خاليا عن الصورة وكون المتحرك معدوما حال كونه متحركا محال بالبديهة وفيه بحث لأنه يلزم ههنا محال آخر وهو أنه إذا خلا الموضوع في زمان عن الكيفيات المتعاقبة مثلا لم يكن له في ذلك الزمان حركة في الكيف كما ذكرنا لأن الحركة كما تنتفي بانتفاء المتحرك تنتفي بانتفاء ما فيه الحركة بل يلزم أن لا يكون هناك إلا كيفيات آنية الوجود لا يوجد شيء منها في الأزمنة الواقعة بين تلك الآنات فإن سميت مثل هذه حركة لم تكن الحركة منطبقة على الزمان منقسمة بانقسامه وقد صرحوا بأن الحركة والزمان والمسافة مطابقة بحيث ينقسم كل منها بانقسام الآخر وتكون قطعة منه واقعة بإزاء قطعة من الآخر فمثل هذه لا تكون حركة لانتفاء لازم الحركة عنها ولا محيص عن ذلك إلا ما مر من أن المتحرك في الكيف مثلا له فيما بين مبدأ حركته ومنتهاها كيفية واحدة سيالة كما عرفت ومثل هذا الحال السيال الذي يتبدل أفراده على محله مع بقاء المحل بشخصه لا بد أن يكون عرضا لتقوم محله بدونه فلا يتصور حركة في الصور المقومة لمحالها وأيضا فمبدأ الحركة أي ما تقوم به الحركة وهو المتحرك موجود لا محالة في زمان كونه متحركا والمادة وحدها لا وجود لها فإن المادة لا تتحصل ذاتا معينة موجودة إلا بالصورة المعينة فلا يمكن حركتها إلا إذا كانت من مبدأ حركتها إلى منتهاها متصورة بصورة معينة فيمتنع أن تتحرك في الصورة بالضرورة وقد (2/248)
يقال تحصل المادة بشخصها إنما يكون بصور متعاقبة لا بصورة واحدة معينة فلا يلزم امتناع حركتها ويجاب بأنها مع إحدى تلك الصور ذات متحصلة ومع صورة أخرى ذات متحصلة مغايرة للذات الأولى وليس لشيء من تلك الذوات المتحصلة حركة وانتقال من حالة إلى حالة أخرى فلا حركة أصلا
وهذا الجواب كما ترى مبني على أو الهيولى ليست إلا شيئا بالقوة لا تتحصل موجودة إلا بصورة معينة لما ثبت عندهم من أن وحدتها وتعددها واتصالها وانفصالها تابعة للصورة فلو كانت في ذاتها متحصلة بالفعل لما كانت كذلك وللبحث فيه مجال وأما المضاف فطبيعة غير مستقلة بنفسها في المفهومة بل هي تابعة لغيرها فإن كان متبوعها قابلا للأشد والأضعف قبلهما المضاف أيضا وإلا فلا يعني أن الإضافة تابعة لمعروضها في الحركة بل في التغير مطلقا لأنها لو تغيرت بلا تغير في معروضها لكانت مستقلة بالمفهومية وعلى هذا فإن كانت الإضافة عارضة لإحدى المقولات الأربع وقعت الحركة فيها تبعا لها كما إذا فرض أن ماء أشد سخونة من ماء آخر وتحرك في الكيف حتى صارت سخونته أضعف من سخونة الآخر فإن هذا الماء قد انتقل من نوع من الإضافة أعني الأشدية إلى نوع آخر منها أعني الأضعفية انتقالا تدريجيا فقد تحرك الجسم في الإضافة تبعا لحركته في معروضها الحقيقي أعني السخونة التي هي من الكيف وكذلك إذا كان جسم في مكان أعلى ثم تحرك في الأين حتى صار في مكان أسفل أو كان أصغر مقدارا من جسم آخر ثم تحرك في الكم حتى صار أعظم مقدارا منه أو كان على أشرف أوضاعه ثم تحرك (2/249)
منه إلى وضع هو أخس أوضاعه فقد انتقل الجسم في هذه الصور أيضا من إضافة إلى أخرى تدريجيا وتبعا لحركته في معروضها وكما لا يتصور بقاء هذه الإضافات بأعيانها مع تغير متبوعاتها في أنفسها لا يتصور أيضا انتقال الجسم وتغيره في هذه الإضافات مع بقاء متبوعاتها على حالها لما عرفت من أنها لو تغيرت في أنفسها بلا تغير في معروضها لاستقلت بالمفهومية وهذا الدليل بعينه جار في سائر الأعراض النسبية لعدم استقلالها بالمفهومية ومنقوض بالأين والوضع فإنهما من الأعراض النسبية مع وقوع الحركة فيهما بلا تبعية شيء وحينئذ نقول لم لا يجوز أن ينتقل الموضوع من مضاف إلى آخر تدريجيا فإن كونه غير مستقل بالمفهومية لا ينافي ذلك وأما متى فقال ابن سينا في النجاة إن وجوده لجسم يتبع الحركة أي ثبوته له بتوسط الحركة فإن ما لا حركة فيه ولا تغير لم يتصور له متى فكيف تقع فيه الحركة إذ لو وقعت فيه لم يكن تابعا لها واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون ثبوته للجسم بتوسط نوع من الحركة ويقع فيه نوع آخر منها وفي النجاة أيضا إن كل حركة فهي في متى فلو كان في متى حركة لكان لمتى متى آخر وهو محال إذ يلزم أن يكون للزمان زمان واعترض بأنه يجوز أن يكون عروض متى للزمان لذاته لا لزمان آخر كعروض القبلية والبعدية وقال في الشفاء يشبه أن يكون الانتقال في متى دفعيا إذ الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة وذلك لأن أجزاء الزمان متصل بعضها ببعض والفصل المشترك بينها هو الآن فإذا فرض زمانان يشتركان في آن فقبل ذلك الآن يستمر للموضوع متاه بالقياس إلى (2/250)
الزمان الأول وبعده يستمر له متاه بالقياس إلى الزمان الثاني وذلك الآن نهاية وجود الأول وبداية حصول الثاني فلا تدريج في الانتقال ويرد عليه أن الفاصل بين أجزاء المسافة حدود غير منقسمة فيكون الانتقال من بعض تلك الأجزاء إلى بعض دفعيا أيضا ولكن إذا فرض مكانان بينهما مسافة منقسمة كان الانتقال من أحدهما إلى الآخر تدريجيا فكذا الحال في الانتقال من زمان إلى زمان آخر بينهما زمان كالفجر والمغرب مثلا فإنه يكون تدريجيا أيضا لا دفعيا ثم قال في الشفاء ويشبه أن يكون حال متى كحال الإضافة في أن الانتقال فيه يكون تبعا للانتقال في شيء آخر من كم أو كيف فيقع التغير في ذلك الشيء أو لا ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيعرض بسببه فيه التبدل وإليه أشار بقوله وهو أي متى كالإضافة في قبول الحركة على سبيل التبعية لأنه نسبة تابعة لمعروضها فلا يستقل بالمفهومية والتبدل وقد عرفت ما فيه وكذا الملك فإنه أيضا مقولة نسبية تابعة لمعروضها في التبدل والاستقرار وأما مقولتا أن يفعل وأن ينفعل فأثبت بعضهم فيهما الحركة وأبطل قول هذا المثبت بأن المنتقل من التسخن إلى التبرد مثلا لا يكون تسخنه باقيا وإلا لزم التوجه إلى الضدين معا لأن التبرد توجه إلى البرودة والتسخن توجه إلى السخونة ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد متوجها إلى الضدين وإذا لم يكن التسخن باقيا فالتبرد لا يوجد إلا بعد وقوف التسخن فبينهما زمان سكون كما بين الحركتين الأينيتين المتضادتين فلا يكون هناك حركة من التسخن إلى التبرد على الاستمرار وكذا الحال في التسخين والتبريد ولقائل أن يقول إن التسخن له مراتب مختلفة في القوة والضعف فيجوز أن ينتقل المتسخن من مرتبة إلى أضعف منها وهكذا إلى أن يصل بالتدريج إلى مرتبة من مراتب التبرد فلا (2/251)
يلزم التوجه إلى الضدين ولا انقطاع الحركة في أثنائها بل عند انتهائها والحق أنهما أي الحركة فيهما تبع الحركة في غيرهما لأنهما أيضا حالتان نسبيتان فلا يستقلان في الثبات والتغير فالحركة فيهما تابعة للحركة إما في القوة إرادة كانت أو طبيعة أو في الآلة وإما في القابل وذلك لأن العزيمة قد تنفسخ يسيرا يسيرا والطبيعة قد تخور كذلك والآلة قد تكل هكذا ففي جميع هذه الصور يتبدل الحال أو لا إما في الإرادة أو في الطبيعة أو في الآلة على سبيل التدريج ثم يتبعه التبدل في الفاعلية كذلك وأما القابل فربما ينتقص قبوله واستعداده لتمام الفعل شيئا فشيئا فتقع الحركة فيه أو لا وتتبعها الحركة في الفاعلية وأنت خبير بأن التبدل في التأثير يستلزم التبدل في التأثر فتقع الحركة في المقولتين تبعا
المقصد الرابع
المتن
العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها وأيضا فالجسمية عامة للأجسام والحركة مختصة وأيضا فيلزم اتحادها في الجهة واللازم باطل وأيضا فلأنها إما لمطلوب فتنقطع عنده مع بقاء الجسمية فيلزم التخلف وإما لا لمطلوب فيتحرك إما إلى جميع الجهات وأنه محال وإما إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وليست الطبيعة أيضا لأنها ثابتة فيلزم ثبات معلولها والحركة ليست ثابتة بل هي حالة غير ملائمة تترك طبعا طلبا للملائم والملائم غاية ولا تتصور إلا في الحركة الإرادية وفيه إشكال إذ ليس الحركة إلى جهة حينئذ أولى من الأخرى ويعلم من ذلك أن العلة للحركة الإرادية ليست هي النفس لثباتها وعدم اختلافها ولا أيضا هي التصور الكلي لأن نسبته إلى الحركات الجزئية سواء بل إنما هي تصورات جزئية فالماشي نحو بغداد له في كل خطوة إرادة جزئية تابعة لتصور جزئي (2/252)
الشرح
المقصد الرابع العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها أي بدوام الجسمية وامتنع السكون على الأجسام لأن مقتضى ذات الشيء وحدها يبقى ببقائها وأيضا فالجسمية عامة للأجسام كلها والحركة مختصة ببعضها غير عامة لها فإن من الأجسام ما هو ساكن دائما وأيضا فيلزم على تقدير كون الجسمية علة اتحادها في الجهة أي اتحاد الأجسام كلها في جهة الحركة الطبيعية واللازم باطل لأن جهات الحركات الطبيعية مختلفة فبعضها إلى الفوق وبعضها إلى التحت وهذان الدليلان مبنيان على اشتراك الجسمية بين جميع الأجسام وسيأتي الكلام عليه وأيضا فلأنها أي الحركة التي علتها الجسمية إما لمطلوب فتنقطع الحركة عنده أي عند حصول ذلك المطلوب مع بقاء الجسمية التي هي علتها فيلزم التخلف أي تخلف المعلول عن علته وإما لا لمطلوب فتحرك الجسم حينئذ إما إلى جميع الجهات معا وأنه محال بالضرورة وإما إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وليست علة الحركة الطبيعية هي الطبيعة وحدها أيضا لأنها ثابتة مستمرة فيلزم ثبات معلولها الذي تقتضيه لذاتها والحركة ليست ثابتة لما عرفت من أنها متجددة متقضية ويلزم أيضا دوام الحركة بدوام الطبيعة فيمتنع السكون على الأجسام المتحركة بالطبع فلا يكون شيء من الأمكنة طبيعيا بل هي حالة غير ملائمة أي بل العلة للحركة الطبيعية هي الطبيعة على مقارنتها لحالة غير (2/253)
ملائمة لها فإن تلك الحالة تترك طبعا طلبا للملائم إما في الأين فكالحجر المرمي إلى فوق وأما في الكيف فكالماء المسخن قسرا وأما في الكم فكالذابل ذبولا مرضيا فإن هذه الحالة المنافرة ما دامت باقية كانت الطبيعة محركة للجسم لترده إلى الحالة الملائمة وتختلف أجزاء الحركة بحسب اختلاف القرب والبعد من تلك الحالة المطلوبة فإذا أوصلته الطبيعة إليها انقطعت الحركة الطبيعية لانتفاء أحد جزئي علتها أعني مقارنة الحالة الغير الملائمة هكذا قالوا ويتجه عليهم أن يقال الملائم غاية مطلوبة ولا تتصور الغاية إلا في الحركة الإرادية إذ لا بد من الشعور بالغاية حتى يمكن طلبها فلا تكون الحركة الطبيعية التي لا شعور معها طلبا للملائم وإذا لم يكن للطبيعة مطلوب بقي أن تكون هي مع الحالة التي لا تلائمها مقتضية للحركة وفيه إشكال إذ ليس الحركة الطبيعية إلى جهة حينئذ أولى من الجهة الأخرى وقد يجاب بأن ثبوت الغاية لا يتوقف على الشعور والإرادة وتلخيصه أن الفعل إذا ترتب عليه أمر ترتبا ذاتيا يسمى غاية له فإن كان له مدخل في إقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى غرضا بالقياس إليه وعلة غائية بالقياس إلى الفعل فالعلة الغائية هي المحتاجة إلى الشعور دون الغاية فإنها قد تثبت بلا شعور إذ لا بعد في أن يكون بعض الأمكنة ملائما لبعض الأجسام فإذا فرض خارجا عن مكانه الملائم له اقتضى طبيعة الحركة إليه وتكون هذه الحركة طلبا طبيعيا لذلك المكان لا إراديا موقوفا على الشعور والإرادة وكذا نقول في الكيفيات والكميات وملاءمة بعضها لبعض الأجسام ويعلم من ذلك الذي مر ذكره في الحركة الطبيعية أن العلة للحركة الإرادية ليست هي النفس لثباتها وعدم اختلافها يعني أن النفس ثابتة مستمرة فلا تكون وحدها علة للحركة التي هي متجددة غير ثابتة والنفس غير مختلفة في نوع واحد من الأجسام ذوات الأنفس مع اختلاف الحركة الإرادية في ذلك النوع بل في فرد منه ولا أيضا هي التصور الكلي الحاصل للنفس لأن نسبته إلى الحركات الجزئية سواء وكذا الإرادة الناشئة من التصور الكلي لا تكون إلا كلية متساوية النسبة إلى جزئيات الحركة فلا يصدر شيء من تلك الجزئيات عن النفس مع تصورها وإرادتها الكليين بل إنما هي أي (2/254)
علة الحركة الإرادية تصورات جزئية يترتب عليها إرادات جزئية فالماشي نحو بغداد له في كل خطوة إرادة جزئية تابعة لتصور جزئي قالوا إن الحركة الاختيارية إلى مكان تتبع الإرادة متعلقة بمجموع تلك الحركة ثم إن المسافة التي لتلك الحركة يمكن أن يفرض فيها حدود جزئية تتجزأ بها المسافة إلى أجزائها الجزئية فالمتحرك يحتاج بعد الإرادة المتعلقة بمجموع الحركة إلى أن يتخيل حدا معينا وتنبعث عنه إرادة جزئية متعلقة بقطع ذلك الجزء من المسافة الذي انفصل بذلك الحد وهكذا تتوالى التخيلات المستتبعة للإرادة والحركة فتتصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة ولو فرض انقطاع التخيل انقطعت الإرادة والحركة وأما علة الحركة القسرية فهي القوة التي أحدثها القاسر في المتحرك
المقصد الخامس
المتن
الحركة تقتضي أمورا ستة
الأول ما به أي سببها الفاعلي
الثاني ما له أي محلها
الثالث ما فيه أي المقولة من المقولات
الرابع ما منه أي المبدأ
الخامس ما إليه أي المنتهى وذلك في الحركة المستقيمة وأما في الفلكية فلا يكون إلا بالفرض
السادس المقدار أي الزمان فإن كل حركة في زمان بالضرورة (2/255)
الشرح
المقصد الخامس الحركة تقتضي أمورا ستة
الأول ما به الحركة أي سببها الفاعلي فإن الحركة أمر ممكن الوجود فلا بد لها من علة فاعلية
الثاني ما له الحركة أي محلها فإنها عرض فلا بد لها من محل تقوم به
الثالث ما فيه الحركة أي المقولة من المقولات الأربع المتقدمة
الرابع ما منه الحركة أي المبدأ
الخامس ما إليه الحركة أي المنتهى وذلك أي اقتضاء ثبوت المبدأ والمنتهى بالفعل إنما يكون في الحركة المستقيمة وأما في الحركة المستدير الفلكية فلا يكون ثبوتها إلا بالفرض إذ ليس هناك وضع هو مبدأ الحركة أو منتهاها إلا بحسب الفرض كما مر
السادس المقدار أي الزمان فإن كل حركة تكون في زمان بالضرورة واقتضاء الحركة لهذه الأمور الأربعة من حيث أنها انتقال من حالة إلى أخرى تدريجا
المقصد السادس
المتن
قد علمت أن الحركة متعلقة بأمور ستة فوحدتها متعلقة بوحدتها ضرورة ووحدتها كما قد مر إما شخصية أو نوعية أو جنسية ففيه ثلاثة أبحاث (2/256)
أحدها في وحدتها الشخصية ولا بد فيها من وحدة ما له فإن الواحد بالشخص محله واحد بالشخص ضرورة أنه لا يقوم العرض بمحلين ولا بد من وحدة ما فيه إذ الشيء قد يستحيل وينمو معا فيكون كل حركة وإن اتحد المحل من حيث اختلف ما فيه بل قد يعرض له أنواع من الاستحالة كالتسخن والتسود والتروح ويتبع ذلك وحدة ما منه وما إليه إذ لو اختلف المبدأ والمنتهى لم يكن ما فيه واحدا بالضرورة ولا يكفي في الوحدة وحدة ما منه وما إليه دون اعتبار وحدة ما فيه لجواز اتحادهما بالشخص مع تعدد الحركة بأن تكون الطرق مختلفة كما يتوجه الجسم تارة من البياض إلى الغبرة إلى العودية إلى السواد ومنه إلى الصفرة إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد ومنه إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد ولا بد من وحدة الزمان إذ الحركة في زمان غير الحركة في زمان آخر ضرورة وذلك بناء على أن المعدوم لا يعاد بعينه وأما وحدة المحرك فلا عبرة به فإن المتحرك بمحرك ما قد يحركه محرك آخر قبل انقطاع حركته والحركة واحدة متصلة ولا تميز يوجب الإثنينية غير ما يتوهم من استناد بعضها إلى محرك والبعض إلى آخر ولا تجزي فيها بالفعل ولا فصل
ثانيها في وحدتها النوعية ولا يخفى أن ما يعتبر في الوحدة النوعية بعض ما يعتبر في الوحدة الشخصية وهي ما فيه وما منه وما إليه إذ لو اختلف ما فيه كان كل نوع من الحركة كالتسود والتسخن وكذلك ما منه وما إليه وإن اتحد ما فيه كالصاعدة والهابطة وكالتسخن والتبرد ولا عبرة بوحدة المحرك لما مر وإذ لا يوجب اختلاف الشخص فالنوع أولى فحركة الحجر إلى العلو قسرا والنار إليه طبعا لا يختلف بالنوع من حيث هما كذلك ولا بوحدة ما له فإن تنوع المحل لا يوجب تنوع الحال فسواد الإنسان والحمار نوع واحد ولا بوحدة الزمان لأنه نوع (2/257)
واحد لا تختلف حقيقته وإن قدر تنوعه فهو عارض للحركة واختلاف العوارض لا يوجب التنوع
ثالثها الجنسية وما يعتبر فيها بعض ما يعتبر في النوعية وإنما هو ما فيه فقط فالحركة الواقعة في كل جنس جنس من الحركة ويترتب بحسب ترتب الأجناس التي تقع فيها
الشرح
المقصد السادس قد علمت آنفا أن الحركة متعلقة بأمور ستة فوحدتها متعلقة بوحدتها أي بوحدة هذه الأمور الستة لا بغيرها ضرورة ووحدتها أي وحدة الحركة كما قد مر في مباحث الوحدة إما شخصية أو نوعية أو جنسية ففيه أي في بيان وحدتها ثلاثة أبحاث
أحدها في وحدتها الشخصية ولا بد فيها من وحدة لما له الحركة فإن العرض الواحد بالشخص محله واحد بالشخص أيضا ضرورة أنه لا يقوم العرض الواحد بالشخص بمحلين ولا بد أيضا في وحدتها الشخصية من وحدة ما فيه الحركة أعني المقولة إذ الشيء الواحد قد يستحيل وينمو معا في زمان كونه قاطعا لمسافة فيكون كل من الاستحالة والنمو وقطع المسافة حركة على حدة وإن اتحد المحل وإنما تعددت الحركة ههنا مع اتحاده من حيث اختلف ما فيه الحركة اختلافا جنسيا موجبا لاختلاف الحركة بالجنس كما سيأتي بل قد يعرض له أي للشيء الواحد أنواع من الاستحالة كالتسخن والتسود والتروح في الفاكهة مثلا فتتعدد الحركة لاختلاف ما فيه بحسب النوع و إن اندرجت تلك الأنواع في جنس واحد والكيف المحسوس بل نقول إذا تعددت المسافة و ما في حكمها بحسب الشخص تعددت الحركة بحسبه لأن الحركة في مسافة (2/258)
تغاير الحركة في مسافة أخرى قطعا ويتبع ذلك أي وحدة ما فيه الحركة وحدة ما منه و ما إليه إذ لو اختلف المبدأ و المنتهى لم يكن ما فيه واحدا بالضرورة فوحدتهما تابعة لوحدة ما فيه فاشتراط وحدة ما فيه يغني عن اشتراط وحدتهما ولا يكفي في الوحدة الشخصية للحركة وحدة ما منه وما إليه دون اعتبار وحدة ما فيه لجواز اتحادهما بالشخص مع تعدد الحركة بأن تكون الطرق مختلفة فيما بين مبدأ معين ومنتهى معين كما يتوجه الجسم تارة من البياض إلى الغبرة إلى العودية إلى السواد و تارة منه أي من البياض إلى الصفرة إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد و تارة منه إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد فالحركة من البياض إلى السواد المعينين يمكن أن تفرض على هذه الوجوه فيكون المبدأ و المنتهى واحدا مع تعدد الحركة بواسطة تعدد ما فيه وكذا الحال فيما إذا سلك الجسم من مبدأ معين إلى منتهى معين تارة على الاستقامة وتارة على الاستدارة فظهر أن اعتبار وحدتهما لا يغني عن اعتبار وحده ما فيه كما كان اعتبار وحدته مغنيا عن اعتبار وحدتهما ولقائل أن يقول إذا لم يلاحظ وحدة الزمان لم تكن وحدة ما فيه مستلزمة لوحدتهما ولا اختلافهما مستلزما لاختلاف ما فيه فإن جسما واحدا قد يتحرك في مسافة واحدة تارة صاعدا وتارة هابطا وإذا لوحظ وحدة الزمان كان وحدتهما مقتضية لوحدته أيضا ولابد في وحدة الحركة من وحدة الزمان إذ الحركة في زمان غير الحركة في زمان آخر ضرورة وذلك بناء على أن المعدوم لا يعاد بعينه فإنه لو جوز إعادته كذلك لجاز أن تكون الحركة في زمان عين الحركة في زمان آخر فظهر أنه لابد للحركة في وحدتها الشخصية من وحدة الموضوع بالشخص ومن وحدة الزمان ومن وحدة ما فيه وليست وحدته لازمة لوحدتهما لما مر من وقوع الاستحالة والنمو وقطع المسافة في جسم واحد في زمان واحد وإذا اتحدت هذه الثلاثة اتحد المبدأ والمنتهى أيضا وكانت الحركة واحدة شخصية (2/259)
قطعا ولو اعتبر وحدتهما مع وحدة المحل و الزمان لكفى ولزم وحدة ما فيه كما أشرنا إليه إلا أن اعتبار الثلاثة أولى من اعتبار الأربعة و المآل فيهما واحد وهو أنه لابد في تشخص الحركة من وحدة أمور خمسة من تلك السنة لأن اختلاف واحد منها أي واحد كان يستلزم تعدد الحركة كما لا يخفى و أما وحدة المحرك فلا عبرة به في كون الحركة واحدة شخصية فإن المتحرك بمحرك ما قد يحركه محرك آخر قبل انقطاع حركته و الحركة الصادرة عنهما واحدة شخصية متصلة اتصال المسافة و لا تميز في تلك الحركة يوجب الإثنينية فيها غير ما يتوهم من استناد بعضها إلى محرك والبعض إلى محرك آخر ولا تجزي فيها بالفعل ولا فصل بسبب اختلاف الاستناد ألا ترى أن الحركة الفلكية مع اتصالها في نفسها يعرض لها انقسامات وهمية بحسب الشروق و الغروب و المسامتات وذلك لا يبطل وحدتها الشخصية
فإن قيل المحرك الثاني إن لم يكن له أثر لم يكن محركا وإن كان له أثر فإن كان أثره عين أثر المحرك الأول لزم تحصيل الحاصل واجتماع مؤثرين على أثر واحد شخصي و أن كان غيره فقد تعدد الأثران أعني الحركتين
قلنا نختار أن الأثرين متغايران وذلك لا يبطل الوحدة الشخصية الاتصالية
وثانيها أي ثاني الأبحاث في وحدتها النوعية ولا يخفى أن ما يعتبر في الوحدة النوعية بعض ما يعتبر في الوحدة الشخصية وذلك لأن الشخص هو النوع مع قيود مشخصة له وهي أي ما يعتبر من الوحدات في الوحدة النوعية هي وحدة ما فيه و وحدة ما منه و وحدة ما إليه فإن هذه (2/260)
الأمور الثلاثة إذا اتحدت بالنوع كانت الحركة واحدة بالنوع و إذا تنوعت كانت الحركة متنوعة إذ لو اختلف ما فيه الحركة بحسب النوع كان كل من الحركات الواقعة في تلك الأنواع المختلفة نوعان من الحركة و إن اتحد ما منه وما إليه أما في الكيف فمثل أن يأخذ الجسم في الحركة تارة من البياض إلى الصفرة إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد و أخرى من البياض إلى الفستقية إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد فإن ما فيه الحركة ههنا مختلف بالنوع وكذا الحركة مع اتحاد المبدأ والمنتهى بالنوع وأما في الأين فمثل أن يتحرك الجسم من مبدأ إلى منتهى معينين تارة على الاستقامة وأخرى على الاستدارة فإن المستدير والمستقيم مختلفان بالماهية لا بالعوارض فكذلك الحركتان الواقعتان عليهما وإذا كانت الحركة مختلفة بالنوع لاختلاف ما فيه مع اتحاد ما منه وما إليه فاختلافها بالنوع لاختلاف ما فيه منضما إلى اختلافهما كان أولى كالتسود و التسخن فإنهما مختلفان بالماهية لاختلاف الأمور الثلاثة فيهما وكذلك ما منه وما إليه فإنهما إذا اختلفا بالنوع اختلف ماهية الحركة وأن اتحد ما فيه كالصاعدة و الهابطة في الحركة الأينية وكالتسخن والتبرد في الحركة الكيفية فإن الحركتين في كل واحدة من هذين المثالين مختلفان بالماهية لاختلاف المبدأ والمنتهى فيهما بالنوع مع اتحاد ما فيه
فإن قيل تنوع المبدأ والمنتهى في المثال الثاني ظاهر فإن السخونة مخالفة بالماهية للبرودة بخلافه في المثال الأول لأن الاختلاف بين المبدأين إنما هو باعتبار إن عرض لأحدهما الفوقية و للآخر التحتية و ذلك لا يوجب اختلافا في الماهية
قلنا إنهما وإن لم يختلفا بالماهية لكنهما اختلفا بالمبدائية والمنتهائية (2/261)
وهما متقابلان تقابل التضاد وهذا القدر كاف في اختلاف الحركة بالماهية كذا في المباحث المشرقية ولا عبرة في الوحدة النوعية للحركة بوحدة المحرك لأن الأمور المختلفة بالنوع قد تشترك في نوع واحد من الأثر ولما مر من أن تعدد المحرك ولو بحسب النوع لا يوجب تعددا في الحركة بحسب الشخص وإذ لا يوجب اختلاف المحرك بحسب النوع اختلاف الشخص في الحركة فالنوع أولى بأن لا يوجبه ذلك الاختلاف لأن ما يوجب اختلاف النوع يوجب اختلاف الشخص بالضرورة من دون عكس كلي فحركة الحجر إلى العلو قسرا وحركة النار إليه طبعا لا يختلف بالنوع من حيث هما كذلك أي من حيث استنادهما إلى محركين مختلفين بالنوع أعني القاسر والطبيعة بل هاتان الحركتان متفقتان في الماهية ولا عبرة أيضا بوحدة ما له الحركة فإن تنوع المحل لا يوجب تنوع الحال وإن كان تعدد المحل مطلقا يوجب تعدد الحال بحسب الشخص فسواد الإنسان وسواد الحمار نوع واحد وكذا حركتهما إذ لم يختلف هناك ما فيه وما منه وما إليه وذلك لأن إضافة الحركة بل العرض مطلقا إلى الموضوع أمر خارج عن ماهيتهما فلا يكون اختلاف المعروضات موجبا لاختلافهما ولا بوحدة الزمان لأنه نوع واحد لا تختلف حقيقته فلا فائدة في اعتبار وحدته النوعية في وحدة الحركة بحسب النوع بخلاف اعتبار وحدته الشخصية في وحدتها الشخصية إن قدر تنوعه واختلافه بالماهية فهو عارض للحركة ومقدار لها واختلاف العوارض بالنوع لا يوجب التنوع في المعروضات كما أن تنوع المعروضات لا يوجب تنوع عوارضها
وثالثها الوحدة الجنسية وما يعتبر فيها من الوحدات بعض ما (2/262)
يعتبر في الوحدة النوعية لأن النوع هو الجنس مع قيود منوعة له وإنما هو وحدة ما فيه فقط فالحركة الواقعة في كل جنس جنس من الحركة فالحركات الأينية كلها متحدة في الجنس العالي وكذا الحركات الكيفية والكمية ويترتب أجناس الحركات بحسب ترتب الأجناس التي تقع تلك الحركات فيها فالحركة في الكيف جنس هو فوق الحركة في الكيفيات المحسوسة وهي جنس فوق الحركة في المبصرات وهي جنس فوق الحركة في الألوان وهكذا إلى أن تنتهي إلى الحركات النوعية المنتهية إلى الحركات الشخصية
المقصد السابع
المتن
الحركات منها ما هي متضادة وقد علمت أن لا تضاد إلا بين الأنواع الداخلة تحت جنس أخير فالحركات المختلفة بالجنس كالنقلة والاستحالة والنمو غير متضادة وإن امتنع اجتماعها حينا فلا لماهياتها وإنما التضاد بين المتجانسة منها ففي الاستحالة كالتسود والتبيض وفي الكم كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف وفي النقلة كالصاعدة والهابطة إذ لها في كل طرف حد محدود تتوجه إليه وبين الطرفين غاية الخلاف وأما الوضعية فلا تضاد فيها
الشرح
المقصد السابع الحركات منها ما هي غير متضادة ومنها ما هي متضادة وقد علمت في مباحث التقابل أن لا تضاد إلا بين الأنواع (2/263)
الحقيقية الداخلة تحت جنس أخير فالحركات المختلفة بالجنس كالنقلة والاستحالة والنمو غير متضادة لأنها أجناس تجتمع في موضوع واحد في زمان واحد وإن امتنع اجتماعها حينا من الأحيان فلا لماهياتها أي ليس امتناعها من الاجتماع في ذلك الحين مستندا إلى ماهياتها بل إلى أسباب خارجية فلا تضاد بين الحركات المتخالفة الأجناس وإنما التضاد بين المتجانسة المتشاركة في الجنس الأخير منها أي من الحركات ففي الاستحالة كالتسود والتبيض فإنهما نوعان مندرجان تحت الحركة في الألوان ومتشاركان في الموضوع وبينهما من الخلاف ما هو أكثر مما بين أحدهما وبين التصفر والتحمر وغيرهما فهو غاية الخلاف ولا معنى للتضاد إلا ذلك وفي الكم كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف فإن لكل واحد من النمو والذبول حدا محدودا في الطبع يتوجهان إليه وبينهما غاية الخلاف فكذا بين الحركتين إليهما وكذا الحال في التخلخل والتكاثف إذ لكل واحد منهما حد لا يتجاوزه وفي النقلة كالصاعدة والهابطة فإن كل واحد من الصعود والهبوط له حد محدود وبينهما غاية الخلاف وإلى ما فصلناه أشار إجمالا بقوله إذ لها أي للحركة في هذه المقولات الثلاث في طرف حد محدود تتوجه إليه وبين الطرفين غاية الخلاف فإن السواد والبياض بينهما غاية الخلاف وكذا بين حدي النمو والذبول والتخلخل والتكاثف والصعود والهبوط فيكون بين التوجهين أيضا غاية الخلاف وأما الحركة الوضعية فلا تضاد فيها لما ستعرف عن قريب من أن الحركة المستديرة لا تضاد فيها (2/264)
المقصد الثامن
المتن
تضاد الحركات ليس لتضاد ما فيه فإن الصاعدة والهابطة ضدان وإن اتحد ما فيه ولا لتضاد المحرك لتضاد الطبيعتين والقسريتين ولا لتضاد المتحرك لأن حركة الحجر قسرا إلى فوق وطبعا إلى تحت متضادتان ولا لتضاد الزمان فإنه لا تضاد فيه إذ لا تنوع ولا يمكن توارده على موضوع ولكونه عارضا وتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات ولا للحصول في الأطراف لأنه معدوم عند الحركة يحصل قبلها وبعدها بل للتوجه بحسب ما منه وإليه من حيث هما كذلك فإنهما قد يختلفان بالذات مع التضاد كالسواد والبياض أو دونه كالسواد والحمرة أو بالعرض كالمركز والمحيط لأنهما جزءان من جسم بسيط عرض لأحدهما أنه غاية القرب من الفلك وللآخر أنه غاية البعد عنه مع تساويهما في الحقيقة وقد لا يختلفان أصلا بل يتفق أنصار أحدهما مبدأ والآخر منتهى وذلك قد يكون بالفعل كما في الحركة المستقيمة وبمجرد الفرض كما في الحركة المستديرة فإن أي جزء فرضت يكون مبدأ للدور ومنتهى له باعتبارين ولا تمايز فيه إلا بما يعرض من موازاة أو فرض أو غير ذلك
تنبيه المبدأ والمنتهى إذا نسب أحدهما إلى الآخر فتقابلهما تقابل التضاد وإذا نسبا إلى ما له المبدأ والمنتهى وهي الحركة كانا متضايفين له فبين كل منهما وبينه تقابل التضايف وليس بين المبدأ والمنتهى تضايف فقد يعقل مبدأ لا منتهى له وبالعكس
فإن قيل قد يكون جسم مبدأ ومنتهى فكيف التضاد
قلت هما غير عارضين للجسم بلا للأطراف ولا يكون طرف مبدأ ومنتهى إلا بالفرض وفي زمانين
فرع قالوا المستقيمة لا تضاد المستديرة إذ كل مستقيمة وتر لقسي غير متناهية بالقوة إذ ضد الواحد واحد ولا المستديرة المستديرة لنحو ذلك (2/265)
فإن طرفي مستديرة واحدة قد يكونان طرفين لدوائر غير متناهية وأما الحركة إلى التوالي وإلى خلافه فكل يفعل مثل فعل الأخرى ولكن في النصفين على التبادل ولا يخفى ما فيه من أن الحركة في النصفين مع اتحاد المسافة مختلفة
الشرح
المقصد الثامن تضاد الحركات ليس لتضاد ما فيه فإن الصاعدة والهابطة ضدان بلا شبهة وإن اتحد ما فيه هاتان الحركتان وكذلك الحركة من السواد إلى البياض ضد للحركة من البياض إلى السواد وإن فرض وحدة الطريق أعني وحدة ما فيه ولا لتضاد المحرك لتضاد الحركتين الطبيعيتين الصادرتين عن طبيعة واحدة فإن الهواء إذا حصل في حيز الأرض صعد عنه طبعا وإذا حصل في حيز النار هبط عنه كذلك فبين هذه الصاعدة والهابطة تضاد مع وحدة المحرك وهذا المثال إنما يصح إذا لم يعتبر في التضاد غاية الخلاف كما يظهر من كلام الإمام في الملخص والمذكور في السماء والعالم من كتاب الشفاء أن هاتين الحركتين ليستا متضادتين كما ظن بعضهم لأنهما تنتهيان إلى طرف واحد وتوجيهه على ما في المباحث المشرقية أن الضدين يجب أن يكون بينهما غاية التباعد ولم يوجد ذلك في هاتين الحركتين لأن البعد بين حركة النار وحركة الأرض أكثر من البعد بين صعود الهواء عن المركز وهبوطة عن المحيط وكيف يكونان متضادين والمطلوب بهما حالة واحدة هي أن تكون فوق الماء وتحت النار ويرد عليه أنه يلزم منه أن لا يكون تضاد في الحركات الأينية إلا بين الصاعدة الواصلة إلى المحيط والهابطة الواصلة إلى المركز فلا (2/266)
تكون حركة الحجر قسرا إلى فوق وحركته طبعا إلى تحت متضادتين مع أنهم صرحوا بخلافه ولتضاد الحركتين القسريتين كالصاعدة والهابطة الصادرتين عن قاسر واحد ولا لتضاد المتحرك لأن حركة الحجر قسرا إلى فوق وطبعا إلى تحت متضادتان مع أن المتحرك واحد ولا لتضاد الزمان فإنه لا تضاد فيه أي في الزمان إذ لا تنوع فيه بل الأزمنة كلها متساوية في الماهية ولا يمكن توارده أي توارد الزمان على موضوع واحد ولا بد في المتضادين من الاختلاف بالنوع والتوارد على الموضوع الواحد ولكونه عطف على قوله فإنه كأنه قيل ولا لتضاد الزمان لأنه لا تضاد فيه ولكونه عارضا للحركة وتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات فلو فرض التضاد في الزمان لم يكن مقتضيا لتضاد الحركات ولا للحصول أي ليس تضاد الحركات للحصول في الأطراف التي هي مبادي الحركات ونهاياتها لأنه أي الحصول في الأطراف معدوم عند وجود الحركة فإن الحصول في المبدأ يحصل قبلها ويعدم عندها والحصول في المنتهى يحصل بعدها فلو كان تضادها لأجل الحصول في الأطراف لم يكن بين الحركات الموجودة تضاد بل تضاد الحركات للتوجه من الأطراف وإليها أعني بحسب ما منه وما إليه جميعا من حيث هما كذلك أي من حيث أنهما متضادان أعني أن يكون مبدأ إحدى الحركتين ضدا لمبدأ الأخرى ومنتهاها ضدا لمنتهاها وليس يكفي لتضاد الحركة التضاد بين المبدأين فقط فإن الحركة من السواد إلى الحمرة لا تضاد (2/267)
الحركة من إلى الحمرة ولا التضاد بين المنتهيين فقط فإن الحركة من الحمرة إلى البياض لا تضاد الحركة من الحمرة إلى السواد وذلك لانتفاء غاية الخلاف وإنما اعتبر قيد الحيثية إذ لا بد من اعتباره فإنهما أي ما منه وما إليه في الحركتين قد يختلفان بالذات والماهية مع التضاد بينهما كالسواد والبياض فالحركة من الأول إلى الثاني تضاد الحركة من الثاني إلى الأول لأن مبدأهما متضادان بالذات وكذلك منتهاهما أو دونه أي دون التضاد كالسواد والحمرة فإنهما متخالفان بالماهية بلا تضاد لعدم التباعد في الغاية فلا تضاد أيضا بين الحركة من أحدهما إلى الآخر وعكسها أو بالعرض أي يختلفان لا بالذات بل باعتبار عارض مع التضاد بحسبه أيضا كالمركز والمحيط لأنهما جزءان أي نقطتان من جسم بسيط عرض لأحدهما أنه غاية القرب من الفلك وللآخر أنه غاية البعد عنه وباعتبار هذين العارضين صارا متضادين مع تساويهما في الحقيقة وصار تضادهما بالعرض سببا لتضاد الصاعدة والهابطة بالذات فإنهما معنيان وجوديان يمتنع اجتماعهما في موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف وكذا حال الحركتين الواقعتين في جهتين متقابلتين وقد يقال لا تضاد في الحركة المستقيمة إلا بين الصاعدة والهابطة فعليك بالتأمل وقد لا يختلفان أصلا أي لا يختلف مبدأ الحركة ومنتهاها لا بحسب الماهية ولا بحسب عارض لازم بل يتفق أن صار أحدهما مبدأ لحركة والآخر منتهى لها فإذا فرض حركة أخرى من هذا المنتهى إلى ذلك المبدأ لم تكن مضادة للأولى إذ لا تضاد بين المبدأين ولا بين المنتهيين لا بالذات ولا بالعرض
فإن قلت بين مفهومي المبدأ والمنتهى تقابل التضاد كما سننبه (2/268)
عليه فبين ذاتيهما تضاد بحسب العارض فتكون الحركتان متضادتين على قياس ما مر في الصاعدة والهابطة
قلت لا شك أن ثبوت هذين العارضين لذاتيهما متأخر عن وجود الحركة فلا يكون تضاد هذين العارضين علة لتضاد الحركتين بخلاف القرب والبعد من المحيط فإنهما متقدمان على وجود الحركة ومقتضيان لكون الحركتين متضادتين كما عرفت وذلك أي اتصاف أحدهما بكونه مبدأ والآخر بكونه منتهى قد يكون بالفعل كما في الحركة المستقيمة فإن لها مبدأ متصفا بالمبدائية بالفعل ولها منتهى كذلك وقد يكون ذلك الاتصاف بمجرد الفرض كما في الحركة المستديرة فإن أي جزء فرضت على الجسم المتحرك بالاستدارة كالفلك مبدأ للدور ومنتهى له باعتبارين إذ الحركة عن كل جزء هي بعينها الحركة إلى ذلك الجزء فلا مبدأ ولا منتهى للمستديرة إلا بمجرد الفرض ولا تمايز فيه أي في الدائر حتى يثبت للدور ابتداء وانتهاء بالفعل لا بما يعرض من موازاة أو فرض أو غير ذلك من الشروق والغروب وليس شيء منها موجبا للتمايز الخارجي وليس من شرط وجود الحركة المستديرة أن يوجد هناك نقطة بالفعل لتكون مبدأ من وجه ومنتهى من وجه وإلا امتنع حركة الفلك بالاستدارة إذ لا وجود للنقطة بالفعل إلا بسبب القطع وهو عليه محال عندهم بل يكفي لتحقق المستديرة كون النقطة بالقوة القريبة وههنا بحث وهو أن الحركة المستديرة حركة وضعية فيكون مبدأها وكذا منتهاها وضعا مخصوصا كما أن مبدأ الحركة الكيفية ومنتهاها كيف مخصوص فإذا فرض أن جسما كان ساكنا ثم تحرك على نفسه فالوضع الذي ابتدأت الحركة منه كان مبدأ لها وإذا فرض سكونها ثانيا كان الوضع الذي انقطعت الحركة عنده منتهى لها سواء كان مماثلا للوضع الأول أو مخالفا له فقد ثبت للمستديرة مبدأ ومنتهى بالفعل كالمستقيمة نعم إذا فرض أن المستديرة أزلية أبدية كما هو مذهبهم في الحركات الفلكية لم يكن هناك مبدأ ولا منتهى بالفعل كما نبهناك عليه فيما سلف ولا يمكن مثل هذا الفرض في المستقيمة لتناهي الأبعاد (2/269)
وانقطاع الحركة بالرجوع والانعطاف فلا بد لها دائما من مبدأ ومنتهى بالفعل نعم إذا فرض أن جسما تحرك على محيط دائرة حتى تمم دورة كان مبدأها ومنتهاها واحدا بالذات مختلفا بالاعتبار إلا أن هذه حركة أينية في الاصطلاح مستديرة بحسب اللغة
تنبيه المبدأ والمنتهى أي هذان المفهومان العارضان لا ذاتاهما إذا نسب أحدهما إلى الآخر فتقابلهما تقابل التضاد لا السلب والإيجاب والعدم والملكة لأنهما وجوديان ولا التضايف لما سنذكره وإذا نسبا إلى ما له المبدأ والمنتهى وهي الحركة كانا متضايفين له فبين كل منهما وبينه أي بين ما له المبدأ والمنتهى تقابل التضايف فإن المبدأ مبدأ لذي المبدأ وذو المبدأ ذو مبدأ للمبدأ وكذا حال المنتهى وذي المنتهى وليس بين المبدأ والمنتهى تضايف فقد يعقل مبدأ لا منتهى له وبالعكس لجواز أن يفرض حركة لها بداية بلا نهاية أو نهاية بلا بداية فلا تكافؤ بينهما في التعقل ولا في الوجود فلا تضايف
فإن قيل قد يكون جسم واحد مبدأ لحركة ومنتهى لها أيضا فكيف يتصور التضاد بينهما مع اجتماعهما في موضوع واحد
قلت هما أعني مفهومي المبدأ والمنتهى غير عارضين للجسم عروضا أوليا حتى يقال إنهما يجتمعان فيه بل هما عارضان للأطراف الحاصلة في الأجسام ولا يكون طرف واحد مبدأ ومنتهى لحركة واحدة إلا بالفرض وفي زمانين إذ لا يتصور في حركة واحدة مستقيمة أن يكون مبدأها ومنتهاها طرفا واحدا وأما المستديرة فإن مبدأها ومنتهاها نقطة واحدة مفروضة لكنها لا تتصف بهاتين الصفتين في آن واحد فهي وإن كانت واحدة بالذات إلا أنها اثنتان في الاعتبار وذلك كاف لها في كونها بداية للحركة ونهاية لها وإنما وسم الفصل بالتنبيه لأن التأمل في مفهومي المبدأ والمنتهى وما نسبا إليه كاف للتصديق بما ذكر فيه
فرع على ما مر من أن تضاد الحركات أنما يكون لتضاد المبدأ (2/270)
والمنتهى قالوا الحركة المستقيمة لا تضاد الحركة المستديرة وإلا كان ذلك بسبب تضاد أطراف المستقيمة والمستديرة وهو باطل إذ كل مستقيمة فإنها واقعة على خط هو وتر لقسي غير متناهية بالقوة فلو كانت المستقيمة ضدا للمستديرة لكان للمستقيمة الواحدة بالشخص أضداد غير متناهية متخالفة بالنوع هي المستديرات المتوهمة من منتهى المستقيمة إلى مبدأها وذلك باطل إذ ضد الواحد واحد كما مر في مباحث التضاد وأيضا كل قوس يفرض ضدا لذلك الخط فهناك قوس أخرى أعظم تحديا من الأولى فتكون هذه بالضدية أولى فليس شيء من تلك القسي ضدا للمستقيم فلا يكون المستقيم ضدا لشيء منها لا يقال طبيعة الاستدارة واحدة في المستديرات فتكون هي من حيث طبيعتها المشتركة بينها مخالفة للمستقيمة ومضادة لها لأنا نقول لا وجود للاستدارة المجردة إنما الموجود في الخارج ما هو مستدير معين ولا شيء من المستديرات المعينة أولى بالمضادة لما عرفت ولما امتنع حصول الاستدارة المجردة في الخارج امتنع معاقبتها للمستقيم في الموضوع فلا يكون ضدا له ولا تضاد المستديرة المستديرة لنحو ذلك الذي ذكر لنفي التضاد بين المستقيمة والمستديرة فإن التضاد بين الحركات لتضاد مباديها وغاياتها فلو كان بين المستديرات تضاد لكان لمستديرة واحدة أضداد غير متناهية متخالفة بالنوع وذلك لأن طرفي مستديرة واحدة قد يكونان طرفين لدوائر أي لقسي غير متناهية فإنه يجوز اشتراك قسي غير متناهية في طرفين فلو كانت المستديرة ضدا للمستديرة لكان لمستديرة واحدة أضداد بلا نهاية هي المستديرات الموجهة من منتهى تلك المستديرة إلى مبدئها وهو باطل وأما الحركة إلى التوالي والحركة إلى خلافه فكل من هاتين الحركتين تفعل مثل فعل الأخرى ولكن في النصفين من المسافة على التبادل فإن المنحدر من (2/271)
السرطان إلى الجدي على التوالي يكون مسافته الأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والمنحدر من السرطان إلى الجدي لا على التوالي مسافته الجوزاء والثور والحمل والحوت والدلو فقد فعل كل منهما في الانحدار مثل فعل الآخر أعني الحركة المبعدة عن السرطان الموصلة إلى الجدي لكن في النصف الآخر وقس على ذلك حال الصعود من الجدي إلى السرطان فإنه على عكس الانحدار المذكور ولما كان الفلك جسما بسيطا متشابه الأجزاء كان النصفان متساويين في الماهية وكذلك الأطراف والنهايات متساوية فيها فلا يكون شيء منها سببا لتضاد الحركات المستديرة فلا تكون متضادة
قال المصنف ولا يخفى ما فيه من أن الحركة في النصفين مع اتحاد المسافة مختلفة يعني أن ما ذكروه إنما يدل على أن الحركة إلى التوالي والحركة إلى خلافه إذا اعتبر حالهما في نصفين متبادلين كانتا متماثلتين متحدتين في المبدأ والمنتهى فلا يتصور بهذا الاعتبار بينهما تضاد ولا شك أنه إذا اعتبر حالهما في كل واحد من النصفين معا كانتا متخالفتين بل متضادتين فإن حركة المنحدر من السرطان إلى الجدي على التوالي مضادة لحركة الصاعد من الجدي إلى السرطان على خلاف التوالي للتضاد بين المبدأين والمنتهيين وإن كانا مفروضين مع اتحاد المسافة على قياس الصاعدة والهابطة المستقيمتين وكذا الحال في الصاعدة من الجدي إلى السرطان على التوالي والمنحدرة من السرطان إلى الجدي على خلاف التوالي نعم إذا اعتبر تمام الدورة فيهما اتحدت المسافة وكانت نقطة واحدة مبدأ ومنتهى لهما معا وكان الاختلاف بينهما بحسب التوجه منها وإليها وذكر في الملخص أن أمثال هذه المباحث لفظية لأنه إن أريد (2/272)
بالضدين كل معنيين وجوديين يمتنع اجتماعهما دفعة واحدة في محل واحد كانت الحركة المستقيمة مضادة للمستديرة وكانت المستديرات أيضا متضادة لامتناع الاجتماع وإن أريد مع ذلك أن يكون ما منه وما إليه أمورا موجودة بالفعل متضادة فلا تضاد حينئذ بين المستقيمة والمستديرة ولا بين المستقيمات والمستديرات
المقصد التاسع
المتن
الحركة ليست كما بالذات بل بالعرض ويعرض لها ثلاثة أنواع من الانقسام
الأول بحسب المسافة لانطباقها فالحركة إلى نصفها نصف الحركة إلى كلها
الثاني بحسب الزمان لأنه عارض لها فالحركة في نصف ساعة نصف الحركة في ساعة وهذا غير الذي بحسب المسافة إذ قد يختلفان كالسريعة والبطيئة
الثالث بحسب المتحرك فإن الجسم إذا تحرك تحركت أجزاؤه المفروضة فيه والحركة القائمة بكل جزء غير القائمة بالآخر فإذا عرض له انفصال حصل لكل جزء حركة بالفعل
الشرح
المقصد التاسع الحركة ليست كما بالذات فإنها من المقولات النسبية لا من مقولة الكم بل هي كم بالعرض ويعرض لها بسبب الكمية العرضية ثلاثة أنواع من الانقسام (2/273)
الأول بحسب المسافة لانطباقها فإن الحركة الأينية منطبقة على المسافة كأنها حالة فيها والمسافة منقسمة لانتفاء الجزء الذي لا يتجزأ فتنقسم الحركة بانقسامها فالحركة إلى نصفها نصف الحركة إلى كلها
الثاني بحسب الزمان فإنه عارض لها فينقسم بانقسام عارضها فالحركة في نصف ساعة نصف الحركة في ساعة وهذا الانقسام الثابت للحركة بحسب الزمان غير الانقسام الذي بحسب المسافة إذ قد يختلفان كالسريعة والبطيئة فإنه إذا فرض اتحادهما في المسافة والانقسام بحسبها فلا بد أن يختلف زمانها والانقسام بحسبه وإذا فرض اتحادهما في الزمان والانقسام بحسبه كانتا مختلفتين في الساعة والانقسام بحسبها
الثالث بحسب المتحرك فإن الجسم هو المتحرك وهو قابل للقسمة ولا شبهة في أنه إذا تحرك الجسم تحركت أجزاؤه المفروضة فيه والحركة القائمة بكل جزء غير القائمة بالآخر فقد انقسمت الحركة أيضا انقساما فرضيا كمحلها فإذا عرض له أي للجسم انفصال خارجي حصل لكل جزء حركة بالفعل فالحركة تابعة لمحلها في الانقسام الفرضي والفعلي الخارجي كالسواد القائم بالجسم فإنه يتبعه في هذين الانقسامين وقد نبهناك على أن الانقسام بحسب المسافة إنما يتصور في الحركة الأينية وأما الانقسام بحسب الزمان فشامل للحركة كلها وكذا الانقسام بحسب المتحرك إذا جعل المكان عبارة عن البعد وأما إذا جعل عبارة عن السطح فلا شك أن أجزاء الجسم إما متصلة أو متماسكة وعلى التقديرين فهي إما أن لا تفارق أمكنتها أصلا أو تفارق أجزاء من أمكنتها هي أجزاء لمكان الكل فهي غير مفارقة أمكنتها بالكلية فلا تكون متحركة (2/274)
المقصد العاشر
المتن
ما يوصف بالحركة إما أن تكون الحركة فيه بالحقيقة أو لا
والثاني أنه متحرك بالعرض كراكب السفينة والأول إما أن يكون مبدأ الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو فيه إما مع الشعور وهي الإرادية أو لا وهي الطبيعية فالحركة النباتية طبيعية وكذا حركة النبض وقد أخطأ من جعل الحركة الطبيعية هي الصاعدة والهابطة أو التي على وتيرة واحدة
الشرح
المقصد العاشر ما يوصف بالحركة إما أن تكون الحركة حاصلة فيه بالحقيقة أي تكون الحركة عارضة له بلا توسط عروضها لشيء آخر أو لا بل تكون الحركة حاصلة في شيء آخر تقارنه فيوصف هذا بالحركة تبعا لذلك الشيء والثاني يقال له إنه متحرك بالعرض وتسمى حركته حركة عرضية كراكب السفينة
قال الكاتبي في هذا المثال نظر لأن الحركة هي الانتقال من مكان إلى آخر مع التوجه والراكب منتقل كذلك فيكون متحركا بالذات اللهم إلا أن يعتبر الانتقال من مكان إلى آخر مغاير للأول بجميع أجزائه فحينئذ يكون الراكب متحركا بالعرض لأن الهواء متبدل دون سطح السفينة وجوابه ظاهر إذ لا توجه في الراكب بل إنما يوصف به تبعا للسفينة ثم إن المتحرك بالعرض قد يكون قابلا للحركة كالدرة المتحركة بحركة الحقة وقد لا يكون كالصور والأعراض الحالة في الأجسام المنتقلة وأما ما لا يكون (2/275)
جسما ولا حالا فيه كالنفس مع البدن فإنها لا توصف بالحركة تبعا لحركة البدن والأول يقال إنه متحرك بالذات وتسمى حركته حركة ذاتية وتنقسم حركته إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون مبدأ الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو يكون مبدأ الحركة فيه إما مع الشعور أي شعور مبدأ الحركة بتلك الحركة وهي الحركة الإرادية أو لا مع الشعور وهي الحركة الطبيعية وعلى هذا فالحركة النباتية طبيعية وكذا حركة النبض لأن مبدأ هاتين الحركتين موجود في المتحرك ولا شعور له بالحركة الصادرة عنه وقد أخطأ من جعل الحركة الطبيعية هي الصاعدة والهابطة أي حصرها فيهما إذ يخرج عنها حينئذ حركة النبض كما مر في مباحث الميل والحركة النباتية أو جعل الحركة الطبيعية هي التي على وتيرة واحدة بلا شعور إذ يخرج عنها حينئذ هاتان الحركتان أيضا ومنهم من قسم الحركة إلى عرضية وذاتية والذاتية إلى ستة أقسام لأن القوة المحركة إن كانت خارجة عن المتحرك فالحركة قسرية وإن لم تكن خارجة عنه فإما أن تكون الحركة بسيطة أي على نهج واحد وإما مركبة لا على نهج واحد والبسيطة إما أن تكون بإرادة وهي الحركة الفلكية أو لا بإرادة وهي الطبيعية والمركبة إما أن يكون مصدرها القوة الحيوانية أو لا والثانية الحركة النباتية والأولى إما أن تكون مع شعور بها وهي الحركة الإرادية الحيوانية أو لا مع شعور وهي الحركة التسخيرية كحركة النبض
المقصد الحادي عشر
المتن
الحركة إما سريعة وهي التي تقطع مسافة مساوية في زمان أقل من زمانها ويلزمها أن تقطع الأكثر في المساوي وإما بطيئة وهي التي بالعكس فتقطع المساوي في الأكثر الأقل في المساوي وليس البطء لتخلل السكنات وإلا لم يحس بحركة فرس واللازم بطلانه ظاهر بيان الملازمة أن البطء لو لم يكن إلا لتخلل السكنات كان تفاوت السرعة والبطء بحسب (2/276)
السكنات المتخللة فإذا عدا الفرس أشد عدو كانت حركته أبطأ من حركة المحدد بنسبة غير قليلة وتكون زيادة سكناته على حركاته كزيادة حركة المحدد على حركاته وأنه ألف ألف مرة فلا تظهر تلك الحركات القليلة في تلك السكنات الكثيرة
واعلم أن دلائل إبطال الجزء المبنية على تلازم الحركتين كما ستنتهي النوبة إليه تدل على بطلان هذا
وبالجملة فهذا البحث مبني على بحث الجزء وفرع من فروعه يدور معه صحة وبطلانا منها أنا إذا غرزنا خشبة في الأرض فإذا كانت الشمس في أفقها الشرقي وقع الظل في الجانب الغربي ولا يزال يتناقص إلى أن تبلغ الشمس غاية ارتفاعها وكلما ارتفعت الشمس انوقف الظل جاز في الثاني والثالث فيجوز أن تتم الشمس الدورة والظل بحاله وإن تحرك جزء كان بإزاء كل حركة للشمس حركة للظل أقل فثبت أن السرعة والبطء بلا تخلل سكنات ويمكن المضايقة في قولهم لو جاز أن تتحرك الشمس جزء والظل بحاله لجاز في الكل وإذا كان كذلك جاز أن يتم الدورة والظل بحاله فإن ذلك جائز عندنا والعادة هي القاضية بعدمها من غير استحالة عندنا وهي تستند إلى الفاعل المختار ومنه يعلم جواب قولهم علة الحركة مستمرة من أول المسافة إلى آخرها فكذا الحركة
تنبيه الاختلاف بالسرعة والبطء ليس اختلافا بالنوع فإن الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى حركته وبطيئة إلى أخرى ولأنهما قابلان للاشتداد والتنقص
الشرح
المقصد الحادي عشر الحركة إذا قيست إلى حركة أخرى فهي إما سريعة وهي التي تقطع مسافة مساوية لمسافة أخرى في زمان أقل من زمانها ويلزمها أي الحركة السريعة أن تقطع الأكثر أي المسافة التي مقدارها أكثر في الزمان المساوي يعني أنه إذا فرض تساوي الحركتين في (2/277)
المسافة كان زمان السريعة أقل وإذا فرض تساويهما في الزمان كانت مسافة السريعة أكثر فهذان الوصفان لازمان مساويان للسريعة ولذلك عرفت بكل واحد منهما وأما قطعها لمسافة أطول في زمان قصر فخاصة قاصرة وأما بطيئة وهي التي بالعكس فتقطع المساوي من المسافة في الزمان الأكثر أو تقطع الأقل من المسافة في الزمان المساوي وربما قطعت مسافة أقل في زمان الأكثر لكنه غير شامل لها وليس البطء أي ليس كل بطء لتخلل السكنات بين الحركات وإلا لم يحس بحركة الفرس وإن فرضت سريعة جدا واللازم بطلانه ظاهر بيان الملازمة أن البطء لو لم يكن إلا لتخلل السكنات فيما بين الحركات كان تفاوت السرعة والبطء بحسب تفاوت السكنات المتخللة في القلة والكثرة فإذا عدا فرس أشد عدو كما إذا قدر أنه عدا من أول اليوم إلى منتصفه خمسين فرسخا كان حركته هذه أبطأ من حركة المحدد بنسبة غير قليلة لأنها قطعت في المدة المذكورة ربع الدور وهو زائد على مسافة حركة الفرس بما لا يحيط الوهم به ويكون حينئذ زيادة سكناته أي سكنات الفرس على حركاته كزيادة حركة المحدد على حركاته لأن عدد سكناته يساوي عدد زيادات حركة المحدد لا محالة وأنه أي زيادة حركة المحدد على حركاته ألف ألف مرة فتكون زيادة سكناته على حركاته أيضا ألف ألف مرة فلا تظهر تلك الحركات القليلة في تلك السكنات الكثيرة مثل هذه الكثرة الغامرة لتلك القليلة فوجب أن لا يحس بهذه الحركة أصلا وهو باطل قطعا لأنا نحس بحركاته ولا نحس بشيء من سكناته
واعلم أن دلائل إبطال الجزء المبنية على تلازم الحركتين المتخالفتين بالسرعة (2/278)
والبطء وهي ستة كما ستنتهي النوبة إليه أي إلى ذكرها تدل على بطلان هذا يعني كون البطء منحصرا في تخلل السكنات فيجوز أن يستدل بها ههنا
وبالجملة فهذا البحث وهو كون البطء للتخلل مبني على بحث الجزء وفرع من فروعه يدور معه صحة وبطلانا منها أي من تلك الدلائل الستة أنا إذا غرزنا خشبة في الأرض فإذا كانت الشمس في أفقها الشرقي وقع الظل في الجانب الغربي طويلا ولا يزال يتناقص الظل بحسب ازدياد ارتفاع الشمس إلى أن تبلغ الشمس غاية ارتفاعها وكلما ارتفع أي إذا ارتفع الشمس مقدارا إن وقف الظل ولم ينتقص أصلا جاز ذلك في الثاني والثالث فيجوز حينئذ أن تتم الشمس الدورة والظل بحاله وهو باطل وإن تحرك الظل جزءا كلما تحركت الشمس جزءا يمكن أن يكون هذان الجزءان متساويين في المقدار ولا أن يكون جزء الظل أكبر بل وجب أن يكون أصغر وحينئذ كان بإزاء كل حركة للشمس نحو الارتفاع حركة للظل نحو الانتقاص أقل من الحركة الاتفاعية في المقدار فتكون حركة الظل أبطأ بلا تخلل سكون فثبت أن السرعة والبطء بلا تخلل سكنات ويمكن المضايقة في قولهم لو جاز أن تتحرك الشمس جزءا والظل بحاله لجاز في الكل وإذا كان كذلك جاز أن يتم الدورة والظل بحاله فإن ذلك أي إتمام الدورة مع بقاء الظل على حاله جائز عندنا لأن جميع الموجودات مستندة إليه تعالى ابتداء بلا وجوب ولا إيجاب والعادة هي القاضية بعدمها أي عدم هذه الحالة أعني بقاء الظل على حاله مع إتمام الدورة من غير استحالة فيها عندنا وهي أي حركة الشمس والظل تستند إلى الفاعل المختار فيجوز أن يوجد حركة الشمس إلى تمام الدورة ولا يوجد معها (2/279)
حركة الظل أصلا إلا أن عادته تعالى جرت بخلاف ذلك فما حكمتم باستحالته ليس بمحال بل هو معدوم بقضاء العادة ومنه أي ومما ذكرنا في دفع الاستدلال المذكور يعلم جواب قولهم علة الحركة مستمرة من أول المسافة إلى آخرها فكذا الحركة يعني أنهم استدلوا على بطلان تخلل السكنات في الحركة بأن علة حركة الحجر مثلا قسرية كانت أو طبيعية مستمرة الوجود من أول المسافة إلى آخرها والهواء قابل للانخراق بلا تفاوت فوجب أن تستمر تلك الحركة من غير أن يتخللها توقف وسكون في بعض الأحياز مع كونها أبطأ من الحركة الفلكية بلا شبهة فثبت البطء بلا تخلل السكنات
والجواب أن تلك الحركة عندنا مستندة إلى الفاعل المختار لا إلى القاسر أو الطبيعة فجاز أن يحرك الحجر في حيز ويسكنه في آخر مع تساويهما في قبول الحركة والسكون
تنبيه الاختلاف بالسرعة والبطء ليس اختلافا بالنوع فإن الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى حركة وبطيئة بالنسبة إلى أخرى مع أن ماهيتهما واحدة لا اختلاف فيها ولأنهما أي السرعة والبطء قابلان للاشتداد والتنقص فإن المسافة الواحدة يمكن قطعها بحركات مختلفة في مراتب السرعة والبطء فلا يكونان فصلين للحركات لأن الفصول لا تقبل الاشتداد والتنقص
المقصد الثاني عشر
المتن
قال الحكماء علة البطء إما في الطبيعية فممانعة المخروق فكلما كان قوامه أغلظ كان أشد ممانعة كالماء مع الهواء وإما في القسرية (2/280)
والإرادية فممانعة الطبيعة وكلما كان الجسم أكبر والطبيعة أكثر كان أشد ممانعة وإن اتحد المخروق أو مع ممانعة المخروق وربما عاوق أحدهما أكثر والآخر أقل فتعادلا
الشرح
المقصد الثاني عشر قال الحكماء علة البطء إما في الحركات الطبيعية فممانعة المخروق الذي في المسافة فكلما كان قوامه أغلظ كان أشد ممانعة للطبيعة وأقوى في اقتضاء بطء الحركة كالماء مع الهواء فنزول الحجر إلى الأرض في الماء أبطأ من نزوله إليها في الهواء وإما في الحركات القسرية والإرادية فممانعة الطبيعة إما وحدها وذلك أنه كلما كان الجسم أكبر مقدارا وكان الطبيعة السارية فيه أكبر وأعظم كان ذلك الجسم بطبيعته أشد ممانعة للقاسر والمحرك بالإرادة وأقوى في اقتضاء البطء وإن اتحد المخروق والقاسر والمحرك الإرادي ومن ثمة كان حركة الحجر الكبير أبطأ من حركة الصغير في مسافة واحدة من قاسر واحد أو ممانعة الطبيعة مع ممانعة المخروق كالسهم المرمي بقوة واحدة تارة في الماء وتارة في الهواء وكالشخص السائر فيهما بإرادته وربما عاوق أحدهما أكثر والآخر أقل فتعادلا يعني أن معاوقة طبيعة الجسم الأكبر أكثر من معاوقة طبيعة الأصغر فإذا فرض أن معاوقة مخروق الأصغر أكثر من معاوقة مخروق الأكبر على تلك النسبة انجبر التفاوت الذي بحسب الطبيعة وتعادل الجسمان في المعاوقة المركبة وتساويا في الحركة مثل أن يحرك قاسر واحد الجسم الكبير في الهواء والصغير في الماء الذي تزيد معاوقته على معاوقة الهواء بمقدار الزيادة التي في طبيعة الأكبر
المقصد الثالث عشر
المتن
ذهب بعض الحكماء والجبائي من المعتزلة إلى أن بين كل حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكونا وإن كل حركة مستقيمة تنتهي إلى (2/281)
سكون لأنها لا تذهب إلى غير النهاية ومنعه غيرهم وأما المثبتون فلكل من الفريقين في إثباته طريق فقال الحكماء الوصول إلى المنتهى آني فكذلك الميل الموجب له والرجوع آني فكذلك الميل الموجب له آني وآن الوصول غير آن الرجوع لامتناع اجتماعهما فلو لم يكن بينهما زمان لزم تتالي الآنات وأنه باطل فذلك الزمان لا حركة فيه فهو سكون
والجواب أن الوصول في آن هو طرف حركة والرجوع في آن هو طرف حركة فلم لا يجوز أن يكون حدا مشتركا بينهما وأما الآن بمعنى جزء زمان لا ينقسم فأنتم لا تقولون به قولكم آن الرجوع غير آن الوصول
قلنا نعم لكن باعتبار كونه منتهى لزمان الحركة الموصلة ومبدأ لزمان حركة الرجوع
وقال الجبائي لا شك أن الاعتماد المجتلب في الحجر يغلب اللازم فيصعد متدرجا في الضعف إلى أن يغلب اللازم المجتلب فينزل ولا شك أن غلبته إنما تكون بعد التعادل بينهما إذ لا ينقلب من المغلوبية إلى الغالبية دفعة وعند التعادل يجب السكون وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وأما المنكرون فقال الحكماء فإذا صعد الخردلة وهبط الجبل وتلاقيا وجب وقوف الخردلة وذلك يوجب وقوف الجبل بمصادمتها لامتناع التداخل واللازم ضروري البطلان
وقد يجاب بأن الخردلة لا تصادم الجبل بل ترجع بريحه فذلك فرض محال ويجوز استلزامه للمحال
وقالت المعتزلة لا سكون إذ لا يوجبه الاعتماد اللازم فإنه يقتضي الحركة النازلة ولا المجتلب فإنه يقتضي الصاعد ولا مولد للحركة والسكون إلا الاعتماد
وقد يجيب الجبائي على أصله لا نسلم أنه لا مولد غيره بل هو الحركة فالحركة الصاعدة توجب السكون بشرط تعادل الاعتمادين وقد مر في الاعتماد (2/282)
الشرح
المقصد الثالث عشر ذهب بعض الحكماء كأرسطو وأتباعه والجبائي من المعتزلة إلى أن بين حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكونا فالحجر إذا صعد قسرا ثم رجع فلا بد أن يسكن فيما بينهما ومحصول ما ذكروه أن كل حركة مستقيمة تنتهي البتة إلى سكون وذلك لأنها لا تذهب على الاستقامة إلى غير النهاية فإن الأبعاد متناهية فإما أن تنقطع وهو ظاهر أو ترجع على سمتها أو تنعطف على سمت آخر وعلى التقديرين لا بد من سكون بين هاتين المستقيمتين فتكون الأولى منقطعة ومنعه غيرهم كأفلاطون من الحكماء وأكثر المتكلمين من المعتزلة وأما المثبتون فلكل من الفريقين في إثباته طريق فقال الحكماء الوصول إلى المنتهى آني إذ لو كان زمانيا ففي النصف الأول من ذلك الزمان إن حصل الوصول فذلك النصف هو زمان الوصول لا كله وهو خلاف المفروض وإن لم يحصل كان حاصلا في النصف الثاني ويعود المحدور والأظهر أن يقال الحد الذي هو منتهى المسافة الممتدة لا يكون منقسما في ذلك الامتداد وإلا لم يكن بتمامه حدا فالوصول إليه آني إذ لو كان زمانيا لكان ذلك الحد منقسما لتعلق الوصول به شيئا فشيئا ثم إن للوصول علة هي الميل فوجب أن تكون هذه العلة موجودة في آن الوصول (2/283)
لأن العلة الموجدة يجب وجودها حال وجود المعلول وهذا هو المراد بقوله فكذلك الميل الموجب له أي هو أيضا موجود في ذلك الآن مع حدوثه في آن ابتداء الحركة واستمراره إلى انتهائها والرجوع عن المنتهى أيضا آني كالوصول فكذلك الميل الموجب له آني أي حادث في آن وآن الوصول غير آن الرجوع لامتناع اجتماعهما فلو لم يكن بينهما زمان لزم تتالي الآنات وتركب الزمان منها وأنه باطل إذ يلزم حينئذ تركب الحركة من أجزاء لا تتجزأ فيلزم تركب المسافة أيضا منها فذلك الزمان لا حركة فيه لا إلى المنتهى ولا عنه فهو سكون أي زمان سكون
والجواب أن الوصول في آن هو طرف حركة متوجهة نحو المنتهى والرجوع في آن هو طرف حركة منصرفة عنه فلم لا يجوز أن يكون آن واحد حدا مشتركا بينهما أي بين الحركتين بل بين زمانيهما فإن الطرف الواحد يجوز أن يكون مشتركا بين شيئين كالنقطة الواحدة المشتركة بين خطين بخلاف الجزء ولذلك قال وأما الآن بمعنى جزء زمان لا ينقسم ذلك الجزء فأنتم لا تقولون به حتى يمتنع اشتراكه بين زماني الحركتين قولكم آن الرجوع غير آن الوصول قلنا نعم بينهما تغاير لكن لا بالذات بل باعتبار كونه منتهى لزمان الحركة الموصلة ومبدأ لزمان حركة الرجوع واعلم أن الحجة المشهورة للمثبتين من الحكماء هي أن المتحرك إلى المنتهى إنما يصل إليه في آن وإذا تحرك عنه بعد كونه واصلا إليه فلا محالة يصير مفارقا ومباينا له في آن أيضا ولا يمكن اتحاد الآنين وإلا كان واصلا إلى المنتهى ومباينا له معا فوجب تغايرهما بالذات واستحال تتاليهما بلا تخلل زمان بينهما لاستلزامه القول بالجزء وذلك الزمان زمان سكون إذ لا حركة هناك لا إلى ذلك الحد ولا عنه وأبطلها ابن سينا بأن المفارقة والمباينة هي حركة الرجوع فهناك آنان آن يقع فيه ابتداء الرجوع والمباينة (2/284)
وآن يصدق فيه على المتحرك أنه مفارق مباين لذلك الحد الذي هو المنتهى فإن عنوا بأن المباينة طرف زمان المباينة نختار أن ذلك الآن هو بعينه آن الوصول بأن يكون حدا مشتركا بين زمان الحركتين فإن طرف الحركة يجوز أن يكون شيئا ليس فيه حركة أصلا وإن عنوا به آنا يصدق فيه على المتحرك أنه راجع مباين نختار أنه مغاير لآن الوصول وأن بين الآنين زمانا لكنه ليس زمان السكون بل زمان الحركة وهو بعض حركة الرجوع فإن كل آن يفرض في زمان وقع فيه حركة الرجوع يكون بينه وبين آن ابتداء الرجوع بعض حركة الرجوع ثم أنه أقام الحجة على وجوب تخلل السكون بأن اعتبر الميل الموصل والميل الموجب لحركة المفارقة وحكم بأن اجتماعهما في آن واحد محال إذ يستحيل أن يجتمع في جسم الإيصال إلى حد والتنحية عنه فوجب أن يكون كل منهما في آن مغاير لآن الآخر بينهما زمان سكون كما مر والمصنف قرر الحجة التي أوردها ابن سينا وأجاب عنها بما هو جواب عن الحجة المشهورة فالصواب أن يجاب بمنع استحالة اجتماع الميلين أو بتجويز تتالي الآنين أو بمنع بقاء الميل الموصل فإنه علة معدة للوصول كالحركة فلا يجب بقاؤه مع المعلول مثلها أو يمنع حدوث الميل في آن بل هو زماني كالحركة
وقال الجبائي لا شك أن الاعتماد المجتلب في الحجر يغلب الاعتماد اللازم إذ الحادث أقوى من الباقي فيصعد الاعتماد المجتلب في الحجر ويضعف بمصاكات الهواء المخروق متدرجا في الضعف إلى أن يغلب اللازم المجتلب فينزل الحجر ولا شك أن غلبته على المجتلب إنما تكون بعد التعادل بينهما إذ لا ينقلب المغلوب من المغلوبية إلى الغالبية دفعة من غير تخلل تعادل وعند التعادل يجب السكون وإلا لزم (2/285)
الترجيح بلا مرجح إذ لو لم يسكن لكان متحركا إما بالاعتماد اللازم أو بالاعتماد المجتلب مع تعادلهما وتساويهما فيكون تحكما محضا
والجواب عنه أن الجبائي ليس قائلا بتوليد الاعتماد للحركة ولا للسكون فهذا لا يوافق مذهبه كما مر في مباحث الاعتماد مع أنه غير شامل للحركات الإرادية الصادرة عن الحيوانات وأما المنكرون لتخلل السكون بين المستقيمتين فلكل من الفريقين أيضا في إنكاره طريق فقال الحكماء إن صح وجوب السكون بينهما فإذا فرض أنه صعد الخردلة وهبط الجبل وتلاقيا في الجو بحيث يماس سطحها سطحه فلا شك أنه تنزل الخردلة راجعة وحينئذ وجب وقوف الخردلة لتوسط السكون بين حركتيهما الصاعدة والهابطة وذلك يوجب وقوف الجبل بمصادمتها لامتناع التداخل بين الأجسام اللازم ضروري البطلان إذ كل عاقل يعلم أن الجبل لا يقف في الجو بمصادمة الخردلة وقد يجاب بأن الخردلة لا تصادم الجبل ولا تماسه في الصورة المفروضة بل ترجع بريحه فإذا وصل إليها ريحه وقفت ثم رجعت قبل الوصول إلى الجبل فذلك الذي ذكرتموه من تلاقيهما فرض محال ويجوز استلزامه للمحال الذي هو وقوف الجبل وقالت المعتزلة لا سكون بين الحركتين إذ لا يوجبه الاعتماد اللازم فإنه يقتضي الحركة النازلة لا السكون ولا يوجبه الاعتماد المجتلب فإنه يقتضي الحركة الصاعدة لا السكون ولا مولد للحركة والسكون إلا الاعتماد وقد يجيب الجبائي على أصله فيقول لا نسلم أنه لا مولد غيره بل المولد هو الحركة السابقة فالحركة الصاعدة توجب حركة هابطة بشرط غلبة الاعتماد اللازم وتوجب السكون بشرط تعادل الاعتمادين وقد مر ذلك في مباحث الاعتماد (2/286)
المرصد الخامس في الإضافة
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
الأبوة هي المعقولة بالقياس إلى الغير ولا حقيقة لها إلا ذلك وهي الإضافة التي تعد من المقولات وتسمى مضافا حقيقيا ويقال لذات الأب المعروضة لهذا العارض إضافة وكذا للمعروض مع العارض وهذان يسميان مضافا مشهوريا
تنبيه قولهم المضاف ما يعقل ماهيته بالقياس إلى الغير لا يراد به أنه يلزم من تعقله تعقل الغير فإن اللوازم البينة كذلك بل أن يكون من حقيقته تعقل الغير فلا يتم تعقله إلا بتعقل الغير وهذا يتناول المضاف الحقيقي والقسم الثاني من المشهوري أعني المركب فلو أردنا تخصيصه بالحقيقي قلنا ما لا مفهوم له إلا معقولا بالقياس إلى الغير
الشرح
المرصد الخامس في الإضافة جعل المرصد الرابع في (2/287)
المقولات النسبية واستوفى فيه بيان أحوال الأين على مذهبي المتكلمين والحكماء وأفرد منها الإضافة في مرصد على حدة واكتفى في سائر النسب بما مضى في صدر الموقف الثالث إذ ليس فيها مزيد بحث وهو مقاصد خمسة الأول الأبوة هي المعقولة بالقياس إلى الغير ولا حقيقة لها إلا ذلك أي ليس حقيقتها سوى أنها نسبة معقولة بالقياس إلى نسبة أخرى معقولة بالقياس إلى الأولى وحاصلها النسبة المتكررة كما مر وهي الإضافة التي تعد من المقولات وتسمى مضافا حقيقيا ويقال لذات الأب المعروضة لهذا العارض إضافة أيضا وكذا يقال الإضافة للمعروض مع العارض وهذان يسميان مضافا مشهوريا فلفظ الإضافة كلفظ المضاف يطلق على ثلاثة معان العارض وحده والمعروض وحده والمجموع المركب منهما
تنبيه قولهم المضاف ما يعقل ماهيته بالقياس إلى الغير لا يراد به أنه يلزم من تعقله تعقل الغير فإن اللوازم البينة كذلك أي هي بحيث يلزم تعقل ملزوماتها فيدخل جميع الماهيات البينة اللوازم في تعريف المضاف بل يراد به أن يكون من حقيقته تعقل الغير فلا يتم تعقله إلا بتعقل الغير أي هو في حد نفسه بحيث لا يتم تعقل ماهيته إلا بتعقل أمر خارج عنها وإذا قيد ذلك الغير بكونه نسبة يخرج سائر النسب ويبقى هذا القول يتناول المضاف الحقيقي والقسم الثاني من المشهوري أعني المركب وأما القسم الأول منه أعني المعروض وحده فليس لنا غرض يتعلق في مباحث الإضافة فلو أردنا تخصيصه بالحقيقي قلنا ما لا مفهوم له إلا معقولا بالقياس إلى (2/288)
الغير على الوجه الذي تحققته فإن المركب مشتمل على شيء آخر كالإنسان مثلا
المقصد الثاني
المتن
للمضاف خواص
الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج فكلما وجد أحدهما في الذهن أو في الخارج وحد الآخر فيه وكلما عدم عدم
فإن قيل فما قولك في المتقدم والمتأخر قلنا لا وجود للحقيقي منهما إلا في الذهن وهما معا فيه وأما معروضاهما فقد ينفكان كالمالك والمملوك والأب والابن
الثانية وجوب التكافؤ في النسبة ويعبر به بالانعكاس وهو أن يحكم بإضافة كل إلى صاحبه من حيث كان هو مضافا إليه فكما أن الأب أبو الابن فالابن ابن الأب وإنما اعتبرنا الحيثية لأنه لم يجب الانعكاس فإنك إذا قلت هذا أب لإنسان لم يلزم أن هذا إنسان لأب وقد تصعب رعاية قاعدة الانعكاس سيما إذا لم يكن من الجانب الآخر اسم كالجناح فاعتبره من الطرف الآخر بلفظ دال على النسبة كذي الجناح
الشرح
المقصد الثاني للمضاف خواص أي خاصتان
الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج فكلما وجد أحدهما في الذهن أو في الخارج وجد الآخر فيه وكلما عدم أحدهما في أحدهما عدم الآخر فيه فإن قيل فما قولك في المتقدم والمتأخر بحسب الزمان فإنهما متضايفان مع أن المتقدم الزماني لا وجود له بالاعتبار الذي به كان متقدما مع المتأخر الزماني وكذا المتأخر لا وجود (2/289)
له مع وجود المتقدم قلنا لا وجود للحقيقي منهما إلا في الذهن فإن التقدم والتأخر أمران اعتباريان يعتبرهما العقل إذا قاس ذات المتقدم إلى ذات المتأخر فيكون المجموع المركب منهما ومن معروضهما أيضا اعتباريا فلا وجود للمضايفين ههنا في الخارج بل في الذهن وهما معا فيه فالتكافؤ بين الحقيقيين وكذا بين المشهورين المعتبرين باق بحاله وأما معروضاهما إذا أخذا وحدهما فقد ينفكان كالمالك والمملوك والأب والابن والمتقدم والمتأخر وليس كلامنا في ذات المعروض وحده كما نبهناك عليه
الخاصة الثانية وجوب التكافؤ في النسبة ويعبر عنه أي عن التكافؤ في النسبة بالانعكاس ويقال الخاصة الثانية وجوب الانعكاس وهو أن يحكم بإضافة كل من المضافين إلى صاحبه من حيث كان هو مضافا إليه يعني أنه إذا أخذ ذات كل واحد من المضافين من حيث أنه مضايف لصاحبه ونسب أحدهما إلى الآخر وجب أن تنعكس هذه النسبة فينتسب الآخر إليه أيضا فكما أن الأب أبو الابن فالابن ابن الأب وإنما اعتبرنا الحيثية وقلنا من حيث كان مضافا إليه لأنه إذا لم يراع هذه الحيثية لم يجب الانعكاس فإنك إذا قلت هذا أب لإنسان لم يلزم أن هذا إنسان لأب والحاصل أن هذه الخاصة إنما هي للمضاف المشهوري أعني المعروض المأخوذ من حيث أنه معروض لعارضه كالأب والابن والعالم والمعلوم والعاشق والمعشوق حتى إذا نسب أحد المشهوريين إلى صاحبه وجب انعكاس هذه النسبة وأما المضاف الحقيقي فلا نسبة فيه حتى يتصور (2/290)
الانعكاس إذ لا معنى لقولك الأبوة أبوة البنوة وفي قيد الحيثية إشارة إلى ذلك لمن كان له قلب فتذكر
وقد تصعب رعاية قاعدة الانعكاس سيما إذا لم يكن له أي للمضاف من الجانب الآخر اسم كالجناح فإنه اسم لأحد المتضايفين مأخوذا مع إضافته وليس للمضاف الآخر أعني الطير اسم كذلك فيقال الجناح جناح الطير ولا يقال الطير طير الجناح وإن شئت رعاية قاعدة الانعكاس ههنا فاعتبره أي المضاف من الطرف الآخر بلفظ دال على النسبة كذي الجناح فإنه يجب الانعكاس حينئذ والضابط في معرفة طريق الانعكاس أن تجمع أوصاف كل واحد من الطرفين وتنظر فيها فأي وصف وجدته بحيث إذا وضعته ورفعت ما عداه بقيت الإضافة بينهما وإذا رفعته ووضعت غيره مكانه لم تبق تلك الإضافة فذلك الوصف هو الإضافة الحقيقية فإذا عبرت عن كل واحد من الطرفين بما يدل عليه مأخوذا مع الإضافة الحقيقية سواء كان لفظا مفردا أو مركبا ونسبت أحدهما إلى الآخر انعكست تلك النسبة قطعا
المقصد الثالث
المتن
الإضافة لا تستقل بوجودها فيكون تحصلها تبعا لتحصل لحوقها للغير ويفهم ذلك تارة بأن يؤخذ الملحوق والإضافة معا وليس ذلك هو المقولة وتارة بأن تؤخذ الإضافة مقرونا بها اللحوق الخاص كشيء واحد مقيد وهذا (2/291)
تنوع الإضافة وتحصلها فالمشابهة وهو الاتحاد في الكيف غير الكيف فإذا اعتبرنا الاتحاد من حيث أنه في الكيف كان نوعا من الإضافة ثم الإضافة إذا كانت في طرف محصلة كانت في الطرف الآخر محصلة ويلزمه أنها إذا كانت في طرف مطلقة ففي الآخر مطلقة فالنصف في مقابلة الضعف وهذا النصف في مقابلة هذا الضعف هذا إذا حصلنا نفس الإضافة وأما إذا حصلنا موضوعها لم يلزم تحصيل المضاف المقابل له فتحصيل الرأس حتى يصير هذا الرأس لا يوجب تعيين من له الرأس
الشرح المقصد الثالث الإضافة لا تستقل بوجدها أي ليس لها وجود منفرد ليتصور تعينها بنفسها بل وجودها أن يكون أمرا لاحقا للأشياء فيكون تحصلها وتخصصها تبعا لتحصل لحوقها للغير وتخصصه ويفهم ذلك أي تحصلها تبعا للحوق تارة بأن يؤخذ الملحوق والإضافة معا فتتعين الإضافة على حسب تعين الملحوق واللحوق وليس ذلك المأخوذ على هذا الوجه هو المقولة بل هو أمر مركب من المقولة ومن معروضها وتارة بأن تؤخذ الإضافة مقرونا بها اللحوق الخاص كشيء واحد مقيد عارض ذلك الملحوق وهذا تنوع الإضافة وتحصلها فالمشابهة وهو الاتحاد والموافقة في الكيف غير الكيف المتحد الموافق فإذا اعتبرنا الاتحاد والموافقة من حيث أنه في الكيف كان نوعا من الإضافة المطلقة متحصلا بحسب لحوقه للكيف وكذا الحال في المساواة والمماثلة ثم الإضافة إذا كانت في طرف محصلة كانت في الطرف الآخر محصلة أيضا على حسب تحصيل الطرف الأول شخصيا كان أو نوعيا ويلزمه بسبب استلزام نقيض اللازم نقيض الملزوم أنها إذا كانت في طرف مطلقة أي غير محصلة ففي الطرف (2/292)
الآخر مطلقة أيضا فالنصف المطلق في مقابلة الضعف المطلق وهذا النصف في مقابلة هذا الضعف فظهر أن أي المضافين عرفت بالتحصيل والتعيين عرف الآخر به لكن هذا إذا حصلنا نفس الإضافة الحقيقية كالنصفية والضعفية وأما إذا حصلنا موضوعها فقط لم يلزم تحصيل المضاف المقابل له فتحصيل الرأس حتى يصير هذا الرأس لا يوجب تعيين من له رأس يعني أن الرأسية إضافة عارضة بعضو مخصوص بالقياس إلى ذي الرأي فإذا حصلنا ذلك العضو من حيث أنه جوهر معين حتى صار هذا الرأس لم يلزم تحصيل الشخص الذي هو ذو الرأس نعم إذا حصلنا الرأسية التي هي الإضافة الحقيقية حتى تصير هذه الرأسية وجب أن تتحصل الإضافة في الطرف الآخر فيكون الرأس وذو الرأس متعينين حينئذ
المقصد الرابع
المتن
تلحق الإضافة تقسيمات
الأول إما أن تتوافق من الطرفين كالجوار وإما أن تتخالف كالابن والأب والمتخالف إما محدود كالضعف والنصف أو لا كالأقل والأكثر
الثاني أنه قد تكون لصفة في كل واحد من المضافين كالعشق فإنه لإدراك العاشق وجمال المعشوق أو لصفة في أحدهما كالعالمية فإنها لصفة في العالم وهو العلم دون المعلوم وإلا فللمعدوم بكونه معلوما صفة وقد لا تكون لصفة أصلا كاليمين واليسار
الثالث قال ابن سينا تكاد الإضافة تنحصر في أقسام في المعادلة (2/293)
كالغالب والقاهر والمانع وفي الفعل والانفعال كالقطع والكسر وفي المحاكاة كالعلم والخبر وفي الاتحاد كالمجاورة والمشابهة
الرابع الإضافة قد تعرض للمقولات كلها فالجوهر كالأب والابن والكم كالصغير والكبير والقليل والكثير والكيف كالأحر والأبرد والمضاف كالأقرب والأبعد والأين كالأعلى والأسفل ومتى كالأقدم والأحدث والوضع كالأشد انحناء وانتصابا والملك كالأكسى والأعرى والفعل كالأقطع والانفعال كالأشد تسخنا
الخامس قد يكون لها من الطرفين اسم أو من أحدهما أو لا
السادس قد يوضع لها ولموضوعها اسم فيدل عليها بالتضمن
الشرح
المقصد الرابع يلحق الإضافة تقسيمات من وجوه
الأول إما أن تتوافق الإضافة من الطرفين كالجوار والأخوة وإما أن تتخالف كالابن والأب فإن البنوة والأبوة متخالفتان في الماهية والمتخالف إما محدود كالضعف والنصف فإن ضعفه شيء واحد تكون القياس إلى واحد آخر لا إلى أمور كثيرة وكذا النصفية أو لا محدود كالأقل والأكثر فإن أقلية شيء واحد قد تكون بالقياس إلى أشياء متعددة وكذا الأكثرية
الثاني أنه قد تكون الإضافة لصفة موجودة في كل واحدة من المضافين كالعشق فإنه لإدراك العاشق وجمال المعشوق فكل واحدة من العاشقية والمعشوقية إنما ثبت في محلها بواسطة صفة موجودة فيه أو لصفة في أحدهما فقط كالعالمية فإنها لصفة موجودة في العالم وهو العلم (2/294)
دون المعلوم فإنه متصف بالمعلومية من غير أن يكون له صفة موجودة تقتضي اتصافه بها وإلا فللمعدوم بكونه معلوما صفة موجودة وقد لا تكون الأضافة لصفة حقيقية أصلا أي في شيء من الطرفين كاليمين واليسار إذ ليس للمتيامن صفة حقيقية بها صار متيامنا وكذلك المتياسر
الثالث قال ابن سينا تكاد الإضافة تنحصر في أقسام في المعادلة كالغالب والقاهر والمانع وفي الفعل والانفعال كالقطع والكسر وفي المحاكاة كالعلم والخبر وفي الاتحاد كالمجاورة والمشابهة والمماثلة والمساواة واعلم أن المنقول في المباحث المشرقية من كلامه هو هكذا تكاد تكون المضافات منحصرة في أقسام المعادلة والتي بالزيادة والتي بالفعل والانفعال ومصدرهما من القوة والتي بالمحاكاة فأما التي بالزيادة فإما من الكم وهو ظاهر وإما من القوة كالغالب والقاهر والمانع وإما التي بالفعل والانفعال فكالأب والابن والقاطع والمنقطع وأما التي بالمحاكاة فكالعلم والمعلوم والحس والمحسوس فإن العلم يحاكي هيئة المعلوم والحس يحاكي هيئة المحسوس على أن ذلك لا يضبط تقديره ولا يلتبس عليك أنه لو بدل في عبارة الكتاب لفظ المعادلة بلفظ الزيادة لتطابق المنقولان بحسب المعنى إذ يكون حينئذ قوله وفي الاتحاد قائما مقام المعادلة وأما وقوع الخبر موقع الحس فلا بأس به لأن الخبر أيضا حكاية هيئة المخبر عنه
الرابع الإضافة قد تعرض للمقولات كلها بل للواجب تعالى أيضا كالأول فالجوهر كالأب والابن والكم كالصغير والكبير من المقادير والقليل والكثير من الأعداد والكيف كالأحر والأبرد والمضاف كالأقرب والأبعد والأين كالأعلى والأسفل ومتى كالأقدم والأحدث والوضع (2/295)
كالأشد انحناء وانتصابا والملك كالأكسى والأعرى والفعل كالأقطع والانفعال كالأشد تسخنا
الخامس قد يكون لها من الطرفين اسم أي يكون لها باعتبار كل واحد من طرفيهما اسم مفرد مخصوص بذلك الطرف كالأبوة والبنوة أو من أحدهما فقط كالمبدئية أو لا يكون لها اسم مخصوص بشيء من طرفيها كالأخوة
السادس قد يوضع لها ولموضوعها معا اسم فيدل ذلك الاسم عليها بالتضمن سواء كان اسما مشتقا كالعالم أو غير مشتق كالجناح
المقصد الخامس
المتن
ومن أقسام المضاف التقدم والتأخر قال الحكماء التقدم على خمسة أوجه
الأول بالعلية كتقدم المضيء على الضوء وحركة الإصبع على حركة الخاتم فإن العقل يحكم بأنه تحرك الإصبع فتحرك الخاتم ولا عكس وليس ذلك بالزمان وإلا لزم التداخل ولا بالذات فإن حركة الإصبع لها ذات منفصلة عن حركة الخاتم بل لأن وجودها أتم في نفسه فأوجب وجودها
الثاني التقدم بالذات كتقدم الواحد على الإثنين فإنه لا يعقل ذات الإثنين وهو ذات هذا الواحد وذاك الواحد ولا يتم له ذات إلا بذاتهما سواء فرضنا لهما وجودا أم لا بل ذلك حكم له باعتبار ذاته وحقيقته بخلاف الأول (2/296)
الثالث التقدم بالزمان كتقدم موسى على عيسى عليهما السلام فإنه ليس لذات موسى ولا لشيء من عوارضه إلا الزمان فمعناه أن موسى وجد في زمان ثم انقضى ذلك الزمان وجاء زمان فيه عيسى ومغايرته للأولين بينة
الرابع التقدم بالشرف كما لأبي بكر على عمر رضي الله عنهما
الخامس التقدم بالرتبة بأن يكون أقرب إلى مبدأ معين والترتيب إما عقلي كما في الأجناس أو وضعي كما في صفوف المسجد ويختلف ذلك بما تجعله مبدأ فقد تبتدئ من المحراب وقد تبتدئ من الباب
وقال المتكلمون ههنا نوع آخر من التقدم كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالذات لعدم الاقتران ولا بالشرف والرتبة وهو ظاهر ولا بالزمان وإلا لزم التسلسل وقد أبطلنا ذلك وقد يجاب عنه بأن ذلك هو التقدم بالزمان وأنه لا يعرض إلا للزمان فإذا أطلقناه على غيره كان ذلك تقدما بالعرض كما أن القسمة تعرض للكم فإذا عرضت لغيره كان بواسطة الكم وذلك لا يوجب للكم كما آخر فكذلك ههنا إذا قلنا لغير الزمان أنه متقدم أردنا أن زمانه متقدم ولا يوجب ذلك أن يكون للزمان زمان وهذا مبني لأبحاث كثيرة بين الطائفتين فتأمل فيه
وربما تكلف الحكماء للحصر وجها فقالوا التقدم إما أن يكون حقيقيا أو اعتباريا
والأول لا بد فيه من توقف للمتأخر على المتقدم من غير عكس (2/297)
فالمتوقف إما بحسب الذات وإما بحسب الوجود مع اشتراطه بالعدم الطارئ عليه أم لا
والثاني لا بد من مبدأ تعتبر إليه النسبة وذلك إما كمال أم لا
تنبيهان
الأول الماضي مقدم على المستقبل عند الجمهور نظرا إلى ذاتهما ومنهم من عكس الأمر نظرا إلى عارضيهما فإن كل زمان يكون أولا مستقبلا ثم يصير حالا ثم يصير ماضيا فكونه مستقبلا يعرض له قبل كونه ماضيا
الثاني جميع أنواع التقدم مشترك في معنى واحد
وهو أن للمتقدم أمرا زائدا ليس للمتأخر ففي الذاتي كونه مقوما وفي العلي كونه موجدا وفي الزماني كونه مضيء له زمان أكثر لم يمض للمتأخر وفي الشرفي زيادة كمال وفي الرتبي وصول إليه من المبدأ أو لا
المقصد الخامس ومن أقسام المضاف التقدم والتأخر قال الحكماء التقدم على خمسة أوجه
الأول التقدم بالعلية كتقدم المضيء على الضوء الفائض منه وتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم فإن العقل يحكم بأنه تحرك الإصبح فتحرك الخاتم ولا عكس إذ لا يصح أن يقال تحرك الخاتم فتحرك الإصبع وليس ذلك أي تقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم بالزمان وإلا لزم التداخل فإنه إذا تحرك الإصبع في زمان وكان الخاتم في ذلك الزمان باقيا في حيزه لم يتحرك أصلا لزم تداخل الجسمين ولا بالذات فإن حركة الإصبع لها ذات منفصلة عن حركة الخاتم وليست داخله في حركته دخول الواحد في الإثنين حتى يكون تقدمها عليها تقدما ذاتيا وظاهر أن هذا التقدم ليس بالشرف ولا بالرتبة بل هو بالعلية لأن (2/298)
وجودها أي وجود حركة الإصبع أتم وأكمل في نفسه فأوجب لذلك وجودها أي وجود حركة الخاتم كما أن الضوء القوي الكامل يوجب ضوءا ضعيفا ناقصا فيما يقابله بحسب استعداده فثبت لذلك بينهما ترتب عقلي هو التقدم بالعلية
الثاني التقدم بالذات كتقدم الواحد على الإثنين فإنه لا تعقل ذات الإثنين وهو ذات هذا الواحد وذاك الواحد معا ولا يتم له أي للإثنين ذات إلا بذاتهما سواء فرضنا لهما وجودا أم لا بل ذلك حكم له باعتبار ذاته وحقيقته من حيث هي بخلاف الأول فإنه حكم باعتبار الوجود لا باعتبار الماهية في نفسها وقد ظهر مما ذكره أن التقدم الذاتي المسمى بالتقدم الطبيعي مخصوص بجزء الشيء مقياسا إلى كله دون سائر علله الناقصة والمشهور في كتب القوم أن المحتاج إليه إن كفى في وجود المحتاج كان متقدما عليه بالعلية كالمؤثر المستجمع لشرائط التأثير وارتفاع موانعه وإن لم يكف كان متقدما عليه بالذات والطبع وعلى هذا كان التقدم الطبيعي شاملا للعلل الناقصة كلها وهم يطلقون التقدم الذاتي على القدر المشترك بين التقدم العلي والتقدم الطبيعي وهو الترتب العقلي الناشئ من الاحتياج المصحح لاستعمال الفاء بينهما داخلة على المحتاج
الثالث التقدم بالزمان كتقدم موسى على عيسى عليهما السلام فإنه ليس لذات موسى ولا شيء من عوارضها إلا الزمان فمعناه أن موسى وجد في زمان ثم انقضى ذلك الزمان وجاء زمان آخر وجد فيه عيسى فالتقدم ههنا صفة للزمان أو لا وبالذات ومغايرته للأولين بينة إذ ليس شيء منهما راجعا إلى الزمان بل الأول باعتبار الوجود والاحتياج إليه والثاني باعتبار ذات الشيء وماهيته
الرابع التقدم بالشرف كما لأبي بكر على عمر رضي الله عنهما (2/299)
الخامس التقدم بالرتبة بأن يكون المتقدم أقرب إلى مبدأ معين والترتب إما عقلي كما في الأجناس المترتبة على سبيل التصاعد والأنواع الإضافية المترتبة على سبيل التنازل فإن كل واحد من هذه الأمور المترتبة واقع في مرتبة يحكم العقل باستحالة وقوعه في غيرها أو وضعي وهو أن يكفي وقوع المتقدم في مرتبة المتأخر كما في صفوف المسجد ويختلف ذلك أي التقدم الرتبي حيث يصير المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما بما تجعله أنت مبدأ فقد تبتدئ من المحراب فيكون الصف الأول متقدما على الصف الأخير وقد تبتدئ من الباب فينعكس الحال وقس على ذلك حال الأجناس فإنك إذا جعلت الجوهر مبدأ كان الجسم متقدما على الحيوان وإن جعلت الإنسان مبدأ فبالعكس وقال المتكلمون ههنا نوع آخر من التقدم مغاير للوجوه الخمسة المتقدمة كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض مثل تقدم الأمس على اليوم واليوم على الغد فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالذات لعدم الاقتران واستحالته فيما بين أجزاء الزمان مع أن المتقدم والمتأخر في هذين النوعين من التقدم يجوز اجتماعهما بل يجب ولا بالشرف والرتبة وهو ظاهر فإن الأمس واليوم مثلا متشابهان في الفضيلة وليس بين أجزاء الزمان ترتب عقلي ولا وضعي بل نقول امتناع الاجتماع كاف لنا في نفي هذه الأربعة ولا بالزمان وإلا لزم التسلسل في الأزمنة بأن يكون كل زمان في زمان آخر وقد أبطلنا ذلك بوجهين في مباحث الزمان وقد يجاب عنه بأن ذلك التقدم الذي بين أجزاء الزمان هو التقدم بالزمان أعني التقدم الذي لا يجامع فيه المتقدم المتأخر وأنه أي هذا التقدم الذي سميناه التقدم الزماني لا يعرض أولا وبالذات إلا للزمان فإذا أطلقناه على غيره كان ذلك تقدما بالعرض لا بالذات كما حققناه في تقدم موسى على عيسى عليهما السلام كما أن القسمة تعرض للكم عروضا ذاتيا فإذا عرضت لغيره كان بواسطة الكم وذلك لا يوجب للكم كما آخر فكذلك ههنا إذا قلنا لغير الزمان أنه متقدم هذا التقدم أردنا أن زمانه متقدم ولا يوجب ذلك أن يكون للزمان زمان وقد مر في مباحث الزمان نوع تفصيل لهذا المقام وهذا الذي ذكرناه أعني القسم السادس من التقدم (2/300)
مبني لأبحاث كثيرة بين الطائفتين منها أن الحكماء لما جعلوه راجعا إلى التقدم الزماني ادعوا قدم الزمان المستلزم لقدم الحركة والمتحرك إذ لو كان حادثا لكان عدمه سابقا على وجوده سبقا زمانيا فيلزم وجود الزمان حال عدمه والمتكلمون لما جعلوه قسما برأسه جوزوا تقدم عدم الزمان على وجوده تقدما يستحيل معه اجتماع المتقدم مع المتأخر من غير أن يكون مع عدم الزمان زمان فتأمل فيه أي في هذا المبني وتحقق حاله كيلا تزل قدمك في تلك الأبحاث عن سنن الصواب والله الموفق وربما تكلف الحكماء للحصر أي حصر التقدم في الأنواع الخمسة وجها ليس حصرا عقليا دائرا بين النفي والإثبات بل هو نوع ضبط للحصر الاستقرائي فقالوا التقدم إما أن يكون حقيقيا أو اعتباريا والأول لا بد فيه من توقف للمتأخر على المتقدم إذ لو لم يتوقف عليه أصلا لم يكن هناك تقدم حقيقي قطعا من غير عكس لئلا يلزم الدور فالمتوقف إما أن يكون توقفه بحسب الذات وذلك بأن لا يتم ذات المتأخر إلا بذات المتقدم كما مر في الإثنين والواحد وهو التقدم بالذات وإما أن يكون توقفه بحسب الوجود دون الذات بأن يتوقف وجود المتأخر على وجود المتقدم لا ذاته على ذاته وذلك على قسمين لأنه إما أن يكون مع اشتراطه أي اشتراط وجود المتأخر بالعدم الطارئ عليه أي على المتقدم أم لا فالأول هو التقدم الزماني لأن وجود المتأخر من أجزاء الزمان متوقف على وجود المتقدم منها وعلى عدمه الطارئ عليه فإن المتقدم منها ما لم يوجد ولم يعدم بعد وجوده لم (2/301)
يتصور وجود المتأخر منها وأما الزمانيات فقد عرفت أن تقدمها راجع إلى تقدم زمانها فلا يكون المتقدم منها من حيث هو متقدم مجامعا للمتأخر والثاني هو أن لا يشترط وجود المتأخر بالعدم الطارئ على المتقدم بل يتوقف وجوده على وجوده فقط هو التقدم بالعلية المتناول لتقدم المؤثر التام وتقدم العلل الناقصة سوى أجزاء المعلول والثاني أعني التقدم الاعتباري لا بد فيه من مبدأ تعتبر إليه النسبة وذلك المبدأ إما كمال وهو التقدم بالشرف أم لا وهو التقدم بالرتبة وقد يقال التقدم بالشرف راجع إلى التقدم بالرتبة لأن صاحب الفضيلة ربما يقدم في المراتب المكانية أو إلى التقدم بالزمان لأن الأفضل ربما كان أسبق في الشروع في الأمور وكذلك التقدم بالرتبة راجع إلى التقدم الزماني إذ معناه أن زمان الوصول إليه من المبدأ قبل زمان الوصول إلى المتأخر
تنبيهان
الأول أن التقدم إن اعتبر فيما بين أجزاء الماضي فكل ما كان أبعد من الآن الحاضر فهو المتقدم وإن اعتبر فيما بين أجزاء المستقبل فكل ما هو أقرب إلى الآن الحاضر فهو المتقدم وإن اعتبر فيما بين الماضي والمستقبل فقد قيل الماضي مقدم على المستقبل وهذا هو الصحيح عند الجمهور وإنما قالوا ذلك نظرا إلى ذاتهما فإن ذات الماضي متقدمة على ذات المستقبل ومنهم من عكس الأمر نظرا إلى عارضهما فإن كل زمان يكون أولا مستقبلا ثم يصير حالا ثم يصير ماضيا فكونه مستقبلا يعرض له قبل كونه ماضيا
الثاني جميع أنواع التقدم مشترك في معنى واحد وهو أن للمتقدم أمرا زائدا ليس للمتأخر ففي التقدم الذاتي كونه مقوما أي جزءا داخلا في (2/302)
قوام المتأخر وفي التقدم العلي كونه موجدا وفي الزماني كونه مضى له زمان أكثر لم يمض للمتأخر وفي الشرفي زيادة كمال وفي الرتبي وصول إليه من المبدأ أو لا وإذا عرف أقسام التقدم والتأخر عرف أقسام المعية بالمقايسة فالمعية الزمانية ظاهرة وكذا المعية الشرفية كشخصين متساويين في الفضيلة والمعية بالرتبة كنوعين متقابلين تحت جنس واحد وشخصين متساويين في القرب إلى المحراب والمعية بالذات كجزئين مقومين لماهية واحدة في مرتبة واحدة والمعية بالعلية كعلتين لمعلولين شخصيين من نوع واحد وأما بيان أن إطلاق لفظ التقدم والتأخر والمعية على الأقسام الخمسة بالاشتراك المعنوي على سبيل التواطؤ أو التشكيك أو بالاشتراك اللفظي أو بطريق الحقيقة والمجاز فليس فيه كثير فائدة يعتني بشأنها والله أعلم (2/303)
الموقف الرابع في الجواهر
وفيه مقدمة ومراصد
المرصد الأول في الجسم وفيه فصول
المرصد الثاني في عوارض الأجسام
المرصد الثالث في النفس
المرصد الرابع في العقل (2/305)
المقدمة
المتن
أما تعريفه فقد علمته من التقسيم ومن تعريف العرض فلا نعيده
وأما تقسيمه فقال الحكماء الجوهر إن كان حالا فصورة وإن كان محلا فهيولى وإن كان مركبا منهما فجسم وإلا فإن كان متعلقا بالجسم تعلق التدبير والتصرف فنفس وإلا فعقل وهذا بناء على نفي الجوهر الفرد وإنما يتم بعد أن يبين أن الحال في الغير قد يكون جوهرا وأن غير الجسم لا يتركب من جزئين أحدهما حال في الآخر ولم يثبت شيء منهما ولو أردنا إيراده على وجه لا يتوجه عليه هذا الإشكال قلنا الجوهر إما له الأبعاد الثلاثة فجسم أو لا فأما جزؤه فإن كان به بالفعل فصورة وإلا فمادة وإن لم يكن جزءا فإن كان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل
وقال المتكلمون لا جوهر إلا المتحيز كما مر فإما أن يقبل القسمة وهو الجسم أو لا يقبلها وهو الجوهر الفرد
تنبيهان
الأول الجسم عند الجمهور مجموع الجزءين وعند القاضي كل واحد من الجزءين لأنه الذي قام به التأليف والتأليف عرض لا يقوم بجزءين على أصول أصحابنا لامتناع قيام الواحد بالكثير وليس ذلك بنزاع لفظي بل في أنه هل يوجد ثمة أمر غير الأجزاء هو الاتصال والتأليف كما يثبته المعتزلة
الثاني الجوهر الفرد لا شكل له لأنه هيئة إحاطة حد واحد وهو الكرة أو حدود وهو المضلع ولا يتصور ذلك إلا فيما له جزء فإن الحد هو النهاية ولا تعقل إلا بالنسبة إلى ذي نهاية ثم قال القاضي ولا يشبه شيئا (2/307)
من الأشكال لأن المشاكلة الاتحاد في الشكل فما لا شكل له كيف يشاكل غيره وأما غيره فلهم اختلاف فيما يشبهه من الكرة إذ لا يختلف جوانبه والمربع إذ يتركب منه الجسم بلا خلو الفرج والمثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة
قال الآمدي واتفق الكل على أن له حظا من المساحة فله نهاية قطعا وفيه نظر لأنا لا نسلم أن له نهاية وإن سلم فلا يلزم من كونه ذا نهاية أن تحيط به النهاية وإلا انفرض محيط ومحاط فانقسم وأما قولهم له حظ من المساحة فلعلهم أرادوا به أن له حجما ما وإلا فهو القول بانقسامه وهما لا فعلا
الشرح
الموقف الرابع في الجواهر وفيه مقدمة ومراصد أربعة
المقدمة أما تعريفه أي تعريف الجوهر فقد علمته من التقسيم المذكور في صدر الموقف الثاني وهو أنه ممكن موجود لا في موضوع عند الحكماء وحادث متحيز بالذات عند المتكلمين وعلمته أيضا من تعريف العرض في صدر الموقف الثالث بطريق المقابلة وهو أنه عند الحكيم ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع وعند المتكلم موجود متحيز بالذات فلا نعيده اعتمادا على علمك به وأما تقسيمه فقال الحكماء الجوهر إن كان حالا في جوهر آخر فصورة إما جسمية أو نوعية وإن كان محلا لها أي للصورة فهيولى وإن كان مركبا منها فجسم إما مطلق أو نوع منه وإلا أي وإن لم يكن الجوهر حالا ولا محلا ولا مركبا منهما فإن كان متعلقا بالجسم تعلق التدبير والتصرف والتحريك (2/308)
فنفس وإلا فعقل وإنما قيدوا التعلق بالتدبير والتحريك لأن للعقل عندهم تعلقا بالجسم على سبيل التأثير وهذا التقسيم الذي ذكروه بناء أي مبني على نفي الجوهر الفرد إذ على تقدير ثبوته لا صورة ولا هيولى ولا ما يتركب منهما بل هناك جسم مركب من جواهر فردة وعلى تقدير انتفاء الجوهر الفرد إنما يتم بعد أن يبين أن الحال في الغير قد يكون جوهرا وهو ممنوع فإن الظاهر هو أن الحال في غيره يكون عرضا قائما به فلا يثبت جوهر حال ولا محل ولا ما يتركب من حال ومحل جوهرين ولا جوهر هو محل لجوهر آخر وبعد أن يبين أيضا أن غير الجسم من الجواهر لا يتركب من جزءين أحدهما حال في الآخر وإلا لم يصح أن الجوهر المركب من الجوهرين حال ومحل هو الجسم ولم يثبت شيء منهما أي من هذين البيانين ببرهان مع أن الأول مخالف للظاهر كما عرفت والثاني مما لا جزم به لجواز وجود جوهر يكون محلا لجوهر آخر ولا يكون شيء منهما قابلا للإشارة الحسية فلا يكون ذلك المحل هيولى ولا الحال صورة ولا المركب منهما جسما ولو أردنا إيراده أي إيراد التقسيم على وجه لا يتوجه عليه هذا الإشكال يعني الإشكال المذكور بقوله إنما يتم إلى آخره قلنا الجوهر إما له الأبعاد الثلاثة فجسم والمراد أن الجوهر إما جسم أو لا وإذا لم يكن جسما فإما جزؤه وإما ليس كذلك فإن كان جزؤه فإن كان الجسم به أي بذلك الجزء حاصلا بالفعل فصورة وإلا فمادة وإن لم يكن جزءا منه فإن كان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل فهذا ترديد حاصر لم يعتبر فيه حلول الجوهر في شيء ولا تركب الجسم من جوهر حال وجوهر محل لكنه أيضا مبني على انتفاء الجوهر الفرد فإن الجسم إذا تركب منه لم يكن فيه إلا جواهر فردة مجتمعة ليس بعضها صورة وبعضها مادة وأما الهيئة الاجتماعية فخارجة عن حقيقة الجسم لازمة لها ويتجه عليه أن ما ليس جسما ولا جزءا له ولا متصرفا فيه لا يجب أن يكون عقلا بل جاز أن يكون جزءا للنفس أو العقل
وقال المتكلمون لا جوهر إلا المتحيز أي القابل بالذات للإشارة (2/309)
الحسية كما مر من أنهم نفوا الجواهر المجردة وحكموا باستحالتها وحينئذ فإما أن يقبل المتحيز القسمة سواء كانت في جهة واحدة أو أكثر وهو الجسم عند الأشاعرة أو لا يقبلها أصلا وهو الجوهر الفرد فعندهم أن الجوهر منحصر في هذين القسمين وإن أقل ما يتركب منه الجسم جوهران من الجواهر الفردة
تنبيهان
الأول الجسم عند الجمهور من الأشاعرة مجموع الجزءين المتألفين لا كل واحد منهما وعند القاضي وأتباعه أن الجسم هو كل واحد من الجزءين لأنه أي الجسم هو الذي قام به التأليف اتفاقا منا والتأليف عرض لا يقوم بجزءين على أصول أصحابنا لامتناع قيام العرض الواحد الشخصي بالكثير فوجب أن يقوم بكل واحد من الجوهرين المؤلفين تأليف على حدة فهما جسمان لا جسم واحد وليس ذلك بنزاع لفظي راجع إلى أن الجسم يطلق على ما هو مؤلف في نفسه أي فيما بين أجزائه الداخلة فيه أو يطلق على ما هو مؤلف مع غيره كما توهمه الآمدي بل هو نزاع في أمر معنوي هو أنه هل يوجد ثمة أي في الجسم أمر موجود غير الأجزاء التي هي الجواهر الفردة هو الاتصال والتأليف كما يثبته المعتزلة أو لا يوجد فالجمهور ذهبوا إلى الأول فقالوا الجسم هو مجموع الجزئين والقاضي إلى الثاني فحكم أن كل واحد منهما جسم ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من التعسف
الثاني من التنبيهين الجوهر الفرد لا شكل له باتفاق المتكلمين لأنه أي الشكل هيئة إحاطة حد واحد وهو الكرة أو حدود وهو المضلع ولا يتصور ذلك إلا فيما له جزء فإن الحد هو النهاية ولا تعقل (2/310)
النهاية إلا بالنسبة إلى ذي نهاية فيكون هناك لا محالة جزءان ثم قال القاضي ولا يشبه الجوهر الفرد شيئا من الأشكال لأن المشاكلة هي الاتحاد في الشكل فما لا شكل له كيف يشاكل غيره وهذا ظاهر تفريعا على ما اتفقوا عليه وأما غيره أي غير القاضي من الذين وافقوا على نفي الشكل عن الجوهر الفرد فلهم اختلاف فيما يشبه من الكرة أي قال بعضهم هو يشبه الكرة إذ لا يختلف جوانبه كما أن الكرة لا يختلف جوانبها ولو كان مشابها للمضلع لكان له جوانب مختلفة فكان منقسما ومن المربع أي قال بعضهم يشبه المربع إذ يتركب منه الجسم بلا خلو الفرج وذلك إنما يتأتى إذا كان مشابها للمربع لأن الشكل الكروي وسائر المضلعات وما يشبهها لا يتأتى فيها ذلك إلا بفرج ومن المثلث أي قال بعضهم يشبه المثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة
قال الآمدي ما وقع عليه اتفاق المتكلمين من نفي الشكل عن الجوهر الفرضي منظور فيه وذلك لأنه اتفق الكل على أن له حظا من المساحة فله نهاية أي حد يحيط له قطعا فإذا له شكل لأن الحد المحيط به إن كان واحدا فهو كروي وإن كان متعددا فمضلع
قال المصنف رحمه الله تعالى وفيه نظر لأنا لا نسلم أن له أي للجوهر الفرد نهاية وإن سلم ذلك فلا يلزم من كونه ذا نهاية أن تحيط به النهاية حتى يكون كرويا أو مضلعا وإلا انفرض فيه محيط ومحاط فانقسم وأما قولهم له حظ من المساحة فلعلهم أرادوا له أن به حجما ما ولذلك يزداد حجم الجسم بازدياد الجواهر الفردة فيه وإلا أي وإن لم يحمل قولهم على هذا فهو القول بانقسامه ولو وهما لا فعلا فإن ما له مساحة أمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء لا محالة فيكون في الجوهر الفرد انقسام وهمي وهو خلاف مذهبهم (2/311)
المرصد الأول في الجسم وفيه فصول
الفصل الأول في حقيقته وأجزائه
وفيه مقاصد
المقصد الأول في حده
المتن
ويطلق عند الحكماء بالاشتراك على معنيين
أحدهما يسمى جسما طبيعيا لأنه يبحث عنه في العلم الطبيعي منسوبا إلى الطبيعة التي هي مبدأ الآثار وعرف بأنه جوهر يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة وإنما قلنا يمكن إذ لا يجب أن يوجد فيه أبعاد بالفعل أما الخط فلا وجود له سيما في الكرة وأما السطح وإن كان لازما لوجوده لوجوب التناهي فليس لازما لماهيته إذ يمكن فرض جسم غير متناه ولا يكون ذلك مخرجا له عن حقيقة الجسمية ولا تصورا لجسم لا جسم ومعنى الزاوية القائمة أنه إذا قام خط على خط عمودا عليه لا ميل له إلى أحد الطرفين أصلا حتى حدثت من جنبتيه زاويتان متساويتان فكل واحدة منهما قائمة هكذا قائمة قائمة وإذا كان مائلا إلى أحد الطرفين كانت أحدى الزاويتين صغرى وتسمى الحادة والأخرى كبرى وتسمى (2/312)
المنفرجة هكذا حادة منفرجة وتصوير فرض الأبعاد أن نفرض فيه بعدا ما كيف اتفق وهو الطول ثم بعدا آخر في أي جهة شئنا مقاطعا له بقائمة وهو العرض ثم بعدا ثالثا مقاطعا لهما وهذا متعين لا يتصور غير واحد وهو العمق وهذا القيد لم يذكر لتمييز الجسم بل لتحقيق ماهيته فإن الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة لا يكون إلا كذلك والذي يقبل أبعادا لا على هذا الوجه إنما هو السطح والجوهر لا يتناوله وههنا شكوك فعلى مطلق التعريف شكان
الأول الحد صادق على الهيولى
قلنا هي تقبل الجسمية والجسمية تقبل الأبعاد
الثاني يصدق على الوهم التخييلية جسما تعليميا
قلنا المراد قبوله في الوجود الخارجي وعلى كونه حدا شكان
الأول لم تثبت جنسية الجوهر كما عرفته في المقولات وربما يقال ليس جنسا وإلا لامتازت أنواعه بفصول جوهرية لامتناع تقوم الجوهر بالعرض ولزم التسلسل في الفصول كما مر في الوجود وربما قيل الجوهر هو الموجود لا في الموضوع ففيه قيدان الوجود وأنه عارض للموجودات بل من المعقولات الثانية وكونه لا في موضوع وأنه عدم لا يصلح جزءا للموجودات الخارجية وأجيب عنه بأن ذلك رسم للجوهر لا حد
الثاني مفهوم القابل للأبعاد أمر عدمي وإلا فعرض قائم بالذات فتكون قابلة له وينقل الكلام إلى قابليتها له ويتسلسل لا يقال الممتنع هو التسلسل في المؤثرات وهذا تسلسل في الآثار لأنك قد علمت أن هذا (2/313)
النوع من التسلسل باطل عند الحكماء والمتكلمين وقد يجاب عنه بأن القابلية نسبة وهو غير ما صدق عليه أنه قابل الذي هو ذات وهذا هو الجزء للجسم والآن أوان أن تتذكر لما قد علمناكه من كيفية تركب الجنس والفصل وأنه لا تمايز بينهما إلا في الذهن وأن الجنس أمر مبهم ويتحصل بالفصل وتصور الفصل هو تحصيل صورة المبهم نوعا والفصل ليس مبهما ليتحصل بفصل آخر فيكون للفصل فصل ولا هو نفس المفهوم الذي هو العرض لكن خصوصية الأمر الذي هو قابل
وثانيهما يسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه في العلوم التعليمية أي الرياضية منسوبة إلى التعليم فإنهم كانوا يبتدئون بها في تعاليمهم لأنها أسهل ودلائلها أيضا يقينية تفيد النفس ملكة أن لا تقنع دونه وعرفوه بأنه كم قابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القائمة والقيد الأخير ههنا للتمييز ولو أردنا أن تجمعهما في رسم واحد قلنا هو القابل من غير ذكر الجوهر والكم فهذا عند الحكماء وأما المتكلمون فقد عرفت رأينا فيه
وقالت المعتزلة هو الطويل العريض العميق
قال الحكماء هذا الحد فاسد لأن الجسم ليس جسما بما فيه من الأبعاد بالفعل لما مر وأيضا فإذا أخذنا شمعة وجعلنا طولها شبرا وعرضها شبرا ثم جعلنا طولها ذراعا وعرضها إصبعين مثلا فقد زال عنها ما كان فيها من الأبعاد وجسميتها باقية وهذا بناء منهم على إثبات الكمية وأما على الجزء فلم يحدث ولم يزل شيء بل انتقلت الأجزاء من طول إلى عرض أو نقول المراد أنه يمكن أن يفرض فيه طول وعرض وعمق كما يقال الجسم هو المنقسم والمراد قبول للقسمة ثم اختلفت المعتزلة في أقل ما يتركب منه الجسم فقال النظام لا يتألف إلا من أجزاء غير متناهية وسيأتي
وقال الجبائي من ثمانية أجزاء بأن يوضع جزءان فيحصل الطول وجزءان على جنبيه فيحصل العرض وأربعة فوقها فيحصل العمق (2/314)
وقال العلاف من ستة بأن يوضع ثلاثة على ثلاثة والحق أنه يمكن من أربعة أجزاء بأن يوضع جزءان ويجنب أحدهما جزء وفوقه آخر وعلى جميع التقادير فالمركب من جزءين أو ثلاثة ليس جوهرا فردا ولا جسما عندهم جوزوا التأليف منهما أم لا والنزاع لفظي فنعدوه إلى ما يجدي وما هو كقول الصالحية هو القائم بنفسه وبعض الكرامية هو الموجود وهشام هو الشيء باطل لأن هذه أقوال لا تساعد عليها اللغة فإنه يقال زيد أجسم من عمرو أي أكبر ضخامة وانبساط أبعاد وتأليف أجزاء
الشرح
المرصد الأول في الجسم وفيه فصول أي فصلان
الفصل الأول في بيان حقيقته وأجزائه الخارجية وفيه مقاصد ثمانية
الأول في حده ومعرفه ويطلق لفظ الجسم عند الحكماء بالاشتراك اللفظي على معنيين أحدهما يسمى جسما طبيعيا لأنه يبحث عنه في العلم الطبيعي منسوبا إلى الطبيعة التي هي مبدأ الآثار أي هي علة فاعلية لآثار ما هي فيه من الأجسام وعرف الجسم الطبيعي بأنه جوهر يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة وإنما قلنا يمكن إذ لا يجب أن يوجد فيه أي في الجسم الطبيعي أبعاد بالفعل فضلا عن كونها ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم أما الخط فلا وجود له في كثير من الأجسام سيما في الكرة وأما السطح فإن كان لازما لوجوده لوجوب التناهي في الأبعاد فليس لازما لماهيته إذ يمكن فرض جسم غير متناه في (2/315)
جميع الجوانب ولا يكون ذلك مخرجا له عن حقيقة الجسمية ولا تصورا لجسم لا جسم وإذ ليس لازما لماهيته لم يصح تعريفه به وتلخيص الكلام أن يقال إنما اعتبر في حده الفرض دون الوجود لأن الأبعاد المتقاطعة على الزوايا القائمة ربما لم تكن موجودة فيه بالفعل كما في الكرة أو الاسطوانة والمخروط المستديرين وإن كانت موجودة فيه كما في المكعب مثلا فليست جسميته باعتبار تلك الأبعاد الموجودة فيه لأنها قد تزول مع بقاء الجسمية الطبيعية بعينها واكتفى بإمكان الفرض لأن مناط الجسمية ليس هو فرض الأبعاد بالفعل حتى يخرج الجسم عن كونه جسما طبيعيا لعدم فرض الأبعاد فيه بل مناطها مجردا مكان الفرض سواء فرض أو لم يفرض ومعنى الزاوية القائمة أنه إذا قام خط على خط عمودا عليه لا ميل له إلى أحد الطرفين أصلا حتى حدثت من جنبتيه زاويتان متساويتان فكل واحدة منهما قائمة هكذا قائمة قائمة وإذا كان مائلا إلى أحد الطرفين كانت إحدى الزاويتين صغرى وتسمى الحادة والأخرى كبرى وتسمى المنفرجة هكذا حادة منفرجة وتصوير فرض الأبعاد الثلاثة المتقاطعة في الجسم أن نفرض فيه بعدا ما سواء كان خطا أو سطحا لكن تعريفه للقائمة يناسب فرض الخط كيف اتفق أي لا يتعين لفرضه جهة وهو الطول ثم نفرض بعدا آخر في أي جهة شئنا من الجهتين الباقيتين مقاطعا له بقائمة وهو العرض ثم نفرض بعدا ثالثا مقاطعا لهما بحيث يحصل منه بالنسبة إلى كل من الأولين أربع قوائم على زوايا قائمة وهذا البعد الثالث متعين لا يتصور غير واحد إذ قد تعين لفرضه جهة واحدة بخلاف الأول فإنه يمكن فرضه على وجوه ثلاثة والثاني إذ يمكن فرضه على وجهين كما أشار إليه (2/316)
بقوله وهو العمق وهذا القيد أعني كون تقاطع الأبعاد الثلاثة على زوايا قائمة لم يذكر لتمييز الجسم عن غيره بل لتحقيق ماهيته فإن الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة لا يكون إلا كذلك وهو أنه يمكن فيه أن يكون تقاطعها على الزوايا القائمة والذي يقبل أبعادا ثلاثة متقاطعة لا على هذا الوجه إنما هو السطح فإنه يمكن أن يفرض فيه بعدان متقاطعان على قوائم ولا يمكن أن يفرض فيه بعد ثالث مقاطع للأولين إلا على حادة ومنفرجة والجوهر لا يتناوله فلا يكون هذا القيد احترازا عنه كما توهمه بعضهم واعتذر له بأن المعتزلة ذهبوا إلى أن الجسم مركب من السطوح المركبة من الخطوط المركبة من الجواهر الفردة فيكون السطح عندهم جوهرا ولما لم يتبين بعد أن الجسم ليس كذلك وأن السطح يجب أن يكون عرضا احترز عنه على تقدير التنزل فتأمل وههنا شكوك فعلى مطلق التعريف أي على كونه معرفا شكان
الأول الحد صادق على الهيولى التي هي جزء للجسم المطلق إذ يمكن فرض الأبعاد المذكورة فيها بواسطة الصورة الجسمية وإمكان فرضها أعم من أن يكون بواسطة أو بغير واسطة قلنا ليست الهيولى في حد ذاتها بحيث يمكن فرض الأبعاد فيها بل هي تقبل الصورة الجسمية والصورة الجسمية تقبل الأبعاد المفروضة والمتبادر من عبارة الحد إمكان فرض الأبعاد نظرا إلى ذات الجوهر فلا يتناول ما يكون بواسطة فإن قلت فالحد صادق على الصورة الجسمية وحدها قلنا لا بأس بذلك لأن الجسم في بادئ الرأي هو هذا الجوهر الممتد في الجهات أعني الصورة الجسمية وأن هذا الجوهر قائم بجوهر آخر فمما لا يثبت لو ثبت إلا بأنظار دقيقة في أحوال هذا الجوهر الممتد المعلوم وجوده بالضرورة فالمقصود ههنا تعريفه الشك
الثاني هذا الحد يصدق على الوهم ولذلك تسمى الأبعاد التخييلية الموهومة جسما تعليميا فيكون الوهم الذي هو محل الجسم التعليمي قابلا لفرض الأبعاد المذكورة مع أنه ليس بجسم بل قوة من القوى (2/317)
الجسمانية قلنا المراد بقبول الجوهر فرض الأبعاد قبوله إياه في الوجود الخارجي كما يتبادر إلى الفهم على أن هذا الشك إنما يتوجه إذا كان الوهم جوهرا ويندفع أيضا بأن إمكان فرض الأبعاد فيه ليس بالنظر إلى ذاته بل بسبب الأبعاد المتوهمة وعلى كونه حدا مقابلا للرسم شكان أيضا
الأول لم نثبت جنسية الجوهر لما تحته كما عرفته في المقولات وربما يقال ليس الجوهر جنسا لما تحته وإلا لامتازت أنواعه بفصول جوهرية لا بفصول عرضية لامتناع تقوم الجوهر بالعرض ولزم التسلسل في الفصول لأن الجوهر يكون جنسا لها لأنه المفروض فلها فصول أخرى جوهرية أيضا فيلزم امتناع تعقل كنه الأنواع الجوهرية كما مر ذلك في الوجود مع جوابه وهو أنه ليس يلزم من كون الجوهر جنسا لأنواع نفس الجواهر أن يكون جنسا لفصول تلك الأنواع كما أن سائر الأجناس كذلك وربما قيل الجوهر هو الموجود لا في موضوع ففيه قيدان ليس شيء منهما ذاتيا لشيء من الحقائق
الأول الوجود وأنه عارض للموجودات بل هو من المعقولات الثانية التي لا يمكن كونها جزءا للأمور العينية
والثاني كونه لا في موضوع وأنه عدم لا يصلح جزءا للموجودات الخارجية وأجيب عنه بأن ذلك رسم للجوهر لا حد كيف والأجناس العالية البسيطة لا يتصور لها حد أصلا فما ذكر في تعريفه أمر خارج عن ماهيته فلا يلزم من انتفاء جنسيته انتفاء جنسيتها
الشك الثاني مفهوم القابل للأبعاد وكذا مفهوم ما يمكن أن يفرض فيه الأبعاد الثلاثة على اختلاف العبارات أمر عدمي فلا يصلح أن يكون فصلا ذاتيا للجسم الذي هو من الحقائق الخارجية فلا يكون التعريف المذكور حدا له وإلا أي وإن لم يكن مفهوم القابل أمرا عدميا بل كان (2/318)
أمرا موجودا فعرض أي فهو على ذلك التقدير عرض لكونه من قبيل النسب التي هي من الأعراض قائم بالذات أي بالذات التي صدق عليها هذا المفهوم فتكون تلك الذات قابلة له وينقل الكلام إلى قابليتها له ويتسلسل والحاصل أن مفهوم القابل إذا كان أمرا موجودا في الخارج كانت القابلية الداخلة فيه أيضا كذلك وهي نسبة لا تقوم بذاتها بل بغيرها فيكون ذلك الغير قابلا لتلك القابلية فينقل الكلام إلى القابلية الثانية وهكذا لا يقال الممتنع هو التسلسل في المؤثرات أي العلل لوجوب انتهائها إلى الواجب وهذا تسلسل في الآثار أي المعلولات لأن القابلية الثانية معلولة للقابلية الأولى ضرورة أن النسبة معلولة للمنتسبين فلا يكون ممتنعا لأنك قد علمت فيما مر أن هذا النوع من التسلسل وهو أن تكون الأمور المتسلسلة موجودة معا مترتبة ترتبا طبيعيا أو وضعيا باطل عند الحكماء والمتكلمين بلا خلاف وقد يجاب عنه أي عن الشكل الثاني بأن القابلية نسبة وهو غير ما صدق عليه أنه قابل الذي هو ذات وهذا هو الجزء للجسم يعني أن ما ذكرتم يدل على أن القابلية ليست موجودة في الخارج وكذا مفهوم القابل للأبعاد لا وجود له فيه فلا يكون فصلا للجسم وهو مسلم لكنا ندعي أن فصل الجسم هو ما صدق عليه مفهوم القابل لا مفهومه وقد رد هذا الجواب بأن المذكور في التعريف مفهوم القابل وقد اعترفتم بأنه ليس فصلا فلا يكون حدا وأيضا ما صدق عليه مفهوم القابل إما ذات الجسم فهو نفس المحدود لا فصله وأما أفراده ولا شك أنها ليست فصولا له ثم إن المصنف مهد كلاما يتحقق به اندفاع التسلسل المذكور في الشك الأول ويتضح به أيضا حقيقة الجواب عن الشك الثاني فقال والآن أوان أن تتذكر وتتنبه لما قد علمناكه من كيفية تركب الجنس والفصل وأنه لا تمايز (2/319)
بينهما إلا في الذهن وأن الجنس أمر مبهم لا تعين ولا تحصل له في نفسه بل إنما يتعين ويتحصل في الذهن بالفصل الذي ينضم إليه وتصور الفصل هو تحصيل صورة المبهم الذي هو الجنس نوعا والفصل ليس مبهما ليتحصل بفصل آخر فيكون للفصل فصل فيلزم التسلسل في الفصول كما ذكروه ولا هو نفس المفهوم أي ليس فصل الجسم نفس مفهوم قابل الأبعاد الذي هو العرض على تقدير كونه موجودا لكن فصل الجسم هو خصوصية الأمر الذي هو القابل للأبعاد وتلك الخصوصية متحدة بجنسه في الخارج ولما لم يكن لنا اطلاع على تلك الخصوصية إلا بحسب عارضها الذي هو مفهوم القابل أقمناه مقامها كما تقام عوارض الفصول مقامها إذا جهلت حقائقها كالناطق والحساس والمتحرك بالإرادة على ما هو المشهور في كلامهم ولم نرد بقولنا ما صدق عليه أنه قابل ذات الجسم ولا أفراده بل تلك الخصوصية المجهولة هذا تصوير ما ذكره وبقي هنا شيء وهو أنه إذا أقيم العارض مقام الفصل هل يكون ذلك التعريف حدا حقيقيا
وثانيهما أي ثاني المعنيين للفظ الجسم يسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه في العلوم التعليمية أي الرياضية الباحثة عن أحوال الكم المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة فإنهم كانوا يبتدئون بها في تعاليمهم ورياضاتهم لنفوس الصبيان لأنها أسهل إدراكا لكونها علوما متسقة منتظمة لا ينازع الوهم فيها العقل بل يوافقه فلا يقع فيها غلط أصلا والمخالفات فيها على ندرتها إنما تكون راجعة إلى الألفاظ وعدم تعقل معانيها على ما ينبغي ولا شك أن الأحسن والأولى في التعليم أن يبتدأ بالأسهل الأقرب إلى الأذهان كيلا يعرض لها كلال بل تتقوى به على إدراك ما هو أصعب فإن الإدراك غذاء للروح ودلائلها أيضا يقينية تفيد (2/320)
النفس إذا اعتادت بها ملكة أن لا تقنع في إدراك الأشياء دونه أي دون اليقين فإن أمكن هناك تحصيل اليقين فذاك وإن لم يكن كما في العلوم الظنية اجتهدت في تحصيل الظن الأقوى لأنه أقرب إلى ما اعتادت به وعرفوه بأنه كم قابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القائمة والقيد الأخير ههنا للتمييز والاحتراز عن السطح لدخوله في الجنس الذي هو الكم ولو أردنا أن نجمعهما أي المعنى الأول والثاني في رسم واحد قلنا هو القابل لفرض الأبعاد المتقاطعة على الزوايا القائمة من غير ذكر الجوهر والكم فإن هذا المفهوم مشترك بين الجسم الطبيعي والتعليمي فهذا الذي ذكرناه في تعريف الجسم وتعدد معناه إنما هو عند الحكماء وأما المتكلمون فقد عرفت رأينا فيه وهو أن الجسم وهو المتحيز القابل للقسمة ولو في جهة واحدة
وقالت المعتزلة هو الطويل العريض العميق قال الحكماء هذا الحد فاسد لأن المتبادر منه أن الجسم يوجد فيه هذه الأبعاد بالفعل وأنها مناط لجسميته ولا شك في أن الجسم ليس جسما بما فيه من الأبعاد بالفعل لما مر من أن الخط قد لا يوجد في الجسم بالفعل كما في الكرة وأن السطح لازم لوجوده لا لماهيته وأيضا فإذا أخذنا شمعة وجعلنا طولها شبرا وعرضها شبرا ثم جعلنا طولها ذراعا وعرضها إصبعين مثلا فقد زال عنها ما كان فيها من الأبعاد وجسميتها باقية بعينها فلا تكون الأبعاد الموجودة بالفعل لازمة للجسمية صالحة لأن يعرف بها الجسم وهذا الذي ذكروه في الشمعة بناء منهم على إثبات الكمية المتصل وكون الجسم متصلا واحدا في نفسه لا مفصل فيه بالفعل وأما على الجزء (2/321)
وتركب الجسم منه كما هو مذهبنا ومذهب المعتزلة فلم يحدث في الشمعة شيء لم يكن ولم يزل عنها شيء قد كان بل انتقلت الأجزاء الموجودة فيها من طول إلى عرض أو بالعكس أو نقول المراد بقولهم الطويل العريض العميق أنه يمكن أن يفرض فيه طول وعرض وعمق كما يقال الجسم هو المنقسم والمراد قبوله للقسمة لا وقوع القسمة فيه بالفعل وحينئذ يرجع إلى الحد الذي ذكره الحكماء ويندفع عنه الفساد الذي أوردوه عليه ثم اختلف المعتزلة بعد اتفاقهم على ذلك الحد في أقل ما يتركب منه الجسم من الجواهر الفردة فقال النظام لا يتألف الجسم إلا من أجزاء غير متناهية وسيأتي تقرير مذهبه وإبطاله أيضا وقال الجبائي يتألف الجسم ويتحصل من ثمانية أجزاء لا من أقل منها وذلك بأن يوضع جزءآن فيحصل الطول ويوضع جزءان آخران على جنبيه فيحصل العرض ويوضع أربعة أخرى فوقها أي فوق الأربعة الأولى فيحصل العمق
وقال العلاف يتحصل الجسم من ستة لا من أقل منها وذلك بأن يوضع ثلاثة على ثلاثة والحق أنه يمكن تحصل الجسم من أربعة أجزاء بأن يوضع جزءان ويجنب أحدهما جزء ثالث وفوقه جزء آخر وبذلك يتحصل الأبعاد الثلاثة وعلى جميع التقادير فالمركب من جزءين أو ثلاثة ليس جوهرا فردا ولا جسما عندهم سواء جوزوا التأليف منهما أي من جزئين منفردين أو من ثلاثة منفردة أم لا وبالجملة فالمنقسم في جهة واحدة يسمونه خطا وفي جهتين سطحا وهما واسطتان بين الجوهر الفرد والجسم عندهم وداخلتان في الجسم عندنا والنزاع لفظي راجع إلى إطلاق لفظ الجسم على المؤلف المنقسم ولو في جهة واحدة أو على المؤلف المنقسم في الجهات الثلاث فنعدوه إلى ما يجدي من المباحث المعنوية (2/322)
ثم أنه أشار إلى بطلان تعريفات منقولة عن بعض المتكلمين فقال وما هو كقول الصالحية من المعتزلة في تعريف الجسم هو القائم بنفسه وقول بعض الكرامية هو الموجود وقول هشام هو الشيء باطل لانتقاض الأول بالباري تعالى والجوهر الفرد وانتقاض الثاني بهما وبالعرض أيضا وانتقاض الثالث بالثلاثة على أن في هذه التعريفات فسادا آخر لأن هذه أقوال لا تساعد عليها باللغة بل تخالفها فإنه يقال زيد أجسم من عمرو أي أكبر ضخامة وانبساط أبعاد وتأليف أجزاء فلفظ الجسم بحسب اللغة ينبئ عن التركيب والتأليف وليس في هذه الأقوال أنباء عن ذلك
المقصد الثاني
المتن
ليس الجسم مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام والنجار من المعتزلة لما علمت أن العرض لا يقوم بذاته بالغا ما بلغ فلا بد من انتهائه إلى جوهر يقوم به وبالجملة فبطلانه ضروري
احتجا بوجهين
الأول أن الجواهر من حيث هي جواهر متجانسة والأجسام مختلفة فليست عبارة عن جواهر قلنا بل الجواهر مختلفة بذواتها ولذلك قلنا إن الأعراض لا تبقى والجواهر باقية لما سيأتي
واعلم أنه لا محيص لمن اعترف بتجانس الجواهر عن جعل الأعراض (2/323)
داخلة في حقيقة الجسم فيكون الجسم حينئذ جوهرا مع جملة من الأعراض
الثاني أنه إذا وجد الجسم وجدت الأعراض وإذا انتفى انتفت وبالعكس
قلنا التلازم لا يفيد الوحدة
الشرح
المقصد الثاني ليس الجسم مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام والنجار من المعتزلة فإنهما ذهبا إلى أن الجواهر مطلقا أعراض مجتمعة وهذا باطل لما علمت أن العرض لا يقوم بذاته سواء كان واحدا أو متعددا بالغا ما بلغ فلا بد من انتهائه إلى جوهر يقوم به فلا يكون الجوهر القائم بذاته مجموع أعراض وحدها وبالجملة فبطلانه ضروري إذ كل عاقل يعلم أن الأمر المجتمع من أمور يجتمع قيامها بنفسها لا يكون قائما بذاته بل محتاجا إلى أمر آخر يقوم به وما ذكرناه تنبيه على الحكم البديهي فلا يتجه عليه أن الكل من حيث هو كل قد يخالف حكمه حكم كل واحد منه وقد يستدل على امتناع تركب الجوهر من العرض بأن الجوهر الفرد متحيز بالاتفاق فلو كان مركبا من الأعراض فكل واحد من تلك الأعراض إما أن يكون متحيزا بالذات فهو جوهر ويلزم منه أن يكون الجوهر الفرد مركبا من جواهر فلا يكون جوهرا فردا ولا يكون متحيزا بالذات ومن المعلوم أن ضم ما لا يتحيز إلى ما لا يتحيز لا يوجب التحيز وزيفه الآمدي بجواز كون الانضمام شرطا للتحيز احتجا بوجهين
الأول أن الجواهر من حيث هي جواهر متجانسة لاشتراكها في (2/324)
صفات نفس الجوهر وهي التحيز والقياس بالنفس وقبول الأعراض والأجسام كالنار والهواء والماء مختلفة بالضرورة فليست الأجسام عبارة عن جواهر مؤتلفة وإلا كانت متماثلة فتكون أعراضا مجتمعة قلنا لا نسلم أن الجواهر متجانسة بل الجواهر عندنا مختلفة بذواتها وما ذكر من اشتراك الجواهر في الصفات المذكورة لا يدل على تماثلها في الحقيقة لجواز أن تكون تلك الصفات أعراضا عامة مشتركة بين حقائقها المتخالفة فلا حاجة بنا حينئذ إلى دخول الأعراض في حقائق الجواهر ولذلك أي ولعدم دخولها فيها عندنا قلنا إن الأعراض لا تبقى لما مر والجواهر باقية لما سيأتي ولا يخفى أنه يمكن أن تجعل معارضة بأن يقال الأعراض غير باقية فلا تكون داخلة في الجواهر الباقية لأن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل
واعلم أنه لا محيص لمن اعترف بتجانس الجواهر الأفراد وتماثلها في الحقيقية كالأشاعرة قاطبة وأكثر المعتزلة عن جعل الأعراض داخلة في حقيقة الجسم فيكون الجسم حينئذ جوهرا مع جملة من الأعراض منضمة إلى ذلك الجوهر إذا لو كانت مؤتلفة من الجواهر المتجانسة وحدها لكانت الأجسام كلها متماثلة في الحقيقة وأنه باطل بالضرورة وأما النظام والنجار فقالا إن الجواهر إذا تركبت من أعراض مختلفة فهي مختلفة وإذا تركبت من أعراض متجانسة فهي متجانسة
قالا ولذلك اتصفت الأجسام المؤلفة منها تارة بالتخالف وأخرى بالتماثل
الوجه الثاني أنه إذا وجد الجسم بل الجوهر وجدت الأعراض (2/325)
وإذا انتفى الجوهر انتفت وبالعكس أي إذا وجدت الأعراض وجد الجوهر وإذا انتفت انتفى
قلنا التلازم بينهما وجودا وعدما لا يفيد الوحدة ولا دخول أحدهما في الآخر كالمتضايفين
المقصد الثالث
المتن
الجسم البسيط يقبل القسمة فإما أن الأجزاء توجد بالفعل أو لا وأيا ما كان فإما متناهية أو غير متناهية فالاحتمالات أربعة
الأول الأجزاء بالفعل ومتناهية وهو مذهب المتكلمين وهو القول بتركبه من الأجزاء التي لا تتجزأ إذ لو كانت الأجزاء متجزئة لم تكن الانقسامات الممكنة كلها حاصلة بالفعل
وحاصلة أن قولنا كل ما يمكن من الانقسامات حاصل بالفعل يلزمه كل ما ليس بحاصل بالفعل فليس بممكن
الثاني الأجزاء بالفعل وغير متناهية وهو قول النظام
الثالث الأجزاء بالقوة ومتناهية وينسب إلى محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل
الرابع بالقوة وغير متناهية وهو مذهب الحكماء
الشرح
المقصد الثالث الجسم إما مركب من أجسام مختلفة الحقائق فلا (2/326)
شك أن أجزاء المختلفة موجودة فيه بالفعل ومتناهية كالحيوان وأما بسيط وهو ما لا يكون كذلك كالماء مثلا والنزاع إنما وقع فيه فنقول الجسم البسيط لا شك أنه يقبل القسمة والتجزئة بأن يفرض فيه شيء غير شيء فأما أن الأجزاء التي يمكن فرضها توجد كلها بالفعل أو لا توجد كذلك وأيا ما كان فإما متناهية أو غير متناهية فالاحتمالات العقلية أربعة
الأول الأجزاء التي يمكن فرضها كلها موجودة بالفعل ومتناهية وهو مذهب جمهور المتكلمين وهو القول بتركبه من الأجزاء التي لا تتجزأ أصلا لا قطعا لصغرها ولا كسرا لصلابتها ولا وهما لعجز الوهم عن تمييز طرف منها عن طرف آخر ولا فرضا عقليا أيضا وإنما قلنا إنه القول بتركبه من تلك الأجزاء إذ لو كانت الأجزاء متجزئة أي قابلة للانقسام ولو فرضا لم تكن الانقسامات الممكنة كلها حاصلة بالفعل فلم تكن الأجزاء التي يمكن فرضها موجودة بأسرها فيه بالفعل وهو خلاف المقدر
وحاصله أن قولنا كل ما يمكن من الانقسامات حاصل بالفعل وهو معنى قولنا جميع الأجزاء الممكنة بحسب الفرض موجودة بالفعل يلزمه قولنا كل ما ليس بحاصل بالفعل من الانقسام فليس بممكن فتكون الأجزاء الموجودة بالفعل ممتنعة الانقسام من جميع الوجوه
الثاني الأجزاء كلها بالفعل وغير متناهية مع امتناع الانقسام عليها لما عرفت وهو قول النظام من المعتزلة وانكسافراطيس من الأوائل
الثالث الأجزاء كلها بالقوة ومتناهية وينسب إلى محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل (2/327)
الرابع الأجزاء كلها بالقوة وغير متناهية وهو مذهب الحكماء
واعلم أن المذهبين الأولين يقتضيان خروج جميع الانقسامات الممكنة إلى الفعل إما متناهية أو غير متناهية والمذهبين الأخيرين يقتضيان أن لا يكون هناك انقسام بالفعل بل يكون الجسم البسيط متصلا في نفسه لا مفصل فيه أصلا إلا أنه يقبل انقساما إما متناهيا أي واصلا إلى حد يقف عنده ولا يمكن تجاوزه إياه فيكون الانقسام منتهيا إلى أجزاء لا تتجزأ وقد تركب الجسم منها بالقوة كما ذهب إليه الشهرستاني ويقرب منه ما نقل عن أفلاطون من أن الجسم بالتجزئة ينتهي إلى أن ينمحق فيعود هيولى وإما غير متناه لا بمعنى أن تلك الانقسامات يمكن أن تخرج من القوة إلى الفعل بل بمعنى أن الجسم من شأنه أن يقبل الانقسام دائما ولا ينتهي انقسامه إلى جزء لا يمكن فرض انقسامه وهذا مثل ما ذهب إليه المتكلمون من أنه تعالى قادر على ما لا يتناهى مع أنهم يحيلون اتصاف أمور غير متناهية بالوجود سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة فليس مرادهم إلا أن قدرته تعالى لا تنتهي إلى حد لا يمكن مجاوزتها إياه فقس حال القابلية على حال الفاعلية وإذا تمهد هذا فنقول ههنا مذهب خامس وهو مذهب ديمقراطيس فإنه ذهب إلى أن الجسم البسيط مركب من أجسام صغار لا تنقسم بالفعل بل بالفرض فلا تكون الاحتمالات المذكورة منحصرة في المذاهب الأربعة وذلك لأنه إذا لم تكن جميع الانقسامات حاصلة بالفعل جاز أن لا يكون شيء منها (2/328)
بالفعل وأن يكون بعضها بالفعل دون بعض كما هو مذهبه نعم إذا جعل المبحث هو الجسم المفرد وهو الذي لا يتركب من أجزاء هي أجسام كان مذهبه خارجا عنه فإن قلت إذا كان بعض الانقسامات حاصلا دون بعض احتمل أن تكون أجزاء الجسم الموجودة فيه بالفعل المتصلة في أنفسها قابلة للانقسام في الجهات كلها أو في جهتين أو في جهة واحدة أو مختلطة منها فهذه احتمالات سبعة خارجة عن المذاهب الأربعة قلت هذا صحيح إلا أن ستة منها لم يذهب إليها أحد فهي احتمالات عقلية لا مذاهب
المقصد الرابع
المتن
في حجة المتكلمين وهي نوعان
النوع الأول أن نبين أولا أن كل منقسم له أجزاء بالفعل ثم نبين أنها متناهية أما الأول فلوجوه
الأول القابل للقسمة لو كان واحدا لزم انقسام الوحدة والتالي باطل فالشرطية لأنه يلزم قيام الوحدة بما يقبل القسمة وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه ضرورة أن الحال في أحد الجزءين غير الحال في الآخر والاستثنائية بينة إذ لا معنى للوحدة إلا كونها لا تنقسم
الثاني لو كان القابل للانقسام واحدا كان التفريق إعداما له والتالي باطل أما الملازمة فلأن التفريق حينئذ إعدام لهوية وإحداث لهويتين فإن من المحال أن الشيء المعين يكون تارة هوية وتارة هويتين وأما بطلان اللازم فلأنه يوجب أن يكون شق البعوض بإبرته للبحر المحيط إعداما لذلك البحر وإيجادا لبحرين آخرين وبديهة العقل تنفيه (2/329)
الثالث أن مقاطع الأجزاء متمايزة بالفعل فإن مقطع النصف غير مقطع الثلث ضرورة وكذا الربع والخمس بالغا ما بلغ وذلك يوجب التمايز بالفعل وأما الثاني فلوجوه
الأول لو كانت المسافة مركبة من أجزاء غير متناهية لامتنع قطعها في زمان متناه ولم يلحق السريع البطيء وبطلان اللازم دليل بطلان الملزوم
الثاني أنه محصور بين الطرفين وانحصار ما يتناهى بين الحاصرين محال
الثالث أن التأليف لا بد أن يفيد زيادة حجم وإلا لكان حجم الإثنين كحجم الواحد وكذا الثلاثة والأربعة إلى غير النهاية فلا يحصل من تأليف الأجزاء حجم والمفروض خلافه وإذا كان التأليف يفيد زيادة حجم فليجعل التأليف من أجزاء متناه في جميع الجهات فيحصل حجم في الجهات وهو الجسم فليس كل جسم مركبا من أجزاء لا تتناهى ثم نقول وهذا الجسم له حجم متناه وأجزاء متناهية والجسم الذي فيه البحث ما له حجم متناه وأجزاء غير متناهية ولا شك أن بحسب ازدياد الأجزاء يزداد الحجم فتكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة متناه إلى متناه ونسبة الأجزاء إلى الأجزاء نسبة متناه إلى غير متناه فتكون نسبة المتناهي إلى المتناهي كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي هذا خلف
النوع الثاني أن نبين تركب الجسم منها ابتداء وهو وجوه
الأول النقطة موجودة إذ بها تماس الخطوط والخطوط بها تماس (2/330)
السطوح والسطوح بها تماس الأجسام وتماس الموجودين بالمعدوم ضروري البطلان وأيضا فإنها طرف للخط وهو للسطح وطرف الموجود موجود ثم أنها لا تنقسم
قلنا في الجسم الموجود ذو وضع لا ينقسم فإن كان جوهرا فهو المطلوب وإلا لكان له محل لا ينقسم وإلا انقسم الحال فيه لما مر مرارا ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جوهر كذلك وهو الجزء الذي لا يتجزأ
الثاني الحركة موجودة وأنها تنقسم إلى حاضرة وماضية ومستقبلة فنقول إن الحاضرة منها موجودة وإلا لم يوجد الماضي ولا المستقبل لأن الماضي ما كان حاضرا والمستقبل ما سيحضر وأنها لا تنقسم وإلا لكان بعض أجزائها قبل وبعضها بعد لأنها غير قار الذات ضرورة فلا يكون كلها حاضرا هذا خلف وكذا جميع أجزائها إذ ما من جزء إلا وكان حاضرا حينا ما فثبت أن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ فكذا المسافة لانطباقها عليها أو نقول لأنه لو انقسمت المسافة لانقسمت الحركة عليها فإن الحركة إلى نصفها نصف الحركة إليها
الثالث برهن إقليدس على وجود زاوية هي أصغر الزوايا وهي ما تحصل من مماسة خط مستقيم لا تنقسم ولا تتصور إلا بإثبات الجزء
الرابع نفرض كرة تماس سطحا مستويا لإمكان الكرة والسطح وتماسهما ضرورة فما به المماسة لا ينقسم وإلا فإما في جهة فهو خط أو أكثر فهو سطح ولانطباقه على السطح المستوي فهو مستوي فلا تكون (2/331)
الكرة كرة هذا خلف ثم نفرض تدحرجها على السطح بحيث تماسه بجميع أجزائها فتكون جميع الأجزاء غير منقسمة وهو المطلوب
الخامس نفرض خطا قائما على خط ويمر عليه فإنه يماس في مروره جميع أجزاء ذلك والمماسة إنما تكون بنقطة فالخط الممرور عليه مركب من نقط والسطح من خطوط والجسم من سطوح وهو المطلوب
السادس لولا انتهاء الأجسام إلى الأجزاء لا تتجزأ لكان الانقسام في السماء والخردلة ذاهبا إلى غير النهاية فتكون أجزاؤهما الممكنة سواء وهو بهت
السابع لولا الجزء لكان يمكن أن تقسم الخردلة إلى صفائح غير متناهية فتغمر وجه الأرض وتفضل عليها بما لا يتناهى وأنه ضروري البطلان ونقد ذلك وإن كان يمكن الجواب عنه جدلا ففيه للمصنف إقناع
الشرح
المقصد الرابع في حجة جمهور المتكلمين على مذهبهم وهي نوعان
النوع الأول أن نبين أولا أن كل منقسم أي قابل للانقسام له أجزاء بالفعل أي يكون جميع ما يقبل الانقسام إليه من الأجزاء حاصلة بالفعل ثم نبين أنها أي تلك الانقسامات والأجزاء الحاصلة بالفعل متناهية فيعلم من الأول أن أجزاء الجسم البسيط حاصلة بالفعل غير قابلة للانقسام ومن الثاني تناهيها أما الأول وهو أن كل ما يقبل القسمة فهو منقسم بالفعل فلوجوه ثلاثة (2/332)
الأول القابل للقسمة لو كان واحدا في نفسه غير منقسم بالفعل لزم انقسام الوحدة والتالي باطل فالشرطية أي استلزام المقدم للتالي لأنه يلزم على ذلك التقدير قيام الوحدة الحقيقية بما يقبل القسمة وانقسام المحل يوجب انقسام الحال في ضرورة أن الحال في أحد الجزءين غير الحال في الجزء الآخر والاستثنائية أي بطلان التالي بينة إذ لا معنى للوحدة إلا كونها لا تنقسم يعني أن وحدة الشيء عبارة عن عدم انقسامه فلا بد أن يكون مفهوم عدم الانقسام الحال فيه غير منقسم إذ لو انقسم لم يكن وحدة بل اثنينية حالة في ذلك الشيء وهذا الوجه مبني على أن الوحدة صفة وجودية سارية في محلها لكن الظاهر أنها صفة اعتبارية متعلقة بمجموع الأمر المنقسم من حيث هو مجموع فإذا ورد عليه القسمة زالت الوحدة
الوجه الثاني لو كان القابل للانقسام واحدا في نفسه متصلا في حد ذاته كان التفريق الوارد على ذلك القابل إعداما له وإيجادا لغيره والتالي باطل أما الملازمة فلأن التفريق حينئذ إعدام لهوية هي متصلة في حد ذاتها وإحداث لهويتين منفصلتين لم تكونا موجودتين في تلك الهوية الاتصالية وإلا كانت منقسمة بالفعل والمفروض خلافه وقد وجب كون التفريق على ذلك التقدير إعداما وإحداثا فإن من المحال أن الشيء المعين يكون تارة هوية واحدة لا انفصال فيها أصلا وتارة هويتين متفاصلتين وأما بطلان اللازم فلأنه أي اللازم يوجب أن يكون شق البعوض بإبرته للبحر المحيط إعداما لذلك البحر وإيجادا لبحرين آخرين وبديهة العقل تنفيه وقد أجيب عنه بأنه استبعاد لا يفيد اليقين ودعوى الضرورة في محل الخلاف غير مسموعة
الوجه الثالث أن مقاطعة الأجزاء في الأمر القابل للانقسام إليها متمايزة بالفعل فإن مقطع النصف غير مقطع الثلث ضرورة وكذا الربع (2/333)
والخمس وغيرهما من الأجزاء بالغا ما بلغ فإن مقاطعها متمايزة بأسرها وذلك أي تمايز مقاطع الأجزاء التي يمكن فرضها يوجب التمايز في تلك الأجزاء بالفعل إذ لو لم تكن الأجزاء متمايزة في الوجود لم تختلف بتلك الخواص المتمايزة وأجيب عنه بأن مفهومات المقاطع أوصاف اعتبارية يعتبرها العقل عند فرض التجزئة وذلك لا يوجب تمايز محالها إلا بحسب الفرض أيضا
وأما الثاني وهو أن تلك الأجزاء الحاصلة بالفعل من الانقسامات الفعلية متناهية فلوجوه ثلاثة أيضا
الأول لو كانت المسافة المتناهية المقدار مركبة من أجزاء غير متناهية موجودة فيها بالفعل كما ذهب إليه النظام لامتنع قطعها في زمان متناه إذ لا يمكن قطعها إلا بعد قطع نصفها ولا قطع نصفها إلا بعد قطع نصف نصفها وهكذا إلى مالا نهاية له فامتنع قطعها إلا في زمان غير متناه ولم يلحق السريع البطيء إذا توسط بينهما مسافة قليلة فإن تلك المسافة مركبة من أجزاء غير متناهية لا يمكن للسريع قطعها في زمان متناه فلا يلحق البطيء قطعا وبطلان اللازم وهو امتناع قطع المسافة المتناهية في زمان متناه وعدم لحوق السريع للبطيء دليل بطلان الملزوم وهو كون تلك المسافة مركبة من أجزاء موجودة بالفعل غير متناهية ويحكى أن العلاف لما أورد هذا الإلزام على النظام التجأ إلى القول بالطفرة فقال إن المتحرك قد يقطع المسافة بأن يحاذي بعض أجزائها دون بعض ولا حاجة له إلى هذه المكابرة بل يكفيه أن يقول كما أن المسافة المتناهية مركبة من أجزاء (2/334)
موجودة غير متناهية كذلك الزمان المتناهي مشتمل على أجزاء غير متناهية فيتقابل أجزاء المسافة والزمان معا فيمكن قطعها فيه واعلم أن النظام لم يكن قائلا بالجزء الذي لا يتجزأ وتركب الجسم منه إلا أنه لزمه ذلك من حيث لا يدري فإنه لما وقف على أدلة نفاة الجزء ولم يقدر على ردها أذعن لها وحكم بأن الجسم ينقسم انقسامات لا تتناهى لكنه لم يفرق بين ما هو موجود في الشيء بالقوة وبين ما هو موجود فيه بالفعل فظن أن جميع الانقسامات التي لا تتناهى حاصلة في الجسم بالفعل فصرح بأن في الجسم أجزاء غير متناهية موجودة بالفعل ولزمه القول بالجزء فإنه إذا كان كل انقسام ممكن في الجسم حاصلا فيه بالفعل فما لا يكون من الانقسامات حاصلا في الجسم امتنع حصوله فيه فتكون أجزاؤه غير قابلة للانقسام فقد وقع فيما كان هاربا عنه نافيا له غير معترف به ومن ثمة نقل عنه أنه لما عيره مثبتو الجزء على القول بالطفرة أجاب بأنها ليست أبعد مما لزمكم من القول بتفكك الرحى فالتزموه
الوجه الثاني إنه أي الجسم الذي نحن بصدده متناه بالحجم والمقدار فهو محصور بين الطرفين المحيطين به وكذا أجزاؤه محصورة بينهما وانحصار ما لا يتناهى بين الحاصرين محال فاستحال أن تكون أجزاؤه الموجودة فيه بالفعل غير متناهية إلا أن يلتزم التداخل فيما بين تلك الأجزاء لكنه مما تشهد البديهة ببطلانه
الوجه الثالث إن التأليف هو ضم بعض الأجزاء الموجودة في الجسم إلى بعض لا بد أن يفيد زيادة حجم وإلا لكان حجم الاثنين كحجم الواحد وكذا الثلاثة والأربعة إلى غير النهاية فلا يحصل من تأليف الأجزاء وإن كانت غير متناهية حجم أصلا والمفروض خلافه لأن الجسم له حجم ممتد في الجهات ولا شك أن هذا الحجم إنما حصل له من تأليف أجزائه بعضها إلى بعض وإذا كان التأليف يفيد زيادة حجم فليجعل التأليف من أجزاء متناهية في جميع الجهات فيحصل حجم في الجهات كلها وهو الجسم وتوضيحه أن كل عدد سواء كان متناهيا أو غير متناه فإنه يشتمل (2/335)
على آحاد حقيقية أي غير منقسمة بالفعل لأن حقيقة العدد مركبة من الآحاد قطعا والمنقسم بالفعل عدد لا واحد فلو لم يوجد في العدد إلا ما هو منقسم بالفعل لم يوجد فيه الواحد أصلا فلا يكون عددا قطعا فإذا فرض أن أجزاء الجسم عدد غير متناه فلا شك أن فيها آحادا متناهية فإذا أخذت تلك الآحاد وضم بعضها إلى بعض حصل جسم مركب من أجزاء متناهية فليس كل جسم مركبا من أجزاء لا تتناهى فبطل الكلية التي ادعاها النظام
فإن قلت هذا جسم مصنوع وما ذهب إليه إنما هو في الأجسام المخلوقة
قلت ما ذكرناه تصوير له مع كونه موجودا في ضمن تلك الأجسام إذ لا بد أن ينضم فيها أجزاء متناهية بعضها إلى بعض ثم إذا شئنا أن نبطل قوله بالكلية نقول وهذا الجسم له حجم متناه وأجزاء متناهية والجسم الذي فيه البحث ما له حجم متناه لتناهي الأبعاد وأجزاء غير متناهية على زعمه ولا شك أن بحسب ازدياد الأجزاء يزداد الحجم لأن حجم المؤلف من الأجزاء هو حجم الأجزاء المؤلفة المقتضية لازدياد حجمه فتكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة متناه إلى متناه ونسبة الأجزاء إلى الأجزاء إلى الأجزاء نسبة متناه إلى غير متناه فتكون نسبة المتناهي إلى المتناهي كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي هذا خلف فلا يكون شيء من الأجسام المتناهية المقدار مؤلفا من أجزاء غير متناهية ولا مهرب له عن ذلك أيضا سوى تجويز التداخل إذ لا يجب حينئذ أن تكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكنه باطل كما عرفت وهذه الوجوه الثلاثة لا تبطل القول بكون الجسم متصلا واحدا قابلا لانقسامات غير متناهية على معنى أنها لا تقف على حد لا تتجاوزه لأن (2/336)
الجسم ليس حينئذ مشتملا على أجزاء غير متناهية بالفعل بل بالقوة التي يستحيل خروجها بكليتها إلى الفعل كما مر
النوع الثاني من حجة جمهور المتكلمين على ما ذهبوا إليه أن نبين تركب الجسم منها أي من الأجزاء التي لا تتجزأ ابتداء أي من غير استعانة بأن كل قابل للانقسام فهو منقسم بالفعل كما في النوع الأول وأما كون تلك الأجزاء متناهية فهو ظاهر أو معلوم مما مر آنفا وهو وجوه سبعة
الأول النقطة وهي ذات وضع لا تنقسم موجودة إذ بها تماس الخطوط والخطوط بها تماس السطوح والسطوح بها تماس الأجسام وتماس الموجودين بالمعدوم ضروري البطلان يعني أنه لا شبهة في أن الأجسام موجودة وأنها تتماس بأمور موجودة منقسمة في الطول والعرض دون العمق وإلا لزم التداخل بين المنقسمين في العمق أو كون التماس بجزئين منهما لا بهما فينقل الكلام إلى ذينك الجزئين وعدم انقسامهما ولا يتسلسل بل ينتهي إلى ما لا ينقسم في العمق وذلك هو السطح فثبت وجوده ثم إن السطحين الموجودين يتماسان على أمر منقسم في الطول دون العرض وإلا لزم أحد الأمرين كما عرفت وذلك هو الخط فثبت وجوده أيضا ثم إن الخطين الموجودين يتماسان على أمر ذي وضع لا ينقسم أصلا وهو النقطة وأيضا فإنها أي النقطة طرف للخط وهو للسطح وهو للجسم وطرف الموجود موجود فتكون النقطة موجودة ثم إنها لا تنقسم أصلا قلنا في الجسم موجود ذو وضع لا ينقسم فإن كان جوهرا فهو المطلوب لأن ذلك الجوهر الذي لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه جزء للجسم وإلا أي وإن لم يكن جوهرا بل عرضا لكان له محل لا ينقسم (2/337)
وإلا انقسم الحال فيه لما مر مرارا وذلك المحل إن كان جوهرا فذاك وإن كان عرضا كان له محل آخر ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جوهر كذلك أي غير منقسم وهو الجزء الذي لا يتجزأ وقد وقع جزءا للجسم ثم إذا أخرجناه عن الجسم واعتبرنا التماس بالقياس إلى ما كان مجاورا له وهكذا ظهر أن أجزاءه كلها جواهر غير قابلة للانقسام كما هو مطلوبنا وقد أجابوا عن ذلك بأن النقطة عرض غير سار في محله فلا يلزم من انقسام محلها انقسامها بل الأطراف كلها أعراض لكن الخط سار في محله في جهة واحدة فينقسم في هذه فقط والسطح سار في جهتين فينقسم فيهما فقط والنقطة لا سريان لها فلا انقسام فيها
الوجه الثاني الحركة موجودة بالضرورة وأنها تنقسم إلى حاضرة وماضية ومستقبلة فنقول إن الحاضرة منها موجودة وإلا لم يوجد الماضي منها ولا المستقبل لأن الماضي ما كان حاضرا والمستقبل ما سيحضر ولا شك أن الماضي منها لا وجود له حال كونه ماضيا ولا المستقبل حال كونه مستقبلا فإذا لم يوجد الحاضر لم يوجد شيء منهما قطعا فلا وجود للحركة أصلا وهو باطل بالضرورة فوجب أن تكون الحاضرة منها موجودة وأنها لا تنقسم بوجه ولو فرضا وإلا لكان بعض أجزائها المفروضة قبل وبعضها بعد لأنها أي الحركة غير قار الذات ضرورة فإذا فرض فيها جزءان امتنع أن يكونا مجتمعين فلا يكون كلها حاضرا بل بعضها هذا خلف لأن المقدر خلافه وكذا جميع أجزائها غير قابلة للانقسام إذ ما من جزء من أجزائها إلا وكان حاضرا حينا ما فثبت أن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ فكذا المسافة التي هي الجسم مركبة منها أيضا لانطباقها أي انطباق الحركة عليها بحيث إذا فرض في إحديهما جزء يفرض بإزائه من (2/338)
الأخرى جزء فإذا كانت أجزاء الحركة غير قابلة للانقسام كانت أجزاء المسافة كذلك أو نقول يجب أن تكون أجزاء المسافة غير منقسمة لأنه لو انقسمت المسافة التي يقع عليها جزء من أجزاء الحركة لانقسمت الحركة عليها أعني ذلك الجزء من الحركة فإن الحركة إلى نصفها أي نصف المسافة نصف الحركة إليها
قال الإمام الرازي هذا أقوى ما احتج به مثبتو الجزء ويرد عليه أن الحركة بمعنى القطع لا وجود لها أصلا كما مر والحركة بمعنى التوسط موجودة في الآن الحاضر لكنها ليست منطبقة على المسافة إذ لا جزء لها في امتداد المسافة بل هي موجودة في كل حد من الحدود المفروضة فيها فليس لنا حركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ نعم يرتسم من هذه الحركة الموجودة في الخارج أمر ممتد في الخيال منطبق على المسافة منقسم مثلها إلى أجزاء لا تقف على حد لا يقبل الانقسام
الوجه الثالث برهن إقليدس في الشكل الخامس عشر من المقالة الثالثة من كتاب الأصول على وجود زاوية هي أصغر الزوايا وهي ما تحصل من مماسة خط مستقيم لمحيط دائرة فهي لا تنقسم إذ لو انقسمت لم تكن أصغر الزوايا ولا تتصور الزاوية التي لا تنقسم إلا بإثبات الجزء لأن تلك الزاوية إن كانت جوهرا كانت جزءا وإن كانت عرضا فلا بد لها من محل هو جوهر غير منقسم والجواب أن المبرهن في كتابه هو أن الزاوية الحادة الحادثة من حدبة الدائرة والخط المماس لها أصغر من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين لا أنها أصغر من جميع الحواد
الوجه الرابع نفرض كرة حقيقية تماس سطحا مستويا حقيقيا لا مكان الكرة والسطح المذكورين وتماسها ضرورة على تقدير انتفاء (2/339)
الجزء كما هو مذهب الخصم فما به المماسة بينهما لا ينقسم وإلا فإما أن ينقسم في جهة واحدة فهو خط أو في أكثر يعني في جهتين فهو سطح ولانطباقه أي ولانطباق ما به المماسة من الكرة على السطح المستوي فهو مستو سواء كان خطا أو سطحا فلا تكون الكرة المفروضة كرة حقيقية لاستحالة أن يوجد على محيطها خط مستقيم أو سطح مستو بالضرورة هذا خلف فتعين أن يكون ما به المماسة فيهما أمرا غير منقسم ثم نفرض تدحرجها على السطح المستوي بحيث تماسه بجميع أجزئها فتكون جميع الأجزاء من ظاهر الكرة ومن ذلك السطح غير منقسمة وكذا الحال في الأجزاء التي في أعماقها وهوالمطلوب
وأجاب ابن سينا عن ذلك بأن الكرة إذا ماست السطح على نقطة فإنها لا تماسه على نقطة أخرى إلا بحركة منقسمة في زمان منقسم ثم إن النقطة الأخرى ليست مجاورة للأولى متصلة بها وإلا كانت منطبقة عليها إذ لا يمكن أن يتصور اتصال بين أمرين غير منقسمين إلا بطريق الانطباق بينهما بكليتهما فلا بد أن يكون بين النقطتين خط وكذا الحال في سائر النقط التي يقع بها التماس بينها فلا يكون محيط الكرة ولا السطح المستوي مركبا من نقط متتالية لا يقال فعلى ما ذكرت لا تحصل المماسة على النقطة الأخرى إلا بعد الحركة ففي حال الحركة لا بد من المماسة فإن كانت المماسة على النقطة الأولى كانت الكرة ساكنة حال كونها متحركة وإن كانت على نقطة متوسطة بينهما لزم خلاف المقدر على أنا ننقل الكلام إلى تلك المتوسطة فوجب إذن أن لا يكون بين نقطتي التماس واسطة فيلزم تتالي النقط لأنا نقول المماسة على النقطة الأولى وإن كانت حاصلة في (2/340)
آن لكنها باقية في زمان حركة الدحرجة المؤدية إلى المماسة على النقطة الأخرى ففي آن حصول هذه المماسة الثانية نزول المماسة الأولى وهكذا كل مماسة على نقطة تحصل في آن أو تبقى زمانا ولا ينافي ذلك استمرار حركة الكرة كما يظهر ذلك بالتخيل الصادق لحركة الدحرجة فلا يلزم تتالي النقط والآنات
الوجه الخامس نفرض خطا قائما على خط ويمر الخط الأول عليه أي على الخط الثاني فإنه يماس الخط المار في مروره جميع أجزاء ذلك الخط الممرور عليه أو المماسة بينهما إنما تكون بنقطة لأن المماس من الخط القائم المار هو طرفه الذي هو النقطة وممسوس النقطة لا يكون إلا نقطة فالخط الممرور عليه مركب من نقط متتالية وكذلك السطح مركب من خطوط متلاقية والجسم مركب من سطوح مجتمعة وهو المطلوب ويتجه عليه أن المتحرك هو المتحيز بالذات فلا بد أن يكون منقسما في جميع الجهات كما سيأتي فالسطح والخط والنقطة لا تكون إلا أعراضا فكيف يتصور حركة خط عرضي على آخر مثله
الوجه السادس لولا انتهاء الأجسام إلى أجزاء لا تتجزأ لكان الانقسام في السماء والخردلة ذاهبا إلى غير النهاية فتكون أجزاؤهما الممكنة سواء لأن أجزاء كل واحدة منهما غير متناهية حينئذ وهو بديهي البطلان ويرد عليه أن الأجزاء فيهما وإن كانت غير متناهية بالمعنى الذي عرفت إلا أن مقادير أجزاء السماء ليست كمقادير أجزاء الخردلة فلا استحالة
الوجه السابع لولا الجزء وانتهاء تقسيم الجسم إليه لكان يمكن أن تقسم الخردلة إلى صفائح غير متناهية فتغمر تلك الصفائح وجه الأرض وتستر وجوه السموات وتفضل عليها بما لا يتناهى وأنه ضروري البطلان (2/341)
ورد هذا بما عرفت من معنى لا تناهي الانقسام وامتناع خروج جميع الأقسام إلى الفعل وجوبا بل فرضا أيضا
قال المصنف وبعض ذلك الذي ذكرناه من حجج المتكلمين على إثبات الجزء وتركب الجسم منه وإن كان يمكن الجواب عنه جدلا ففيه للمصنف إقناع وطمأنينة باطن فارجع أنت إلى إنصافك في الأجوبة التي مر ذكرها
المقصد الخامس
المتن
حجة الحكماء على أن الجسم واحد متصل قابل للقسمة إلى غير النهاية لا أنه مركب من أجزاء لا تتجزأ أنواع
النوع الأول ما يتعلق بالمحاذاة وذلك وجهان
الأول كل متحيز يمينه غير يساره ضرورة
الثاني أنا إذا ركبنا صفحة من أجزاء لا تتجزأ ثم قابلنا بها الشمس فإن الوجه المضيء أي الذي إلى الشمس غير المظلم أي الذي إلينا وهذا أيضا ضروري
النوع الثاني ما يتعلق بالمماسة وهو وجهان
الأول لو تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ فليست لا تتجزأ هذا خلف بيانه أن الواقع في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس فما به يماس أحد الطرفين غير ما به يماس الآخر فينقسم لا يقال لا نسلم ذلك (2/342)
لجواز التداخل لأنا نقول بطلانه ضروري وإن سلم جدلا فيكون حيزهما واحدا وكذا إذا انضم إليهما رابع وخامس بالغا ما بلغ فلا يكون ثمة ترتيب ولا وسط ولا طرف ولا يحصل من تأليفها حجم وذلك خلاف المفروض ومع هذا فالمداخلة بعد المماسة فلا شك أن الملاقي عند المماسة غير الملاقي عند المداخلة التامة فيلزم انقسام
الثاني لو جاز جزء عن ملتقى اثنين لم يكن لا يتجزأ والملزوم حق فاللازم حق واللزوم بين فإنه يكون مماسا لهما لا بالكلية ولا معنى للانقسام إلا ذلك وأما حقية الملزوم فلوجوه
الأول لا شك أنه يتحرك من جزء إلى آخر فاتصافه بالحركة إما عند كونه بتمامه في الجزء الأول أو الثاني أو على الملتقى والأولان باطلان لأنه إما قبل الحركة أو بعد الفراع منها وفي الثالث المطلوب
الثاني نفرض خطا من أجزاء شفع كستة ونفرض فوق أحد طرفيه جزءا وتحت الآخر جزءا ثم تحركا على السوية فلا بد أن يتحاذيا قبل أن يتجاوزا وذلك على المنتصف إذا فرضنا الحركتين سواء وهو ملتقى الثالث والرابع
الثالث نفرض خطا من أجزاء وتر ونفرض ذينك الجزءين كليهما من فوق كلا من طرف ثم يتحركان سواء فيلتقيان في الوسط وهو الجزء الثالث فيكون هو على ملتقاهما وربما يمنع هذا بأنهما يقعان قبل الثالث إذ شرط انتقالهما فراغ ما يسع الجزءين
النوع الثالث ما يتعلق بالسرعة والبطء وحاصله أحد الأمرين لازم إما انتفاء تفاوت الحركات بالسرعة والبطء وإما تجزؤ الأجزاء والأول منتف فثبت الثاني بيان لزوم أحد الأمرين من طريقين (2/343)
أحدهما إنه إذا قطع السريع جزءا فالبطيء لا يقف لما بينا أن البطء ليس لتخلخل السكنات فهو إذا يتحرك فإما أن يتحرك جزء أيضا فالسريع كالبطيء وهو الأول أو أقل من جزء فيتجزأ وهو الثاني
وثانيهما أن نبين أن ثمة حركة سريعة وبطيئة متلازمتين فيستغني عن الاستعانة بأن البطء ليس لتخلل السكنات بل يكون ذلك دليلا على ذلك مستأنفا فعندما تقطع السريعة جزءا إن قطعت البطيئة مثلها لزم تساوي السريعة والبطيئة أو أقل لزم التجزؤ وذلك في صور
الأولى الدائرة الطوقية من الرحى مع الدائرة القطبية منها إذ لو تحركت الطوقية ووقفت القطبية لزم التفكك وانقسام الرحى إلى دوائر بحسب أجزائها ولو كانت من حديد أو ما هو أشد منه ثم انتصافها عند الوقوف بحيث لا يمكن أن يتفكك منها جزء بأبلغ السعي وذلك وإن كان مما لا يمتنع في قدرة الله تعالى فالعقل جازم بعدمه كسائر العاديات ومعلوم أن الله تعالى لم يخلق في الرحى كل هذه العجائب ليثبت مذهبكم
الثانية فرجار له شعب ثلاث فتثبت واحدة وتدور اثنتان حتى يرسما دائرتين الداخلية صغيرة والخارجية كبيرة يتممان وهما متلازمتان ضرورة والانفكاك ههنا مع عدم التناثر أبعد
الثالثة من وضع عقبة على الأرض ويدور على عقبه فإنه يرسم دائرتين إحداهما بعقبه والأخرى باطرافه وإن شئت فافرضه مادا باعه فرأس إصبعه يرسم دائرة أكبر بكثير ونحن نعلم بالضرورة أنه لا ينقطع جزءا جزءا وإن شئت فافرضه في الفلك في كوكبين يدور أحدهما قريبا من القطب والآخر على المنطقة
الرابعة الشمس في ظل الخشبة المغروزة حذاءها فإن الظل يقطع من (2/344)
الصباح إلى الظهر قدرا من الأرض محدودا والشمس تقطع ربع فلكها من غير وقوف الظل لأن الشعاع إنما يقع بخط مستقيم ووقوف الظل يبطل الاستقامة
الخامسة دلو على رأس حبل مشدود طرفه الآخر في وسط البئر مع كلاب يجعل في ذلك الحبل ويمد به فالدلو والكلاب يصلان إلى رأس البئر معا فالدلو قطع مسافة البئر حين ما قطع الكلاب نصفه من غير وقوف ضرورة
السادسة جزء يتحرك جزءا على متحرك جزء آخر ولنفرض أ ب ج خطا ونفرض ء ه خطا على أ و ز جزءا على د فإذا تحرك ء من أ إلى ب فقد تحرك ه بتلك الحركة من ب إلى ج وفرضنا تحرك ز من ء وكان مقابلا ل أ إلى ه وهو الآن مقابل ل ج فقد تحرك ز جزئين حين تحرك ء جزءا فحين تحرك ز جزءا يكون ء تحرك أقل من جزء وفيه المراد
النوع الرابع ما يتعلق بالأشكال الهندسية وهو وجوه
الأول أنا نفرض مربعا من أربعة خطوط كل خط من أربعة أجزاء فذلك ستة عشر جزءا فيكون كل ضلع من المربع أربعة أجزاء والقطر أيضا أربعة أجزاء فالقطر كالضلع وأنه محال بشهادة الحس والبراهين الهندسية لا يقال لم لا يجوز أن يكون القطر أطول وبينهما خلاء لأنا نقول الخلاء الذي بين كل جزئين إن وسع جزءا كان القطر مثل الضلعين لأنه سبعة أجزاء وإن كان أقل لزم الانقسام
الثاني مثلث قائم الزاوية كل من الضلعين المحيطين بالقائمة منه عشرة أجزاء فنقول قام البرهان على أن مربع وتره كمجموع مربعي الضلعين ولكن مربع كل ضلع مائة فمجموعهما مائتان فالوتر جذر مائتين وأنه فوق أربعة عشر وأقل من خمسة عشر فيلزم انقسام الجزء حينئذ (2/345)
الثالث هذا المثلث إذا طبقنا رأس وتره على ضلع ومددنا رجله من الطرف الآخر فلا شك أنه كلما ينحط من هذا الضلع شيء يخرج من ذلك الضلع شيء فإن كان مثله لزم أن يكون الوتر مثل المنطبق على ضلع والفاضل عليه وهو مثل الآخر فيكون كمجموع الضلعين ويكذبه الحس والبرهان وهذا يليق بالنوع الثالث من وجه
الرابع بينا وجود الدائرة فإذا فرضنا دائرة فلو كان محيطها من أجزاء لا تتجزأ فإن كان ظاهر الأجزاء أكبر من باطنها انقسم الجزء وإلا فبين كل جزئين إما خلاء فإن كان بقدر ما يسع جزءا كان ظاهرها ضعف باطنها والحس يكذبه وإن كان ذلك الخلاء أقل لزم الانقسام وإما لا خلاء فيكون باطنها كظاهرها وهو كظاهر أخرى محاطة بها وظاهر المحاطة أيضا كباطنها وهي كثالثة ورابعة بالغة ما بلغت فتكون أجزاء طوقية الرحى مثلا كالقطبية وبطلانه لا يخفى
الخامس برهن إقليدس أن الزاوية المستقيمة الخطين تنقسم إلى غير النهاية وأنه ينفي الجزء
السادس برهن على أن كل خط قابل للتنصيف فإذا فرض من أجزاء وتر لزم تجزؤ الوسطاني
الشرح
المقصد الخامس حجة الحكماء على أن الجسم البسيط واحد متصل في نفسه قابل للقسمة إلى غير النهاية لا أنه مركب أي وليس بمركب من أجزاء لا تتجزأ أنواع أربعة (2/346)
النوع الأول ما يتعلق بالمحاذاة وذلك وجهان
الأول كل متحيز بالذات يمينه غير يساره ضرورة وكذا سائر جهاته المتقابلة متغايرة فظهر أن المتحيز بالذات يجب أن يكون منقسما في جميع الجهات فاستحال وجود الجزء الذي لا يتجزأ وكذا وجود الخط والسطح الجوهريين فضلا عن تركب الجسم منها بخلاف النقطة والخط والسطح العرضيين فإنها ليست بمتحيزة بذواتها حتى يتصور لها جهات مقتضية لانقسامها
الوجه الثاني أنا إذا ركبنا صفحة من أجزاء لا تتجزأ ثم قابلنا بها الشمس فإن الوجه المضيء من تلك الصفحة أي الوجه الذي إلى الشمس غير الوجه المظلم أي الذي إلينا وهذا أيضا ضروري فوجب أن تكون تلك الأجزاء منقسمة وقد أجيب عن هذين الوجهين بأن اللازم منهما تعدد الأطراف ويجوز أن يكون لشيء واحد غير منقسم في ذاته أطراف هي أعراض حالة فيه ودفع هذا الجواب بأن الطرفين المحاذيين لليمين واليسار مثلا إن كانا جوهرين فهما جزءان للذي فرض غير منقسم وإن كانا عرضين فإما أن يكونا حالين في محل واحد بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر فيلزم أن يكون ما حاذى منه يمينه عين ما حاذى منه يساره وهو بديهي البطلان وإما أن يكونا حالين في محلين متمايزين في الإشارة فيلزم الانقسام ولو فرضا إذ يمكن حينئذ أن يفرض فيه شيء كما تشهد به البديهة
النوع الثاني ما يتعلق بالمماسة وهو أيضا وجهان
الأول لو تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ فليست تلك الأجزاء أجزاء لا تتجزأ هذا خلف لكونه اجتماعا للنقيضين بيانه أنه إذا تركب الجسم منها فلا بد لها من أن تكون مجتمعة مترتبة متلاصقة وإلا لم يكن هناك تركب حقيقة وحينئذ فلا شك أن الواقع من تلك الأجزاء في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس فما به يماس (2/347)
الوسط أحد الطرفين غير ما به يماس الطرف الآخر إذ لو كانا متحدين لم يكن الوسط حاجبا للطرفين بل كانا متماسين وإذا كان الأمر كذلك فينقسم الجزء الوسط مع كونه غير منقسم لا يقال لا نسلم ذلك أي حجب الوسط للطرفين حتى يلزم انقسامه لجواز التداخل بين تلك الأجزاء لأنا نقول بطلانه ضروري فإن بديهة العقل شاهدة بأن المتحيز بذاته يمتنع أن يداخل مثله بحيث يصير حجمهما معا كحجم واحد منهما وإن سلم جواز التداخل جدلا فيكون حيزهما أي حيز المتداخلين واحدا ولا يزداد بانضمام أحدهما إلى الآخر مقدار وكذا إذا انضم إليهما رابع وخامس وغيرهما من الأجزاء بالغا ما بلغ فلا يكون ثمة ترتيب بين الأجزاء ولا وسط ولا طرف ولا يحصل من تأليفها حجم زائد على حجم كل واحد منها وذلك كله خلاف المفروض لأنا فرضنا تركب الجسم الذي هو حجم ممتد في الجهات الثلاث من تلك الأجزاء فلا بد أن يكون بينها ترتيب وأن يكون هناك وسط وطرف ومع هذا الذي ذكرناه من لزوم خلاف المفروض على تقدير التداخل نقول فالمداخلة بين جزئين إنما تكون بعد المماسة بينهما فلا شك أن الملاقي من أحد الجزئين عند المماسة غير الملاقي منه عند المداخلة التامة فيلزم الانقسام في كل واحد من الجزئين ولا يذهب عليك أن لزوم الانقسام من التداخل إنما يتم إذا كان التداخل حادثا بعد وجود الأجزاء وانضمام بعضها إلى بعض أما إذا كانت الأجزاء متداخلة في ابتداء الخلقة بأن خلقت كذلك فلا
الوجه الثاني لو جاز أن يقع جزء لا يتجزأ على ملتقى اثنين من الأجزاء لم يكن ذلك الجزء جزءا لا يتجزأ بل كان منقسما والملزوم (2/348)
حق فاللازم أيضا حق واللزوم بين فإنه يكون الجزء الواقع على ملتقاهما مماسا لهما لا بالكلية أي يجوز أن يكون بكليته مماسا لشيء منهما وألا لم يكن واقعا على الملتقى بل على أحدهما فوجب أن يكون ببعضه مماسا لأحدهما وببعضه مماسا للآخر ولا معنى للانقسام إلا ذلك وأما حقية الملزوم أعني وقوعه على ملتقى جزئين فلوجوه ثلاثة
الأول لا شك أنه أي الجزء الذي لا يتجزأ على تقدير وجوده يتحرك من جزء مثله إلى جزء آخر كذلك فاتصافه بالحركة إما عند كونه بتمامه في الجزء الأول أو في الجزء الثاني أو عند كونه على الملتقى والأولان باطلان لأنه أي كونه في أحد الجزئين حاصل إما قبل الحركة وهو كونه في الجزء الأول أو بعد الفراغ منها وهو كونه في الجزء الثاني فلا يتصور اتصافه بالحركة حال كونه في أحدهما وفي الثالث أعني اتصافه بالحركة حال كونه على ملتقاهما المطلوب
الثاني من هذه الوجوه نفرض خطا مركبا من أجزاء شفع كستة مثلا ونفرض فوق أحد طرفيه جزءا وتحت الطرف الآخر من الخط جزءا آخر ثم نفرض أنهما تحركا أي تحرك كل منهما إلى صوب الآخر على التبادل حركة على السوية فلا بد أن يتحاذيا قبل أن يتجاوزا وذلك التحاذي إنما يكون على المنتصف من الخط إذا قد فرضنا الحركتين سواء في السرعة والبطء وهو أي منتصف الخط ملتقى الثالث والرابع من تلك الأجزاء بالقياس إلى كل واحد من طرفي الخط كما يلوح بأدنى تأمل صادق
الثالث منها نفرض خطا من أجزاء وتر كالخمسة مثلا ونفرض ذينك الجزئين كليهما من فوق كلا منهما من طرف من طرفي الخط ثم نفرض أنهما يتحركان أي كل منهما إلى صاحبه حركة سواء فيلتقيان لا (2/349)
محالة في الوسط وهو الجزء الثالث من كل واحد من الطرفين فيكون هو أي الجزء الثالث على ملتقاهما لأنهما معا عليه وربما يمنع هذا بأنهما أي الجزئين المتحركين يقعان قبل الجزء الثالث إذ شرط انتقالهما إلى الثالث فراغ ما يسع الجزئين معا ولا شك أن الثالث لا يسعهما بل يسع واحدا منهما
النوع الثالث ما يتعلق بالسرعة والبطء وحاصله أحد الأمرين لازم أي ثابت في الواقع على سبيل منع الخلو إما انتفاء تفاوت الحركات بالسرعة والبطء وإما تجزؤ الأجزاء التي لا تتجزأ فإنهما لا يجتمعان في الكذب لأن عدم التجزؤ يستلزم انتفاء التفاوت وعدم الانتفاء أعني وجود التفاوت يستلزم المتجزئ والأول وهو انتفاء تفاوت الحركات منتف ضرورة أن الحركات متفاوتة في السرعة والبطء فثبت الثاني وهو تجزؤ الأجزاء بيان لزوم أحد الأمرين من طريقين
أحدهما أنه إذا تركبت المسافة من أجزاء لا تتجزأ فإذا قطع السريع جزءا منها فالبطيء لا يقف لما بينا من قبل أن البطء ليس لتخلل السكنات فهو أي البطيء إذن يتحرك فإما أن يتحرك جزءا أيضا فالسريع كالبطيء وهو الأول أعني انتفاء التفاوت فيما بين الحركات أو أقل من جزء إذ لا مجال لتوهم حركته أكثر من جزء فتجزؤ الجزء الذي لا يتجزأ لثبوت ما هو أقل منه وهو الثاني من الأمرين اللذين ادعينا لزوم أحدهما
وثانيهما أي ثاني الطرفين المذكورين أن نبين أن ثمة حركة سريعة وبطيئة متلازمتين بحيث يستحيل انفكاك إحديهما عن الأخرى فيستغني حينئذ عن الاستعانة بأن البطء ليس لتخلل السكنات بل يكون ذلك أي (2/350)
تلازم هاتين الحركتين دليلا على ذلك أي على أن البطء ليس للتخلل مستأنفا كما نبهت عليه فيما مر وإذا كانت الحركتان متلازمتين فعندما تقطع السريعة جزءا إن قطعت البطيئة مثلها لزم تساوي السريعة والبطيئة وهو الأمر الأول أو أقل لزم التجزؤ وهو الأمر الثاني وذلك أي تلازم السريعة والبطيئة حاصل في صور ست
الأولى الدائرة الطوقية من الرحى مع الدائرة القطبية منها فإن حركة الأولى سريعة لطول مسافتها وحركة الثانية بطيئة لقصر مسافتها وهما متلازمتان إذ لو تحركت الطوقية مثلا ووقفت القطبية لزم التفكك وانقسام الرحى إلى دوائر متعددة بحسب أجزائها وإنما يتضح ذلك بإخراج خطوط متلاصقة من مركز الرحى إلى الطوق العظيم منها في جميع الجهات فإن تلك الخطوط تكون مركبة من أجزاء لا تتجزأ وتتركب من أجزاء تلك الخطوط أطواق متداخلة متفاوتة في الكبر والصغر والطوق العظيم منها مركب من أطراف هذه الخطوط فإذا تحرك هذا الطوق ولم يتحرك الطوق الذي يلاصقه فقد انفك أحدهما عن الآخر وكذا إذا تحرك الطوق الثاني ولم يتحرك الثالث وهكذا إلى الطوق الذي هو أصغرها فلزوم تفكك الرحى عند تحركها على مثال دوائر محيطة بعضها ببعض ولو كانت الرحى من حديد أو ما هو أشد منه ثم التصاقها عند الوقوف بحيث لا يمكن أن يتفكك منها جزء بأبلغ السعي وذلك الذي ذكرناه من تفكك الرحى حال تحركها والتصاقها حال سكونها وإن كان مما لا يمتنع في قدرة الله تعالى فالعقل جازم بعدمه كسائر العاديات ومعلوم لكل عاقل أن الله تعالى لم يخلق في الرحى كل هذه الغرائب والعجائب ليثبت مذهبكم (2/351)
الصورة الثانية فرجار له شعب ثلاث فتثبت واحدة منها وتدور اثنتان حتى يرسما دائرتين الداخلية صغيرة والخارجية كبيرة ولا شك أن هاتين الشعبتين يتممان الدائرتين معا بحركتيهما وهما متلازمان ضرورة والانفكاك بين الشعبتين ههنا مع عدم التناثر والتساقط أبعد من الانفكاك بين أجزاء الرحى
الصورة الثالثة من وضع عقبة على الأرض ويدور على عقبه فإنه يرسم دائرتين إحداهما بعقبه وهي أصغر والأخرى بأطرافه وهي أكبر وإن شئت فافرضه أي الدائر على عقبه مادا باعه فرأس إصبعه يرسم دائرة أكبر بكثير من الدائرة التي يرسمها عقبه وحركتاهما متلازمتان لأنه إذا تحرك رأس إصبعه جزءا لم يقف عقبه أصلا وإلا لزم تقطع ذلك الشخص على قياس ما مر ونحن نعلم بالضرورة أنه لا ينقطع جزءا جزءا كيف وتفرق الاتصال يوجب الألم مع أنه لا يجد ألما أصلا وإن شئت فافرضه أي رسم الدائرة الصغيرة والكبيرة في الفلك في كوكبين يدور أحدهما قريبا من القطب والآخر على المنطقة فإن حركتهما في رسم الدائرتين متلازمتان وإلا لزم الانخراق في الأفلاك وأن لا تكون موصوفة بالشدة والإحكام
الصورة الرابعة الشمس مع ظل الخشبة المغروزة حذاءها فإن الظل يقطع بالانتقاص من الصباح إلى الظهر قدرا من الأرض محدودا كذارع أو ذراعين مثلا والشمس في هذه المدة تقطع ربع فلكها فحركتها أسرع من حركة الظل بكثير من غير وقوف الظل عن الحركة لأن الشعاع الخارج من الشمس المار برأس الخشبة الواصل إلى طرف الظل إنما يقع بخط مستقيم كما تشهد به التجربة الصحيحة ووقوف الظل عن الحركة مع تحرك الشمس يبطل الاستقامة في الخط الشعاعي لأن الشمس إذا كانت في ارتفاع وقد وصل منها خط شعاعي مار برأس الخشبة إلى طرف الظل على الاستقامة فإذا انتقلت إلى ارتفاع أعلى ولم ينتقص الظل أصلا كان القدر الواقع من ذلك الخط فيما بين رأس الخشبة وطرف الظل باقيا على حاله وقد تغير ما كان منه بين الشمس والخشبة عن وضعه فلا يكون ذلك القدر (2/352)
الذي كان متصلا به على الاستقامة في وضعه الأول متصلا به كذلك في وضعه الثاني وإلا كان خط واحد مستقيم متصلا على الاستقامة بخطين ليسا في سمت واحد وهو باطل بالضرورة
الصورة الخامسة دلو على رأس حبل مشدود طرفه الآخر بوتد في وسط البئر مع كلاب يجعل في ذلك الحبل عند الوتد ويمد به فالدلو والكلاب يصلان إلى رأس البئر معا فالدلو قطع مسافة البئر حين ما قطع الكلاب نصفه من غير وقوف للكلاب ضرورة فقد تلازمت حركة سريعة وبطيئة وقد توهم النظام تساوي هاتين الحركتين في السرعة فاستدل بذلك على الطفرة
الصورة السادسة جزء يتحرك جزءا على خط متحرك جزء آخر في جهة حركة ذلك الجزء ولنفرض أ ب ج خطا ساكنا مركبا من أجزاء ثلاثة ونفرض أيضا د ه خطا مركبا من جزئين على أ ب بحيث يكون د واقعا بإزاء أ و ه واقعا بإزاء ب ونفرض ز جزءا كائنا على د من خط د ه على خط أ ب ج من أ إلى ب فقد تحرك ه د ه أ ب ج بتلك الحركة من ب إلى ج وفرضنا مع ذلك تحرك ز على خط د ه من د وكان أي د مقابلا ل أ في ابتداء الفرض إلى ه أي تحرك ز من د إلى ه وهو أي ه وإن كان مقابلا ل ب ابتداء لكنه الآن مقابل ل ج فيكون ز حينئذ مقابلا ل ج أيضا فقد تحرك ز بمجموع حركته الذاتية والعرضية جزئين حين تحرك د بحركة واحدة جزءا واحدا فإن زود كانا معا محاذيين ل أ من خط أ ب ج قبل الحركة والآن قد صار ز محاذيا ل ج و د محاذيا ل ب فقد ثبت حركتان متلازمتان سريعة وبطيئة وهو المطلوب وإن شئت قلت فحين تحرك ز بمجموع حركته جزءا واحدا يكون د تحرك أقل من جزء وفيه المراد الذي هو انقسام الجزء (2/353)
النوع الرابع ما يتعلق بالأشكال الهندسية وهو وجوه ستة
الأول أنا نفرض مربعا من أربعة خطوط كل خط منها من أربعة أجزاء ونجتهد في ضم الخطوط بعضها إلى بعض غاية الاجتهاد فذلك المربع ستة عشر جزءا هكذا فيكون كل ضلع من المربع أربعة أجزاء والقطر الواصل بين طرفي ضلعين محيطين بزاوية أيضا أربعة أجزاء لأنه إنما يحصل من الجزء الأول من الخط الأول والثاني من الثاني والثالث من الثالث والرابع من الرابع فالقطر كالضلع في المقدار وأنه محال بشهادة الحس والبراهين الهندسية الدالة على أن وتر الزاوية القائمة أطول من كل واحد من ضلعيها لأن مربعه يساوي مربعيهما كما بين في الشكل المسمى بالعروس وأيضا إذا كان إحدى زوايا المثلث قائمة كانت الباقيتان حادتين والزاوية العظمى بوترها الضلع الأطول لا يقال لم لا يجوز في المربع المذكور أن يكون القطر أطول وذلك بأن يقع بينها أي بين أجزاء القطر خلاء دون أجزاء الضلع لأنا نقول الخلاء الذي بين كل جزئين من أجزاء القطر إن وسع جزءا كان القطر مثل مجموع الضلعين لأنه حينئذ سبعة أجزاء هي الأربعة المذكورة والثلاثة الواقعة في الفرج الثلاث بين جميع تلك الأربعة لأن وقوع الفرجة في بعض دون بعض تحكم محض ولا شك أن مجموع الضلعين سبعة أيضا لاشتراكهما في جزء واحد ومساواة القطر لهما معا باطلة حسا وبرهانا وإن كان الخلاء الواقع بين جميع الأجزاء أو بعضها أقل من أن يسع جزءا لزم الانقسام في الجزء لثبوت ما هو أقل منه
الوجه الثاني مثلث قائم الزاوية كل من الضلعين المحيطين بالقائمة (2/354)
منه عشرة أجزاء فنقول قام البرهان في شكل العروس على أن مربع وتره أي وتر قائمة المثلث كمجموع مربعي الضلعين ولكن مجموع مربع كل ضلع في المثلث المذكور مائة فمجموعهما مائتان فالوتر جذر مائتين وأنه فوق أربعة عشر جزءا وأقل من خمسة عشر جزءا وذلك لأن الحاصل من ضرب أربعة عشر في نفسها مائة وستة وتسعون والحاصل من ضرب خمسة عشر في نفسها مائتان وخمسة وعشرون فلا بد أن يكون جذر المائتين فيما بينهما فيلزم انقسام الجزء حينئذ أي الكسر الذي به يتمم الجذر المذكور
الوجه الثالث هذا المثلث القائم الزاوية إذا طبقنا رأس وتره أي وتر قائمته على ضلع من ضلعي القائمة منصوب نحو السماء ومددنا رجله أي رجل الوتر من الطرف الآخر كسلم موضوع على جدار قائم على سطح الأرض يمد أسفله عن موضعه إلى خلاف جهة الجدار فلا شك أنه كلما ينحط من هذا الضلع المنصوب شيء والمقصود أنه كلما ينحط رأس الوتر عن شيء من هذا الضلع يخرج من ذلك الضلع شيء أي يخرج رجله عن ذلك الضلع بشيء وهكذا إلى أن يصل رأسه إلى أسفل الضلع المنصوب فإن كان ما يخرج به أسفله مثله أي مثل ما ينحط عنه أعلاه لزم أن يكون الوتر مثل المنطبق على ضلع وهو الضلع الذي جر من طرفه أسفله لأن بعض الوتر منطبق على هذا الضلع و مثل الفاضل عليه أي على هذا الضلع أعني مقدار الانجرار وهو أي هذا الفاضل مثل الضلع الآخر إذ المفروض أن مقدار الانحطاط كمقدار الانجرار فيكون الوتر كمجموع الضلعين ويكذبه الحس والبرهان فوجب أن يكون مقدار ما ينجر (2/355)
إليه أقل مما ينحط عنه فإذا انحط جزءا انجر أقل من جزء وهذا الوجه يليق بالنوع الثالث من وجه وهو أن حركة الانحطاط أسرع من حركة الانجرار مع تلازمهما
الوجه الرابع بينا فيما تقدم وجود الدائرة وإمكانها مناف لوجود الجزء الذي لا يتجزأ كما يتبين من قوله فإذا فرضنا دائرة فلو كان محيطها مركبا من أجزاء لا تتجزأ فإن كان ظاهر تلك الأجزاء أكبر من باطنها حتى إذا تلاقت بظواهرها وبواطنها كان محدب المحيط المركب منها أكبر من مقعرة انقسم الجزء لاشتماله على ظاهر أكبر وباطن أصغر وإلا أي وإن لم يكن ظاهرها أكبر من باطنها فبين كل جزئين من أجزاء المحيط في جهة محدبة إما خلاء بأن تكون بواطن الأجزاء متلاقية دون ظواهرها فيلزم الانقسام في الجزء أيضا لأن ما كان منه ملاقيا مغاير لما ليس بملاق على أنا نقول فإن كان الخلاء الواقع بين كل جزئين بقدر ما يسع جزءا كان ظاهرها أي ظاهر محيط الدائرة ضعف باطنها على ذلك التقدير والحس يكذبه فإن محدب المحيط وإن كان أكبر من مقعره إلا أنه يستحيل أن يكون ضعفه وإن كان ذلك الخلاء أي كل واحد منه أو بعضه أقل من قدر يسع جزءا لزم الانقسام في الجزء لثبوت ما هو أقل منه وإما لا خلاء بأن تكون ظواهرها متلاقية كبواطنها مع أنه لا تفاوت بينهما فيكون حينئذ باطنها أي باطن محيط الدائرة أو باطن الدائرة فإنها قد تطلق على محيطها كظاهرها في المقدار وهو أي باطنها كظاهر دائرة أخرى محاطة بها لانطباقها عليه وظاهر المحاطة أيضا كباطنها لما عرفت في المحيطة وهي أي الدائرة المحاطة كثالثة ورابعة إلى دوائر أخرى بالغة ما بلغت فتكون أجزاء طوقية الرحى مثلا كالقطبية منها وبطلانه لا يخفى والأظهر في تقرير هذا الوجه ما ذكر في الملخص من أنه يمتنع جعل (2/356)
الخط المركب من الأجزاء التي لا تتجزأ دائرة لأنا إذا جعلنا دائرة فإما أن تتلاقى ظواهر أجزائه كما تلاقت بواطنها فيلزم أن تكون مساحة ظاهرها كمساحة باطنها فإذا أحاطت بهذه الدائرة دائرة أخرى كان حكمها مثل حكم الأولى فيكون ظاهر المحيطة كباطنها وباطنها كظاهر المحاطة بها لانطباقه عليه وظاهر المحاطة به كباطنها فيكون ظاهر المحيطة كباطن المحاطة بها ثم هكذا تجعل الدوائر محيطا بعضها ببعض بلا فرجة بينهما إلى أن تبلغ دائرة طوقها مثل طوق الفلك الأعظم فلا تزيد أجزاء هذه الدائرة العظيمة جدا على أجزاء الدائرة المفروضة أولا مع كونها صغيرة جدا وأما أن لا غير الجوانب تتلاقى ظواهرها مع تلاقي بواطنها فيلزم الانقسام لأن الجوانب المتلاقية غير الجوانب التي لم تتلاق فظهر أن إمكن الدائرة ينافي وجود الجزء
الوجه الخامس برهن إقليدس في المقالة الأولى من كتاب الأصول أن الزاوية المستقيمة الخطين قابلة للتنصيف بخط مستقيم فيكون نصفها زاوية مستقيمة الخطين قابلة للتنصيف أيضا وهكذا فالزاوية المستقيمة الخطين تنقسم إلى غير النهاية وأنه ينفي الجزء
الوجه السادس برهن إقليدس في تلك المقالة على أن كل خط قابل للتنصيف فإذا فرض الخط مركبا من أجزاء وتر كخمسة مثلا لزم تجزؤ الجزء الوسطاني
المقصد السادس
المتن
في تحرير مذهب الحكماء قالوا لما تقرر أن الجسم لا ينفصل إلى أجزاء لا تتجزأ فقط فقد ثبت أنه متصل واحد في الحقيقة كما هو عند (2/357)
الحس وقابل للقسمة إلى غير النهاية إما بالفك وإما باختلاف عرضين قارين كالسواد والبياض أو غير قارين كمماستين ومحاذاتين نعم قد يمنع عن الانفكاكية مانع كصورة نوعية أو صلابة أو فقد آلة أو صغر وأما الفرضية فلا تقف أبدا
المقصد السادس في تحرير مذهب الحكماء في الأجسام البسيطة الطباع قالوا لما تقرر بالبرهان أن الجسم البسيط كالماء مثلا لا ينفصل إلى أجزاء لا تتجزأ وما في حكمها من الجواهر المنقسمة في جهة واحدة أو في جهتين فقط فقد ثبت أنه متصل واحد في الحقيقة لا مفصل فيه أصلا كما هو عند الحس وقابل للقسمة إلى غير النهاية أي لا تصل قسمته إلى حد تقف عنده كما مر وإلا لزم وجود الجزء عند انتهاء القسمة والحاصل أن ذلك الجسم ليس مركبا بالفعل من إجزاء لا تتجزأ وما في حكمها فيكون متصلا في نفسه ولا تنتهي قسمته إليها فيكون قابلا لانقسامات غير متناهية والقسمة إما بالفك كسرا أو قطعا والفرق بينهما أن القطع يحتاج إلى آلة نفاذة فاصلة بالنفوذ دون الكسر وأيضا للقطع نوع اختصاص بالأجسام اللينة والكسر بالأجسام الصلبة وإما باختلاف عرضين قارين في محلهما لا بالقياس إلى غيره كالسواد والبياض أو غير قارين في المحل باعتبار نفسه بل بالإضافة إلى غيره كمماستين ومحاذاتين وإما بالوهم والفرض فهذه الثلاثة وجوه القسمة في الجسم نعم قد يمنع عن القسمة الانفكاكية مانع كصورة نوعية كما في الأفلاك أو صلابة شديدة في بعض الأجسام العنصرية أو فقد آلة يحتاج إليها في القطع أو الصغر متبالغ لا يتيسر معه القطع ولا الكسر وإما القسمة الفرضية فلا تقف أبدا وقد بين انحصار القسمة في الثلاثة المذكورة بأنها إما مؤدية إلى الافتراق وهي الفكية أو لا وحينئذ إما أن تكون موجبة للانفصال في الخارج وهي (2/358)
التي باختلاف عرضين أو في الذهن وهي الوهمية وإنما ذكر الفرض العقلي مع الوهم لأن الوهم ربما لم يقدر على تمييز طرف عن طرف لغاية الصغر فيقف بخلاف العقل فإنه لا يقف لإحاطته بالكليات المشتملة على الكبير والصغير والصواب أن اختلاف الأعراض لا يوجب انفصالا خارجيا لأنا نعلم قطعا أن الجسم المتصل في نفسه إذا وقع ضوء على بعضه لم ينفصل في الخارج حتى إذا زال الضوء عنه عاد إلى اتصاله بل هذا الاختلاف باعث للوهم على فرض الأجزاء وحينئذ يقال الانفصال إما في الخارج كما بالقطع والكسر وإما في الوهم فإما بتوسط أمر باعث كما باختلاف الأعراض أو لا بتوسطه كما بالوهم والفرض فظهر أن القسمة اثنتان انفكاكية وهي قسمة خارجية منقسمة إلى قسميها وغير انفكاكية وهي قسمة ذهنية وتسمى وهمية وفرضية أيضا وتنقسم إلى القسمين المذكورين هذا هو الضبط وقد يفرق بين الفرضية والوهمية كما أشرنا إليه ويجعل ما باختلاف الأعراض قسيما للوهمية المجردة كما في الكتاب فعليك بالتثبت في موارد الاستعمال
المقصد السابع
المتن
في دليلهم على إثبات الهيولى والصورة قالوا فالجسم متصل وهو قابل للانفصال فثم اتصال نسميه الصورة الجسمية وندعي أنه ليس تمام حقيقة الجسم بل ثمة أخر آخر يقوم به الاتصال فإن ثمة أمرا قابلا للاتصال تارة والانفصال أخرى والقابل لهما ليس نفس الاتصال ضرورة أن الثابت للشيئين غير كل واحد من المتزايلين أو نقول قابل الاتصال باق مع الانفصال والاتصال لا يبقى مع الانفصال فهو غيره فهذا الأمر هو الذي نسميه بالهيولى (2/359)
وتلخيصه أنهم كما أثبتوا بتوارد المقادير مع بقاء صورة اتصالية قابلة للكميات كون الكم غير الاتصال أثبتوا بتوارد اتصالات مختلفة بالشخص على أمر باق بالضرورة كون الاتصال غير ما يقبله وسموا الاتصال صورة والقابل له مادة
وربما يقال في المعارضة الهيولى إذا كانت واحدة كانت متصلة وإذا كانت كثيرة كانت منفصلة فهي قابلة للاتصال والانفصال فلو اقتضى قبولهما إثبات هيولى لزم أن يكون للهيولى هيولى ويلزم التسلسل وهو مندفع بما ذكرنا من التلخيص فإنا أثبتنا كون الاتصال غير القابل فلا يلزم للهيولى هيولى إلا بإثبات أمرين
أحدهما أن لها اتصالا مغايرا لهذا
والثاني أنه يزول عنها ويعود إليها وذلك مما لا سبيل إليه فإن وحدتها وكثرتها بحسب ما يعرض لها من الاتصال ويقارنها من الصورة وإلا فهي لا واحدة ولا كثيرة ولا متصلة ولا منفصلة إنما هي استعداد محض لا فعل لها إلا بالصورة
واعلم أن هذا البرهان لا يتم إلا بإبطال قوله من يقول مبادئ الأجسام أجزاء متجزئة في الوهم غير قابلة للتجزئة بالفعل واتصال الجسم عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء وانفصاله عن افتراقها وكل جزء منها متصل بالحقيقة وغير قابل للانفصال والجسم الذي يقبل الانفصال غير متصل بالحقيقة فليس ثمة أمر قابل الاتصال والانفصال
وأبطله ابن سينا بما حاصله أن كل جزء منها تحدث فيه القسمة الوهمية اثنينية فتكون طباع كل منهما طباع الآخر الخارج الموافق لها في الماهية فيجوز على المتصلين ما يجوز على المنفصلين من الانفصال وعلى (2/360)
المنفصلين ما يجوز على المتصلين من الاتصال اللهم إلا لمانع وذلك المانع لا يكون لازما لماهيته وإلا انحصر نوعه في شخصه فيمكن مفارقته وعند فرض زواله يكون قابلا للاتصال والانفصال ويحصل المطلوب ومبناه كون الأجزاء متوافقة في الماهية وهو ممنوع
ثم نقول قد يكون تشخص أحدهما مانعا أو الآخر شرطا له وربما يقال الاتصال الوحدة والانفصال الكثرة وهما عارضان للجسم فعليكم ببيان كون الاتصال جزءا من الجسم فإنا من وراء المنع وهذا فيه التزام لثبوت أمر غير الاتصال قابل له ويصير النزاع في كون الجسم ذلك القابل أو مع هذا الاتصال ولا شك أن الصورة الاتصالية أول ما يدرك من جوهرية الجسم والذي يحتاج إلى الإثبات هو المادة فيصير النزاع لفظيا
وههنا سؤال يستصعبه بعض وهو أن الاتصال إذا كان جزءا للجسم فبزواله تعدم هوية الجسم فلا يكون الجسم قابلا له وإذا كان الجسم يبقى مع زواله فليس هو جزءا للجسم وظن أن ذلك مغالطة وقعت من الاشتراك اللفظي فإن الاتصال يقال للصورة التي بها قبول الامتدادات الثلاثة وهو أمر لا يزول عن الجسم ولنفس الامتدادات وهو كم وليس جزءا لجسم بل عارضا له
وجوابه إن قولنا الجسم قابل للاتصال ليس معناه أن شخصا من الجسم باقيا يتوارد عليه اتصال تارة واتصالان أخرى وكيف يكون الواحد بالشخص واحدا تارة واثنين أخرى بل مرادنا أن ثمة أمرا يستحفظ الماهية الجسمية معلوم البقاء في الأحوال وتتوارد عليه الهويات فذلك المستحفظ هو القابل بالحقيقة ومغاير للهويات التي تتجدد بالاتصال والانفصال
فإنا نعلم بالضرورة أن الماء الذي في الجرة إذا جعل في الكيزان فقد زالت هويته الشخصية حتى صار شخص واحد أشخاصا متعددة وثمة أمر باق (2/361)
في الحالين هو معروض تارة لاتصال وتارة لاتصالات متعددة وليس نسبة هذه الأشخاص إلى ذلك الشخص كنسبة سائر الأشخاص من مياه لم تكن في تلك الجرة ولو كان زوال الهوية لا بزوال جزء وبقاء جزء بل بانتفاء الأجزاء بالمرة لما كان كذلك
تنبيه وربما قالوا الجسم له قوة وفعل والبسيط لا يكون كذلك وربما استعانوا بالتخلخل والتكاثف والكون الفساد والمعتمد في نفي الهيولى أنها إما لها حصول في الحيز أو لا فإن كان فإما على سبيل الاستقلال فجسم أو لا فالهيولى صفة حالة في الجسمية وإلا فلا تختص الجسمية بها لأنه أمر معقول محض وقد يقال لو كان الجسم مركبا من جزئين لزم من تعقله تعقلهما واللازم باطل والجواب منع تعقل حقيقته
الشرح
المقصد السابع في دليلهم على إثبات الهيولى والصورة وكون الجسم مركبا منهما قالوا فالجسم البسيط متصل واحد في حد ذاته كما عرفت وهو قابل للانفصال الانفكاكي كما إذا صب ماء الجرة في إنائين فثمة اتصال أي جوهر ممتد في الجهات متصل في نفسه نسميه الصورة الجسمية وندعي أنه أي ذلك الجوهر المتصل ليس بتمام حقيقة الجسم بل ثمة أمر آخر يقوم به الاتصال أي الجوهر المتصل على معنى أنه يختص به اختصاصا ناعتا له فيكون حالا فيه وبيانه أن الجسم المتصل إذا طرأ عليه الانفصال زال اتصاله وصار منفصلا وحينئذ نقول فإن ثمة أمرا قابلا (2/362)
للاتصال تارة والانفصال أخرى وذلك القابل لهما ليس نفس الاتصال ضرورة أن القابل الثابت للشيئين اللذين يزول كل منهما مع حصول الآخر غير كل واحد من الشيئين المتزايلين فالقابل للاتصال والانفصال يغاير كلا منهما أو نقول قابل الاتصال والانفصال باق مع الانفصال والاتصال لا يبقى مع الانفصال فهو غيره أي قابل الاتصال والانفصال غير الاتصال وكيف لا والشيء لا يكون قابلا لنفسه ولا لما ينافيه فهذا الأمر الذي هو قابل للانفصال ومغاير للاتصال هو الذي نسميه بالهيولى الأولى التي تحل فيها الصورة الجسمية فإن كان قبل طريان الانفصال متصفا بالاتصال الواحد حيث كان متصلا واحدا وبعده متصفا بانفصال بل باتصافين حادثين عنده حيث كان حينئذ متصلين وتلخيصه أنهم كما أثبتوا بتوارد المقادير المختلفة على الجسم مع بقاء صورة جوهرية اتصالية قابلة للكميات المتواردة كم الكون المتغير غير الاتصال الباقي بحاله أثبتوا أيضا بتوارد اتصالات مختلفة بالشخص على أمر باق على حاله بالضرورة كون الاتصال المتبدل غير ما يقابله وسموا الاتصال صورة والقابل له مادة والمركب منهما جسما وربما يقال في المعارضة لدليلهم الهيولى على تقدير وجودها إذا كانت واحدة كما قبل الانقسام كانت متصلة لا منفصل فيها وإذا كانت كثيرة بورود الانقسام كانت منفصلة فهي قابلة للاتصال والانفصال فلو اقتضى قبولهما إثبات هيولى كما ذكرتم في الجسم لزم أن يكون للهيولى هيولى أخرى فننقل الكلام إليها ويلزم التسلسل في أمور مرتبة موجودة معا وهو أي هذا الذي ذكر في المعارضة مندفع عنهم بما (2/363)
ذكرنا من التلخيص فإنا أثبتنا كون الاتصال غير القابل للاتصال والانفصال المتعاقبين عليه فلا يلزم للهيولى هيولى أخرى إلا بإثبات أمرين أحدهما أن لها اتصالا مغايرا لهذا الاتصال الذي هو حال فيها حتى تكون هي متصلة في حد ذاتها والثاني أنه أي ذلك الاتصال المغاير يزول عنها ويعود إليها حتى يثبت في ذات الهيولى شيئان الاتصال المغاير وما هو قابل له فيكون للهيولى هيولى أخرى وذلك مما لا سبيل إليه فإن وحدتها أي وحدة الهيولى وكثرتها بحسب ما يعرض لها من الاتصال ويقارنها من الصورة فهي قبل ورود الانفصال واحدة متصلة بالصورة الواحدة الحالة فيها وبعده متكثرة منفصلة بالصور المتعددة الحالة فيها وإلا فهي في نفسها لا واحدة ولا كثيرة ولا متصلة ولا منفصلة إنما هي في ذاتها استعداد محض لا فعل لها في الصفات المذكورة إلا بالصورة فهي متصفة بها تبعا لها لا في حد ذاتها
واعلم أن هذا البرهان الذي ذكر على إثبات الهيولى لا يتم إلا بإبطال قول من يقول كديمقراطيس وأتباعه مبادئ الأجسام البسيطة أجزاء هي أجسام صغار صلبة متجزئة في الوهم بحسب الجهات الثلاث لكنها غير قابلة للتجزئة الموجبة للانفصال بالفعل في الخارج واتصال الجسم البسيط عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء وانفصاله عن افتراقها وكل جزء منها متصل في نفسه بالحقيقة وغير قابل للانفصال الانفكاكي بل للانفصال الوهمي والجسم الذي يقبل الانفصال الفكي كالماء مثلا غير متصل في نفسه بالحقيقة بل بحسب الحس لعجزه عن إدراك المفاصل التي بين تلك الأجزاء فليس ثمة أمر قابل للاتصال والانفصال بل هناك أجسام صغار تجتمع وتفترق ومحصول ما ذكره المصنف أن انتفاء الجزء الذي لا يتجزأ وما فيه حكمه يستلزم أن الجسم إما أن يكون متصلا في نفسه فيكون جسما مفردا أو يكون في تركيبه منتهيا إلى أجسام مفردة فلم لا يجوز أن يكون الجسم البسيط الذي نحن بصدده مركبا من أجسام مفردة قابلة للانقسام الوهمي دون الفكي فلا تثبت الهيولى بالبرهان المذكور (2/364)
لابتنائه على أن الجسم المتصل في نفسه يرد عليه الانفصال الخارجي بل ولا يثبت أيضا الجسم التعليمي لأن تلك الأجسام المفردة لا تتغير أشكالها ومقاديرها وأبطله أي قول هذا القائل ابن سينا بما حاصله أن كل جزء منها أي من تلك الأجزاء القابلة للانقسام الوهمي تحدث فيه القسمة الوهمية إثنينية يكون طباع كل منهما طباع الآخر وطباع الجملة وهو ظاهر وطباع الجزء الآخر الخارج الموافق لها في الماهية بناء على ما ذهب إليه ذلك القائل من أن تلك الأجسام المفردة الصغار متوافقة في الماهية النوعية فيجوز حينئذ على الجزئين المتصلين المفروضين في جزء واحد ما يجوز على الجزئين المنفصلين أعني الجزء الذي قسم والجزء الآخر من الانفصال الرافع للاتحاد والاتصال ويجوز أيضا على المنفصلين ما يجوز على المتصلين من الاتصال الرافع للإثنينية والانفكاكية وذلك لأن هذه الأربعة متوافقة في الماهية فتكون متشاركة إما في الامتناع عن قبول الانفصال والاتصال أو في جواز قبولهما والأول باطل قطعا فتعين الثاني فكل واحد من تلك الأجسام الصغار قابل للاتصال والانفصال اللهم إلا لمانع خارج عنه وذلك المانع لا يكون لازما لماهيته وإلا انحصر نوعه في شخصه وإذا لم يكون لازما فيمكن مفارقته وعند فرض زواله يكون قابلا للانفصال والاتصال بالفعل ويحصل المطلوب الذي هو إثبات الهيولى ومبناه أي مبنى ما ذكره ابن سينا كون الأجزاء التي هي تلك الأجسام الصغار متوافقة في الماهية كما أشرنا إليه وهو ممنوع لجواز أن تكون متخالفة في الماهية بحيث لا يوجد فيها جزءان متوافقان في النوع واستبعاد تركب الماء المتشابه في الحس من أجزاء متخالفة الحقائق بأسرها مما لا يجدي في أمثال هذه المباحث وإن بنى الدليل على تسليم الخصم كان جدليا لا برهانيا ثم نقول وعلى تقدير تماثلها قد يكون تشخص أحدهما مانعا من ذلك القبول أو تشخص الآخر شرطا له فلا يكون الجزء الواحد (2/365)
قابلا للانفصال بين جزئيه المفروضين فيه إما لوجود المانع أو فقدان الشرط وهذا مدفوع بما مر من أن المانع من القبول لا يكون لازما وإلا انحصر النوع في الشخص وإذا لم يكن لازما أمكن الانفصال بالنظر إلى الطبيعة المشتركة وذلك كاف في إثبات المطلوب وربما يعترض على برهان الهيولى ويقال الاتصال هو الوحدة والانفصال هو الكثرة وهما عرضان للجسم خارجان عنه فعليكم ببيان كون الاتصال جزءا من الجسم حتى يثبت تركبه من الاتصال والأمر القابل له فإنا من وراء المنع أي نمنع كونه جزءا منه وهذا الذي يقال فيه التزام لثبوت أمر غير الاتصال قابل له وللانفصال أيضا ويصير النزاع حينئذ في كون الجسم ذلك القابل وحده أو مع هذا الاتصال المقبول ولا شك أن الصورة الاتصالية أي الجوهر الممتد في الجهات الذي تبين بنفي الجزء اتصاله في نفسه أول ما يدرك من جوهرية الجسم أي حقيقته بل هو الجسم في بادئ الرأي المعلوم وجوده بالضرورة والذي يحتاج إلى الإثبات بالدليل هو المادة المتصفة بذلك الجوهر المتصل فإذا سلم ثبوتها وأن هناك جوهرين أحدهما قابل والآخر مقبول فيصير النزاع في أن الجسم ماذا نزاعا لفظيا لا فائدة فيه وأنت تعلم أن هذا إنما يصح إذا سلم ذلك القائل أن هناك جوهرا وراء هذا الجوهر المتصل لكن المشهور أنه يقول إن هذا الجوهر المتصل قائم بنفسه وهو حقيقة الجسم ومحل للاتصال الذي هو الوحدة والانفصال الذي هو الكثرة على معنى أنهما عرضان يحلان فيه على التعاقب كما ذهب إليه أفلاطون من أن آخر ما تنحل إليه الأجسام هو هذا الجوهر المتصل الممتد في الجهات كلها فطريق الرد عليه أنه يلزم من ذلك أن يكون التفريق إعداما (2/366)
للجسم بالكلية وإيجادا لقسمين آخرين من كتم العدم وهو باطل كما سيأتي تحقيقه
وههنا سؤال يستصعبه بعض وذلك السؤال هو أن الاتصال إذا كان جزءا للجسم كما زعمتم فبزواله الذي هو الانفصال تعدم هوية الجسم لانتفاء الكل بانتفاء جزئه فلا يكون الجسم قابلا له أي لزواله أعني الانفصال وإذا كان الجسم قابلا لزواله كما أيضا فلا بد أن يبقى مع زواله وإذا بقي معه فليس هو أي الاتصال جزءا للجسم والحاصل أن كون الجسم قابلا للانفصال الذي هو زوال الاتصال ينافي كون الاتصال جزءا له فقد لزمكم فيما ذهبتم إليه القول باجتماع المتنا فيين وظن المستصعب أن ذلك السؤال مغالطة وقعت من الاشتراك اللفظي فإن الاتصال أي لفظه يقال للصورة الجوهرية التي بها للجسم قبول الامتدادات الثلاثة وهو أمر لا يزول عن الجسم بحال من الأحوال إذ لا يتصور بقاء جسم مع زوال هذه الصورة عنه ويقال أيضا لنفس الامتدادات وهو كم وليس جزءا للجسم لأنه عرض فلا يكون مقوما للجوهر بل عارضا له فلا يلزم من زواله زوال الجسم كما إذا شكل الجسم بأشكال مختلفة المقادير مع بقاء صورته الجسمية بعينها وهو منظور فيه لأن الانفصال كما ينافي الاتصال العرضي ينافي الاتصال الجوهري إذ لا يبقى معه الصورة الجوهرية المخصوصة كما لا تبقى الكمية المعينة وأيضا إذا اقتصر على أن الجسم قابل للكم المتصل وزواله جاز أن يقال ذلك القابل لهما هو الصورة الجوهرية فلا يثبت في الجسم جوهر مغاير لها متصف بهما فلا تثبت (2/367)
الهيولى فما ذكره ليس جوابا للسؤال وجوابه الحق أن قولنا الجسم قابل للاتصال ليس معناه أن شخصا من الجسم باقيا على هويته الشخصية الاتصالية يتوارد عليه اتصال واحد تارة واتصالان آخران تارة أخرى فإنه غير معقول كما ترى وكيف يكون الواحد بالشخص واحدا تارة واثنين أخرى بل مرادنا أن ثمة أمرا يستحفظ الماهية الجسمية دون الهوية الشخصية معلوم البقاء في الأحوال الطارئة على الجسم من الاتصال والانفصال المتعاقبين عليه وتتوارد عليه الهويات الشخصية فتارة تكون معه هوية واحدة اتصالية وتارة هويتان أو أكثر فذلك المستحفظ هو القابل بالحقيقة للاتصال والانفصال وهو مغاير للهويات التي تتجدد بالاتصال والانفصال فإنا نعلم بالضرورة أن الماء الذي في الجرة على تقدير كونه واحدا متصلا في نفسه إذا جعل في الكيزان فقد زالت هويته الشخصية الاتصالية التي لم يكن فيها مفصل أصلا حتى صار شخص واحد أشخاصا متعددة أي زال شخص كان متصلا اتصالا وحدانيا وحصلت أشخاص هي متصلات متعددة لم تكن موجودة في تلك الهوية الاتصالية على ذلك التقدير وثمة أمر باق في الحالين هو معروض تارة لاتصال واحد وتارة لاتصالات متعددة والدليل على أن ثمة أمرا باقيا هو أنه ليس نسبة هذه الأشخاص التي في الكيزان إلى ذلك الشخص الذي كان في الجرة كنسبة سائر الأشخاص من مياه لم تكن في تلك الجرة ولو كان زوال تلك الهوية الشخصية لا بزوال جزء وبقاء جزء آخر بل بانتفاء الأجزاء بالمرة لما كان الأمر كذلك بل كان نسبة هذه الأشخاص كنسبة سائر المياه ولا شك أن الجوهر المتصل الوحداني ليس باقيا فالباقي جوهر آخر يجب أن لا يكون في نفسه متصلا ولا منفصلا ولا واحدا ولا كثيرا كما مر حتى يمكن اتصافه بهذه الأمور كلها فظهر من ذلك أن الجوهر المتصل (2/368)
لو كان قائما بذاته لكان التفريق إعداما له بالكلية وهذا الذي قرره في إثبات الهيولى هو مسلك الانفصال ثم شرع في مسلك الانفصال فقال تنبيه
وربما قالوا في إثبات الهيولى الجسم له قوة وفعل وذلك لأن كل جسم فهو من حيث جسميته موجودة بالفعل ومن حيث أنه مستعد لأعراض كثيرة متصف بالقوة والبسيط لا يكون كذلك لأن الواحد من حيث هو واحد لا يقتضي قوة وفعلا لامتناع اجتماعهما فيه وهو مردود لجواز أن يتصف الواحد بهما بالنسبة إلى شيئين إنما الممتنع اجتماعها بالنسبة إلى شيء واحد ألا ترى أن الهيولى موجودة بالفعل وقابلة للصور المتعددة فهي بالقوة في بعضها قطعا وربما استعانوا في إثبات الهيولى بالتخلخل والتكاثف الحقيقيين فإنه إذا لم يكن في الجسم أمر غير متقدر بذاته حتى يتصور قبوله للمقادير المختلفة امتنع ازدياد حجمه وانتقاصه من غير انضمار شيء إليه وانفصاله عنه وجوابه أن الصورة الجسمية وإن كانت مستلزمة في الوجود والتعقل للمقدار إلا أنها لا تستلزم مقدارا مخصوصا فجاز أن تكون هي قابلة لتلك المقادير المختلفة فلا يثبت وجود أمر آخر والكون والفساد أي وربما استعانوا بهما أيضا إذ لا بد فيهما من أمر يخلع صورة ويلبس أخرى وهو الهيولى وفساده ظاهر لأن المتبدل في الكون الفساد هو الصور النوعية فجاز أن يكون القابل لها خلعا ولبسا هو الصورة الجسمية على أنا نقول وجود هذه الأمور التي استعين بها مبني على وجود الهيولى فيلزم الدور المعتمد عند المتكلمين في نفي الهيولى أنها على تقدير وجودها إما أن يكون لها حصول في الحيز أو لا يكون فإن كان لها حصول فيه فإما أن يكون ذلك الحصول على سبيل الاستقلال فجسم أي فالهيولى جسم لأن المتحيز بالذات لا بد أن يكون جوهرا ممتدا في الجهات ولا معنى للجسم إلا ذلك وأيضا فالصورة الجسمية حينئذ مثل لها (2/369)
فكيف تحل فيها وأيضا إن احتاجت الهيولى إلى محل لزم التسلسل وإلا كانت الجسمية مستغنية عن المحل لأنها مثلها أو لا يكون ذلك الحصول على سبيل الاستقلال بل على سبيل التبعية للصورة الجسمية فالهيولى حينئذ صفة حالة في الجسمية تابعة لها في التحيز لا جوهر هو محل لها كما هو مطلوبكم وإلا أي وإن لم يكن لها حصول في الحيز لا استقلالا ولا تبعا فلا تختص الجسمية بها اختصاصا ناعتا لها لأنه أي لأن ما لا تحيز له أصلا أمر معقول محض لا تعلق ولا اختصاص له بحيز قطعا فكيف يتصور حلول الجسمية المتحيزة بالذات فيه وقد يجاب بأنا لا نسلم أنها لو كانت متحيزة بالتبعية لكانت صفة للجسمية فإن تحيز الشيء بالتبعية قد يكون باعتبار حلوله في الغير كما في الأعراض الحالة في الأجسام وقد يكون باعتبار حلول الغير فيه فيلس يلزم من تحيز الهيولى لا بالاستقلال أن يكون تحيزها على سبيل حلولها في الجسمية بل يجوز أن يكون تحيزها بشرط حلول الجسمية فيها فتكون موصوفة بها لا صفة لها وقد يقال في نفي الهيولى وإبطال تركب الجسم منها لو كان الجسم مركبا من جزئين كما ذكرتم لزم من تعقله تعقلهما ولم يحتج في ثبوت شيء منهما له إلى برهان واللازم باطل فإنا نعقل الجسم ولا نعقل الهيولى ونحتاج في إثباتها إلى البرهان
والجواب منع تعقل حقيقته يعني أن ما ذكرتم إنما يلزم إذا كان حقيقة الجسم معقولة بالكنه وهو ممنوع
المقصد الثامن
المتن
في تفريعات لهم على الهيولى (2/370)
أحدها إثبات الهيولى لكل جسم إذ تلك الحجة لا نثبتها إلا لما يقبل الاتصال والانفصال بالفعل ولعل بعض الأجسام لا يقبلهما كالفلكيات
فقال ابن سينا طبيعة الاتصال للجميع واحدة فإذا ثبت احتياجه إلى المادة امتنع قيامه بنفسه وإلا كان في حد ذاته غنيا عن المحل والغنى عن المحل لا يحل فيه
وبالجملة فالحقيقة الواحدة لا تختلف لوازمها فتكون قائمة بذاتها تارة وبالغير أخرى كما لا تكون جوهرا مرة وعرضا أخرى
والجواب منع اتحاد الاتصال الجسمي وذلك مما لا سبيل إلى إثباته وإن سلم فقد لا يكون الشيء محتاجا لذاته ولا غنيا لذاته بل يعرض كل منهما له عن عله وأما النقض بالطبيعة الجنسية فقد عرفت جوابه
ثانيها أن الهيولى لا تخلو عن الصورة لوجوه
الأول الهيولى المجردة إما إليها إشارة فتكون جسما أو في جسم لامتناع الجوهر الفرد وإلا فإذا حصلت فيها الصورة فإما في جميع الأحياز والمظاهر أو لا في شيء منها أو في بعضها والثلاثة باطلة فالأولان ضرورة والأخير لعدم المخصص
فإن قيل لعل صورة نوعية تخصصها وأيضا ينتقض بالجزء المعين من الأرض واختصاصه بحيزه بلا مخصص
قلنا الصورة النوعية نسبتها إلى جميع أجزاء حيز الكل واحدة فالكلام في تخصيصه بحيزه والجزء من الأرض إنما اختص بحيزه لكون مادته قبل تلك الصورة لها صورة مخصصة بذلك الحيز أو بحيز آخر انتقل منه بالاستقامة إلى ذلك الحيز
والجواب أنه فرع عدم القادر المختار وأنه لا مخصص إلا الصورة (2/371)
الثاني أنه يلزم له فعل وقبول
الثالث مادة الجزء والكل إن تجردتا فإن كانتا واحدة فالشيء مع غيره كهو لا معه وإلا كان المجموع زائدا فثم مقدار وصورة كما مر وقد عرفت ما فيهما فلا نكررها
ثالثها أن الصورة لا تخلو عن الهيولى لوجوده
الأول لو فرضنا صورة بلا هيولى فإن كانت مشارا إليها كان متناهيا ومشكلا إما لنفس الجسمية فكل جسم له ذلك الشكل فيتساوى حينئذ الكل والجزء أو لا فتكون قابلة لغيره وما هو إلا بالفصل والوصل فالصورة بدون الهيولى قابلة للفصل والوصل وقد أبطلناه وإن كانت غير مشار إليها فليست صورة جسمية لأن الصورة الجسمية ليست عبارة إلا عن هذا الامتداد ويمتنع أن يتصور بلا حيز ولا إشارة وأيضا فتكون أمرا عقليا محضا فيمتنع مقارنته للمادة لا يقال هذا ينتقض بالفلك إذ شكله مقتضى ذاته وجزؤه ككله ولا يلزم تساويهما في المقدار والشكل لأنا نقول لولا مانع اقترن بجزء الفلك لكان شكل جزئه ككله لكن ثمة مانع وهو أن الكل حصل له ذلك الشكل فامتنع أن يكون للجزء ذلك الشكل وإلا لم يكن جزءا وأما في الصورة فلو تجردت فلا تكون إلا الطبيعة المشتركة فلا يكون ثمة كل ولا جزء فضلا عن اختلافهما بالشكل ولكن لمانع أن يمنع أن الشكل إنما يكون بالاتصال والانفصال كما في الشمعة تشكل بأشكال مختلفة من غير فصل ولا يجاب بأن ذلك يقتضي القسمة الوهمية وتفضي إلى الانفكاكية ويلزم المحال المذكور لأنا نقول لو كفى ذلك لاستقل بالدلالة فكأن هذه المقدمات كلها ضائعة ويمكن الجواب بأنه لا ينفي حقية الكلام (2/372)
الثاني الجسمية لو قامت بذاتها لاستغنت عن المحل فلا تحل فيه
الثالث نفرض الكل يفارقه صورته قبل التجزئة وبعدها فإن كان لا تميز ثمة فالشيء مع غير كهو لا معه وإن كان تميز وقد عرفت أنه لا تميز بين الأمثال إلا بالمادة فهي مقارنة بالمادة حين ما فرضت مجردة عنها هذا خلف وقد عرفت ما فيه فلا نكرره
رابعها قد علمت أنه لا بد من احتياج أحد الجزئين إلى الآخر فاعلم أن الهيولى ليست علة للصورة وإلا لتم لها وجود قبل وجود الصورة ولاجتمع فيها القبول والفعل ولأنها تقبل صورا لا نهاية لها فلا تكون علة للمعينة ولا الصورة للهيولى لأنها حالة فيها فتحتاج في وجودها إليها ولأنها لا توجد إلا مع التناهي والتشكل والهيولى متقدمة عليهما وللزوم انتفائها عند عدم الصورة المعينة فحاجة الهيولى إلى الصورة في بقائها لأن الصورة تستحفطها بتواردها إذ لو فرضنا زوال صورة وعدم اقتران أخرى عدمت المادة فهي كالدعائم تزال واحدة وتقام مقامها أخرى وحاجة الصورة في التشخص إذ قد علمت أن تشخصها لمادة وما يكتنفها من الأعراض
خامسها لكل جسم صورة نوعية لأنها مختلفة في اللوازم كقبول الانقسام بسهولة أو عسر أو عدمه وليس ذلك للجسمية المشتركة بل لأمر مختص فإن كان مقوما للجسم فهو المطلوب وإلا عاد الكلام فيه ويتسلسل
قال الإمام الرازي الظاهر أنها من الأعراض ونقول لما لم يمتنع تعاقب صور بلا نهاية فلم يمتنع تعاقب أعراض بلا نهاية وربما يستدل بأن الماء إذا سخن يعود بالطبع باردا فثمة أمر هو مبدأ للكيفية باق (2/373)
قلنا ومن أين يلزم كونه من مقومات الجسم ولم قلتم إنه ليس بفعل الفاعل المختار وهذا مع ضعفه أصل له فروع كثيرة فتحققه ولا تنس
سادسها كل جسم له حيز طبيعي ضرورة أنه لو خلي وطبعه لكان له مكان ضرورة
قلنا ممنوع بل لو خلي لكان كالمحدد لا مكان له أو تكون نسبته إلى الأحياز سواء حتى يخصصه المختار ولو فرضت الأحياز خالية ثم خلق الأرض كان نسبتها إلى الأحياز كلها سواء إذ ليس ثمة مركز ولا محيط كما قال ثابت بن قرة وإذا رمينا مدرة فإنما تعود إلى مركز الأرض لأن الجزء مائل إلى كله
وبالجملة فلم لا يجوز أن يكون كل جسم لو خلي وطبعه لكان يقتضي حيزا مبهما ككل جزء من الأرض ويكون المخصص أمرا من خارج
فرعان
الأول لا يكون لجسم حيزان طبيعيان فإنه إذا كان في أحدهما فإن طلب الآخر فهذا ليس طبيعيا له وإلا فالآخر ليس طبيعيا له وإذا كان خارجا عنهما فإما أن يتوجه إليهما وهو محال أو لا إلى واحد منهما فليس شيء منهما طبيعيا أو إلى أحدهما فالآخر ليس طبيعيا
الثاني مكان المركب مكان البسيط الغالب فيه وإن تساوت البسائط فيه فالمكان هو الذي اتفق وجوده فيه لعدم أولوية الغير وفيه نظر لأنه لو أخرج عنه لم يعد إليه طبعا لعدم المرجح والمتساويان في المقدار قد يختلفان في القوة فالمعتبر هو التساوي في القوة
الشرح
المقصد الثامن في تفريعات لهم على وجود الهيولى (2/374)
أحدهما إثبات الهيولى لكل جسم وإنما احتج إلى هذا الإثبات إذ تلك الحجة التي هي المعول عليها في إثباتها أعني مسلك الانفصال كما عرفت لا تثبتها إلا لما يقبل الاتصال والانفصال بالفعل كالعنصريات ولعل بعض الأجسام لا يقبلهما كالفلكيات على رأيهم فلا بد لإثبات الهيولى فيها من بيان آخر فقال ابن سينا طبيعة الاتصال أي الصورة الجسمية المتصلة في نفسها للجميع أي لجميع الأجسام طبيعة واحدة نوعية لأن جسمية إذا خالفت جسمية أخرى كان ذلك لأجل أن هذه حارة وتلك باردة أو هذه لها طبيعة عنصرية وتلك لها طبيعة فلكية إلى غير ذلك من الأمور التي تلحق الجسمية من خارج فإن الجسمية أمر موجود في الخارج والطبيعة الفلكية مثلا موجود آخر قد انضاف هذه الطبيعة في الخارج إلى الطبيعة الجسمية الممتازة عنها في الوجود بخلاف المقدار فإنه أمر مبهم لا يوجد في الخارج ما لم يتنوع بفصول ذاتية بأن يكون خطا أو سطحا مثلا وكل ما كان اختلافه بالخارجات دون الفصول كان طبيعة نوعية ومقتضى الطبيعة النوعية لا يختلف فإذا ثبت احتياجه أي احتياج الاتصال الذي هو الصورة الجسمية إلى المادة في الأجسام العنصرية لكونه حالا فيها امتنع قيامه بنفسها في شيء من الأجسام وإلا أي وإن لم يمتنع قيامه بنفسه بل قام بذاته في الفلك مثلا كان ذلك الاتصال الجوهري في حد ذاته غنيا عن المحل والغنى عن المحل لا يحل فيه أصلا
وبالجملة فالحقيقة الواحدة النوعية لا تختلف لوازمها ومقتضياتها فتكون بالنصب على أنه جواب النفي قائمة بذاتها تارة وبالغير تارة أخرى كما (2/375)
لا تكون جوهرا مرة وعرضا أخرى أي كما أن انقلاب الحقائق محال كذلك اختلاف لوازم حقيقة واحدة محال لاستلزامه أن لا تكون تلك الحقيقة تلك الحقيقة بل حقيقة أخرى
والجواب منع اتحاد الاتصال الجسمي أي لا نسلم أن الطبيعة الجسمية طبيعة واحدة نوعية وذلك مما لا سبيل إلى إثباته فإن ما ذكرتموه من اختلافها بالأمور الخارجة عنها مسلم لكن انحصار اختلافها فيه ممنوع فإن الطبيعة الجسمية مطلقا أمر مبهم كالمقدار فلا يتصور وجودها إلا بأن يتنوع بفصول مقومة لها أو بعد تنوعها ينضم إليها أمور خارجة عنها فلم قلتم إنها ليس كذلك وإن سلم أن الاتصال الجسمي حقيقة واحدة نوعية فقد يجوز أن يقوم بالمادة تارة ويقوم بنفسه أخرى ولا محذور في ذلك وقد لا يكون الشيء محتاجا لذاته إلى محل ولا غنيا لذاته عنه بل يعرض كل منهما له عن علة فلا يلزم أن يكون الغنى بذاته عن شيء حالا فيه ويمكن أن يدفع هذا بأنه لا واسطة بين الحاجة والغنى الذاتيين فإن الشيء إما أن يكون لذاته محتاجا إلى محل أو لا وإذا لم يكن محتاجا إليه لذاته كان مستغنيا عنه في حد ذاته إذا لا معنى للغنى سوى عدم الحاجة والمستغني في حد ذاته عن محل يستحيل حلوله فيه وأما النقض بالطبيعة الجنسية بأن يقال الحيوانية مثلا طبيعة واحدة مع أن لوازمها ومقتضياتها مختلفة فقد تقتضي في الإنسان ما لا تقتضيه في الفرس فقد عرفت جوابه حيث نبهناك على أن الجنس أمر مبهم لا يدخل في الوجود إلا بعد تحصله بفصل بعينه وهما متحدان بحسب الخارج في الجعل والوجود فالطبيعة الجنسية في الخارج حقيقة مختلفة بحسب فصولها المنوعة فجاز اختلافها في الاقتضاء واللوازم بخلاف الطبيعة النوعية فإنها حقيقة متحصلة لا يتصور اختلاف لوازمها
ثانيها أي ثاني تفريعات الهيولى أن الهيولى لا تخلو (2/376)
عن الصورة أي لا توجد خالية عن الصورة الجسمية مطلقا وذلك لوجوه
الأول الهيولى المجردة بالفرض عن الصورة إما إليها إشارة فتكون الهيولى حينئذ جسما أو أمرا حالا في جسم لامتناع الجوهر الفرد وذلك لأنها إذا كانت ذات وضع أي قابلة للإشارة الحسية فإن انقسمت في جميع الجهات كانت جسما أي صورة جسمية لأنها الجسم في بادئ النظر كما مر وإن لم تنقسم أصلا كانت جوهرا فردا وإن انقسمت في جهة واحدة أو في جهتين فقط كانت خطا أو سطحا لا جوهريا لأنهما في حكم الجوهر الفرد كما عرفته بل عرضيا فتكون الهيولى حينئذ أمرا حالا في الجسم لا محلا للصورة الجسمية هذا خلف وإلا أي وإن لم يكن إليها إشارة بأن لا تكون متحيزة لا أصالة ولا تبعا ولا شك أنها قابلة للصورة الجسمية إذ الكلام في هيولى الأجسام فإذا حصلت فيها الصورة الجسمية فإما أن تحصل معها في جميع الأحياز والمظاهر أو لا تحصل في شيء منها أو تحصل في بعضها دون بعض والأقسام الثلاثة باطلة فالأولان باطلان ضرورة لأن الهيولى المنضمة إلى الجسمية الحالة فيها جسم وكل جسم لا بد له من حيز ولا يمكن أن يكون جسم واحد في زمان واحد في مكانين أو أكثر والأخير باطل لعدم المخصص بالنسبة إلى ذلك البعض لأن الهيولى على ذلك التقدير نسبتها إلى جميع الأحياز على السوية وكذا نسبة الصورة الجسمية فإنها تقتضي حيزا مطلقا لا معينا فإن قيل لعل صورة نوعية تحل في الهيولى مع حلول الصورة الجسمية فيها فهي تخصصها بحيز معين وأيضا ينتقض ما ذكرتم بالجزء المعين من الأرض (2/377)
ومن سائر العناصر الكلية واختصاصه بحيزه المعين بلا مخصص يقتضيه فإن نسبة أجزاء العنصر الكلي إلى أجزاء حيزه على السواء مع أن كل واحد من أجزائه حاصل في حيز معين قلنا الصورة النوعية وإن عينت موضعا كليا لكن نسبتها إلى جميع أجزاء حيز الكل واحدة فالكلام في تخصيصه بحيزه المعين من أجزاء حيز الكل فإن الهيولى المجسمة مع تلك الصورة النوعية إما أن تحصل في كل واحد من تلك الأجزاء أو في بعضها أو لا تحصل في شيء منها والكل باطل وقد يقال جاز أن يقارن الهيولى صورة أخرى أو حالة من الأحوال تعين لها بعض أجزاء المكان الكلي وأيضا قد تكون الهيولى المجردة هيولى عنصر كلي فلا حاجة في التخصيص إلى غير الصورة النوعية
فإن قلت ننقل الكلام إلى اختصاص أجزاء ذلك العنصر بأمكنتها الجزئية
قلنا تلك الأجزاء مفروضة فيه لا موجودة في الخارج فلا تقتضي مكانا وأيضا جاز أن يفرض هناك حالة مخصصة للأجزاء بوضع معين والجزء من الأرض إنما اختص بحيزه المعين الذي هو فيه لكون مادته قبل تلك الصورة الأرضية كانت لها صورة أخرى مخصصة لذلك الجزء بذلك الحيز أو مخصصة له بحيز آخر انتقل ذلك الجزء منه بالاستقامة إلى ذلك الحيز والحاصل أن مخصص ذلك الجزء من الأرض بحيزه المعين هو الوضع السابق الحاصل لمادته بسبب صورة سابقة إما في ذلك الحيز أو في حيز آخر انتقل ذلك الجزء بعد حصول صورته الأرضية منه إلى حيزه على أقرب الطرق وتلك الصورة السابقة مسبوقة بصورة ثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية له كما هو مذهبهم (2/378)
والجواب عن هذا الوجه من الاستدلال أنه فرع عدم القادر المختار وأنه لا مخصص بالحيز المعين إلا الصورة وما يتبعها من الأوضاع لكنا نقول إن الجسمية إذا حلت في الهيولى تخصصت بحيز معين لإرادة الفاعل المختار الذي أوجد الجسمية فيها باختياره
الوجه الثاني أنه يلزم له أي للمجرد الذي هو الهيولى فعل وقبول يعني أن الهيولى لو تجردت عن الصورة لكان لها حال تجردها وجود بالفعل واستعداد لقبول الصورة وقد تبين أن الشيء الأحدي الذات يمتنع أن يتصف بالقوة والفعل معا فوجب أن تكون المادة المجردة مجتمعة مع الصورة هذا خلف
الوجه الثالث لو جاز تجرد هيولى جسم عن صورته لجاز تجردها بعد انقسامه إلى جزئين مثلا وحينئذ نقول مادة الجزء ومادة الكل إن تجردتا معا فإن كانتا واحدة بأن لا تزيد مادة الكل على مادة الجزء فالشيء مع غيره كهو لا معه وذلك محال وإلا أي وإن لم يكونا واحدة كان المحمول المركب من مادتي الجزئين أعني مادة الكل زائدا على مادة الجزء فثم مقدار باعتباره صارت المادة متصفة بالزيادة والنقصان وصورة جسمية لأن الجوهر الممتد في الجهات هو الجسمية كما مر فلا تكون الهيولى مجردة وقد عرفت ما فيهما أي هذين الوجهين من الفساد أما في الثاني فلجواز اتصاف الواحد بالقوة والفعل بالنسبة إلى شيئين وأما في الثالث فلأن الهيولى في نفسها لا توصف بمساواة ولا بزيادة ونقصان إنما تتصف بهذه الأوصاف حال اقترانها بالصورة الجسمية فلا نكررهما (2/379)
ثالثها أي ثالث التفاريع أن الصورة الجسمية أيضا لا تخلو عن الهيولى لوجوه ثلاثة
الأول لو فرضنا صورة بلا هيولى كانت إما مشارا إليها أو غير مشار إليها فإن كانت مشارا إليها كان ذلك المشار إليه متناهيا في جميع الجهات لتناهي الأبعاد وكان أيضا مشكلا بشكل مخصوص لأن الشكل كما عرفت هيئة شيء تحيط به نهاية واحدة أو أكثر من جهة إحاطتها به فكل شيء متناه يلزمه أن يكون ذا شكل فذلك الشكل الثابت للصورة المجردة إما لنفس الجسمية ولوازمها فكل جسم يجب أن يكون له ذلك الشكل العارض لمقدار مخصوص لاشتراك الأجسام كلها في الجسمية المقتضية له فيتساوى حينئذ الكل والجزء في الشكل والمقدار المخصوصين وهو محال أو لا لنفس الجسمية بل لسبب آخر فتكون الصورة المجردة قابلة لغيره أي لغير ذلك الشكل من الأشكال المخالفة له وما هو أي ليس قبول شكل آخر إلا بالفصل والوصل فالصورة بدون الهيولى قابلة للفصل والوصل وقد أبطلناه بما مر من أن القابل لهما لا بد أن يكون مقارنا للهيولى وإن كانت الصورة المجردة غير مشار إليها فليست صورة جسمية لأن الصورة الجسمية ليست عبارة إلا عن هذا الامتداد الجوهري الممتد في الجهات الملزوم للامتداد العرضي ذهنا وخارجا ويمتنع أن يتصور هذا الامتداد بلا حيز ولا إشارة وأيضا فتكون الصورة المجردة على تقدير كونها غير قابلة للإشارة أمرا عقليا محضا لا تعلق له بحيز أصلا فيمتنع مقارنته للمادة المتحيزة ولو تبعا كسائر المجردات واعلم أن هذا الاستدلال يتم بأن يقال لو تجردت الصورة لكانت متناهية ومتشكلة فذلك الشكل إما للجسمية وحدها أو لسبب آخر فلا حاجة (2/380)
إلى التعرض لكونها قابلة للإشارة أو غير قابلة لها بل هذا الترديد مما جعل في الملخص دليلا مستقلا هكذا الصورة المفارقة إن قبلت الإشارة فهي لا محالة في جهة ومختصة بمادة وإن لم تقبل فهي غير الصورة التي تشير إليها حال كونها مادية لا يقال هذا الذي ذكرتموه من أن الجسمية المشتركة إذا اقتضت وحدها شكلا مخصوصا على مقدار معين وجب تساوي الأجسام حتى الجزء والكل في ذلك الشكل على ذلك المقدار ينتقض بالفلك إذ شكله مقتضى ذاته التي هي صورته النوعية وجزؤه ككله في تلك الصورة النوعية ولا يلزم تساويهما في المقدار والشكل المخصوصين معا بل لا يجوز ذلك فإن الأفلاك الخارجة والتداوير أجزاء للأفلاك الكلية مع امتناع التساوي في المقدار وإن كانت مساوية لها في الشكل الكروي لأنا نقول لولا مانع اقترن بجزء الفلك لكان شكل جزئه ومقداره ككله بسبب الاشتراك فيما يقتضيهما لكن ثمة مانع يمنع من التساوي في الشكل والمقدار جميعا وهو أن الكل حصل له ذلك الشكل مع المقدار المخصوص بأن حلت الصورة الجسمية في المادة الفلكية فاقتضى لها صورته النوعية الحالة معها في تلك المادة مقدارا وشكلا مخصوصين فامتنع أن يكون للجزء من الفلك ذلك الشكل والمقدار وإلا لم يكن جزءا وكذا الكلام في سائر الأجسام البسيطة إذا كان لها أجزاء موجودة بالفعل ومنهم من وجه النقض بالأجزاء المفروضة في الفلك وغيره من البسائط فإنها قد تفرض مضلعة لا مستديرة وزعم أن المانع حصول (2/381)
الجزء المفروض بعد وجود الكل ورد بأن الشكل من لوازم الوجود دون الماهية فإذا اقتضاه طبيعة لم يكن اقتضاؤها إياه إلا في الخارج فلا يلزم ثبوته للأجزاء المفروضة فلا يتجه السؤال وأيضا الجزئية مطلقا مانعة من المساواة في الشكل والمقدار معا فلا مدخل لتأخر الجزء في الوجود عن الكل في المانعية وأما الصورة الجسمية فلو تجردت عن المادة فلا تكون هناك إلا الطبيعة الجسمية المشتركة ولم يكن هناك سبب يقتضي كلية وجزئية سوى تلك الطبيعة المشتركة فلا يتصور حينئذ اختلاف في أمر من الأمور حتى في الكلية والجزئية فلا يكون ثمة كل ولا جزء فضلا عن اختلافهما بالشكل فقد اندفع عن الدليل النقض المذكور ولكن لمانع أن يمنع أن الشكل وتبدله إنما يكون بالاتصال والانفصال كما ترى في الشمعة فإنها تتشكل بأشكال مختلفة من غير فصل ووصل فليس يلزم من استناد الشكل العارض للصورة المجردة إلى سبب مغاير لنفس الجسمية وكونها قابلة لشكل آخر استقلالها بقبول الفصل والوصل كما زعمتم ولا يجاب عن هذا المنع بأن ذلك أي قبول تبدل الأشكال يقتضي لا محالة القسمة الوهمية إذ لا يتصور تبدل شكل فيما لا يمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء وتفضي القسمة الوهمية كما مر إلى القسمة الانفكاكية ويلزم المحال المذكور لأنا نقول لو كفى ذلك في دفع المنع لاستقل بالدلالة على المطلوب بأن يقال لو فارقت الصورة المادة لكانت قابلة للقسمة الوهمية المفضية إلى الانفكاكية فيلزم استقلال الجسمية بقبول الفصل والوصل وقد أبطلناه وعلى هذا فكأن هذه المقدمات المذكورة في دليلكم كلها ضائعة لا حاجة إليها ويمكن الجواب عن هذا الذي قلناه بأنه لا ينافي حقية الكلام وصحة الدليل بمقدماته بل هو من قبيل تعيين الطريق الذي هو أقصر
الثاني من الوجوه الثلاثة الصورة الجسمية لو خلت عن الهيولى وقامت بذاتها لاستغنت في نفسها عن المحل فلا تحل فيه أصلا لكنها حالة فيه فلا يجوز حلولها عنه وقد عرفت جوابه
الثالث من تلك الوجوه أن يقول على تقدير أن يجوز خلو الصورة (2/382)
عن المادة نفرض الكل تفارقه صورته قبل التجزئة وبعدها فإن كان لا تميز ثمة بين صورة الكل وصورة الجزء فالشيء مع غيره كهو لا معه وإن كان بينهما تميز وقد عرفت في مباحث التعين أنه لا تميز ولا تعدد بين الأمثال أي بين أفراد ماهية نوعية إلا بالمادة وعوارضها فهي أي الصورة الجسمية مقارنة بالمادة حين ما فرضت مجردة عنها هذا خلف وقد عرفت ما فيه من أنه مبني على عدم القادر المختار وأن تمايز الأمثال معلل بالمادة وكلاهما ممنوعان فلا نكرره
رابعها أي رابع تفريعات الهيولى وتركب الجسم منها ومن الصورة قد علمت في مباحث الماهية أنه لا بد في الماهية الحقيقية المركبة من احتياج أحد الجزئين إلى الآخر فقط أو احتياج كل منهما إلى صاحبه على وجه لا يلزم منه دور وحينئذ فلا بد بين جزئي الجسم من حاجة وأما كيفية تلك الحاجة فاعلم أن الهيولى ليست علة للصورة وإلا لتم لها أي للهيولى وجود قبل وجود الصورة لأن العلة متقدمة بالوجود على معلولها لكنا قد بينا أن المادة لا تكون بالفعل إلا بسبب الصورة لأن الشيء الواحد لا يكون متصفا بالقوة والفعل معا وقد عرفت فساده فلا نعيده وأيضا لو كانت الهيولى علة للصورة لاجتمع فيها أي في الهيولى القبول والفعل بالنسبة إلى شيء واحد فإنها حينئذ فاعلة للصورة وقابلة لها وهو باطل وجوابه أنه مبني على أن البسيط لا يكون قابلا وفاعلا معا وقد علمت ما فيه وأيضا لا يجوز أن تكون الهيولى علة للصورة لأنها في حد ذاتها تقبل صورا لا نهاية لها فلا تكون علة للمعينة أي لا تكون علة لمعينة من تلك الصور حتى يكون حصولها في الهيولى أولى من حصول غيرها دفعا للتحكم بل ليس للمادة إلا مجرد القبول وأما سبب حصول الصورة المعينة فيها فأمر آخر ولا الصورة أي وليس الصورة أيضا علة للهيولى لأنها حالة فيها (2/383)
فتحتاج الصورة في وجودها إليها ويتجه على هذه العبارة أنه يلزم حينئذ كون الهيولى علة للصورة فالأولى أن يقال فلا تكون علة لوجود محلها وأيضا ليست الصورة علة للهيولى لأنها أي الصورة لا توجد إلا مع التناهي والتشكل لما مر والهيولى متقدمة عليهما لأنهما من توابع المادة المتأخرة عنها وما مع المتأخر متأخر كما أن ما مع المتقدم متقدم فتكون الصورة متأخرة عن الهيولى فلا تكون علة لها ولا يخفى عليك أن الحكم بتأخر ما مع المتأخر إنما تظهر صحته في المعية والتأخر الزمانيين دون غيرهما وأيضا ليست الصورة علة للمادة للزوم انتفائها أي انتقاء المادة عند عدم الصورة المعينة يعني لو كانت الصورة علة لها لانتفت عند انتفاء الصورة المعينة لوجوب انتفاء المعلول عند انتفاء علته لكن الصورة الجسمية تتبدل وتزول عند ورود الانفصال والهيولى باقية على حالها
فإن قيل ما ذكرتم إنما يدل على أن الصورة المعينة ليست علة لها ولا يلزم من عدم علية الصورة المعينة عدم علية الصورة المطلقة
قلنا الواحد بالشخص لا بد أن تكون علته الفاعلية واحدة بالشخص والصورة المطلقة ليست كذلك إذا تمهد هذا فنقول التلازم وامتناع الانفكاك بينهما دل على الاحتياج من الجانبين فحاجة الهيولى إلى الصورة في بقائها لأن الصورة تستحفظها بتواردها عليها إذا لو فرضنا زوال صورة عنها وعدم اقتران صورة أخرى بها عدمت المادة لما مر من امتناع بقائها خالية عن الصور كلها فهي أي تلك الصور المتواردة عليها كالدعائم تزال واحدة منها عن السقف وتقام مقامها دعامة أخرى فيكون السقف باقيا على حاله بتعاقب تلك الدعائم وحاجة الصورة إلى الهيولى في التشخص والعوارض (2/384)
اللازمة لتشخصها إذ قد علمت أن تشخصها وتعددها بالمادة وما يكتنفها من الأعراض وعلمت أيضا أن تناهيها وتشكلها لأجل المادة فقد ثبت الاحتياج من الطرفين على وجه لم يلزم منه الدور
خامسها كما أن الهيولى لا تخلو عن الصورة الجسمية كذلك لا تخلو عن صورة أخرى بل لكل جسم من الأجسام صورة نوعية بحسبها يتنوع الجسم أنواعا كثيرة من البسائط والمركبات وذلك لأنها أي الأجسام مختلفة في اللوازم كقبول الانقسام الانفكاكي وقبول الالتئام والتشكل التابع لهما بسهولة كما في العنصريات الرطبة مثل الماء والهواء أو عسر كما في العنصريات اليابسة مثل الحجر والحديد أو عدمه أي عدم قبول ذلك الانقسام والالتئام والتشكل كما في الفلكيات وليس ذلك الاختلاف في تلك اللوازم للجسمية المشتركة بين جميع الأجسام لأن الأمور المختلفة لا يجوز أن تكون معللة بأمر مشترك ولا للهيولى لأنها قابلة فلا تكون فاعلة وأيضا هيولى العناصر مشتركة فلا تكون مبدأ لأمور مختلفة ولا للمفارق لأن نسبته إلى الأجسام كلها على السوية بل لا بد أن يكون ذلك لأمر مختص أي ثابت لبعض من الأجسام دون بعض ويجب أن يكون ذلك الأمر المختص لازما ليمكن استناد ما هو لازم إليه فإن كان ذلك الأمر المختص اللازم مقوما للجسم فهو المطلوب إذ لا بد حينئذ من أن يكون جوهرا فقد ثبت في الأجسام جواهر مختصة هي مباد لآثارها ولوازمها المختلفة ولا معنى للصورة النوعية إلا ذلك وإلا أي وإن لم يكن مقوما للجسم بل كان خارجا لازما عاد الكلام فيه لاحتياجه حينئذ إلى أمر آخر (2/385)
مختص يستند هو إليه ويتسلسل قال الإمام الرازي الذي حصل لنا بالدليل هو أن هذه اللوازم من الكيفيات والأيون وغيرهما مستندة إلى قوى موجودة في الأجسام وإما أن تلك القوى أسباب لوجود الجسمية حتى تكون صورا مقومة فلا بل الأقرب الظاهر عندنا أنها من قبيل الأعراض وما ذكروه من لزوم التسلسل وارد عليهم في الصور فإن اختصاص الأجسام بصورها النوعية ليس للجسمية المشتركة ولا للهيولى ولا للمفارق لما مر بعينه فلا بد من استنادها إلى صور أخر مختصة وقد أجابوا عن ذلك بأن هيوليات الأفلاك متخالفة بالماهية وكل واحدة منها لا تقبل إلا صورة معينة وأما اختصاص العناصر بصورها فلأن المادة قبل هذه الصورة كانت متصفة بصورة أخرى لأجلها استعدت لقبول الصورة اللاحقة وهكذا إلى ما لا يتناهى وحينئذ نقول لهم لما لم يمتنع تعاقب صور بلا نهاية فلم أي فلأي شيء يمتنع تعاقب أعراض بلا نهاية بل هذا أيضا جائز فلا حاجة إلى إثبات الصورة النوعية في العناصر لذلك ولا في الأفلاك لأن موادها لا تقبل إلا ما هو عارض لها
وأجاب بعضهم عن ذلك بأنا نعلم بديهة أن حقيقة النار مخالفة لحقيقة الماء فلا بد من اختلافهما بأمر جوهري مختص وربما يستدل على إثبات الصورة النوعية بأن الماء إذا سخن ثم ترك يعود بالطبع باردا فثمة أمر هو مبدأ للكيفية باق يرد الماء إلى الكيفية الزائلة بعد زوال القاسر قلنا إن سلم أن في الجسم أمرا هو مبدأ للكيفية فلا يجديكم ومن أين يلزم كونه من مقومات الجسم حتى يكون صورة نوعية على أنا لا نسلم ذلك ونقول لم قلتم أنه أي عود الماء إلى البرودة ليس بفعل الفاعل المختار على طريقة جري العادة وهذا الفرع الخامس أعني ثبوت الصورة النوعية مع ضعفه لعدم صحة أدلته أصل كبير له فروع كثيرة من المباحث الفكلية والعنصرية فتحققه ولا تنس كيلا تحتاج إلى التنبيه على ضعف ما يتفرع عليه من تلك المباحث
قال الإمام الرازي لما فرغنا من بيان ذاتيات الجسم ومقوماته فلنذكر (2/386)
أحكامه ثم شرع في إثبات الحيز الطبيعي إلا أن المصنف جعله من تفاريع الهيولى فقال
سادسها كل جسم له حيز طبيعي تقتضي طبيعته حصوله فيه ضرورة أنه لو خلي الجسم وطبعه أي فرض بعد وجود خاليا عن جميع ما يمكن خلوه عنه من التأثيرات الغريبة لكان له مكان ضرورة إذ لا يمكن جسم لا في مكان ولا يتصور حصوله في جميع الأمكنة معا بل لا بد أن يحصل في حيز معين ولا يكون حصوله في ذلك الحيز مستندا إلى أمر خارج إذ المفروض خلوه عنه ولا إلى الجسمية المشتركة لأن نسبتها إلى الأحياز كلها على السوية ولا إلى الهيولى لأنها تابعة للجسمية في اقتضاء حيز ما على الإطلاق بل إلى أمر آخر داخل فيه مختص به وهو المراد بالطبيعة
قلنا ما ذكرتم ممنوع بل لو خلي الجسم وطبعه لكان كالمحدد لا مكان له كما هو مذهب أرسطو ومن تابعه أو نقول إذا خلي وطبعه تكون نسبته إلى الأحياز كلها سواء حتى يخصصه الفاعل المختار بحيز معين ولا نسلم إمكان خلوه في نفس الأمر عن تأثير المختار وتخصيصه ونقول لو فرضت الأحياز كلها خالية عن الأجسام ثم فرض أنه خلق الأرض وحدها كان نسبتها إلى الأحياز كلها سواء إذ ليس ثمة مركز ولا محيط وإذا جعلت الأرض بأسرها في أي حيز اتفق وجب أن تقف فيه ولا تنتقل منه إلى غيره لاستحالة الترجيح بلا مرجح فما يتوهم (2/387)
من أن الأرض طالبة للمكان الذي هي فيه باطل كما قال به ثابت بن قرة فإنه قال ليس لشيء من الأمكنة حال يخص به دون غيره حتى يتصور أن جسما معينا طالب له بطبعه دون ما عداه وإذا رمينا مدرة إلى فوق فإنما تعود المدرة إلى مركز الأرض لا لأن الطبيعة الأرضية طالبة له كما توهم بل لأن الجزء مائل إلى كله الذي يجذبه بعلة الجنسية ولو جعل الأرض نصفين وجعل كل نصف في جانب آخر لكان طلب كل منهما مساويا لطلب صاحبه حتى يلتقيا في وسط المسافة التي بينهما ولو فرض أن الأرض كلها رفعت إلى فلك الشمس ثم أطلق من المكان الذي هي فيه الآن حجر لارتفع ذلك الحجر إليها لطلبه للأمر العظيم الذي هو شبيهه ولو فرض أنها تقطعت وتفرقت في جوانب العالم ثم أطلقت أجزاؤها لكان يتوجه بعضها إلى بعض ويقف حيث يتهيأ تلاقيها
قال ولأن كل جزء يطلب جميع الأجزاء طلبا واحدا ومن المحال أن يلقى الجزء الواحد كل جزء لا جرم طلب أن يكون قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا وهذا هو طلب الوسط ثم إن جميع الأجزاء شأنه هذا فلزم من ذلك استدارة الأرض وكرويتها وأن يكون كل جزء منها طالبا للمركز هكذا نقل عنه في المباحث المشرقية
وبالجملة فلم لا يجوز أن يكون كل جسم بحيث لو خلي وطبعه لكان يقتضي حيزا مبهما ككل جزء من الأرض فإنه يطلب حيزا مبهما من (2/388)
أجزاء حيز الأرض ويكون المخصص لذلك الجسم بحيز معين أمرا من خارج كما أن مخصص جزء الأرض بحيز معين أمر خارج عنه وقد يجاب بأن الكلام فيما إذا خلي الجسم وطبعه وجرد عن جميع الأمور الخارجية عنه وأما جزء الأرض فإنه لو خلي وطبعه لا تصل بكله فلم يبق موجودا منفردا مقتضيا للمكان وما دام موجودا على حدة فإنه لا يخلو عن قاسر
فرعان
على أن لكل جسم مكانا طبيعيا
الأول لا يكون لجسم واحد حيزان طبيعيان فإنه إذا كان في أحدهما فإن طلب الآخر فهذا المكان الذي هو فيه الآن ليس طبيعيا له لأنه هارب عنه طالب لغيره وإلا أي وإن لم يطلب الآخر حال كونه في أحدهما فالآخر ليس طبيعا له لأنه ليس طالبا له حين ما خلي وطبعه وأيضا إذا كان الجسم خارجا عنهما بالقسر ثم خلي وطبعه فإما أن يتوجه إليهما معا وهو محال ظاهر فيما إذا لم يكونا من المكان القسري في جهة واحدة أو لا يتوجه إلى واحد منهما فليس شيء منهما طبيعيا أو يتوجه إلى أحدهما فقط فالآخر ليس طبيعيا له والكل محال فالمكان الطبيعي واحد
الثاني من الفرعين الجسم البسيط له مكان طبيعي كما عرفت ومكان المركب أي مكانه الطبيعي مكان البسيط الغالب فيه فإنه يقهر ما عداه ويجذبه إلى حيزه فيكون الكل إذا خلي وطبعه طالبا لذلك الحيز وإن تساوت البسائط كلها فيه فالمكان الطبيعي له هو الذي اتفق وجوده فيه (2/389)
لعدم أولوية الغير وفيه نظر لأنه لو أخرج المركب المتساوي البسائط عنه أي عن ذلك المكان الذي اتفق وجوده فيه لم يعد إليه طبعا بل سكن أينما أخرج لعدم المرجح فلا يكون ذلك المكان طبيعيا والبسيطان المتساويان في الحجم والمقدار قد يختلفان في القوة فإنه إذا أخذ مقداران متساويان من الأرض والنار فربما كان اقتضاء الأرضية للميل السافل أقوى من اقتضاء النارية للميل الصاعد او بالعكس بل ربما كان الناقص في المقدار أقوى في القوة فالمعتبر من التساوي في بسائط المركب هو التساوي في القوة دون الحجم والمقدار وقد يفصل ههنا ويقال المركب إن تركب من بسيطين فإن كان أحدهما غالبا في القوة وكان هناك ما يحفظ الامتزاج فالمركب ينجذب بالطبع إلى مكان الغالب وإن تساويا فإما أن يكون كل منهما ممانعا للآخر في حركته أو لا فإن لم يتمانعا افترقا ولم يجتمعا إلا بقاسر وإن تمانعا مثل أن تكون النار من تحت والأرض من فوق فإما أن يكون بعد كل منهما عن حيزه مساويا لبعد الآخر أو لا فعلى الأول يتقاومان فيحتبس المركب في ذلك المكان لا سيما إذا كان في الحد المشترك بين حيزيهما وعلى الثاني ينجذب المركب إلى حيز ما هو أقرب إلى حيزه لأن الحركات الطبيعية تشتد عند القرب من أحيازها وتفتر عند البعد وإن تركب من ثلاثة فإن غلب أحدها حصل المركب بطبعه في حيز الغالب كما مر وإن تساوت فإن كانت الثلاثة متجاورة كالأرض والماء والهواء حصل المركب في حيز العنصر الوسط كالماء وإن كانت متباينة كالأرض والماء والنار حصل المركب في الوسط أيضا لتساوي الجذب من الجانبين ولأن الأرض والماء وإن اختلفا في الماهية لكنهما يشتركان في الميل إلى أسفل فهما يغلبان النار بهذا الاعتبار وإن تركب من أربعة فإن كانت مساوية حصل المركب في الوسط وإلا ففي حيز الغالب هذا كله بالنظر إلى ما يقتضيه التركيب إذا خلا عن مقتضى آخر يمنع العناصر عن أفعالها فإنه يجوز أن يحصل للمركب صورة نوعية تعين له مكان البسيط المغلوب والله أعلم (2/390)
الفصل الثاني في أقسامه وأحكام كل جسم منها
وفيه مقدمة وأقسام
المقدمة
المتن
الجسم ينقسم إلى بسيط ومركب والبسيط له رسمان
الأول ما جزؤه مساو لكله في الاسم والحد والمراد هو الجزء المقداري وإلا ورد الهيولى والصورة
الثاني ما لا يتركب من أجسام مختلفة الطبائع وكل منها قد يعتبر بحسب الحقيقة أو الحس فهذه أربعة اعتبارات فاعتبر ذلك في الأعضاء المتشابهة كاللحم والعظم وفي الفلك يظهر لك الفرق والمركب بخلافه ولكل جسم شكل طبيعي لوجوب تناهيه فلو خلي الجسم وطبعه يحيط به حد أو حدود والشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة لأن له قوة واحدة والقوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة إلا فعلا واحدا وكل شكل سوى الكرة ففيه أفعال مختلفة وشكك بوجوه
الأول الأرض بسيطة وليست كروية وقولهم تضاريس الأرض وخشوناتها ولا قدر لها بالنسبة إليها فهي كجاورسة على كرة كبيرة فلا تخرجها عن كونها كروية بجملتها لا يغني إذا الكروية لا تقبل الأشد والأضعف (2/391)
الثاني الأفلاك المكوكبة فيها نقر مختلفة بالقدر والموضع
الثالث الفاعل لأشكال الأعضاء قوة بسيطة مع اختلاف فعلها وقد يجاب بأن فعلها في مركب
الرابع الأفلاك الخارجة المراكز كل من متمميها يختلف جانباه بالرقة والثخانة
فرع فالإناء كلما كان أقرب إلى المركز كان أكثر احتمالا للماء وذلك لأن ظاهر سطحه قطعة من دائرة مركزها مركز العالم وكلما كانت الدائرة أصغر كان التقعير فيها أكبر بالنسبة إلى وتر واحد ثم الجسم البسيط ينقسم إلى فلكي وعنصري فالفلكي الأفلاك والكواكب والعنصري العناصر الأربعة والمركب ينقسم إلى ما له مزاج وإلى ما لا مزاج له فهذه خمسة أقسام
الشرح
الفصل الثاني من فصلي المرصد الأول في أقسامه أي أقسام الطبيعي الذي تبين في الفصل الأول حقيقته وأجزاؤه وأحكام كل قسم منها أي من تلك الأقسام وفيه أي في هذا الفصل الثاني مقدمة وأقسام خمسة
المقدمة الجسم ينقسم إلى بسيط ومركب ويظهر لك وجه الانحصار فيهما من بيان مفهوميهما والجسم البسيط له رسمان مشهوران
الأول ما جزؤه أي كل جزء منه مساو لكله في الاسم والحد كالماء مثلا
قال الإمام الرازي هذا إنما يستقيم إذا قلنا بأن الجسم غير مركب من (2/392)
الهيولى والصورة بل هو جوهر متصل قائم بذاته لا بمادة وأما إذا قيل إنه مركب منهما فإنه لا يستقيم لأن جزءه المادي وحده أو الصوري وحده لا يساويه في الاسم والحد بل لا بد حينئذ من أن يقيد الجزء بكونه جسميا أي مقداريا وإلى ذلك أشار المصنف بقوله والمراد بالجزء المذكور في رسم البسيط هو الجزء المقداري وإلا ورد الهيولى والصورة فإنهما جزءان من الجسم البسيط ولا يساويانه فيما ذكر فلا ينطبق هذا الرسم عل شيء من الأجسام البسيطة وإذا أريد الجزء المقداري كان منطبقا عليها سواء تركبت منهما أو لا
الثاني من رسمي الجسم البسيط ما لا يتركب من أجسام مختلفة الطبائع وكل منهما أي من هذين الرسمين قد يعتبر بحسب الحقيقة أو الحس فهذه أربعة اعتبارات في رسم البسيط
الأول ماجزؤه المقداري بحسب الحقيقة مساو لكله في الاسم والحد فيندرج فيه العناصر الأربعة لأن كل جزء مقداري يفرض فيها يساوي كله في اسمه وحده دون الفلك إذ ليس أجزاؤه المقدارية المفروضة فيه كذلك ودون الأعضاء المتشابهة الحيوانية كالعظم واللحم مثلا إذ فيها أجزاء مقدارية هي العناصر ولا تشاركها في أسمائها وحدودها
الثاني ما يكون جزؤه المقداري بحسب الحس مساويا له فيما ذكر فيتناول مع العناصر الأعضاء المتشابهة فإن كل جزء محسوس منها يساويها في الاسم والحد دون الفلك
الثالث ما لا يتركب بحسب الحقيقة من أجسام مختلفة الطبائع فيشمل العناصر والفلك دون شيء من أعضاء الحيوان
الرابع ما لا يتركب بحسب الحس من أجسام مختلفة الطبائع فيتناول الكل فهو أعم الاعتبارات وأولها أخصها وبين الثاني والثالث عموم من وجه وتلخيصه أن ما لا يتركب من أجسام محسوسة مختلفة الطبائع إما أن لا يتركب من أجسام مختلفة ويتركب منها لكنها غير محسوسة وعلى الأول (2/393)
إما أن لا يكون اسمه موضوعا له بشرط كونه موصوفا بصفة مخصوصة كالماء والأرض والهواء والنار فيشاركه أجزاؤه في اسمه وحده وإما أن يكون مشروطا به فلا يطلق اسمه على أجزائه كالفلك إذ قد اعتبر في اسمه شكل معين وعلى الثاني أيضا إما أن لا يعتبر في الاسم صفة كاللحم والعظم فيطلق اسمه على جزئه أو يعتبر فلا يطلق كالشريان والوريد إذ قد اعتبر فيهما التجويف والهيئة المخصوصة فالاعتبار الرابع يعم هذه الأربعة بأسرها والأول يتناول واحدا منها ولا يخفى عليك حال الآخرين وإلى ما فصلناه لك أشار مجملا بقوله فاعتبر ذلك أي الذي ذكرناه من اعتبار كل واحد من رسمي البسيط بحسب الحقيقة أو الحس في الأعضاء المتشابهة الحيوانية كاللحم والعظم ونظائرهما وفي الفلك يظهر لك الفرق بين الاعتبارات الأربعة كما عرفت والجسم المركب بخلافه فهو على الرسم الأول ما لا يكون جزؤه المقداري بحسب الحقيقة مساويا له في الاسم والحد فيخرج عنه من البسائط المذكورة العناصر دون الفلك والأعضاء المتشابهة وإن اعتبر الجزء المقداري بحسب الحس خرجت تلك الأعضاء أيضا وعلى الرسم الثاني هو ما يتركب بحسب الحقيقة من أجسام مختلفة الطبائع فيخرج عنه العناصر والفلك دون الأعضاء المذكورة وإن اعتبر التركيب بحسب الحس خرجت هذه الأعضاء أيضا ففي رسم المركب اعتبارات أربعة أيضا إلا أن أولها أعمق ورابعها أخصها على عكس ما تقدم وبين الباقيين عموم من وجه كما هناك واعلم أن المراد بالجسم البسيط في هذا الموضع ما لا يتركب حقيقته في نفس الأمر من أجسام مختلفة الطبائع وبالمركب ما يقابله ثم إن المصنف ذكر ههنا حكما عاما للأجسام البسيطة والمركبة وهو أن لها شكلا طبيعيا وبين أن الشكل الطبيعي للبسيط ماذا فقال ولكل جسم بسيطا كان أو مركبا شكل طبيعي وذلك لوجوب تناهيه لما سيرد عليك من استحالة لا تناهي الأبعاد فلو خلي الجسم أي (2/394)
جسم كان وطبعه بأن يفرض بعد وجوده خاليا عن جميع ما يمكن خلوه عنه من التأثيرات الخارجية يحيط به حد أي طرف واحد فيكون كرة أو حدود أكثر من واحد فيكون مضلعا وعلى التقديرين كان ذلك الشكل طبيعيا له لاستناده إلى طبيعته من غير أن يكون هناك تأثير غريب ثم إن الأشكال الطبيعية للأجسام المركبة غير منضبطة لاختلافها بحسب اختلاف أجزائها في طبائعها ومقاديرها وبحسب صورها النوعية فلذلك لم يتعرض لها وقال الشكل الطبيعي للبسيط من الأجسام هو الكرة وذلك لأن له أي للجسم البسيط بالمعنى المراد في هذا المقام قوة أي طبيعة واحدة والقوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة التي للبسيط إلا فعلا واحدا أي غير مختلف بالنوع وكل شكل سوى الكرة ففيه أفعال مختلفة أنواعها فإن المضلع من الأشكال يكون جانبا منه خطا وآخر زاوية أو سطحا أو نقطة وهي أمور متخالفة الحقائق فيلزم التحكم لأن القابل والفاعل في الكل متحدان وشكك فيما ذكر من أن الشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة بوجوه أربعة
الأول الأرض بسيطة على رأيهم وليست كروية لما عليها وفيها من الجبال والتلال والأغوار والوهاد وقولهم في دفع هذا السؤال إن ما ذكرتموه تضاريس الأرض وخشوناتها الواقعة على ظاهرها ولا قدرة لها بالنسبة إليها فهي أي تلك الخشونات على الأرض كجاورسة على كرة كبيرة إذ قد بينوا أن الجبل إذا كان ارتفاعه نصف فرسخ يكون نسبة طوله إلى قطر الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة معتدلة إلى كرة قطرها ذراع وعلى هذا تكون نسبة طول أعظم جبل عليها وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث كنسبة سبع عرض تلك الشعيرة إلى الذراع تقريبا فلا تخرجها تلك (2/395)
الخشونات التي لا قدر لها بالنسبة إليها عن كونها كروية بجملتها لا يغني أي لا يفيد قولهم المذكور اندفاع ذلك السؤال إذ الكروية الحقيقية لا تقبل الأشد والأضعف حتى يتصور وجود الكروية الضعيفة في الأرض مع تلك الخشونات القادحة في كمال الكروية فإذن حقيقة الكروية منتفية عنها قطعا بل وجه دفعة أن يقال شكلها الطبيعي هو الكرة إلا أنه وقعت هناك أسباب خارجة عنها كالرياح والأمطار والسيول فانثلم بها جزء من الأرض ثم إن اليبوسة التي فيها حافظة لما حصل لها من الأشكال فلا جرم ففي شكل الأرض على ذلك الانثلام المقتضي لتلك الخشونات فيكون خروجها عن شكلها الطبيعي بتلك الأسباب وذلك لا يقدح في اقتضاء طبيعتها الشكل الكروي كما ادعيناه
فإن قيل كون اليبوسة المستندة إلى طبيعة الأرض حافظة للشكل القسري المانع عن الشكل الطبيعي يقتضي كون الطبيعة الواحدة مقتضية لشيء ولما لم يمنع من حصول ذلك الشيء وذلك باطل قطعا
أجيب بأن الطبيعة اقتضت شكلا مخصوصا واقتضت أيضا كيفية حافظة للشكل مطلقا فهذا الاقتضاء لا يخالف الاقتضاء الأول بل يؤكده لو خليت وطبيعتها لكن لما أزال القاسر الشكل ولم يزل الكيفية صارت الكيفية حافظة للشكل القسري ومانعة بالعرض عن العود إلى الشكل الطبيعي ولا استحالة في ذلك
الوجه الثاني الأفلاك المكوكبة فيها نقر أي حفر ترتكز الكواكب فيها مختلفة بالقدر وأنها مساوية لمقادير الكواكب المختلفة الأقدار المالئة لتلك النقر والوضع أي مختلفة بالوضع أيضا لأن تلك النقر موجودة في (2/396)
موضع من الفلك أي جانب منه دون آخر فقد اختلف فعل الطبيعة الواحدة في مادة واحدة وقد أجاب بعضهم عن هذا بأن الاختلاف المذكور ليس مستندا إلى طبيعة واحدة بل إلى صور متعددة فإن الفلك قد حصل له صورة نوعية تقتضي كروية شكله لكن اتصلت به صورة أخرى أفرزت عنها كرة أخرى تختص بها هي كوكب أو تدوير أو خارج مركز فلزم من ذلك أن يبقى في الفلك الأول نقرة أو متمم متصور بالصورة الأولى فقط لا يقال حلول الصور المختلفة لا يكون إلا لاختلاف المواد أو لاختلاف استعدادات مادة واحدة ولا يتصور ذلك في الفلك لأنا نقول له أن يمنع الحصر إذ من الجائز أن يكون اختلاف الصور في بعض البسائط مستندا إلى أسباب تعود إلى الفواعل كما جاز استناده إلى أمور تعود إلى القوابل لكن يبقى عليه أنه يلزم اجتماع صورتين نوعيتين في الكواكب والتدوير والخارج المركز وهو محال وأنه إذا كان في الفلك صورتان كان فيه تركيب قوي وطبائع فلا يكون بسيطا وأنه إذا جاز أن يتصل بالفلك صور متعددة وهي مبادئ أفعال مختلفة جاز في سائر البسائط فلا يلزم أن يكون شكلها مستديرا وربما يندفع الأول بمنع استحالته فإن صور العناصر باقية في المركب وقد حل فيه صورة أخرى نوعية سارية في جميع أجزائه وهي العناصر فيكون في كل عنصر هناك صورتان نوعيتان والثاني بأن معنى التركيب القوي أن يكون لجزء من الجسم قوة ولجزء آخر منه قوة أخرى حتى إذا كان له جزءان قويان كان له قوتان وليس الأمر في الفلك كذلك إذ الصورة الأولى سارية في الكل والثانية مختصة ببعضه والثالث بأن كل صورة تفرض في البسيط قوة واحدة تؤثر في مادة واحدة فلا تقتضي إلا شكلا مستديرا (2/397)
الوجه الثالث الفاعل عندهم لأشكال الأعضاء في الحيوان والنبات ومقاديرها في العظم والصغر وصفاتها في الملاسة والخشونة هي القوة المصورة وهي قوة واحدة بسيطة مع اختلاف فعلها ألا ترى أنها لم تفد موادها شكل الكرة بل أشكالا مختلفة
وقد يجاب عن هذا من قبلهم بأن فعلها أي فعل تلك القوة البسيطة في مركب هو المادة التي يتخلق منها الحيوان أو النبات واختلاف آثار القوة البسيطة في مادة مركبة من قوابل متعددة جائز لا في مادة بسيطة
الوجه الرابع الأفلاك الخارجة المراكز كل من متمميها يختلف جانباه بالرقة والثخانة فقد فعلت الطبيعة الواحدة في كل من المتممين أفعالا مختلفة في الثخن فيجوز أيضا أن تختلف أفعالها في الشكل وأجيب عن ذلك بأن المراد بالفعل الواحد كما أومأنا إليه أن يكون متشابها غير مختلف بالنوع كالسطح والخط والنقطة لا أنه لا يختلف أصلا واختلاف الثخن والنقر أيضا لا يوجب خروج فعل الطبيعة عن أن يكون نوعا واحدا
فرع على القول بأن الشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة فالإناء كلما كان أقرب إلى المركز أي مركز العالم الذي هو وسط الكل كما إذا كان في قعر بئر مثلا كان أكثر احتمالا للماء مما إذا كان أبعد عنه كرأس جبل وذلك لأن ظاهر سطحه أي سطح الماء إذا خلي وطبعه في أي موضع فرض قطعة من دائرة بل من سطح كرة مركزها مركز العالم لأنه بسيط سيال تقتضي طبيعته تساوي بعد سطحه الظاهر عن المركز حتى يكون قطعه من سطح كروي وإنما ذكر الدائرة لأنها أسهل في التصور ولما كان مقدار رأس الإناء شيئا واحدا يمر بطرفيه دائرتان مركزهما واحد وإحديهما أكبر من الأخرى كانت القوس الواقعة على طرفيه من الدائرة الصغرى أكثر تحدبا وتقعرا من القوس الواقعة عليهما من الدائرة الكبرى كما يشهد بها التخيل من كل ذي فطرة سليمة وكانت القوسان محيطتين بشكل هلالي يملأه الماء إذا كان الإناء أقرب ويخلو عنه إذا كان أبعد فيزيد الأول على الثاني بذلك القدر من الماء أعني بما ماء يملأ بين قطعتين من سطحين (2/398)
كرويين يرتسمان على رأس الإناء من توهم حركتي القوسين عليه يمنة ويسرة وإلى ما لخصناه أشار بقوله وكلما كانت الدائرة أصغر كان التقعير فيها أكبر بالنسبة إلى وتر واحد هو امتداد رأس الإناء ثم الجسم البسيط أي الذي لا تتركب حقيقته من أجسام مختلفة الطبائع كما نبهناك عليه ينقسم إلى فلكي وعنصري فالفلكي الأفلاك والكواكب فهو قسمان والعنصري العناصر الأربعة وهذا قسم واحد والمركب ينقسم إلى ما له مزاج وإلى ما لا مزاج له فهذه خمسة أقسام ثلاثة للبسيط واثنان للمركب (2/399)
القسم الأول في الأفلاك
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
زعموا أن الأفلاك الثابتة بالرصد تسعة تشتمل على أربعة وعشرين فلكا فلك الأفلاك وهو المسمى بالفلك الأطلس لأنه غير مكوكب وبالعرش المجيد في لسان الشرع وتحته فلك الثوابت ثم فلك زحل ثم فلك المشتري ثم فلك المريخ ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك عطارد ثم فلك القمر وهو السماء الدنيا دل على وجودها الحركات المختلفة فإنه لا بد لها من محال متعددة ودل على ترتيبها الحجب فما هو أسفل يحجب ما هو أعلى وهو على ما ذكرنا من الترتيب وقد زعم بعض المهندسين أن فلك الزهرة فوق فلك الشمس وكذب ابن سينا فيما زعم أنه رأى الزهرة في وجه الشمس كالشامة فهذه التسعة هي الأفلاك الكلية ولكل من السيارة عدة أفلاك يتركب منها فلكه الكلي وسنعدها عليك عدا إن شاء الله تعالى
ومبناه أن الأفلاك لا تنخرق وإلا جاز أن يكون الحركة للكوكب نفسه كالسابح في الماء وإن سلم ذلك فلم لا يجوز أن تكون الكواكب على (2/400)
نطاقات تتحرك إما بنفسها أو باعتماد الكواكب عليها وليس ذلك أبعد من الخارج ومتمميه ثم لم لا يجوز أن يكون للكل حركة غير حركة كل واحد وتكون هي الحركة اليومية فيغني عن إثبات التاسع ولم لا يجوز أن تكون الثوابت كل واحد منها على فلك وبقاء نسبها لا يصلح للتعويل لجواز اتفاقها في الحركة ثم لم لا يجوز أن يكون بعضها تحت الأفلاك السيارة وحكاية الكسف إن سلم ففبم يقع في مداراتها فكيف السبيل إلى الجزم في غيرها
الشرح
القسم الأول في الأفلاك وفيه مقاصد ستة
المقصد الأول إن الحكماء زعموا أن الأفلاك الكلية الثابتة بالرصد تسعة تشتمل هذه التسعة على أربعة وعشرين فلكا أي هي مع ما في ضمنها من الأفلاك الجزئية هذا العدد فتسعة من الأفلاك كما سيتلى عليك كلية وستة تداوير وثمانية خارجة المراكز وللقمر فلك آخر موافق المركز يسمى بالجوزهر أما التسعة الكلية فهي فلك الأفلاك سمي به لاشتماله على جميع ما عداه من الأفلاك وهو المسمى أيضا عندهم بالفلك الأطلس لأنه غير مكوكب على رأيهم والمسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع وتحته فلك الثوابت وهو الكرسي ثم فلك زحل ثم فلك المشتري ثم فلك المريخ ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك عطارد ثم فلك القمر وهو السماء الدنيا لأنه أقرب إلينا من سائر الأفلاك (2/401)
قالوا دل على وجودها الحركات المختلفة في الجهة أو السرعة والبطء أو فيهما معا فإنه لا بد لها أي لتلك الحركات من محال متعددة إذ يستحيل أن يتحرك جسم واحد حركتين ذاتيتين بل لا بد لكل حركة ذاتية من متحرك على حدة ودل على ترتيبها الحجب فما هو أسفل يحجب ما هو أعلى أي يصير ساترا له عنا إذا وقع على محاذاته وهو أي الحجب على ما ذكرنا من الترتيب فإنهم وجدوا القمر يحجب سائر السيارة ومن الثوابت ما هو على طريقته فعلم أنه تحت الجميع ووجدوا عطاردا يكسف الزهرة والزهرة المريخ والمريخ المشتري والمشتري زحل وزحل بعض الثوابت وأما الشمس فإنها لا تنكسف إلا بالقمر ولا يتصور كسفها بشيء من الكواكب لأنها تستتر بشعاعها إذا قربت منها لكن لها اختلاف المنظر دون العلوية فهي تحتها وفوق القمر وبقي الاشتباه في أنها فوق الزهرة وعطارد أو تحتها إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك من الكسف لما عرفت من احتراقهما تحت الشعاع عند القران ولا من اختلاف المنظر لأنهما لا يبعدان عن الشمس كثيرا بعد فلا يظهران عند كونهما على نصف النهار ليعلم بذات الشعبتين المنصوبة في سطح نصف النهار أن لها اختلاف منظر أو لا فلذلك عدل بطليموس إلى طريقة الاستحسان فقال هي كسمة القلادة متوسطة بين السبعة السيارة أعني بين العلوية وبين السفليتين والقمر وقد تأكد هذا الرأي بما ذكره بعض المتأخرين كابن سينا ومن تقدمه من مقدمي هذه الصناعة أنه رأى عند اجتماعها مع الشمس كشامة على صفحتها ومنهم من ادعى أنه رآها وعطاردا كشامتين عليها وقد زعم بعض المهندسين أن فلك الزهرة دون فلك عطارد فوق فلك الشمس وكذب ذلك البعض ابن سينا فيما زعم أنه رأى الزهرة في وجه الشمس كالشامة فإنه قد زعم بعض الناس أن في وجه الشمس نقطة سوداء فوق مركزها بقليل كالمحو في وجه القمر فهذه النقطة هي الشامة وأما الشامتان فجاز أن تكون أحدهما هذه النقطة (2/402)
والأخرى عطاردا فهذه التسعة التي ذكرناها هي الأفلاك الكلية ثم إن كل واحد من فلك الأفلاك وفلك الثوابت كرة واحدة ولكل من السيارة عدة أفلاك يتركب منها فلكه الكلي وسنعدها عليك عدا إن شاء الله تعالى ومبناه أي مبنى ما ذكر من الدليل على تعدد الأفلاك هو أن الأفلاك لا تنخرق أصلا وإلا جاز أن يكون هناك فلك واحد ساكن ويكون الحركة للكوكب نفسه كالسابح في الماء وإن سلم ذلك أي امتناع الانخراق فلم لا يجوز أن تكون الكواكب على نطاقات أي أجسام شبيهة بحلق يكون تحتها مساويا لأقطار الكواكب المركوزة فيها تتحرك تلك النطاقات إما بنفسها أو باعتماد الكواكب عليها وتكون تلك النطاقات بأسرها مغرقة في كرة واحدة على أوضاع مختلفة وليس ذلك أي إثبات النطاقات والحركة عليها بأبعد من إثبات الخارج المركز ومتمميه المختلفي الثخن والوضع ثم إن سلمنا أن ذلك غير جائز قلنا لم لا يجوز أن يكون للكل من حيث هو كل حركة غير حركة كل واحد وتكون هي أي حركة الكل الحركة اليومية الشاملة لجميع الكواكب فيغني هذا الذي ذكرناه عن إثبات الفلك التاسع وذلك بأن تتعلق نفس واحدة بمجموع الأفلاك الثمانية وتحركه هذه الحركة السريعة وتتعلق بكل واحد منها نفس على حدة وتحركه حركة أخرى فينتظم حال الحركات المرصودة بلا حاجة إلى فلك تاسع وقد زاد بعضهم على ذلك وقال لا حاجة حينئذ إلى الثامن أيضا لجواز فرض الثوابت ودوائر البروج على ممثل زحل فتكون الأفلاك الكلية سبعة فقط لا تسعة كما زعموه ولنا أن نقول بعد تسليم ما تقدم لم لا يجوز أن تكون الثوابت كل واحد منها على فلك فيتضاعف عدد الأفلاك على ما ذكروه أضعافا مضاعفة وقولهم بقاء نسبها أي نسب بعض الثوابت إلى بعض في القرب والبعد والمحاذاة يدل على أنها مرتكزة في كرة واحدة لا يصلح للتعويل لجواز اتفاقها أي اتفاق تلك الأفلاك المتعددة التي عليها الثوابت في الحركة سرعة و بطءا وجهة فلا يتغير بتلك الحركات نسبها وأوضاعها ثم لم لا يجوز أن يكون بعضها أي بعض الثوابت على أفلاك تحت الأفلاك السيارة فلا يصح ما ذكروه من (2/403)
الترتيب وحكاية الكسف أي كسف السيارات للثوابت على ما ذكروه غير مسلم وإن سلم ففيما يقع من الثوابت في مداراتها أي محاذيا لمدارات السيارات حتى يتصور كونها كاسفة لها حاجبة لنا عن رؤيتها فيعلم كون السيارات تحتها فكيف السبيل إلى الجزم في غيرها أي في الثوابت القريبة من القطبين إذ لا يتصور هناك كسف فلا يعلم أنها تحت السيارات أو فوقها ولا يمكن التمسك في ذلك باختلاف المنظر وعدمه إما بالقياس إلى العلوية فظاهر وإما بالقياس إلى غيرها فلأن من الثوابت ما ليست مرصودة لصغرها فلا يعلم أن لها اختلاف منظر أو لا
المقصد الثاني في المحدد
المتن
قالوا الجهة منتهى الإشارة ومقصد المتحرك بالحصول فيه فهي موجودة لامتناع أن يكون العدم المحض كذلك لا يقال الجسم يتحرك من البياض الموجود إلى السواد المعدوم لأنا نقول لا بالحصول فيه بل بتحصيله والضرورة تحكم بوجود ما يراد الحصول فيه وعدم ما يراد تحصيله ولا شك أنها شيء ذو وضع لأن المفارق تمتنع الإشارة إليه والحصول فيه وأنها لا تنقسم وإلا فالجهة أحد جزئيها فإنا إذا فرضنا الإشارة أو الحركة أيفعت إلى جزئها الأقرب فإن انتهت فهو الجهة دون ما وراءه وإلا فالجهة ما وراءه دونه فهي نهايات وحدود وإلا لكانت متحيزا بالاستقلال فكان منقسما وأيضا فلو لم تكن حدودا فإما الخلاء وأنه محال أو الملأ المتشابه فلا يكون أحد جزئية مطلوبا بالطبع والآخر متروكا بالطبع وقد علمت أن الجهات على كثرتها اعتبارية ما عدا العلو والسفل فإنهما (2/404)
جهتان حقيقتان فإذا لا بد من جسم يحددهما ويكون كرويا ليتحدد القرب بمحيطه وهو العلو والبعد بمركزه وهو السفل لأن غير الكروي لا يحدد إلا القرب منه وأما البعد منه فغير محدود ويكون واحدا وإلا فإما أن يحيط بعضها ببعض فيكون المحيط هو النهاية ويكون كافيا لتحدد الجهتين به أو لا يحيط بل يكون كل منهما في جهة من الآخر فتكون الجهة متحددة قبلهما لأيهما والمفروض خلافه فقد ثبت وجود كرة بها تتحدد الجهات محيطة بالكل وهو المطلوب
ثم له أحكام منها أنه بسيط وإلا جاز انحلاله واللازم باطل أما اللزومية فلأن البسيط يمكنه أن يلاقي بأحد طرفيه ما يلاقيه بالآخر لتساويهما وأما بطلان اللازم فلأن ذلك لا يكون إلا بالحركة المستقيمة وهي لا يتكون إلا من جهة إلى جهة فتكون الجمعة متحددة قبله لا به هذا خلف ومنها أنه شفاف وكذلك سائر الأفلاك لانها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها
واعلم أن هذا لا يتمشى في المحدد إذ ليس له وراء إلا أن يقال لو كان ملونا لوجب رؤيته فنقول ولم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة المرئية لونه لا يقال ذلك أمر يحس به في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر لأنا نقول قد تكون لونا حقيقيا وما الدليل على أنه لا يحدث إلا بذلك الطريق التخيلي
ومنها أنه لا ثقيل ولا خفيف لأنهما مبدأ الميل الصاعد والهابط وهما بالاستقامة فيقتضي تحدد الجهة قبل ولا يعم الأفلاك والحجة العامة أنها متحركة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ففيها مبدأ ميل مستدير فلا يكون فيها مبدأ ميل مستقيم لتنافيهما وقد يمنع التنافي إذ قد يجتمعان ويحصل (2/405)
باجتماعهما حركة مركبة كالدحرجة وكما في العجلة وليست حركة الاستدارة صارفة ومنها أنه لا حار ولا بارد
قال ابن سينا لتلازم الثقل مع البرودة والخفة مع الحرارة ولمانع بأن يمنع التلازم مطلقا بل في العناصر فإن قال الحرارة علة الخفة فيمتنع التخلف قلنا قد يتخلف الأثر لعدم القابل كالحركة فإنها توجب الحرارة والأفلاك متحركة وغير حارة لأنها مادتها غير قابلة
وقال الإمام الرازي لو كانت هي حارة لكانت في غاية الحرارة لوجود الفاعل والقابل من غير عائق والتالي باطل وإلا كان الأقرب أسخن كرؤوس الجبال الشامخة ولاستحالة أن تسخن الشمس وحدها دون السموات مع أنها أضعاف أضعافها قلنا مراتب السخونة مختلفة بالنوع فربما لا تقبل مادة الفلك إلا مرتبة ما ضعيفة ثم أثر التسخين قد لا يصل إلينا وهو منقوض بتسخين الشمس والقياس عليها ضعيف لأنها لا تسخن بل أشعتها ولذلك إذا انعكست أحرقت كما في المرايا المحرقة وما ذكره منقوض بكرة النار لثبوتها عندهم ومنها أنه لا رطب ولا يابس لأن الرطوبة سهولة قبول التشكل وتركه واليبوسة عسره ولا يتصور ذلك إلا بالحركة المستقيمة ومنها أنه لا يقبل الكون والفساد لأن كل جسم له حيز طبيعي فللصورتين الكائنة والفاسدة لكل حيز طبيعي فإن اتحد حيزهما كان لجسمين حيز واحد طبيعي وأنه محال لأنهما لا يحصلان فيه لامتناع التداخل فلا بد من خروج الجسمين أو أحدهما عنه وهو بالحركة المستقيمة
والجواب أن الصورتين قد يقتضيان حيزا واحدا إذ قولك لأنهما لا يحصلان فيه إلى آخره فرع اجتماع الصورتين وأنه محالد بل تعدم واحدة عندما توجد الأخرى ومما يحققه أن الصورتين مع اختلافهما لا يمتنع اشتركهما في لازم واحد وهو اقتضاء ذلك الحيز ومنها أنه لا يتحرك في (2/406)
الكم أما محدبه فإذا لو ازداد لكان ثمة مكان خال ينتقل إليه وقد علمت أن ما وراء عدم محض ولو انتقض لزم خلو مكانه إذ ليس ثمة شيء ينتقل إليه بدله وأما مقعره فلأنه مثل المحدب للبساطة فيمتنع عليه ما يمتنع على المحدب لأن حكم الشيء حكم مثله فكذا محدب المحوى لعدم المكان وامتناع الخلاء فكذا مقعره إلى أن يستوعب الأفلاك ولا يخفى عليك أن امتناع حركة المحدب ليس له لذاته فلا يجب مشاركة المقعر له وأنه لا يتأتى في سائر الأفلاك وأما على رأينا فالمنع ظاهر لجواز الخلاء ولجواز خلق الله تعالى جسما في مكانه ومنها أن فيه مبدأ ميل مستدير لأن أجزاءه متساوية للبساطة فلا يكون اختصاص البعض بحيزه دون الآخر أولى من عكسه فإما أن لا يحصل كل جزء في حيز ما وأنه محال أو يحصل الكل في الكل إما معا وأنه محال وإما بدلا وذلك يقتضي كونه متحركا بالاستدارة والإشكال عليه أنه بناء على البساطة ولم تثبت لغير المحدد من الأفلاك وإن سلم فإما أن يتحرك إلى جميع الجهات وأنه محال أو إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وأيضا فلا بد من قطبين ساكنين ودوائر ترسمها الأجزاء حولهما بحركات مختلفة بالسرعة والبطء مع استواء جميع النقط فيه وصلاحيتها للقطبية وأنه ترجيح بلا مرجح ولا يمكن إسناد ذلك إلى موجب بالذات لأنه لا تخصيص إلا لمرجح معد للقابل ونسبته إلى جميع الأجزاء سواء بل إلى مختار وإذا وجب الرجوع بالآخرة إلى فعل المختار فليعترفوا به أولا فإنه يخفف عنهم كثيرا من المؤنات ومنها أنه ليس فيه مبدأ ميل مستقيم لمنافاته للميل المستدير وقد عرفت ما فيه ومنها أنه قيل هو المتحرك بالحركة اليومية وهو المحرك لجميع الأفلاك معه في اليوم بليلته دورة تامة تقريبا وهو الفلك الأعظم وحركته تسمى الحركة الأولى قطباها قطبا العالم ومنطقته (2/407)
تسمى معدل النهار لسبب ستقف عليه وهي حيث لجميع الكواكب فيه طلوع وغروب تكون ملازمة لسمت الرأس بخلاف الشمس فإنها تميل هناك تارة إلى الشمال متباعدة عن سمت الرأس قليلا قليلا إلى غاية ما ثم ترجع متقاربة إليه قليلا قليلا حتى تسامت ثم تميل إلى الجنوب كذلك هكذا دائما فعلم أن مدار الشمس مائل عن معدل النهار ليس في سطحه والشمس إذا قارنت كوكبا ما من الثابتة خلفته إلى المغرب فعلم أن لها حركة إلى المشرق أسرع من حركة الثوابت بها تدرك الثوابت التي تكون في جهة المشرق منها ثم تتجاوزها مخلفة إياها إلى المغرب وتفرض دائرة موازية لمدارها في الفلك الأعظم قاطعة لجميع ما تحتها كأنها مدار الشمس انبسطت وتسمى منطقة البروج وفلك البروج ومنطقة الحركة الثانية وأنها تقطع معدل النهار بنصفين وكذلك كل دائرتين عظيمتين تفرضان في كرة والتقاطع يكون على نقطتين مشتركتين وتسميان نقطتي الاعتدال فما تتجاوزه الشمس إلى الشمال هو الاعتدال الربيعي وما تتجاوزه إلى الجنوب هو الاعتدال الخريفي ويفرض على منتصفها في كل جانب نقطة وهو حيث تكون غاية البعد بين المنطقتين تسميان نقطتي الانقلابين فالتي في طرف الشمال الانقلاب الصيفي والتي في طرف الجنوب الانقلاب الشتوي وبهذا النقط الأربع تنقسم منطقة البروج أربعة أقسام متساوية ثم قسموا كل قسم ثلاثة أقسام متساوية فيكون المجموع اثني عشر قسما يفصل بين كل قسمين نصف دائرة فيحيط بها ست دوائر وسموا كل قسم برجا ثم قسموا كل برج ثلاثين قسما سواء وسموها درجا وقسموا كل درجة ستين قسما سواء وسموها دقائق والدقائق ستين قسما وسموها ثواني وهكذا ثوالث وروابع فما زاد وأخذوا أسماء البروج من صور تخيلوها من كواكب كانت موازية لها حين التسمية (2/408)
وأنها تزول بالحركة البطيئة التي للثوابت والأسماء بحالها فإن البروج أقسام للفلك التاسع وابتدأوا بما يلي الاعتدال الربيعي من جانب الشمال إلى أن يتم الدور بما يليه من جانب الجنوب فصارت ثلاثة منها بين نقطتي الاعتدال الربيعي والانقلاب الصيفي هي الحمل والثور والجوزاء وتسمى بروجا ربيعية لأن الربيع عبارة عن زمان كون الشمس فيها وثلاثة بين الإنقلاب الصيفي والاعتدال الخريفي هي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى بروجا صيفية لمثل مامر وثلاثة بين الاعتدال الخريفي والانقلاب الشتوي هي الميزان والعقرب والقوس وتسمى بروجا خريفية وثلاثة بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي وهي الجدي والدلو والحوت وتسمى بروجا شتوية وهذا الترتيب يسمى التوالي وهو من المغرب إلى المشرق وعكسه يسمى خلاف التوالي وهو من المشرق إلى المغرب ثم توهموا دائرة مارة بالأقطاب الأربعة أعني قطبي معدل النهار وقطبي فلك البروج وسموها بهذا الاسم ولا بد أن تمر بغاية البعد بين المنطقتين فمن المعدل بالانقلابين ومن المنطقة بنظيريهما وقطبا هذه الدائرة الاعتدالان إذا يجب أن يقعا في الدائرتين فإنها مقاطعة لهما على قوائم وكل دائرة تقاطع أخرى على قوائم فيكون قطب كل نقطة من الأخرى والواقع فيهما هو موضع تقاطعهما وهما الاعتدالان وتوهموا دائرة أخرى تمر بقطبي معدل النهار وجزء ما من منطقة البروج أو بكوكب وسميت دائرة الميل والقوس الواقعة من هذه الدائرة بين المعدل وبين ذلك الجزء من المنطقة ميل ذلك الجزء والواقعة بينه وبين الكوكب بعده وتوهموا دائرة أخرى مارة بقطبي منقطة البروج وبجزء ما من معدل النهار أو بكوكب ما وسموها دائرة العرض والقوس (2/409)
الواقعة منها بين المنطقة وبين ذلك الجزء أو ذلك الكوكب عرض ذلك الجزء أو الكوكب فهي خمس دوائر توهموها لا بالنسبة إلى السفليات ثلاثة متحدة بالشخص هي معدل النهار والمنطقة والمارة بالأقطاب الأربعة وثنتان متحدتان بالنوع لا يتناهى أشخاصهما وهما دائرتا الميل والعرض وكل واحد منهما قد تنطبق بالمارة بالأقطاب إذا كان الكوكب أو الجزء عليها وتوهموا خمس دوائر أخر بالنسبة إلى السفليات إحداها الدائرة الفاصلة بين النصف الظاهر والنصف الخفي من الفلك وتسمى دائرة الأفق وتختلف بحسب البقاع وقطباها سمت الرأس والقدم وأربعة تمر بقطبيها فالثانية تمر بقطبي الأفق وبقطبي معدل النهار وهي دائرة وسط السماء وتفصل بين الصاعد والهابط من الفلك وبين النصف الشرقي والغربي منه وقطباها نقطتا المشرق والمغرب من الأفق والثالثة تمر بقطبي الأفق وبقطبي هذه أعني وسط السماء وتسمى دائرة أول السموات وتفصل بين النصف الشمالي والنصف الجنوبي من الفلك وقطباها نقطتا الشمال والجنوبي من الأفق والرابعة تمر بقطبي الأفق وبقطبي المنطقة وتسمى دائرة السمت وعرض إقليم الرؤية ووسط سماء الرؤية لأنها تفصل بين نصفي فلك الثوابت وفيه كواكب مرئية والخامسة تمر بقطبي الأفق وبكوكب ما وتسمى دائرة الارتفاع إذ قوس منها بين الأفق وبين الكوكب من جانب المشرق ارتفاعه ومن جانب المغرب إغطاطه وهذه الدائرة عند غاية ارتفاع الكوكب تنطبق بدائرة وسط السماء إن لم يكن على دائرة أول السموت وعليها إن كان عليها وهذه الدوائر ثلاث منها لا تتغير في كل بقعة وهي دائرة الأفق ووسط السماء وأول السموت وثنتان منها تتخيران آنا فآنا وهي دائرة الارتفاع بحركة الكواكب ودائرة وسط سماء الرؤية بحركة قطبي منطقة البروج بتحريك المعدل لهما بالحركة اليومية فهذه أمور موهومة ولا وجود لها في الخارج ولا حجر في مثلها ولا تتعلق باعتقاد ولا يتوجه نحوها إثبات وإبطال إلا أنا أوردناها لتقف على مقصدهم وإذا رأيته محض تخيلات أوهن من بيت العنكبوت لم يهلك سماع هذه الألفاظ ذوات القعاقع (2/410)
الشرح
المقصد الثاني في المحدد أي في إثبات جسم يحدد الجهات ويعين وضعها وفي بيان أحكامه قالوا أي الحكماء الجهة منتهى الإشارة الحسية ومقصد المتحرك الأيني بالحصول فيه أي بالقرب منه والحصول عنده وذلك أن العقلاء يشيرون إشارة حسية إلى الجهات ويقولون تحرك كذا في جهة كذا فقد تعلق الإشارة الحسية بالجهة وصارت أيضا مقصدا للحركة المستقيمة فهي موجودة لامتناع أن يكون العدم المحض كذلك أي متعلق الإشارة الحسية ومقصد المتحرك بالوصول إليه أو القرب منه لا يقال الجسم يتحرك في الكيف من البياض الموجود إلى السواد المعدوم فقد جاز أن يكون المعدوم مقصدا المتحرك فلا يمكن الاستدلال على وجود الجهة بكونها مقصدا للحركة وأيضا الإشارة الحسية امتداد موهوم فلا يكون منتهاها موجودا لأنا نقول في الجواب عن الأول إن السواد المعدوم مقصد المتحرك ولكن لا بالحصول فيه أو بالقرب منه بل بتحصيله بهذه الحركة والضرورة العقلية تحكم بوجود ما يراد بالحركة الحصول فيه وعدم ما يراد بالحركة تحصيله أي تحكم بأنه يجب أن يكون الأول موجودا حال الحركة لامتناع أن يطلب بها القرب من المعدوم والثاني يجب أن يكون حال الحركة معدوما لاستحالة تحصيل الحاصل وفي الجواب عن الثاني أن الإشارة الحسية وإن كانت امتدادا موهوما لكنا نعلم بالضرورة أن منتهى هذا الامتداد مشار إليه وموجود في الخارج ولا شك في أنها أي الجهة شيء ذو وضع أي مادي لا مجرد لأن المفارق المجرد عن المادة تمتنع الإشارة الحسية إليه ويمتنع أيضا الحصول فيه أي حصول (2/411)
الجسم في المفارق والوصول إلى القرب منه ولا شك أيضا في أنها أي الجهة لا تنقسم في مأخذ الإشارة وامتداد الحركة وإلا أي وإن انقسمت في ذلك المأخذ والامتداد فالجهة أحد جزئيها لا هي بتمامها فإنا إذا فرضنا الإشارة أو الحركة اتفقت أي وصلت إلى جزئها الأقرب فإن انتهت هناك الإشارة أو الحركة إلى تلك الجهة فهو أي ذلك الجزء الأقرب وحده هو الجهة دون ما وراءه أي لا مدخل له في تلك الجهة وإلا أي وإن لم تنته هناك الإشارة أو الحركة إلى تلك الجهة فالجهة ما وراءه دونه
فإن قيل ليس يلزم من عدم الانتهاء عند الجزء الأقرب أن لا يكون هو جزءا من الجهة لجواز أن تكون تلك الإشارة أو الحركة الباقية في الجهة لا إليها أجيب بأن هذا ينافي ماهية الجهة لأنها ما إليها الإشارة والحركة فلو كانتا في الجهة كانت الجهة مسافة لا جهة وأنه محال وإذا ثبت أن الجهة موجودة في الخارج وأنها ذات وضع وغير منقسمة في امتداد الإشارة واستقامة الحركة فهي أي الجهة نهايات وحدود أي أطراف هي أعراض قائمة بالأجسام لأنها إن لم تنقسم أصلا كانت نقطا وإن انقسمت في امتداد واحد كانت خطوطا أو في امتدادين كانت سطوحا وإلا أي وإن لم تكن نهايات وأطرافا بل كانت أجساما لكانت الجهة أمرا متحيزا بالاستقلال فكان منقسما في الامتدادات كلها لما مر من امتناع الجزء الذي لا يتجزأ وما في حكمه وقد بان بطلانه بما عرفت من استحالة انقسامها في مأخذ الإشارة وامتداد الحركة وأيضا فلو لم تكن الجهة حدودا مختلفة الحقائق قائمة بأجسام متناهية فأما الخلاء أي فهي إما في الخلاء الذي هو (2/412)
البعد الموجود أو الموهوم وأنه أي الخلاء بكلا معنييه محال فكيف يتصور وجود الجهة فيه أو الملأ المتشابه أي أو هي في الملأ الذي لا يوجد فيه حدود مختلفة الحقائق وهو الجسم الذي لا يتناهى فلا يكون هناك جهات متخالفة الماهية إذ لا يكون أحد جزئيه أي جزئي الملأ متشابه مطلوبا بالطبع والآخر متروكا بالطبع لأنهما متشابهان في الماهية وكذلك الحدود المفروضة فيه لا تكون جهات موجودة متخالفة فلا يتصور طلب بعض الأجسام بالطبع لبعضها وهربه عن بعض آخر منها وقد علمت في مباحث الاعتمادات أن الجهات على كثرتها اعتبارية متبدلة بحسب الأحوال المتغيرة فلا تدخل تحت الضبط ما عدا العلو والسفل فإنهما جهتان حقيقيتان لا تتبدلان أصلا وإحداهما في غاية البعد عن الأخرى فإذن لا بد من جسم يحددهما ويعين وضعهما ويكون ذلك الجسم المحدد كرويا ليتحدد القرب بمحيطه وهو العلو ويتحدد البعد بمركزه وهو السفل لأن المركز هو أبعد نقطة عن المحيط بحيث يستحيل أن يفرض في داخله ما هو أبعد منها لأن غير الكروي من الأجسام لا يحدد إلا القرب منه وأما البعد منه فغير محدود لا به وهو ظاهر ولا بغيره من أجسام أخر إذ يمكن فرضه بحيث يكون البعد أكثر فلا ينضبط بهما جهتان إحداهما في غاية البعد عن الأخرى ويكون ذلك الجسم المحدد الكروي واحدا وإلا فإما أن يحيط بعضها ببعض فيكون المحيط هو النهاية الحقيقية التي تنتهي الإشارات الحسية بسطحه الأعلى وقد يكون هو وحده كافيا لتحدد الجهتين به باعتبار مركزه ومحيطه فيكون المحاط حينئذ حشوا لا مدخل له في تحديد الجهة أصلا فظهر فساد ما قيل من أن فلك القمر يحدد جهات الأقسام القابلة (2/413)
للحركة المستقيمة أو لا يحيط بعضها ببعض بل يكون كل منهما خارجا واقعا في جهة من الآخر فتكون الجهة متحدة قبلهما حتى يمكن وقوعهما فيها لا متحددة بهما والمفروض خلافه وأيضا فلا يتحدد بشيء منهما إلا جهة القرب دون البعد كما مر فإن البعد عن الجسم إذا كان خارجا عنه فالبعد عنه إلى أين فقد ثبت بما قررناه وجود كرة بها تتحدد الجهات الحقيقية محيطة بالكل أي بجميع الأجسام ليكون سطحه الأعلى منتهى الإشارات وجهة الفوق ومركزه الذي يتساوى بعده عنه وتنتهي به الإشارة النازلة عنه جهة التحت وهو المطلوب ثم له أي للمحدد أحكام منها أنه بسيط لا مركب من بسائط متعددة وإلا جاز انحلاله واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملزومية فلأن المحدد إذا كان مركبا من بسائط متعددة كان كل واحد من أجزائه ملاقيا بأحد جانبيه شيئا غير ما يلاقيه بجانبه الآخر ولا شك أن البسيط يمكنه أن يلاقي بأحد طرفيه ما يلاقيه بالآخر لتساويهما أي تساوي الطرفين في الماهية فإذا لاقى أحدهما شيئا جاز أن يلاقيه الآخر وذلك إنما يتصور بالانحلال وأما بطلان اللازم فلأن ذلك أي الانحلال لا يكون إلا بالحركة المستقيمة وتباعد بعض الأجزاء عن بعض وقد يقال جاز أن تكون الملاقاة بالحركة المستديرة فلا يلزم الانحلال المستلزم للحركة المستقيمة وهي أعني الحركة المستقيمة لا تكون إلا من جهة إلى جهة أخرى فتكون الجهة متحددة قبله أي قبل المحدد حتى يمكن حركة أجزائه إليها لا متحددة به هذا خلف ومنها أي ومن أحكام المحدد أنه شفاف لا لون له وكذلك سائر الأفلاك شفافه غير ملونة وذلك لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك (2/414)
قال الإمام الرازي لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان فلئن قيل فيهما حجب عن الأبصار الكامل قلنا وكيف عرفتم أنكم أدركتم هذه الكواكب إدراكا تاما واعلم أن هذا الذي ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس له وراء حتى يرى ولا في فلك الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي إلا أن يقال لو كان المحدد أو فلك الثوابت ملونا لوجب رؤيته فنقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا ولم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه لا يقال ذلك أي لون الزرقة أمر يحس به في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لأنا نقول الزرقة قد تكون لونا متخيلا كما ذكرتم وقد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجسام وأما الدليل القائم على أنه لا يحدث إلا بذلك الطريق التخيلي أي لا دليل على ذلك فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين ومنها أنه أعني المحدد لا ثقيل ولا خفيف لأنهما أي الخفة والثقل مبدأ الميل الصاعد والهابط أو نفس هذين الميلين على اختلاف التفسيرين وهما يصححان حركة محلهما بالاستقامة فيقتضي وجود الثقل أو الخفة في المحدد جواز الحركة المستقيمة عليه وذلك يستلزم تحدد الجهة قبل أي قبله لا به وهذا الدليل لابتنائه على تحديد الجهة يختص بالمحدد ولا يعم الأفلاك الباقية والحجة العامة للكل أنها متحركة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ففيها مبدأ ميل مستدير بل ميل مستدير أيضا لأنه المقتضى القريب للحركة المستديرة فلا يكون فيهما مبدأ ميل مستقيم لتنافيهما أي تنافي المبدأين باعتبار تنافي الميلين لأن الميل المستقيم يقتضي توجه الجسم إلى جهة والمستدير يقتضي صرفه عنها وقد يمنع التنافي بين الميلين إذ قد يجتمعان في جسم واحد ويحصل باجتماعهما (2/415)
فيه حركة مركبة كالدحرجة في الكرة وكما في العجلة فإنها تتحرك على الاستقامة والاستدارة معا وليست حركة الاستدارة صارفة عن الجهة بل هي غير مقتضية للتوجه إليها وإن سلم التنافي بين الميلين فلا تنافي بين المبدأين ولا بين أحدهما ومبدأ الآخر فإن الحجر المرمي إلى فوق فيه مبدأ الميل الهابط مع الميل الصاعد ومبدأه كما مر ومنها أنه أي المحدد وكذا غير من الأفلاك لا حار ولا بارد قال ابن سينا وذلك لتلازم الثقل مع البرودة فإن المادة إذا اشتد بردها ثقلت وإذا ثقلت بردت وتلازم الخفة مع الحرارة فإن المادة إذا أمعن فيها التسخين خفت وإذا خفت سخنت فحيث لا ثقل ولا خفة فلا برودة ولا حرارة وقد وقع في بعض النسخ لفظ اليبوسة بدل الحرارة وهو سهو من القلم ولمانع أن يمنع التلازم بين الثقل والبرودة وبين الخفة والحرارة مطلقا بل ذلك التلازم في العناصر فقط دون الأفلاك فجاز أن يكون فيها حرارة أو برودة بلا خفة وثقل فإن قال ابن سينا الحرارة علة الخفة كما أن البرودة علة الثقل فيمتنع التخلف فلو وجدنا في الأفلاك لترتب المعلولان عليهما قلنا قد يتخلف الأثر عن العلة الفاعلية لعدم القابل كالحركة فإنها توجب الحرارة في العناصر القابلة لها والأفلاك متحركة وغير حارة لأن مادتها غير قابلة للحرارة عندكم فيجوز أن تتخلف الخفة والثقل عن الحرارة والبرودة لأن مادة الفلك لا تقبلهما وإن كانتا مقتضيتين لهما
وقال الإمام الرازي في المباحث المشرقية المعتمد في أن الفلك ليس بحار ولا بارد أن يقال لو كانت هي أي الأفلاك حارة لكانت في غاية الحرارة لوجود الفاعل الذي هو طبيعة الفلك والقابل الذي هو مادته (2/416)
من غير عائق هناك لكونها بسيطة والتالي باطل وإلا كان الأقرب من الفلك أسخن كرؤوس الجبال الشامخة ولاستحالة أي التالي باطل لما ذكر ولاستحالة أن تسخن الشمس وحدها حال طلوعها دون السموات التي هي في غاية الحرارة مع أنها أعني السموات أضعاف أضعافها إذ هي فيها كقطرة في بحر لجي قلنا في الجواب عن هذا المعتمد مراتب السخونة مختلفة بالنوع فربما لا تقبل مادة الفلك إلا مرتبة ما ضعيفة من الحرارة فلا تؤثر حرارته في عالمنا هذا ثم إن سلمنا قوة حرارتها قلنا أثر التسخين منها قد لا يصل إلينا لأن الطبقة الزمهريرية مانعة له وهو أي الدليل المذكور منقوض بتسخين الشمس فإنها حارة يصل أثر تسخينها إلى العناصر كما اعترف المستدل به مع أن الأقرب منها ليس أسخن ثم اعترض المصنف على المعتمد اعتراضا رابعا وهو قوله والقياس عليها أي قياس الأفلاك على تقدير كونها حارة على الشمس في التسخين ضعيف لأنها لا تسخن بل أشعتها هي المسخنة إذا انعكست من سطوح الأجسام الكثيفة ولذلك إذا انعكست أشعتها من أمور ثقيلة جدا أحرقت الأشياء المنعكس إليها كما في المرايا المحرقة وليس للأفلاك الحارة بالفرض أشعة تقتضي تسخينا واعتراضا خامسا أعني قوله وما ذكره منقوض بكرة النار لثبوتها عندهم وإحاطتها بسائر العناصر فلو صح الدليل المعتمد لزم أن لا تكون كرة النار حارة وقد يقال الطبقة الزمهريرية تقاومها ولا يتصور مقاومتها للأفلاك المتسخنة جدا إذ لا قدر لها بالقياس إليها كما لا يخفى ومنها أنه لا رطب ولا يابس لأن الرطوبة سهولة قبول التشكل بالأشكال الغريبة وتركه بل هي كيفية مقتضية لهذه السهولة واليبوسة عسره أي كيفية مقتضية لعسر القبول والترك ولا يتصور ذلك القبول والترك سواء كان بعسر أو يسر إلا بالحركة المستقيمة في أجزاء القابل فوجود الرطوبة أو اليبوسة (2/417)
في جسم يوجب صحة الحركة المستقيمة عليه وقد عرفت امتناعها على المحدد وسائر الأفلاك وإنما لم يجب عنه لأن فساده معلوم مما مر ومنها أنه لا يقبل الكون والفساد يعني أن مادة المحدد وغيره من الأفلاك لا يصح عليها أن تخلع صورة نوعية وتلبس أخرى بل يجب أن تكون دائما متصورة بالصورة النوعية التي هي فيها وذلك لأن كل جسم له حيز طبيعي كما مر فللصورتين الكائنة والفاسدة لكل منهما إذا حلت في المادة وصارت جسما مخصوصا حيز طبيعي فإن اتحد حيزهما الطبيعي كان لجسمين حيز واحد طبيعي وأنه محال لأنهما أي الجسمين اللذين أحد تحيزهما الطبيعي لا يحصلان معا فيه لامتناع التداخل بين الأجسام وإذا امتنع حصولها فيه معا فلا بد من خروج ذينك الجسمين أو أحدهما عنه أي عن ذلك المكان الواحد الطبيعي وهو أي الخروج عنه بالحركة المستقيمة إن كان بعد الحصول فيه وإن كان قبل الحصول فإذا خلي الجسم وطبيعته تحرك بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي فيلزم على التقديرين صحة الحركة المستقيمة على الفلك وإن تعدد حيزهما الطبيعي لزم أيضا صحة الحركة المستقيمة عليه وذلك لأن المادة إنما تلبس الصورة الكائنة حيث تخلع الصورة الفاسدة فإن كانت الفاسدة في مكانها جاز أن تتحرك الكائنة إلى مكان آخر طبيعي لها وإن كانت الفاسدة في مكان الكائنة جاز تحركها حين كانت باقية إلى مكان نفسها وإن كانت في مكان ثالث جازت الحركة المستقيمة على كل منهما
والجواب بعد تسليم ما مر من امتناع الحركة المستقيمة أن الصورتين أعني الكائنة والفاسدة قد تقتضيان حيزا واحدا وليس يلزم من (2/418)
ذلك صحة التداخل أو الحركة المستقيمة كما ذكرته إذ قولك لأنهما لا يحصلان فيه إلى آخره فرع اجتماع الصورتين في المادة الفلكية حتى يتحصل هناك جسمان يقتضيان مكانا واحدا فيقال حينئذ هما معا في ذلك المكان فيلزم التداخل أو ليس شيء منهما أو أحدهما فيه فيلزم صحة الحركة وأنه أي اجتماع الصورتين في المادة وتحصل جسمين منهما معا محال بل تعدم واحدة من الصورتين عندما توجد الأخرى منهما فلا يكون هناك إلا جسم واحد حاصل في ذلك المكان الطبيعي في المادة قبل الفساد كانت فيه مع الفاسدة ومعه وبعده مع الكائنة فلا يلزم شيء من المحذورين ومما يحققه أي يحقق ما ذكرناه من جواز اقتضاء الصورتين حيزا واحدا أن الصورتين مع اختلافهما في الماهية النوعية لا يمتنع اشتراكهما في لازم واحد وهو اقتضاء ذلك الحيز فإن الحقائق المختلفة يجوز اشتراكها في اللوازم وإن فرض أن الصورتين متفقتان في الماهية كان ذلك الجواز أظهر ومنها أنه لا يتحرك في الكم أي لا يزداد مقدار المحدد أو غيره من الأفلاك لا بالنمو ولا بالتخلخل ولا ينتقص أيضا لا بالذبول ولا بالتكاثف أما محدبه فإذا لو ازداد لكان ثمة مكان خال ينتقل محدب المحدد إليه ويملأه ذلك الزائد وقد علمت أن ما وراءه عدم محض فلا يتصور هناك مكان خال ولو انتقص محدب المحدد لزم خلو مكانه إذ ليس ثمة شيء ينتقل إليه بدله ليشغله فيبقى خاليا وأما مقعره فلأنه مثل المحدب في الماهية للبسائط أي بساطة الفلك المحدد فيمتنع عليه ما يمتنع على المحدب من الازدياد والانتقاص لأن حكم الشيء حكم مثله فكذا محدب المحوى المماس لمقعر المحدد لا يزداد ولا ينتقص (2/419)
لعدم المكان فلا يتصور ازدياده وامتناع الخلاء فلا يتصور انتقاصه فكذا مقعره المساوي لمحدبه وهكذا مسوق الكلام إلى أن يستوعب الأفلاك ولا يخفى عليك أن امتناع حركة المحدب أي محدب المحدد بالزيادة أو النقصان ليس له لذاته حتى يجب مشاركة مقعره له في ذلك بل لأنه ليس وراءه مكان ولا شيء يملأ مكانه فلا يجب حينئذ مشاركة مقعره له في امتناع الحركة بل يجوز أن يزداد مقعره وينتقص محدب المحوى بمقدار ازدياده وأن ينتقص ويزداد محدب المحوى بحيث يملأ مكانه ولا يخفى أيضا أنه أي لدليل المذكور لا يتأتى في سائر الأفلاك لابتنائه على البساطة ولم تثبت إلا في المحدد فلو امتنع ازدياد محدب الثامن وانتقاصه مثلا لم يلزم مثل ذلك في مقعره لجواز تركبه من بسائط مختلفة الحقائق والأحكام
فإن قلت يلزم من ازدياد مقعره التداخل ومن انتقاصه الخلاء
قلت هذا اللزوم ممنوع لجواز انتقاص محدب السابع وازدياده وهذا الذي أوردناه من الاعتراض إنما هو على رأيهم وأما على رأينا فالمنع على دليلهم ظاهر لجواز الخلاء وراء العالم بل مطلقا فيجوز إزدياد محدب الفلك الحاوي للكل إذ هناك مكان يشغله ويجوز انتقاصه وخلو مكانه وعلى تقدير امتناع الخلاء نقول لجواز خلق الله تعالى جسما في مكانه على تقدير انتقاصه فلا يلزم خلاء ومنها أن فيه أي في المحدد وكذا في سائر الأفلاك مبدأ ميل مستدير اعلم أن أصحاب الأرصاد لما رأوا حركة الكواكب واعتقدوا أن تلك الحركة لا يجوز أن تكون للكواكب أنفسها حكموا بأن الأفلاك متحركة على الاستدارة وأن فيها مبدأ ميل مستدير قصعا كما مرت إليه الإشارة وكان ذلك طريقا آنيا وأما الطبيعيون فإنهم ذكروا طريقا لميا فقالوا في الفلك مبدأ ميل مستدير لأن أجزاءه المفروضة فيه متساوية في تمام الماهية للبساطة الموجبة لذلك التساوي فلا يكون اختصاص البعض من تلك الأجزاء بحيزه المعين دون الآخر أي دون الحيز الآخر الذي فيه البعض الآخر أولى من (2/420)
عكسه وكذا الكلام في وضعه المخصوص مقيسا إلى الوضع الآخر الذي عليه البعض الآخر والحاصل أن نسبة كل جزء إلى جمع أحياز الأجزاء وأوضاعها على السواء وحينئذ فإما أن لا يحصل كل جزء أي شيء من الأجزاء في حيز ما من تلك الأحياز ولا على وضع ما من تلك الأوضاع وأنه محال أو يحصل الكل في الكل أي كل جزء من الأجزاء في كل واحد من الأحياز وعلى كل واحد من الأوضاع إما معا وأنه محال لاستحالة أن يكون جزء واحد في حالة واحدة في أحياز متعددة وعلى أوضاع متقابلة وإما بدلا وذلك أي الحصول على سبيل البدل وهو أن ينتقل جزء إلى مكان جزء آخر ووضعه يقتضي كونه أي كون الفلك متحركا بالاستدارة ويستلزم أن يكون فيه مبدأ ميل مستدير وربما قالوا اختصاص كل جزء من الفلك بوضع وحيز معينين إما أن يكون واجبا أن جائزا لا سبيل إلى الأول لأن الأمور المتساوية في الماهية يستحيل أن يجب لبعضها ما لا يجب لبعض آخر منها فتعين الثاني وهو يقتضي صحة انتقال كل واحد من تلك الأجزاء إلى وضع الأخر وحيزه وذلك بالحركة المستديرة فهي على الفلك جائزة ففيه مبدأ ميل مستدير وإلا امتنعت حركة المستديرة وكل ما فيه مبدأ ميل مستدير فهو متحرك على الاستدارة لوجوب وجود الأثر عند وجود المؤثر والإشكال عليه أي على الوجه الأول المذكور في الكتاب فإنه بناء على البساطة ولم تثبت البساطة بما ذكرتموه لغير المحدد من الأفلاك فيقصر دليلكم هنا عن مدعاكم (2/421)
وإن سلم ثبوت البساطة في الكل قلنا هي لا تقتضي الحركة بالاستدارة بل تقتضي عدمها لأن البسيط إذا تحرك كذلك فإما أن يتحرك إلى جميع الجهات أي الجوانب دفعة واحدة وأنه محال أو إلى بعضها دون بعض وأنه ترجيح بلا مرجح كما أن سكونه كذلك عندكم وأيضا إذا تحرك البسيط على الاستدارة فلا بد هناك من قطبين معينين ساكنين ومن دوائر مخصوصة متفاوتة جدا في الصغر والكبر ترسمها الأجزاء والنقط المفروضة فيما بينهما حولهما بحركات مختلفة اختلافا عظيما بالسرعة والبطء مع استواء جميع النقط المفروضة فيه أي في البسيط وصلاحيتها للقطبية والسكون ورسم الدائرة الصغيرة أو الكبيرة بالحركة البطيئة أو السريعة وأنه ترجيح بلا مرجح كما لا يخفى على ذي بصيرة فلا يمكن إسناد ذلك أي تعيين بعض النقط للقطبية وبعضها لرسم الدائرة إلى فاعل موجب بالذات لأنه لا تخصيص من الموجب إلا لمرجح معد للقابل فينتقل الكلام إليه وأيضا نسبته إلى جميع الأجزاء سواء فلا يتصور منه تخصيص وتعيين فيما بينها بل إلى مختار يفعل ما يشاء بمجرد إراداته من غير احتياج إلى داع مرجح كما مر وإذا وجب الرجوع بالآخرة إلى فعل المختار فليعترفوا به أو لا فإنه يخفف عنهم كثيرا من المؤنات التي تلزمهم لإثبات قواعدهم الحكمية خصوصا في أحكام الأفلاك فإن تلك المؤنات مبنية على كون الواجب موجبا بالذات
فإذا قيل إنه مختار سقطت وأما الإشكال على الوجه الثاني فهو أنه أيضا مبني على البساطة فيرد عليه ما ورد على الأول مع شيء زائد هو أن صحة الحركة المستديرة تستلزم صحة وجود مبدأ الميل المستدير لا وجوده بالفعل وأن وجود المؤثر قد يتخلف عنه الأثر لوجود المانع
ومنها أنه ليس فيه مبدأ ميل مستقيم لمنافاته للميل المستدير كما مر وقد عرفت ما فيه وهو أنه لا منافاة بينهما لاجتماعهما في الكرة المدحرجة والعجلة
ومنها أنه قيل هو أي المحدد وحده هو المتحرك بالحركة اليومية (2/422)
حركة ذاتية وهو المحرك لجميع الأفلاك الباقية معه على سبيل التبعية في اليوم بليلته دورة تامة تقريبا لا تحقيقا لأن دورته تتم قبل تمام اليوم بليلته بزمان قليل فإن الشمس إذا كانت محاذية لجزء من المحدد وتحرك ذلك الجزء نحو المغرب وتحركت الشمس بحركتها الخاصة نحو المشرق فإذا عاد ذلك الجزء إلى مكانه فقد تم الدور ولم تعد الشمس حينئذ بحركة الكل إلى محاذاة ذلك المكان لأنها قطعت قوسا نحو المشرق فإذا دار المحدد ريثما عادت الشمس إلى وضعها الأول فقد تم اليوم بليلته وهو الفلك الأعظم المحيط بجميع الأجسام لتحديده الجهات وحركته السريعة اليومية تسمى الحركة الأولى فإنها تشاهد أولا من حركات الأفلاك لأنها أظهرها إذ بها الليل والنهار وطلوع الكواكب وغروبها ولذلك لا تخفى على الحيوانات وكل كرة تحركت في مكانها على الإستدارة فلا بد لها من قطبين ساكنين ومن منطقة يكون حركتها أسرع فلذلك قال وقطباها أي قطبا هذه الحركة أو الكرة قطبا العالم لأن العالم الجسماني هو المحدد وما في ضمنه ومنطقته أعني أعظم دائرة تفرض في منتصف القطبين بحيث يتساوى بعدها عنهما تسمى معدل النهار لسبب ستقف عليه في مباحث الأرض وهي أي المنطقة المسماة بالمعدل حيث يكون لجميع الكواكب فيه طلوع وغروب ولا يكون هناك شيء منها أبدي الظهور ولا أبدي الخفاء تكون ملازمة لسمت الرأس مارة به وهو دويرة تامة من الأرض تسمى خط الاستواء كما ستعرفه بخلاف الشمس فإنها لا تلازم سمت الرأس في خط الاستواء بل تميل هناك تارة إلى الشمال متباعدة عن سمت الرأس في تلك المواضع قليلا قليلا إلى غاية ما ثم (2/423)
ترجع من تلك الغاية متقاربة إليه قليلا حتى تسامت ثم تميل إلى الجنوب كذلك أي متباعدة عن سمت الرأس إلى غاية ما مساوية للغاية الأولى ثم ترجع منها متقاربة إليه قليلا قليلا حتى تسامته هكذا حال دائما إذ تميل تارة أخرى إلى الشمال إلى تلك الغاية ثم ترجع وتميل إلى الجنوب وتعود أبدا إلى مثل الحالة الأولى فعلم من ذلك أن مدار الشمس مائل عن معدل النهار ليس واقعا في سطحه وإلا لم يمل عن المعدل شمالا وجنوبا والشمس إذا قارنت كوكبا ما من الكواكب الثابتة خلفته إلى المغرب فعلم من هذا أن لها حركة خاصة من المغرب إلى المشرق أسرع من حركة الثوابت يعني حركتها الخاصة كما ستعرفها بها تدرك الشمس الثوابت التي تكون في جهة المشرق منها ثم تتجاوزها مخلفة إياها إلى المغرب وتفرض دائرة موازية لمدارها في الفلك الأعظم قاطعة لجميع ما تحتها من الأفلاك وغيرها كأنها أي كأن تلك الدائرة الموازية القاطعة مدار الشمس التي يتحرك عليها مركزها انبسطت إلى سطح الفلك الأعلى وانقبضت إلى ما تحتها وتسمى الدائرة المذكورة منطقة البروج لمرورها بأوساط البروج وفلك البروج إطلاقا لاسم الفلك على الدائرة ومنطقة الحركة الثانية لأن منطقة الفلك الثامن المتحرك بالحركة الثانية في سطح هذه الدائرة وأنها أي الدائرة الموازية تقطع معدل النهار بنصفين على نقطتين متقابلتين لأنهما دائرتان عظيمتان وكذلك كل دائرتين عظيمتين تفرضان في كرة فإنه يجب تقاطعهما على التناصف لما بين في الأكر والتقاطع بين منطقة البروج ومعدل النهار يكون على نقطتين مشتركتين بينهما وتسميان نقطتي الاعتدال لاستواء الليل والنهار في جميع نواحي الأرض إذا حلت الشمس فيهما سوى موضعين هما تحت القطبين فما تتجاوزه الشمس من هاتين النقطتين إلى الشمال من المعدل هو الاعتدال (2/424)
الربيعي لأنه مبدأ الربيع في معظم المعمورة وما تتجاوزه إلى الجنوب من المعدل هو الاعتدال الخريفي لأنه مبدأه في معظم المعمورة أيضا ويفرض على منتصفها أي منتصف منطقة البروج فيما بين الاعتدالين في كل جانب من الشمال والجنوب نقطة وهي حيث تكون غاية البعد بين المنطقتين تسميان أي هاتان النقطتان المفروضتان على المنتصفين نقطتي الانقلابين فالتي في طرف الشمال من المعدل هي الانقلاب الصيفي لأن الشمس إذا حلت فيها إنقلب الزمان صيفا في أكثر المواضع المعمورة والتي في طرف الجنوب من المعدل هي الانقلاب الشتوي لانقلاب الزمان إلى الشتاء في تلك المواضع وبهذه النقط الأربع أعني الاعتدالين والانقلابين تنقسم منطقة البروج أربعة أقسام متساوية تكون مدة قطع الشمس واحدا منها فصلا من الفصول الأربعة التي للسنة في معظم المعمورة ثم قسموا كل قسم من الأقسام الأربعة ثلاثة أقسام متساوية فيكون المجموع أي مجموع منطقة البروج منقسما إلى اثني عشر قسما وتوهموا ست دوائر عظام تتقاطع على قطبي البروج وتمر كل واحدة منها برأسي قسمين متقابلين من تلك الأقسام وحينئذ يفصل بين كل قسمين منها نصف دائرة من تلك الدوائر فيحيط بها أي الأقسام كلها ست دوائر كما عرفت وسموا كل قسم من الاثني عشر برجا ثم قسموا كل برج ثلاثين قسما سواء وسموها درجا وقسموا كل درجة ستين قسما سواء وسموها دقائق وقسموا الدقائق أي كل واحدة منها ستين قسما متساوية وسموها ثواني وهكذا قسموا الثواني وسموها ثوالث وقسموا الثوالث وسموها روابع فما زاد مما يمكن اعتباره من الكسور وكما أن كل قطعة من منطقة البروج واقعة بين نصفي دائرتين تسمى برجا كذلك القطع الواقعة من سطح الفلك الأعلى بين أنصاف تلك الدوائر على هيئة جراب البطيخ تسمى بروجا فعلى هذا يكون طول كل (2/425)
برج فيما بين المغرب والمشرق ثلاثين درجة وعرضه مائة وثمانين درجة وأخذوا أسماء البروج الإثني عشر المشهورة من صور تخيلوها من وصل الخطوط بين كواكب من الثوابت كانت موازية لها حين التسمية وأنها أي تلك الصور المتخيلة تزول عن موازاة البروج بالحركة البطيئة التي للثوابت والأسماء بحالها فإن البروج أقسام للفلك التاسع ولا شك أن تلك الصور على الفلك الثامن فلا بد من خروجها عن الموازاة بحركته البطيئة فكان المناسب تغيير الأسماء إلا أنهم لم يغيروها كيلا يؤدي إلى الالتباس وابتدأوا في اعتبار البروج وافتتاح الدور بما يلي الاعتدال الربيعي من جانب الشمال لأن الشمس إذا وصلت إلى هذا الاعتدال ظهر في المركبات من أنواع النباتات نشوء ونماء وبدا فيها مبادئ الثمار فهو أولى بالاعتبار إلى أن يتم الدور بما يليه من جانب الجنوب فصارت ثلاثة منها أي من البروج بين نقطتي الاعتدال الربيعي والانقلاب الصيفي هي الحمل والثور والجوزاء وتسمى بروجا ربيعية لأن الربيع في معظم المعمورة عبارة عن زمان كون الشمس فيها وثلاثة منها بين الانقلاب الصيفي والاعتدال الخريفي هي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى بروجا صيفية لمثل ما مر وثلاثة منها بين الاعتدال الخريفي والانقلاب الشتوي هي الميزان والعقرب والقوس وتسمى بروجا خريفية وثلاثة منها بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي وهي الجدي والدلو والحوت وتسمى بروجا شتوية وهذا الترتيب الذي ذكرناه فيما بين البروج يسمى التوالي وهو من المغرب إلى المشرق وإنما اعتبروه كذلك إذ المقصود ضبط حركات الكواكب أعني حركاتها الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق وعكسه يسمى خلاف التوالي وهو من المشرق إلى المغرب ثم توهموا دائرة مارة بالأقطاب الأربعة أعني قطبي معدل النهار وقطبي فلك البروج وسموها بهذا الاسم ولا بد أن تمر (2/426)
هذه الدائرة بغاية البعد بين المنطقتين كما بين في الأكر فمن المعدل تمر بالانقلابين ومن المنطقة بنظيرهما والصحيح عكس ذلك لأن الانقلابين على منطقة البروج كما صرح به فنظيراهما على المعدل ولا يخفى عليك أن هذه الدائرة هي إحدى الدوائر الست المذكورة في قسمة البروج إلا أنها امتازت عن سائرها بمرورها بالأقطاب وغايتي البعدين فصارت بعد المنطقتين ثالثة للدوائر العظام وقطبا هذه الدائرة الاعتدالان إذ يجب أن يقعا أي قطباها في الدائرتين أي المنطقتين لأنها مقاطعة لهما على قوائم لمرورها بأقطابهما وكل دائرة تقاطع أخرى على قوائم فيكون قطب كل منهما نقطة من الأخرى فإذا قاطعت كذلك دائرتين كالمارة وجب أن يكون قطباها واقعين في كل منهما والواقع فيهما أي في منطقتي المعدل وفلك البروج وهو موضع تقاطعهما وهما الاعتدالان فيكونان قطبين للمارة بالأقطاب الأربعة وتوهموا دائرة أخرى من العظام تمر بقطبي معدل النهار وجزء ما من منطقة البروج أو بكوكب من الكواكب وسميت هذه الدائرة دائرة الميل إذ يعرف بها ميل أجزاء منطقة البروج عن المعدل الذي ينسب إليه الاستقامة كما قال والقوس الواقعة من هذه الدائرة بين المعدل وبين ذلك الجزء من المنطقة ميل ذلك الجزء عن المعدل وأعظم ميول أجزائها هو ميل الانقلابين والقوس الواقعة منها بينه أي بين المعدل وبين الكواكب يعني وبين طرف خط يخرج من مركز العالم إلى سطح الفلك الأعلى مارا بمركز الكواكب بعده أي بعد الكوكب عن المعدل وهذه الدائرة أعم مطلقا من الدائرة المارة بالأقطاب وتوهموا دائرة أخرى من العظام مارة بقطبي منطقة البروج وبجزء ما من أجزاء معدل النهار أيضا أو بكوكب ما وسموها دائرة العرض والقوس الواقعة منها بين المنطقة وبين ذلك الجزء من المعدل أو ذلك الكوكب عرض ذلك الجزء أو الكوكب أما إن تلك القوس هي (2/427)
عرض الكواكب عن منطقة البروج فصحيح بلا شبهة وأما كونها عرض ذلك الجزء من المعدل عنها ففيه أنه وإن كان صحيحا بحسب المعنى إلا أن الاستقامة كما أشرنا إليها منسوبة إلى المعدل فلا يقال أنه مائل عن منطقة البروج ولا يقال لأجزائه أنها ذوات ميول أو عروض عنها ومن ثمة تراهم يسمون تلك القوس عرض جزء من المنطقة عن المعدل ويسمونها أيضا الميل الثاني له عن المعدل وهذه الدائرة أيضا أعم مطلقا من المارة بالأقطاب فهي أي الدوائر المذكورة خمس دوائر عظام توهموها على الفلك لا بالنسبة إلى السفليات ثلاثة منها متحدة بالشخص هي معدل النهار والمنطقة والمارة بالأقطاب الأربعة أما وحدة الأوليين بالشخص فظاهرة وأما وحدة الثالثة كذلك فلما بين في الأكر من أنه يستحيل أن تتقاطع دائرتان عظيمتان على نقطتين بينهما أقل من نصف الدور فلا يتصور أن تمر دائرتان بالأقطاب الأربعة لأن البعد بين القطبين اللذين في جهة واحدة أقل من أربعة وعشرين جزءا فلا يجوز تقاطعهما عليهما وأما توهم الانطباق فيما بينهما ثم الافتراق فالتخيل الصحيح شاهد ببطلانه وثنتان منها متحدتان بالنوع لا يتناهى أشخاصهما وهما دائرتا الميل والعرض فإنهما يتحددان بحسب النقط المفروضة على منطقة البروج وسطح الفلك وتلك النقط غير متناهية لامتناع الجزء الذي لا يتجزأ وكل واحدة منهما قد تنطبق وتتحد بالمارة بالأقطاب وذلك إذا كان الكوكب الذي له بعد عن المعدل أو عرض عن المنطقة أو الجزء الذي له ميل أول أو ميل ثان واقعا عليها أي على المارة وقد نبهناك على أن المارة داخلة في كل واحد من إحدى دائرتي الميل والعرض وهموا على الفلك أيضا خمس دوائر أخر بالنسبة إلى السفليات إحداها الدائرة الفاصلة بين النصف الظاهر والنصف الخفي من (2/428)
الفلك وتسمى هذه الدائرة دائرة الأفق ولا شك أن الظهور والخفاء أمران بالإضافة إلى سكان بقعة من بقاع الأرض فيكون الأفق بملاحظة السفليات وتختلف بحسب اختلاف البقاع فإن كل بقعة على الأرض لها أفق على حدة وقطباها سمت الرأس والقدم في تلك البقعة وأربعة من هذه الخمس تمر بقطبيها أي بقطبي الأفق فتكون هي أيضا بملاحظة السفليات
فالثانية منها تمر بقطبي الأفق وبقطبي معدل النهار وهي دائرة وسط السماء وتسمى دائرة نصف النهار لأن منتصف النهار هو حين وصول الشمس إليها فوق الأفق كما أن منتصف الليل هو حين وصولها إليها تحته وتفصل هذه الدائرة بين الصاعد والهابط من الفلك وبين النصف الشرقي والغربي منه فإن الكوكب إذا طلع من الأفق يتزايد ارتفاعه شيئا فشيئا إلى أن يبلغ نصف النهار فهناك غاية ارتفاعه عن الأفق وإذا انحط منها يتناقص ارتفاعه إلى غروبه وإذا غرب ينحط عن الأفق متزايدا انحطاطه إلى أن يبلغ نصف النهار تحت الأرض فهناك غاية انحطاطه عنه ثم أنه يأخذ في التقارب منه متناقصا انحطاطه عنه إلى أن يبلغ الأفق من جهة الشرق ثانيا فمن غاية الانحطاط تحت الأفق إلى غاية الارتفاع فوقه على خلاف توالي البروج هو النصف الصاعد من الفلك بالقياس إلى الحركة الأولى ويسمى النصف الشرقي أيضا ومن غاية الارتفاع إلى غاية الانحطاط هو النصف لهابط منه والنصف الغربي أيضا وقطباها نقطتا المشرق والمغرب من الأفق أعني نقطتي تقاطعه مع المعدل وذلك لمرورها بأقطابهما فيما يمران بقطبيهما لما مر
والثالثة منها تمر بقطبي الأفق وتمر أيضا بقطبي هذه الدائرة (2/429)
أعني وسط السماء المسماة في المشهور بنصف النهار فتكون مارة بسمتي الرأس والقدم وبنقطتي المشرق والمغرب وتسمى هذه الدائرة الثالثة دائرة أول السموات لأن الكوكب إذا كان على هذه الدائرة لم يكن له سمت كما ستعرفه وتسمى أيضا دائرة المشرق والمغرب لمرورها بنقطتيهما وتفصل هذه الدائرة بين النصف الشمالي والنصف الجنوبي من الفلك وقطباها نقطتا الشمال والجنوب من الأفق أعني نقطتي تقاطعه مع نصف النهار
والرابعة من هذه الخمس تمر بقطبي الأفق وبقطبي المنطقة فتكون أبدا مقاطعة لهما على قوائم بخلاف نصف النهار فإنها قد تقطع المنطقة لا على زوايا قوائم وتسمى هذه الدائرة دائرة السمت ودائرة عرض إقليم الرؤية لأن القوس الواقعة منها بين الأفق وقطب منطقة البروج أو بين قطب الأفق ومنطقة البروج تسمى عرض إقليم الرؤية وتسمى أيضا دائرة وسط سماء الرؤية لأنها تفصل بين نصفي فلك الثوابت وفيه كواكب كثيرة مرئية فهو سماء الرؤية وهذه الدائرة في وسطها
والخامسة منها تمر بقطبي الأفق وبكوكب ما أي وبرأس خط خارج من مركز العالم إلى سطح الفلك مارا بمركزه وتسمى دائرة الاتفاع والانحطاط إذا قوس منها واقعة بين الأفق وبين الكوكب من جانب المشرق ارتفاعه ومن جانب المغرب انحطاطه والصواب أن القوس الأولى ارتفاعه الشرقي والثانية ارتفاعه الغربي وأما الانحطاط فهو قوس منها تحته الأفق إما (2/430)
في جانب الغرب أو الشرق والقوس الواقعة من الأفق بين تقاطعه مع دائرة الارتفاع وبين إحدى نقطتي الشرق والغرب تسمى بالسمت فإذا انطبقت دائرة ارتفاع الكوكب على دائرة أول السموات لم تكن له قوس سمت لمرورها حينئذ بنقطتي المشرق والمغرب وهذه الدائرة عند غاية ارتفاع الكوكب تنطبق بدائرة وسط السماء أعني نصف النهار وكذا الحال عند غاية انحطاطه ففي كل دورة بالحركة الأولى تنطبق دائرة الارتفاع على نصف النهار مرتين وانطباقها عليها إنما يكون إن لم يكن الكوكب على دائرة أول السموات وتنطبق هذه الدائرة عليها أي على أول السموات إن كان الكوكب عليها وحينئذ لم يكن للكوكب سمت كما عرفت وهذا الانطباق إنما يظهر إذا لم يكن الكوكب في أحدى الغايتين وأما إذا فرض أنه في إحديهما مع كونه على دائرة أول السموات كما إذا كان على سمت الرأس أو القدم فإنه يجوز اعتبار انطباقها على كل واحدة من نصف النهار وأول السموات وهذه الدوائر الخمس الأخيرة وحدتها نوعية ولكل واحدة منها أشخاص كثيرة غير محصورة لكن ثلاث منها لا تتغير في كل بقعة بل كل واحدة منها لا تكون في بقعة واحدة متعددة بل شخصا واحدا وهي دائرة الأفق ووسط السماء وأول السموات وثنتان منها تتغيران في بقعة واحدة آنا فآنا وهي دائرة الارتفاع فإنها تتغير لحركة الكواكب ودائرة وسط سماء الرؤية فإنها تتغير لحركة قطبي منطقة البروج بتحريك المعدل لهما حول قطبيه بالحركة اليومية فهذه الدوائر العشر العظام وغيرها وما يبتنى عليها أمور موهومة لا وجود لها في الخارج ولا حجر من جهة الشرع في مثلها ولا تتعلق باعتقاد ولا يتوجه نحوها إثبات وإبطال فلم (2/431)
يكن بنا حاجة إلى ذكرها في كتابنا هذا إلا أنا أوردناها فيه لتقف على مقصدهم في علم الهيئة وإذا رأيته محض تخيلات أوهن من بيت العنكبوت لم يهلك أي لم يفزعك سماع هذه الألفاظ ذوات القعاقع القعقعة صوت السلاح ونحوه من الأمور اليابسة وفي المثل ما يقعقع لي بالشنان يعني أن هذه الألفاظ أصوات لا طائل تحتها كأصوات الأسلحة ونحوها من الجمادات هذا ما ذكره ولقائل أن يقول لا شك أن الكرة إذا تحركت على مركزها من غير أن تخرج عن مكانها فلا بد أن ينفرض فيه نقطتان لا حركة لهما أصلا وهما القطبان وأن ينفرض فيما بينهما دائرة عظيمة هي في حلق الوسط بينهما وتكون الحركة عليها سريعة وهي المنطقة وأن ينفرض من جنبتيها دوائر صغار موازية لها تكون الحركة عليها بطيئة بالقياس إليها بطءا متفاوتا جدا فما هو أقرب إلى القطب يكون أبطأ مما هو أقرب إلى المنطقة ولا شبهة أيضا في أن الكرات إذا أحاط بعضها ببعض أمكن أن تكون حركاتها بحيث تتقاطع مناطقها إذا اعتبرت في كرة واحدة منها وحينئذ ينفرض هناك بين المنطقتين نقطتا تقاطع ونقطتا غاية البعد بينهما فهذه وأمثالها وإن لم تكن موجودة في الخارج لكنها أمور موهومة متخيلة تخيلا صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر كما تشهد به الفطرة السليمة وليست من المتخيلات الفاسدة كأنياب الأغوال وجبال الياقوت والإنسان ذي الرأسين وينضبط بهذه الأمور أحوال الحركات في السرعة والبطء والجهة على الوجه المحسوس والمرصود بالآلات وينكشف بها أحكام الأفلاك والأرض وما فيها من دقائق الحكمة وعجائب الفطرة بحيث يتحير الواقف عليها في عظمة مبدعها قائلا ربنا ما خلقت هذا باطلا
وهذه فائدة جليلة تحت تلك الألفاظ يجب أن يعتنى بشأنها ولا يلتفت إلى من يزدريها بمجرد العصبية الباعثة على ذلك والله المستعان على كل حال (2/432)
المقصد الثالث
المتن
في فلك الثوابت قد زعموا أن لها حركة بطيئة وأنها تتم الدورة في ثلاثين ألف سنة وقيل في ستة وثلاثين إذ قد أحس منها بحركة بطيئة بالرصد واعتقادهم أنها تتم الدورة فقدروا بالحساب تمام الدور في هذه المدة وإنما سميت بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تحس وإما لثبات أوضاعها بعضها من بعض ولنختم هذا البحث بفائدتين تنفعانك فيما بعد
الأولى الفلك الموافق المركز ما مركزه مركز العالم وهو مركز الأرض ويكون له سطحان محيطان به من داخل وخارج هما محدبه ومقعره والخارج المركز فلك محيط بالأرض ليس مركزه مركزها بل يقع إلى جانب منها ويكون في ثخن فلك آخر ويسمى المائل وينقسم إلى قسمين ويسميان بالمتممين وهما آخذان من غلط بقدر خروج مركزه عن مركز العالم يتدرج إلى دقة حتى ينتهي بنقطة مماسة للخارج من أحدهما لمحدبه ومن الآخر لمقعره متبادلين في الغلظ والدقة فيكون غلظ كل في مقابلة الدقة من الآخر بحيث يكون حجم مجموع الداخل والخارج في جميع الأجزاء سواء ويكون في الوسط منهما حجمهما سواء ويكون مقعر الداخلاني موازيا لمحدب الخارجاني ومركزهما واحدا هو مركز العالم
والتدوير عبارة عن كرة مركوزة في ثخن فلك بحيث يماس محدبه بنقطة ومقعره بأخرى ويكون قطره بقدر ثخن الفلك ولا يتصور له مقعر (2/433)
ويتحرك مركزه بحركة الفلك دائرا حول مركز العالم ويرسم بمركزه دائرة مركزها مركز الحامل إن كان موافقا وإن كان خارجا
الثانية الموافق المركز يقطع عند مركز الأرض في أزمنة متساوية قسيا متساوية ويحدث زوايا متشابهة ولا يختلف منه قربا وبعدا فلا يحس فيه بسرعة وبطء وأما الخارج المركز فإنه لا يختلف قربا وبعدا وأنه يقطع حول مركز نفسه قسيا وزوايا متشابهة لكنها تختلف بالنسبة إلى مركز العالم لأن أحد نصفيه وهو الذي فيه مركز العالم أقرب إلينا وغاية القرب عند نقطة في وسطه بها يماس محدب المائل وتسمى الأوج فيرسم وهو في النصف الأوجي قوسا وزواية أصغر فيرى أبطأ وفي النصف الحضيضي قوسا وزاوية أكبر فيرى المتحرك أسرع وأما التدوير فتكون حركته في أحد نصفيه إلى التوالي من حامله فيكون المحسوس مجموع حركته وحركة حامله فيرى أسرع وفي النصف الآخر إلى خلاف التوالي فيكون المحسوس فضل حركة حامله فضل حركة حامله على حركته فيرى أبطأ بل ربما ساواه في الحس فيرى واقفا وربما زاد عليه فيرى راجعا ولأنه يتدرج من سرعة إلى بطء فتكون بينهما حركة وسطى ولأنه يرجع بعد الاستقامة وليستقيم بعد الرجوع فيكون كل منهما محفوفا بوقوفين وأيضا أحد نصفي التدوير أبعد منا فيرى القوس المقطوع منه أسرع ومنتصفه هو البعد الأبعد ويسمى ذروة والنصف الآخر منه أقرب ومنتصفه هو البعد الأقرب ويسمى الحضيض
الشرح
المقصد الثالث في فلك الثوابت قد زعموا أن لها أي للثوابت مع كونها متحركة بالحركة اليومية تبعا لفلك الأفلاك حركة خاصة بها بطيئة جدا وأنها تتم الدورة في ثلاثين ألف سنة هذا قول قد اشتهر فيما بين العامة ولا أصل له عند أصحاب الأرصاد (2/434)
وقيل إنها تتم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة بناء على أن بطليموس وجد بالرصد أنها تقطع في كل مائة سنة جزءا واحدا
وقيل تتم الدورة في ثلاثة وعشرين ألف سنة وسبعمائة وستين سنة بناء على ما وجده المتأخرون من أنها تقطع درجة واحدة في كل ست وستين سنة
وقيل تتمها في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة بناء على أن جماعة من محققي المتأخرين وجدوها تقطع جزءا واحدا في كل سبعين سنة وهذا هو الموافق للرصد الجديد الذي بمراغة
وإنما حكموا بإتمام الدورة فيما ذكر من المدد إذ قد أحس منها بحركة بطيئة بالرصد على وجوه مختلفة كما عرفتها واعتقادهم أنها تتم الدورة لدوامها على زعمهم فقدروا بالحساب تمام الدور في هذه المدة المختلف فيها كما لخصناه وإنما سميت ما عدا السبعة السيارة من الكواكب بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تحس إلا بتدقيق النظر في أحوالها المعلومة بأرصاد بينها مدد طويلة ولذلك اختفت على الأوائل حتى زعموا أن (2/435)
الأفلاك ثمانية وأن الحركة اليومية لكرة الثوابت وإما أثبات أوضاعها بعضها من بعض في القرب والبعد والمحاذاة
ولنختم هذا البحث بفائدتين تنفعانك فيما سيأتيك بعد من اختلاف حركات السيارات في الرؤية سرعة وبطءا واستقامة ورجوعا إذ لا بد لهذا الاختلاف من أصل يستند إليه
الأولى الفلك الموافق المركز ما مركزه مركز العالم وهو مركز الأرض ويكون له أي للموافق المركز سطحان محيطان به من داخل وخارج هما محدبه وهو المحيط به من خارج ومقعره وهو الذي يقابله والفلك الخارج المركز فلك محيط بالأرض ليس مركزه مركزها بل يقع أي يميل مركزه إلى جانب منها أي من مركز الأرض ويكون الفلك الخارج المركز في ثخن فلك آخر ويسمى ذلك الفلك الآخر المائل هذا إنما يصح في خارج القمر فإنه في ثخن فلك موافق المركز مسمى بالمائل وما عداه من السيارات سوى عطارد خوارجها في ثخن أفلاك موافقة المراكز مسماة بالممثلات وأما عطارد فله خارجان أحدهما في ثخن الممثل والآخر في ثخن الخارج الأول كما ستعرفه وينقسم ذلك الفلك الآخر بواسطة كون الخارج في ثخنه إلى قسمين أحدهما حاو للخارج والآخر محوله ويسميان بالمتممين إذا بانضمامهما إلى الخارج يتم الفلك الكلي الذي ذلك الخارج جزء منه هما ليسا متساويين في الثخن بل هما آخذان من غلظ هو بقدر خروج مركزه عن مركز العالم يتدرج ذلك الغلظ إلى دقة أي ينتقص شيئا فشيئا ويدق حتى ينتهي بنقطة مماسة للخارج المركز من أحدهما وهو المتمم الحاوي لمحدبه أي محدب الخارج ومن الآخر وهو المتمم المحوي لمقعره أو مقعر الخارج متبادلين حال من المستتر آخذان أي هما يأخذان في ذلك الغلظ المتدرج المنتهي إلى ما ذكر حال كونهما متبادلين في الغلظ والدقة فيكون غلظ كل من المتممين في مقابلة الدقة من الآخر بحيث يكون حجم مجموع المحوي الداخل في الخارج والحاوي الخارج عنه معا في جميع الأجزاء سواء لأن دقة (2/436)
أحدهما تنجبر بغلظ الآخر ويكون في الوسط منهما أي من المتممين حجمهما سواء أي يكون حجم وسط كل منهما مساويا لحجم وسط الآخر كما أن غلظ كل منهما ودقته تساوي غلظ الآخر ودقته ويكون مقعر الداخلاني المحوي موازيا لمحدب الخارجاني الحاوي ويكون مركزهما أي مركز المقعر والمحدب المتوازيين واحدا هو مركز العالم وهذا إنما يصح إذا كان الخارج في ثخن فلك موافق المركز وأما إذا كان في ثخن خارج آخر كأحد خارجي عطارد فإن مركز السطحين المتوازيين يكون حينئذ مركز الخارج الآخر وهذه الأحكام المتعلقة بالمتممين كلها صحيحة سوى الحكم بأن غلظ كل منهما يساوي مقدار خروج المركز إذ الصواب أن غلظ كل منهما ضعف ذلك المقدار كما قام عليه البرهان ويشهد له أيضا التخيل الصحيح ممن له أدنى مسكة والتدوير عبارة عن كرة سوى الكوكب غير شاملة للأرض بل مركوزة في ثخن فلك بحيث يماس محدبه بنقطة ومقعره بأخرى وحينئذ يكون قطره بقدر ثخن ذلك الفلك ولا يتصور له أي للتدوير مقعر إذ لا حاجة بنا إلى مقعره فيفرض أنه كرة مصمتة ويتحرك مركزه بحركة الفلك الذي هو في ثخنه دائرا حول مركز العالم ويرسم التدوير بمركزه المتحرك بتلك الحركة دائرة مركزها مركز الفلك الحامل للتدوير إن كان الحامل موافقا في المركز لمركز العالم كانت تلك الدائرة كذلك وإن كان الحامل خارجا كانت الدائرة أيضا خارجة المركز
الفائدة الثانية الفلك الموافق المركز يقطع هو بل المتحرك بحركته عند مركز الأرض الذي هو مركزه في أزمنة متساوية قسيا متساوية من محيط الدائرة التي يتحرك عليها ذلك المتحرك ويحدث عند مركز الأرض (2/437)
زوايا متشابهة أي متساوية لأن الحركة البسيطة الواقعة على نهج واحد تقتضي ذلك ولا يختلف المتحرك على الموافق منه أي من مركز الأرض قربا وبعدا بل يكون دائما متساوي البعد عنه لأنه مركز الدائرة التي تتحرك عليها فلا يحس فيه أي في المتحرك على الموافق بسرعة وبطء لا في مركز الأرض إن فرض هناك إحساس ولا فيما هو في حكمه كوجه الأرض بالقياس إلى الأفلاك العالية إذ لا قدر لنصف قطر الأرض بالنسبة إليها وأما الخارج من المركز فإنه لا يختلف منه أي من مركز نفسه قربا وبعدا وأنه يقطع حول مركز نفسه قسيا وزوايا متشابهة لما عرفت في الموافق لكنها أي حركة الخارج تختلف بالنسبة إلى مركز العالم لأن أحد نصفيه أي نصفي الخارج وهو الذي فيه مركز العالم أقرب إلينا وغاية القرب منا عند نقطة في وسطه أي وسط هذا النصف بها أي بتلك النقطة يماس هذا النصف أو الخارج مقعر المائل أراد به الفلك الذي يكون الخارج في ثخنه كما مر وتسمى هذه النقطة الحضيض والنصف الاخر من الخارج أبعد منه أي من النصف الأول بالقياس إلينا وغاية البعد بيننا وبينه عند نقطة في وسطه بها يماس محدب المائل وتسمى هذه النقطة الأوج فيرسم الخارج والمتحرك بحركته في مقدار من الزمان وهو في النصف الأوجي قوسا وزاوية أصغر أما القوس فبحسب الرؤية وأما الزاوية فبحسب نفس الأمر فيرى ذلك المتحرك أبطأ ويرسم في ذلك المقدار من الزمان في النصف الحضيضي قوسا وزاوية أكبر على قياس ما تقدم فيرى المتحرك أسرع لأنه إذا اتحد زمان حركتين واختلفت مسافتهما كانت الحركة التي مسافتها أطول لا محالة أسرع وأما التدوير فيحث لم يكن شاملا للأرض فتكون حركته في أحد نصفيه إلى التوالي من حامله أي موافقة لحركته في الجهة فإذا تحرك متحرك بحركة التدوير في ذلك النصف وتحرك مركز التدوير أيضا بحركة الحامل كانت الحركتان (2/438)
إلى جهة واحدة فيكون المحسوس في ذلك المتحرك مجموع حركته أي حركة التدوير وحركة حامله فيرى أسرع وتكون حركته في النصف الآخر إلى خلاف التوالي من حامله فيكون المحسوس في ذلك المتحرك فضل حركة حامله على حركته فيرى إبطاء بل ربما ساواه أي ساوى التدوير حامله في الحركة بحسب الحس فلا يبقى لحركة الحامل فضل فيرى ذلك المتحرك واقفا في جزء من أجزاء منطقة البروج غير خارج عن محاذاته مدة وربما زاد التدوير عليه أي على حامله في الحركة فيرى ذلك المتحرك راجعا عن الجهة التي كان متحركا إليها إلى جهة مقابلة لها ولأنه أي التدوير يتدرج المتحرك عليه من سرعة في النصف الموافق للحامل إلى بطء في النصف الآخر وذلك على التقدير الأول وهو أن لا يكون هناك مساواة ولا زيادة لحركة التدوير فتكون بينهما أي بين السرعة والبطء حركة وسطى لأنه يرجع إلى خلاف التوالي بعد الاستقامة إلى التوالي ويستقيم أيضا بعد الرجوع وذلك على تقدير زيادة حركة التدوير فيكون كل منهما أي من الاستقامة والرجوع محفوفا بوقوفين أحدهما منتهى الاستقامة ومبدأ الرجوع والآخر بالعكس وأيضا فأحد نصفي التدوير أبعد منا فيرى القوس المقطوع منه أي من النصف الأبعد الأبطأ أسرع كما زعمه لأن مقتضى البعد في نفسه هو الأبطأ دون الأسرع ومنتصفه أي منتصف النصف المذكور هو البعد الأبعد بالقياس إلى مركز العالم ويسمى ذلك المنتصف دورة والنصف الآخر منه أقرب إلينا فتكون القوس المقطوعة منه أسرع لا أبطأ ومنتصفه أي منتصف النصف الآخر هو البعد الأقرب بالقياس إلى مركز العالم ويسمى الحضيض وقد ظهر بما ذكر أن الإسراع والإبطاء ينضبطان بكل واحد من أصلي الخارج وفلك (2/439)
التدوير وأن الرجوع والاستقامة والوقوف فيما بينهما ينضبط بأصل التدوير
المقصد الرابع
المتن
في فلك الشمس وهي إما على فلك مركزه خارج عن مركز العالم أو على تدوير يحمله فلك موافق المركز وإلا لم تختلف بعدا وقربا فلا تختلف سرعة وبطءا كما علمت والتالي باطل بالرصد وكيف كان فله فلكان إما خارج مركز ومائل وإما تدوير وحامل وله حركتان واختلاف واحد هو سرعته في نصف من فلكه وبطؤه في نصف بعينه لا يتغير ذلك فلنفرض التدوير بحيث يتم دوره مع دورة حاملة وقطره بقدر بعد مركز الخارج عن مركز العالم لتكون الدائرة التي يرسمها مجموع الحركتين بعينها كالتي يرسمها خارج المركز سواء
الشرح
المقصد الرابع في فلك الشمس قدمه على أفلاك سائر السيارة لأن الشمس أشهرها وأنورها وعليها مدار الأيام والليالي وما يتركب منهما مع أن اختلافاتها أقل من اختلافات غيرها فيكون أقرب إلى التعليم وهي إما على فلك شامل للأرض مركزه خارج عن مركز العالم أو على فلك تدوير يحمله فلك موافق المركز وإلا أي وإن لم تكن الشمس على أحد الفلكين المذكورين لم تختلف بعدا وقربا بالنسبة إلى مركز العالم وما يليه من وجه الأرض فلا تختلف سرعة وبطءا كما علمت والتالي باطل بالرصد إذا قد وجدوا به أن الزمان المتخلل بين حلول الشمس الاعتدال الربيعي ثم الخريفي وهو نصف من فلك البروج أكثر من نصف السنة والمتخلل بين حلولها الخريفي ثم الربيعي وهو النصف الباقي منه أقل من نصف السنة فلا (2/440)
محالة تكون الشمس في النصف الأول أبطأ منها في النصف الثاني وكيف كان الحال فله أي للكوكب الذي هو الشمس فلكان إما خارج مركز ومائل أراد به الممثل الذي يكون الخارج في ثخنه وإما تدوير وحامل وله أيضا حركتان وهذا إنما يصح على أصل التدوير إذ لا بد هناك من حركتي التدوير وحامله على وجه يحصل به الإبطاء والإسراع المذكوران وإما على أصل الخارج فلا حاجة فيهما إلى حركتين بل يكفيهما حركة الخارج فلذلك قالوا أصل الخارج المركز يتم بحركة واحدة وأصل التدوير يتم بحركتين
فإن قلت لا بد لتحريك أوجها من حركة أخرى وهي حركة ممثلها فيكون لها على أصل الخارج أيضا حركتان قلت كلامنا في مجرد السرعة والبطء ولا حاجة لهما إلى حركة أخرى وأيضا إذا اعتبر تحريك الأوج فلا بد في أصل التدوير من حركة ثالثة مستندة إلى تحريك فلك البروج كما ذكروه وللشمس اختلاف واحد هو سرعته في نصف من فلكه بل في نصف بعينه من فلك البروج وبطؤه في نصف آخر بعينه لا يتغير ذلك بل هي أبدا بطيئة في البروج الشمالية وسريعة في الجنوبية وذلك ظاهر على أصل الخارج بأن يكون الأوج في البروج الشمالية فتكون الشمس هناك أبعد من الأرض وأبطأ حركة وفيما يقابلها أقرب وأسرع وإذا أريد الإبطاء والإسراع على هذا الوجه بعينه من أصل التدوير احتيج إلى قيود أشار إليها بقوله فلنفرض التدوير بحيث يتم دورة مع دورة حامله وبحيث يكون قطره بل نصف قطره بقدر بعد مركز الخارج عن مركز العالم ولا بد مع ذلك أن نفرض حركة الحامل شبيهة بحركة الخارج في جهتها بحيث يتممان الدورتين معا وأن نفرض حركة التدوير شبيهة بهما على وجه تكون (2/441)
في القطعة البعيدة إلى خلاف جهة حركة الحامل وفي القطعة القريبة إلى جهتها لتكون الدائرة التي ترسمها مجموع الحركتين بل يرسمها مركز الشمس بمجموعهما بعينهما كالتي ترسمها خارج المركز سواء ويكون الاختلاف المحسوس من الأصلين شيئا فشيئا واحدا بلا تفاوت إلا أن بطليموس اختار الخارج لكونه أبسط لما عرفت من أنه يتم بحركة واحدة ومن أن التدوير يستلزم مدارا خارج المركز
المقصد الخامس
المتن
في أفلاك القمر وهو وجد لا كالشمس حيث تسرع في نصف بعينه وتبطئ في نصف بل يسرع ويبطئ في جميع الأجزاء فعلم أنه على تدوير يتم دوره قبل دورة حامله ثم إذا قيس سرعة إلى سرعة وبطء إلى بطء لم يكن مثله بل أسرع أو أبطأ فعلم أن تدويره مركوز في ثخن فلك خارج المركز ثم وجد غاية سرعته في تربيعي الشمس فهو في حضيض الخارج والأوج يقابله ضرورة فله فلك آخر يخرج أوجه إلى خلاف جهة حركته وهو الذي الخارج المركز في ثخنه وسميناه المائل فيجتمع القمر والأوج عند المقابلة ثم يتقابلان في التربيع الثاني ثم يجتمعان عند الاجتماع وفي غير الاجتماع والمقابلة تكون لشمس متوسطة بينهما يتباعدان عنها بعد الاجتماع إلى المقابلة ثم يتقاربان منها بعد المقابلة إلى أن يجتمعا وليس منطقة المائل في سطح فلك البروج وإلا كان القمر ملازما له لا يتعداه إلى الشمال ولا إلا الجنوب فيكون ينخسف في كل مقابلة لتوسط الأرض بينه وبين الشمس واللازم منتف بل تقاطعه وتقطعه بنصفين على نقطتين تسميان العقدتين والجوزهرين
إحداهما هي التي إذا جاوزها حصل في الشمال وتسمى الرأس (2/442)
والأخرى مقابلتها التي إذا جاوزها حصل في الجنوب وتسمى الذنب ثم إذا رصدنا كسوفا في إحدى العقدتين ثم كسوفا آخر فيها بعد زمان طويل رأينا الثاني متأخرا عن الأول إلى جهة المغرب فعلمنا أن للعقدتين حركة إلى خلاف التوالي فله فلك آخر يحركهما ولظهور حركته في الجوزهرين سميناه فلك الجوزهر فالقمر إذا وصل إلى الرأس كان على منطقة البروج فلم يكن له عرض ثم إذا جاوزه كان له عرض في الشمال يتزايد قليلا قليلا إلى أن يصل إلى منتصف ما بين العقدتين وعنده يكون غاية العرض ثم يتناقص قليلا قليلا إلى أن يحصل في الذنب فيكون عديم العرض ثم يصير ذا عرض في الجنوب كما وصفناه وغاية العرض في الجانبين سواء ثابت لا يزيد ولا ينقص والتزايد والتناقص بنسبة واحدة فهي متساوية في الأجزاء المتقابلة فقد تلخص مما ذكرناه أن له أربعة أفلاك تدوير هو في حامل هو في ثخن مائل يحيط به موافق وله أربع حركات فللتدوير إلى التوالي في نصف وإلى خلافه في نصف وللخارج إلى التوالي وللآخرين إلى خلاف التوالي وله في الطول اختلافات ثلاثة الذي بسبب التدوير والذي بسبب الخارج والذي بسبب تفاوت قطر التدوير في قربه وبعده بسبب حامله الخارج وفي العرض واحد
تنبيه هذه الأصول يلزمها أن يكون القمر تشابه حركته حول مركز الخارج محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض له وأن يكون تساوي قربه وبعده عند مركز الخارج دون مركز العالم ثم أنهم وجدوه بخلافه فتشابه حركته حول مركز العالم والمحاذاة لنقطة غير مركزهما من جانب الأوج لتوسط مركز الخارج بينها وبين مركز العالم وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم كيف وما ذكروه استدلال بوجود اللازم على وجود الملزوم وإنما يصح إذا علم المساواة ولم تعلم إذ يجوز أن يكون ثمة وضع آخر يستلزم (2/443)
هذه الحركات لجواز اشتراك الأمور المختلفة في اللوازم وليس انتفاؤه ضروريا ولا مبرهنا
الشرح
المقصد الخامس في أفلاك القمر لما كان القمر تلو الشمس في الشهرة والإنارة عقبها به وهو وجد لا كالشمس حيث تسرع الشمس في نصفه بعينه من فلك البروج وتبطئ في نصف آخر منه وليس القمر كذلك بل هو يسرع ويبطئ في جميع الأجزاء من فلك البروج لا يختص إسراعه وإبطاؤه بجزء معين منه دون آخر فعلم بذلك أنه أي القمر على تدوير يتم دوره قبل دورة حامله فإذا فرض القمر في موضع من التدوير والتدوير في موضع من الحامل وكان هناك للقمر بواسطة التدوير حالة مخصوصة من الإسراع والإبطاء فإذا عاد القمر إلى موضعه بحركة التدوير قبل دورة حامله عادت تلك الحالة المخصوصة إليه في جزء آخر من فلك البروج وتنتقل تلك الحالة في دورة أخرى إلى جزء ثالث منه وهكذا ثم إن هذا التصوير وإن كان كافيا لعدم اختصاص السرعة والبطء بأجزاء معينه من البروج إلا أنه يقتضي أن يكون عود القمر إلى الحالة المخصوصة قبل العود إلى جزء بعينه من البروج وذلك باطل لأن المعلوم بالرصد أن عوده إليها بعد العود إلى جزء بعينه من البروج بزمان قليل فالصحيح أن يقال يتم دوره بعد دروة حامله ثم إذا قيس سرعة إلى سرعة وبطء إلى بطء لم يكن مثله بل أسرع أو أبطأ يعني أن اختلاف القمر إذا عاد لم يعد إلى ما هو مثله حقيقة بل إلى ما يشبهه مع تفاوت قليل فعلم بذلك أن تدويره مركوز في ثخن فلك خارج المركز إذ حينئذ تكون القسي المفروضة في التدوير المتساوية في أنفسها متفاوتة في الصغر والكبر بحسب الرؤية فيقع التفاوت في الحالة العائدة مقيسة إلى نظيرتها ثم وجد غاية سرعته في تربيعي الشمس فهو أي (2/444)
القمر يجب أن يكون في كل واحد من تربيعهما في حضيض الخارج المقتضي لغاية السرعة والأوج يقابله ضرورة فإذا كان القمر في تربيع الشمس إلى التوالي كان أوجه في تربيعها إلى خلاف التوالي وإذا كان في تربيعها الثاني على التوالي كان الأوج في تربيعها الثاني إلى خلافه فله فلك آخر سوى التدوير وحامله يخرج ذلك الفلك ويحرك أوجه إلى خلاف جهة حركته وهو الفلك الذي يكون الخارج المركز في ثخنه وسميناه المائل فيجتمع القمر والأوج عند المقابلة مع الشمس ثم يتقابلان في التربيع الثاني كما كانا متقابلين في التربيع الأول ثم يجتمعان عند الاجتماع ففي الاجتماع والمقابلة يكون القمر في الأوج وفي غير الاجتماع والمقابلة تكون الشمس متوسطة بينهما أي بين القمر وأوجه أبدا يتباعدان عنها أي عن الشمس بعد الاجتماع إلى المقابلة فيبعد القمر عنها إلى التوالي والأوج إلى خلافه حتى يتلاقيا في المقابلة ثم يتقاربان منها أي من الشمس بعد المقابلة إلى أن يجتمعا معا ثانيا ثم إن منطقة التدوير يتحرك عليها مركز القمر في سطح منطقة الخارج التي يتحرك عليها مركز التدوير وهي في سطح منطقة المائل وليس منطقة المائل في سطح فلك البروج وإلا كان القمر ملازما له لا يتعداه إلى الشمال ولا إلى الجنوب كما أن الشمس كذلك دائما فيكون القمر ينخسف في كل مقابلة لتوسط الأرض على هذا التقدير بينه وبين الشمس في المقابلات كلها فيقع القمر في ظل الأرض في كل منها واللازم منتف بل تقاطعه أي تقاطع منطقة المائل فلك البروج وتقطعه بنصفين عل نقطتين تسميان العقدتين والجوزهرين (2/445)
إحديهما هي التي إذا جاوزها القمر حصل في الشمال من منطقة البروج وتسمى هذه النقطة الرأس
والنقطة الأخرى منهما هي مقابلتها التي إذا جاوزها القمر حصل في الجنوب من فلك البروج وتسمى الذنب بناء على تشبيه الشكل الحادث من نصفي الدائرتين المتقاطعتين بالتنين وتشبيه طرفيه برأسه وذنبه ثم إذا رصدنا كسوفا في إحدى العقدتين كالرأس مثلا ثم كسوفا آخر فيها بعد زمان طويل رأينا في الثاني من الكسوفين متأخرا عن الأول إلى جهة المغرب من أجزاء فلك البروج فعلمنا بذلك أن للعقدتين حركة إلى خلاف التوالي فله أي للقمر فلك آخر سوى الثلاثة المذكورة يحركهما أي يحرك ذلك الفلك الآخر العقدتين إلى خلاف التوالي ولظهور حركته في الجوزهرين سميناه فلك الجوزهر فالقمر إذا وصل إلى الرأس كان على منطقة البروج فلم يكن له حينئذ عرض ثم إذا جاوزه كان له عرض عن المنطقة في الشمال يتزايد ذلك العرض قليلا قليلا إلى أن يصل القمر إلى المنتصف ما بين العقدتين وعنده يكون غاية العرض الشمالي ثم يتناقص ذلك العرض قليلا قليلا إلى أن يحصل القمر في الذنب فيكون حينئذ عديم العرض أيضا ثم يصير ذا عرض في الجنوب كما وصفناه فيتزايد أولا إلى أن يصل إلى المنتصف الآخر فيكون هناك غاية العرض الجنوبي ويتناقص ثانيا وغاية العرض في الجانبين أي الشمال والجنوب سواء ثابت لا يزيد ولا ينقص ومقدارها كما علم بالرصد خمسة أجزاء والتزايد في العرض بعد مجاوزة العقدتين والتناقص فيه بعد مجاوزة (2/446)
المنتصفين بنسبة واحدة فهي أي العروض المتزايدة والمتناقصة متساوية في الأجزاء المتقابلة فالعرض المتزايد الشمالي للجزء العاشر من الرأس مثلا يساوي العرض المتزايد الجنوبي للعاشر من الذنب وكذا العرض المتناقص الشمال للجزء الخامس من منتصف النصف الشمالي يساوي العرض المتناقص الجنوبي للجزء الخامس من المنتصف الآخر فقد تلخص مما ذكرناه أن له أي للقمر أربعة أفلاك تدوير هو مركوز حامل خارج المركوز هو في ثخن مائل أي ذلك الحامل فيما بين سطحي فلك الموافق المركز مسمى بالمائل لميلان منطقته عن منطقة البروج يحيط به أي بذلك المائل فلك آخر موافق مركزه أيضا لمركز العالم وله أربع حركات فللتدوير حركة إلى التوالي في نصف هو الأسفل وإلى خلافه في نصف هو الأعلى وللخارج حركة إلى التوالي وللآخرين أي المائل والجوزهر حركتان إلى خلاف التوالي وله وللقمر في الطول وهو ما بين المغرب والمشرق اختلافات ثلاثة
فأحدها هو الاختلاف الذي يكون بسبب التدوير فإن القمر إذا كان على ذروة التدوير أو حضيضه كان الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز التدوير المنتهى إلى سطح الفلك الأعلى منطبقا على الخط الخارج عنه المار بمركز القمر المنتهى إليه فلا اختلاف حينئذ بسببه وإذا تحرك القمر بحركة التدوير نازلا من الذروة أو صاعدا من الحضيض إلى جزء آخر من التدوير لم ينطبق أحد الخطين على الآخر بل حصل فيما بينها زاوية على مركز العالم فهذه الزاوية هي الاختلاف الناشيء من التدوير فيحتاج تارة إلى أن تنقص هذه الزاوية عن وسط القمر أعني حركة مركز تدويره وتارة إلى أن تزداد عليه حتى يتحصل تقويمه أعني حركة مركز نفسه وغاية هذا الاختلاف هو نصف قطر التدوير
وثانيها الاختلاف الذي يكون بسبب الخارج فإن مركز التدوير إذا كان في الأوج أو الحضيض كان قطر منه بعينه منطبقا على الخط المار بمركز العالم والخارج والتدوير وبالأوج والحضيض والطرف الأعلى من هذا القطر هو ذروة التدوير التي هي مبدأ حركته الخاصة والطرف الآخر منه (2/447)
حضيضة المقابل لها فهما محاذيان في هاتين الحالتين لمركز العالم ومركز الخارج أيضا وإذا فارق مركز التدوير الأوج والحضيض لم يكن ذلك القطر منه منطبقا على الخط الخارج من مركز العالم إلى مركز التدوير واصلا إلى أعلاه ولا على الخط الخارج من مركز الخارج إلى مركز كذلك فلا تكون الذروة المذكورة ومقابلها محاذيين لشيء من مركزي العالم والخارج بل هما محاذيان أبدا لنقطة أخرى كما ستعرفه ويسميان ذروة وسطى وحضيضا أوسط يخالفان الذروة والحضيض المرئيين في غير الأوج والحضيض
واعلم أن هذا الاختلاف ليس بسبب كون حامل التدوير خارج المركز بل هو اختلاف واقع بين الذروتين علم أنيته ولم تعلم لميته
وثالثها الاختلاف الذي يكون بسبب تفاوت قطر التدوير بالعظم والصغر في قربه وبعده بسبب حامله الخارج المركز فإنا إذا فرضنا أن الاختلاف الأول واصل إلى غايته التي هي نصف قطر التدوير كما مر فإن كان مركز التدوير حينئذ في الأوج كان لنصف قطره مقدار في الرؤية وإن كان في الحضيض كان له مقدار أعظم من ذلك المقدار وكذا الحال في الاختلاف الأول إذا لم يكن في الغاية فإنه يقع فيه أيضا تفاوت بحسب القرب والبعد فهذا الاختلاف هو الزيادة اللاحقة بالاختلاف الأول ولذلك جعل اختلافا ثانيا تابعا للأول وللقمر في العرض وهو فيما بين الشمال والجنوب اختلاف واحد كما نبين
تنبيه لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن كرة كالتدوير مثلا إذا تحركت على محيط دائرة كمنطقة الخارج حركة متشابهة على نهج واحد بلا تفاوت لزم هناك أمور ثلاثة (2/448)
الأول أن تكون حركة الكرة متشابهة حول مركز تلك الدائرة
الثاني أن يكون قطر منها بعينه محاذيا لذلك المركز كأن خطا خرج من مركز الدائرة وانطبق على قطر من الكرة وأدارها حول المركز
الثالث أن يتساوى بعد تلك الكرة عن مركز الدائرة وحينئذ نقول هذه الأصول التي قدروها في أفلاك القمر وحركاته يلزمها أن يكون القمر بل تشابه حركته أي حركة مركز تدويره حول مركز الخارج وأن يكون محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض له أي لمركز الخارج أيضا وأن يكون تساوي قربه وبعده أيضا عند مركز الخارج دون مركز العالم وغيره من النقط ثم أنهم وجدوه بخلافه فتشابه حركته أي حركة مركز تدويره حول مركز العالم والمحاذاة أي محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض الأوسطين لنقطة من ذلك الخط المار بالمراكز والأوج والحضيض غير مركزهما أي مركز العالم والخارج وتلك النقطة واقعة من جانب الأوج لتوسط مركز الخارج بينهما وبين مركز العالم والصواب أن يقال هي من جانب الحضيض لتوسط مركز العالم بينها وبين مركز الخارج كما هو المشهور وأما تساوي بعد مركز التدوير عن مركز الخارج فهو باق على حاله وانتفاء اللازم الذي هو تشابه الحركة حول مركز الخارج ومحاذاة القطر المذكور له يوجب انتفاء الملزوم الذي هو الأصول التي ذكروها في القمر ثم أنه أورد على كلامهم اعتراضا آخر فقال كيف أي كيف يصح كلامهم وما ذكروه من أن القمر لما علم له بالرصد أحوال مخصوصة وجب أن يكون له أفلاك كذا وكذا متحركة على الوجوه المذكورة المقتضية لتحقق تلك الأحوال استدلال بوجود اللازم الذي هو (2/449)
تلك الأحوال على وجود الملزوم الذي هو تلك الأفلاك المتحركة على تلك الوجوه وإنما يصح هذا الاستدلال إذا علم المساواة بين اللازم والملزوم ولم تعلم المساواة ههنا إذ يجوز أن يكون ثمة وضع آخر مغاير لما ذكروه يستلزم ذلك الوضع الآخر هذه الحركات المقتضية للأحوال المعلومة كما أن الوضع الذي بينوه يستلزمها أيضا لجواز اشتراك الأمور المختلفة في اللوازم وليس انتفاؤه أي انتفاء الوضع الآخر ضروريا ولا مبرهنا عليه
المقصد السادس
المتن
في الأفلاك الخمسة الباقية إنها تكون سريعة فتأخذ في بطء يتزايد إلى أن تقف أياما ثم تأخذ في الرجوع متدرجا في السرعة في رجوعها إلى حد ما ثم تأخذ في البطء إلى أن تقف ثانيا ثم تستقيم متدرجا في السرعة إلى غاية ويعرض ذلك لها في جميع الأجزاء فعلم أنها في تدوير ثم إنها تكون غريبة الثوابت فتلحقها مقارنة ثم تفارقها مخلفة لها إلى المغرب فعلم أن حامل تدويرها متحرك إلى المشرق والزهرة وعطارد يقارنان الشمس ثم يتفرقان فيطلعان بعدها متباعدين عنها إلى حد ما ثم يرجعان متقاربين منها حتى يقارناها ثانية ثم يغربان فيغربان لا بعدها ويطلعان قبلها متباعدين عنها إلى حد ما ثم يرجعان حتى يقارباها فعلم أن مركز تدويرهما خاصة ملازم لمركز الشمس والبواقي ليست كذلك فإن رجوعها إنما يكون وهي في مقابلة الشمس فهي في الحضيض حينئذ والخمسة يختلف بعدها الصباحي والمسائي عن الشمس ولا يتصور ذلك إلا بقرب تدويرها من الأرض تارة وبعده أخرى فإذا حامل تدويرها فلك خارج المركز والبعد المذكور يكون لعطارد في الجوزاء والجدي أعظم مما له في سواهما فهو أقرب إلى (2/450)
الأرض فهو في الحضيض والأوج مقابلة فهو إذا متحرك إلى المغرب إذ لو كان ثابتا لم يصل إلى الحضيض في الدورة إلا مرة ولو تحرك إلى المشرق لزم أن يتحرك في نصف الدورة ثلاثة بروج وفي نصفها تسعة فيقابله في الميزان وفي الحمل فمركز التدوير له محرك ويسمى المدير ثم هذا البعد في الميزان أعظم منه في الحمل فهو أقرب إلى الأرض فعلم أن المدير خارج مركز ثم يختلف بعد الشمس عن الثوابت وهي في الاعتدالين وإذا رصدنا كسوفين وهي فيهما يظهر ذلك في الدهور الطويلة فهي متحركة والأوجات توافقها فهو إما لاتحاد المحرك وإما لتوافقها في الحركة جهة وكما ثم إن عرض الزهرة وعطارد ليس ثابتا كما للقمر بل عرض زهرة شمالي أبدا وعرض عطارد جنوبي أبدا كأن النصفين يتبادلان فإذا كانت الزهرة على الرأس كان مدارها منطبقا على سطح منطقة البروج ثم إذا جاوزت وحصل في النصف صار ذلك النصف شماليا ويتباعد عنها إلى غاية العرض ثم يقرب منها حتى ينطبق عليها وهي في الذنب ثم تصير في النصف الآخر وقد صار هو شماليا والآخر جنوبيا ويتباعد إلى غاية ما ثم يتقارب وأما عطارد فبالعكس من ذلك فيكون عند الانطباق في الذنب ويتجاوزه إلى النصف الجنوبي متباعدا ثم ينطبق وهو يتجاوزه إلى النصف الآخر وقد صار جنوبيا ثم لهما عرضان آخران فإن القطر المار بالذروة والحضيض ينطبق تارة على المنطقة وكذلك القطر المار بالبعدين الأوسطين وكيفيته مسطورة في كتبهم
واعلم أنهم لما اعتقدوا أن حركة الأفلاك يجب أن تكون دورية تحيروا في مبدأ هذه الاختلافات ولم ينبسوا فيه بذات شفة والذي ينحي بالهدم على قاعدتهم أفلاك عطارد بعد ما قدمناه أنها تستلزم تشابه حركة مركز التدوير حول مركز الحامل والمدرك بالرصد خلافه فإنها وجدت لنقطة تسمى مركز معدل المسير وهي بين مركز العالم ومركز الخارج وفي الكل إن حركات الأفلاك إرادية فماذا يمنع أن تختلف بحسب ما يتعاقب عليها من إرادات جزئية إذ قد (2/451)
علمت أنها لا يكفي في الحركة الجزئية التعقل الكلي وإلحق إحالة ذلك كله إلى القادر المختار
الشرح
المقصد السادس في الأفلاك الخمسة الباقية المسماة بالمتحيرة أنها تكون سريعة في الحركة إلى توالي البروج فتأخذ في بطء يتزايد ذلك البطء إلى أن تقف هذه الكواكب في جزء من أجزاء البروج أياما ثم تأخذ في الرجوع إلى خلاف التوالي متدرجا أي كل واحد منها في السرعة في رجوعها إلى حد ما ثم تأخذ في البطء في رجوعها إلى أن تقف ثانيا ثم تسقيم أي تتحرك إلى التوالي متدرجا في السرعة في استقامتها إلى غاية ويعرض ذلك الذي ذكرناه من أحوالها لها في جميع الأجزاء من فلك البروج أي ليس شيء من استقامتها ورجوعها ووقوفها وسرعتها وبطئها مخصوصا بجزء معين من أجزائه بل يوجد في كل منها فعلم بما ذكر من أحوالها أنها في تدوير تزيد حركته في نصفه المخالف على حركة حامله كما مر في الفائدة الثانية ثم إنها أي الكواكب الخمسة تكون غريبة من الثوابت فتلحقها مقارنة أياها ثم تفارقها مخلفة لها إلى المغرب فعلم بذلك أن حامل تدويرها متحرك من المغرب إلى المشرق والزهرة وعطارد يقارنان الشمس مستقيمين ثم يتفرقان عن الشمس حتى يصيرا شرقيين عنها فيطلعان بعدها ويغربان كذلك متباعدين في هذا التفرق عنها إلى حد ما فغاية بعد الزهرة عن الشمس سبعة وأربعون جزءا وغاية بعد عطارد عنها سبعة وعشرون جزءا ثم يرجعان إلى خلاف التوالي متقاربين منها حتى يقارناها راجعين مقارنة ثانية ثم يغربان أي يصيران غربيين عنها فيغربان حينئذ قبلها لا بعدها كما ذكره و كذا يطلعان قبلها متباعدين في التغريب عنها إلى حد ما ثم (2/452)
يرجعان عن صوب الرجوع إلى سمت الاستقامة حتى يقارباها في الاستقامة كما ذكرناه أولا فعلم بذلك أن مركز تدويرهما خاصة ملازم لمركز الشمس وأن بعدهما عنها شرقا أو غربا إنما هو بحركة تدويرهما فقط فالبواقي من المتحيرة وهي العلوية ليست كذلك فإن رجوعها بل أواسطه إنما يكون وهي في مقابلة الشمس فهي في الحضيض حينئذ كما أن أواسطه استقامتها إنما تكون في مقارنة الشمس إياها وهي حينئذ في الدورة والكواكب الخمسة يختلف بعدها الصباحي والمسائي كأنه أراد به نصف قطر تدويرها وحينئذ يلغو قوله عن الشمس إلا في الزهرة وعطارد فإن غاية بعدهما عنها صباحا ومساء إنما هي بحسب نصف قطريهما والمسطور في كتب الفن أن القسي التدويرية إبطائية كانت أو إسراعية رجوعية أو استقامية لم توجد متشابهة بل وجدت في بعض أجزاء البروج أكثر قدرا وزمانا وفي بعضها أقل قدرا وزمانا ولا يتصور ذلك إلا بقرب تدويرها من الأرض تارة فتكون قسية ونصف قطره حينئذ أعظم في الرؤية وبعده عنها أخرى فإذن حامل تدويرها فلك خارج المركز ثم أنه أراد أن يبين أن لعطارد خارجا آخر يكون حامله في ثخنه فقال والبعد المذكور أي البعد الصباحي والمسائي عن الشمس الذي غايته نصف قطر التدوير كما عرفت يكون لعطارد في آخر الجوزاء وأول الجدي أعظم مما له في سواهما أي نصف قطر تدويره فيهما أعظم منه في سائر أجزاء البروج فهو أي تدويره حينئذ أقرب إلى الأرض فهو في هذين الموضعين في الحضيض من حامله فقد وصل في دورة واحدة إلى حضيض حاملي مرتين والأوج لا محالة مقابلة فهو أي (2/453)
الأوج إذا متحرك إلى المغرب أي إلى خلاف التوالي إذ لو كان الأوج ثابتا غير متحرك لم يصل مركز تدويره عطارد إلى الحضيض في الدورة الواحدة إلا مرة واحدة وقد بان بطلانه ولو تحرك الأوج إلى المشرق أي إلى التوالي كما أن مركز التدوير كذلك لزم أن يتحرك الأوج في نصف الدورة ثلاثة بروج وفي نصفها تسعة وذلك لأنا إذا فرضنا أن مركز التدوير تحرك من أول الحمل إلى آخر الجوزاء فقد حصل في الحضيض فلو كان الأوج الذي هو مجتمع معه في أول الحمل متحركا إلى التوالي أيضا لزم أن يكون الأوج قد تحرك من أول الحمل إلى أول الجدي بل إلى آخر القوس فقد تحرك حينئذ المركز ثلاثة بروج والأوج تسعة ثم أنهما يجتمعان في الحمل ثانيا فيتحرك المركز من آخر الجوزاء إلى الحمل والأوج من أول الجدي إلى الحمل فانعكس الأمر بينهما فلا تكون حركة شيء منهما بل متشابهة إحداهما أسرع من الأخرى تارة وأبطأ تارة وهو باطل فتعين أن الأوج يتحرك إلى خلاف التوالي حتى إذا وصل المركز تربيع الحمل على التوالي وهو آخر الجوزاء وصل الأوج إلى تربيعه على خلاف التوالي وهو أول الجدي فيكون المركز حينئذ في الحضيض وإذا وصل المركز إلى تربيعه الثاني وهو أول الجدي وصل الأوج أيضا إلى تربيعه الثاني وهو آخر الجوزاء فيكون المركز أيضا في الحضيض ولا شك أنهما يتلاقيان فيما بين التربيعين قوله فيقابله سهو من القلم والصواب فيقارنه أي يقارن الأوج مركز التدوير في الميزان وفي الحمل وقوله فمركز التدوير أيضا سهو والتصحيح فأوج الحامل أو مركز الحامل له (2/454)
محرك بحركة إلى خلاف التوالي ويسمى ذلك المحرك المدير لإدارته مركز الحامل حول مركزه ثم هذا البعد الصباحي والمسائي في الميزان أعظم منه والصواب أصغر منه في الحمل فهو أي تدوير عطارد في الحمل أقرب إلى الأرض منه في الميزان فعلم أن المدير خارج مركز وأن أوجه في الميزان فهناك يجتمع الأوجان ويكون نصف قطر التدوير أصغر ما يكون وأما في الحمل فيجتمع مركز التدوير وأوج الحامل مع حضيض المدير فلا يكون نصف قطره في ذلك الصغر ثم يختلف بعد الشمس عن الثوابت وهي أي الشمس في اعتدالين ويعلم هذا الاختلاف إذا رصدنا كسوفين وهي فيهما يظهر ذلك في التدهور الطويلة فهي أي الثوابت متحركة حركة بطيئة جدا كما سلف والأوجات سوى أوج القمر وأوج حامل عطارد توافقها أي توافق الثوابت في تلك الحركة قدرا وجهة فهو أي ذلك التوافق إما لاتحاد المحرك وهو كرة الثوابت مثلا وإما لتوافقها أي توافق المحركات المتعددة في الحركة بأن توافق الحركة الصادرة من بعضها الحركة الصادرة من بعض آخر جهة وكما كما إذا فرض أن محركات تلك الأوجات هي الممثلات ثم أن عرض الزهرة وعطارد ليس ثابتا كما ثبت للقمر بل عرض مركز تدوير زهرة شمالي أبدا وعرض مركز تدوير عطارد جنوبي أبدا وأما عرض مركز جرميهما فقد يكون في الزهرة جنوبيا وعطارد شماليا ثم أنه صور كيفية ما ذكره بقوله كأن النصفين من مداري مركزي تدويرهما يتبادلان من جهتي الشمال والجنوب فإذا كانت الزهرة بل مركز تدويرها على الرأس كان مدارها منطبقا على سطح منطقة البروج ثم إذا جاوزت الرأس وحصل الكواكب بل مركز تدويره في النصف الذي يتحرك عليه صار (2/455)
ذلك النصف شماليا عن المنطقة والنصف الآخر جنوبيا عنها ويتباعد المدار عنها شيئا فشيئا إلى أن يصل مركز تدويرها إلى غاية العرض وهي منتصف ما بين العقدتين ثم يقرب مدارها منها شيئا فشيئا حتى ينطبق عليها وهي أي الزهرة بل مركز تدويرها في الذنب ثم تصير في النصف الآخر الذي كان جنوبيا وقد صار هو الآن شماليا وصار النصف الأخر الذي قد تحرك عليه في الشمال جنوبيا ويتباعد المدار عنها في الجانبين إلى غاية ما هي منتصف هذا النصف ثم يتقارب إليها حتى ينطبق عليها ويتناول نصفاه في الجهة وهكذا دائما فيكون مركز تدوير الزهرة دائما إما على المنطقة وإما في الشمال عنها وأما عطارد فبالعكس من ذلك فيكون عند الانطباق في الذنب ويتجاوزه إلى النصف الجنوبي متباعدا ثم ينطبق وهو يتجاوزه إلى النصف الآخر الذي كان شماليا وقد صار الآن جنوبيا فمركز تدويره دائما إما على المنطقة وإما في الجنوب عنها ثم لهما أي للزهرة وعطارد عرضان آخران مغايران لعرضهما بسبب مدار مركز تدويرهما على الوجه الذي صورناه فإن القطر من تدويرهما المار بالذروة والحضيض ينطبق تارة على المنطقة وينفصل عنه آخرى كأنه أراد بالمنطقة مدار مركز تدويرهما فإن انطباق ذلك القطر إنما هو عليه في منتصف ما بين العقدتين دون منطقة البروج في العقدتين إذ هو هناك في غاية الميل عن المدار ومنطقة البروج المتطابقين ولذلك أمكن لجرم الزهرة عرض جنوبي ولجرم عطارد عرض شمالي كما أشرنا إليه وكذلك القطر المار بالبعدين الأوسطين من تدويرهما المقاطع للقطر المار بالذروة والحضيض منه له أيضا ميل يقتضي عرضا وكيفيته مسطورة في كتبهم ولقد أحسن في هذه الحوالة ولو عممها في أكثر المباحث السالفة وترك تفاصيلها لكان أحسن وأحسن لأن التعرض لها على الوجه الذي أورده أوجب انتشار الكلام وصعوبة الفهم وتزييلها بمباحث أخرى يوجب زيادة في الصعوبة فلذلك أعرضنا عن الإطناب واقتصرنا على ما ذكر في الكتاب والله الموفق للصواب واعلم أنهم لما اعتقدوا أن حركة الأفلاك يجب أن تكون دورية متشابهة تحيروا في مبدأ هذه (2/456)
الاختلافات المعلومة بالمشاهدة أو الرصد في هذه الكواكب ولم ينبسوا أي لم يتكلموا فيه أي في ذلك المبدأ بذات شفة أي بكلمة كافية شافية والذي ينحى بالهدم على قاعدتهم في هيئة أفلاك عطارد بعدما قدمناه من أن ما ذكروه استدلال باللازم على وجود الملزوم مع عدم العلم بالمساواة أنها أي تلك القاعدة تستلزم تشابه حركة مركز التدوير حول مركز الحامل لما نبهنا عليه والمدرك بالرصد خلافه فإنها وجدت لنقطة أي أن حركة مركز تدويره وجدت متشابهة حول نقطة أخرى تسمى تلك النقطة مركز معدل المسير وهي بين مركز العالم ومركز الخارج الذي هو المدير ومثل هذا الإشكال وارد على أفلاك العلوية والزهرة أيضا والذي ينحى بالهدم على قاعدتهم في الكل أن حركات الأفلاك إرادية على رأيهم فماذا يمنع أن تختلف تلك الحركات بحسب اختلاف ما يتعاقب عليها أي على الأفلاك من إرادات جزئية لا بد منها في تلك الحركات إذا قد علمت فيما سبق أنها أي أن القصة لا تكفي في الحركة الجزئية التعقل الكلي والحق إحالة ذلك كله إلى القادر المختار فإنها منجاة عن هذه الإشكالات وأمثالها كما نبهت عليه (2/457)
القسم الثاني في الكواكب
المتن
وكلها شفافة مضيئة إلا القمر فإنه كمد بل نوره من الشمس لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منه وفيه مقاصد
المقصد الأول
في الهلال والبدر والقمر لما كان يستضيء من الشمس فنصفه المقابل لها أبدا مضيء ونصفه الآخر مظلم ولما كان تحت الشمس فإذا كان القمر مقارنا لها كان وجهه المضيء إليها دوننا فلا نرى له ضوءا وكانت دائرة الرؤية منطبقة على دائرة الضوء وهي الفاصلة بين المضيء والمظلم منه ونفرض دائرة الرؤية ثابتة ودائرة الضوء تزول بزواله عن المسامتة فبعد الانفراج بينهما نرى قوسا من الوجه المضيء ولا يزال ذلك يكبر حتى يصير الوجه المضيء إلينا وينطبق الدائرتان مرة أخرى فنراه بدرا ثم يتقاربان فتتقاطع الدائرتان وينحرف عنا المضيء حتى يخفى بالكلية وهو المحاق وإنما لا يرى يوما وأكثر بعد المقارنة وقبلها لضعف ضوئه ودقته وقربه من الشمس مع ضوئها فيمتنع من إبصاره
الشرح
القسم الثاني من الأقسام الخمسة في الكواكب كلها شفافة لا لون لها مضيئة بذواتها إلا القمر فإنه كمد في نفسه تظهر كمودته أعني قتمته القريبة من السواد عند الخسوف وليس منيرا بذاته بل نوره من الشمس لاختلافه أشكاله النورية بحسب قربه وبعده عنها فيحدث من ذلك أن نوره (2/458)
مستفاد من ضوئها فقيل هو على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة وقيل يستنير جوهره
قال الإمام الرازي والأشبه هو الأخير إذ على الوجه الأول لا يكون جميع أجزائه مستنيرا لكنه كذلك كما يظهر من اعتبار حاله عند الطلوع والغروب ومنهم من قال كسف بعض الكواكب لبعضها يدل على أن لها لونا وإن كان ضعيفا فالعطارد صفرة وللزهر درية أي بياض صاف وللمريخ حمرة وللمشتري بياض غير خالص ولزحل قتمة مع كدورة وفيه أي في هذا القسم مقاصد خمسة
الأول في الهلال والبدر والقمر لما كان يستضيء من الشمس فنصفه المقابل لها أبدا مضيء ونصفه الآخر مظلم ولما كان تحت الشمس فإذا كان القمر مقارنا لها كان وجهه المضيء إليها دوننا فلا نرى له ضوءا أصلا وكانت حينئذ دائرة الرؤية وهي الدائرة الفاصلة بين المرئي وغير المرئي منه منطبقة على دائرة الضوء وهي الدائرة الفاصلة بين المضيء والمظلم منه ونفرض دائرة الرؤية ثابتة و نقول دائرة الضوء تزول لا محالة بزواله أي تزول بزوال القمر عن المسامتة أي المقارنة للشمس فبعد الانفراج بينهما أي بعد زوال الانطباق وحصول الانكشاف والتقاطع بين الدائرتين يقع شيء من الوجه المضيء مستدق بين نصفيهما وحينئذ نرى قوسا من الوجه المضيء إلينا فهذا المرئي هو الهلال ولا يزال ذلك يكبر بالبعد عن الشمس ويزداد المرئي من الوجه المضيء عظما حتى يصير الوجه المضيء بتمامه إلينا وذلك عند المقابلة التي هي غاية البعد بينهما وحينئذ تنطبق الدائرتان مرة أخرى فنراه بدرا كاملا كدائرة تامة ثم إن (2/459)
النيرين بعد غاية البعد بينهما يتقاربان من الجانب الآخر فتتقاطع حينئذ الدائرتان مرة أخرى وينحرف عنا شيء مستدق من الوجه المضيء فينتقص كمال البدرية وهكذا ينحرف المضيء شيئا فشيئا حتى نرى منه شكلا هلاليا في جانب المشرق ثم يخفى بالكلية وهو المحاق وإنما لا نرى القمر يوما وأكثر بعد المقارنة وقبلها لضعف ضوئه ودقته وقربه من الشمس مع ضوئها الغالب السائر لم يقرب منها فيمتنع القمر لهذه الأسباب من إبصاره وأما إذا كان بعيدا عنها في أحد جانبيها بمقدار اثنتي عشرة درجة فإنه يرى عادة مستمرة وربما نرى بأقل منها فإن ذلك مما يختلف بحسب عرض القمر وصفاء الأفق وقوة الباصرة
المقصد الثاني
المتن
في خسوف القمر وهو أنه قد يكون بقرب العقدتين فتكون الأرض بينه وبين الشمس فتمنع ضوؤها عنه فيرى كمدا كما هو لونه الأصلي ولأن جرم الأرض أصغر من جرم الشمس فيقع الظل مخروطا فإن لم يكن للقمر عرض انخسف كله لأنه أصغر من الأرض وإن كان له عرض فإن كان بقدر نصف قطر القمر ونصف قطر الظل لم ينخسف وإن كان أقل انخسف بعضه وذلك بقدر تقاطع القطرين
الشرح
المقصد الثاني في خسوف القمر وهو أنه قد يكون مقابلا للشمس بقرب العقدتين فتكون الأرض حينئذ واقعة بينه وبين الشمس فتمنع الأرض ضوؤها عنه فيرى كمدا كما هو لونه الأصلي ولأن جرم الأرض أصغر كثيرا من جرم الشمس فيقع الظل الناشئ من الأرض مخروطا قاعدته (2/460)
دائرة صغيرة على الأرض ورأسه على محاذاة جزء من أجزاء فلك البروج مقابل لجزء منه حل فيه الشمس فإن لم يكن للقمر في حالة المقابلة عرض بأن يكون في إحدى العقدتين انخسف بالكلية لأنه أصغر من الأرض بل من غلظ الظل حيث وصل إليه فيقع كله في داخله ومكث فيه زمانا وإن كان له عرض فإن كان ذلك العرض بقدر نصف قطر صفحة القمر ونصف قطر دائرة الظل وهي الدائرة الحادثة على مخروط الظل من توهم سطح جرم القمر الذي يرى كدائرة خارجا إلى أن ينقطع المخروط لم ينخسف القمر حينئذ بل ماس الظل من خارج كحدبتي دائرتين وإن كان ذلك العرض أقل من مجموع النصفين المذكورين انخسف بعضه وذلك بقدر تقاطع القطرين أي تلاقيهما وتداخلهما فإن فرض أن هذا العرض الأقل يساوي فضل نصف قطر الظل على نصف قطر القمر انخسف كله وماس سطحه دائرة الظل من داخل ولم يكن له مكث وأن كان أقل من ذلك الفضل انخسف بتمامه ومكث بحسب وقوعه في الظل
المقصد الثالث
المتن
في كسوف الشمس عند اجتماع القمر بالشمس إن لم يكن للقمر عرض حجب بيننا وبين الشمس فلم نر ضوء الشمس بل نرى لون القمر الكمد في وجه الشمس فنظن أن الشمس ذهب ضوؤها وهو الكسوف ويكون ذلك بقدر صفحة القمر فربما كسف الشمس كلها وأن كان أصغر (2/461)
منها لأنه أقرب إلينا فيوتر قطره الزاوية التي توترها الشمس كمدا وربما تكون الشمس في حضيضها فلقربها ترى أكبر والقمر في أوجه فلبعده يرى أصغر فلا يكسف جميع صفحتها بل يبقى منها حلقة نور محيطة به وقد روي أنها رؤيت وإن كان للقمر عرض فإن كان بقدر مجموع نصف قطرهما لم يكسفها وإن كان أقل منهما كسفها بقدر ذلك واعلم أن ابن الهيثم قال في اختلاف تشكلات القمر أنه يجوز أن يكون ذلك لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف وأنها تدور على نفسها بحركة مساوية لحركة فلكها فإذا كان نصفه المضيء إلينا فبدر أو المظلم فمحاق وفيما بينهما يختلف قدر ما نراه من المضيء ويبطله ما ذكرناه من أمر الخسوف والكسوف والاعتراض بعد تسليم الأصول أن نفي هذا الاحتمال لا ينفي جميع الاحتمالات فلعل ثمة سببا آخر ثم ما ذكرتم يجوز أن يكون لخلق الفاعل المختار النور في الشمس والكواكب أو استضاءتها بكواكب أخر مستورة عنا كيف ولا يلزم كون تلك الكواكب نيرة بل ربما تكون مقابلتها توجب ذلك
الشرح
المقصد الثالث في كسوف الشمس فنقول عند اجتماع القمر بالشمس في النهار اجتماعا مرئيا لا حقيقيا إن لم يكن للقمر عرض مرئي حجب بيننا وبين الشمس لوقوعه على الخط الخارج من أبصارنا إليها فلم نر ضوء الشمس بل نرى لون القمر الكمد في وجه الشمس فنظن أن الشمس ذهب ضوؤها وهو الكسوف فليس الكسوف بغير حال في ذات الشمس كالخسوف في ذات القمر ولذلك أمكن أن يقع كسوف بالقياس إلى قوم دون قوم ويكون ذلك بقدر صفحة القمر فربما كسف الشمس كلها وإن كان أصغر منها وذلك لأنه أقرب إلينا فيوتر قطره الزاوية التي توترها الشمس كمدا فتحجب به عنا بتمامها وربما تكون الشمس وقت انكسافها في حضيضها فلقربها منا ترى أكبر ويكون القمر حينئذ في أوجه فلبعده عنا يرى أصغر فلا يكسف جميع صفحتها بل تبقى منها حلقة نور محيطة به وقد روي أنها أي الحلقة النورانية رؤيت على وجهها (2/462)
في بعض الكسوفات مع ندرته وإن كان للقمر في ذلك الاجتماع عرض مرئي فإن كان ذلك العرض بقدر مجموع نصف قطرهما لم يكسفها وإن كان أكثر منهما فبالطريق الأولى وإن كان أقل منهما كسفها بقدر ذلك كما لا يخفى واعلم أن ابن الهيثم قال في اختلاف تشكلات القمر إنه يجوز أن يكون ذلك الاختلاف لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف وأنها أي تلك الكرة تدور على مركز نفسها بحركة مساوية لحركة فلكها فإذا كان نصفه المضيء إلينا كما في حال المقابلة فبدر أو المظلم كما في حال المقارنة فمحاق وفيما بينهما يختلف قدر ما نراه من المضيء هلاليا ونصف دائرة وإهليلجيا ويبطله أي يبطل قول ابن الهيثم ما ذكرناه من أمر الخسوف فإن كان الاحتمال يقتضي أن لا ينخسف القمر أصلا والكسوف وقع هذا اللفظ في نسخة الأصل ولذلك أخر المصنف كلام ابن الهيثم إلى هذا الموضع لكنه ضرب عليه بالقلم أخرا إذ لا وجه لصحته والاعتراض على ما ذكروه بعد تسليم الأصول التي ينوه عليها أن نفي هذا الاحتمال الذي أبداه ابن الهيثم في تشكلات القمر بمنافاته الخسوف لا ينفي جميع الاحتمالات العقلية في تلك التشكلات فلعل ثمة سببا آخر لاختلاف نور القمر مخالفا لما ذكره وما ذكرتموه لكنا لا نعلمه كأن يكون مثلا كوكب كمد تحت فلك القمر فينخسف به في بعض استقبالاته غير ما ذكرتم من الخسوف والكسوف ودوام نور باقي الكواكب يجوز أن يكون لخلق الفاعل المختار النور في الشمس والقمر في أكثر (2/463)
الأوقات وعدم خلقه النور فيهما أحيانا وخلقه إياه في باقي الكواكب دائما أو استضاءتها أي أو لاستضاءة الشمس والقمر والكواكب المحسوسة مطلقا بكواكب أخر مستورة عنا لا نشاهدها أصلا وإن كانت مضيئة جدا إما لبعدها أو لكونها محجوبة ببعض الأجرام السماوية المظلمة ثم يتغير الحال فيهما دون باقي الكواكب كيف لا يجوز هذا الاحتمال والحال أن هناك احتمالا آخر أبعد منه وهو أنه لا يلزم كون تلك الكواكب المستورة عنا نيرة في أنفسها بل ربما تكون مقابلتها للكواكب المحسوسة توجب ذلك النور فيها كما في تقابل الأجسام الكمدة الثقيلة جدا
المقصد الرابع
المتن
في محو القمر وفيه آراء
الأول قيل خيال قلنا فيختلف الناظرون فيه
الثاني قيل شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الجبال والبحار قلنا فيختلف باختلاف القمر في قربه وبعده وانحرافه عما ينطبع فيه
الثالث السواد الكائن في الوجه الآخر قلنا فلا يرى متفرقا
الرابع تسخين النار قلنا لا هو مماس للنار ولا قابل للتسخن عندكم
الخامس جزء منه لا يقبل النور قلنا فإذا لا يطرد القول ببساطة الفلكيات ويبطل جميع قواعدهم
السادس وجه القمر فإنه مصور بصورة إنسان قلنا فيتعطل فعل الطبيعة عندكم لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضر
السابع أجسام سماوية حافظة لوضعها معه وهذا أقرب لكن لا يصح للتعويل (2/464)
الشرح
المقصد الرابع في محو القمر المشاهد في صفحته وفيه آراء
الأول قيل خيال لا حقيقة له قلنا فيختلف الناظرون فيه لاستحالة توافقهم كلهم في خيال واحد
الثاني قيل هو شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الجبال والبحار وغيرها قلنا فيختلف باختلاف القمر في قربه وبعده وانحرافه عما ينطبع فيه
الثالث هو السواد الكائن في الوجه الآخر قلنا فلا يرى متفرقا
الرابع هو تسخين النار للقمر قلنا لا هو مماس للنار لأنه مركوز في تدوير هو في ثخن حامل فبينه وبين النار بعد بعيد ولو فرض أنه في حضيض التدوير مع كونه في حضيض الحامل لم يتصور هنا مماسة لا بنقطة واحدة ولا هو قابل للتسخن عندكم فكيف يتسخن بها
الخامس هو جزء منه لا يقبل النور كسائر أجزائه القابلة له قلنا فإذن لا يطرد القول ببساطة الفلكيات إذ القمر حينئذ مركب من أجزاء متخالفة الحقائق ويبطل على هذا التقدير جميع قواعدكم المبنية على بساطتها
السادس هو وجه القمر فإنه مصور بصورة إنسان أي بصورة وجه الإنسان فله عينان وحاجبان وأنف وفم قلنا فيتعطل فعل الطبيعة عندكم لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضر فإن الفم لدخول الغذاء والأنف لفائدة الشم والحاجبين لدفع العرق عن العينين وليس القمر قابلا لشيء من ذلك فيلزم التعطيل الدائم فيما زعمتم أنه أحسن النظام وأبلغه (2/465)
السابع هو أجسام سماوية مختلفة معه في تدويره غير قابلة للإنارة بالتساوي حافظة لوضعها معه دائما وهذا أقرب ما قيل لكن لا يصلح للتعويل
المقصد الخامس
المتن
في المجرة قيل احتراق حدث من الشمس في تلك الدائرة في بعض الأزمان وقيل بخار دخاني وقيل كواكب صغار لا تتمايز حسا والغرض من نقل هذه الاختلافات إبداء ما ذكروه من الخرافات ليتحقق للعاقل الفطن أنه لا ثبت لهم فيما يقولونه ولا معول على ما ينقلونه وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر
الشرح
المقصد الخامس في المجرة وهي الدائرة التبنية المسماة عند العوام بسبيل التبانين قيل احتراق حدث من الشمس في تلك الدائرة في بعض الأزمان السالفة وإنما يصح إذا كانت الشمس موصوفة بالحرارة والإحراق وكان الفلك قابلا للتأثر والاحتراق وقيل بخار دخاني واقع في الهواء ويرد عليه أنه يلزم منه اختلافها في الصيف والشتاء لقلة المدد في أحدهما وكثرته في الآخر وقيل كواكب صغار مقاربة متشابكة لا تتمايز حسا بل هي لشدة تكاثفها وصغرها صارت كأنها لطخات سحابية
قال الآمدي والغرض من نقل هذه الاختلافات إبداء ما ذكروه من (2/466)
الخرافات ليتحقق ويتبين للعاقل الفطن إنه لا ثبت أي لا حجة لهم فيما يقولونه ويعتقدونه ولا معول على ما ينقلونه من أوائلهم ويعتمدونه وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر (2/467)
القسم الثالث في العناصر
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
المتأخرون على أنها أربعة أقسام
خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز وهي النار وهي حارة بالحس ويابسة لأنها تفني الرطوبات
فإن قيل ألست فسرت اليبوسة بعسر قبول الأشكال وتركها والنار بخلافه سهلة التشكل والترك
قلنا ذلك فيما عندنا من النيران وهي مغلوبة بالهواء فلم قلت إن النار بسيطة كذلك
وخفيف مضاف يقتضي أن يكون تحت النار وفوق الآخرين وهذا خو خفته المضافة وهو الهواء حار رطب بالطبع أي لو خلي وطبعه لأحس منه بالكيفيتين وكذلك في سائر العناصر وما يعرض له من البرد لمجاورة الأرض وثقيل مطلق يطلب المركز وهي الأرض باردة يابسة ويحققهما الحس
وثقيل مضاف يقتضي أن يكون فوق الأرض وتحت الآخرين وهذا (2/468)
ثقله المضاف وهو الماء بارد رطب بالطبع وطبيعته الجمود لأن طبيعته البرد وأنه يوجب جموده لكن الشمس تذيبها
المناقضة لم لا يجوز أن لا تكون أربعة بل الحق أحد الأقوال التي نذكرها إذ قيل واحدة على خمسة أقوال
الأول إنما هي النار لشدة بساطتها إذ الحرارة مدبرة للكائنات ولأنها تحيل الغير إلى طبعها وحصلت البواقي بالتكاثف
الثاني الهواء لرطوبته ومطاوعته للانفعالات ويحصل النار بالحرارة الملطفة والباقيان بالبرودة المكثفة
الثالث الماء إذ قبوله التخلخل والتكاثف محسوس
الرابع الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف
الخامس بخار لتوسطه بين الأربعة
وقيل لا بد من التعدد فاثنان على ثلاثة أقوال
الأول النار لأنها في غاية الخفة والحرارة والأرض لأنها في غاية الثقل والبرودة والهواء نار مفترة والماء أرض متخلخلة بالمزج
الثاني الماء والأرض لافتقار الكائنات إلى الرطب للانفعال واليابس للحفظ
الثالث الأرض والهواء لمثل ذلك
وقيل ثلاثة هي الأرض والماء والهواء لما مر والنار للحرارة المدبرة
وقيل أجسام صلبة غير متجزئة لا نهاية لها
وقيل السطوح ولا يكفي إبطال بعضها بالحجة بل لا بد من إبطال الجميع وهو مما لا سبيل إليه سلمنا لكن لم قلتم إن الأجسام ليست (2/469)
متجانسة ويكون الاختلاف في الصفات للفاعل المختار سلمنا أنها أربعة فلم لا يجوز أن تكون خفيفة طالبة للمحيط أو ثقيلة طالبة للمركز ويكون ما فيها من التفاوت لتفاوتها في الثقل والخفة ثم لم يقم دليل على وجود كرة النار عند المحيط وإنما المشاهد استحالات تحدث لبعض الأجسام كما عند الإبراد والإحراق وإن سلم فما الدليل على أن البسيط منها يصعب تشكله وهل إلى ذلك الطريق إلا التجربة وكيف التجربة فيها وإفناؤها الرطوبات إفناء للأجزاء المائية ولا دليل فيه على اليبوسة فإن الهواء أيضا يعمل ذلك
فإن قلت ذلك لما فيه من أجزاء نارية
قلنا فيجب أن لا يكون الهواء البارد فاعلا لذلك
وبالجملة فلا يمكن القطع به وعليكم الدليل وكيف وشعاع الشمس يفعل ذلك مع أنه لا يوصف بحر ولا يبوسة ولا غيرهما من الكيفيات ثم لا نسلم أن الهواء حار وإنما يستفيد الحر من أشعة الشمس فلذلك كلما كان أرفع كان أقل حرا حتى يصير زمهريرا فلم قلتم أن ذلك ليس له بالطبع ولا نسلم أنه رطب فإنكم اتفقتم على أن مخالطة الرطب باليابس تفيد استمساكا والهواء ليس كذلك ثم لا نسلم أن طبيعة الماء الجمود ولو كان كذلك كان باطن الماء بالانجماد أحرى من ظاهره فظاهر أن جموده يبرد بالهواء فالبارد بالطبع الهواء والماء بطبعه لا بارد ولا حار وكيف تجمعون بين قولكم طبيعته الجمود مع القول برطوبته فإن قلتم لأنه سهل التشكل إذا يكفي في ذوبانه أدنى سبب قلنا فلم قلتم إن سائر العناصر ليس كذلك غاية ما في الباب أن تلك الأسباب لما قل وقوعها أو لم تقع لم نقف عليها وعليها الوجدان لا يدل على العدم (2/470)
الشرح
القسم الثالث في العناصر وفيه مقاصد ثلاثة عشر المقصد الأول المتأخرون من الحكماء على أنها أربعة أقسام
خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز أي إذا ترك وطبعه في أي حيز كان من أحياز العناصر المغايرة له كان طالبا للمحيط وهي النار وهي حارة بالحس حرارة شديدة في الغاية ولذلك كانت طالبة المقعر الفلك ويابسة لأنها تفني الرطوبات عن الأجسام الملاقية لها فإن قيل ألست فسرت اليبوسة بعسر قبول الأشكال وتركها والنار بخلافه لأنها سهلة التشكل والترك قلنا ذلك الذي ذكرته إنما هو فيما عندنا من النيران وهي مغلوبة بالهواء فلذلك كانت سهلة القبول والترك فلم قلت إن النار البسيطة التي عند المحيط كذلك
وخفيف مضاف يقتضي أن يكون تحت النار وفوق الآخرين وهذا الاقتضاء هو خفته المضافة إلى العنصرين الآخرين وإن كان ثقيلا بالنسبة إلى النار وحدها وهو الهواء وأنه حار رطب بالطبع أي لو خلي وطبعه لأحس منه بالكيفيتين وكذلك الحال في الكيفيات المنسوبة إلى سائر العناصر وما يعرض له أي للهواء من البرد إنما هو لمجاورة الأرض والماء وثقيل مطلق يطلب المركز على معنى أنه يقتضي انطباق مركز ثقله على مركز العالم فهو إذا ترك وطبعه في أي حيز كان من أحياز العناصر المغايرة له طلبه وهي الأرض باردة يابسة ويحققهما الحس وثقيل مضاف يقتضي أن يكون فوق الأرض وتحت الآخرين وهذا الذي ذكرناه هو ثقلته (2/471)
المضافة إلى العنصرين الآخرين وإن كان خفيفا بالنسبة إلى الأرض وحدها وهو الماء بارد رطب بالطبع على ما مر من التفسير وطبيعته الجمود لأن طبيعته البرد وأنه يوجب جموده لكن الشمس تذيبها قالوا وعلى الترتيب المذكور تكون العناصر المتناسبة متجاورة والمتضادة كالنار والماء وكالهواء والأرض متباعدة وما كان منها ألطف فهو إلى الفلك أقرب وما كان أكثف فهو أبعد فهذا هو النصف المحكم الذي عليه الوجود
قال المصنف المناقضة لما ذكروه أن يقال لم لا يجوز أن لا تكون أربعة بل الحق أحد الأقوال التي نذكرها الآن إذ قيل هي واحدة واختلفوا في تلك الواحدة على خمسة أقوال
الأول إنما هي النار لشدة بساطتها إذ لا جسم أصرف في طبيعته من النار إذ الحرارة المفرطة التي فيها مديرة للكائنات ولأنها تحيل الغير إلى طبعها وحصلت البواقي من النار بالتكاثف فهي نار متكاثفة على وجوه متفاوتة
الثاني هي الهواء لرطوبته ومطاوعته للانفعالات ولا شك أن الأصل يجب أن يكون مطاوعا للتغيرات ويحصل من الهواء النار بالحرارة المطلقة فهي هواء لطفته الحرارة والباقيان بالبرودة المكثفة فهما هواء متكاثف تكاثفا متفاوتا
الثالث هي الماء إذ قبوله التخلخل بالحرارة والتكاثف بالبرودة محسوس فحصل من تخلخله الهواء والنار ومن تكاثفه الأرض
الرابع هي الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف الواقع على مراتب مختلفة (2/472)
الخامس هي البخار لتوسطه بين الأربعة في اللطافة والكثافة فبازدياد لطافته يصير هواء ونار وبازدياد كثافته ماء وأرضا
وقيل ليست واحدة بل لا بد من التعدد فيها لأن التركيب في الكائنات يستدعي تعدد ما منه تركيبها فاثنان على ثلاثة أقوال
الأول هما النار لأنها في غاية الخفة والحرارة والأرض لأنها في غاية الثقل والبرودة والهواء نار مفترة والماء أرض متخلخلة بالمزج مع أجزاء نارية
الثاني هما الماء والأرض لافتقار الكائنات إلى الرطب للانفعال وحصول الأشكال وإلى اليابس للحفظ على الأشكال الحاصلة
الثالث هما الأرض والهواء لمثل ذلك فإن الهواء رطب قابل للأشكال بسهولة والأرض يابسة حافظة لها فالماء هواء اشتد تكاثفه والنار هواء اشتد حرارته
وقيل العناصر ثلاثة هي الأرض والماء والهواء لما مر من افتقار الكائنات إلى رطب ويابس والنار للحرارة المدبرة وقد وقع في كلام الآمدي الهواء بدل الماء ولذلك قال فالماء هواء متكاثف وفي كلام بعضهم أن الثلاثة هي ما عدا النار
وقيل أصول المركبات ليست أربعة أو ما دونها على ما مر بل هي أجسام وفي كلام الآمدي جواهر صلبة غير متجزئة لا نهاية لها
وقيل أصول المركبات هي السطوح لأن التركيب إنما يكون بالتلاقي والتماس وأول ما يكون ذلك بين السطوح المستقيمة ولا يكفي في إثبات كون العناصر أربعة إبطال بعضها أي بعض هذه الأقوال الخمسة المنافية له بالحجة بل لا بد في إثباته من إبطال الجميع وهو مما لا سبيل إليه سلمنا بطلان هذه الأقوال بأسرها لكن ليس يلزم من ذلك كونها أربعة إذ لقائل أن يقول لم قلتم أن الأجسام ليست متجانسة (2/473)
فيكون الاختلاف حينئذ فيما بينها لا في الصور المقومة والطبائع الجوهرية بل في الصفات للفاعل المختار سلمنا أنها أربعة لكن لا نسلم ما ذكر من أحوالها بل نقول فلم لا يجوز أن تكون كلها خفيفة طالبة للمحيط أو تكون كلها ثقيلة طالبة للمركز ويكون ما فيها من التفاوت في الأحياز لتفاوتها في الثقل والخفة فالأثقل أسبق إلى المركز من الثقيل الطالب له أيضا والأخف أسبق إلى المحيط من الخفيف الذي يطلبه ألا ترى أن الأجسام الأرضية المتشاركة في أصل الثقل تتفاوت أحوالها بتفاوتها في مراتبه فبعضها يرسب في الماء إلى تحت وبعضها يغوص فيه ولا يرسب وبعضها يطفو عليه ثم نقول بعد تسليم وجود النار في الجملة لم يقم دليل على وجود كرة النار عند المحيط كما زعمتم وإنما المشاهد استحالات تحدث لبعض الأجسام إلى النار كما عند الإبراد والإحراق لا يقال الشهب دالة على وجودها لأنا نقول جاز أن يكون هناك هواء حار يقتضي استحالة الأدخنة المرتفعة إلى النار فلا يثبت وجود كرتها وإن سلم وجود كرة النار فما الدليل على أن البسيط منها يصعب تشكله حتى نثبت يبوسة النار وهل إلى ذلك طريق إلى التجربة وكيف تتصور التجربة فيها وأما إفناؤها الرطوبات عن الأجسام فلا يدل على كونها يابسة في جوهرها لأنه إفناء للأجزاء المائية التي هي رطوبة بمعنى البلة ولا دليل فيه على اليبوسة الطبيعة فإن الهواء أيضا يعمل ذلك الإفناء مع أنه رطب الجوهر فإن قلت (2/474)
ذلك أي إفناء الهواء للرطوبات عن الأجسام إنما هو لما فيه من أجزاء نارية
قلنا فيجب أن لا يكون الهواء البارد فاعلا لذلك إذ لا يتصور فيه الأجزاء النارية مع أنه يفني الرطوبة ويجفف الثوب المبلول
وبالجملة فلا يمكن القطع به أي بأن إفناء الرطوبة بمعنى البلة يدل على يبوسة المفني في ذاته لأنه موجود بدونها كما في الهواء وعليكم الدليل الموجب للقطع به وكيف يقطع به وشعاع الشمس يفعل ذلك مع أنه لا يوصف في نفسه بحر ولا يبوسة ولا غيرهما من الكيفيات ثم لا نسلم أن الهواء حار بل هو بارد بطبعه وإنما يستفاد الحر من أشعة الشمس المنعكسة إليه من الأرض فلذلك كلما كان الهواء أرفع وأبعد عن الأرض كان أقل حرا لضعف الانعكاس إليه وهكذا كلما زاد ارتفاعه قل حره وظهر برده حتى يصير زمهريرا في غاية البرودة فلم قلتم إن ذلك البرد الشديد في الهواء ليس له بالطبع بل لمخالطة الأجزاء الرشية المائية التي عادت إلى برودتها الطبيعية ولم يصل إليها أثر الانعكاس ولا نسلم أيضا أنه رطب فإنكم اتفقتم على أن مخالطة الرطب اليابس تفيده استمساكا عن التشتت والهواء ليس كذلك فإن الأجزاء الترابية لا تستمسك بمخالطته ثم لا نسلم أن طبيعة الماء الجمود ولو كان كذلك كان باطن الماء بالانجماد أحرى من ظاهره فظاهر عند العاقل أن جموده ببرد الهواء المجاور له فالبرد بالطبع هو الهواء وأما الماء فأنه بطبعه لا بارد ولا حار وكيف تجمعون بين قولكم طبيعته الجمود مع القول برطوبته فإن قلتم لا منافاة بين القولين لأنه سهل التشكل في نفسه إذ (2/475)
يكفي في ذوبانه الذي تظهر معه السهولة أدنى سبب من الحرارة فمثل هذا الجمود لا ينافي الرطوبة الجوهرية قلنا هذا باطل قطعا إذ مع الجمود الذي هو مقتضى طبعه لا سهولة له وذوبانه المستلزم لها مستندا إلى أمر خارج لئن نزلنا عن هذا المقام قلنا فلم قلتم إن سائر العناصر كالأرض ليس كذلك أي قابلا للذوبان بأدنى سبب من الأسباب غاية ما في الباب أن تلك الأسباب لما قل وقوعها أو لم تقع أصلا لم نقف عليها وعدم الوجدان لا يدل على العدم وحينئذ جاز أن تكون الأرض رطبة
المقصد الثاني
زعموا أن الأرض كروية أما في الطول فلأن البلاد كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة وإنما قلنا بذلك لأنا لما رصدنا خسوفا بعينه في وقت من الليل وجدناه في بلاد شرقيه مثلا آخر الليل وفي بلاد غربية عنها بمسافة معينة قبله بساعة وفي بلاد غربية عنها بتلك المسافة بعينها قبل الأول بساعتين وقبل الثاني بساعة وعلى هذا فعلمنا أن طلوعها على الغربية متأخر وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه حتى يصير بحيث يراه قريبا من سمت رأسه ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الجنوبية والسالك في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين وأورد عليهم الاختلاف الذي في سطحها فأجابوا بأنه كتضاريس صغيرة على كرة كبيرة فلا يقدح في أصل الكروية فإن أعظم جبل على وجه الأرض نسبته إليها كخمس سبع عرض شعيرة على كرة قطرها ذراع والاعتراض هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور بالماء
فإن قيل إذا كان الظاهر كرويا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة
قلنا فالمرجع إلى البساطة واقتضائها الكرة ويمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس (2/476)
الشرح
المقصد الثاني زعموا أن الأرض كروية أما في الطول أي فيما بين المشرق والمغرب فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة وكذا الحال في الغروب ولا يعقل ذلك التأخر في الطلوع والغروب بتلك النسبة إلا في الكرة وإنما قلنا بذلك التأخر لأنا لما رصدنا خسوفا بعينه في وقت من الليل وجدناه في بلاد شرقية مثلا آخر الليل ووجدناه في بلاد غربية عنها أي عن البلاد الأولى بمسافة معينة هي ألف ميل قبله أي قبل آخر الليل بساعة ووجدناه في بلاد أخرى غريبة عنها أي عن البلاد الثانية بتلك المسافة بعينها قبل الأول بساعتين وقبل الثاني بساعة والحاصل أنه يوجد في هذه البلاد الأخرى قبل آخر الليل بساعتين وعلى هذا القياس فعلمنا أن طلوعها أي طلوع الشمس على الغربية متأخر بنسبة واحدة لأن الخسوف المعين كان في البلاد الأولى عند طلوع الشمس وفي الثانية قبله بساعة وفي الثالثة قبله بساعتين وأما في العرض أي فيما بين الشمال والجنوب فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة حتى يصير بحيث يراه قريبا من سمت رأسه ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية التي كانت مختفية عنه وتخفى عنه الكواكب الجنوبية التي كانت ظاهرة عليه والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما أي بين الطول والعرض فلتركب الأمرين فإن السالك فيما بين المشرق والشمال يتقدم عليه الطلوع بمقدار قربه من المشرق ويزداد ارتفاع القطب عليه بمقدار وغوله في الشمال وقس على هذا حال السالك فيما بين المغرب والشمال وحال السالك في السمتين المقابلين لهما وأورد عليهم الاختلاف الذي في سطحها فأجابوا عنه بأنه كتضاريس صغيرة على كرة كبيرة فلا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر فإن أعظم جبل (2/477)
على وجه الأرض نسبته إليها كخمس سبع عرض شعيرة على كرة قطرها ذراع والصحيح كما مر أن يقال فإن جبل يرتفع نصف فرسخ إلى آخره أو يحذف لفظ الخمس والاعتراض على هذا الجواب أن يقال هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور بالماء إذ لا يتأتى فيه ذلك
فإن قيل إذا كان الظاهر كرويا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة قلنا فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضائها الكرة الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر تلك التضاريس للحس بسبب كونها في غاية الصغر واعلم أن أرباب التعاليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر من الأرض والماء فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة
المقصد الثالث
المتن
والماء كري لوجوه
الأول أن السائر في البحر يرى رأس الجبل قبل أسفله وما هو إلا لستر تقبيب الماء له لا يقال الماء شفاف فلا يستره لأنا نقول ذلك في الماء البسيط وهذا يخالطه من الأرضية ولذلك ملوحته
الثاني الماء المرمي إلى فوق يعود كريا وإنما يتم ذلك إذا بين كونه كرة حقيقية والحس لا يعتمد عليه في مثله وإن ذلك لطبعه لا لمصادمة الهواء أو بدحرجة في الطريق أو بسبب آخر ثم أنهم يزعمون أن الماء أينما كان فهو قطعة من كرة مركزها مركز العالم الذي هو المركز الطبيعي للماء وعليه بنو حكاية الطاس في قلة الجبل وقعر البئر كما سبق وهذا لا يعطيه (2/478)
الثالث مثل ما تقدم في الأرض من طلوع الكواكب وظهور القطب والكواكب
الشرح
المقصد الثالث قالوا والماء أيضا كري لوجوه ثلاثة
الأول أن السائر في البحر يرى رأس الجبل قبل أسفله يعني أنه يظهر عليه رأي الجبل أولا ثم ما يليه شيئا فشيئا إلى أسفله كأنه يطلع من الماء متدرجا على نسبة واحدة وما هو إلا لستر تقبيب الماء على هيئة حدبة الاستدارة له عن الرؤية لا يقال الماء شفاف لا لون له فلا يستره كالهواء لأنا نقول ذلك الذي ذكرتموه إنما هو في الماء البسيط الصرف وهذا الماء الساتر يخالطه أجزاء من الأرضية ولذلك ملوحته فله لون ماء كسائر المياه المرئية لنا
الوجه الثاني الماء المرمي إلى فوق يعود كريا وكذلك الماء المصبوب على تراب لطيف جدا فإن قطراته تتشكل بشكل الكرة فدل على أن طبيعته تقتضي الكرية وإنما يتم ذلك إذا بين كونه كرة حقيقة والحس لا يعتمد عليه في مثله وبين أيضا أن ذلك لطبعه لا لمصادمة الهواء إياه من جوانبه أو بدحرجة في الطريق أو بسبب آخر لا نعلمه ثم أنهم أي المتمسكين بالوجه الثاني وهم الطبيعيون يزعمون أن الماء أينما كان فهو قطعة من كرة الماء مركزها مركز العالم الذي هو المركز الطبيعي للماء وعليه بنوا حكاية الطاس في قلة الجبل وقعر البئر كما سبق وهذا المبني عليه لا يقطعه أي لا يفيد الفرع الذي بنوه عليه لجواز أن يكون هناك مانع يمنع الماء في الطاس عن مقتضى طبعه الذي هو الاستدارة (2/479)
الوجه الثالث مثل ما تقدم في الأرض من تقدم طلوع الكواكب وظهور القطب وارتفاعه وظهور الكواكب واختفائه
المقصد الرابع
المتن
الأرض في وسط الكل لأن الكواكب في جميع الجهات ترى بقدر واحد لا تفاوت فيه ولولا أنه في الوسط لكان في بعض الجوانب أقرب فترى أكبر وفي بعض الجوانب أبعد فترى أصغر ونقول لم لا يجوز أن يكون خروجها عن الوسط بقدر لا يكون التفاوت الموجب له محسوسا وهو مقدار غير قليل في نفسه
الشرح
المقصد الرابع الأرض في وسط الكل أي مركز حجمها منطبق على مركز العالم لأن الكواكب في جميع الجهات والجوانب من الأرض ترى بقدر واحد لا تفاوت فيه ولولا أنه أي الثقيل المطلق الذي هو الأرض في الوسط لكان في بعض الجوانب أقرب إلى السماء فترى الكواكب هناك أكبر وفي بعض الجوانب أبعد منها فترى الكواكب فيه أصغر ونقول نحن في رد ما ذكروه لم لا يجوز أن يكون خروجها عن الوسط بقدر لا يكون التفاوت الموجب بفتح الجيم له أي لذلك القدر محسوسا وهو أي قدر الخروج مع كونه موجبا لتفاوت غير محسوس في الكواكب مقدار غير قليل في نفسه بل هو كثير (2/480)
المقصد الخامس
المتن
ليس للأرض عند الأفلاك قدر محسوس فالخط الخارج من مركزها إلى نقطة ما والخارج من الباصرة وإن كانا يتقاطعان ضرورة بزاوية حادة لكن موقعهما لا يتفاوت في الحس ولذلك كان الظاهر والخفي من الفلك متساويين يدل على ذلك طلوع كل جزء مع غروب نظيره لا قبل ولا بعد وهذا بالنسبة إلى غير فلك القمر وأما فلك القمر فللأرض عنده قدر محسوس ولذلك يختلف موضع الخطين المذكورين فيكون الموضع الحقيقي للقمر وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من مركز الأرض غير الموضع المرئي وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من الباصرة لأجل التقاطع المذكور وذلك الاختلاف بحسب زاوية التقاطع وهذا التفاوت يسمى اختلاف المنظر ولا شك أن الخطين المتقاطعين ما كان مبدؤه فوق يقع منتهاه تحت فالخط الخارج من الباصرة أقرب إلى الأفق دائما فموضعه الحقيقي فوق المرئي أبدا فإذا اعتبر نازلا كان المرئي زائدا على ما نزل بذلك القدر فيزداد على الحقيقي فيكون المرئي أو ينتقص من المرئي فيكون الحقيقي وإذا اعتبر صاعدا كان الأمر بالعكس وليس لشيء من الكواكب الباقية اختلاف منظر وربما يستخرج بالحساب شيء يسير للشمس
الشرح
المقصد الخامس ليس للأرض عند الأفلاك قدر محسوس فالخط الخارج من مركزها إلى نقطة ما على الفلك كمركز كوكب من الكواكب (2/481)
والخط الخارج من الباصرة التي هي في حكم سطح الأرض وإن كانا يتقاطعان علىتلك النقطة ضرورة بزاوية حادة من جانب الأرض ثم يتفارقان على زاوية أخرى مساوية للأولى ذاهبين إلى سطح الفلك الأعلى فلا شك أنهما يقعان منه على موضعين بينهما بعد بحسب نفس الأمر لكن موقعهما لا يتفاوت في الحس كأن أحدهما انطبق على الآخر وصار موقعهما واحدا ولذلك أي ولأن الأرض ليس لها قدر محسوس بالنسبة إلى الأفلاك كان الظاهر والخفي من الفلك متساويين وكان الأفق الحقيقي المار بمركز العالم والحس المار بظاهر الأرض في حكم دائرتين متطابقتين مع أن مقدار نصف قطر الأرض واقع بينهما يدل على ذلك التساوي طلوع كل جزء مع غروب نظيره لا قبل حتى يكون الظاهر أكبر ولا بعد حتى يكون الخفي أكبر وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى غير فلك القمر وأما فلك القمر فللأرض بل لنصف قطرها عنده قدر محسوس ولذلك يختلف في الحس موضع الخطين المذكورين في دائرة الارتفاع على سطح الفلك الأعلى فيكون الموضع الحقيقي للقمر في تلك الدائرة وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من مركز الأرض مارا بمركز القمر غير الوضع المرئي له فيها وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من الباصرة مارا بمركزه وإنما اختلف الموضعان في الحس لأجل التقاطع المذكور وهو تقاطعهما على مركز القمر بزاوية حادة من الجانبين على ما مر لكنها معتبرة في الحس ههنا لقرب القمر الموجب لكبر الزاوية وذلك الاختلاف في دائرة الارتفاع بحسب زاوية التقاطع فكلما كانت الزاوية أكبر كان الاختلاف بين الموضعين أكثر وكلما كانت أصغر كان أقل وهذا التفاوت (2/482)
يسمى اختلاف المنظر ولا شك أن الخطين المتقاطعين ما كان مبدؤه فوق يقع منتهاه تحت فالخط الخارج من الباصرة منتهاه أقرب إلى الأفق دائما فموضعه الحقيقي فوق المرئي أبدا فلو فرض أن القمر على سمت الرأس لم يكن له اختلاف منظر لاتحاد الخطين حينئذ وإذا لم يكن عليه كان له ذلك ويكون موضعه الحقيقي أبعد عن الأفق وأقرب إلى سمت الرأس لما عرفت ثم أن هذا الاختلاف الواقع في دائرة الارتفاع قد يقتضي اختلافا في طول الكوكب وعرضه فإنا إذا فرضنا دائرتي عرض تمران بطرفي الخطين المذكورين فهما إذا وقعتا على نقطتين من فلك البروج كان ما بينهما اختلافا يبن الطولين الحقيقي والمرئي وإذا اختلفت القوسان الواقعتان منهما بين طرفي الخطين وبين فلك البروج كان مقدار التفاضل بينهما اختلاف العرضين الحقيقي والمرئي وإذا كان الكوكب على وسط سماء الرؤية لم يكن له باختلاف منظره اختلاف في الطول لأن الدائرتين متحدتان حينئذ فتتحد النقطتان على فلك البروج ويكون حينئذ اختلاف منظره هو اختلاف العرض بعينه وإذا لم يكن الكوكب عليها كان له اختلاف في الطول على ما أشار أليه بقوله فإذا اعتبر أي القمر نازلا والصواب أن يقال صاعدا بأن يكون في الربع الشرقي من وسط سماء الرؤية كان الطول المرئي زائدا على ما ينزل والصحيح أن يقال على الحقيقي بذلك القدر من فلك البروج الذي يقتضيه اختلاف منظره من دائرة الارتفاع على ما صورناه فيزداد ذلك القدر على الطول الحقيقي فيكون الحاصل بالزيادة الطول المرئي أو ينتقص ذلك القدر من الطول المرئي فيكون الباقي بعد النقصان الطول الحقيقي وإذا اعتبر صاعدا بل نازلا بأن يكون القمر في الربع الغربي من وسط سماء الرؤية كان الأمر بالعكس مما ذكر أي يزداد ذلك القدر على المرئي ليحصل الحقيقي أو ينقص من الحقيقي ليحصل المرئي والسبب في الزيادة والنقصان على الوجه المذكور في كل واحد من الأصل والعكس هو أن الموضع المرئي أقرب إلى الأفق دائما مع أن توالي البروج من المغرب إلى المشرق وليس لشيء من الكواكب الباقية اختلاف منظر فالثوابت والعلوية ليس لها ذلك الاختلاف أصلا وربما يستخرج (2/483)
بالحساب شيء يسير غير محسوس من اختلاف المنظر للشمس وأما السفليتان فقد مر أنه لم يعلم حالهما في اختلاف المنظر
المقصد السادس
المتن
الأرض ساكنة وقيل هاوية إلى أسفل أبدا فلا تزال تنزل في خلاء غير متناه لما في طبيعتها من الاعتماد الهابط ويبطله بيان تناهي الأبعاد سيما عند من يبطل الخلاء وقيل إنها تدور على نفسها من المغرب إلى المشرق خلاف الحركة اليومية والحركة اليومية لا توجد وإنما تتخيل بسبب حركة الأرض إذ يتبدل الوضع من الفلك دون أجزاء الأرض فيظن أن الأرض ساكنة والمتحرك هو الفلك بل ليس ثمة فلك أطلس وذلك كراكب السفينة يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه والشط متحركا مع سكونه حيث يتبدل وضعه منه مع ظن أنه ساكن وكذلك يرى القمر سائرا إلى الغيم حين يسير الغيم إليه وغيره من أمور قدمناها في غلط الحس وأبطلوا ذلك بوجوه
الأول أن الأرض لو كانت متحركة في اليوم بليلته دورة واحدة لكان ينبغي أن السهم إذا رمي إلى جهة حركة الأرض أن لا يسبق موضعه الذي رمي منه بل تسبقه الأرض وإذا رمي إلى خلاف حركتها أن يمر بقدر (2/484)
حركته وحركة الأرض جميعا واللازم باطل لاستواء المسافة من الجانبين بالتجربة
الثاني الحجر يرمى إلى فوق فيعود إلى موضعه راجعا بخط مستقيم ولو كانت الأرض متحركة إلى المشرق لكان ينزل من مكانه إلى جانب المغرب بقدر حركة الأرض في ذلك الزمان والوجهان ضعيفان لجواز أن يشايعها الهواء في الحركة كما يقولون بمشايعة النار للفلك فلا يلزم شيء من ذلك وعمدتهم في بيان ذلك أن الأرض فيها مبدأ ميل مستقيم فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير
والاعتراض عليه منع وجود ذلك المبدأ فيها وهو مبني على أن ما لا ميل له لا يتحرك قسرا وقد عرفت ضعفه ثم لا نسلم تنافيهما لما بينا من اجتماعهما في العجلة والدحرجة
الشرح
المقصد السادس الأرض ساكنة وقيل صاعدة وقيل هاوية أي متحركة إلى أسفل أبدا فلا تزال الأرض تنزل في خلاء غير متناه لما في طبيعتها من الاعتماد والثقل الهابط ويبطله بيان تناهي الأبعاد التي يتصور حركة الجسم فيها سيما عند من يبطل الخلاء وأيضا لو كانت هابطة لوجب أن تصغر أجرام الكواكب في كل يوم حسنا ولو فرضت صاعدة دائما لكنا كل يوم أقرب إلى الفلك فكان يزداد عظم الكواكب في الرؤية وقيل إنها تدور متحركة على مركز نفسها من المغرب إلى المشرق خلاف الحركة اليومية التي اعتقدها الجمهور والحركة اليومية لا توجد (2/485)
على هذا التقدير وإنما تتخيل بسبب حركة الأرض إذ يتبدل الوضع من الفلك بالقياس إلينا دون أجزاء الأرض إذ لا يتغير الوضع بيننا وبينها فإنا على جزء معين منها فإذا تحركت من المغرب إلى المشرق ظهر علينا من جانب المشرق كواكب كانت مختفية عنا بحدبة الأرض وخفي عنا بحدبتها من جانب المغرب كواكب كانت ظاهرة علينا فيظن لذلك أن الأرض ساكنة في مكانها والمتحرك هو الفلك فيكون حينئذ متحركا من المشرق إلى المغرب بل ليس ثمة فلك أطلس حتى يتحرك بالحركة اليومية على خلاف التوالي وذلك كراكب السفينة فإنه يرى السفينة ساكنه مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه ويرى الشط متحركا مع سكونه حيث يتبدل وضعه منه مع ظن أنه ساكن في مكانه أي ليس متحركا أصلا لا بالذات ولا بالعرض وكذلك يرى القمر سائرا إلى الغيم حين يسير الغيم إليه وكذا يرى غيره متحركا مع سكونه أو ساكنا مع حركته من أمور قدمناها في غلط الحس وأبطلوا ذلك أي تحركها على الاستدارة كما زعمه هذا القائل بوجوه ثلاثة
الأول أن الأرض لو كانت متحركة في اليوم بليلته دورة واحدة لكان ينبغي أن السهم إذا رمي إلى جهة حركة الأرض وهي الشرق أن لا يسبق موضعه الذي رمي منه بل تسبقه الأرض وذلك لأن الأرض على ذلك التقدير تقطع في ساعة واحدة ألف ميل وفي عشر ساعة مائة ميل ولا يتصور في السهم وغيره من المتحركات السفلية حركة بهذه السرعة فيجب تخلفها عن الأرض وينبغي للسهم إذا رمي إلى خلاف جهة حركتها أن يمر عن الموضع الذي رمي منه ويتجاوزه بقدر حركته وحركة الأرض جميعا واللازم باطل لاستواء المسافة التي يقطعها السهم من الجانبين بالتجربة
الوجه الثاني الحجر يرمى إلى فوق فيعود إلى موضعه الذي رمي منه راجعا بخط مستقيم ولو كانت الأرض متحركة إلى المشرق لكان الحجر ينزل من مكانه إلى جانب المغرب بقدر حركة الأرض في ذلك الزمان الذي وقع فيه حركة الحجر صاعدا وهابطا والوجهان ضعيفان لجواز (2/486)
أن يشايعها الهواء المتصل بها مع ما يتصل به من السهم والحجر وغيرهما في الحركة كما يقولون بمشايعة النار للفلك فلا يلزم شيء من ذلك فإن السهم حينئذ يتحرك بحركة الأرض تبعا للهواء التابع لها فلا يتجاوز موضعه الذي رمي منه في الجانبين إلا بحركة نفسه فتتساوى المسافتان وكذلك الحجر يتحرك بحركتها فلا يتجاوز موضعه الذي رمي منه بل ينزل راجعا إليه
الوجه الثالث وعمدتهم في بيان ذلك وهو الوجه الثالث أن الأرض فيها مبدأ ميل مستقيم بالطبع فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير فلا تكون متحركة على الاستدارة حركة طبيعية والاعتراض عليه منع وجود ذلك المبدأ فيها وهو أي وجوده فيها مبني على أن ما لا ميل له أصلا لا يتحرك قسرا وإلا كانت الحركة مع العائق الطبيعي كهي لا معه وقد عرفت ضعفه في مباحث الخلاء كما أشير إليه في مباحث الميل ثم لا نسلم تنافيهما أي تنافي الميلين حتى يلزم المنافاة بين المبدأين لما بينا من اجتماعهما في العجلة والدحرجة
المقصد السابع
المتن
ما يوازي من الأرض معدل النهار يسمى خط الاستواء والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات اليومية فيه بنصفين فيكون الليل والنهار في جميع السنة سواء وأما في غير ذلك الموضع فيقطع المعدل بنصفين فعند كون الشمس على المعدل وهو حين ما يكون في أحد الاعتدالين في أول الليل أو النهار يتساوى الليل والنهار ويقطع سائر المدارات اليومية بنصفين مختلفين (2/487)
أعظمهما الذي في جهة القطب الظاهر فالشمس في أي جانب كانت كان نهارهم أطول من ليلهم وفي الآخر بالعكس وفي خط الاستواء تكون الحركة اليومية دولابية وتسامت الشمس رأس أهل البلاد التي هي عليه في السنة مرتين وهي عند كونها في الاعتدالين فلهم صيفان ويكون غاية بعده عند كونها على الانقلابين فلهم شتاءان وبين كل شتاء وصيف ربيع وبين كل صيف وشتاء خريف فلهم ثمانية فصول كل فصل شهر ونصف وكذلك في المواضع التي بين خط الاستواء ومدار الانقلابين إلا أن الفصول لا تكون متساوية وفي المواضع التي تحت الانقلابين تسامت رؤوسهم مرة واحدة وفيما جاوز ذلك لا تسامت رؤوسهم بل تقرب منها وتبعد وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الظهور فيها لا تغرب الشمس دورة يومية فيكون النهار أربعا وعشرين ساعة وهي حيث ما تكون الشمس في الانقلاب الصيفي وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الخفاء فيها لا تطلع الشمس فيها دورة فيكون الليل أربعا وعشرين ساعة وفي المواضع التي يمر قطب البروج على سمت رؤوسهم فإذا كان على سمت الرأس تنطبق المنطقة على الأفق إذ يتحد قطبها وقطب الأفق فإذا مال القطب إلى الانحطاط ارتفع نصف المنطقة الشرقي وانحط النصف الغربي دفعة وفي المواضع التي تجاوز هذه المواضع إلى قطب العالم يكون قوس من المنطقة أبدي الظهور وقوس أبدي الخفاء وبينهما قوسان
إحداهما تطلع مستقيمة وتغرب معوجة أي تطلع أوائل البروج قبل أواخرها وتغرب أواخرها قبل أوائلها والأخرى بالعكس وفي هذه المواضع الثلاثة تكون الحركة اليومية حمائلية وحيث يكون قطب العالم على سمت الرأس ينطبق المعدل على الأفق لاتحاد قطبيهما ولكون محوره قائما على (2/488)
الأفق تكون الحركة اليومية فيه رحوية ويكون النصف من منطقة البروج فوق الأرض دائما والنصف تحته دائما فتكون السنة كلها يوما وليلة إلا أن الشمس تدور في أربع وعشرين ساعة من موازاة نقطة معينة من الأفق إلى أن تعود إلى مثلها وتزداد ارتفاعا في ثلاثة أشهر وانحطاطا في ثلاثة أشهر حتى تغرب وتكون تحت الأرض ستة أشهر كذلك
الشرح
المقصد السابع ما يوازي من الأرض معدل النهار أي الدائرة العظيمة على سطح الأرض الكائنة في سطح معدل النهار الموازية لمحيطه يسمى خط الاستواء والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات اليومية فيه بنصفين على قوائم لمروره بقطبي المعدل وتلك المدارات فيكون الليل والنهار هناك في جميع السنة سواء لتساوي قوسيهما الواقعة إحداهما تحت الأفق والأخرى فوقه فلا يقع بيهما تفاوت إلا باختلاف حركة الشمس في السرعة والبطء بواسطة الأوج والحضيض وذلك مما لا يحس به ولا يلتفت إليه وأما في غير ذلك الموضع الذي هو تحت المعدل فيقطع الأفق المعدل بنصفين لكن لا على قوائم لأنهما دائرتان عظيمتان لم تمر إحداهما بقطب الأخرى فعند كون الشمس على المعدل وهو حين ما يكون في أحد الاعتدالين في أول الليل والنهار يتساوى الليل والنهار ويقطع الأفق هناك سائر المدارات اليومية بنصفين أي بقسمين مختلفين أعظمهما أي أعظم القسمين هو الظاهر الذي يكون في جهة القطب الظاهر والخفي الذي يكون في جهة القطب الخفي فالشمس في أي جانب كانت من جانبي الشمال والجنوب كان نهارهم أي نهار الذين في ذلك الجانب الذي فيه الشمس أطول من ليلهم وفي الجانب الآخر يكون (2/489)
الأمر بالعكس فإذا كانت في جانب الشمال كان ليل الجنوبيين أطول وإذا كانت في الجنوب كان ليل الشماليين أطول وفي خط الاستواء تكون الحركة اليومية دولابية أي منتصبة غير مائلة فالكوكب المتحرك بها يرتفع عن الأفق منتصبا لا يميل إلى شمال أو جنوب ويسمى أفقه مستقيما وتسامت الشمس رأس أهل البلاد التي هي عليه أي على خط الاستواء في السنة مرتين وهي أي المسامتة مرتين عند كونها في الاعتدالين فلهم صيفان مبدأهما الاعتدالان وتكون غاية بعده أي بعد رأسهم عن الشمس عند كونها على الانقلابين فلهم شتاءان مبدأهما الانقلابان وبين كل شتاء وصيف ربيع وبين كل صيف وشتاء خريف فلهم ثمانية فصول كل فصل منها شهر ونصف وكذلك الحال في المواضع التي بين خط الاستواء ومدار الانقلابين من الجانبين فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين وهي عند كونها في نقطتين من فلك البروج يساوي ميلهما في جهة البلد انحطاط المعدل من سمت رأسه وكذا فصولهم ثمانية إلا أن الفصول لا تكون متساوية في المدة وربما كانت النقطتان قريبتين جدا من أحد الانقلابين فتكونان في حكمه فيقل هناك عدد الفصول ويطول صيفهم وفي المواضع التي تحت الانقلابين تسامت رؤوسهم في السنة مرة واحدة وتكون فصولهم أربعة متساوية وفيما جاوز ذلك لا تسامت رؤوسهم بل تقرب منها في أحد الانقلابين وتبعد عنها في الآخر وفصولهم تلك الأربعة وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الظهور فيها لا تغرب الشمس هناك دورة يومية فيكون النهار أربعا وعشرين ساعة وهي أي هذه الدورة حيث ما تكون الشمس في الانقلاب الصيفي ولا يخفى عليك أن في هذه المواضع أيضا يكون المدار الشتوي أبدي الخفاء فلا تطلع الشمس فيها دورة واحدة بل تكون مدتها ليلا على عكس المدار الأول فلا حاجة في ذلك إلى اعتبار (2/490)
مواضع أخرى كما ذكره بقوله وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الخفاء فيها لا تطلع الشمس فيها دورة واحدة فيكون الليل حينئذ أربعا وعشرين ساعة على أن المدار الأبدي الخفاء في موضع لا يكون مدارا صيفيا بالقياس إليه بل مدارا شتويا واعتبار كونه مدارا صيفيا في موضع آخر لا يخلو عن ركاكة وفي المواضع التي يمر قطب البروج على سمت رؤوسهم فإذا كان قطبها على سمت الرأس تنطبق المنطقة على الأفق إذ يتحد حينئذ قطبها وقطب الأفق وهما عظيمتان على كرة واحدة فإذا مال القطب أي قطب البروج بحركة الكل إلى الانحطاط نحو الغرب ارتفع عن الأفق نصف المنطقة الشرقي وانحط عنه النصف الغربي دفعة واحدة إذ حال افتراق القطبين تتقاطع العظيمتان على التناصف واعلم أن المواضع التي يكون المدار الصيفي فيها أبدي الظهور والمدار الشتوي أبدي الخفاء هي بعينها المواضع التي يمر فيها قطب البروج على سمت رؤوسها وفي المواضع التي تجاوز هذه المواضع المذكورة ولم تصل إلى قطب العالم يكون قوس من المنطقة يتوسطها الانقلاب الصيفي أبدي الظهور لا يغرب وقوس أخرى منها يتوسطها الانقلاب الشتوي أبدي الخفاء لا يطلع وبينهما من الجانبين قوسان أخريان يتوسطهما الاعتدالان إحداهما وهي التي يتوسطها أول الميزان إن كان القطب الظاهر شماليا والتي يتوسطها أول الحمل إن كان القطب الظاهر جنوبيا تطلع مستقيمة وتغرب معوجة أي تطلع أوائل البروج قبل أواخرها على الاستقامة وتغرب أواخرها قبل أوائلها على الاعوجاج والقوس الأخرى بالعكس أي تطلع معوجة وتغرب مستقيمة وفي هذه المواضع الثلاثة لفظة الثلاثة إما زائدة أو أراد بها ما بين خط الاستواء ومدار (2/491)
الانقلابين وما تحت الانقلابين وما جاوز ذلك ولم يبلغ القطب تكون الحركة اليومية حمائلية وتسمى آفاقها مائلة وحيث يكون قطب العالم على سمت الرأس وذلك موضعان معينان على وجه الأرض ينطبق المعدل على الأفق لاتحاد قطبيهما ولكون محوره أي محور المعدل وهوالخط المستقيم الواصل بين قطبيه مارا بمركزه قائما على سطح الأفق هناك تكون الحركة اليومية فيه رحويه ويكون النصف من منطقة البروج وهو الواقع من المعدل في جهة القطب الظاهر فوق الأرض دائما والنصف والآخر منها تحته دائما ولا تكون هناك للكواكب ولا لشيء من النقط المفروضة على الفلك طلوع ولا غروب بحركة الكل بل بحركاتها الخاصة فتكون السنة كلها يوما وليلة لأن مدة قطع الشمس بحركتها النصف الظاهر من البروج نهار ومدة قطعها النصف الخفي ليل وهاتان المدتان تتفاوتان بسبب الأوج والحضيض فالنهار تحت القطب الشمالي أطول من الليل وتحت القطب الجنوبي أقصر إلا أن الشمس تدور بحركة الكل في أربع وعشرين ساعة من موازاة نقطة معينة من الأفق الذي هو المعدل إلى أن تعود إلى مثلها أي مثل تلك الموازاة لتلك النقطة وتزداد الشمس ارتفاعا عن الأفق في ثلاثة أشهر ويكون غاية ارتفاعها بمقدار الميل الكلي وتزداد انحطاطا عن غاية الارتفاع نحو الأفق في ثلاثة أشهر أخرى أيضا حتى تغرب وتكون تحت الأرض ستة أشهر كذلك أي يزداد انحطاطها عن الأفق في ثلاثة أشهر إلى غاية الانحطاط التي هي الميل الكلي ثم ترتفع عنها في ثلاثة أشهر أخرى حتى تصل إلى الأفق
المقصد الثامن
المتن
سبب الصبح كرة البخار تتكيف بالضوء لأنها تقبل نور الشمس كما تقدم والشفق مثله والحمرة التي توجد في أول الشفق وأخر الصبح (2/492)
لتكاثف الأبخرة في الأفق وزيادة سمكها بالنسبة إلى الباصرة لأنها بقدر ربع دور الأرض وتنقص في غيرها حتى يكون بقدر غلظ البخار وقد ذكر أنه اعتبرها المهندسون فوجدوها ستة عشر فرسخا
الشرح
المقصد الثامن سبب الصبح كرة البخار تتكيف بالضور لأنها تقبل نور الشمس كما تقدم في آخر مباحث المبصرات فإذا قربت الشمس من الأفق في جانب الشرق ولم يبق من قوس انحطاطها إلا مقدار ثماني عشرة درجة على ما عرف بالتجربة استنار بضوئها البخار الكثيف الواقع في ذلك الجانب فيرى ذلك النور المتزايد بزيادة قرب الشمس وهو الصبح والشفق مثله لكنه عكسه في أن أوله كآخر الصبح وآخره كأوله هذا ما يليق بالكتاب وأما تصويرهما على ما ينبغي فليطلب من موضع آخر والحمرة التي توجد في أول الشفق وآخر الصبح إنما هي لتكاثف الأبخرة في الأفق وزيادة سمكها بالنسبة إلى الباصرة لأنها أي تلك الزيادة في غلظ الأبخرة بقدر ربع دور الأرض كما يظهر بالتخيل الصادق وتنقص تلك الزيادة في غيرها أي غير دائرة الأفق شيئا فشيئا حتى يكون تكاثف الأبخرة بقدر غلظ البخار كما بالنسبة إلى سمت الرأس وقد ذكر أنه اعتبرها أي كرة البخار المهندسون فوجدوها أي غلظها ستة عشر فرسخا أو سبعة عشر
المقصد التاسع
المتن
في الأرض تلال ووهاد لأسباب خارجية ومعدات متلاحقة لا بداية (2/493)
لها فسال الماء بالطبع إلى الوهاد فانكشفت التلال معاشا للنبات والحيوان ولم يذكر له سبب إلا عناية الله تعالى بالحيوانات والنباتات إذ كان لا يمكن تكونها وبقاؤها إلا بذلك وهذا رجوع إلى القادر المختار فإن اختصاص جزء من البسيط باستعداد دون جزء مع استواء نسبة المعدات إليها مما لا سبيل للعقل إليه وإذا كان كذلك فمن طرح هذه المؤنات ووفق للاسترواح إليه واستناد الجميع إلى قدرته واختياره فأولئك هم المفلحون
الشرح
المقصد التاسع في الأرض تلال ووهاد لأسباب خارجية ومعدات متلاحقة لا بداية لها مستندة إلى الاتصالات الفلكية التي لا تتناهى فسال الماء بالطبع إلى الوهاد والمواضع الغائرة فانكشفت عن الماء التلال والمواضع العالية كجزيرة بارزة من وسط البحر معاشا للنبات والحيوان الذي لا يمكن أن يعيش إلا باستنشاق الهواء وهذا المنكشف هو المعمور من الأرض الذي كان حقه بمقتضى طبيعة الأرض والماء أن يكون مغمورا فيه كسائر أجزائها ولم يذكر له سبب إلا عناية الله تعالى بالحيوانات والنباتات إذ كان لا يمكن تكونها وبقاؤها إلا بذلك الانكشاف والخروج من الماء إلى الهواء وهذا الذي ذكروه رجوع إلى القادر المختار وإسناد الفعل إلى مجرد مشيئته فإن اختصاص جزء من البسيط الذي هو الأرض باستعداد دون جزء آخر منه مع استواء نسبة المعدات إليها أي إلى أجزائه مما لا سبيل للعقل إليه في معرفة سببه وإذا كان الشأن كذلك وهو أنه لا بد في الآخرة من الرجوع إلى استناد الأشياء إليه فمن طرح هذه المؤنات التي تكلفوها ووفق للاسترواح إليه واستناد الجميع إلى قدرته واختياره فأولئك هم المفلحون عن الحيرة التي ربما تؤدي إلى الضلالة (2/494)
المقصد العاشر
المتن
قالوا في سبب تكون الجبال أن الحر الشديد يعقد الطين اللزج حجرا وتحققه التجربة وما يرى له من نموذج له في كير الخزافين ثم بتواتر السيول الحادثة من الأمطار والرياح العواصف تنحفر الأجزاء الرخوة فيظهر الحجر قليلا قليلا حتى يصير جبلا شامخا ولا يخفى أن اختصاص بعض بالصلابة وبعض بالرخاوة مع استواء النسبة إلى الفلكيات قطعا للمجاورة والملاصقة يستدعي سببا وعنده يقف العقل ويحيله على سبب من خارج فليت شعري لم لا نفعل ذلك أو لا نعم لا يبعد أن يكون ذلك بإرادة الله تعالى عند من يقول بالوسائط لا عندنا
الشرح
المقصد العاشر قالوا في سبب تكون الجبال أن الحر الشديد يعقد الطين اللزج حجرا وتحققه التجربة وما يرى له من نموذج أي نموذج له في كير الخزافين ثم تتواتر السيول الحادثة من الأمطار وتواتر الرياح العواصف تنحفر الأجزاء الرخوة فيظهر الحجر قليلا قليلا بتزايد الانحفار من جوانبه شيئا فشيئا حتى يصير جبلا شامخا
قال الإمام الرازي الأشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الزمان مغمورة في البحار وحصل فيها طين لزج كثير فتحجر بعد الانكشاف وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح ولذلك كثرت فيها الجبال ومما يؤكد (2/495)
هذا الظن أنا نجد في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف والحيات ولا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء النسبة أي نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا أي جزما لا يشوبه شبهة للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الصلبة والرخوة يستدعي سببا مخصصا وعنده أي عند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيله أي يحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار فليت شعري لم لا نفعل ذلك أو لا حذفا للمؤنة نعم لا يبعد أن يكون ذلك أي تكون الجبال ونظائرها من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عندنا إذ الكل مستند إليه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأينا
المقصد الحادي عشر
المتن
العناصر الأربعة تقبل الكون والفساد أي تخلع صورة ذلك العنصر وتلبس صورة عنصر آخر فينقلب كل إلى الآخر بعضها بلا وسط وهو كل عنصر يشارك آخر في كيفية ويخالفه في كيفية فينقلب الأرض والماء كل إلى الآخر ابتداء لاشتراكهما في البرد وذلك كما يجعل أهل الحيل الأحجار مياها سيالة وينقلب في بعض المواضع الماء حجرا صلبا كعين (2/496)
سيهكوه وكذلك الماء والهواء لاشتراكهما في الرطوبة كما يصير الماء هواء بالتسخين وهو معنى النشف والهواء ماء بالتبريد كفي ظاهر كوز لا مسام له يوضع في الجمد حيث لا يلاقيه الجمد قطرات من الماء وكظاهر الطاس يكب على الجمد مع عدم الملاقاة وليس ذلك لأن الماء ينتقل إليه لأنه لا يصعد بالطبع وإذا لو كان كذلك كان باطن الطاس أولى به من ظاهره وكذلك النار والهواء لاشتراكهما في الحرارة كما يصير الهواء نارا في كير الحدادين ثم تنطفي فتصير هواء وبعضها بواسطة وهو حيث يختلفان في الكيفيتين كالماء والنار والهواء والأرض فإنه لا ينقلب الماء نارا ابتداء نعم قد ينقلب هواء ثم نارا وعليه فقس
وهذا كله يدل على أن هيولى العناصر مشتركة وقابلة لجميع الصور وإنما بعدها للصور المختلفة والكيفيات الأربع المتنافية ما عرض لها من القرب والبعد بالنسبة إلى الفلك وكل ما كان أقرب إليه كان أسخن وألطف وكل ما كان أبعد كان أبرد وأكثف وقد تكلمنا على مثله مرارا فلا نعيده
الشرح
المقصد الحادي عشر العناصر الأربعة تقبل الكون والفساد أي تخلع صورة ذلك العنصر وهو معنى الفساد وتلبس صورة عنصر آخر وهي معنى الكون فينقلب كل من الأربعة إلى الآخر الذي هو أحد الثلاثة الباقية فتكون الانقلابات إثنتي عشرة لكن بعضها ينقلب إلى بعض آخر بلا وسط وهو كل عنصر يشارك عنصر آخر في كيفية واحدة من كيفيتيه (2/497)
اللتين هما من الكيفيات الأربع ويخالفه في كيفية أخرى منهما فينقلب الأرض والماء كل منهما إلى الآخر ابتداء لاشتراكهما في البرد وإن اختلفا في اليبوسة وذلك كما يجعل بعض أهل الحيل من طلاب الإكسير الأحجار مياها سيالة فإنهم يتخذون مياها حارة ويجعلون فيها أجسادا صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية وينقلب الماء في بعض المواضع حجرا صلبا كعين سيهكوه وهي قريبة من بلدة مراغة وماؤها ينقلب حجرا مرمرا وعين غيره من المواضع وكذلك الماء والهواء ينقلب كل منهما إلى الآخر بلا وسط لاشتراكهما في الرطوبة وإن كانا متخالفين في الحرارة كما يصير الماء هواء بالتسخين وهو معنى النشف في الثياب المبلولة المطروحة في الشمس وكما يصير الهواء ماء بالتبريد كما في ظاهر كوز لا مسام له يوضع في الجمد فإنه يحدث على ظاهره حيث لا يلاقيه الجمد قطرات من الماء وكظاهر الطاس يكب على الجمد مع عدم الملاقاة بينهما فإنه تركب قطرات منه وليس ذلك لأن الماء ينتقل إليه بالرشح لأنه لا يصعد بالطبع وإذ لو كان كذلك كان باطن الطاس أولى به من ظاهره وأيضا الترشح على سبيل التصاعد أنسب بالماء الحار وكذلك النار والهواء ينقلب كل منهما إلى الآخر بلا وسط لاشتراكهما في الحرارة وإن اختلفا في اليبوسة كما يصير الهواء نارا في كير الحدادين بالإلحاح في النفخ مع سد المنافذ ثم تنطفئ النار فتصير هواء فهذه ست انقلابات بلا وسط بين المتشاركين في كيفية واحدة من كيفيتهما وبعضها ينقلب إلى بعض آخر بواسطة وهو حيث يختلفان في الكيفيتين معا كالماء والنار والهواء (2/498)
والأرض فإنه لا ينقلب الماء نارا ابتداء لشدة تخالفهما نعم قد ينقلب هواء ثم نارا بأن ينقلب ذلك الهواء إلى النار وعليه فقس انقلاب النار ماء وانقلاب الهواء أرضا وعكسه وأنت خبير بأن ما ذكروه يقتضي أن تنقلب كل واحدة من الأرض والنار إلى الأخرى بلا واسطة لاشتراكهما في اليبوسة والمشهور أنه بواسطتين فالأولى أن يقال إن كان العنصران متجاورين كان الانقلاب بغير وسط وأن كان بينهما عنصر ثالث كان بواسطة واحدة وإن توسط بينهما اثنان فلا بد من واسطتين وهذا كله يدل على أن هيولى العناصر الأربعة واحدة مشتركة بينها وقابلة لجميع الصور العنصرية وإنما يعدها للصور المختلفة التي هي النارية والهوائية والمائية والأرضية والكيفيات الأربع المتنافية ما عرض لها من القرب والبعد بالنسبة إلى الفلك وكل ما كان أقرب إليه كان أسخن وألطف وكل ما كان أبعد كان أبرد وأكثف وقد تكلمنا على مثله مرارا فلا نعيده أي يمكن أن يقال إن اختصاص بعض من الهيولى المشتركة بالقرب وبعضها بالبعد يحتاج إلى سبب من خارج فلا بد من الرجوع إلى المختار على أنا لا نسلم تركب الأجسام من الهيولى والصورة ولا نسلم الانقلاب بين العناصر وما ذكروه من الأمثلة الدالة عليه يتطرق إليها احتمالات كثيرة
المقصد الثاني عشر
المتن
زعموا أن هذه هي الأركان التي تتركب منها المركبات ويثبتونه بطريق التحليل تارة والتركيب أخرى
فالأول أنا إذا جعلنا مركبا في القرع والأنبيق انفصل عنه أجزاء مائية وأرضية ولا شك أن ثمة أجزاء هوائية بها تخلخل الأجزاء وإلا لكان في (2/499)
غاية الاندماج والرصانة وكان ما يحصل بالتفريق حجمه كالذي عند التركيب ولا شك أنها مختلفة بالطبع يطلب كل حيزه وذلك يوجب التفرق فلا بد من جامع يفيد طبخا ونضجا يوجب حصول مزاج يستتبع له صورة نوعية مانعة من التفرق وما هو إلا الحرارة قلنا الحرارة لا تجمع المختلفات بل تفرقها وتجمع المتماثلات ثم الحرارة القائمة بجزء لا تؤثر في الجزء الآخر إلا بمجاورة وله دوام وذلك لا بد له من سبب فلم لا يجوز أن يكون ذلك السبب سببا للاجتماع ومانعا من التفرق ابتداء ووجود الأجزاء الهوائية مما لم يتحقق وكون تلك الأجزاء ماء أو ترابا بالحقيقة غير معلوم
والثاني أنه يتكون من اجتماع الماء والأرض النبات ولا بد من هواء يتخلل وحرارة طابخة إذ لو فقد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه ومنهما يحصل الإنسان وبعض الحيوان فالكل آيل إلى حصولها من العناصر وأنت تعلم أن ذلك استدلال بالدوران وأنه لا يفيد العلية فلم لا يجوز أن يكون بإجراء العادة
الشرح
المقصد الثاني عشر زعموا أن هذه العناصر الأربعة هي الأركان التي تتركب منها المركبات ويثبتونه بطريق التحليل تارة والتركيب أخرى فالأول أنا إذا جعلنا مركبا في القرع والأنبيق انفصل عنه أجزاء مائية وأجزاء (2/500)
أرضية فدل ذلك على أن هذين العنصرين كانا موجودين فيه مختلطين ففرقتهما الحرارة ولا شك أن ثمة أي في ذلك المركب أجزاء هوائية بها تخلخل الأجزاء الأرضية والمائية التي فيه وإلا لكان ذلك المركب في غاية الاندماج والرصانة ولكان ما يحصل بالتفريق من العنصرين حجمه إذا ضم بعضه إلى بعض كالذي كان للمركب عند التركيب فيثبت وجود الهواء فيه ولا شك أنها أي الأركان المذكورة الموجودة في المركب مختلفة بالطبع يطلب كل منها حيزه الطبيعي وذلك يوجب التفرق في المركب وعدم بقائه فلا بد فيه من جامع يفيده طبخا ونضجا يوجب حصول مزاج يستتبع له صورة نوعية مانعة من التفرق وما هو أي ذلك الجامع الذي يطبخ وينضج إلا الحرارة الشديدة القائمة بالنار فلا بد من وجودها فيه قلنا الحرارة لا تجمع المختلفات بل تفرقها وتجمع المتماثلات كما مر ثم الحرارة القائمة بجزء لا تؤثر في الجزء الآخر إلا بمجاورة وله أي وللجوار بينهما دوام وذلك الجوار الدائم لا بد له من سبب فلم لا يجوز أن يكون ذلك السبب سببا للاجتماع في حال بقاء المركب ومانعا من التفرق ابتداء أي بلا توسط شيء فلا يحتاج حينئذ إلى الجزء الناري وحرارته الطابخة المؤدية إلى المزاج المستتبع للصورة النوعية الحافظة للتركيب على أن اختلاط الرطب باليابس يفيده استمساكا عن التفرق فلا حاجة إلى جامع آخر وقد يقال الهواء حار فجاز أن يكون منضجا ووجود الأجزاء الهوائية في المركب مما لم يتحقق إذ يجوز أن يكون تخلخل أجزاء المركب بوقوع الخلاء فيما بينها وكون تلك الأجزاء الباقية بعد التحليل ماءا أو ترابا بالحقيقة غير معلوم لجواز أن يكون التشابه في الصورة المحسوسة دون الحقيقة
والثاني وهو التركيب أنه يتكون من اجتماع الماء والأرض والنبات وذلك ظاهر ولا بد في النبات من هواء يتخلل بين أجزائه ومن حرارة (2/501)
طابخة إذ لو فقد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع كما إذا ألقينا البذر في موضع لا يصل إليه الهواء وحر الشمس أو لا يكونان على ما ينبغي فإنه يفسد ولا ينبت فدل ذلك على أن النبات مركب من الأربعة ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه ومنهما يحصل الإنسان لأنه متولد من المني المتكون من الدم المتكون من الغذاء الذي هو نبات أو حيوان وكذا يحصل منهما بعض الحيوان الذي غذاؤه منهما كالجوارح فالكل أي جميع المركبات حتى المعادن فإنها في حكم النبات آيل أي راجع إلى حصولها من العناصر الأربعة وأنت تعلم أن ذلك الذي استدلوا به على أن تكون النبات من اجتماع هذه الأربعة استدلال بالدوران وأنه لا يفيد العلية حتى يعلم أن اجتماعها سبب لتكونه منها فلم لا يجوز أن يكون تكونه في حال اجتماعها لا منها بل يخلق الله إياه من العدم في تلك الحال بإجراء العادة
المقصد الثالث عشر
المتن
طبقات العناصر سبع أعلاها النارية الصرفة ومحدبها مماس لمقعر فلك القمر وتحته نارية مخلوطة من الصرفة والهوائية ثم الزمهريرية وهي الهواء الصرف ثم البخارية وهي الهوائية المخلوطة مع المائية ثم الترية وهو ما فيه أرضية وهوائية ثم الطينية وهي أرضية مع مائية ثم الأرضية الصرفة
الشرح
المقصد الثالث عشر طبقات العناصر سبع أعلاها الطبقة النارية الصرفة ومحدبها مماس لمقعر فلك القمر وتحته أي تحت الأعلى المذكور طبقة نارية مخلوطة من النار الصرفة والأجزاء الهوائية الحارة تتلاشى (2/502)
في هذه الطبقة الأدخنة المرتفعة وتتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك وما يشبهها ثم الطبقة الزمهريرية وهي الهواء الصرف الذي يرد بمجاورة الأرض والماء ولم يصل إليه أثر انعكاس الأشعة والمشهور أن هذه الطبقة منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق فلا تكون هواء صرفا ثم الطبقة البخارية وهي الهوائية المخلوطة مع المائية ثم الطبقة الترية وهي ما فيه أرضية وهوائية ثم الطبقة الطينية وهي أرضية مع مائية ثم الطبقة الأرضية الصرفة التي هي قريبة من المركز ولم يعد الماء طبقة على حدة لأنه مع الأرض ككرة واحدة وفي طبقات العناصر أقوال مختلفة لا فائدة في الاستقصاء عنها (2/503)
القسم الرابع في المركبات التي لها مزاج وهي الأكثر
وهو ينقسم إلى ما له نفس وإلى ما لا نفس له وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في المزاج
وفيه مقاصد
المقصد الأول
قالوا الصورة الجسمية تفعل أولا في مادتها ثم في مادة ما يجاورها فالمجاورة شرط للتفاعل وأبلغ من ذلك ما كان بالمماسة والمماسة إنما تكون بالسطح وكلما كان السطوح أكثر كانت المماسة أتم وذلك إنما هو بحسب تصغر الأجزاء والعناصر المختلفة الكيفية إذا تصغرت أجزاؤها جدا واختلطت حتى حصل التماس بين أجزائها فعل صورة كل في مادة الآخر فكثرت منه صورة كيفيته حتى نقص من حر الحار فتزول تلك الكيفية ويحصل كيفية حر أقل تستبرد بالنسبة إلى الحار وتستحر بالنسبة إلى البارد فإنها كيفية متوسطة بينهما وكذلك ينقص من برد البارد فيحصل برد أقل كما قررنا فإذا اشتد التأثير حتى حصل في جميع الأجزاء كيفية متشابهة متوسطة هي في درجة واحدة من الدرجات الغير المتناهية بالقوة التي هي بين غاية الحر وغاية البرد وحصل التشابه بينها في نفس الأمر لا أنها للمجاوزة يحس منها بكيفية متوسطة وإن كان كل واحد منها باقيا على صرافته فهذه (2/504)
الكيفية المتشابهة تسمى مزاجا وما قبل ذلك الاجتماع يسمى امتزاجا فحد المزاج بأنه كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء بحيث تكثر صورة كل صورة كيفية الآخر والإشكال عليه من وجوه
الأول لا نسلم أن التفاعل لا يكون إلا بالتماس كما تؤثر الشمس فيما يقابلها ولا تماس والمبصر ليس في الباصرة قطعا لا يقال المدعي نفي التفاعل وفيما ذكرتم من صورة النقض الفعل من جانب واحد لأنا نقول الغرض أنه لا مانع في العقل من تفاعل من غير ملاقاة كما نراه من جانب واحد وأنه يفيد هذا القدر وهو يكفينا
الثاني لم قلتم إن ثمة صورا غير الكيفيات هي الفاعلة ولم لا يجوز أن تكون الأجسام متجانسة والاختلاف بالأعراض دون الصور
فإن قلت الكيفيات كالحرارة والبرودة تشتد وتضعف دون الصور فإن كون الشيء ماء ونارا لا يقبل ذلك
قلنا مراتب الحرارة والبرودة متخالفة بالنوع فلم لا يجوز أن يقال ثمة مرتبة معينة هي النارية وما دون ذلك هوائية
الثالث الصورة إنما تفعل بواسطة الكيفية فتكون الكيفية شرطا في التأثير فيلزم اجتماع الكيفية الكاسرة مع الحادثة المنكسرة وأنه محال
الرابع الماء الحار إذا أخلط بالماء البارد كسر من برده ومن المحال أن يقال للماء صورة توجب الحرارة فعلم أن الفاعل هي الكيفية
فإن قيل نحن نطلق عليها الفاعل مجازا وإنما ذلك أعداد والكيفية المتوسطة تفيض عن مفيض هو المبدأ الفياض والمعد قد ينافي الأثر كالحركة والحصول في الطرف (2/505)
قلنا فالنزاع عائد إلى أن المبدا فاعل مختار أو موجب بالذات وسنقيم الدلالة على أنه فاعل مختار
تنبيه على مذاهب في المزاج
الأول أنه يخلع صورة ويلبس صورة متوسطة بل يلبس صورة نوعية للمركب ويبطله ما حكيناه من حكايات القرع والأنبيق لأن اختلاف ما يظهر فيه من الأجزاء يدل على اختلاف الاستعداد فيها وهو دليل اختلاف الماهية
فإن قيل فليجز في النار الصرفة أن تحدث لها الكيفية المتوسطة فتصير لحما
قلنا المزاج شرط فيه
الثاني القول بالخليط وهو أن المركبات موجودة بالفعل وقد يجتمع أجزاء منها فيحس لها قدر وإلا فلا يحس
الشرح
القسم الرابع في المركبات التي لها مزاج وهي الأكثر من المركبات لأن ما لا مزاج له منها قليل بالقياس إلى ماله مزاج وهو أي هذا الأكثر ينقسم إلى ما له نفس إما نباتية أو حيوانية وإلى ما لا نفس له وهو المعدنيات وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في المزاج وفيه مقاصد
أي مقصدان
الأول قالوا الصورة الجسمية أي الصورة الحالة في الجسم التي هي مبدأ الآثار وهي الصورة النوعية تفعل أولا في مادتها التي حلت هي فيها ثم في مادة ما يجاورها فالصورة النارية تسخن مادتها ثم مادة ما (2/506)
يجاورها وكذا الحال في سائر الكيفيات وباقي العناصر فالمجاورة شرط للتفاعل الواقع بين الأجسام ألا ترى أن النار لا تسخن إلا ما له وضع مخصوص وقرب معين بالنسبة إليها فإذا حصلت المجاورة بلا مماسة أمكن التفاعل بين الجسمين وأبلغ من ذلك التفاعل الحاصل بمجرد المجاورة ما كان أي التفاعل الذي كان بالمماسة التي هي الغاية في المجاورة والمماسة إنما تكون بالسطوح ولا شك في أنه كلما كان السطوح أكثر كانت المماسة بها أتم وذلك أي تكثر السطوح إنما هو بحسب تصغر الأجزاء وإذا تحققت ما صورناه لك فنقول العناصر المختلفة الكيفية التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إذا تصغرت أجزاؤها جدا واختلطت اختلاطا تاما حتى حصل التماس الكامل بين أجزائها فعل صورة كل منها في مادة الآخر فكسرت منه صورة كيفيته المضادة لكيفيتها حتى نقص العنصر البارد بفعل صورته من حر العنصر الحار فتزول تلك الكيفية التي هي الحرارة الشديدة عن ذلك الحار ويحصل له كيفية حر أقل تستبرد هذه الكيفية الحاصلة بل محلها بالنسبة إلى الحار وتستسخن بالنسبة إلى البارد فإنه كيفية متوسطة بينهما أي بين الحرارة الصرفة والبرودة الصرفة فإذا قيست إلى إحديهما عدت من الأخرى وكذلك لا ينقص العنصر الحار بفعل صورته من برد لعنصر البارد فيحصل له برد أقل مما كان كما قررنا فإذا اشتد التأثير من الجانبين حتى حصل في جمع الأجزاء من العنصر الحار والبارد كيفية متشابهة متوسطة هي في درجة واحدة من الدرجات الغير المتناهية بالقوة لا بالفعل أعني الدرجات التي هي بين غاية الحر وغاية البرد أي هي واقعة بين هاتين الغايتين وحصل التشابه بينها أي بين الأجزاء المذكورة في نفس الأمر بأن تكون أجزاء (2/507)
العنصر البارد موافقة في الكيفية لأجزاء العنصر الحار بلا تفاوت في الواقع فلا يكون التشابه حينئذ بحسب إدراك الحس فقط كما أشار إليه بقوله لا إنها للمجاورة يحس منها بكيفية متوسطة وإن كان كل واحد منها باقيا على صرافته في كيفيته كما يقول به أصحاب الخليط وقس على ذلك حال الأجزاء الرطبة واليابسة فإذا استقر الكل على كيفية واحدة متوسطة توسطا ما بين الكيفيات الأربع فهذه الكيفية المتشابهة تسمى مزاجا وما قبل ذلك الاجتماع المؤدي إلى الكيفية المذكورة يسمى امتزاجا واختلاطا لا مزاجا فحد المزاج بناء على ما تقرر بأنه كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء المتماسة بحيث تكسر صورة كل منها صورة كيفية الآخر
قال الإمام الرازي لا شبهة في أن الشيء لا يوصف بكونه مشابها لنفسه وإنما قلنا للكيفية المزاجية أنها متشابهة لأن كل جزء من أجزاء المركب ممتاز بحقيقته عن الآخر فتكون الكيفية القائمة به غير الكيفية القائمة بالآخر إلا أن تلك الكيفيات القائمة بتلك الأجزاء متساوية في النوع وهذا معنى تشابهها وقال أيضا الكاسر ليس هو الكيفية لأن انكسار الكيفيتين المتضادتين إما معا أو على التعاقب فإن حصل الإنكساران معا والعلة واجبة الحصول مع المعلول لزم أن تكون الكيفيتان الكاسرتان موجودتين على صرافتهما عند حصول انكساريهما وهو محال وإن كان انكسار إحديهما متقدما على انكسار الأخرى لزم أن يعود المكسور المغلوب كاسرا غالبا وهو أيضا باطل فوجب أن يكون الكاسر هو الصورة التي هي مبادئ الكيفيات وأما المنكسر فليس أيضا الكيفية لأن الكيفية الواحدة بالذات لا يعرض لها الاشتداد والتنقص بل هما يعرضان لمحلها فالانكسار (2/508)
عبارة عن زوال الكيفيات الصرفة عن تلك البسائط والإشكال عليه أي على ما قالوه من وجوه أربعة
الأول لا نسلم أن التفاعل بين الأجسام لا يكون إلا بالتماس بل قد يكون بلا تماس كما تؤثر الشمس فيما يقابلها من الأرض بالتسخين والإضاءة ولا تماس بينهما مع أنها لا تؤثر بذلك في الأجسام القريبة منها المتوسطة بينهما والمبصر ليس في الباصرة قطعا مع أنه يؤثر فيها ولا يؤثر فيما بينهما فكيف يجزم بأن الفعل والانفعال بين الأجسام لا يوجدان إلا بالتلاقي والتماس لا يقال المدعي نفي التفاعل بلا تجاوز وتماس وما ذكرتم من صورة النقض لا تفاعل إذ الفعل من جانب واحد فقط لأن الشمس وإن أفادت الأرض سخونة وضوءا لكنها لم تؤثر في الشمس شيئا أصلا وكذا المرئي أثر في العين ولم تؤثر هي فيه قطعا لأنا نقول الغرض مما ذكرناه أنه لا مانع في العقل من تفاعل من غير ملاقاة كما نراه من جانب واحد وأنه أي ما ذكرناه يفيد هذا القدر وهو يكفينا وفي المباحث المشرقية الصواب أن يترك ههنا الاحتجاج ويعول على المشاهدة فيقال الكلام إنما وقع في أجزاء الممتزج وهي لا محالة متلاقية ويشاهد أيضا أن بعضها لا يؤثر في بعض ولا يتأثر عنه إلا بالتلاقي والتماس فلا يتجه أن يقال لم لا يجوز في العقل تأثير عنصر في آخر من غير ملاقاة ومماسة فإن ذلك غير محتاج إليه فيما نحن بصدده بل الحق إن التأثير بينهما بلا تلاق محتمل وإن كان نادرا
الوجه الثاني لم قلتم إن ثمة صورا غير الكيفيات هي الفاعلة ولم لا يجوز أن تكون الأجسام متجانسة أي متماثلة في الحقيقة ويكون الاختلاف بينها بالأعراض الخارجة عن حقيقتها دون الصور المقومة (2/509)
لها فلا تكون لها صور سوى هذه الكيفيات المتضادة فتكون هي الفاعلة لا أمرا مغايرا لها فإن قلت الكيفيات كالحرارة والبرودة تشتد وتضعف دون الصور فإن كون الشيء ماء أو نارا لا يقبل ذلك أي الاشتداد والضعف فلا يجوز أن تكون كيفيات الأجسام صورها قلنا مراتب الحرارة والبرودة متخالفة بالنوع فلم لا يجوز أن يقال ثمة مرتبة معينة من تلك المراتب هي النارية وما دون ذلك أي مرتبة أخرى معينة دون الأولى هوائية
الوجه الثالث أن يقال المحذور الذي يلزم من جعل الكيفية فاعلة لازم أيضا من نسبة الفعل إلى الصور إذ الصورة إنما تفعل أي تكسر كيفية غير مادتها بواسطة الكيفية القائمة بها فإن الصورة النارية لا تؤثر بذاتها في كسر البرودة بل بواسطة حرارتها فتكون الكيفية شرطا في التأثير فيلزم اجتماع الكيفية الكاسرة مع الحادثة المنكسرة وذلك لأن الانكسارين لا يجوز أن يكونا متعاقبين وإلا انقلب المغلوب غالبا كما مر بل يكونان معا والشرط يجب أن يكون مع المشروط فتوجد الكيفيتان الصرفتان مع الانكسارين فيلزم وجود الصرافة مع الانكسار وأنه محال لا يقال المنكسر هو المادة لا الكيفية فلا محذور لأنا نقول انكسار المادة ليس في ذاتها بل في كيفيتها
الوجه الرابع الماء الحار إذا خلط بالماء البارد يكسر الحار من برده ومن المحال أن يقال للماء صورة توجب الحرارة وتكسر البرودة بل ليس للمائين إلا صورة واحدة فعلم أن الفاعل لكسر البرودة هي الكيفية دون الصورة
فإن قيل نحن نطلق عليها أي على الصورة الفاعل مجازا لا حقيقة فإنها ليست موجدة للكيفية المنكسرة وإنما ذلك أي الحاصل من الصورة إعداد لمادة المجاور لقبول الكيفية المنكسرة وأما الكيفية (2/510)
المنكسرة المتوسطة فإنها تفيض على المركب عن مفيض هو المبدأ الفياض المسمى عندهم بالعقل الفعال والمعد قد ينافي الأثر الصادر من الفاعل بتوسط أعداده كالحركة والحصول في الطرف من المسافة فإن الحركة معدة لذلك الحصول مع امتناع اجتماعهما وحينئذ نقول الصورة المائية بتوسط الحرارة العارضة تعد مادة الماء البارد لقبول الحرارة وإن لم تكن تقتضيها بالذات فإن هذا أهون من المنافاة بل إن جعل الكيفيات أنفسها معدة لمواد ما يضادها لم يلزم منه محال مما ذكر إذ المعد قد لا يجامع الأثر قلنا فالنزاع على هذا التقدير عائد إلى أن المبدأ فاعل مختار فلا حاجة إلى إعداد أو موجب بالذات فيتوقف تأثيره على الإعداد وسنقيم الدلالة على أنه فاعل مختار فيبطل القول بأن الصورة أو الكيفية معدة لصدور المزاج عن المبدأ
تنبيه على مذاهب في المزاج مخالفة لما مر
الأول أنه يخلع صورة ويلبس صورة متوسطة يعني أن العناصر إذا امتزجت وانفعل بعضها عن بعض أدى ذلك بها إلى أن يخلع صورها فلا يبقى لشيء منها صورته المخصوصة به ويلبس الكل حينئذ صورة واحدة هي حالة في مادة واحدة وتلك الصورة متوسطة بين الصورة المتضادة التي للبسائط
المذهب الثاني بل يلبس صورة نوعية للمركب أي ليست الصورة الملبوسة صورة متوسطة بل هي صورة أخرى نوعية فالقائل بأحد هذين القولين يوافق الجمهور بحسب الظاهر في المزاج بالمعنى المذكور سابقا لكنه يخالفهم في بقاء صور البسائط في المركبات ذوات الأمزجة ويرد عليه أن ما ذكره فساد ما وكون لا مزاج لأنه إنما يكون عند بقاء الممتزجات (2/511)
بأعيانها ويبطله أيضا ما حكيناه من حكايات القرع والأنبيق لأن اختلافها ما يظهر فيه أي في المركب من الأجزاء يدل على اختلاف الاستعداد فيها أي في تلك الأجزاء يعني أنا إذا وضعنا فيهما المركب كقطعة لحم مثلا يميز إلى جسم مائي متقاطر وإلى كلس أرضي لا يتقاطر فدل ذلك على أن الأجزاء التي في المركب مختلفة في استعداد التقطير وعدمه إذ لو كانت متفقة فيه لكان الكل قاطرا أو غير قاطر وهو أي اختلاف الاستعداد دليل اختلاف الماهية لأن القابلية من لوازمها واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات وإنما لم نقل أن تلك الحكاية تدل على وجود صور البسائط في المركبات وإلا لم تنحل إليها احترازا عن أن يقال إنها تكونت بتأثير الحرارة إلا أنها كانت فيه
فإن قيل إذا كان جوهر البسائط باقيا في المركب كانت النارية موجودة فيه لكنها مفترة في حرارتها والصورة النوعية للمركب كاللحمية مثلا حاصلة في جميع أجزائه فتكون النارية التي عرض لها فتور في المركب قد صارت لحما وإذا جاز ذلك فليجز في النار الصرفة المنفردة عن أخواتها أن نحدث لها الكيفية المتوسطة أي الحرارة المفترة فتصير لحما فلا يكون إلى التركيب والمزاج حاجة في حدوث الصور النوعية التي للمركبات قلنا المزاج أي التركيب شرط فيه أي ليس مجرد الاستحالة إلى الحرارة المفترة كافيا في حصول تلك الصورة النوعية بل لا بد مع الاستحالة من التركيب على أن هذه الشبهة واردة عليكم أيضا لأن خلع البسائط صورها ولبسها صورا أخرى إنما يكون عند انتهاء كيفياتها إلى حد معين فمن الجائز أن تنتهي كيفية كل واحدة منها حال انفرادها إلى ذلك الحد حتى يفسد عنها صورتها وتحدث فيها الصورة المزاجية ولا مفر لكم أيضا سوى ما ذكرناه من اشتراط التركيب (2/512)
المذهب الثالث وقد يجعل هذا مذهبا ثالثا نظرا إلى تفصيل المذهب الأول كما أشرنا إليه القول بالخليط وهو أن المركبات موجودة بالفعل وقد يجتمع أجزاء منها فيحس لها قدر وإلا فلا يحس فإن القائل بالخليط يزعم أن في الأجسام أجزاء على طبيعة اللحم وأجزاء على طبيعة الحنطة وأجزاء على طبيعة الذرة وهكذا وهي متصغرة مختلطة جدا فإذا اجتمع أجزاء كثيرة متجانسة أحس بها على تلك الطبيعة فليس هناك تغير في الطبيعة وكذا لا تغير في الكيفيات فالماء إذا تسخن لم يستحل في كيفيته بل كان فيه أجزاء نارية كامنة فبرزت بملاقاة النار وذهب جماعة إلى أن الأجزاء النارية لم تكن كامنة بل نفذت في الماء من خارج فهؤلاء أصحاب الغشو والنفوذ والأولون أصحاب الكمون والبروز وكلاهما ينكران الاستحالة والكون والقول بالمزاج مبني على القول بهما أما على الأول فلأن حصول المزاج باستحالة الأرقام كما عرفت وأما على الثاني فلأن النار لا تهبط على الأثير بل تتكون ههنا
المقصد الثاني
المتن
في أقسام المزاج قد علمت أن الكيفيات التي يمكن بينها الفعل والانفعال أربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فالمقادير منها الحاصلة في المركب إن كانت متساوية متقاومة حتى يحصل منها كيفية عديمة الميل إلى الطرفين فتكون على حاق الوسط بينهما فهو المعتدل الحقيقي
قالوا وإنه لا يوجد إذ أجزاؤه متساوية فلا يقسر بعضها بعضا على الاجتماع وطبائعها داعية إلى الافتراق فيحصل الافتراق قبل حصول الفعل والانفعال فإنه حادث يستدعي مدة فلا يحصل بينها مزاج (2/513)
والجواب أنه ربما تقع الأجزاء بحيث تكون المائلة إلى العلو في جهة السفل وبالعكس فتتمانع فيحصل المزاج نعم يندر ذلك وأما الامتناع فلا كيف وبقاء الاجتماع قد يكون لمنفصل كأصل الاجتماع إذ السبب غير منحصر في غلبة عنصر ثم قالوا وما ليس معتدلا حقيقيا إن غلب عليه من الأجزاء والكيفيات ما ينبغي له فهو المعتدل بحسب الطب وإلا فغير المعتدل وكل من القسمين ينقسم إلى ثمانية أقسام فالمعتدل لأنه قد يعتبر بالنسبة إلى النوع والصنف والشخص والعضو وكل بالنسبة إلى الداخل والخارج فلكل نوع مزاج لا يمكن أن توجد صورته النوعية إلا معه بل له عرض ذو طرفين إذا خرج عنه لم يكن ذلك النوع فهو اعتداله وأليق أمزجته بالنسبة إلى الأنواع الخارجة عنه وله أيضا مزاج واقع فيما بين ذلك العرض هو أليق الأمزجة الواقعة به وبه يكون حاله فيما خلق له أجود وذلك اعتداله بالنسبة إلى ما يدخل فيه من صنف أو شخص وعليه قس الثلاثة الباقية
وأما غير المعتدل فلأنه إما أن يكون خارجا في كيفية ويسمى البسيط وهو أربعة حار وبارد ورطب ويابس أو في كيفيتين غير متضادتين ويسمى المركب وهو أربعة حار رطب وحار يابس وبارد رطب وبارد يابس وأما الحار البارد مثلا أو الرطب اليابس أو اجتماع ثلاث فلا يتصور لا يقال إذا كان يجب للمركب عشرة أجزاء حارة وخمسة باردة فوجد اثنا عشر حارة وستة باردة فهو أحر مما ينبغي وأبرد منه لأنا نقول الاعتبار بالكيفية المتوسطة وميلها إلى أحد الطرفين وذلك لا يكون إلا إلى طرف واحد ضرورة وأما الأجزاء فلا عبرة بعددها ومقدارها وإذا كانت الحارة ضعف الباردة أي عدد كان فالمزاج واحد
تنبيه اتفقوا على أن أعدل أنواع المركبات أي أقربها إلى الاعتدال (2/514)
الحقيقي نوع الإنسان واختلفوا في أعدل الأصناف فقال ابن سينا سكان خط الاستواء لتشابه أحوالهم في الحر والبرد
وقال الإمام الرازي هم سكان الإقليم الرابع لأنا نرى أهله أحسن ألونا وأطول قدودا وأجود أذهانا وأكرم أخلاقا وكل ذلك يتبع المزاج
قلنا تابع للاعتدال بمعنى آخر ثم قال إنا نرى بلادا عرضها بقدر الميل الكلي مرتين يكون صيفهم كشتاء خط الاستواء ثم صيفهم في غاية الحر فكذا شتاء خط الاستواء فما ظنك بصيفهم
والجواب إن ذلك قد يكون بواسطة أوضاع أرضية فإنها تؤثر بأنواع
الأول المنخفض أحر لأنعكاس الأشعة وقلة هبوب الرياح بخلاف المرتفع
الثاني الجبل قد يعين الشعاع بعكسه وقد يمنعه وقد يعكس الريح وقد يمنعه
الثالث البحر فإن مجاورته ترطب ثم قد يسخن بصقالته وانعكاس الأشعة وقد يبرد إذا كان شماليا إذ قد يكتسب الشمال منه بردا
الرابع التربة والسبخة والكبريتية والزاجية تسخن والصخرية والرملية تحفظ الحر والبرد
الخامس الرياح فالشمال تبرد والجنوب تسخن والقبول والدبور بين بين
السادس مجاورة الآجام والأشجار والمباقل وغيرها تؤثر (2/515)
السابع الأوضاع الواقعة في طالع البقعة والحادثة في كل وقت وإذا كان ذلك محتملا بطل الاستدلال ثم لا مانع أن يوجب بعض هذه الأمور إما مفردة أو مركبة ما هو أعدل من الإثنين
وتعرف أن أعدل الأشخاص أعدل شخص من أعدل صنف وأعدل الأعضاء عندهم الجلد سيما للأنملة سيما للسبابة ولذلك حكم طبعا في الفرق بين الملموسات والحكم ينبغي أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين ولا يخفى أن شيئا من ذلك غير يقين
واعلم أن كلا من الثمانية قد يكون ماديا وقد يكون ساذجا وقد يكون جبليا وعرضيا
الشرح
المقصد الثاني في أقسام المزاج قد علمت أن الكيفيات التي يمكن بينها الفعل والانفعال أربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهذه الأربع تسمى بالكيفيات الأول لأن كل واحد من البسائط العنصرية لا يخلو عن اثنين منها كما مر وهي متضادة فيقع بين كل متضادين منها كسر وانكسار عند الامتزاج فالمقادير منها أي من الكيفيات الأربع الحاصلة في المركب إن كانت متساوية بحسب أحجام محالها متقاومة في أنفسها بحسب الشدة والضعف حتى يحصل منها كيفية عديمة الميل إلى الطرفين المتضادين فتكون حينئذ على حاق الوسط بينهما فهو المعتدل الحقيقي فقد اعتبر فيه تساوي البسائط كما وكيفا وذلك لأن امتناع وجوده كما ذهبوا إليه مبني على تساوي ميول بسائطه ولا بد فيه من تساوي كمياتها لأن الغالب في الكل الكم يشبه أن يكون غالبا في الميل وليس هذا وحده (2/516)
كافيا في ذلك التساوي لأن الميول قد تختلف باختلاف الكيفيات مع الاتحاد في الحجم كما في الماء المغلي بالنار والمبرد بالثلج فإن ميل الثاني بسبب الكثافة والثقل اللازمين من التبريد أشد وأقوى من ميل الأول وربما يكتفي فيه باعتبار تساوي الكيفيات وحدها في قوتها وضعفها لأن ذلك هو الموجب لتوسط الكيفية الحادثة من تفاعلها في حاق الوسط بينها قالوا وأنه لا يوجد في الخارج إذ اجزاؤه متساوية في الميل إلى أحيازها متقاومة فلا يقسر بعضها بعضا على الاجتماع لامتناع أن يغلب بعض من الأمور المتساوية المتقاومة بعضا آخر منها وطبائعها داعية إلى الافتراق بالتوجه إلى أحيازها الطبيعية المختلفة فيحصل الافتراق قبل حصول الفعل والانفعال فإنه حادث يستدعي مدة معتدا لها لأنه حركة من كيفية إلى أخرى بعيدة عنها بخلاف الافتراق الذي يكفيه أدنى حركة مع كونه موجودا في كل آن من زمانها فلا يحصل بينها مزاج لتوقفه على حصول تلك الحركة وحدوثه عند انقطاعها
والجواب أنه ربما تقع الأجزاء لأسباب خارجية بحيث تكون المائلة إلى العلو كالنار والهواء في جهة السفل وبالعكس أي وتقع الأجزاء المائلة إلى السفل كالأرض والماء في جهة العلو فتتمانع الأجزاء وتتقاوم لتساوي قواها في الميول وتبقى مجتمعة فيحصل المزاج بتفاعلها نعم يندر وجود ذلك المعتدل ولا يكون باقيا مستمرا إما لسرعة التحلل أو لسرعة غلبة بعض أجزائه على بعض وأما الامتناع فلا كيف وبقاء الاجتماع قد يكون لمنفصل كأصل الاجتماع الذي لا بد له من مقتض سوى الأجزاء إذ السبب لبقاء الاجتماع غير منحصر في غلبة عنصر وهو ظاهر ثم قالوا وما ليس معتدلا حقيقيا إن غلب عليه من الأجزاء في الكمية ومن الكيفيات في الشدة ما ينبغي له ويليق به في خواصه وآثاره كالحرارة الغالبة في الأسد لشجاعته والبرودة الغالبة في الأرنب لجبنه فهو المعتدل بحسب الطلب وهو موجود وليس مشتقا من التعادل الذي هو التساوي بل من العدل في القسمة على معنى أنه قد توفر على الممتزج من العناصر القسط (2/517)
اللائق به في مزاجه وإلا أي وإن لم يغلب عليه ذلك بل غلب ما لا ينبغي فغير المعتدل وكل من القسمين أي المعتدل الطبي وقسيمه ينقسم إلى ثمانية أقسام فالمعتدل لأنه قد يعتبر بالنسبة إلى أمور أربعة النوع والصنف والشخص والعضو ويعتبر كل من هذه الأربعة بالنسبة إلى الداخل تارة وإلى الخارج أخرى فلكل نوع من المركبات المزاجية مزاج لا يمكن أن توجد فيه الصورة النوعية إلا معه وليس ذلك المزاج على حد واحد لا يتعداه وإلا كان جميع أفراد النوع الواحد كالإنسان مثلا متوافقة في المزاج وما يتبعه من الخلق والخلق بل له عرض فيما بين الحرارة والبرودة وبين الرطوبة واليبوسة ذو طرفين إفراط وتفريط إذا خرج عنه لم يكن ذلك النوع فهو اعتداله النوعي وأليق أمزجته بالنسبة إلى الأنواع الخارجة عنه فالمزاج الحاصل لبدن من أبدان الناس هو اللائق به من حيث أنه إنسان دون مزاج الفرس والحمار وغيرهما وذلك لأنه المناسب لآثاره المطلوبة منه حتى إذا خرج إلى شيء من هذه الأمزجة مات وله أي ولكل نوع أيضا مزاج واقع فيما بين ذلك العرض أي يكون في حاق الوسط فيما بين طرفي المزاج العرضي النوعي هو أليق الأمزجة الواقعة في ذلك العرض به وبه يكون حاله فيما خلق له من صفاته وآثاره المختصة به أجود ما يتصور منه وذلك اعتداله النوعي بالنسبة إلى ما يدخل فيه من صنف أو شخص فالاعتدال النوعي المقيس إلى الخارج يحتاج إلى النوع في وجوده ويكون حاصلا لكل فرد من أفراده على تفاوت مراتبه والمقيس إلى الداخل يحتاج إليه النوع في أجودية كمالاته ولا يكون حاصلا إلا لأعدل شخص من أعدل صنف من ذلك النوع ولا يكون أيضا حاصلا له إلا في أعدل حالاته وعليه أي على ما ذكرنا من حال الاعتدال النوعي قس الثلاثة الباقية (2/518)
فالاعتدال الصنفي بالقياس إلى الخارج هو الذي يكون لائقا بصنف من نوع مقيسا إلى أمزجة سائر أصنافه وله عرض ذو طرفين هو أقل من العرض النوعي إذ هو بعض منه وإذا خرج عنه لم يكن ذلك الصنف وبالقياس إلى الداخل هو المزاج الواقع في حاق وسط هذا العرض وهو أليق الأمزجة الواقعة فيما بين طرفيه بالصنف إذ به يكون حاله أجود فيما خلق لأجله ولا يكون حاصلا إلا عدل شخص منه في أعدل حالاته سواء كان هذا الصنف أعدل الأصناف أو لا والاعتدال الشخصي بالنسبة إلى الخارج هو الذي يحتاج إليه الشخص في بقائه موجودا سليما وهو اللائق به مقيسا إلى أمزجة الأشخاص الآخرين من صنفه وله أيضا عرض هو بعض من العرض الصنفي وبالنسبة إلى الداخل هو الذي يكون به الشخص على أفضل حالاته والاعتدال العضوي مقيسا إلى الخارج ما يتعلق به وجود العضو سالما وهو اللائق به دون أمزجة سائر الأعضاء وله أيضا عرض إلا أنه ليس بعضا من العرض الشخصي ومقيسا إلى الداخل وهو الذي ينبغي للعضو حتى يكون على أحسن أحواله وأكمل أزمانه وأما غير المعتدل فلأنه إما أن يكون خارجا عما ينبغي في كيفية واحدة ويسمى البسيط وهو أربعة حار وبارد ورطب ويابس أو يكون خارجا عنه في كيفيتين غير متضادتين ويسمى المركب وهو أيضا أربعة حار رطب وحار يابس وبارد رطب وبارد يابس وأما الحار البارد مثلا أو الرطب اليابس أي خروج المركب عما هو حقه في كيفيتين متضادتين أو اجتماع ثلاث أو أربع من تلك الكيفيات فلا يتصور إذ يلزم اجتماع المتضادين لا يقال إذا كان يجب أن للمركب عشرة أجزاء حارة وخمسة باردة فوجد اثنا عشر حارة وستة باردة فهو أحر مما ينبغي وأبرد منه وقس على ذلك الأجزاء الرطبة واليابسة والازدواجات العقلية لأنا نقول الاعتبار فيما ليس معتدلا طبيا إنما هو بالكيفية المتوسطة وميلها إلى أحد الطرفين المتضادين وذلك أي ميلها لا يكون (2/519)
إلا إلى طرف واحد منهما ضرورة أي إذا مالت الكيفية المتوسطة عما ينبغي فإما أن تميل عنه إلى جانب الحرارة فقط أو إلى جانب البرودة فقط إذ ميلانها إليها معا محال بديهة وكذا الحال في الرطوبة واليبوسة وأما الأجزاء فلا عبرة فيما نحن فيه بعددها ومقدارها بل مداره على النسبة بينهما وإذا كانت الأجزاء الحارة ضعف الباردة أي عدد كان فالمزاج واحد فإذا فرض أن الاعتدال الطبي مبني على هذه النسبة فالأجزاء الحارة إذا كانت عشرة إلى غير ذلك من الأعداد التي توجد فيها هذه النسبة وما قيل من أن المعتدل هو الذي وفر عليه قسطه الذي ينبغي له من العناصر بكمياتها وكيفياتها معناه رعاية النسبة بين كمياتها في العدد وكيفياتها في القوة والضعف وحينئذ بطل ما توهمه الكاتبي من أن الخارج عن المعتدل بحسب الطب لا ينحصر في ثمانية ثم أنه ادعى ان الخروج إذا قيس إلى الاعتدال الحقيقي انحصر أقسامه في الثمانية وفيه أيضا بحث لأن الحقيقي اعتبر فيه تساوي الكميات والكيفيات معا على ما عرفت فالخارج عنه في الكيفية وحدها ثمانية وتبقى هناك أقسام أخر بحسب الكمية وحدها أو بحسبهما معا نعم إذا اكتفى في المعتدل الحقيقي باعتبار التساوي في الكيفيات فقط انحصر ما يقابله في ثمانية أيضا
تنبيه اتفقوا على أن أعدل أنواع المركبات أي أقربها بحسب المزاج إلى الاعتدال الحقيقي نوع الإنسان لأن النفس الإنسانية أشرف وأكمل ولا يخل في إفاضة المبدأ بل هي بحسب استعدادات القوابل فاستعداد الإنسان بحسب مزاجه أشد وأقوى فيكون إلى الاعتدال الحقيقي أقرب واختلفوا في أعدل الأصناف من نوع الإنسان فقال ابن سينا أعدل أصنافه سكان خط الاستواء لتشابه أحوالهم في الحر والبرد وذلك (2/520)
لتساوي ليلهم ونهارهم أبدا فتكسر كل واحدة من هاتين الكيفيتين الحادثتين منهما بالأخرى ولأن الشمس تلبث على سمت رؤوسهم كثيرا بل تمر به حال اجتيازها عن إحدى الجهتين إلى الأخرى وهناك حركتها في الميل عن المعدل أسرع ما يكون فلا تشتد حرارة صيفهم ولا تبعد الشمس عن سمت رؤوسهم إلا بمقدار الميل الكلي فلا يكون بردهم أيضا شديدا فيكون مزاجهم أقرب إلى الاعتدال الحقيقي إذا لم تعرض هناك أسباب أرضية مضادة كالجبال والبحار
وقال الإمام الرازي هم سكان الإقليم الرابع لأنا ترى أهله أحسن ألوانا وأطول قدودا وأجود أذهانا وأكرم أخلاقا وكل ذلك المذكور من الكمالات البدنية والنفسية يتبع المزاج واعتداله فيكون مزاجهم أعدل قلنا ما ذكرته تابع للاعتدال بمعنى آخر هو الاعتدال الطبي لا الاعتدال الحقيقي الذي كلامنا فيه وليس هذا الجواب بشيء لأن مزاج الإنسان كما مر أقرب إلى الاعتدال الحقيقي فإذا كان مزاج هؤلاء أكبر توفرا لما ينبغي للمزاج الإنساني كان أقرب إليه وأعدل لا محالة
ثم قال الإمام إنا نرى بلادا عرضنا بقدر الميل الكلي مرتين يكون صيفهم كشتاء خط الاستواء في بعد الشمس عن سمت الرأس ثم صيفهم في غاية الحر فكذا شتاء خط الاستواء يكون في غاية الحر فما ظنك بصيفهم وشدة حره فيكون مزاجهم مائلا إلى الحرارة ويدل عليه شدة سواد سكانها من أهل الزنج والحبشة وشدة جعودة شعورهم
والجواب أن ذلك الحر في صيف تلك البلاد قد يكون بسبب طول (2/521)
نهارهم ومكث الشمس فوق أفقهم كثيرا وقد يكون بواسطة أوضاع وأحوال أرضية فإنها تؤثر في التسخين والتبريد بأنواع
الأول المنخفض من الأرض أحر من المرتفع لانعكاس الأشعة وقلة هبوب الرياح فيه بخلاف المرتفع
الثاني الجبل المجاور للبلد قد يعين الشعاع بعكسه كما إذا كان في المغرب أو في أحد جانبي الشمال والجنوب وقد يمنعه كما إذا كان في جانب المشرق وقد يعكس الجبل الريح وقد يمنعه فيختلف بذلك حال الحر والبرد
الثالث البحر فإن مجاورته ترطب قطعا ثم قد يسخن البحر بصقالته وانعكاس الأشعة منه وقد يبرد إذا كان شماليا إذ قد يكتسب الشمال منه بردا
الرابع الترية والسبخة والكبريتية والزاجية تسخن والصخرية والرملية تحفظ الحر والبرد
الخامس الرياح فالشمال تبرد لمرورها على بلاد باردة فيها ثلوج ومياه متجمدة وتجفف أيضا ليونتها إذ لا تمر بالمياه لأن أكثر البحور في جانب الجنوب لا تخالطها الأبخرة الكثيرة والجنوب تسخن وترطب بعكس ما مر والقبول والدبور بين بين
السادس مجاورة الآجام والأشجار والمباقل وغيرها من المعادن تؤثر في الهواء تأثيرا يناسبها
السابع الأوضاع الواقعة في طالع البقعة من اجتماع كواكب فيه تقتضي سخونتها أو برودتها والأوضاع الحادثة في كل وقت بالقياس إلى (2/522)
تلك البقعة كمرور بعض الكواكب بسمت رأسها وذكر في كليات القانون أن من التغيرات التابعة للأمور السماوية مثل أن يجتمع كثير من الدراري في جزء واحد من الفلك إما وحدها أو مع الشمس فيوجب ذلك إفراط التسخين فيما تسامته من الرؤوس أو تقرب منه وإذا كان ذلك الذي ذكرناه محتملا بطل الاستدلال لجواز أن يكون الحر في صيف تلك البلاد لبعض هذه الأسباب لا لمجرد قرب الشمس من سمت رؤوسها فلا يلزم أن يكون شتاء خط الاستواء مثله في الحرارة إذا كان خاليا عن الأسباب المذكورة ثم لا مانع من جهة العقل أن يوجب في بعض المواضع التي ليس من خط الاستواء ولا من الإقليم الرابع بعض هذه الأمور أي في بعض الأوضاع الأرضية إما مفردة أو مركبة ما هو أي مزاجا صنفيا هو أعدل من الاثنين أي مزاجي سكان الاستواء والإقليم الرابع ولما ذكر أعدل الأنواع وأعدل الأصناف أشار إلى أعدل الأشخاص وأعدل الأعضاء بقوله وتعرف أنت على قياس أعدل الأصناف أن أعدل الأشخاص النوعية أعدل شخص من أعدل صنف وأما أعدل الأعضاء فهو عندهم الجلد سيما الجلد الذي للأنملة سيما الذي للسبابة ولذلك حكم جلد الأنملة السبابة أو جلد الأنامل طبعا في الفرق بين الملموسات والحاكم ينبغي أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين ليحكم بالعدل ولا يخفى على الفطن أن شيئا من ذلك الذي ذكروه من حال الجلد غير يقيني إذ لا دلالة قاطعة عليه وحديث التحكيم إقناعي
واعلم أن كلا من الأمزجة الثمانية الخارجة عن الاعتدال قد يكون ماديا بأن يغلب على البدن خلط يغلب عليه كيفية فتخرجه عن (2/523)
الاعتدال الذي هو حقه إلى تلك الكيفية كأن يغلب مثلا عليه البلغم فيخرجه إلى البرودة أو الصفراء فتخرجه إلى الحرارة وقد يكون ساذجا بأن يخرج عن الاعتدال لا بمجاورة خلط نافذ فيه بل بأسباب خارجية أوجبت ذلك كالمبرد بالثلج والمسخن بالشمس وقد يكون كل واحد منها جبليا خلق البدن عليه وعرضيا عرض له بعد اعتداله في جبلته (2/524)
الفصل الثاني فيما لا نفس له من المركبات
المتن
وتسمى المعادن وتنقسم إلى قسمين منطرقة وغير منطرقة
القسم الأول المنطرقة وهي الأجساد السبعة المتكونة من اختلاط الزيبق والكبريت المتكونين من الأبخرة والأدخنة وتختلف باختلاطهما على مزاج معد لذلك الاختلاف فإنهما إن كانا صافيين وتم الطبخ فإن كان الكبريت الأبيض فالحاصل الفضة وأن كان أحمر وفيه قوة صباغة فهو الذهب وإن عقده البرد قبل تمام الطبخ فهو الخارصيني وكأنه ذهب فج وإن كان صافيا والكبريت رديئا محرقا فهو النحاس وإن كانا غير جيدي المخالطة فالرصاص وإن كانا رديئين فإن قوي التركيب بينهما والالتئام فهو الحديد وإلا فهو الأسرب وأنت خبير بأن القسمة غير حاصرة وإن التكون على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين ولا يرجى فيه إلا الحدس (2/525)
والتخمين وإن سلم فتكونها على غير هذا الوجه مما لم يقم على امتناعه دليل كيف والمهوسون بالكيمياء لهم في الأجساد والأرواح تفنن والكل عندنا للفاعل المختار
القسم الثاني غير المنطرقة وعدم انطراقها إما للين كالزيبق أو لا وحينئذ إما أن تنحل بالرطوبات كالأملاح والزاجات أو لا كالطلق والزرنيخ
الشرح
فيما لا نفس له من المركبات المزاجية وتسمى المعادن وتنقسم إلى قسمين منطرقة أي قابلة لضرب المطرقة بحيث لا تنكسر ولا تتفرق بل تلين وتندفع إلى عمقها فتنبسط وغير منطرقة أي لا تقبل ذلك
القسم الأول المنطرقة وهي الأجساد السبعة الذهب والفضة والرصاص والأسرب والحديد والنحاس والخارصيني المتكونة من اختلاط الزيبق والكبريت المتكونين من الأبخرة والأدخنة فإن الزيبق بخارية أي مائية صافية جدا خالطها دخانية كبريتية لطيفة مخالطة شديدة بحيث لا ينفصل منه سطح إلا ويغشاه من تلك اليبوسة شيء فلذلك لا يعلق باليد ولا ينحصر انحصاره بشكل ما يحويه ومثاله قطرات الماء الواقعة على تراب في غاية اللطافة فإنه يحيط بالقطرة سطح ترابي حاصر للماء كالغلاف له بحيث يبقى القطرة على شكلها في وجه التراب وإذا تلاقى قطرتان منها فربما ينخرق الغلافان ويصير الماءان في غلاف واحد وبياض الزيبق لصفاء المائية وبياض الأرضية وممازجة الهوائية والكبريت دخانية تخمر بها بخارية تخمر شديدا بالحر حتى حصل فيها دهنية ثم انعقدت بالبرد وتختلف هذه السبعة باختلاطهما على (2/526)
مزاج معد لذلك الاختلاف فإنهما إن كانا صافيين وتم الطبخ أي انطباخ الزيبق بالكبريت فإن كان الكبريت مع صفائه ونقائه أبيض فالحاصل الفضة وإن كان أحمر وفيه قوة صباغة لطيفة غير محرقة فهو أي الحاصل الذهب وإن كانا نقيين وفي الكبريت الأحمر قوة صباغة لكن عقده البرد قبل تمام الطبخ فهو الخارصيني وكأنه ذهب فج أين نيئ لم يبلغ تمام النضج وإن كان الزيبق صافيا والكبريت رديئا محرقا فهو النحاس وإن كانا أي الزيبق النقي والكبريت الردئ غير جيدي المخالطة فالرصاص وإن كانا رديئين فإن قوي التركيب بينهما والالتئام فهو الحديد وإلا أي وإن لم يقو التركيب بينهما مع ردائتهما فهو الأسرب ويسمى الرصاص الأسود وأنت خبير بأن القسمة غير حاصرة لجواز أن يكونا صافيين مع بياض الكبريت ويعقده البرد قبل تمام النضج وأن يكون الكبريت صافيا والزيبق رديئا أو بالعكس ولا يكون الكبريت محرقا إلى غير ذلك من الاحتمالات العقلية وإن التكون أي تكون الأجساد منهما على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين ولا يرجى فيه إلا الحدس والتخمين بإمارات ضعيفة مثل قولهم يدل على أن الزيبق عنصر المنطرقات أنها عند الذوبان تكون مثل الزيبق أما الرصاص فظاهر وأما غيره فلأنه عند الذوب زيبق أحمر ويدل عليه أيضا أن الزيبق يعلق بهذه الأجساد وأنه يمكن أن يعقد برائحة الكبريت حتى يكون مثل الرصاص فإن أصحاب الإكسير يعقدون الزيبق بالكباريت انعقادات محسوسة فيحصل لهم ظن بأن الأمور الطبيعية مقارنة للأحوال الصناعية وإن سلم تكونها منهما وأنه على هذا الوجه فتكونها من غيرهما أو منهما على غير هذا الوجه مما لم يقم على امتناعه دليل كيف والمهوسون بالكيمياء لهم في الأجساد السبعة والأرواح التي تفيد الصورة الذهبية والفضية تفنن لأنهم لا يقتصرون على اختلاط الكبريت والزيبق والكل عندنا للفاعل المختار بلا إحالة على شيء مما ذكروه كما مر مرارا (2/527)
القسم الثاني غير المنطرقة من المعادن وعدم انطراقها إما للين وفرط الرطوبة كالزيبق أو لا وحينئذ إما أن تنحل بالرطوبات كالأملاح والزاجات أو لا تنحل كالطلق والزرنيخ وفي المباحث المشرقية لأن أجسام المعدنية إما قوية التركيب وحينئذ إما أن يكون منطرقا وهو الأجساد السبعة أو غير منطرق إما لغاية رطوبته كالزيبق أو لغاية يبوسته كالياقوت ونظائره إما ضعيفة التركيب فإما أن تنحل بالرطوبة وهو الذي يكون ملحي الجوهر كالزاج والنوشادر والشب أو لا تنحل وهو الذي يكون دهني التركيب كالكبريت والزرنيخ وفيه أيضا أن الأجساد السبعة متشاركة في أنها أجسام ذائبة صابرة منطرقة فالذائب يميزها عن الأكلاس والأحجار التي لا تذوب والصابر عما يذوب ويتنجز كالشمع والقير والمنطرق عما ليس بمنطرق كالزجاج والميناء
فإن قيل الحديد لا يذوب وإن كان يلين قلنا يمكن إذابته بالحيلة ويمتاز الذهب عن أخواته بالصفرة والرزانة والفضة بالبياض والرزانة بالقياس إلى ما سوى الذهب (2/528)
الفصل الثالث في المركبات التي لها نفس
وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
المقدمة
في تعريف النفس وهي ثلاث
الأولى النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يتغذى وينمو فالكمال جنس وبأول يخرج الكمالات الثانية كتوابع الأول من العلم والقدرة وبالجسم يخرج كمال المجردات وبالطبيعي يخرج الصناعي كالسرير والكرسي وبالآلي العناصر إذ لا يصدر عنها أفعالها بواسطة الآلات ومنهم من رفع طبيعي صفة للكمال احترازا عن الكمال الصناعي وبالحيثية كل كمال لا يلحق من هاتين الحيثيتين
الثانية الحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحرك بالإرادة
الثالثة الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي
وإن أردنا تعريف النفس مطلقا قلنا كمال أول الجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو أو يحس ويتحرك بالإرادة أو يعقل الكليات ويستنبط بالرأي وقد يعبر عنها بلازم واحد وهو من حيث أنه ذو حياة بالقوة (2/529)
تنبيهات
الأول أنا نشاهد أجساما يصدر عنها آثار لا على نهج واحد كما ذكرنا وليس ذلك للجسمية المشتركة للتخلف فهي لمباد غير جسميتها وتسمى نفسا فالنفس من حيث هي مبدأ الآثار قوة وبالقياس إلى المادة التي تحملها صورة وإلى طبيعة الجنس التي بها يتحصل كمال وتعريفها بالكمال أولى من الصورة إذ هي المنطبعة في المادة والناطقة ليست كذلك لكنها كمال للبدن كما أن الملك كمال للمدينة ولأنه مقيس إلى النوع وهو أقرب إلى طبيعة الجنس من المادة التي يقاس إليها الصورة كيف والمادة يتضمنها النوع من غير عكس وكذا من القوة لأنها للانفعال ولقوة الفعل ليست بمعنى واحد ولأن القوة اسم لها من حيث هي مبدأ الآثار وهو بعض جهاته والكمال اسم لها من حيث يتم بها الحقيقة فتعرفه من جميع جهاته
الثاني النفس في بعض الأشياء قد تتبرأ عن البدن لكن لا يتناوله اسم النفس إلا باعتبار تعلقها به وقد يكون للشيء باعتبار ذاته اسم وباعتبار تعلقه اسم آخر فإذا أردنا تعريفه من الجهة الثانية فلا بد أن نأخذ فيه المضاف إليه وهي وإن لم تكن ذاتية لها في جوهرها فهي ذاتيه من جهة التسمية
الثالث هذا الحد لا يتناول النفوس الفلكية لما عرفت أنا أعطيناها اسم النفس من حيث تختلف أفعالها والفلكية ليست كذلك ولا نعلم رسما يتناولها فإنا لو قلنا مبدأ للأفعال كان كل قوة كالطبيعة نفسا ولو شرطنا القصد خرجت النباتية (2/530)
الشرح
الفصل الثالث في المركبات التي لها نفس وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
المقدمة في تعريف النفس وهي ثلاث
الأولى النفس النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يتغذى وينمو فالكمال جنس يتناول المحدود وغيره لأنه عبارة عما يتم به النوع إما في ذاته ويسمى كمالا أولا ومنوعا كصورة السرير مثلا فإنها كمال للخشب السريري لا يتم السرير في حد ذاته إلا بها وأما في صفاته كالبياض فإنه كمال للجسم الأبيض لا يكمل في صفته إلا به ويسمى كمالا ثانيا وبأول يخرج عن الحد الكمالات الثانية المتأخرة عن تحصل النوع في نفسه كتوابع الكمال الأول المحصل للنوع من العلم والقدرة وغيرهما من الصفات المتفرعة على تحصل الأنواع في ذواتها وبالجسم يخرج عنه كمال المجردات أي منوعها وبالطبيعي يخرج الجسم الصناعي أي يخرج صور الأجسام الصناعية كالسرير والكرسي فإن صورتهما لا تسمى نفسا وبالآلي يخرج العناصر أي صورها إذ لا يصدر عنها أفعالها بواسطة الآلات وكذلك الصور المعدنية فلفظ آلي يجوز رفعه على أنه صفة لكمال أول أي كمال ذو آلة ويجوز جره على أنه صفة لجسم أي جسم مشتمل على الآلة وهذا أظهر وعلى التقديرين فليس المراد بالآلي أن يكون الجسم ذا أجزاء متخالفة فقط بل وأن يكون أيضا ذا قوى مختلفة كالغاذية والنامية وغيرهما فإن آلات النفس بالذات هي القوى ويتوسطها الأعضاء ومنهم من رفع طبيعي صفة للكمال احترازا عن الكمال (2/531)
الصناعي فإن الكمال الأول قد يكون صناعيا يحصل بصنع الإنسان كما في السرير والصندوق وقد يكون طبيعيا لا مدخل لصنعه فيه
قال الإمام الرازي وقد جعل بعض المتأخرين الطبيعي صفة للكمال الأول هكذا النفس كمال أول طبيعي لجسم آلي وزعم أن الكمال الأول قد يكون طبيعيا كالقوى التي هي مبادي الآثار وقد لا يكون كالتشكيلات الصناعية وهذا أقرب وبالحيثية يخرج كل كمال لا يلحق من هاتين الحيثيتين يعني أن قوله من حيث يتغذى وينمو يدل على أن النفس النباتية ليست كمالا أول للجسم المذكور مطلقا بل من الحيثية المذكورة فيخرج به عن الحد كل كمال لا يلحقه من هذه الحيثية كالنفس الحيوانية والإنسانية
الثانية النفس الحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحرك بالإرادة
الثالثة النفس الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي وفوائد القيود في هذين الحدين قد ظهرت مما مر هذا إذا عرفنا كل واحدة من النفوس الثلاث على حدة وإن أردنا تعريف النفس مطلقا أي بحيث يتناول جميع ما ذكرناه قلنا النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ما يتغذى وينمو ويحس ويتحرك بالإرادة أو يعقل الكليات ويستنبط بالرأي فإن هذا الترديد راجع إلى أقسام المعرف ومتناول إياها والتحقيق أنه بحسب المعنى تعريفات ثلاثة لتلك الأقسام مع وجازة في العبارة وقد يعبر عنها أي عن الحيثيات المذكورة على سبيل الترديد بلازم واحد شامل لها وهو من حيث أنه ذو حياة بالقوة (2/532)
فيقال النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة فقيد آلي احتراز عن صور العناصر والمعادن فإنها وإن كانت كمالات أولية أجسام طبيعية إلا أنها غير آلية كما مر ويخرج به أيضا النفوس الفلكية على رأي من ذهب إلى أن لكل فلك من الأفلاك نفسا وأما على رأي من ذهب إلى أن النفوس للأفلاك الكلية فقط والأفلاك الجزئية كالخارج والتدوير بمنزلة آلات لها فلا تخرج به فاحتيج إلى القيد الأخير لتخرج عن التعريف على المذهبين وذلك لأن النفوس الفلكية وإن كانت كمالات أولية أجسام طبيعية آلية لكنها ليس يصدر عنها أفاعيل الحياة بالقوة بل يصدر عنها ما يصدر من أفاعيل الحياة كالحركة الإرادية مثلا دائما بخلاف النفوس الحيوانية فإن أفعالها قد تكون بالقوة إذ ليس الحيوان في التغذية والتنمية وتوليد المثل والإدراك والحركة دائما بل قد يكون كل واحد من هذه الأفعال فيه بالقوة وكذا حال النفس الإنسانية بالقياس إلى تعقل الكليات والاستنباط بالآراء وحال النفس النباتية بالنسبة إلى ما يصدر عنها فمعنى قوله ذي حياة أنه يصدر عنه بعض أفاعيل الحياة ومعنى قوله بالقوة أن ذلك الصدور لا يكون بالفعل دائما وفسرهما الإمام الرازي بقوله أي من شأنه أن يحيا بالنشو ويبقى بالغذاء وربما يحيا بالإحساس والتحريك
تنبيهات على فوائد يتحقق بها المرام في هذا المقام
الأول أنا نشاهد أجساما يصدر عنها آثار لا على نهج واحد كما ذكرنا من الحس والحركة والتغذي والنمو وتوليد المثل وليس ذلك الصدور عنها للجسمية المشتركة بين الأجسام كلها للتخلف أي تخلف تلك الآثار عن الأجسام الأخر المشاركة إياها في الجسمية فهي أي تلك الآثار لمباد في تلك الأجسام غير جسميتها وليست هذه المبادي أجساما وإلا عاد الكلام فيها بل هي قوى متعلقة بالأجسام وتسمى نفسا فالنفس لها اعتبارات ثلاثة وأسماء بحسبها فإنها من حيث هي مبدأ الآثار المذكورة قوة وبالقياس إلى المادة التي تحملها صورة وبالقياس إلى طبيعة الجنس التي بها يتحصل ويتكمل كمال وتعريفها أي تعريف النفس (2/533)
بالكمال أولى من الصورة إذ هي أي الصورة هي المنطبعة الحالة في المادة والنفس الناطقة ليست كذلك لأنها مجردة فلا يتناولها اسم الصورة إلا مجازا من حيث أنها متعلقة بالبدن ويقوم به إمكانها قبل وجودها لكنها مع تجردها في ذاتها كمال للبدن كما أن الملك كمال للمدينة باعتبار التدبير والتصرف وإن لم يكن فيها ولأنه أي الكمال مقيس إلى النوع وهو أي النوع أقرب إلى طبيعة الجنس لصحة الحمل بينهما من المادة التي تقاس إليها الصورة إذ لا حمل بينهما ولا شك أن وضع المنسوب إلى ما هو أقرب إلى الجنس مكانه أولى من وضع المنسوب إلى ما ليس أقرب كيف أي كيف لا يكون تعريفها بالكمال أولى والمادة يتضمنها النوع من غير عكس فإذا دل بالكمال على النوع فقد دل ضمنا على المادة بخلاف ما إذا دل بالصورة على المادة إذ لا دلالة حينئذ على النوع فالدلالة الأولى أكمل من الثانية وكذا تعريف النفس بالكمال أولى من القوة لأنها للانفعال وللقوة الفعل ليست بمعنى واحد يعني أن لفظة القوة تطلق بالاشتراك اللفظي على معنيين قوة الفعل وقوة الانفعال وللنفس قوة الادراك وهي انفعالية وهو التحريك وهي فعلية وليس اعتبار إحديهما أولى من اعتبار الأخرى ولا يجوز اعتبارها معا فيفسد الحد بخلاف لفظ الكمال فإنه يتناولهما بمعنى واحد فلا محذور فيه ولأن القوة اسم لها أي للنفس من حيث هي مبدأ الآثار وهو بعض جهاته أي جهات هذا المعرف فتعرفه من هذه الجهة فقط والكمال اسم لها من حيث يتم بها الحقيقة النوعية المستتبعة لآثارها فتعرفها من جميع جهاته ولا ريب في أن تعريف الشيء بجميع جهاته أولى من تعريفه ببعضها
التنبيه الثاني النفس في بعض الأشياء كالإنسان قد تتبرأ عن البدن بأن تكون مجردة غير حالة فيه لكن لا يتناوله اسم النفس إلا باعتبار تعلقها به حتى إذا انقطع ذلك التعلق أو قطع النظر عنه لم يتناوله اسم النفس إلا (2/534)
باشتراك اللفظ بل الاسم الخاص بها حينئذ هو العقل وقد يكون للشيء باعتبار ذاته وجوهره اسم وباعتبار تعلقه وإضافته إلى غيره اسم آخر فإذا أردنا تعريفه من الجهة الثانية فلا بد أن يأخذ فيه المضاف إليه وهي أي الأمور المضاف إليها وإن لم تكن ذاتيه لها أي للأشياء التي أريد تعريفها في جوهرها فهي ذاتيه لها من جهة التسمية وتوضيحه ما في المباحث المشرقية من أن الشيء قد يكون له في ذاته وجوهره اسم يخصه وباعتبار إضافته إلى غيره اسم آخر كالفاعل والمنفعل والأب والابن وقد لا يكون له اسم إلا باعتبار إضافته إلى غيره كالرأس واليد والجناح فمتى أردنا أن نعطيها حدودها من جهة أسمائها بما هي مضافة أخذنا الأشياء الخارجة عن جواهرها في حدودها لأنها ذاتيات لها بحسب الأسماء التي لها تلك الحدود
التنبيه الثالث هذا الحد الذي ذكروه للنفس على الإطلاق لا يتناول النفوس الفلكية لأن أفعالها إن لم تكن بالآلات كما هو المشهور فقد خرجت عن التعريف بقيد الآلي وإن كانت بالآلات كما ذهب إليه جمع فقد خرجت عنه بقيد ذي حياة بالقوة على ما مر وكذا لا يتناولها الحد المستفاد مما ذكرناه في التنبيه الأول لما عرفت أنا أعطيناها اسم النفس من حيث يختلف أفعالها والنفوس الفلكية ليست كذلك فإن أفعالها غير مختلفة بل هي على نهج واحد والاختلافات المشاهدة فيها مستندة إلى تركب حركات كل واحدة منها على وتيرة واحدة ولا نعلم رسما يتناولها أي ويتناول النفوس الثلاث معا عن النباتية والحيوانية والفلكية فإنا لو قلنا النفس ما يكون مبدأ للأفعال أي ما يصدر عنه فعل كان كل قوة كالطبيعة العنصرية والصورة المعدنية نفسا ولو شرطنا مع صدور الفعل القصد خرجت النفس النباتية والحاصل أن الاكتفاء بصدور الفعل يبطل طرد الحد واعتبار اختلاف الأفعال يخرج النفوس الفلكية واعتبار القصد يخرج النباتية فلم يتحقق عندنا رسم صحيح يتناول النفوس الثلاث فإطلاق النفس على النفوس الأرضية والسماوية ليس إلا بحسب الاشتراك اللفظي
وهذا وقد صرح ابن سينا في الشفاء بأن كل ما يكون مبدأ لصدور (2/535)
أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة فإنا نسميه نفسا وهذا المعنى مشترك بين النفوس كلها لأن ما يكون مبدأ لأفاعيل موصوفة بما ذكر إما أن يكون مبدأ لأفاعيل مختلفة وهو النفس الأرضية أعني النباتية والحيوانية أو يكون مبدأ لأفاعيل على وتيرة واحدة لكن لا تكون عادمة للإرادة بل واجدة لها وهي النفس الفلكية فقد علمنا رسما يتناولها بأسرها (2/536)
القيء وجد آخر ما يخرج بالقيء الحلو وليس إلا لجذب المعدة له إلى قعرها وإذا تناول مرا كريها فالمريء والمعدة يرومان نفضه ولفظه ولا يزدردانه إلا بعسر فربما اندفع بالقيء لا اختياره
الثالث قد تصعد المعدة لجذب الغذاء في بعض الحيوان كالتمساح حتى تخرج
الرابع الرحم بعد الطمث إذا خلا عن الفضول يشتد شوقه إلى المني حتى يحس كأنه يجذب الإحليل إلى داخل جذب المحجمة الدم
الخامس الدم يكون في الكبد مخلوطا بالفضلات الثلاث ثم تتمايز وينصب إلى كل عضو نوع من الرطوبة يليق به فلولا أن في كل عضو قوة جاذبة لتلك الرطوبة لامتنع ذلك
الثانية الهاضمة وهي تعد الغذاء لأن يصير جزءا بالفعل فهي غير الغاذية أعني صيرورتها جزءا بالفعل وهي استحالات ما بين تمام فعل الجاذبة وابتداء حصول فعل الغاذية التي هي كون ما ويمكن أن يقال المحرك إلى مشابهه العضو هو القوة الموصلة إليه كيف والمراد بالقوة هنا المعدة والمفيض واهب الصور والهاضمة هي المفيدة للاستعدادات المختلفة بالقوة والضعف التي من جملتها ما يعد لفيضان الصورة العضوية وتلك مغنية عن قوة أخرى في الأعضاء ولذلك لم يذكر جالينوس الغاذية وقال ابن سينا الغاذية أربع الأربع منها
واعلم أن الهاضمة كما تعد الغذاء الصالح للجزئية تعد الفضل منه للدفع بترقيق الغليظ وتغليظ الرقيق وتقطيع اللزج إما بذاتها كما في (2/538)
الجوارح أو بمخالطة رطوبة كما في الآدمي وأكثر الحيوانات ثم للهضم مراتب أربع
الأولى في المعدة بأن تجعل الغذاء كيلوسا وهو جوهر كماء الكشك الثخين في بياضه وقوامه وهذه المرتبة تبتدئ في الفم لاتصال سطحه بسطح المعدة ولذلك تفعل الحنطة الممضوغة في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة منها
الثانية في الكبد فإن الغذاء إذا اندفع كثيفه إلى الأمعاء للدفع انجذب لطيفه من المعدة ومنها إلى الكبد بطريق ماسا ريقا وهي عروق صلبة ضيقة كالمصفاة فينطبخ فيها وتتميز الأخلاط الأربعة وذلك لأن الأجزاء اللطيفة النارية منه تتجاوز نضجه ولخفته يعلوها كالرغوة وهي الصفراء فيها حرافة والكثيفة الأرضية إما لطبعها وإما لشدة احتراقها وصيرورتها إلى طبيعة الرماد يرسب فيها كالعكر وهي السوداء وفيها حموضة وما يبقى بينهما منه ما قد تم نضجه وهو الدم وهو حلو ومنه ما هو فج يعد كأنه دم غير تام النضج وهو البلغم وفيه حلاوة ما وكلما كان أقرب إلى النضج كان أحلى وكل واحد من هذه الأربعة إما طبيعي وإما غير طبيعي وذلك إما لتغير مزاجه في نفسه ولها أسماء يعرفها الأطباء لسنا لبيانها
الثالثة في العروق فإن الأخلاط الأربعة تندفع في العروق مختلطة وفيها يتميز ما يصلح غذاء لكل عضو فيصير مستعدا لأن تجذبه جاذبة العضو
الرابعة في الأعضاء فإن الغذاء إذا سلك في العروق الكبار إلى الجداول ثم إلى السواقي ثم إلى الرواضع ثم إلى العروق الليفية ترشح من (2/539)
فوهاتها على الأعضاء وحصل لها في الأعضاء كل عضو التشبه به التصاقا وقد يخل به كفي الذبول ولونا وقد يخل به كفي البرص والبهق وفي القوام وقد يخل به كفي الاستسقاء اللحمي
تنبيهان
الأول أن لكل مرتبة من مراتب الهضم فضلا فللأولى الثقل وللثانية البول والمرتان السوداء والصفراء وللثالثة الرطوبة المائية المندفعة بالبول والأبخرة التي تصير عرقا وللرابعة المني ولذلك يضعف استفراغ القليل منه ما لا يضعف مثله استفراغ أضعافه من الدم
الثاني الغذاء ما يقوم بدل ما يتحلل من الشيء بالاستحالة إلى نوعه ويقال لما هو غذاء بالفعل وبالقوة القريبة والبعيدة والمشهور أن البسيط لا يصير غذاء ولا برهان عليه
الثالثة الماسكة وهي التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها ويثبتها في المعدة احتواؤها على الغذاء من كل الجوانب وإن قل الغذاء بحيث ليس بينهما فضاء وإذا ضعفت المعدة لم يحصل وإن كثر الغذاء حصلت القراقر وبالتشريح نشاهده وفي الرحم احتواؤها على الزرع بحيث لا ينزل وكذلك في الأعضاء
وبالجملة فلما رأينا الرقيق والثقيل الذي من شأنه النزول لا ينزل وخلافه الذي ليس من شأنه النزول ينزل علمنا أن ثمة قوة ماسكة
الرابعة الدافعة إما للغذاء المهيأ للعضوي إليه وإما للفضل عنه ويجده كل أحد من نفسه عند التبرز كأن معدته وأمعاءه تنتزع ويدل عليه القيء من غير اختيار وما نراه في المعدة من الانتزاع عن موضعها وسائر الاستفراغات البحرانية وغيرها (2/540)
تنبيه إثبات تعدد القوى وتغايرها بناء على أصلهم من أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإلا جاز أن يستند الكل إلى قوة واحدة وقد ثبت ضعفه ثم شرطه عدم تعدد الآلات والقوابل وأنه غير معلوم وما يقال إنا نرى العضو قويا في إحداها وضعيفا في الأخرى فهما متغايران ضعيف لجواز أن يكون ذلك لضعف الآلة واختلاف فيها ثم من تأمل في عجائب الأفعال الحادثة في عالم الطبيعة البالغة من الإتقان أقصى الغاية وكان راجعا إلى فطنة وإنصاف باقيا على فطرة الله التي فطر الناس عليها لم يعم بصيرته التقليد ولم يكن أسيرا في مطمورة الوهم علم بالضرورة أنها لا يمكن أن تستند إلى قوى بسيطة عديمة الشعور سيما ما يحدث من الصور في الرحم وما يفاض من الصور والقوى على تلك المادة المتشابهة الأجزاء وما يراعى فيها من مصالح قد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها الأفهام قد بلغ المدون منها كما علم خمسة آلاف وما لا يعلم أكثر وعلم علما ضروريا لا يشوبه ريبة ولا يحتمل النقيض بوجه أنها لا تصدر إلا عن عليم خبير حكيم قدير كما نطق به الكتاب في عدة مواضع في معرض الاستدلال على أن في الاعتراف بالفاعل المختار لمندوحة عن كثير من هذه التمحلات التي يكذبها العقل الصريح ويأباها الذهن الصحيح ولا يقبلها طبع سليم ولا يذعن لها ذهن مستقيم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
تنبيهان
الأول قالوا وهذه الأربع تخدمها الكيفيات الأربع فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة ثم الجاذبة ثم الدافعة ثم الماسكة وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة ثم الجاذبة ثم الدافعة والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس بل إلى الرطوبة (2/541)
الثاني قد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء فالمعدة فيها جاذبة إليها ما يصلح لها وجاذبة لغذاء البدن من خارج
وبالجملة فقد تفعل تارة للإعداد وتارة للاغتذاء وكذا كثير من الأعضاء
الشرح
القسم الأول في النفس النباتية سلك في ذكر النفوس أولا وبيان قواها ثانيا طريقة الترقي من الأدنى إلى الأعلى فقدم النفوس النباتية وقواها تسمى طبيعية بناء على أن الطبيعة تطلق على ما يفعل بغير إرادة وهذه القوى تشترك فيها النباتات والحيوانات كلها وهي أربع مخدومة لأربع أخرى خادمة لها منها أي من الأربع المخدمة اثنتان يحتاج إليهما البقاء الشخصي وتكميله في ذاته وهي أي القوة المحتاج إليها لأجل الشخص الغاذية والنامية والقياس المنمية إلا أنه روعي المزاوجة فأسند الفعل إلى السبب فالغاذية التي لا بد منها في بقاء الشخص مدة حياته تشبه الغذاء بالمتغذي أي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي تغذوه بدلا لما يتحلل عنه فيتم فعلها بأمور ثلاثة
الأول تحصيل الخلط الذي هو بالقوة القريبة من الفعل شبيه بالعضو وقد يخل به عند عدم الغذاء في نفسه أو لضعف الجاذبة
الثاني الألزق وهو أن يلصق ذلك الحاصل بالعضو ويجعله جزءا منه بالفعل وقد يخل به كما في الاستسقاء اللحمي فإن الغذاء فيه منبري عن العضو ولذلك يصير البدن مترهلا أي مسترخيا
الثالث أن يجعله بعد الإلصاق شبيها به من كل جهة حتى في قوامه (2/542)
ولونه وقد يخل به كما في البرص والبهق وقد يثبت وقوفها أي وقوف الغاذية عن فعلها ضرورة الموت وحينئذ لفساد المزاج بأن القوى الجسمانية متناهية في آثارها كما تقدم وفي بعض النسخ وقد يثبت وقوفها بضرورة الموت وبأن القوى الجسمانية يعني أن ضرورة الموت تدل على وقوفها أيضا وإنما كان ضروريا لأن الرطوبة الغريزية تنتقص بعد بنفس الوقوف وذلك أن الحرارة الغريزية والحرارة الخارجة والحركات النفسانية والبدنية تتعاضد في تحليلها حتى تنحل بالكلية فتغلب اليبوسة والرطوبة الغريبة وتنطفئ الحرارة الغريزية كانطفاء المصباح عند انتفاء الدهن وغلبة الماء ويحل الموت والنامية التي لا بد منها في وصول الشخص إلى كماله تداخل الغذاء بين الأجزاء فتضمه إليها فتزيد في الأقطار الثلاثة بنسبة طبيعية أي تزيد في تلك الأقطار بنسبة تقتضيها طبيعة ذلك الشخص الذي له تلك القوة إلى غاية ما هي غاية النشو في ذلك الشخص ثم تقف عن فعلها لا كالورم فإنه ليس على النسبة الطبيعية بل خارج عن المجرى الطبيعي والسمن فإنه قد يكون بعد حال النشو أيضا كالورم وقد مر ما قيل من أن السمن لا يكون إلا في قطرين ومن أنه مخصوص باللحم وما في حكمه دون الأعضاء الأصلية كالعظم ونظائره وذلك أي بيان وقوف النامية أنه لما كان البدن متولدا من الدم والمني فهو في الأول رطب في الغاية فيتأتى حينئذ نفوذ الغذاء بين أجزائه بسهولة ثم يجف يسيرا يسيرا ويتعسر النفوذ قليلا ونفوذ الغذاء لا يكون إلا بتمدد الأعضاء فإذا جفت الأعضاء جفافا كاملا لم تقبل ذلك التمدد فلم يتصور نفوذ الغذاء فيها فوقفت النامية عن فعلها ضرورة وهل تبطل حينئذ بالكلية أو تبقى ذاتها فيه تردد والغاذية عدم النامية بتحصيل ما يتعلق به وهو ما زاد من الغذاء على بدل ما يتحلل فإذا ساواه الغذاء أو نقص عنه فات محل فعل النامية قالوا والغاذية في الأعضاء متخالفة الماهية فإن غاذية العظم تحيل الغذاء إلى ما يشبهه وكذا غاذية اللحم وسائر الأعضاء فلو اتحدت طبائعها لاتحدت افعالها ومنها أي من الأربع المخدومة اثنتان يحتاج إليهما لبقاء النوع فقط مع كون بقائه محتاجا إلى الأوليين أيضا بتوسط الشخص وهما المولدة والمصورة فالمولدة تفصل من (2/543)
الغذاء بعد الهضم الأخير ما يصلح أن يكون مادة للمثل أي لمثل ذلك الشخص الذي فصلت منه البذر وهي في كل البدن كما ذهب إليه أبقراط وأتباعه فإن المني عندهم يخرج من جميع الأعضاء فيخرج من العظم مثله ومن اللحم مثله وعلى هذا فالمني متخالف الحقيقة متشابه الامتزاج لأن الحس لا يميز بين تلك الأجزاء وعند أرسطو أن تلك القوة لا تفارق الأنثيين فيكون المني المتولد هناك متشابه الحقيقة وفي كليات القانون أن المولدة نوعان نوع يولد المني في الذكر والأنثى ونوع يفصل القوى التي في المني أي الكيفيات المزاجية لأن أجزاءه متخالفة الأمزجة فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فيخص للعصب مزاجا خاصا وكذا للعظم والشريان وغيرهما وذلك من مني متشابه الأجزاء أو متشابه الامتزاج ومصورة وهي توجد في المني عند كونه في الرحم خاصة تفيد تلك الأجزاء أي الأجزاء المتخالفة الحقيقة أو الاستعداد التي في المني الصور والقوى والأشكال والمقادير التي بها تصير مثلا بالفعل بعد ما كانت مثلا بالقوة وهاتان القوتان أعني المولدة والمصورة تخدمهما الغاذية وهو ظاهر والنامية أيضا وذلك بأن تعظم الأعضاء وتوسع مجاريها حتى تصير إلى الهيئة الصالحة للتوليد ولذلك لا يتكون المني إلا بعد عظم الأعضاء وهذه الأربع تخدمها أربع أخرى جعلها خادمة للأربع السابقة كلها لأنها تخدم الغاذية الخادمة للنامية مع كونهما خادمتين للباقيتين كما مر
الأولى الجاذبة وهي التي تجدب المحتاج إليه من الغذاء وتدل على وجودها وجوه خمسة (2/544)
الأول حركة الغذاء من الفم إلى المعدة ليست طبيعية وإلا لامتنع تحركه إلى جهة العلو بل كان يجب أن يتحرك إلى السفل وحده لكونه ثقيلا والتالي باطل إذ قد يزدرد أي يبتلع المنتكس الغذاء ابتلاعا تاما وحينئذ تكون حركته إلى علو ولا إرادية أما من الغذاء فإذ لا شعور له فلا يتصور منه إرادة وأما من المغتذي فإذ قد ينقلب الغذاء من الفم إلى المعدة عند شدة الحاجة إليه بلا إرادة من المغتذي بل قد يريد الإنسان منعه ليمضغه فيغلبه الغذاء وينجذب إلى داخل فوجب أن تكون قسرية فلا بد من قاسر وهو إما دفع من فوق بأن يقال الحيوان يدفعه باختياره وقد ظهر بطلانه وأما جذب من تحت وهو أن تجذبه المعدة بقوة جاذبة فيها وهو المطلوب
الوجه الثاني أنه متى تغذى الإنسان بغذاء ثم يتناول بعده شيئا حلوا واستعمل القيء وجد آخر ما يخرج بالقيء الحلو وليس ذلك إلا لجذب المعدة له أي للحلو إلى قعرها بواسطة محبتها إياه طبعا وإذا تناول الإنسان دواء مرا كريها فالمري والمعدة يرومان نفضه ولفظه ولا يزدردانه إلا بعسر فربما اندفع بالقيء بلا اختياره
الوجه الثالث قد تصعد المعدة لجذب الغذاء في بعض الحيوان القصير المري كالتمساح حتى تخرج عند الاغتذاء بحيث تلاقي فمه لكونه واسعا وما ذلك إلا لشوقها إلى اجتذاب الغذاء فدلت هذه الوجوه الثلاثة على أن في المعدة قوة جاذبة
الوجه الرابع الرحم بعد انقطاع الطمث عن قريب إذا خلا عن (2/545)
الفضول يشتد شوقه إلى المني حتى يحس كأنه يجذب الإحليل إلى داخله جذب المحجمة الدم إلى داخلها وقد سمى بعضهم الرحم حيوانا مشتاقا المني فثبت بهذا الوجه وجود الجاذبة في الرحم
الوجه الخامس الدم يكون في الكبد مخلوطا بالفضلات الثلاث أعني البلغم والصفراء والسوداء ثم تتمايز تلك الأمور المختلطة وينصب إلى كل عضو نوع من الرطوبة يليق به فلولا أن في كل عضو قوة جاذبة لتلك الرطوبة اللائقة به لامتنع ذلك التمايز وانصباب كل رطوبة إلى عضو على حدة دائما أو أكثريا وهذه حجة واضحة على وجود القوة الجاذبة في جملة الأعضاء
الثانية من الأربع الخادمة الهاضمة وهي تعد الغذاء إلى أن يصير جزءا بالفعل من العضو فهي غير الغاذية أعني صيرورتها أي أعني القوة التي تقتضي صيرورة الأغذية جزءا بالفعل من الأعضاء وفي كليات القانون وأما الهاضمة فهي التي تحيل ما جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام مهيئا لفعل القوة المغيرة فيه وإلى مزاج صالح للاستحالة إلى الغذائية بالفعل
قال الإمام الرازي هذا الكلام نص في أن القوة الهاضمة غير القوة الغاذية ويؤيده أنه جعل الغاذية مخدومة للقوى الأربع التي منها الهاضمة فلنتكلم في الفرق فنقول إذا جذبت جاذبة عضو شيئا من الدم وأمسكته ماسكته فللدم صورة نوعية وإذا صار شبيها بالعضو فقد بطلت عنه هذه الصورة وحدثت صورة أخرى عضوية فهناك كون للصورة العضوية وفساد للصورة الدموية وإنما يحصلان إذا كان هناك من الطبخ ما لأجله ينتقص استعداد المادة للصورة الدموية ويشتد استعدادها للصورة العضوية إلى أن تزول عنها الأولى وتحدث فيها الأخرى فههنا حالتان إحداهما سابقة وهي تزايد استعداد قبول الصورة العضوية والأخرى لاحقة وهي حصول هذه الصورة فالحالة الأولى فعل القوة الهاضمة والثانية فعل القوة الغاذية وهذا معنى قوله وهي أي الهضم الذي هو فعل الهاضمة استحالات ما واقعة بين تمام فعل الجاذبة وابتداء حصول فعل الغاذية التي هي كون ما أعني حصول الصورة العضوية (2/546)
ثم اعترض الإمام عليه أولا بما أشار إليه المصنف بقوله ويمكن أن يقال المحرك إلى مشابه العضو هو القوة الموصلة إليه وتقريره على ما في المباحث المشرقية أن القوة الهاضمة محركة للغذاء في الكيف إلى الصورة المشابهة لصورة العضو وكل ما حرك شيئا إلى شيء آخر فهو الموصل إلى ذلك الآخر فيكون الفاعل للفعلين قوة واحدة أما الصغرى فظاهرة إذ لا معنى للهضم إلا التحريك عن الصورة الغذائية إلى الصورة العضوية وأما الكبرى فظاهرة أيضا لأن ما حرك شيئا إلى شيء كان المتوجه إليه غاية للمحرك والمعنى بكونه غاية أن المقصود الأصلي هو فعل ذلك الشيء وقد اعترف ابن سينا بذلك حيث احتج على أن بين كل حركتين سكونا فقال محال أن يكون الواصل إلى حد ما واصلا إليه بلا علة موجودة موصولة ومحال أن تكون هذه العلة غير التي أزالت عن المستقر الأول هذا كلامه وهو يقتضي أنه لما كان المزيل عن الصورة الدموية هو الهاضمة وجب أن يكون الموصول إلى العضوية أيضا الهاضمة فهي الغاذية لا غير واعترض ثانيا بما ذكره المصنف بقوله كيف والمراد بالقوة هنا المعدة للمادة لفيضان الصورة عليها والمفيض لها وهو واهب الصور والقوة الهاضمة هي المفيدة بطبخها ونضجها للاستعدادات المختلفة بالقوة أي الشدة والضعف التي من جملتها ما يعد المادة لفيضان الصورة العضوية وتلك القوة المفيدة لهذه الاستعدادات مغنية عن قوى أخرى في الأعضاء لأنه إذا تم الإعداد وكمل الاستعداد فاضت الصورة وتمت التغذية فإذن لا فرق بين الهاضمة والغاذية ولذلك لم يذكر جالينوس في شيء من كتبه الغاذية سوى هذه الأربع التي سميناها الخوادم
وقال ابن سينا بل المسيحي على ما في المباحث الغاذية أربع وعد (2/547)
هذه الأربع منها والأظهر أن يقال وعد الهاضمة منها حيث قال في باب القوى والأفعال والأرواح من كتاب المائة الغاذية أربع الجاذبة والماسكة والهاضمة وهي التي تغير الغذاء وتجعله شبيها بالعضو المغتذي والرابعة الدافعة
واعلم أن الغذاء مركب من جوهرين أحدهما صالح لأن يشبه بالمغتذي والثاني غير صالح له وإن الهاضمة كما تعد الغذاء الصالح للجزئية على ما مر تعد الفضل الذي لا يصلح للتشبيه منه أي من الغذاء للدفع بترقيق الغليظ حتى يندفع وتغليظ الرقيق فإنه قد ينتشر به جرم العضو لرقته فلا تندفع تلك الأجزاء المتشربة فيه فإذا غلظ لم يتشربه العضو واندفع بالكلية وتقطيع اللزج فإنه يلتزق بالعضو فلا يندفع إلا إذا قطع والإعداد الصادر من الهاضمة إما بذاتها كما في الجوارح مثل البازي فإن حرارتها تذيب الغذاء الوارد عليها بلا احتياج إلى ماء وفي الحية فإنها ربما تأكل التراب وتجعله كيلوسا من غير استعانة بماء وفي الجمل فإنه يأكل أياما نباتا يابسا ولا يشرب ماء أو بمخالطة رطوبة مائية كما في الآدمي وأكثر الحيوانات ثم للهضم الذي هو فعل الهاضمة مراتب أربع
الأولى في المعدة بأن تجعل الغذاء كيلوسا وهو جوهر كماء الكشك الثخين في بياضه وقوامه وهذه المرتبة تبتدئ في الفم لاتصال سطحه بسطح المعدة حتى كأنهما سطح واحد على طريقة السطح الباطن من القرع الذي له عنق طويل ورأس مدور ولذلك تفعل الحنطة الممضوغة في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة منها ولا المدقوقة المخلوطة بالريق فدل ذلك على استحالة كيفيتها بالمضع
المتربة الثانية في الكبد فإن الغذاء بعد ما صار كيلوسا إذا اندفع (2/548)
كثيفه إلى الأمعاء للدفع انجذب لطيفه من المعدة ومنها أي ومن تلك الأمعاء التي اندفع إليها الكثيف مختلطا باللطيف إلى الكبد بطريق ماساريقا وهي عروق دقاق صلبة ضيقة تجاويفها واصلة بين الكبد وآخر المعدة وجميع الأمعاء كالمصفاة قالوا وإذا اندفع إلى ماساريقا صار إلى العرق المسمى باب الكبد وهو عرق كبير يتشعب كل واحد من طرفيه إلى شعب كثيرة دقيقة فشعب طرفه الخارجي يتصل فوهاتها بفوهات الماساريقا وشعب طرفه الآخر تتصغر وتتضاءل وتدق جدا في الانشعاب والانقسام وتنفذ في الكبد بحيث لا يخلو شيء من أجزائه عن شعب هذا العرق فإذا نفذ لطيف الكيلوس فيها صار كل الكبد ملاقيا لكله فينطبخ فيها أي في الكبد انطباخا تاما ويصير كيموسا وتتميز الأخلاط الأربعة المتولدة هناك بعضها عن بعض وذلك لأن الأجزاء اللطيفة النارية منه أي ما كان من أجزائه لطيفا فيه نارية أي حرارة ويبس تتجاوز نضجه وتميل إلى الاحتراق ولخفته يعلوها أي ولخفة ما يجاوز نضجه يعلو سائر الأجزاء الغذائية كالرغوة وهي الصفراء فيها حرافة لما مر من أن فاعل الحرافة الحرارة المفرطة وحاملها الجسم اللطيف قالوا والطبيعي من الصفراء رغوة الدم وسببه الفاعلي هو الحرارة المعتدلة وأما المحترق منها ففاعله الحرارة النارية في الغاذية والأجزاء الكثيفة الأرضية أي التي فيها برودة ويبس إما لطبعها وإما لشدة احتراقها وصيرورتها إلى طبيعة الرماد يرسب فيها أي في الأجزاء الغذائية كالعكر وهي السوداء وفيها حموضة قالوا والطبيعي من السوداء عكر الدم وطعمه بين الحلاوة والعفوصة وما ينصب منها إلى فم المعدة ليدغدغها وينبه على الجوع حامض أعفص وسببه الفاعلي حرارة معتدلة وأما المحترق فيها ففاعله حرارة مجاوزة عن الاعتدال والسبب المادي للسوداء هو الشديد (2/549)
الغليظ القليل الرطوبة من الأغذية وما يبقى بينهما أي بين الرغوة والعكر منه ما قد تم نضجه وهو الدم وهو حلو أي مائل إلى الحلاوة فيكون حلوا بالقياس إلى المرتين ومنه ما هو فج أي نيئ لم يطبخ انطباخا تاما بعد كأنه دم غير تام النضج وهو البلغم وفيه حلاوة ما لكونه دما غير نضيج وكلما كان البلغم أقرب إلى النضج كان أحلى لزيادة قربه حينئذ من الدم وكل واحد من هذه الأربعة إما طبيعي وإما غير طبيعي وذلك أعني كونه غير طبيعي إما لتغير مزاجه في نفسه عن الاعتدال الواجب له الذي به يصلح لأن يصير جزءا من الأعضاء وإما لمخالطة مخالط إياه من أخلاط أخر غير طبيعية أو رطوبة غريبة ترد عليه من خارج ولها أي للأخلاط الغير الطبيعية أسماء يعرفها الأطباء لسنا ههنا لبيانها فإن اشتبهت أن تعرف تفاصيلها فارجع إلى الكتب الطبية
المرتبة الثالثة في العروق فإن الأخلاط الأربعة بعد تولدها في الكبد تنصب إلى العرق الثابت من جانبه المحدب المسمى بالأجوف المقابل للعرق الثابت من مقعره المسمى بالباب ثم تندفع الأخلاط في العروق المتشعبة من الأجوف مختلطة بعضها بعض وفيها تنهضم الأخلاط انهضاما تاما فوق ما كان لها في الكبد وهناك يتميز ما يصلح غذاء لكل عضو عضو فيصير مستعدا لأن تجذبه جاذبة العضو
المرتبة الرابعة في الأعضاء فإن الغذاء إذا سلك في العروق الكبار إلى الجداول ثم منها إلى السواقي ثم إلى الرواضع ثم إلى العروق الليفية ترشح الغذاء من فوهاتها أي فوهات الليفية الشعرية على الأعضاء وحصل لها في الأعضاء كل عضو أي حصل غاذية كل عضو للأغذية المترشحة عليها التشبه به التصاقا وقد يخل به كفي الذبول ولونا وقد يخل به كفي البرص والبهق وفي القوام وقد يخل به كفي الاستسقاء (2/550)
اللحمي والصواب الموافق للمباحث المشرقية ما قدمناه من أن الإخلال في الاستسقاء اللحمي بالالتصاق وفي الذبول في تحصيل بدل ما يتحلل وفي البرص والبهق في التشبه من حيث القوام والماهية
تنبيهان
الأول أن لكل مرتبة من مراتب الهضم فضلا لا يصلح أن يصير جزءا من المغتذي فيحتاج إلى دفعة فللأولى التي في المعدة الثفل الذي يندفع من طريق الأمعاء وللثانية التي في الكبد البول وهو الأكثر والباقي المرتان السوداء والصفراء المندفعتان من الطحال والمرارة وللثالثة التي في العروق الرطوبة المائية المندفعة بالبول والأبخرة التي تصير عرقا وجعل البول فضلة للمرتبة الثالثة مخالف لما في المباحث المشرقية والمشهور فيما بين الأطباء وللرابعة المني ولذلك أي ولكونه فضلا للهضم الأخير المعد لصيرورة الغذاء جزءا من المغتذي بالفعل بل من أعضائه الأصلية المتكونة من المني يضعف استفراغ القليل منه ما لا يضعف مثله أي مثل ذلك الإضعاف استفراغ أضعافه من الدم أو سائر الأخلاط وذلك لأن استفراغه يورث وهنا في جواهر الأعضاء الأصلية المتولدة من المني دون غيره من الأخلاط
التنبيه الثاني الغذاء ما يقوم بدل ما يتحلل من الشيء بالاستحالة إلى نوعه ويقال لما هو غذاء بالفعل وبالقوة القريبة والبعيدة هذه العبارة توهم أن للغذاء معاني أربعة وعبارة الإمام الرازي في كتابيه هكذا الغذاء هو الذي يقوم بدل ما يتحلل عن الشيء بالاستحالة إلى نوعه وقد يقال له غذاء وهو يعد بالقوة غذاء كالحنطة ويقال له غذاء إذا لم يحتج إلى غير الالتصاق في الانعقاد ويقال له غذاء عندما صار جزءا من المغتذي تشبيها به بالفعل فقوله وقد يقال له تفصيل لما قبله بلا شبهة فلو كان بالفاء لكان أظهر ولم يشتبه على أحد أن معانيه ثلاثة والمشهور فيما بين (2/551)
الأطباء أن البسيط لا يصير غذاء للحيوان ولا برهان عليه بل فيه إشكال إذ لا شك أن النبات يجذب الماء إلى نفسه ويصير ذلك الماء جزءا منه فلم لا يجوز مثله في الحيوان
الثالثة من الأربع الخادمة الماسكة وهي القوة التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها فالأنسب أن يقدم ذكرها على الهاضمة كما فعله الإمام الرازي وابن سينا وكأنه إنما أخرها لأخذه الهاضمة في تفسيرها ويثبتها أي يثبت وجود الماسكة في المعدة احتواؤها على الغذاء من كل الجوانب وليس ذلك لامتلاء المعدة فإنها تحتوي وإن قل الغذاء بحيث ليس بينهما فضاء أصلا وإذا ضعفت المعدة لم يحصل ذلك الاحتواء المذكور فلا يحسن الهضم وإن كثر الغذاء مع ضعف المعدة حصلت القراقر والنفخ ببطء الاستمرار وبالترشيح نشاهده هذا موجود في بعض النسخ ومعناه ما ذكره الإمام في المباحث المشرقية من أنا إذا أعطينا حيوانا غذاء رطبا كالأشربة والإحساء الرقيقة وشرحنا في ذلك الوقت بطنه وجدنا معدته محتوية عليه من كل جانب قال ووجدنا البواب منطبقا بحيث لا يمكن أن يسيل منه شيء من ذلك الغذاء الرطب ولو أن حيوانا تناول عظما أعظم من سعة البواب فإنه يندفع فلما رأينا الرقيق الذي من شأنه النزول غير نازل والكثيف الذي ليس من شأنه النزول نازلا علمنا أن هناك قوة تمسك شيئا غير شيء ويثبتها في الرحم احتواؤها على الزرع الذي هو الولد وأطواره بحيث لا ينزل ولو شق الحيوان الحامل من أسفل السرة إلى الجانب الفرد وكشف عن الرحم برفق لوجد الرحم منضمة من جميع الجوانب منطبقة الفم بحيث لا يمكن أن يدخل فيه الميل فلو لم يكن في جواهر الرحم قوة تمسكه لما كان الأمر كذلك وأيضا جرم المني يقتضي بطبعه الحركة إلى الأسفل فلولا أن في الرحم قوة تمسكه لما وقف وكذلك يثبت بهذا الطريق القوة الماسكة في الأعضاء كلها فإنها تمسك الرطوبات التي هي أغذيتها
وبالجملة فما رأينا الرقيق والثقيل أي الجسم الجامع بين الرقة (2/552)
والثقل كالمشروبات والإحساء الرقيقة في المعدة على ما مر والمني في الرحم والأخلاط في الأعضاء الذي من شأنه النزول لا ينزل ورأينا خلافه أي الغليظ الخفيف الذي ليس من شأنه النزول كالعظم الكبير الحجم الخفيف الوزن على ما تقدم ينزل علمنا أن ثمة أي في كل واحد من المعدة والرحم والأعضاء قوة ماسكة
الرابعة من القوة الخادمة الدافعة إما للغذاء المهيأ للعضو إليه فتعين بدفعها جاذبة العضو في جذب الغذاء وإما للفضل عنه فإن الدم الوارد على الأعضاء مخلوط بالأخلاط الثلاثة فيأخذ كل عضو ما يلائمه ويدفع ما ينافيه ولولا دفعه إياه لم يخل شيء من الأعضاء عن الأخلاط التي تفسده وأيضا يجده ترك هذه الكناية أولى أي يجد كل أحد من نفسه عند التبرز إذا كان البراز معتقلا وكان في الأمعاء فضل لداغ كأن معدته وأمعاءه وسائر أحشائه تنتزع من موضعها وتتحرك إلى أسفل لدفع الفضل حتى أنه ربما انخلع المعاء المستقيم عن موضعه لقوة الحركة الدافعة بمنزلة ما يعرض له في الزحير ويدل عليه أيضا القيء من غير اختيار وما نراه حينئذ في المعدة من الانتزاع عن موضعها إلى فوق بحيث يتحرك معها عامة الأحشاء وكذا يدل عليه سائر الاستفراغات البحرانية وغيرها إذ لا بد لها من دافع يدفعها
تنبيه
إثبات تعدد القوى وتغايرها بالذوات على رأي الحكماء بناء أي مبني على أصلهم إلى من الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ولا جاز أن يستند الكل أي جمع الأفعال المذكورة إلى قوة واحدة بالذات وقد ثبت (2/553)
فيما مر ضعفه أي ضعف هذا الأصل وفساده فلا يصح ما بني عليه من تعدد القوى وتغايرها ثم إن سلمنا صحته قلنا شرطه عدم تعدد الآلات والقوابل إذ مع تعددها يجوز أن يصدر عن الواحد أشياء متكثرة اتفاقا وأنه أي عدم تعدد الآلة والقابل فيما نحن بصدده غير معلوم فجاز حينئذ أن لا يكون هناك إلا قوة واحدة تجذب الطعام بآلة وتمسكه بأخرى وتهضمه بثالثة وتدفع الفضل بآلة رابعة وتورد الغذاء تارة أكثر من المتحلل وتارة أنقص أو مساويا فلا تعدد في هذه القوى إلا بالاعتبار وما يقال في بيان تعدد القوى أنا نرى العضو قويا في إحديها أي إحدى القوى وضعيفا في الأخرى منها فهما أمران متغايران قطعا لامتناع اجتماع المتنافيين في ذات واحدة ضعيف لجواز أن يكون ذلك الاختلاف في العضو لضعف الآلة واختلاف فيها لا لضعف وقوة في ذات القوة ثم نقول في إبطال القوى لا سيما القوة المصورة كما زعموه أن من تأمل في عجائب الأفعال الحادثة في علم الطبيعة من النباتات المتخالفة الأنواع والحيوانات المتباينة الحقائق البالغة تلك الأفعال العجيبة من الإتقان والأحكام أقصى الغاية وكان ذلك التأمل راجعا إلى فطنة وإنصاف باقيا على فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها من الذكاء والميل إلى الصواب لم يعم بصيرته التقليد من أهل الأهواء ولم يكن أسيرا في مطمورة الوهم أي في سجنه بأن لا يغلب وهمه على عقله علم ذلك المتأمل بالضرورة أنها أي تلك الأفعال العجيبة البالغة تلك الدرجة العالية لا يمكن أن تستند إلى قوى بسيطة أو مركبة عديمة الشعور بما يفرض صادرا عنها سيما ما يحدث في الحيوانات من الصور والأشكال والتخطيطات المقدارية والأوضاع المتلائمة في الرحم وما يفاض فيه من الصور النوعية والقوى التابعة لها على تلك المادة المتشابهة الأجزاء على الرأي الأصوب وما يراعى (2/554)
فيها أي في تلك الأمور الحادثة والمفاضة من حكم ومصالح قد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها العقول والأفهام قد بلغ المدون منها أي من تلك الحكم والمصالح مما علم في الكتب التي دون فيها منافع أعضاء الحيوانات وأشكالها ومقاديرها وأوضاعها خمسة آلاف وما لا يعلم منها أكثر مما علم كما لا يخفى على ذي حدس كامل وعلم ذلك المتأمل أيضا علما ضروريا لا يشوبه ريبة ولا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه أنها أي تلك الأفعال المذكورة لا تصدر إلا عن عليم كامل علمه خبير ببواطن الأشياء وما يخفى منها حكيم يتقن أفعاله مطابقة للمنافع التي يتصور ترتبها عليها قدير على كل ما تعلقت به مشيئته بعد علمه المحيط كما نطق به الكتاب الكريم في عدة مواضع في معرض الاستدلال على عظمة الصانع وكماله منها قوله تعالى هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء
فدل إيراده في معرضه على أنه علم ضروري يستدل به على غيره هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على أن الاعتراف بالفاعل المختار وإسناد الأشياء إليه ابتداء كما مرت إليه الإشارة مرة بعد أخرى فائدة جليلة هي أن فيه لمندوحة عن كثير من أمثال هذه التمحلات التي يكذبها العقل الصريح ويأباها الذهن الصحيح ولا يقبلها طبع سليم ولا يذعن لها ذهن مستقيم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
منك المبدأ وإليك المآب
تنبيهان آخران على أمرين متفرعين على ثبوت القوى وتعددها (2/555)
الأول قالوا وهذه القوى الأربع الخادمة للأربع الأول تخدمها الكيفيات الأربع فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة لأن الهضم عبارة عن إحالة الغذاء في الكيف وهي لا تحصل إلا بتفريق الأجزاء الغليظة وجمع الأجزاء الرقيقة ولا يحصلان إلا بحركة مكانية ففعل الهاضمة حركتان كيفية وأينية وكل واحد من الجذب والدفع حركة واحدة أينية والإمساك وإن لم يكن في نفسه حركة بل هو منع عن الحركة إلا أنه لا يحصل إلا بتحريك الليف المورب إلى هيئة الاشتمال فلا بد فيه أيضا من الحركة الأينية وإذا ثبت أن أفعال هذه القوى لا تتم إلا بالحركة ولا شك أن البرودة مميتة مخدرة فلا ينفع بالذات شيئا من القوى بل هي محتاجة في أفعالها وحركاتها إلى الحرارة التي تعاونها فما كانت الحركة فيها أكثر كالهاضمة كانت حاجتها إلى الحرارة أشد ثم الجاذبة لأنها تحتاج إلى حركات في الأين كثيرة قوية قالوا والاجتذاب إما بفعل القوة كما في المغناطيس وإما باضطرار الخلاء كانجذاب الماء في الزراقات وإما بالحرارة كما في السراج وإن كان هذا الأخير راجعا في الحقيقة إلى ذلك الاضطرار فإذا كان مع الجاذبة معاونة حرارة كان الجذب أقوى ثم الدافعة لأن فعلها تحريك محض ثم الماسكة لما مر من أن فعلها لا يحصل إلا بتحريك الليف لكن لما كانت مدة تسكين الماسكة للغذاء أكثر من مدة تحريكها لليف كان احتياجها أقل وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة لأن فعلها بالذات هو الإمساك والتسكين واليبوسة نافعة في ذلك جدا ثم الجاذبة لأن حاجتها إلى التحريك أمس من حاجتها إلى تسكين أجزاء آلتها (2/556)
وتقبيضها باليبوسة لتتمكن من التحريك ثم الدافعة وذلك لأن فعلها أيضا التحريك واليبوسة تفيد زيادة تمكن للروح وآلتها من الاعتماد الذي لا بد منه في الحركة ولو كان في جوهر الروح أو الآلة استرخاء بسبب الرطوبة لتعسر الحركة وحيث كانت الحركة في الجاذبة أقوى كانت حاجتها إلى اليبوسة أشد والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس بل إلى الرطوبة المعينة إياه في التفريق والجمع والطبخ والإنضاج والبرودة مع كونها منافية بالذات لأفعال هذه تخدم بالعرض الماسكة بإعانتها على حبس الليف المورب على هيئة الاشتمال الصالح للإمساك وتخدم كذلك الدافعة بأنها تمنع تحليل الريح المعينة على الدفع وأيضا تغلظها وكلما كانت الريح أغلظ كانت أعون وأيضا تجمع الليف العاصر وتكثفه فتكون أقوى في الدفع فظهر مما ذكر أن الحرارة تخدم جميع هذه القوى والبرودة لا تخدم إلا الماسكة والدافعة وأن اليبوسة تخدم ما سوى الهاضمة والرطوبة تخدمها فقط
التنبيه الثاني قد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء فالمعدة فيها جاذبة إليها ما يصلح لها وجاذبة أيضا لغذاء البدن من خارج وبالجملة فقد تفعل المعدة تارة للإعداد وتهيئة الغذاء لسائر الأعضاء وتارة للاغتذاء وكذا كثير من الأعضاء كالكبد وسائر أدوات الغذاء
وفي المباحث المشرقية قال بعض الحكماء إن هذه القوى الأربع توجد في المعدة مضاعفة أحدهما التي تجذب غذاء البدن من خارج إلى تجويف المعدة والتي تمسكه هناك والتي تغيره إلى ما يصلح أن يكون دما والتي تدفعه إلى الكبد والثانية التي تجذب إلى المعدة غذاءها على الخصوص وتمسكه هناك وتغيره إلى جوهرها وتدفع الفضلات عنها وكذا الحال في الكبد لأن التغيير إلى الدم غير التغيير إلى جوهر الكبد كما أن (2/557)
التغيير إلى العصارة غير التغيير إلى جوهر المعدة وهذه الثانية موجودة بأجزائها الأربعة في جميع أعضاء البدن على اختلاف جواهرها وأما في المعدة والكبد فيوجد معها أيضا الأولى بأجزائها الأربعة
ثم قال الإمام الرازي إن كان هذا حقا وجب أن يحكم به في الفم اللسان والمري والأمعاء والعروق المسماة بماساريقا وبالجملة في جميع أعضاء الغذاء (2/558)
القسم الثاني في النفس الحيوانية
وتسمى قواها نفسانية وهي إما مدركة وإما محركة والمدركة إما ظاهرة وإما باطنة
النوع الأول
القوى المدركة الظاهرة وهي المشاعر الخمس المشعر الأول البصر وللحكماء فيه قولان
القول الأول وهو مذهب أرسطو أنه إنما يحصل بانعكاس صورة المرئي بتوسط الهواء المشف إلى الرطوبة الجليدية وانطباعها في جزء منها وذلك الجزء زاوية مخروط قاعدته سطح المرئي ولذلك يرى القريب أعظم لأن الوتر الواحد كلما قرب كان أقصر ساقا فأوتر زاوية أعظم وكلما بعد كان أطول ساقا فأوتر زاوية أصغر والنفس إنما تدرك الصغر والكبر باعتبار تلك الزاوية ومن نظر إلى الشمس نظرا طويلا ثم أعرض عنها فإنها تبقى صورتها في العين مدة ما وله أسوة بسائر الحواس إذ ليس إدراكها بأن يخرج منها شيء ويتصل بالمحسوس بل لأن المحسوس يأتيها ويمكن أن يقال (2/559)
على الأول لعله لسبب آخر وعلى الثاني أن الصورة إنما تبقى في الخيال وعلى الثالث أنه تمثيل بلا جامع احتج النفاة بوجوه والعمدة ما ذكره جالينوس وهو أن الجسم لا ينطبع فيه من الأشكال إلا ما يساويه فوجب ألا يبصر إلا قدر نقطة الناظر منا لكنا نبصر نصف كرة العالم
والجواب أنه لا يمتنع حصول شبح الكبير في الصغير إنما المحال حصول ذلك الشكل بعينه والحاصل أن هذا إنما يرد على من يرى أن المبصر نفس الشبح وأما من يزعم أن حصول الشبح شرط للإبصار فلا يرد عليه ذلك وهذا هو الحق
القول الثاني أنه يخرج من العين جسم شعاعي على هيئة مخروط رأسه يلي العين وقاعدته تلي المبصر والإدراك التام إنما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط ويبطله أنه إذا كان ريح أو اضطراب في الهواء وجب أن تتشوش تلك الشعاعات وتتصل بالأشياء الغير المقابلة للوجه فوجب أن يرى الإنسان ما لا يقابله لاتصال شعاعه به كما أنه لما كان الصوت عبارة عن الكيفية التي يحملها الهواء المتموج لا جرم أنه يضطرب عند هبوب الرياح ويميل من جهة إلى جهة وأيضا فنعلم ضرورة أن النور الذي يخرج من عين العصفور يستحيل أن يؤثر فيما بينه وبين الكواكب الثابتة بل نقول ذلك العصفور أو الإنسان أو الفيل إن كان كله نورا لما امتد ولا أحال من الهواء عشرة فراسخ وإن لم يكن هذا جليا في العقل فلا جلي عنده
تنبيه سواء قلنا الأول الإبصار بالانطباع أو بخروج الشعاع فإنه ينفذ في الجسم الشفاف مستقيما وينفذ في الشفاف الذي شفيفه مخالف لشفيف الهواء كالماء والبخار منعطفا بزاوية أصغر من زاوية الرؤيا بكثير ومن تصور أنها مثل زاوية الرؤية فقد أخطأ وموضع بيانه غير هذا الموضع (2/560)
ولهذا لوازم من رؤية الشجر على الشط منتكسا والعنبة في الماء كالإجاصة ونحوهما لسنا الآن بصدد بيانها فإنه خروج عن الصناعة
المشعر الثاني السمع وإنما يحصل بوصول الهواء المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ لقوة حاصلة في العصبة المفروشة في مؤخره التي فيها هواء محتقن كالطبل فإذا انحرفت تلك العصبة أو بطل حسها بطل السمع
المشعر الثالث الشم وهو قوة مستودعة في زائدتين في مقدم الدماغ كحلمتي الثدي وزعم بعضهم أن الرائحة تتأدى إليه بتحلل أجزاء من الجسم ذي الرائحة وتبخره ومخالطته للمتوسط وزعم آخرون أن الهواء يتكيف بتلك الكيفية من غير أن يخالطه شيء من أجزاء ذي الرائحة وهذا هو الحق لأن المسك يعطر مواضع كثيرة ويدوم ذلك مدة بقائه ولا يقل وزنه ولو كان ذلك يتحلل منه لامتنع ذلك احتج الأولون بوجهين
الأول إن الحرارة تهيج الروائح والبرد يكثفها قلنا بل تعدها لقبول الرائحة لتأثيرها في الهواء أو في الآلة
الثاني التفاحة تذبل من كثرة الشم قلنا بل من وصول النفس إليها وكثرة اللمس وأما مجرد الرائحة فلا وإلا لم يتفاوت الشم وعدمه
المشعر الرابع الذوق وهو قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان وإنما تدرك بواسطة الرطوبة العذبة المخالطة للمذوق فإذا كانت الرطوبة عديمة الطعم أدت الطعوم بصحة وإن خالطها طعم لم تؤدها بصحة كما للمرضى ولذلك كان الممرور يجد الماء والسكر مرا ومن ثمة قال بعضهم الطعوم لا وجود لها في ذي طعم وإنما توجد في القوة الذائقة وكذلك سائر الكيفيات فالحرارة إنما يعلم وجودها بالحس عند مماسة النار (2/561)
وأما وجودها في النار فوهم مستفاد من أنها لا تعمل إلا بالتشبيه ولو لم تكن النار حارة لما سخنت وهو يضمحل بالتأمل في تسخين الحركة مع عدم حرارتها
والجواب أنه إنكار للمحسوسات وسفسطة لا تستحق الجواب
المشعر الخامس اللمس وهو قوة مبثوثة في العصب المخالط لأكثر البدن سيما الجلد ومن الأعضاء ما ليس فيه قوة لامسة كالكلية فإنها ممر الفضلات الحادة فاقتضت الحكمة أن لا يكون لها حس لئلا تتأذى بمرورها عليها وكذلك العظم لأنه أساس البدن وعليه أثقاله
تنبيهان
الأول منهم من قال إن القوة اللامسة أربع الحاكمة بين الحار والبارد وبين الرطب واليابس وبين الصلب واللين وبين الأملس والخشن ومنهم من أثبت خامسة تحكم بين الثقيل والخفيف ولا يبعد كون الآلة واحدة كما أن الرطوبة الجليدية فيها قوة باصرة ولامسة وكله بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وليت شعري لم لا يجعلون الذائقة أيضا متعددة لتعدد المذوقات
الثاني قوة الذوق مشروطة باللمس ولا شك أنها غيرها إذ لا يكفي فيها اللمس بل يضاده لأن الذوق خلق للشعور بما يلائم ليجتلب واللمس خلق للشعور بما لا يلائم ليجتنب وههنا أبحاث نختم بها هذا النوع
أحدهما أن الحواس الظاهرة مختلفة بالقوة والضعف وتفاوتها بحسب القوة الممانعة وضعفها وذلك لغلظ الآلة ورقتها وأضعفها البصر إذ آلتها (2/562)
النور وهو ألطف ثم السمع وآلتها الهواء ثم الشم وآلتها البخار ثم الذوق وآلتها الماء ثم اللمس وآلتها الأعضاء الصلبة الأرضية
ثانيها ههنا محسوسات مشتركة كالمقادير والأعداد والأوضاع والحركة والسكون والقرب والبعد والمماسة فلو وجب لكل نوع محسوس قوة لوجب إثبات قوى أخرى وقد يجاب عنه بأنها محسوسة بالعرض لا بالذات فإنها إنما تحس بواسطة اللون والضوء والحرارة والبرودة ونحوها وقد يستعان فيه بالعقل ولذلك قد لا يدرك في بعض الأوقات كراكب السفينة يراها ساكنة والشط متحركا وقد يقال المحسوس بالعرض لما لا يحس به أصلا لكن يقارن المحسوس بالحقيقة كإبصارنا أبا عمرو فإن المحسوس ذلك الشخص وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا
الشرح
القسم الثاني في النفس الحيوانية وتسمى قواها التي لا توجد في النبات نفسانية وهي إما مدركة وإما محركة لأن امتياز الحيوان عن مشاركاته في القوة الطبيعية بهاتين القوتين والمدركة إما ظاهرة وإما باطنة فهذه أنواع ثلاثة
النوع الأول القوى المدركة الظاهرة قدم المدركة على المحركة لأن تحريكها إنما هو بالإرادة المتوقفة على الإدراك وقدم الظاهرة على الباطنة لظهورها وهي المشاعر أي الحواس الخمس
المشعر الأول البصر وللحكماء فيه أي في الإبصار قولان بل أقوال ثلاثة مشهورة إلا أن الثالث قريب من الثاني فذكره المصنف في قرنه وعدهما قولا واحد (2/563)
الأول وهو مذهب أرسطو وأتباعه من الطبيعيين أنه إنما يحصل الإبصار بانعكاس صورة المرئي بتوسط الهواء المشف الذي لا لون له فلا يستر ما وراءه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها أي من تلك الجليدية وذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة زاوية رأس مخروط متوهم لا وجود له أصلا قاعدته سطح المرئي ورأسه عند الباصرة ولذلك أي ولأن الإبصار بالانطباع على الوجه المذكور دون خروج الشعاع يرى القريب أعظم من البعيد مع تساويهما في المقدار بحسب نفس الأمر بل مع اتحاد المرئي في حالتي القرب والبعد وذلك لأن الوتر الواحد الذي هو امتداد سطح المرئي كلما قرب من النقطة التي خرج منها إليه خطان مستقيمان محيطان بزاوية كان أقصر ساقا فأوتر عند تلك النقطة زاوية أعظم وكلما بعد عنها كان أطول ساقا فأوتر عندها زاوية أصغر كما تشهد به الفطرة السليمة والنفس إنما تدرك الصغر والكبر في المرئي باعتبار تلك الزاوية فإنها إذا كانت صغيرة كان الجزء الواقع من الجليدية فيها صغيرا فترتسم صورة المرئي فيه فيرى صغيرا وإذا كانت كبيرة كان الجزء الواقع فيها كبيرا فترتسم صورته فيه فيرى كبيرا ومن المعلوم أن هذا إنما يستقيم إذا جعلت الزاوية موضعا للإبصار كما ذهبنا إليه وأما إذا جعل موضع الإبصار قاعدة المخروط كما يقتضيه القول بخروج الشعاع فيجب أن يرى الجسم كما هو سواء خرجت الخطوط الشعاعية من زاوية ضيقة أو غير ضيقة هكذا قالوا وفيه بحث لأن الإبصار ليس حاصلا بمجرد القاعدة بل لرأس المخروط فيه مدخل أيضا فجاز أن يتفاوت حال المرئي صغرا وكبرا بتفاوت رأسه دقة (2/564)
وغلظا ألا ترى أن الإبصار إن كان بالانطباع كما زعموه كان الظاهر أن لا يتفاوت حال المرئي في الصغر والكبر بالقرب والبعد لكن لما كان الانطباع على ما صوروه من توهم المخروط جاز أن يظهر التفاوت فيه بحسبهما ويدل على صحة القول الأول أن من نظر إلى الشمس بتحديق وإمعان نظرا طويلا ثم أعرض عنها وغمض عينيه فإنها تبقى صورتها في العين مدة ما حتى كأنه بعد التغميض ينظر إليها وكذا من نظر إلى الروضة المخضرة جدا ساعة طويلة نظرا بتدقيق فإن عينيه يتكيفان بتلك الخضرة حتى إذا نظر إلى لون آخر لا يبصره خالصا بل مخلوطا بالخضرة أو غمض عينيه فإنه يجده كأنه ناظر إليها فلولا أن الإبصار بانطباع صورة المرئي لما كان الأمر كذلك ومما يدل على صحته أيضا أن يقال له أي للبصر في إدراكه أسوة بسائر الحواس الظاهرة إذ ليس إدراكها لمدركاتها بأن يخرج منها شيء ويتصل ذلك الشيء بالمحسوس بل إدراكها إياها إنما هو لأن المحسوس يأتيها فوجب أن لا يكون الإحساس بالبصر لخروج شيء منه إلى المبصر بل لأن صورته تأتيه فدل ذلك على صحة الانطباع وفساد الشعاع ويمكن أن يقال على الدليل الأول لعله أي لعل ما ذكرتموه من تفاوت المرئي الواحد في الكبر والصغر بالقرب والبعد لسبب آخر لا لانطباعه في جزء أكبر أو أصغر فإن عدم العلم به لا يوجب عدمه وأن يقال على الثاني أن الصورة أي صورة الشمس أو الروضة إنما تبقى في الخيال دون الجليدية ألا ترى أنه لا يتفاوت الحال بالتغميض والإبصار في هذه الحالة قطعا وأن يقال على الثالث أنه تمثيل وقياس للبصر على الحواس الأخر بلا جامع معتبر إذ من الجائز أن يكون إدراك هذه الحاسة بخروج شيء منها إلى مدركها دون باقي الحواس الظاهرة احتج النفاة للانطباع بوجوه (2/565)
والعمدة في الاحتجاج عليه ما ذكره جالينوس وهو أن الجسم لا ينطبع فيه من الأشكال إلا ما يساويه في المقدار فوجب على تقدير كون الإبصار نفس الانطباع أو مشروطا به أن لا يبصر من الأشياء إلا قدر نقطة الناظر منها وهو السواد الأصغر الذي فيه إنسان العين لكنا نبصر نصف كرة العالم
والجواب إنه لا يمتنع حصول شبح الكبير في الصغير إنما المحال حصول ذلك الشكل الكبير بعينه في الصغير والحاصل مما ذكرناه في الجواب أن هذا الذي أورده جالينوس إنما يرد على من يرى ويعتقد أن المبصر نفس الشبح المنطبع في الجليدية كما توهمه المتأخرون من كلام المعلم الأول وحكوه عنه وأما من يزعم أن حصول الشبح شرط للإبصار وأن المبصر هو ذلك الأمر الخارجي فلا يرد عليه ذلك الذي أورده فإن شبح الشيء قد لا يساويه في المقدار وإن كان موجبا لإبصاره على ما هو عليه وهذا الأخير هو الحق على القول بالانطباع وفي الملخص أن المتأخرين لم يفهموا كلامه فحكوه على ما لا ينبغي فتارة قالوا إن هذه الصورة نفس الإبصار وأخرى قالوا إنها الإبصار والمبصر معا وأما الموجود الخارجي فغير المرئي أصلا ثم إنهم تعصبوا بهذه الخرافات وعرضوا معلمهم لطعن الطاعنين فهم كالرواة السوء للشاعر الجيد
القول الثاني إنه يخرج من العين جسم شعاعي على هيئة مخروط متحقق رأسه يلي العين وقاعدته تلي المبصر والإدراك التام إنما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط وهو مذهب جمهور الرياضيين ثم إنهم اختلفوا فيه على وجوه ثلاثة (2/566)
الأول أن ذلك المخروط مصمت
الثاني أنه ملتئم من خطوط مستقيمة شعاعية هي أجسام دقاق قد اجتمع أطرافها عند مركز البصر وامتدت متفرقة إلى المبصر فما وقع عليه أطراف تلك الخطوط أدركه البصر وما وقع بين أطرافها لم يدركه ولذلك يخفى على البصر الأجزاء التي في غاية الصغر
الثالث أنه يخرج من العين جسم شعاعي رفيع كأنه خط واحد مستقيم ينتهي إلى المبصر ثم يتحرك على سطحه حركة سريعة جدا في طول المرئي وعرضه فيحصل الإدراك به واحتجوا على مذهبهم بأن الإنسان إذا رأى وجهه في المرآة فليس ذلك لانطباع صورته فيها وإلا كانت منطبعة في موضع معين منها ولم تختلف باختلاف أمكنة الرائي من الجوانب بل لأن الشعاع خرج من العين إلى المرآة ثم انعكس منها لصقالتها إلى الوجه ألا يرى أنه أذا قرب الوجه منها تخيل أن صورته مرتسمة في سطحها وإذا بعد عنها توهم أنها غائرة فيها مع علمنا بأن المرآة ليس لها غور بذلك المقدار وههنا مذهب ثالث هو أنه ليس يخرج من العين شعاع لكن الهواء الذي بينها وبين المرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي فيها ويصير ذلك آلة في الإبصار ولما كان هذا أيضا مبنيا على الشعاع كان في حكم المذهب الثاني كما مر ويبطله أي المذهب أنه إذا كان هناك ريح عاصفة أو اضطراب في الهواء وجب أن تتشوش تلك الشعاعات الخارجة من العين وتتصل بالأشياء غير المقابلة للوجه فوجب أن يرى الإنسان ما لا يقابله لاتصال شعاعه به كما أنه لما كان الصوت عبارة عن الكيفية التي يحملها الهواء المتموج لا جرم أنه يضطرب عند هبوب الرياح ويميل من جهة إلى جهة وأشار إلى إبطاله وإبطال المذهب الثالث معا بقوله وأيضا (2/567)
فنعلم ضرورة أن النور الذي يخرج من عين العصفور يستحيل أن يؤثر فيما بينه وبين الكواكب الثابتة أي يستحيل أن يقوي ذلك النور على خرق الهواء والأفلاك بحيث يصل إلى الثوابت ويتصل بنصف كرة العالم ويستحيل أيضا أن يقوى نور عينه على إحالة ما بينهما إلى كيفيته بل نقول ذلك العصفور أو الإنسان أو الفيل إن كان كله نورا لما امتد ولا أحال إلى كيفيته من الهواء عشرة فراسخ وإن لم يكن هذا جليا في العقل فلا جلى عنده وإذا كان الأمر كذلك لم يتصور امتداده إلى الثوابت ولا إحالة الشعاع الذي في العين ما بينهما إلى جوهره فبطل القول بالشعاع وتوسطه في الإبصار مطلقا
قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية حاصل الكلام في هذا المقام أن نقول إنا نعلم علما ضروريا بأن العين على صغرها لا يمكن أن تحيل نصف كرة العالم إلى كيفيتها ولا أن يخرج منها ما يتصل بنصف كرته ولا أن يدخل فيها صورة نصفه فالمذاهب الثلاثة ظاهرة الفساد بتأمل قليل في هذا الذي ذكرناه وإني لأتعجب من اشتهارها فيما بين الناس وإقبالهم على قبولها قال ومن المحتمل أن يقال الإبصار شعور مخصوص وذلك الشعور حالة إضافية فمتى كانت الحاسة سليمة وسائر الشرائط حاصلة والموانع مرتفعة حصلت للمبصر هذه الإضافة من غير أن يخرج من عينه جسم أو ينطبع فيها صورة فليس يلزم من إبطال الشعاع أو الانطباع صحة الآخر إذ ليسا على طرفي النقيض
تنبيه سواء قلنا الإبصار بالانطباع أو بخروج الشعاع فإنه ينفذ في الجسم الشفاف المتوسط فيما بين الرائي والمرئي كالهواء مستقيما وينفذ (2/568)
في الشفاف الذي شفيفه مخالف لشفيف الهواء كالماء والبخار منعطفا هذا إنما يظهر على القول بخروج الشعاع فإن الخطوط الشعاعية التي على سطح المخروط كما مرت إليه إشارة في صدر الكتاب تنفذ إلى المرئي على الاستقامة إلى طرفيه إذا كان الشفاف المتوسط متشابه الغلظ والرقة فإن فرض هناك تفاوت بأن يكون ما يلي الرائي هواء وما يلي المرئي ماء مثلا فإن تلك الخطوط إذا وصلت إلى ذلك الماء انعطفت ومالت إلى سهم المخروط ثم وصلت إلى طرفي المرئي فتكون زاوية رأس المخروط ههنا أكبر منها في الصورة الأولى فلذلك يرى المرئي أعظم ولو انعكس الفرض مالت الخطوط إلى خلاف جانب السهم فترى أصغر وأما على القول بالانطباع فليس هناك مخروط ولا خطوط مستقيمة نافذة في الشفاف على الاستقامة أو الانعطاف إلا على سبيل التوهم المحض والتخيل الصرف فيختلف حال زاوية رأس المخروط والجزء الواقع فيها من الجليدية فيفاوت أيضا المرئي الواحد صغرا وكبرا ثم إن الانعطاف إلى جهة السهم أو خلافها إنما يكون بزاوية أصغر من زاوية الرؤية بكثير ومن تصور أنها مثل زاوية الرؤية فقد أخطأ وموضع بيانه غير هذا الموضع وقد بينه بعض من عاصره المصنف من محققي صناعة المناظر أنه ينعكس الشعاع البصري وغيره من السطح الصقيل كالمرآة والماء إلى ما يقابله بزاوية مساوية لزاوية الرؤية يعني زاوية الشعاع وليكن لتصوير انعكاس الحدقة وح ك سطح الماء وح ب هو المرئي من سطحه و ه مقابل المرئي بحيث يكون وضعه منه كوضعه من الحدقة ف أ ب هو الخط الشعاعي النافذ إلى المرئي وه ب الشعاع المنعكس وزاوية أ ب ج زاوية الشعاع على سطح المرئي من جانب ح وزاوية ه ب ك زاوية الانعكاس عليه وهي مساوية للزاوية الأولى ولما تساويا وجب ان يتساوى أيضا زاويتا أ ب ك ه ب ح وأما زاوية أ ب ه فهي الواقعة بين خطي الشعاع النافذ والمنعكس وقد تنتفي هذه الزاوية كما إذا كان الخط النافذ قائما على سطح المرئي فينطبق عليه الخط المنعكس وأما (2/569)
تصوير الانعطاف فهو أن تفرض ه الحدقة وأ ب المرئي فإذا كان الشفاف المتوسط على قوام واحد فالواصل إلى طرفي المرئي الخطان الأحمران المستقيمان وإذا كان مختلفا بحيث يكون ما يلي المبصر أغلظ فالواصل إليهما الخطان الأسودان المنعطفان عن الاستقامة إلى سهم المخروط وزاوية الانعطاف هي الزاوية المتوهمة من الخط المنعطف مفروضا على الاستقامة والانعطاف كزاوية ح ك أ ولهذا الذي ذكرناه من الانعطاف والانعكاس على زاوية مساوية لزاوية الشعاع لوازم كثيرة من رؤية الشجر على الشط منتكسا ورؤية العنبة في الماء كالإجاصة ونحوهما لسنا الآن بصدد بيانها فإنه خروج عن الصناعة الكلامية بالكلية أما رؤية العنبة كذلك فمن لوازم الانعطاف لأن زاوية الخطين الأسودين عند الحدقة أكبر من زاوية الأحمرين كما مر ذلك في المرصد الرابع من من الموقف الأول وأما رؤية الشجر منتكسا فمن لوازم تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ولنشر إليه ههنا إشارة خفية وهي أن نفرض خط أ ب عرض النهر وخط ح ب الشجر القائم على شطه و ه الحدقة ونفرض على أ ب نقطتي ك و وعلى ح ب نقطتي ح ط فإذا خرج من ه خط شعاعي إلى و وآخر إلى ك وجب أن ينعكس الأول إلى نقطة ط مثلا فتكون الزاوية الشعاعية أعني زاوية ه و أ كالزاوية الانعكاسية أعني زاوية ط و ب وأن ينعكس الآخر إلى نقطة ح فيتساوى أيضا شعاعية ه و م وانعكاسية ح ك ب حتى تكون الخطوط المنعكسة من سطح الماء إلى الشجر كأوتار الآلة الحدباء المسماة بجنك على ما مر في ذلك المرصد فيكون المنعكس إلى رأس الشجر أطول من المنعكس إلى ما تحته ولا شعور للنفس بالانعكاس لاعتيادها الرؤية بخروج الأشعة على الاستقامة فيكون رأس الشجر عندها أدخل في عمق الماء وهكذا إلى أسفله فتراه منتكسا رأسه أبعد من سطح الماء غائر فيه جدا ولا (2/570)
يجوز أن ينعكس الخط من ك إلى ط ومن و إلى ح وإلا كانت شعاعية ه و أ كانعكاسية ط و ب وهذه الانعكاسية أصغر من زاوية ح و ب الخارجة عن مثلث د ك و فشعاعية ه و أ أصغر أيضا من هذه الخارجة ثم نقول زاوية ه ك أ أكبر للعلة المذكورة من زاوية ه و أ المساوية لزاوية ح ب و فتكون أكبر منها أيضا فيلزم أن يكون كل من زاويتي ه ك أ ح و ب أكبر من الأخرى هذا خلف وأما أنه لا يجوز أن ينكس من نقطة واحدة ك ك مثلا خطان إلى نقطتين من الشجر كنقطتي ح ط فلاستلزامه مساواة الكل والجزء لشيء واحد كما لا يخفى
المشعر الثاني السمع أي القوة السامعة وإنما يحصل الإدراك السمعي كما سلف بوصول الهواء المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ لقوة حاصلة في العصبة المفروشة في مؤخره التي فيها هواء محتقن كالطبل فإذا وصل الهواء الحامل للصوت إلى تلك العصبة وقرعها أدركته القوة المودعة فيها فإذا انحرفت تلك العصبة أو بطل حسها بطل السمع
المشعر الثالث الشم وهو قوة مستودعة في زائدتين في مقدم الدماغ كحلمتي الثدي وزعم بعضهم أن الرائحة تتأدى إليه أي إلى هذا المشعر بتحلل أجزاء من الجسم ذي الرائحة وتبخره ومخالطته للمتوسط من الهواء بين القوة الشامة وذلك الجسم وزعم آخرون أن الهواء المتوسط يتكيف بتلك الكيفية الأقرب فالأقرب إلى أن يصل إلى ما يجاور محل هذه القوة فيدركها من غير أن يخالطه شيء من أجزاء ذي الرائحة وأيد ذلك بأن ذا الرائحة كلما كان أبعد كانت الرائحة المدركة أضعف لأن كل جزء من الهواء إنما ينفعل بالرائحة من مجاوره ولا شك أن كيفية المتأثر (2/571)
أضعف من كيفية المؤثر وهذا هو الحق لأن المسك القليل يعطر مواضع كثيرة ويدوم ذلك مدة بقائه ولا يقل وزنه مما كان ولو كان ذلك يتحلل منه لامتنع ذلك وأنت تعلم أن هذا إنما يبطل انحصار الشم في الوجه الأول ولا ينافي حصوله على كل واحد من الوجهين تارة معا وتارة بدلا عن الآخر كما ذكره بعض المحققين احتج الأولون بوجهين
الأول إن الحرارة تهيج الروائح وتثيرها وكذلك كل من الدلك والتبخير يذكيها وينشرها والبرد يكثفها ويخفيها فدل ذلك على أن الشم بالتحلل قلنا لا نسلم ما ذكرتم بل الحرارة وأخواتها تعدها أي تعد الشامة والأهوية المتوسطة بينها وبين ذي الرائحة لقبول الرائحة إدراكا واتصافا وذلك إما لتأثيرها في الهواء وإعدادها إياه للاتصاف بالرائحة أو تأثيرها في الآلة وإعدادها للشم
الثاني التفاحة تذبل من كثرة الشم فلولا أنه يتحلل شيء منها لم يكن كذلك
قلنا ليس ذبولها من كثرته بل من وصول النفس إليها وكثرة اللمس فإنهما يحللانها وأما مجرد انتشار الرائحة منها فلا يحللها وإلا لم يتفاوت مع الانتشار الشم وعدمه وهو باطل قطعا
المشعر الرابع الذوق وهو قوة منبثة أي منتشرة من بثه إذا نشره في العصب المغروس على جرم اللسان وإنما تدرك هذه القوة الطعوم بواسطة الرطوبة المنبعثة عن الآلة المسماة بالملعبة العذبة أي الخالية في نفسها عن الطعوم كلها المخالطة للمذوق فيحتمل أن يكون توسطها بأن ينتشر فيها أجزاء من ذي الطعم ثم يغوص في اللسان فتدرك الذائقة طعمها فلا فائدة حينئذ في تلك الرطوبة إلا تسهيل وصول المحسوس الحامل للطعوم (2/572)
إلى القوة الحاسة ويكون الإحساس بملامسة المحسوس من غير واسطة وأن يكون توسطها بأن تتكيف تلك الرطوبة بالطعوم من غير مخالطة فالمحسوس بالحقيقة حينئذ هو الرطوبة المحسوسة بلا واسطة فإذا كانت الرطوبة اللعابية عديمة الطعم كما هو حالها في ذاتها أدت الطعوم من الأجسام إلى الذائقة بصحة فتدركها كما هي وإن خالطها طعم إما بأن تتكيف به أو يخالطها أجزاء من حامله لم تؤدها بصحة بل مخلوطة بذلك الطعم كما للمرضى الذين تغير لعابهم على أحد الوجهين ولذلك كان المرور الذي غلبت عليه المرة الصفراء يجد الماء النفه والسكر الحلو مرا ومن ثمة أي ومن أجل أنها إذا خالطها طعم لم تؤد الطعوم بصحة بل مخلوطة بما خالطها
قال بعضهم الطعوم لا وجود لها في ذي الطعم أي فيما اشتهر بأنه ذو طعم كالعسل مثلا وإنما توجد الطعوم في القوة الذائقة والآلة الحاملة لها وكذلك سائر الكيفيات فالحرارة إنما يعلم وجودها بالحس والذي يعطيه الحس ويشهد بها وجودها في العضو الذي فيه القوة اللامسة عند مماسة النار وأما وجودها في النار فوهم مستفاد من أنها أي النار لا تعمل ولا تؤثر في غيرها غلا بالتشبيه أي إحداث شبيه هو موجود فيها وعلى هذا لو لم تكن النار حارة في نفسها لما سخنت غيرها وهو أي هذا الوهم يضمحل ويتلاشى بالتأمل في تسخين الحركة للمتحرك مع عدم حرارتها في نفسها
والجواب أنه إنكار للمحسوسات التي علم وجودها في محالها بلا شبهة وسفسطة ظاهرة البطلان لا تستحق الجواب بإظهار الخلل في مقدماتها لأن متصادمتها للضرورة كافية في ذلك (2/573)
المشعر الخامس اللمس وهو قوة مبثوثة في العصب المخالط لأكثر البدن سيما الجلد فإن العصب يخالطه كله ليدرك به أن الهواء المجاور للبدن محرق أو مجمد فيحترز عنه كيلا يفسد المزاج الذي به الحياة ومن الأعضاء ما ليس فيه قوة لامسة كالكلية فإنها ممر الفضلات الحادة فاقتضت الحكمة الإلهية أن لا يكون لها حس لئلا تتأذى بمرورها عليها وكالكبد إذ يتولد فيه الأخلاط الحادة وكالطحال فإنه مفرغة للسوداء وكالرئة فإنها دائمة الحركة لترويح القلب فلا حس في شيء من هذه الأعضاء بل في أغشيتها ليدرك بها ما يعرض لها من الآفات وكذلك العظم ليس فيه قوة لامسة لأنه أساس البدن وعموده وعليه أثقاله فلو كان له حس لتأذى بالحمل وقد يقال إن له حسا إلا أن في حسه كلالا ولذلك كان إحساسه بالألم إذا أحس شديدا جدا
تنبيهان
الأول منهم من قال إن القوة اللامسة أربع متغايرة بالذوات الحاكمة بين الحار والبارد والحاكمة بين الرطب واليابس والحاكمة بين الصلب واللين والحاكمة بين الأملس والخشن ومنهم من أثبت قوة خامسة تحكم بين الثقيل والخفيف ولا يبعد كون الآلة الحاملة للقوة واحدة مع تعدد القوى اللامسة الحالة فيها فلا يلزم من سريان اللامسة في البدن وانتشارها فيه كونها قوة واحدة كما أن الرطوبة الجليدية فيها قوة باصرة وقوة لامسة وإذا جاز اجتماعهما في محل واحد جاز اجتماع اللامستين فيه أيضا إذ ليستا متماثلتين وكله بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحدفلا بد من قوى متعددة إما أربع أو خمس لإدراك تلك الملموسات وليت شعري لم لا يجعلون الذائقة أيضا قوى متعددة لتعدد المذوقات كما يجعلون اللامسة متعددة لتعدد الملموسات
قال الإمام الرازي لهم أن يجيبوا عن هذا بأنا إنما أوجبنا أن يكون الحاكم على نوع واحد من التضاد قوة واحدة على حدة ليتم الشعور بهما والتميز بينهما ولا شك أن بين الحرارة والبرودة نوعا من المضادة مغايرا للنوع (2/574)
الذي بين الرطوبة واليبوسة وكذا الحال في بواقي الملموسات بخلاف الطعوم فإنها مع كثرتها ليس بينها إلا نوع واحد من التضاد فيكفيها قوة واحدة ولم يلتفت إليه المصنف لظهور ضعفه
الثاني من التنبيهين قوة الذوق في إدراكها مشروطة باللمس إذ لا يتصور إدراك ذوقي بلا ملامسة بين اللسان والمذوق فربما يتوهم من ذلك اتحاد الذائقة باللامسة فدفعه بقوله ولا شك أنها غيرها إذ لا يكفي فيها أي في إدراك الذائقة اللمس وحده بل يحتاج معه إلى توسط الرطوبة اللعابية واختلاطها على ما مر فلا بد من التغاير وكيف لا والذوق يضاده أي اللمس باعتبار الغاية لأن الذوق إنما خلق للشعور بما يلائم من المطعومات التي تستبقي بها الحياة ليجتلب واللمس خلق للشعور بما لا يلائم ليجتنب
وتلخيصه أن الحيوان مركب من العناصر الأربعة فصلاحه باعتدالها وفساده بغلبة بعضها على بعض فلا بد له من قوة يدرك بها ما ينافي مزاجه ويخرجه عن اعتداله وهي اللامسة الدافعة للمضرة كما لا بد له من قوة جاذبة للمنفعة فبهذا الاعتبار كان بينهما تضاد وتخالف ولما كان الاجتناب عن جميع المنافيات واجبا دون اجتلاب جميع الملائمات عمت اللامسة البدن
قال الحكماء لا يمكن وجود حاسة سادسة لأن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها إلا وقد استكملت ما في الدرجة الأولى فلو كان في الإمكان حس آخر لكان حاصلا للإنسان وههنا أبحاث أي بحثان نختم بها هذا النوع أي الأول من الأنواع الثلاثة
أحدها إن الحواس الظاهرة مختلفة بالقوة والضعف في إدراكاتها (2/575)
وتفاوتها في ذلك إنما هو بحسب القوة الممانعة وضعفها فكل ما كان أقوى ممانعة لمدركه كان أقوى إحساسا به وذلك أي التفاوت في الممانعة قوة وضعفا إنما هو لغلظ الآلة ورقتها فما هو أغلظ آلة كان أشد ممانعة وعلى هذا أضعفها في الإحساس البصر إذ آلتها النور وهو ألطف من آلات سائر الحواس ثم السمع وآلتها الهواء ثم الشم وآلتها البخار ثم الذوق وآلتها الماء ثم اللمس وآلتها الأعضاء الصلبة الأرضية فلذلك كانت ملائماته ألذ ومنافراته أشد إيلاما
ثانيها ههنا محسوسات مشتركة أي يشترك في إدراكها الحواس الظاهرة فلا يحتاج في الإحساس بها إلى قوى أخرى كالمقادير والأعداد والأوضاع والأشكال والحركة والسكون والقرب والبعد والمماسة فلو وجب لكل نوع محسوس قوة على حدة كما ذهب إليه جمع لوجب إثبات قوى أخرى لإدراك هذه الأمور لأنها أنواع متخالفة وقد يجاب عنها بأنها محسوسة بالعرض لا بالذات أي بالتبعية لا بالأصالة فلا حاجة فيها إلى قوة أخرى كما أشرنا إليه إنما ذاك فيما هو محسوس بالذات وقد بين كونها محسوسة بالعرض بقوله وإنها إنما تحس بواسطة اللون والضوء والحرارة والبرودة ونحوها وتفصيله أن يقال إن البصر يحس بالعظم والعدد والوضع والشكل والحركة والسكون والمماسة بتوسط الضوء واللون واللمس يدرك جميعها بتوسط حر أو برد وصلابة أو لين والذوق يدرك العظم بأن يذوق طعما كثيرا والعدد بأن يجد طعوما مختلفة والشم يدرك العدد بضرب من القياس وهو أن يعلم أن الذي انقطعت رائحته غير الذي حصلت رائحته ثانيا ويدرك الحركة والسكون بواسطة اللمس إدراكا ضعيفا وأما السمع فإنه لا يدرك العظم ولكنه قد يدل عليه أحيانا من جهة أن (2/576)
الأصوات العظيمة إنما تحصل في الأغلب من أجسام عظيمة وقد يستعان فيه أي في إدراك بعضها بالعقل كما في إدراك الحركة والسكون لأن الجسم المتحرك لا بد أن تختلف نسبته إلى أجسام أخرى كأن يصير قريبا من جسم كان بعيدا عنه وبالعكس فإذا حصل الإحساس بذلك الاختلاف من جهته حصل الشعور بكونه متحركا ولذلك قد لا يدرك في بعض الأوقات كراكب السفينة يراها ساكنة مع كونها متحركة حركة سريعة ويرى الشط متحركا مع كونه ساكنا فإنه لما لم يشعر بأن اختلاف نسبتها إلى الشط إنما هو من جهتها لم يشعر بحركتها بل أسنده إلى الشط فتوهمه متحركا وقد مر استعانة الشم والسمع بالعقل في العدد والعظم ثم أشار إلى معنى آخر للمحسوس بالعرض بقوله وقد يقال المحسوس بالعرض ما لا يحس به أصلا لكن يقارن المحسوس بالحقيقة كإبصارنا أبا عمرو فإن المحسوس ذلك الشخص وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا لا أصالة ولا تبعا بخلاف الأمور السابقة فإنها محسوسة بالتبعية فإطلاق المحسوس بالعرض على هذين المعنيين بالاشتراك اللفظي وبهذا خرج الجواب عما ذكره في المباحث المشرقية من أن هذه الأمور ليست محسوسة بالعرض لأن المحسوس بالعرض ما لا يحس به حقيقة لكنه مقارن للمحسوس الحقيقي وإن شئت حقيقة الحال فاستمع لهذا المقال ألست قد سمعت أن البياض مثلا قائم بالسطح أولا وبالذات وقائم بالجسم ثانيا وبالعرض ولا شبهة في أنه ليس معنى ذلك أن للبياض قيامين أحدهما بالسطح والآخر بالجسم بل معناه أن له قياما واحدا بالسطح لكن لما قام السطح بالجسم صار ذلك القيام منسوبا إلى السطح أولا وبالذات وإلى الجسم ثانيا وبالعرض فقس على ذلك معنى كون الشيء مثلا مرئيا بالذات وبالعرض فإذا قلنا اللون مرئي (2/577)
بالذات كان معناه أن الرؤية متعلقة به بلا توسط تعلق تلك الرؤية بغيره وذلك لا ينافي كون رؤيته مشروطة برؤية أخرى متعلقة بالضوء فيكون كلا منها مرئيين بالذات لكن رؤية أحدهما مشروطة برؤية الآخر وإذا قلنا المقدار مرئي بالعرض بواسطة اللون كان معناه أن هناك رؤية واحدة متعلقة باللون أولا وبالذات وبالمقدار ثانيا وبالعرض وهكذا الحال في سائر الأمور التي سماها مشتركة بين الحواس فهي محسوسة تبعا قطعا وأما كون الشخص أبا عمرو فلا تعلق للإحساس به البتة والمصنف إذا رجع إلى نفسه وجد تفرقة ضرورية بينهما وعلم أن المقدار مثلا له انكشاف في الحس ليس ذلك الانكشاف للأبوة فاتضح الفرق بين معنى المحسوس بالعرض واندفع ما ذكره الإمام بل نقول إطلاق هذا الاسم على المعنى الأول أولى كما أشار إليه المصنف بإيراد كلمة قد في المعنى الآخر (2/578)
النوع الثاني القوة المدركة الباطنة
المتن
وهي أيضا خمس
الأولى الحس المشترك وهي القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحسوسة بالحواس الخمس فتطالعها النفس ثمة فتدركها ويثبتها ثلاثة أوجه
الأول لولا أن فينا قوة مدركة للمحسوسات كلها لما أمكننا أن نحكم بأن هذا الملموس هو هذا الملون فإن القاضي لا بد أن يحضره الخصمان فإن قيل الحاكم هو العقل قلنا سنبين أن الجزئيات لا يدركها إلا قوى جسمانية ولقائل أن يقول فما قولك في أن حكمنا بأن زيدا إنسان إن كان المدرك لهما واحدا فالمدرك للجزئي هو المدرك للكلي أعني العقل وإلا بطل أصل الدليل
الثاني القطرة النازلة نراها خطا والشعلة التي تدار بسرعة نراها كالدائرة وليستا في الخارج خطا ودائرة فهو في الحس المشترك وليس في الباصرة لأنها إنما تدرك الشيء حيث هو فهو لارتسامها في قوة أخرى (2/579)
وليست هي النفس فهي قوة جسمانية ولقائل أن يقول يجوز أن يكون ذلك لارتسامه في القوة الباصرة
الثالث ما يراه النائم والمبرسم والكاهن موجود وليس في الخارج وإلا رآها كل سليم الحس فهو في المدرك وهو جسماني لما مر ولقائل أن يقول لعل المدرك لها النفس كما مر واحتج الخصم بوجهين
الأول أن حصول جبل من ياقوت وبحر من زئبق في جزء من بدن النائم ضروري البطلان قلنا قد ينطبع شبح الكبير في الصغير كما مر
الثاني كما نعلم أنا لا نشم ولا نذوق ولا نسمع ولا نبصر بالأيدي والأرجل نعلم أنا لا نذوق ولا نلمس بالدماغ ومنكره مكابر قلنا عدم توسط الدماغ فيه ممنوع وأما أنه ليس آلة جرمية فنعم
الثانية الخيال وهو يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك كالخزانة له وبه يعرف من يرى ثم يغيب ثم يحضر ولولا هذه القوة لامتنع معرفته واختل النظام وأثبت بوجوه ثلاثة
الأول قوة القبول غير قوة الحفظ
قلنا هو فرع قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإن سلم فالحفظ مشروط بالقبول فكيف تقول القابل غير الحافظ
الثاني الحس المشترك حاكم دونها
قلنا تحكم تارة ولا تحكم أخرى (2/580)
الثالث الصور إذا كانت في الحس المشترك فهي مشاهدة بخلاف ما إذا كانت في الخيال
قلنا قد يعود إلى ملاحظة النفس وعدمها
الثالثة القوة الوهمية وهي التي تدرك لمعاني الجزئية كالعداوة التي تدركها الشاة من الذئب والمحبة التي تدركها السخلة من أمها وهي التي تحكم بأن هذا الأصغر هذا الحلو
الرابعة القوة الحافظة وهي الحافظة للمعاني التي تدركها الوهمية كالخزانة لها ونسبتها إلى الوهمية نسبة الخيال إلى الحس المشترك فاستغنى بما ذكرنا
ثم المتخيلة وهي التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني بالتركيب والتفصيل مثل إنسان ذي رأسين وإنسان عديم الرأس وحيوان نصفه إنسان ونصفه فرس وهذه القوة إذا استعملها العقل سميت مفكرة ولنختم هذا النوع بأبحاث
الأول عرف وجود هذه القوى بتعدد الأفعال لما اعتقدوا أنه لم يصدر عن الواحد إلا الواحد وقد عرفت ما فيه ثم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات متعددة أو الشرائط
الثاني محل الحس المشترك والخيال البطن الأول من الدماغ فالحس المشترك في مقدمه لتصادفه المحسوسات أولا والخيال في مؤخره ومحل الوهمية والحافظة البطن الأخير منه والوهمية في مقدمه والحافظة في مؤخره ومحل المتخيلة الدودة الحاصلة في وسط الدماغ الموضوعة بين البطنين لتأخذ من هذه وهذه فتتصرف فيما فيهما وإنما عرف محالها بالآفة فإنه إذا تطرق آفة إلى محل من هذه المحال اختل فعل القوة المخصوصة به دون غيرها ولولا اختصاص كل بمحله لما كان كذلك
خاتمة أكثر الكلام في هذه القوى بعد نفي القادر المختار على أن (2/581)
النفس ليست مدركة للجزئيات كما أشرنا إليه فلنتكلم في ذلك فنقول المدرك لجميع أصناف الإدراكات النفس لوجوه
الأول ما ذكرناه من الحكم بالكلي على الجزئي وبكل جزئي على أنه غير الآخر
الثاني وجداني إني واجد أسمع وأبصر وأجوع وأشبع
الثالث أن النفس مدبرة للبدن فهو فاعل للجزئيات ولا بد له فيه من إدراك الجزئيات إذ الرأي الكلي نسبته إلى الكل واحدة فلا يصلح لكونه مصدرا للبعض دون البعض وللخصم وجوه
الأول نعلم ضرورة أن إدراك المبصرات حاصل للبصر والأصوات للسمع وعلى هذا وإنكار ذلك مكابرة
الثاني آفة كل عضو توجب آفة فعله
الثالث إذا أدركنا الكرة فلا بد له أن ترتسم في المدرك صورتها ومن المحال ارتسام ما له وضع وحيز فيما لا وضع ولا حيز له
الرابع إذا تصورنا مربعا مجنحا بمربعين هكذا فإنا نميز بين المربعات الثلاثة ونشير إلى وضع كل من الآخر على معنى أين هو من صاحبه فلو كان محله النفس لزم كونه منقسما انقساما في الكم وأنه باطل لأنها مجردة عن المادة
والجواب أن شيئا من ذلك لا ينفي كون الحواس آلات والنفس هي المدركة وهذا القدر كاف في إثبات القوى المذكورة إذ لولا اختصاص كل عضو بقوة لما اختص بكونه آلة لنوع من المدركات دون الآخر (2/582)
النوع الثالث القوى الفاعلة وتنقسم إلى باعثة ومحركة أما الباعثة فإما لجلب النفع وتسمى شهوية وإما لدفع الضر وتسمى غضبية وأما المحركة فهي التي تمدد الأعصاب فتقرب الأعضاء إلى مباديها كما في قبضة اليد وترخيها فتبعد الأعضاء عن مباديها كما في البسط وهذه القوةهي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد التصور وبينهما الشوق والإرادة فإن النفس تتصور الحركة فتشتاق إليها فتريدها إرادة قصدة وإيجاد فتحصل
الشرح
النوع الثاني القوة المدركة الباطنة أي القوى التي يكمل بها الإدراك الباطني سواء كان مدركة أو معينة في الإدراك وهي أيضا خمس
الأولى الحس المشترك وهي القوة التي ترتسم فيها صور الجزيئات المحسوسة بالحواس الخمس الظاهرة التي هي الجواسيس لها فتطالعها النفس من ثمة فتدركها ولما كانت هذه القوى آلة للنفس في إدراكها سميت مدركة لها ويثبتها أي يدل على ثبوت الحس المشترك ثلاثة أوجه
الأول لولا أن فينا قوة واحدة مدركة للمحسوسات كلها بحيث ترتسم فيها بأسرها لما أمكننا الحكم ببعض المحسوسات على بعضها إيجابا ولا سلبا مثل أن نحكم بأن هذا الملموس هو هذا الملون أو ليس هذا الملون فإن القاضي الحاكم بالنسبة لا بد أن يحضره الخصمان أي (2/583)
المحكوم عليه والمحكوم به حتى يمكنه ملاحظة النسبة بينهما وإيقاع أحد طرفيها وليس شيء من القوى الظاهرة كذلك فلا بد من قوة باطنة فإن قيل الحاكم هو العقل فلا حاجة إلى قوة أخرى قلنا سنبين أن الجزئيات لا يدركها إلا قوى جسمانية فلا يدركها العقل فلا يحكم عليها بل لا بد من قوة جسمانية تدركها برمتها وتحكم فيما بينها ولقائل أن يقول فما قولك في أن حكمنا بأن زيدا إنسان إن كان المدرك لهما واحدا فالمدرك للجزئي هو المدرك للكلي أعني العقل إذ لا يمكن للقوى الجسمانية إدراك الكليات وحينئذ فقد جاز أن يكون الحاكم بين الجزئيات المحسوسة هو العقل وإلا أي وإن لم يكن مدركهما واحدا بطل أصل الدليل وهو أن الحاكم لا بد أن يحضره الطرفان فإن قيل الحاكم هو العقل كما أشرتم إليه أولا لكنه يمتنع ارتسام صور المحسوسات فيه فوجب أن يكون هناك قوة جسمانية ترتسم فيها صورها كلها حتى يتصور حضورها عنده أجيب بأن الحضور عند العقل لا يجب أن يكون باجتماعها في قوة واحدة بل ربما يكفيه ارتسامها في آلات متعددة للعقل كالحواس الظاهرة
الوجه الثاني القطرة النازلة نراها خطا مستقيما والشعلة التي تدار بسرعة شديدة نراها كالدائرة وليستا أي القطرة والشعلة في الخارج عن القوى المدركة خطا ودائرة فهو أي كونهما كذلك إنما يكون في الحس المشترك وليس في الباصرة لأنها إنما تدرك الشيء حيث هو حتى إذا زال عن مكانه لم تدركه فيه بل في مكان آخر فقط فهو لارتسامهما (2/584)
على الوجه المذكور في قوة أخرى سوى الباصرة وليست تلك القوة هي النفس الناطقة لاستحالة اتصافها بما له مقدار فهي قوة جسمانية باطنة ترتسم فيها صور المحسوسات ولقائل أن يقول يجوز أن يكون ذلك لارتسامه في القوة الباصرة وما ذكرتموه من أن الباصرة لا تدرك الشيء إلا حيث هو ممنوع إذ لا دليل عليه سوى الاستقراء الذي لا يفيد اليقين فنقول لم لا يجوز أن ينطبع في الباصرة صورة الجسم في حيز وقبل أن تنمحي هذه الصورة عنها تنطبع فيها صورته في حيز آخر وإذا اجتمعت الصورتان في الباصرة شعرت بهما معا على أنهما صورة واحدة لشيء واحد ممتد على الاستقامة أو الاستدارة ويؤيد ذلك أن ابن سينا يسلم أن البصر يدرك الحركة ويستحيل إدراكها إلا على الوجه الذي صورناه وأيضا ارتسام ما له امتداد في النفس إنما يستحيل إذا كان حلول الصور فيها كحلول الأعراض في محالها وهو مما ينازع فيه لأن الأعراض متمانعة دون الصور
الوجه الثالث ما يراه النائم والمبرسم والكاهن موجود فإن كل واحد منهم يشاهد صورا محسوسة ويدرك أصواتا مسموعة بحيث لا يرتاب فيها ويميز بينها وبين غيرها فلا بد أن يكون لتلك الصور والأصوات وجود إذ العدم المحض يستحيل أن يتميز عن غيره ويشاهد على حسب ما تشاهد الأمور الموجودة وليس وجودها في الخارج وإلا رآها كل سليم الحس فهو في المدرك وهو أي ذلك المدرك جسماني لا عقلي لما مر من أن الجزئيات لا تدركها إلا قوى جسمانية وليس حسا ظاهرا لتعطله في النوم ولأن الرائي ربما كان مغموض العينين فوجب أن يكون حسا باطنا ولقائل أن يقول لعل المدرك لها النفس كما مر من أنها تدرك الكلي والجزئي (2/585)
أيضا وامتناع ارتسام الصور التي لها مقدار فيها غير مسلم عندنا لما عرفت آنفا
واحتج الخصم النافي للحس المشترك بوجهين
الأول أن حصول جبل من ياقوت وبحر من زئبق كما يرى في النوم في جزء من بدن النائم ضروري البطلان قلنا قد ينطبع شبح الكبير في الصغير إنما الممتنع إن يرتسم عين الكبير في الصغير كما مر
الثاني كما نعلم أنا لا نشم الروائح ولا نذوق الطعوم ولا نسمع الأصوات ولا نبصر الألوان بالأيدي والأرجل كذلك نعلم أنا لا نذوق ولا نلمس ولا نعقل شيئا مما ذكرناه بالدماغ ومنكره مكابر لإنكار ما يجده كل عاقل من نفسه قلنا عدم توسط الدماغ فيه أي في الإدراك الحسي ممنوع وما ذكرتموه لا يدل عليه وأما أنه أي الدماغ ليس آلة جرمية أي ليس جرمة آلة للإحساسات المذكورة كما اقتضاه دليلكم فنعم إذ لا نزاع لنا فيه
الثانية من القوى المدركة الباطنة الخيال وهو يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك إذا غابت المحسوسات عن الحواس الظاهرة فهو كالخزانة له وبه يعرف من يرى في زمان ثم يغيب ثم يحضر ولولا هذه القوة وحفظها لصور المحسوسات الغائبة لامتنع معرفته أي لامتنع أن يعرف من شيء أنه الذي رؤي فيما سبق من الزمان واختل النظام إذ يحتاج الإنسان حينئذ في كل ما يحس به أن يتعرف حاله في المرة الثانية وما بعدها كما في المرة الأولى فلا يتميز عنده الضار من النافع والصديق من العدو ويختل أمر المعاش والمعاد وأثبت وجود الخيال بوجوه ثلاثة
الأول قوة القبول غير قوة الحفظ فمدرك الصور القابل لها أعني الحس المشترك غير حافظها الذي هو الخيال قلنا ما تمسكتم به هو فرع قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وقد مر بطلانه وإن سلم ذلك فالحفظ مشروط بالقبول بديهة فلا بد أن يجتمع القبول مع الحفظ فكيف (2/586)
تقول القابل غير الحافظ البتة حتى يثبت أن مدرك المحسوسات يجب أن يكون مغايرا لما يحفظها
الثاني الحس المشترك حاكم على المحسوسات كما سلف دونها أي دون القوة الخيالية لأن فعلها الحفظ ولا شك أن ما ليس بحاكم مغاير لما هو حاكم قلنا يجوز أن يكون هناك قوة واحدة قد تحكم تارة ولا تحكم أخرى فلا يلزم إلا التغاير بالاعتبار دون الذات
الثالث الصور المحسوسة إذا كانت مرتسمة في الحس المشترك فهي مشاهدة كما في المحسوسات الحاضرة عندنا بخلاف ما إذا كانت مرتسمة في الخيال فإنها ليست كذلك كما إذا غابت المحسوسات عنا فلا بد من تغير القوتين بحسب الذات قلنا قد يعود ما ذكرتم من الاختلاف بالمشاهدة وعدمها إلى ملاحظة النفس وعدمها بأن تكون الصور مرتسمة في قوة واحدة فتارة تلتفت النفس إليها فتشاهدها وتارة تعرض عنها فلا تشاهدها
الثالثة من تلك القوى هي القوة الوهمية وهي التي تدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالصور المحسوسة كالعداوة الجزئية التي تدركها الشاة من الذئب فتهرب منه والمحبة الجزئية التي تدركها السخلة من أمها فتميل إليها فإن هذه المعاني لا بد لها من قوة مدركة سوى الناطقة
قالوا وهي التي تحكم بأن هذا الأصغر هو هذا الحلو ويتجه عليه أن النسبة التي بينهما وإن كانت معنى جزئيا مدركا للقوة الوهمية إلا أن طرفيها محسوسان ومدركان بالحس المشترك والحاكم لا بد أن يدرك (2/587)
الطرفين والنسبة حتى يتمكن من الحكم عليها فلا يجوز أن يكون الحكم المذكور للقوة الوهمية ولا للحس المشترك
الرابعة منها القوة الحافظة وهي الحافظة للمعاني التي تدركها القوة الوهمية كالخزانة لها ونسبتها إلى الوهمية نسبة الخيال إلى الحس المشترك فاستغنى في إثباتها بما ذكرناه ثم الخامسة القوة المتخيلة وهي القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها وتصرفها فيها بالتركيب تارة والتفصيل أخرى مثل إنسان ذي رأسين وإنسان عديم الرأس وحيوان نصفه إنسان ونصفه فرس وهذا التصرف غير ثابت لسائر الحواس والقوى فهو لقوة أخرى وهذه القوة إذا استعملها العقل في مدركاته بضم بعضها إلى بعض أو فصله عنه سميت مفكرة كما أنها إذا استعملها الوهم في المحسوسات مطلقا سميت متخيلة
فإن قيل كيف يستعملها الوهم في الصور المحسوسة مع أنه ليس مدركا لها
أجيب بأن القوى الباطنة كالمرايا المتقابلة فينعكس إلى كل منها ما ارتسم في الأخرى والوهمية هي سلطان تلك القوى فلها تصرف في مدركاتها واستعمال ما هو آلة فيها بل لها تسلط على مدركات العاقلة فتنازعها فيها وتحكم عليها بخلاف أحكامها فمن سخرها للقوة العقلية بحيث صارت مطاوعة لها فقد فاز فوزا عظيما ولنختم هذا النوع الثاني بأبحاث
الأول عرف وجود هذه القوى الخمس الباطنة بتعدد الأفعال (2/588)
الخمسة التي هي إدراك المحسوسات وإدراك المعاني الجزئية المتعلقة بها وحفظهما والتصرف فيها لما اعتقدوا أنه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد وقد عرفت ما فيه من الفساد ثم إن سلمنا صحته قلنا لم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات متعددة أو الشرائط فتصدر تلك الأفعال عنها بحسب تعددها كما جوزتموه في مواضع أخرى
الثاني محل الحس المشترك والخيال هو البطن الأول من الدماغ المنقسم إلى بطون ثلاثة أعظمها الأول ثم الثالث وأما الثاني فهو كمنفد فيما بينهما منفرد على شكل الدودة فالحس المشترك في مقدمه أي مقدم البطن الأول لتصادفه المحسوسات بالحواس الظاهرة أولا والخيال في مؤخره لأنه خزانتها التي تحفظها ومحل الوهمية والحافظة هو البطن الأخير منه والوهمية في مقدمه والحافظة في مؤخره على قياس حال الحس المشترك والخيال في البطن الأول ومحل المتخيلة هو الدودة الحاصلة في وسط الدماغ الموضوعة بين البطنين لتأخذ من هذه المحسوسات التي في أحد جانبها و من هذه المعاني الجزئية التي في الجانب الآخر فتتصرف بالتركيب والتفصيل فيما فيهما أي في البطنين الأول والأخير من الصور والمعاني والمشهور في الكتب المعول عليها أن المتخيلة في مقدم الدودة والوهمية في مؤخرها والحافظة في مقدم البطن الأخير وليس في مؤخره شيء من هذه القوى إذ لا حارس هناك من الحواس فتكثر مصادماته المؤدية إلى الاختلال وإنما عرف محالها المذكورة بالآفة فإنه إذا تطرق آفة إلى محل من هذه المحال اختل فعل القوة المخصوصة به دون غيرها أي دون فعل غيرها من أفعال سائر القوى ولولا اختصاص كل من هذه القوى بمحله لما كان الأمر كذلك (2/589)
خاتمة لأبحاث النوع الثاني وهي البحث الثالث أكثر الكلام الذي نقلناه عنهم في إثبات هذه القوى وتعددها بعد بنائه على نفي القادر المختار الموجد لجميع الأشياء ابتداء بمجرد إرادته مبني على أن النفس الناطقة ليست مدركة للجزئيات كما أشرنا إليه في أثناء الكلام المنقول فلنتكلم في ذلك فنقول المدرك لجميع أصناف الإدراكات هو النفس لوجوه
الأول ما ذكرناه من الحكم بالكلي على الجزئي في مثل قولنا زيد إنسان وبكل جزئي على أنه غير الآخر أي والحكم بسبب أحد الجزئين عن الآخر كما في قولك زيد ليس بعمرو فلا بد من قوة تدرك الكليات وجميع أنواع الجزئيات من المحسوسات مشاهدة ومتخيلة والمعاني الجزئية متوهمة ومحفوظة ولا يجوز أن تكون هذه القوى جسمانية اتفاقا فهي القوة العاقلة
الثاني وجداني بلا شبهة إني واجد أسمع وأبصر وأجوع وأشبع وأدرك المعقولات فالمدرك للكل واحد وليس إلا النفس
الثالث أن النفس مدبرة للبدن المعين فهو أي النفس بتأويل الإنسان فاعل للجزئيات من الأفعال التدبيرية ولا بد له فيه أي في كونه فاعلا للأفعال الجزئية من إدراك الجزئيات الصادرة عنه إذ الرأي الكلي نسبته إلى الكل من آحاد ذلك الكلي واحد فلا يصلح الرأي الكلي لكونه مصدرا للبعض دون البعض فالنفس مدركة للجزئيات وفي المباحث المشرقية هي مدبرة لبدن شخص وتدبير الشيء للشخص من حيث هو ذلك الشخص يستحيل إلا بعد العلم به من حيث هو هو فإذن هي مدركة للبدن الجزئي وللخصم القائل بأن النفس لا تدرك الجزئيات وجوه (2/590)
الأول نعلم ضرورة أن إدراك المبصرات حاصل للبصر وإدراك الأصوات للسمع وعلى هذا إدراك سائر المحسوسات فإنه حاصل للحواس المخصوصة وإنكار ذلك مكابرة مصادمة للبديهة فلا يلتفت إليه
الثاني آفة كل عضو هو محل لقوة توجب آفة فعله الذي نسب إليه فلولا أنه فعله حقيقة لما كان كذلك وهذا إنما يظهر في الحواس الظاهرة وأما في الباطنة فيستعان بالتجارب الطبية من أن الآفة متى حدثت في مقدم البطن الأول اختل الإحساس دون تخيل المحسوسات السابقة ومتى حدثت في مؤخره اختل التخيل دون الإحساس وهكذا الحال في سائر القوى الباطنة
الثالث إذا أدركنا الكرة الشخصية مثلا فلا بد له أي لإدراكنا إياها أن ترتسم في المدرك منا صورتها المتصفة بمقدار مخصوص ووضع معين وحيز لازم لهما ومن المحال ارتسام ما له وضع وحيز فيما لا وضع ولا حيز له أعني النفس المجردة بل لا بد أن يكون ارتسامه في قوة جسمانية
الرابع إذا تصورنا مربعا مشخصا على مقدار مخصوص مجنحا بمربعين مشخصين على وضع معين هكذا فإنا نميز بين المربعات الثلاثة ونشير إلى وضع كل من الآخر على معنى أين هو صاحبه وأحد الجناحين عن يمين المجنح والآخر عن يساره فلو كان محله أي محل ارتسام هذا المتصور هو النفس لزم كونه أي كون هذا المحل الذي هو النفس منقسما انقساما في الكم وأنه باطل لأنها مجردة عن المادة فلا تقبل الانقسام المقداري
والجواب عن وجوه الخصم أن شيئا من ذلك الذي ذكره لا (2/591)
ينفي كون الحواس آلات والنفس هي المدركة فترتسم الجزئيات في تلك الآلات وتدركها النفس لملاحظتها في آلاتها فلا يلزم انقسام النفس ولا كونها ذات وضع وحيز وتكون آفة الفعل باختلال الآلات دون المدرك ويصح إسناد الإدراك إلى تلك الآلات وإن لم تكن مدركة حقيقة وهذا القدر الذي لا ينفيه شبه الخصم كاف للمستدل في إثبات القوى المذكورة إذ يعلم بالضرورة أنه لولا اختصاص كل عضو من تلك الأعضاء بقوة مخصوصة لما اختص بكونه آلة لنوع من المدركات دون الآخر وبذلك يثبت وجود القوى وتعددها وهو المطلوب
النوع الثالث القوى الفاعلة هي التي عبر عنها فيما سبق بالمحركة على معنى أن لها مدخلا في الحركة إما بالتحريك أو الإعانة على قياس ما مر في المدركة وفائدة العدول ظاهرة وتنقسم إلى قوة باعثة على الحركة وقوة محركة مباشرة للتحريك أما الباعثة وتسمى شوقية ونزوعية فإما لجلب النفع وتسمى شهوية وإما لدفع الضرر وتسمى غضبية وأما المحركة فهي التي تمدد الأعصاب بتشنيج العضلات فتقرب الأعضاء إلى مباديها كما في قبض اليد مثلا وترخيها أي ترخي الأعصاب بإرخاء العضلات فتبعد الأعضاء عن مباديها كما في البسط أي بسط اليد وهذه القوة المثبتة في العضلات هي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد وهو التصور وبينها الشوق والإرادة فهذه مباد أربعة مترتبة للأفعال الاختيارية الصادرة عن الحيوان فإن النفس تتصور الحركة أولا فتشتاق إليها ثانيا بناء على اعتقاد نفع فيها فتريدها ثالثا إرادة قصد إليها وإيجاد لها فتحصل الحركة بتمديد الأعصاب وإرخائها رابعا وقال بعضهم الشوق إنما يوجد فيمن ليس قدرته تامة فتردد وتشتاق وأما الذي يثق بقدرته فلا شوق له (2/592)
القسم الثالث في النفس الإنسانية
المتن
وقواها تسمى القوة العقلية فباعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها بالنسبة الإيجابية أو السلبية تسمى القوة النظرية وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة تسمى القوة العملية ويحدث فيها من القوة هيئات انفعالية هي الضحك والخجل والحياء وأخواتها
الشرح
القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي في الفصل الثالث المعقود لبيان المركبات التي لها نفس في النفس الإنسانية أي في بيان قواها ولذلك قال وقواها يعني المخصوصة بها تسمى القوة العقلية فباعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها بالنسبة الإيجابية أو السلبية تسمى القوة النظرية والعقل النظري وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة في الأمور الجزئية مما ينبغي أن تفعل أو تترك تسمى القوة العملية والعقل العملي فهاتان قوتان متغايرتان إما بالذات أو بالاعتبار اختص بهما الإنسان من بين سائر الحيوان فالأولى للأحكام الكلية صادقة (2/593)
كانت أو كاذبة والثانية للأحكام المتعلقة بأفعال جزئية سواء كانت خيرات أو شرورا جميلة أو قبيحة وهذه القوة مستمدة من القوة النظرية لأن استخراج الآراء الجزئية إنما يكون بضرب من التأمل والقياس فلا بد هناك من مقدمة كلية كأن يقال مثلا هذا الفعل كذا وكذا وكل ما هو كذا فهو جميل ينبغي أن يفعل أو قبيح ينبغي أن يترك فتكون صغرى القياس شخصية وكبراه كلية فيحصل منهما رأي في أمر جزئي مستقبل من الأمور الممكنة فإن الواجبات والممتنعات لا تروى في كيفية إيجادها وإعدامها وكذا الماضي والحاضر لا تروى فيهما أيضا للإيجاد أو الإعدام بل ذلك مخصوص بالأمور المستقبلة وإذا حكمت هذه القوة بهذا الرأي الجزئي تبع حكمها حركة القوة الاجتماعية إلى تحريك البدن ويحدث فيها أي في النفس الإنسانية من القوة العملية الشوقية هيآت انفعالية تتبعها أحوال بدنية هي الضحك التابع للتعجب الحادث في النفس من إدراك الأمور الغريبة الخفية لأسباب والخجل والحياء وأخواتها من الخوف والحزن والحقد وغيرها من الانفعالات المختصة بالإنسان فظهر أن النفس تتأثر من قواها كما أنه يؤثر فيها (2/594)
القسم الرابع في المركبات التي لا مزاج لها
المتن
اعلم أن حر الشمس يصعد أجزاء إما هوائية ومائية وهو البخار وإما نارية وأرضية وهو الدخان ومنهما يتكون جميع الآثار العلوية أما البخار فإن اشتد الحر حلل المائية وبقي الهواء الصرف وإلا فإن وصل إلى الزمهريرية عقده ببرده فصار سحابا وتقاطرت الأجزاء المائية إما بلا جمود وهو المطر وإما مع جمود فإن كان كان الجمود قيل الاجتماع فهو الثلج وإن كان بعده فهو البرد وإنما يستدير بالحركة وإن لم يصل إلى الزمهريرية فهو الضباب وقليله قد يتكاثف ببرد الليل فينزل إما بلا جمود وهو الطل أو معه وهو الصقيع وأما الدخان فربما يخالط السحاب فيخرقه إما في صعوده بالطبع أو عند هبوطه للتكاثف بالبرد فيحدث من خرقه له ومصاكته إياه صوت هو الرعد وقد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة والمصاكة فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة وأنه أعني الدخان قد يصل إلى كرة النار فيخترق كالشمعة التي تطفأ ويحاذي بها من تحت شمعة مشتعلة فيشتعل الدخان وتتصل بالشمعة السفلانية فتشتعل فما كان منه لطيفا صار مشتعلا ونفذ فيه النار بسرعة فيرى ذلك كأنه كوكب ينقض وهو الشهاب وما كان منه (2/595)
كثيفا تعلق به النار تعلقا تاما من غير اشتعال ودام متصلا لا ينطفئ وهو الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون وما كان غيلظا تعلق به النار تعلقا ما فيحدث في الجو علامات سود أو حمر وقد تقف الذؤابات ونحوها بجنب كوكب فيديرها الفلك معه مشايعة إياه فترى كأن لذلك الكوكب ذؤابة أو ذنبا أو قرنا أو أكثر وهذه الأقسام إذا اتصلت بالأرض أحرقت ما عليها ويسمى الحريق وأيضا فالدخان قد ينكسر حره عند الوصول إلى الكرة الزمهريرية فيرجع بطبعها أو يصعد ويصادم الفلك فيرجع وعلى التقديرين فيتموج الهواء وهو الريح ولذلك كان أكثر مبادي الرياح فوقانية كما تشهد به التجربة والريح كما يحدث بهذا الطريق فقد يحدث بأن يتخلخل الهواء فيندفع فيدافع ما يجاوره فيطاوعه وتضعف المدافعة إلى غاية ما فيقف وقد يحدث رياح مختلفة الجهة دفعة فتدافع الأجزاء الأرضية فتنضغط بينها مرتفعة كأنها تلتوي على نفسها وهي الزوابع والإعصار وأيضا فقد يحدث في الجو أجزاء رشية صقيلة كدائرة تحيط بغيم رقيق لا يحجب ما وراءه فينعكس منها ضوء البصر لصقالتها إلى القمر فيرى ضوؤه دون شكله فإن الصقيل إذا صغر جدا أدى الضوء واللون دون الشكل والتخطيط كما في المرآة الصغيرة فيرى جميع تلك الدائرة كأنها منورة بنور ضعيف وتسمى الهالة وقد يحدث مثل ذلك في خلاف جهة الشمس وهي قوس قزح وتختلف ألوانها بحسب أجزاء السحاب وما وراءها وما ينعكس منها الضوء من الأجرام الكثيفة ورأيت بعض فضلاء زماننا ممن له في علم المناظر كعب عال يدعي بطلان ذلك لكنه رأي الجمهور فذكرناه متابعة لهم
وأيضا فالبخار المحتقن في الأرض يخرج القليل من مسامها وينقلب (2/596)
الكثير بمعونة البرد ماء ويشفها ومنه العيون إذا كان البخار كثيرا فحصل المدد بعد المدد كأن الفائض يحدث الثاني ضرورة امتناع الخلاء
وأيضا فالبخار والدخان اللذان في الأرض قد يكثران ويريدان الخروج منها ومسامها متكاثفة فيزلزلانها بحركتيهما ومنه تتكون الزلازل وقد يخرج البخار والدخان وقد صار نارا لشدة الحركة وأيضا فيحدث في الأرض قوة كبريتية وفي الهواء رطوبة يختلط بخار الكبريت بأجزاء الهواء الرطب فيفيد مزاجا فيصير دهنا وربما يشتعل بأنوار الكواكب وبغيرها
ملخص ما ذكرناه كله آراء الفلاسفة حيث نفوا القادر المختار فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعداد واختلاف آثارها إلى صورها المتباينة وأمزجتها وكل ذلك إلى حركات الأفلاك وأوضاعها
وأما المتكلمون فقالوا الأجسام متجانسة بالذات لتركبها من الجواهر الأفراد وأنها متماثلة لا اختلاف فيها وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الأعراض بفعل القادر المختار هذا ما قد أجمعوا عليه إلا النظام فإنه يجعل الأجسام نفس الأعراض والأعراض مختلفة بالحقيقة فتكون الأجسام كذلك
القسم الخامس من الأقسام الخمسة التي ينطوي عليها الفصل الثاني من فصول المرصد الأول من موقف الجواهر فلا يستعبد ورود الخامس عقيب الثالث في المركبات التي لا مزاج لها
إعلم أن حر الشمس وغيرها يصعد إلى الجو أجزاء إما هوائية (2/597)
ومائية مختلطتين وهو البخار وصعوده ثقيل وإما نارية وأرضية وهو الدخان وصعوده خفيف وليس ينحصر الدخان كما تعورف في الجسم الأسود الذي يرتفع مما يحترق بالنار وقلما يصعد البخار والدخان ساذجا بل يتصاعدان في الأغلب ممتزجين ومنهما يتكون جميع الآثار العلوية أما البخار فإن قل واشتد الحر في الهواء حلل الأجزاء المائية وقلبها إلى الهوائية وبقي الهواء الصرف وإلا أي وإن لم يكن الأمر كذلك بل كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فإن وصل ذلك البخار بصعوده إلى الطبقة الزمهريرية التي هي الهواء البارد كما عرفت عقده ببرده وتكاثف فصار سحابا وتقاطرت الأجزاء المائية إما بلا جمود إذا لم يكن البرد شديدا وهو المطر وإما مع جمود إذا كان البرد شديدا فإن كان الجمود قبل الاجتماع والتقاطر وصيرورته حباب كبارا فهو الثلج وإن كان الجمود بعده فهو البرد وإنما يستدير ويصير كالكرة بالحركة السريعة الخارقة للهواء بمصادمته فتنمحي الزوايا عن جوانب القطرات المنجمدة وإن لم يصل البخار بالتصاعد إلى الزمهريرية فإما أن يكون كثيرا أو قليلا فالكثيرة قد تنعقد سحابا ماطرا كما حكى ابن سينا أنه شاهد البخار قد صعد من أسافل بعض الجبال صعودا يسيرا وتكاثف حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة فكان هو فوق تلك الغمامة في الشمس وكان من تحتها من أهل القرية التي كانت هناك يمطرون وقد لا ينعقد فهو أي هذا البخار الكثير المتكاثف الذي لم ينعقد سحابا ماطرا الضباب المجاور لوجه الأرض وأما قليله أي قليل البخار الذي لم يصل إلى تلك الطبقة فإنه قد يتكاثف ببرد الليل فينزل نزولا ثقيلا في أجزاء صغار لا يحس بنزولها إلا عند اجتماع شيء يعتد به أما بلا جمود بعد النزول وهو الطل أو معه وهو الصقيع ونسبته إلى الطل كنسبة الثلج إلى المطر وقد (2/598)
يتكون السحاب من إنقباض الهواء بالبرد الشديد فيحصل حينئذ منه الأقسام المذكورة
قال الإمام الرازي أن تكون هذه الأشياء في الأكثر من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء وأما الدخان فربما يخالط السحاب بأن ترفع أبخرة وأدخنة كثيرة مختلطة إلى الطبقة الزمهريرية فيتكاثف البخار وينعقد سحابا فينحبس ذلك الدخان في جوف السحاب فيخرقه إما في صعوده بالطبع لبقائه على حرارته المقتضية لتصعيده أو عند هبوطه للتكاثف أي لتكاثفه بالبرد الشديد الواصل إليه فيحدث من خرقه له أي خرق الدخان وتمزيقه للسحاب صاعدا أو هابطا ومصاكته إياه صوت هو الرعد وقد يشتعل الدخان بقوة التسخين وذلك لأنه شيء لطيف وفيه مائية وأرضية عمل فيهما الحرارة والحركة والخلخلة المازجة عملا قرب مزاجه من الدهنية فصار بحيث يشتعل بأدنى سبب مشتعل فكيف لا يشتعل بالتسخين القوي الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ إلى أن يصل إلى الأرض وهو الصاعقة وإذا وصل إليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه ويذيب الأجسام المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا وألا يحرقها إلا ما احترق من الذوب وقد أخبرنا أهل التواتر بأن الصاعقة وقعت بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله بن خفيف قدس سرة فأذاب قنديلا فيها ولم يحرق شيئا منها وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء (2/599)
أصابه وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا ويحكى أن صبيا كان في صحراء فأصاب ساقيه صاعقة فسقط رجلاه ولم يخرج منه دم لحصول الكي بحرارتها وأنه أعني الدخان قد يصل إلى كرة النار وذلك لأنه أجزاء أرضية يابسة جدا فيحفظ الحرارة التي يصعدها بخلاف البخار فيحترق الدخان حينئذ كالشمعة التي تطفأ ويحاذى بها من تحت شمعة مشتعلة فيشتعل الدخان الواصل إلى الشمعة الفوقانية وتتصل النار التي وقعت في ذلك الدخان بالشمعة السفلانية فتشتعل بهذه النار فما كان منه أي من الدخان لطيفا صار مشتعلا ونفذ فيه النار بسرعة فيرى ذلك المشتعل كأنه كوكب ينقض وهو الشهاب وما كان منه كثيفا لا في الغاية تعلق به النار تعلقا تاما من غير اشتعال بل ثبت فيه الاحتراق ودام متصلا لا ينطفئ أياما وشهورا ويكون على صورة ذؤابة أو ذنب أو رمح أو حيوان له قرون كما أشار إليه بقوله وهو الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون وما كان من البخار غليظا أي كثيفا جدا تعلق به النار تعلقا ما لا تعلقا تاما فيحدث في الجو علامات سود أو حمر على حسب غلظ المادة فإذا كانت غليظة ظهرت الحمرة وإذا كانت أغلظ ظهر السواد وقد تقف الذؤابات ونحوها بجنب كوكب فيديرها الفلك معه مشايعة إياه فترى كأن لذلك الكوكب ذؤابة أو ذنبا أو قرنا واحدا أو أكثر من واحد وهذه الأقسام التي ذكرناها للدخان الواصل إلى كرة النار إذا اتصلت بالأرض أحرقت ما عليها وتسمى الحريق
وفي المباحث المشرقية إذا ارتفع بخار دخاني لزج دهني وتصاعد (2/600)
حتى وصل إلىحيز النار من غير أن ينقطع اتصاله عن الأرض اشتعلت النار فيه نازلة فيرى كأن تنينا ينزل من السماء إلى الأرض فإذا وصلت إلى الأرض أحرقت تلك المادة بالكلية وما يقرب منها وسبيل ذلك سبيل السراج المطفى إذا وضع تحت السراج المشتعل فاتصل الدخان من الأول إلى الثاني فانحدر اللهب إلى فتيلته وأيضا نقول فالدخان قد ينكسر حره عند الوصول إلى الكرة الزمهريرية فيثقل فيرجع بطبعها إلى الأرض أو لا ينكسر وحينئذ يصعد ويصادم كرة النار لا الفلك على ما وقع في النسخ لأن نفوذه في النار البسيطة العالية على الإحالة إلى طبيعتها غير معقول بحسب الظاهر فيرجع ويرتد بمصادمته كرة النار المتحركة بحركة الفلك رجوعا على جهات مختلفة كما يرد بعصا دائرة سهام على جهات شتى وعلى التقديرين فيتموج الهواء ويضطرب وهو الريح
قيل قد وقع في كلام أرسطو أن الريح يحد بأنه متحرك وهو هواء لا بأنه هواء متحرك
قال الإمام الرازي والذي يمكن أن يقال فيه أن الهواء مادة الريح وموضعها فلا يجوز وضعها موضع الجنس ولذلك الذي ذكرناه من حال الدخان في توليد الريح كان أكثر مبادي الرياح فوقانية كما تشهد به التجربة والريح كما يحدث بهذا الطريق في الأغلب فقد يحدث أيضا بأن يتخلخل الهواء فيندفع عن مكانه بواسطة عظم مقداره فيدافع ما يجاوره فيطاوعه ويدافع ذلك المجاور أيضا مجاوره فيتموج الهواء (2/601)
وتضعف تلك المدافعة شيئا فشيئا إلى غاية ما فيقف وقد يحدث رياح مختلفة الجهة دفعة فتدافع تلك الرياح الأجزاء الأرضية فتنضغط الأجزاء الأرضية بينها مرتفعة كأنها تلتوي على نفسها وهي الزوابع جمع زوبعة وهي الريح المستديرة على نفسها والإعصار المسمى في الفارسية بكرد باد هذا وقد قيل بين الريح والمطر تمانع وتعاون أما التمانع فلأن الريح في الأكثر تلطف مادة السحاب بحرارتها وتفرقها بتحريكها والمطر يبل الأدخنة ويصل بعضها ببعض فيثقل حينئذ ولا يتمكن من الصعود فكل سنة يكثر فيها المطر تقل فيها الريح وبالعكس وأما التعاون فلأن المطر يبل الأرض فيعيدها لأن يصعد منها دخان إذ الرطوبة تعين على تحلل اليابس وتصعده والريح تجمع السحاب وتهرب برودة السحاب إلى باطنه فيشتد البرد المكثف وأما مهاب الرياح فغير منحصرة حقيقة في عدد إلا أنهم جعلوا أصولها أربعة هي نقط المشرق والمغرب والشمال والجنوب والعرب تسمى الرياح التي تهب منها بالقبول والدبور والشمال والجنوب وتسمى التي تهب مما بينها نكباء وأيضا نقول فقد يحدث في الجو أجزاء رطبة رشية صقيلة كدائرة تحيط تلك الأجزاء بغيم رقيق لطيف لا يحجب ما وراءه عن الإبصار فينعكس منها أي من تلك الأجزاء الواقعة على ذلك الوضع ضوء البصر لصقالتها إلى القمر فيرى في تلك الأجزاء ضوؤه دون شكله فإن الصقيل الذي ينعكس منه شعاع البصر إذا صغر جدا بحيث لا ينقسم في الحس أدى الضوء واللون دون الشكل والتخطيط كما في المرآة الصغيرة وتلك الأجزاء الرشية مرايا صغار متراصة على هيئة الدائرة فيرى جميع تلك الدائرة كأنها منورة بنور ضعيف وتسمى الهالة وإنما لا يرى الجزء الذي يقابل القمر من ذلك الغيم لأن قوة الشعاع تخفي حجم السحاب الذي لا يستره فلا يرى فيه خيال القمر كيف والشيء إنما يرى على الاستقامة نفسه لا شبحه بخلاف أجزائه التي لا تقابله فإنها تؤدي خيال ضوئه كما عرفت قبل وأكثر ما تتولد الهالة عند عدم الريح فإن تمزقت من جميع الجهات دلت على الصحو وإن سخن السحاب حتى بطلت دلت على المطر لأن الأجزاء المائية قد كثرت وإن انحرفت من جهة دلت على (2/602)
ريح تأتي من تلك الجهة وإذا اتفق أن توجد سحابتان على الصفة المذكورة إحداهما تحت الأخرى حدثت هناك هالة تحت هالة وتكون التحتانية أعظم لأنها أقرب إلينا وزعم بعضهم أنه رأى سبع هالات معا واعلم أن هالة الشمس وتسمى الطفاوة بضم الطاء نادرة جدا لأن الشمس تحلل السحب الرقيقة ومع ذلك فقد زعم ابن سينا أنه رأى حول الشمس هالة تامة في ألوان قوس قزح ورأى بعد ذلك هالة فيها قوسية قليلة وإنما تنفرج هالة الشمس إذ كثف السحاب وأظلم وحكى أيضا أنه رأى حول القمر هالة قوسية اللون لأن السحاب كان غليظا فتقوس في أجزاء الضوء وعرض ما يعرض للقوس وقد يحدث مثل ذلك الذي ذكرناه من الأجزاء الرشية الصقيلة على هيئة الاستدارة في خلاف جهة الشمس وهو قوس قزح وتفصيله أنه إذا وجد في خلاف جهة الشمس أجزاء رشية لطيفة صافية على تلك الهيئة وكان وراءها جسم كثيف إما جبل أو سحاب كدر وكانت الشمس قريبة من الأفق فإذا أدبر على الشمس ونظر إلى تلك الأجزاء انعكس شعاع البصر عنها إلى الشمس ولما كانت صغيرة جدا لم يؤد الشكل بل اللون الذي يكون مركبا من ضوء الشمس ولون المرآة وتختلف ألوانها أي ألوان قوس قزح بحسب اختلاف أجزاء السحاب في ألوانها وبحسب ألوان ما وراءها من الجبار و أوان ما ينعكس منها الضوء من الأجرام الكثيفة ورأيت بعض فضلاء زماننا ممن له في علم المناظر كسب عال وهو المولى الفاضل كمال الملة والدين الحسن الفارسي برد الله (2/603)
مضجعه يدعي بطلان ذلك الذي ذكرناه من أسباب الهالة وقوس قزح لكنه أي ما ذكرناه فيها رأي الجمهور قد ذكرناه متابعة لهم وفي المباحث المشرقية زعم بعضهم أن السبب في حدوث أمثال هذه الحوادث اتصالات فلكية وقوى روحانية اقتضت وجودها وحينئذ لا تكون من قبيل الخيالات وهو أن يرى صورة شيء مع صورة شيء آخر مظهر له كالمرآة فيظن أن الصورة الأولى حاصلة في الشيء الثاني ولا يكون فيه بحسب نفس الأمر
قال الإمام الرازي وهذا الذي ذكره لا ينافي ما ذكرناه فإن الصحة والمرض قد يستندان إلى أسباب عنصرية تارة وإلى اتصالات فلكيه وتأثيرات نفسانية أخرى لكن هذا الوجه يؤيده أن أصحاب التحارب شهدوا بأن أمثال هذه الحوادث في الجو تدل على حدوث حوادث في الأرض فلولا أنها موجودات مستندة إلى تلك الاتصالات والأوضاع لم يستمر هذا الاستدلال وأيضا نقول فالبخار المحتقن في الأرض يخرج القليل من مسامها وينقلب الكثير بمعونة البرد الذي في باطن الأرض ماء ويشفها فيخرج منها ومنه العيون السيالة إذا كان البخار كثيرا فحصل المدد بعد المدد كان الفائض يحدث الثاني ضرورة امتناع الخلاء فإن البخار الذي انقلب ماء وفاض إلى وجه الأرض وجب أن ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه لئلا يكون خلاء فينقلب هو أيضا ماء ويفيض وهكذا يستنبع كل جزء منه جزءا آخر
قال الإمام الرازي ومياه العيون الراكدة تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولكن لم تبلغ من كثرة مددها وقوتها أن يطرد تاليها سابقها وهذا الكلام ينافي ما ذكره المصنف من التعليل بامتناع (2/604)
الخلاء ويقتضي أن يعلل السيلان بكثرة الأبخرة المقتضية للاندفاع إلى فوق والركود بقلتها فتأمل
قال ومياه القنى والآبار متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض فإذا أزيل ثقل الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة فإن لم يحصل هناك مسيل فهو البئر وإن حصل فهو القناة ونسبة القنى إلى الآبار كنسبة العيون السيالة إلى الراكدة واعلم أن النزح من الآبار والعيون الراكدة سبب لنبوع الماء فيها لأن ثقل الماء الظاهر يمنع سائر الأبخرة عن الظهور فإذا نزح قويت تلك الأبخرة واندفعت إلى خارج وقد اختلفوا في أن هذه المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار وأيضا نقول فالبخار والدخان اللذان في الأرض قد يكثران ويزيدان الخروج منها بقوة ومسامها متكاثفة فيزلزلانها بحركتيهما ومنه تتكون الزلازل وإذا كانا قليلين أو كان مسامها مفتوحة لم يكن زلزلة ولذلك قلت الزلازل في الأراضي الرخوة وإذا كثرت الآبار والقنى في أرض صلبة قلت زلزلتها وقد يخرج البخار والدخان الممتزجان امتزاجا مقربا إلى الدهنية وقد صار نارا لشدة الحركة المقتضية للاشتعال والانقلاب إلى النارية وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة ثم إن وقع هذا الشق في بلدة جعل عاليها سافلها وربما كان في موضع الانشقاق وهدأت فيسقط ما فوق الأرض في تلك الوهدات قليلا ما تتزلزل الأرض بسقوط تلك الجبال عليها بتواتر المطر وشدته وأيضا نقول فيحدث في الأرض قوة كبريتية وفي الهواء رطوبة يختلط بخار الكبريت بأجزاء الهواء الرطب فيفيد مزاجا فيصير دهنا أي في طبيعة الدهن وربما يشتعل بأنوار الكواكب وبغيرها فيرى بالليل في ذلك الموضع شعلة مضيئة غير محترقة إحتراقا يعتد به وذلك للطفها
ملخص بعبارة جامعة وافية ما ذكرناه في الفصل الثاني أو في (2/605)
المرصد الأول كله آراء الفلاسفة حيث نفوا القادر المختار كما سبقت إليه الإشارة في إسناده الكلام مرة بعد أخرى فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعدادها في موادها يقتضي اختلاف الصور الحالة فيها وأحالوا اختلاف آثارها إلى صورها المتباينة وأمزجتها المتخالفة وأحالوا كل ذلك في الأجسام العنصرية وأسندوه بالآخرة إلى حركات الأفلاك وأوضاعها وأما المتكلمون فقالوا الأجسام متجانسة بالذات أي متوافقة الحقيقة لتركبها من الجواهر الأفراد وأنها متماثلة لا اختلاف فيها وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الأعراض بفعل القادر المختار فالأجسام على رأيهم متوافقة في الحقيقة متخالفة بالأمور الخارجية عن ذواتها هذا ما قد أجمعوا عليه إلا النظام فإنه يجعل الأجسام نفس الأعراض الملتئمة منها الأجسام والأعراض التي تركب منها الجسم مختلفة بالحقيقة قطعا فتكون الأجسام أيضا كذلك أي مختلفة بالحقيقة وقد سبق في المقصد الثاني من الفصل الأول من هذا المرصد أنه لا محيص لمن يذهب إلى تجانس الجواهر الأفراد من جعل الأعراض داخلة في حقيقة الجسم وهو مبني على أن الأجسام متخالفة الحقائق بالضرورة فيكون منافيا لما قد أجمعوا عليه من تماثلها في الحقيقة وتخالفها بالأمور الخارجة الحالة فيها (2/606)
المرصد الثاني في عوارض الأجسام
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في أن الأجسام محدثة إنها إما أن تكون محدثة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها محدثة بصفاتها أو بالعكس فهذه أربعة أقسام ثم إما أن تقول بواحد منها أو لا تقول فهذه خمسة احتمالات
الأول أنها محدثة بذواتها وصفاتها وهو الحق وبه قال المليون من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس
الثاني أنها قديمة بذواتها وصفاتها وإليه ذهب أرسطو ومن تبعه من متأخري الفلاسفة وتفصيل مذهبهم أنهم قالوا الأجسام تنقسم كما علمت إلى فلكيات وعنصريات أما الفلكيات فإنها قديمة بموادها وصورها وأعراضها إلا الحركات والأوضاع المشخصة فإنها حادثة وأما العنصريات (2/607)
فقديمة بموادها وبصورها الجسمية بنوعها وبصورها النوعية بجنسها نعم الصور المشخصة فيهما والأعراض المختصة محدثة ولا امتناع في حدوث بعض الصور النوعية
الثالث قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وهو قول من تقدم أرسطو من الحكماء وهؤلاء قد اختلفوا في تلك الذوات فمنهم من قال إنه جسم واختلف في ذلك الجسم أي الأجسام هو ففي التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة ونظر إليها نظر الهيبة فذابت فحصل البخار ومن زبدها الأرض ومن دخانها السماء وقيل الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف وقيل النار وحصلت البواقي بالتكثيف وقيل البخار وحصلت العناصر بالتلطيف وبالتكثيف وقيل الخليط من كل شيء لحم وخبز وغير ذلك فإذا اجتمع من جنس منها شيء له قدر محسوس ظن أنه قد حدث ولم يحدث إنما تحدث الصورة التي أوجبها الاجتماع
ومنهم من قال إنه ليس بجسم واختلف فيما هو فقالت الثنوية النور والظلمة والحرنانيون النفس والهيولى عشقت النفس بالهيولى لتوقف كمالاتها عليها فحصل من اختلاطهما أنواع المكونات
وقيل هي الوحدة فإنها تجزأت فصارت نقطا واجتمعت النقط خطا والخطوط سطحا والسطوح جسما
الرابع إنها حادثة بذواتها قديمة بذواتها وهذا لم يقل به أحد لأنه ضروري البطلان (2/608)
الخامس التوقف في الكل وهو مذهب جالينوس لنا في حدوث الأجسام مسالك
المسلك الأول وهو المشهور الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأما المقدمة الأولى فلوجهين
الأول إن الأجسام لا تخلو عن الأعراض لما مر وإذ لا توجد بدون التمايز وقد بينا أن التمايز بالأعراض ثم الأعراض حادثة لأنها لا تبقى زمانين وقد مر بيانهما
الثاني الجسم لا يخلو عن الحركة السكون وهما حادثان إنما قلنا إن الجسم لا يخلو عنهما لأنه لا يخلو عن الكون في حيز فإن كان مسبوقا بالكون في ذلك الحيز فهو ساكن وإلا فهو متحرك لا يقال منقوض بالجسم في أول حدوثه لأنا نقول الكلام في الجسم الباقي وإنما قلنا إن الحركة حادثة لوجوه
الأول ماهية الحركة هي المسبوقية بالغير وماهية الأزلية عدم المسبوقية بالغير وبينهما منافاة بالذات فلا تكون الحركة أزلية وذلك معنى الحادث
الثاني الماهية لا توجد إلا في ضمن الجزئيات ولا شك أن شيئا من جزئيات الحركة لا يوجد في الأزل فلا توجد ماهيتها فيه
الثالث كل حركة من الحركات الجزئية مسبوقة بعدم أزلي فتجتمع العدمات في الأزل وحينئذ فلا يوجد في الأزل حركة وإلا جامعت عدمها هذا خلف وقد يذكر ههنا وجوه أخر مآلها إلى ما ذكرنا وإنما تختلف العبارة فتركناها
الرابع طريقة التطبيق وقد عرفتها وتقريرها ههنا أن نفرض من (2/609)
حركة ما إلى ما لا بداية له جملة وحركة قبلها بمقدار متناه جملة أخرى ثم نطبق الجملتين الجزء الأول بالأول والثاني بالثاني لا إلى نهايته فإن كان بإزاء كل من أجزاء الجملة الزائدة جزء من أجزاء الجملة الناقصة كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره هذا خلف وإلا وجد في أجزاء الزائدة ما لا يوجد بإزائه من الناقصة جزء فتنقطع الناقصة ضرورة فتكون متناهية والزائدة إنما تزيد عليها بمتناه والزائد على المتناهي متناه فتكون الزائدة أيضا متناهية فيلزم تناهيهما وهو خلاف المفروض وقد عرفت الكلام عليه في إبطال التسلسل سؤالا وجوابا فلا نعيده
الخامس طريقة التضايف وتقريرها هنا أن الحركات تتألف من أجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ولنجعلها أياما مثلا فلو كانت تلك الأيام غير متناهية أمكن لنا أن نجعل من يوم ما وهو اليوم الذي نحن فيه جزءا أخيرا فنقول هذا الجزء في هذه السلسلة مسبوق وليس بسابق وكل جزء من أجزائها الأخر سابق ومسبوق بحسب الفرض فكل سابق مسبوق من غير عكس كلي كالأخير المذكور فيكون عدد المسبوق أزيد من عدد السابق بواحد وانه محال لأنهما متضايفان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد وأن يكون بإزاء كل واحد واحد
وإنما قلنا السكون حادث لأنه لو كان قديما لامتنع زواله واللازم باطل أما الملازمة فلأنه وجودي لما تقدم وكل وجودي قديم يمتنع زواله لأنه إن كان واجبا فظاهر وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب لما سيأتي ولا يكون ذلك الواجب مختارا لما مر أن القديم لا يستند إلى المختار بل موجبا فإن لم يتوقف تأثيره على شرط أصلا لزم من عدمه عدم الواجب وإن توقف فلا يكون ذلك الشرط حادثا وإلا لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث بل قديما ويعود الكلام فيه ويلزم الانتهاء إلى (2/610)
ما يجب صدوره عن الواجب بغير شرط دفعا للتسلسل فلو عدم عدم الواجب هذا خلف وأما بطلان اللازم فبالاتفاق والدليل أما الاتفاق فلأن الأجسام عند الحكماء منحصرة في الفلكيات وحركاتها واجبة وفي العنصريات وحركاتها جائزة فلا شيء من الأجسام يمتنع عليه الحركة وأما الدليل فلأن الأجسام متساوية فيصح على كل من الحيز ما صح على الآخر وما ذلك إلا بخروجه من حيزه أو نقول الأجسام إما بسيطة ويجوز على كل جزء منه ما يصح على الآخر فيصح أن يماس بيساره ما يماسه بيمينه وبالعكس وما هو إلا بالحركة وإما مركبة من البسائط فيصح على بسائطها أن يماسها الآخر وما هو إلا بالحركة
وبالجملة فنعلم بالضرورة أن مقولة الوضع غير واجبة للبسائط فكذا للمركبات وأنه ما من جسم إلا ويمكن للقادر المختار أن يغير وضعه فيجعل يمينه يساره وبالعكس وإنكاره مكابرة
المسلك الثاني وهو لبعض المتأخرين كالاختصار للمسلك الأول أنه لو وجد جسم قديم لزم إما كون قديم وإما أن يكون قبل كل كون كون لا إلى نهاية والتالي باطل بقسميه أما الملازمة فلأنه لا بد للجسم من كون فإن وجد له كون غير مسبوق بآخر لزم القسم الأول وإلا لزم القسم الثاني إذ على ذلك التقدير لو وجد كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون وأما بطلان التالي فأما القسم الأول فبمثل ما بينا به حدوث السكون وأما القسم الثاني فبالتطبيق وطريقة التضايف وغيرهما ولا يخفى عليك أن في هذا المسلك طرحا لمؤنات كثيرة من بيان كون السكون وجوديا فإن الكون لا شك في أنه وجودي ومن بيان أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فإن لقائل أن يقول هو في الأزل لا متحرك ولا ساكن لأن كل منهما يقتضي المسبوقية بالغير ومن سقوط قولهم السابقية والمسبوقية في (2/611)
الحركة بالفرض إذ لا أجزاء لها إلا بالوهم وفي الخارج هو كون واحد مستمر
المسلك الثالث للإمام الرازي وهو أيضا مأخوذ من المسلك الأول والمؤنات بحالها وتقريره أنه لو وجد جسم قديم لكان في الأزل إما متحركا أو ساكنا والتالي باطل بقسميه وأنت بمعرفة بيانه بعدما قررناه في المسلكين السابقين خبير
المسلك الرابع له أيضا كل جسم ممكن لأنه مركب وكثير وسيأتي أن الواجب واحد وغير مركب وكل ممكن هو موجد فله موجد ولا يتصور إلا عن عدم وهو مبني على ما ذكرنا في مباحث القدم من أنه لا يجوز استناد القديم إلى السبب الموجب ونبهناك على مأخذه فتذكره
المسلك الخامس الأجسام فعل الفاعل المختار لما سيأتي في الصفات فتكون حادثة لما بينا أن القديم لا يستند إلى المختار وهذان الوجهان يثبتان حدوث العالم من الأجسام والمجردات وصفاتهما بخلاف الأولين فإنهما لا يعطيان إلا حدوث الأجسام ويحتاج في تعميمها إلى نفي المجردات
المسلك السادس الجسم يقوم به الحادث وهو ضروري لما نشاهده من الحركات وتجدد الأعراض ولا شيء من القديم كذلك لما سنبرهن عليه في الإلهيات احتج الخصم بشبه (2/612)
الأولى المادة القديمة وإلا احتاجت إلى مادة أخرى وتسلسل وأنها لا تخلو عن الصورة لما تقدم فيلزم قدم الجسم
والجواب منع تركب الجسم من المادة والصورة ولا نسلم كون المادة قديمة فإنه يثبت بوجوب اختلاف الاستعداد وأنه فرع الإيجاب بالذات وسنبطله ولا نسلم أنها لا تخلو عن الصورة وقد مر ضعف دليله
الثانية الزمان قديم وإلا كان عدمه قبل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق المسبوق وهو الزماني فيكون الزمان موجودا حين ما فرض معدوما هذا خلف والجواب منع أن التقدم بالزمان وإن سلم فليس بالزمان بل هو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض
الثالثة وهي العمدة فاعلية الفاعل للعالم قديمة ويلزم منه قدم العالم بيانه لو كانت حادثة لتوقفت على شرط حادث وإلا لزم الترجيح بلا مرجح والكلام في ذلك الشرط كما في الأول ويلزم التسلسل وقد ذكر في الجواب عنه وجوه والذي يصلح للتعويل عليه وجهان
الأول النقض بالحادث اليومي لا يقال إنه يستند إلى الحوادث الفلكية وكل منهما مسبوق بآخر لا إلى نهاية لأنا نقول إبداء الفارق لا يدفع النقض وأيضا فنقول فلم لا يجوز أن يكون حدوث العالم مشروطا بشرط مسبوق بآخر لا إلى نهاية
فإن قيل ذلك إنما يتصور فيما له مادة وما سوى العالم ليس له مادة
قلنا لا نسلم ذلك إذا قد تكون تصورات متعاقبة لأمر مجرد كل سابق منها شرط للاحق إلى أن تنتهي إلى ما هو شرط لحدوث العالم إلا أن يقال لكل حادث مادة فيكون هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى وقد أجبنا عنها (2/613)
الثاني أن ترجيح الفاعل المختار عندنا لأحد مقدورية إنما هو بمجرد الإرادة ولا حاجة فيه إلى مرجح ينضم إليه كما تقدم تحقيقه في مثال طريقي الهارب من السبع وقدحي العطشان
الرابعة صحة العالم لا أول لها وإلا لزم الانقلاب من الإمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأنه يرفع الأمان عن البديهيات وكذلك صحة تأثير الباري فيه فيجب أن يجزم بإمكان وجود العالم في الأزل وهو يبطل دلائلهم ثم نقول ترك الجود زمانا غير متناه لا يليق بالجواد المطلق
والجواب أنه خطابي ثم أنه لا يلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية كفي الحادث بشرط كونه حادثا
الشرح
المرصد الثاني في عوارض الأجسام وأحوالها وفيه مقاصد ثمانية
المقصد الأول في أن الأجسام محدثة وضبط الكلام في هذا المقام أن يقال إنها إما أن تكون محدثة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها محدثة بصفاتها أو بالعكس فهذه أربعة أقسام مقيسة إلى نفس الأمر ثم إما أن نقول بواحد منها أو لا نقول بل نتردد ونتوقف فهذه خمسة احتمالات
الأول إنها محدثة بذاتها الجوهرية وصفاتها العرضية وهو الحق وبه قال المليون كلهم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس
الثاني أنها قديمة بذواتها وصفاتها وإليه ذهب أرسطو ومن تبعه من (2/614)
متأخري الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وتفصيل مذهبهم أنهم قالوا الأجسام تنقسم كما علمت إلى فلكيات وعنصريات أما الفلكيات فإنها قديمة بموادها وصورها الجسمية والنوعية وأعراضها المعينة من المقادير والأشكال وغيرها إلا الحركات والأوضاع المشخصة فإنها حادثة قطعا ضرورة أن كل حركة شخصية مسبوقة بأخرى لا إلى نهاية وكذا الأوضاع المعينة التابعة لها وأما مطلق الحركة والوضع فقديم أيضا لأن مذهبهم أن الأفلاك متحركة مستمرة من الأزل إلى الأبد بلا سكون أصلا وأما العنصريات فقديمة بموادها وبصورها الجسمية بنوعها وذلك لأن المادة لا تخلو عن الصورة الجسمية التي هي طبيعة واحدة نوعية لا تختلف إلا بأمور خارجة عن حقيقتها فيكون نوعها مستمر الوجود بتعاقب أفرادها أزلا وأبدا وبصورها النوعية بجنسها وذلك لأن مادتها لا يجوز خلوها عن صورها النوعية بأسرها بل لا بد أن يكون معها واحدة منها لكن هذه الصور متشاركة في جنسها دون ماهيتها النوعية فيكون جنسها مستمرا الوجود بتعاقب أنواعه نعم الصور المشخصة فيهما أي في الصورة الجسمية والنوعية والأعراض المختصة المتعينة محدثة ولا امتناع في حدوث بعض الصور النوعية العنصرية كأن يكون مثلا نوع الإنسان حادثا غير مستمر الوجود بتعاقب أفراده الشخصية إذ يجوز حصوله من عنصر آخر بطريق الكون والفساد ولا امتناع أيضا عندهم في استمراره كذلك ولا في استمرار أنواع المركبات في ضمن افرادها المتعاقبة بلا نهاية
الثالث إنها قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وهو قول من تقدم (2/615)
أرسطو من الحكماء وهؤلاء قد اختلفوا في تلك الذوات فمنهم من قال إنه جسم واختلف في ذلك الجسم أي الأجسام هو فقال تاليس الملطي إنه الماء الذي هو المبدع الأول ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما
قال صاحب الملل والنحل وكأنه أخذ مذهبه من الكتب الإلهية ففي التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ونظر إليها نظر الهيبة فذابت وصارت ماء فحصل البخار وظهر على وجهها بسبب الحركة زبد وارتفع منها دخان فحصل من زبدها الأرض ومن دخانها السماء وقيل الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف وقيل النار وحصلت البواقي بالتكثيف وقيل البخار وحصلت العناصر بعضها بالتلطيف وبعضها بالتكثيف وقيل الخليط من كل شيء لحم وخبز وغير ذلك فإذا اجتمع من جنس منها شيء له قدر محسوس ظن أنه قد حدث ولم يحدث إنما تحدث الصورة التي أوجبها الاجتماع وقد سبق كلام في هذه الاختلافات في بيان عدد العناصر
ومنهم من قال إنه ليس بجسم واختلف فيه ما هو فقالت الثنوية من المجوس النور والظلمة فإنهما قديمان وتولد العالم من امتزاجهما وقال الحرنانيون منهم القائلون بالقدماء الخمسة النفس والهيولى وقد عشقت النفس بالهيولى لتوقف كمالاتها الحسية والعقلية عليها فحصل من اختلاطهما أنواع المكونات وتعدية العشق بالباء لتضمين معنى اللصوق أو الولوع وإلا فهو متعد بنفسه (2/616)
وقيل هي الوحدة فإنها تجزأت فصارت الوحدات نقطا ذوات أوضاع واجتمعت النقط فصارت خطا واجتمعت الخطوط فصارت سطحا واجتمعت السطوح فصارت جسما
وقد يقال إن أكثر هذه الكلمات رموز وإشارات لا يفهم من ظواهرها مقاصدهم
الرابع إنها حادثة بذواتها قديمة بصفاتها وهذا لم يقل به أحد لأنه ضروري البطلان فجعله من الأقسام العقلية والاحتمالات بالنظر إلى بادئ الرأي
الخامس التوقف في الكل أراد به ما عدا الاحتمال الرابع إذ لا يتصور من عاقل أن يتردد ويتوقف فيه بل لا بد أن ينفيه ببديهته وهو مذهب جالينوس إذ يحكى عنه أنه قال في مرضه الذي توفي فيه لبعض تلامذته أكتب عني أني ما علمت أن العالم قديم أو محدث وأن النفس الناطقة هي المزاج أو غيره وقد طعن فيه أقرانه بذلك حين أراد من سلطان زمانه تلقيبه بالفيلسوف
إذا عرفت هذا فنقول لنا في حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها مسالك ستة
المسلك الأول وهو المشهور المبسوط في إثبات هذا المطلوب الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث بذاته وصفاته فالأجسام حادثة كذلك أما المقدمة الثانية فظاهرة لأن قدم ما لا يخلو عن الحوادث يستلزم قدم الحادث وفيه كلام سيرد عليك وأما المقدمة الأولى فلوجهين
الأول أن الأجسام لا تخلو عن الأعراض لما مر إشارة إلى ما عرف به أن الأجسام لا تخلو عن الأكوان والتأليف وما يتبعهما من الأعراض (2/617)
والأظهر أن يقال لما سيجئ أي في المقصد السادس من هذا المرصد وإذ لا توجد الأجسام بدون التمايز بينها لأن كل موجود لا بد أن يكون متميزا عن موجود آخر بالضرورة وقد بينا أن التمايز بين الأجسام إنما هو بالأعراض بناء على تماثل الجواهر الفردة التي تألفت الأجسام منها ثم الأعراض حادثة لأنها لا تبقى زمانين وكل ما هو كذلك فهو حادث وقد مر بيانهما أي بيان أن التمايز بين الأجسام لا يكون إلا بالأعراض وبيان أن الأعراض لا تبقى زمانين ولو اقتصر على ذكر بيان الثاني لكان أولى لقوله وقد بينا
الثاني من الوجهين أن يقال الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان فالجسم لا يخلو عن الحوادث إنما قلنا إن الجسم لا يخلو عنهما لأنه لا يخلو عن الكون في حيز بالضرورة فإن كان كونه في ذلك الحيز مسبوقا بالكون أي بكون آخر في ذلك الحيز فهو ساكن لأن السكون هو الكون الثاني في المكان الأول وإلا أي وإن لم يكن كونه في ذلك الحيز مسبوقا بالكون فيه فهو متحرك لا يقال دليلكم منقوض بالجسم في أول زمان حدوثه لجريانه فيه مع أنه ليس متحركا ولا ساكنا إذ لم يتصف حينئذ بكون ثان لا في المكان الأول ولا في المكان الثاني لأنا نقول الكلام في الجسم الباقي فيدعي أنه لا يخلو عن الحركة أو السكون لا في الجسم الحادث فلا نقض وإذا أورد هذا السؤال على طريق المناقضة كان منعا لا يضر المعلل إذ مقصوده حدوث الجسم وإنما قلنا إن الحركة حادثة لوجوه
الأول ماهية الحركة هي المسبوقة بالغير أي ماهيتها تقتضي (2/618)
المسبوقية لذاتها لأنها الانتقال من حال إلى حال أخرى بل نقول هي الكون الثاني في مكان آخر فتكون مسبوقة بالحالة الأولى والكون الأول وماهية الأزلية عدم المسبوقية بالغير وبينهما منافاة بالذات فلا تكون الحركة أزلية وذلك معنى الحادث
الثاني الماهية لا توجد إلا في ضمن الجزئيات لأن المطلق لا يتصور وجوده منفردا عن التعينات بأسرها ولا شك أن شيئا من جزئيات الحركة لا يوجد في الأزل لأن كل جزء منها منقسم إلى أجزاء لا يمكن اجتماعها فلا توجد إلا متعاقبة فلا توجد ماهيتها أيضا فيه أي في الأزل فماهيتها حادثة كجزئياتها
الثالث كل حركة من الحركات الجزئية مسبوقة بعدم أزلي فتجتمع العدمات أي عدمات جميع الحركات الجزئية في الأول وحينئذ فلا توجد في الأزل حركة أصلا وإلا جامعت تلك الحركة عدمها هذا خلف واعترض عليه بأن الأزل ليس وقتا محدودا وزمانا مخصوصا اجتمع فيه عدم الحركات كلها حتى إن وجد فيه شيء منها جامع عدمه فيلزم اجتماع النقيضين بل معنى كونها أزلية أن تلك العدمات لا بداية لها ولا ترتب بينها بخلاف وجوداتها فإن لها بداية وترتبا فليس يفرض شيء من أجزاء الأزل إلا وينقطع فيه شيء من تلك العدمات التي لا بداية لها بوجود من تلك الوجودات وليس لأجزاء الأزل انقطاع في جانب الماضي فإذا وجد في كل جزء منها حركة وانقطع فيه عدمها لم يكن هناك محذور إلا أن الوهم قاصر عن إدراك الأزل فيحسب أنه وقت معين اجتمع فيه وجود الحركة مع عدمها وقد يذكر ههنا لبيان حدوث الحركة وجوه أخر مآلها إلى ما ذكرنا وإنما تختلف العبارة دون المعنى فتركناها وذلك مثل ما قيل من (2/619)
أنه إن لم يوجد شيء من الحركات في الأزل كانت أفرادها كلها حادثة وإن وجد شيء منها فإن كان مسبوقا بالغير كان الأزلي مسبوقا بغيره وإن كان مسبوقا بغيره كان ذلك أول الحركات فيلزم تناهيها وما له أما إلى الوجه الثاني وهو أن جزئيات الحركة مع إذا كانت حادثة كانت ماهيتها كذلك وأما إلى الوجه الثالث واعلم أن الذاهبين إلى قدم الجسم لم يذهبوا إلى أنه موصوف بحركة جزئية أزلية بل قالوا إنه متصف بحركات متعاقبة لا نهاية لها وكل جزئي منها يوجد في جزء من الأزل على ما صورناه وهذا معنى قولهم ماهية الحركة قديمة وإن كان كل واحد من آحادها حادثا
قالوا وعدم خلوه عن مثل هذه الحوادث التي لا نهاية لأعدادها لا يستلزم حدوثه ولا كون الحادث قديما فلا بد لنا إبطال كلامهم عن بيان امتناع تسلسل الحوادث في المتعاقبة بلا نهاية حتى يتيسر لنا أن نقول الجسم لا يخلو عن حوادث متناهية وكل ما لا يخلو عن حوادث كذلك كان حادثا وإلا لزم قدم الحادث أو خلوه عن تلك الحوادث فلذلك قال
الرابع من وجوه حدوث الحركة وامتناع تعاقب أفرادها إلى غير النهاية طريقة التطبيق وقد عرفتها في مباحث إبطال التسلسل وتقريرها ههنا أن نقول لو تسلسلت الحركات معاقبة بلا نهاية كان لنا أن نفرض من حركة ما كدورة معينة مثلا إلى ما لا بداية له جملة واحدة ونفرض أيضا من حركة قبلها بمقدار متناه كعشر دورات مثلا جملة أخرى ثم نطبق الجملتين الجزء الأول من أحداهما بالأول من الأخرى والثاني بالثاني وهكذا لا إلى نهاية فإن كان بإزاء كل من أجزاء الجملة الزائدة جزء من أجزاء الجملة الناقصة كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره فيكون الزائد مساويا للناقص هذا خلف وإلا وجد في أجزاء الزائدة ما كان لا (2/620)
يوجد بإزائه من الناقصة جزء فتنقطع الناقصة ضرورة فتكون متناهية والزائدة إنما تزيد عليها بمتناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه بلا شبهة فتكون الزائدة أيضا متناهية فيلزم تناهيهما وهو خلاف المفروض أعني عدم تناهيهما في تلك الجهة فلو كانت الحركات غير متناهية كانت متناهية وما استلزم وجوده عدمه كان محالا قطعا وقد عرفت الكلام عليه أي على الاستدلال بالتطبيق في إبطال التسلسل سؤالا وجوابا فلا نعيده دفعا للإملال
الخامس من تلك الوجوه طريقة التضايف وقد عرفتها أيضا هناك وتقريرها هنا أن الحركات تتألف من أجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ولنجعلها أياما مثلا فلو كانت تلك الأيام غير متناهية أمكن لنا أن نجعل من يوم ما وهو اليوم الذي نحن فيه جزءا أخيرا فنقول هذا الجزء في هذه السلسلة التي لا تتناهى مسبوق أي موصوف بالمسبوقية وليس بسابق وكل جزء من أجزائها الأخر سابق ومسبوق بحسب الفرض إذ المفروض لا تناهي السلسلة مكتوبة فكل واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا إذ لو وجد فيها سابق غير موصوف بالمسبوقية لانقطعت السلسلة به وعلى هذا التقدير فكل سابق مسبوق من غير عكس كلي كالأخير المذكور فيكون عدد المسبوق أي المسبوقية أزيد من عدد السابق أي السابقية بواحد وأنه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد وأن يكون بإزاء كل واحد من أحدهما واحد من الآخر وأما تساوي عدد المشهورين فغير لازم كأب واحد له أبناء إلا أن يعتبر التغاير الاعتباري بحسب الوصف ولو كانت السلسلة متناهية كان هناك سابق ليس بمسبوق فيتكافأ الإضافيان وإنما قلنا السكون حادث لأنه لو كان قديما لامتنع زواله واللازم باطل أما (2/621)
الملازمة فلأنه وجودي لما تقدم في مباحث الأين من أن وجود الكون ضروري معلوم بمعاونة الحس وكذا أنواعه الأربعة لأن حاصلها عائد إلى الكون والمميزات أمور اعتبارية مثل كونه مسبوقا بكون آخر أو غير مسبوق وإمكان تخلل ثالث وعدمه وكل وجودي أي موجود قديم يمتنع زواله ومن ثمة قيل القدم ينافي العدم لأنه أي القديم إن كان واجبا بذاته فظاهر امتناع عدمه وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات لما سيأتي في إثبات الواجب تعالى ولا يكون ذلك الواجب الذي استند إليه الممكن القديم مختارا لما مر من أن القديم لا يستند إلى المختار بل يكون موجبا فإن لم يتوقف تأثيره أي تأثير الواجب في ذلك القديم على شرط أصلا بل كان ذاته كافيا في إيجاده لزم من عدمه عدم الواجب لأنه يلزم ذاته من حيث هي هي وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فيكون عدمه محالا وإن توقف تأثيره فيه على شرط فلا يكون ذلك الشرط حادثا وإلا لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث بل يكون ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام فيه وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بغير شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتبة الموجودة معا فلو عدم هذا الصادر المنتهي إليه عدم الواجب هذا خلف فإذا امتنع عدم هذا الشرط مع امتناع عدم الموجب الواجب امتنع عدم مشروطه أيضا وهكذا إلى القديم الذي كلامنا فيه وهو المطلوب وأما بطلان اللازم فبالاتفاق والدليل أما الاتفاق فلأن الأجسام عند الحكماء منحصرة في الفلكيات وحركتها واجبة عندهم وفي العنصريات وحركاتها جائزة فلا شيء من الأجسام يمتنع عليه (2/622)
الحركة وأما الدليل فلأن الأجسام متساوية في الماهية لتركبها من الجواهر الفردة المتماثلة كما عرفت فيصح على كل من الأجسام من الحيز ما صح على الآخر وما ذلك إلا بخروجه عن حيزه أو نقول الأجسام إما بسيطة ويجوز على كل جزء منه أي من البسيط ما يصح على الآخر فيصح أن يماس بيساره ما يماسه بيمينه وبالعكس وما هو إلا بالحركة وإما مركبة من البسائط فيصح على بسائطها أن يماسها الآخر وما هو إلا بالحركة
وبالجملة فنعلم بالضرورة أن مقولة الوضع غير واجبة للبسائط لأن أجزاءها متحدة في الماهية فيجوز تبدل أوضاعها نظرا إلى طبيعتها وكذا للمركبات لأن تبدل أوضاع البسائط التي فيها يستلزم تبدل أوضاعها ونعلم أيضا بالضرورة أنه ما من جسم إلا ويمكن للقادر المختار الذي خلقه أن يغير وضعه فيجعل يمينه يساره وبالعكس وإنكاره مكابرة لا يعتد بها
المسلك الثاني وهو لبعض المتأخرين كالاختصار للمسلك الأول أنه لو وجد جسم قديم لزم إما كون واحد قديم وإما أن يكون قبل كل كون كون آخر لا إلى نهاية والتالي باطل بقسميه أما الملازمة فلأنه لا بد للجسم من كون في حيز لكونه متحيزا بالذات فإن وجد له كون غير مسبوق بآخر أي بكون آخر لزم القسم الأول لأن ذلك الكون يجب أن يكون ثابتا للجسم القديم على الاستمرار فيكون قديما وإلا أي وإن لم (2/623)
يوجد له كون غير مسبوق بآخر لزم القسم الثاني لأن كل كون له فإنه مسبوق بكون آخر فوجب أن يكون قبل كل كون لا إلى نهاية إذ على ذلك التقدير الذي نحن فيه لو وجد كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون وأنت خبير بأن القسم الثاني لا يحتاج إلى هذا البيان لأنه إذا لم يوجد له كون غير مسبوق بآخر كان كل كون له مسبوقا بكون قبله لا إلى نهاية إنما المحتاج إلى البيان هو القسم الأول بأن يقال ذلك الكون الذي ليس مسبوقا بمثله يجب أن يكون مستمرا أزلا وإلا لزم خلو الجسم عن الكون نعم لو قيل إن وجد له كون قديم فهو القسم الأول وإلا فلا بد أن يكون قبل كل كون كون آخر إذ لو وجد له كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون لانتظم الكلام وأما بطلان التالي فأما القسم الأول وهو قدم الكون فبمثل ما بينا به حدوث السكون وأما القسم الثاني وهو تعاقب الأكوان إلى ما لا نهاية له فبالتطبيق وطريقة التضايف وغيرهما من أدلة بطلان التسلسل ولا يخفى عليك أن في هذا المسلك طرحا لمؤنات كثيرة كانت في المسلك الأول من بيان كون السكون وجوديا إذ قد اختلف فيه فذهب الحكماء إلى أنه عدم الحركة عما من شأنه الحركة فيجوز حينئذ زواله لأن إعدام الحوادث تزول بوجوداتها مع كونها أزلية فإن الكون الذي ذكر في هذا المسلك لا شك في أنه وجودي بلا خلاف ومن بيان أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فإن لقائل أن يقول هو في الأزل لا متحرك ولا ساكن لأن كلا منهما يقتضي المسبوقية بالغير فلا يصح اتصافه بشيء منهما في الأزل ومن سقوط قولهم السابقية والمسبوقية في الحركة بالفرض إذ لا أجزاء لها إلا بالوهم وفي الخارج هو أي الحركة كون واحد مستمر بين المبدأ والمنتهى لما مر من أن الحركة تطلق على الأمر الممتد ولا وجود له في الخارج بل يمتنع وجوده فيه (2/624)
وعلى الأمر المستمر الموجود الذي لا انقسام له في مأخذ الحركة وهو الذي يدعي أنه قديم لا المعنى الأول فتأمل
المسلك الثالث للإمام الرازي ذكره في المحصل ونسبه الآمدي إلى بعض المتأخرين من الأشاعرة وهو أيضا مأخوذ من المسلك الأول والمؤنات التي كانت فيه باقية ههنا بحالها سوى قليل منها كما لا يخفى وتقريره أنه لو وجد جسم قديم لكان في الأزل إما متحركا أو ساكنا والتالي باطل بقسميه وأنت بمعرفة بيانه بعد ما قررناه في المسلكين السابقين خبير فلا نشتغل به حذفا للمؤنة
المسلك الرابع له أيضا كل جسم ممكن لأنه مركب إما من الجواهر الفردة أو الهيولى والصورة وكثير أي وتشاركه في ماهيته أمور متعددة وسيأتي في الإلهيات أن الواجب الوجود واحد لا شريك له في حقيقته وغير مركب فلا يكون الجسم واجبا بل ممكنا وكل ممكن هو موجد فله موجد ولا يتصور الإيجاد إلا عن عدم وهو مبني على ما ذكرنا في مباحث القدم من أنه لا يجوز الإمام الرازي استناد القديم إلى السبب الموجب كما لم يجوزوا استناده إلى المختار وقد نبهناك على مأخذه فتذكره
المسلك الخامس الأجسام فعل الفاعل المختار لما سيأتي في الصفات أي في صفاته تعالى فتكون الأجسام حادثة لما بينا أن القديم لا يستند إلى المختار وهذان الوجهان أي الرابع والخامس يثبتان حدوث العالم كله من الأجسام والمجردات وصفاتهما بخلاف الأولين فإنهما لا (2/625)
يعطيان إلا حدوث الأجسام وصفاتها ويحتاج في تعميمها إلى نفي المجردات ولم يتعرض للمسلك الثالث لأنه جعله عين الأول لبقاء المؤنات وأما السادس فهو في حكم الأولين بلا اشتباه
المسلك السادس الجسم يقوم به الحادث وهو ضروري لما نشاهده من حدوث الحركات القائمة به وتجدد الأعراض الحالة فيه كالأضواء والألوان والأشكال وغيرها ولا شيء من القديم كذلك لما سنبرهن عليه في الإلهيات من أن القديم لا يكون محلا للحوادث
إحتج الخصم على القدم بشبه أربع
الأولى وهي مستخرجة من العلة المادية أن يقال المادة قديمة وإلا احتاجت إلى مادة أخرى لما عرفت من أن كل حادث مسبوق بالمادة وتسلسل أي لزم التسلسل في المواد وإنها أي المادة لا تخلو عن الصورة الجسمية والنوعية أيضا لما تقدم فيلزم قدم الجسم لكون أجزائه بأسرها قديمة
والجواب منع تركب الجسم من المادة والصورة وإن سلمنا ذلك لا نسلم كون المادة قديمة فإنه أي كونها قديمة يثبت بوجوب اختلاف الاستعداد المقرب إلى وجود الحوادث كما سلف وأنه فرع الإيجاب بالذات وسنبطله بإثبات قدرة الصانع في الموقف الخامس ولا نسلم أيضا أنها لا تخلو عن الصورة وقد مر ضعف دليله
الشبهة الثانية وقد نسبها الإمام الرازي إلى العلة الصورية أن يقال (2/626)
الزمان قديم وإلا كان عدمه قبل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق المسبوق وهو السبق الزماني فيكون موجودا حين ما فرض معدوما هذا خلف وإذا كان الزمان قديما كانت الحركة التي هو مقدارها قديمة فكذا الجسم الذي هو محل الحركة
والجواب منع أن التقدم بالزمان أي لا نسلم تحقق التقدم الزماني فإنه فرع وجود الزمان وهو غير مسلم وإن سلم تحققه في الجملة فليس تقدم عدم الزمان على وجوده بالزمان حتى يلزم اجتماع النقيضين بل هو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض أعني التقدم بالذات لا بأمر زائد عليها فلا محذور حينئذ
الشبهة الثالثة وهي العمدة عندهم في إثبات مطلبهم ومأخوذة من العلة المؤثرة أن يقال فاعلية الفاعل للعالم أي تأثيره فيه وإيجاده إياه قديمة ويلزم منه قدم العالم بيانه أنه لو كانت فاعليته حادثة مخصوصة بوقت معين لتوقفت على شرط حادث مختص بذلك الوقت وإلا أي وإن لم تتوقف على شرط كذلك لزم الترجيح بلا مرجح لأن اختصاص حدوث الفاعلية حينئذ بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده مع تساوي نسبتها إلى جميع الأوقات تخصيص بلا مخصص والكلام في ذلك الشرط الحادث واختصاصه بوقت معين كما في الحادث الأول فلا بد له أيضا من شرط آخر حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة وإذا كانت فاعليته قديمة كان الأثر قديما أيضا إذ لا يتصور تحقق تأثير وإيجاد حقيقي في زمان مع عدم حصول الأثر فيه وقد تقرر هذه الشبهة بعبارة أخرى أبسط فيقال جميع ما لا بد منه في الإيجاد إن كان حاصلا أزلا كان الإيجاد حاصلا فيه إذ لو لم يحصل لكان حصوله بعده إما أن يتوقف على شرط حادث فلا يكون جميع ما لا بد منه حاصلا وهو خلاف المفروض أو لا يتوقف (2/627)
فيلزم الترجيح بلا مرجح وإذا كان الإيجاد أزليا كان وجود الأثر الذي لا يتخلف عنه كذلك وإن لم يكن جميع ما لا بد منه في الإيجاد حاصلا في الأزل كان بعضه حادثا قطعا فنقل الكلام إليه ونقول إن لم يحتج هذا الحادث إلى إيجاد لزم استغناء الحادث عن المؤثر المخصص وإن احتاج فإما أن يكون جميع ما لا بد منه في إيجاده حاصلا في الأزل فيلزم قدم الحادث أو لا يكون حاصلا فبعضه حادث بالضرورة فيلزم التسلسل في الأسباب والمسببات وهو محال وقد ذكر في الجواب عنه وجوه والذي يصلح للتعويل عليه وجهان
الأول النقض بالحادث اليومي إذ لا شبهة في وجوده فنقول فاعلية الفاعل القديم لهذا الحادث قديمة إذ لو كانت حادثة لتوقفت على شرط حادث حذرا من الترجيح بلا مرجح والكلام في هذا الشرط الحادث كما في الأول فتتسلسل الحوادث المترتبة إلى ما لا نهاية له فلو صح دليلكم لكان الحادث اليومي قديما لا يقال إنه أي الحادث اليومي يستند إلى الحوادث الفلكية من الحركات والاتصالات الكوكبية وكل منها مسبوق بآخر لا إلى نهاية ومثل هذا التسلسل جائز بخلاف التسلسل في الأمور المترتبة المجتمعة لأنا نقول ابتداء الفارق بين صورة النقض ومحل النزاع على الوجه الذي ذكرتموه لا يدفع النقض لأن التسلسل في الأمور التي ضبطها وجود سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة محال كما وقفت عليه وأيضا فنقول إذا سلم جواز التسلسل في الحوادث المتعاقبة فلم لا يجوز أن يكون حدوث العالم مشروطا بشرط مسبوق بآخر لا إلى نهاية فيكون حدوث العالم عن المبدأ القديم بتسلسل الحوادث المتعاقبة كما في الحادث اليومي عندكم فإن قيل ذلك أي تسلسل الشروط المتعاقبة إنما يتصور فيما له مادة بتزايد استعدادها بتوارد تلك الشروط عليها لقبول الحادث (2/628)
المشروط بذلك الشرط حتى إذا كمل الاستعداد فاض عليها من المبدأ القديم ما هي مستعدة له وما سوى العالم أي ما هو خارج عنه ليس له مادة حتى يتصور توارد الشروط المعتبرة في حدوث العالم عليها قلنا لا نسلم ذلك الذي ذكرتموه من أن الشروط والحوادث المتعاقبة إنما يتصور في الماديات إذ قد تكون تصورات متعاقبة لأمر مجرد عن المادة وتوابعها كل سابق منها شرط للاحق إلى أن تنتهي فيما يزال إلى ما هو شرط أي إلى تصور هو شرط لحدوث العالم الجسماني فلا يتم الاستدلال بما ذكرتم على قدمه إلا أن يقال لكل حادث مادة وتلك المادة لا تخلو عن الصورة فيكون هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى وقد أجبنا عنها
الوجه الثاني أن ترجيح الفاعل المختار عندنا لأحد مقدوريه على الآخر إنما هو بمجرد الإرادة ولا حاجة فيه أي في ذلك الترجيح إلى داع مرجح ينضم إليه كما تقدم تحقيقه في مثال طريقي الهارب من السبع وقدحي العطشان فنقول الفاعلية حادثة بمجرد الإرادة المتعلقة بالمقدور وقد يقال هذه الإرادة المستلزمة لوجود المقدور إن كانت قديمة لزم قدم المقدور وإن كانت حادثة احتاجت إلى إرادة أخرى أو شيء آخر حادث فيلزم التسلسل
ويجاب إما بجواز ترتب الإرادات أو ترتب تعلقات إرادة واحدة قديمة إلى ما لا يتناهى وإما بجواز حدوث تعلقها في وقت معين بلا سبب (2/629)
مخصص لكون التعلق أمرا اعتباريا فعليك بالتدبر فيها والتثبت في مزال الأوهام في أمثال هذه المقامات
الشبهة الرابعة صحة العالم أي إمكان وجوده لا أول لها وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأنه يرفع الأمان عن البديهيات كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وكذلك صحة تأثير الباري فيه أي وكذا إمكان تأثيره تعالى والعالم لا أول له وإلا لزم الانقلاب المذكور وحينئذ فيجب أن يجزم بإمكان وجود العالم في الأزل من الصانع وهو يبطل دلائلهم أي دلائل المتكلمين على امتناع وجوده فيه ثم أي بعد ثبوت إمكان وجوده وصدوره أزلا نقول ترك الجود الذي هو إفاضة الوجود عليه زمانا غير متناه لا يليق بالجواد المطلق الكامل من جميع الجهات في كونه جوادا فوجب قدم وجوده وإلا لزم تعطله
والجواب أنه أي ما ذكرتموه من حديث الجود ولزوم التعطل كلام خطابي لا يجدي نفعا فيما نحن فيه من البرهانيات ثم أنه لا يلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية كفي الحادث بشرط كونه حادثا فإن إمكانه أزلي لما ذكرتم وليست أزليته ممكنة لاستحالة الأزلية مع شرط الحدوث وقد عرفت أنه إذا أخذ ذات الحادث من حيث هو كان إمكانه أزليا وأمكن أزليته أيضا وإذا أخذ بشرط الحدوث لم يكن له إمكان من هذه الحيثية فضلا عن أن يكون إمكانه أزليا
المقصد الثاني
المتن
في صحة فناء العالم وهو فرع الحدوث فمن قال إنه قديم قال لا (2/630)
يجوز عدمه لما تقدم وأما من قال إنه حادث فقد قال بجواز فنائه لكون ماهيته من حيث هي قابلة للعدم والعدم قبل كالعدم بعد لا تمايز بينهما ولا اختلاف فيهما فما جاز عليه أحدهما جاز عليه الآخر لم يخالف في ذلك أحد إلا الكرامية فإنهم مع اعترافهم بحدوث الأجسام قالوا إنها أبدية ممتنع فناؤها ودليلهم ما أشرنا إليه في امتناع بقاء الأعراض والكرامية طردوه في الأجسام فالتفت إليه تجده مع جوابه محضرا عندك
الشرح
المقصد الثاني في صحة فناء العالم بعد وجوده وهو فرع الحدوث فمن قال إنه قديم قال لا يجوز عدمه لما تقدم في بيان حدوث السكون من أن القديم لا يجوز عدمه وأما من قال إنه حادث فقد قال بجواز فنائه لكون ماهيته من حيث هي قابلة للعدم حيث كانت متصفة به والعدم قبل أي قبل الوجود كالعدم بعد أي بعده لا تمايز بينهما ولا اختلاف فيهما فما جاز عليه أحدهما جاز عليه الآخر فقد ثبت جواز الفناء وأما وقوعه فقد توقف فيه بعضهم وأول الآيات الدالة عليه لم يخالف في ذلك أحد إلا الكرامية فإنهم مع اعترافهم بحدوث الأجسام قالوا إنها أبدية ممتنع فناؤها ودليلهم على ذلك ما أشرنا إليه في امتناع بقاء الأعراض والكرامية طردوه في الأجسام فقالوا لو عدم الجسم بعد بقائه لكان عدمه إما لذاته وإما لأمر آخر وجودي أو عدمي إلى آخر ما مر هناك والكل باطل فلا يصح عدمه فالتفت إليه تجده مع جوابه المذكور هناك محضرا عندك فلا حاجة إلى إعادتهما (2/631)
المقصد الثالث
المتن
الأجسام باقية خلافا للنظام ومن أصحابنا من ادعى فيه الضرورة لا يقال ليس ذلك إلا لبقائها في الحس ولا يصلح للتعويل عليه إذ الأعراض كذلك وقد قلتم بأنها لا تبقى
قلنا لا نسلم أن ذلك ليس إلا للبقاء في الحس بل الضرورة العقلية حاصلة والضروري لا يطلب مستنده بل هو ما يجزم به مجرد الفطرة ومنهم من استدل عليه بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة والتسخن والتبرد والتسود والتبيض وكل ذلك باطل بالضرورة
حجة النظام أنها لو بقيت لامتنع عدمها بالدليل الذي ذكرناه لبقاء الأعراض واللازم باطل اتفاقا
تنبيه ذلك الدليل لما قام في الأعراض طرده النظام في الأجسام فقال بعدم بقائها أيضا ولما كان بقاؤها ضروريا التزم الكرامية أنها لا تفنى وفرق قوم بأن الأعراض مشروطة بالجواهر المشروطة بها فيدور وأما الجواهر فيحفظها الله تعالى بأعراض متعاقبة يخلقها فيها فإذا أراد أن يفني لم يخلق فيها العرض أو خلق فيها عرضا منافيا للبقاء
الشرح
المقصد الثالث الأجسام باقية خلافا للنظام فإنه ذهب إلى أنها متجددة آنا فآنا كالأعراض وقيل هذا النقل عنه غير معتمد عليه لأنه قال (2/632)
باحتياج الأجسام إلى المؤثر حال البقاء فتوهمت النقلة أنه لا يقول ببقائها ومن أصحابنا أي ومن الأشاعرة من ادعى فيه الضرورة أي البداهة
قال الآمدي نحن نعلم بالضرورة أن ما شاهدناه بالأمس من الجبال الراسيات والأرضين والسموات هو عين ما نشاهده اليوم وكذا نعلم بالاضطرار أن من فاتحناه بالكلام هو عين ما ختمناه معه وأن أولادنا ورفقاءنا الان هم الذين كانوا معنا من قبل لا يقال ليس ذلك أي جزمنا ببقائها ضرورة إلا لبقائها في الحس فإنه يشهد باستمرار الأجسام ولا يصلح الحس وشهادته بالبقاء للتعويل عليه والوثوق به إذ الأعراض كذلك لأن الحس شاهد ببقائها وقد قلتم أيها الأشاعرة بأنها لا تبقى زمانين بل هناك أمثال متجددة لم يدرك الحس تفاوتها فحسبها أمرا واحدا مستمرا فكيف تقبلون شهادته في الأجسام دون الأعراض
قلنا أي لأنا نقول لا نسلم أن ذلك الجزم منا ليس إلا للبقاء في الحس حتى يتجه عليه ما ذكرتموه بل الضرورة العقلية حاصلة بلا شبهة والضروري البديهي لا يطلب مستنده بل هو ما يجزم به مجرد الفطرة عند تصور الطرفين وملاحظة النسبة فإن ذلك هو معنى البديهي المرادف للأولى ومنهم من استدل عليه بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة أي لم يكن أن يقال لموت حي أو حياة ميت لأن محلهما يجب أن يكون واحدا وعلى ذلك التقدير فالجسم حال حياته غير الجسم حال مماته فلا يكونان واردين على موضوع واحد ولا ارتفع التسخن والتبرد (2/633)
والتسود والتبيض ونظائرها أي لم يكن القول بالاستحالة أصلا بأنها مشروطة باتحاد المحل وكل ذلك باطل بالضرورة العقلية
حجة النظام أنها لو بقيت لامتنع عدمها بالدليل الذي ذكرناه لبقاء الأعراض أي في امتناع عدمها على تقدير بقائها واللازم باطل اتفاقا
تنبيه على منشأ مذاهب النظام والكرامية وغيرهم ذلك الدليل لما قام في الأعراض ودل على امتناع بقائها طرده النظام في الأجسام فقال بعدم بقائها أيضا
قال الآمدي وذلك لأنه بنى على أصله وهو أن الجواهر مركبة من الأعراض حتى إن كانت الأعراض مختلفة كانت الأجسام مختلفة
قال ولهذا فإنا ندرك الاختلاف في بعض الجواهر كالماء والنار بالضرورة كما ندرك الاختلاف بين الحرارة والبرودة كذلك ولما كان بقاؤها ضروريا أوليا التزم الكرامية أنها لا تفنى أصلا بناء على اعتقادهم صحة ذلك الدليل وفرق قوم فقالوا بتجدد الأعراض وبقاء الأجسام وإنما فرقوا بينها بأن الأعراض على تقدير فنائها بعدم الشرط بعد بقائها مشروطة بالجواهر المشروطة بها فيدور
وتلخيصه أن عدمها بعد بقائها لا يجوز أن يكون بعدم الشرط لأن شرط بقائها لا يجوز أن يكون عرضا لامتناع التسلسل بل لا يكون ذلك الشرط إلا الجوهر مع كونه مشروطا بالأعراض في البقاء فيلزم الدور فبطل هذا القسم في الأعراض كسائر الأقسام فثبت أنها لو بقيت لامتنع عدمها لكنها جائزة العدم بالضرورة فلا تكون باقية وأما الجواهر فيحفظها الله تعالى بأعراض متعاقبة يخلقها فيها فإذا أراد الله أن يفني الأجسام لم يخلق فيها العرض فتنتفي بانتفاء شرط بقائها ولا محذور فيه وهذا مذهب الأشاعرة أو يخلق فيها عرضا منافيا للبقاء وهو الفناء مثلا فينتفي بذلك (2/634)
وهذا مذهب المعتزلة فلا يتم في الأجسام الدليل الدال على امتناع الفناء بعد البقاء فلا يلزم كونها غير باقية
المقصد الرابع
المتن
الجواهر يمتنع عليها التداخل لذاتها بالضرورة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يكون هذا الجسم المعين أجساما والذراع الواحد من الكرباس مثلا ألف ذراع بل تداخل العالم كله في حيز خردلة وصريح العقل يأباه
وأما النظام فقيل إنه جوزه والظاهر أنه لزمه ذلك فيما صار إليه وأما أنه التزمه وقال به فلم يعلم وإن صح كان مكابرا
الشرح
المقصد الرابع الجواهر يمتنع عليها التداخل أي دخول بعضها في حيز بعض آخر بحيث يتحدان في المكان والوضع ومقدار الحجم وهذا الامتناع ليس معللا بالتحيز كما ذهب إليه المعتزلة من أن الحيز له باعتبار وجود أحد الجوهرين فيه كون مضاد لكونه باعتبار وجود الآخر فيه بل هو لذاتها بالضرورة البديهية إذ لو جاز ذلك أي تداخل الجواهر لجاز أن يكون هذا الجسم المعين أجساما كثيرة متداخلة وجاز أن يكون الذراع الواحد من الكرباس مثلا ألف ذراع بل جاز تداخل العالم كله في حيز خردلة واحدة وجاز أيضا أن ينفصل عنها عوالم متعددة مع بقائها على هيئتها وصريح العقل ببداهته يأباه وقد اتفق العقلاء على امتناع التداخل (2/635)
وأما النظام فقيل إنه جوزه والظاهر أنه لزمه ذلك فيما صار إليه من أن الجسم المتناهي المقدار مركب من أجزاء غير متناهية العدد إذ لا بد حينئذ من وقوع التداخل فيما بينها وأما أنه التزمه وقال به صريحا فلم يعلم كيف وهو جحد للضرورة فلا يرتضيه عاقل لنفسه وإن صح أنه قال به كان مكابرا لمقتضى عقله
المقصد الخامس
المتن
وحدة الجوهر ووحدة حيزه متلازمتان فكما لا يجوز كون جوهرين في حال واحد في حيز واحد فلا يجوز كون الجوهر الواحد في آن واحد في حيزين وهذا ضروري
وقال بعض الأئمة في إثباته لو جاز ذلك لم يمكن الجزم بأن الجسم الحاصل في هذا الحيز غير الحاصل في الحيز الآخر وأيضا فلا يبقى فرق بين الجسم الواحد والجسمين ولعل ذلك تنبيه على الضرورة بعبارات تصور المطلوب في الذهن فإن شيئا من ذلك ليس بأوضح من المطلوب
تنبيه هل يسمى الجسمان باعتبار امتناع اجتماعهما في حيز ضدين كما يسمى العرضان باعتبار امتناع اجتماعهما في محل ضدين فيه خلاف بين المتكلمين وهو لفظي عائد إلى مجرد الاصطلاح ولكل أن يصطلح في لفظ الضدين على ما يشاء
واعلم أن للحكماء خلافا قريبا منه في الصورة النوعية كالنارية (2/636)
والمائية هل هما ضدان أم لا وهو أيضا لفظي مرجعه إلى اشتراط توارد الضدين على موضوع أو محل فإن شرط تواردهما على موضوع لم يكونا ضدين وإن اكتفي بالمحل فهما ضدان والاصطلاح المشهور على الأول
الشرح
المقصد الخامس وحدة الجوهر ووحدة حيزه متلازمتان فكما لا يجوز كون جوهرين في حال واحد في حيز واحد كما مر آنفا فلا يجوز أيضا كون الجوهر لواحد في آن واحد في حيزين وهذا ضروري أيضا كالأول
وقال بعض الأئمة في إثباته لو جاز ذلك لم يكن لنا الجزم بأن الجسم الحاصل في هذا الحيز غير الجسم الحاصل في الحيز الآخر وأيضا فلا يبقى فرق بين الجسم الواحد والجسمين ولعل ذلك الذي أورده في إثباته تنبيه على الضرورة بعبارات مختلفة تصور المطلوب في الذهن تصويرا واضحا فإن شيئا من ذلك الذي جعله دليلا ليس بأوضح من المطلوب فكيف يصح الاستدلال به
تنبيه
هل يسمى الجسمان باعتبار امتناع اجتماعهما في حيز واحد ضدين كما يسمى العرضان باعتبار امتناع اجتماعهما في محل واحد ضدين كما عرفت فيه خلاف بين المتكلمين فمنع القاضي من إطلاق اسم الضد على الجواهر فكأنه راعى في التضاد تعاقب الضدين على المحل المقوم وذلك غير متصور في الجواهر بخلاف الأعراض وجوزه الأستاذ أبو إسحق وهو بحث لفظي عائد إلى مجرد الاصطلاح في إطلاق (2/637)
الألفاظ ولكل أن يصطلح في لفظ الضدين على ما يشاء من المعاني إذ لا حجر في ذلك
واعلم أن للحكماء خلافا قريبا منه في الصورة النوعية كالنارية والمائية هل هما ضدان أم لا فقال بعضهم نعم وقال آخرون لا وهو أيضا بحث لفظي مرجعه إلى اشتراط توارد الضدين على موضوع أو محل فإن شرط تواردهما على موضوع لم يكونا ضدين إذ لا موضوع لهما وإن اكتفي بالمحل الذي هو أعم من الموضوع فهما ضدان لتواردهما على المادة العنصرية والاصطلاح المشهور على الأول
المقصد السادس
المتن
الجسم هل يخلو عن العرض وضده اتفق المتكلمون على منعه وجوزه بعض الدهرية في الأزل وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وجوزه الصالحية فيما لا يزال
وللمعتزلة تفصيل فالبصرية منهم يجوزونه في غير الأكوان والبغدادية يجوزونه في غير الألوان وأما المتكلمون فمنعهم منه بناء على أن الأجسام متجانسة وإنما تتميز بالأعراض فلو خلا عنها لم يكن شيئا من الأجسام المخصوصة بل جسما مطلقا والمطلق لا وجود له بالاستقلال ضرورة وموافقة النظام في ذلك لهم أمر ظاهر (2/638)
ومنهم من احتج عليه بامتناع خلوه عن الحركة والسكون كما مر وهو ضعيف لأن الدعوى عامة وهذا لا تعميم فيه ورب عرض يخلو الجسم عنه وعن ضده وأما قياس البعض على البعض وما قبل الاتصاف بما بعده فأضعف
احتج المجوز بوجوه
الأول لو لزم من وجود الجوهر وجود العرض لكان الرب تعالى مضطرا إلى إحداث العرض عند إحداث الجوهر وأنه ينفي الاختيار
والجواب أن هذا لازم عليكم في امتناع وجود العرض دون الجوهر والعلم دون الحياة والعلم بالمنظور فيه دون النظر فما هو عذركم في صور الإلزام فهو عذرنا في محل النزاع
الثاني ما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق الله تعالى في العبد علما به والمعلومات في نفسها غير متناهية والحاصل للعبد متناه فإن انتفى عنه علوم غير متناهية فكان يجب أن يقوم به بإزاء كل علم منتف عنه ضد له فيلزم قيام صفات غير متناهية وكذا في المقدورات ونحوها وأنه محال
والجواب أن المنتفي تعلق العلم وأنه ليس بعرض وهذا إنما يلزم من يحوج كل معلوم إلى علم ونحن لا نقول به
وأجاب الأستاذ أبو إسحق بناء على أصله من تضاد العلوم المتعددة أن ضد العلوم المنتفية هو العلم الحاصل وألزم امتناع اجتماع علمين فالتزمه وزعم أن لكل علم محلا من القلب غير ما للآخر
وأجاب ابن فورك المعلومات وإن كانت غير متناهية فالإنسان لا (2/639)
يقبل منها إلا علوما متناهية لامتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا وإنما يصح لو امتنع وجود ما لا يتناهى بدلا كما يمتنع وجوده معا
وأجاب القاضي بأنه قد يكون انتفاء ما انتفى من العلوم بضد عام كالموت والنوم لجميع العلوم
الثالث الهواء والماء خال عن اللون وضده
والجواب منع عدم اللون بل لا يدرك لضعفه أو التزم أن الشفيف ضد اللون لا عدمه
تنبيه منهم من قال قبول الأعراض معلل بالتحيز للدوران
وقيل لا لدوران كل مع الآخر فليس إسناد أحدهما إلى الآخر أولى من العكس والحق التوقف
الشرح
المقصد السادس الجسم هل يخلو عن العرض وضده اتفق المتكلمون من الأشاعرة على منعه وقالوا كل عرض مع ضده يجب أن يكون أحدهما في الجسم وجوزه بعض الدهرية في الأزل وقالوا إن الجواهر كانت خالية في الأزل عن جميع أجناس الأعراض ولم يجوزوا خلوها عنها فيما لا يزال وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وجوزه أي خلو الجسم عن العرض الصالحية من المعتزلة فيما لا يزال فقالوا يجوز فيه خلو الجسم عن جميع الأعراض وللمعتزلة النافين تفصيل فالبصرية منهم يجوزونه في غير الأكوان والبغدادية يجوزونه في غير الألوان وأما المتكلمون أي الأشاعرة فمنعهم منه بناء على أن الأجسام متجانسة عندهم لتركبها من الجواهر الأفراد المتماثلة وإنما تتميز الأجسام بعضها عن بعض بالأعراض الحالة فيها فلو خلا الجسم عنها (2/640)
بأسرها لم يكن ذلك الجسم شيئا من الأجسام المخصوصة المتميزة عن غيرها بل كان جسما مطلقا غير مخصوص معين والمطلق لا وجود له بالاستقلال ضرورة إنما الموجود في الخارج هو الأمور المتعينة الممتازة ويرد على هذا الاستدلال أنه ربما كان الامتياز ببعض الأعراض فلا يلزم أن الجسم لا يخلو عن شيء من الأعراض وضده معا وموافقة النظام في ذلك أي في امتناع الخلو لهم أي للمتكلمين أمر ظاهر يعني أنه وإن خالفهم في تماثل الأجسام لكنه يوافقهم في امتناع خلوها عن الأعراض بناء على ما مر من مذهبه في تركب الجسم من العرض وذلك ظاهر لا سترة به ومنهم من احتج عليه أي على امتناع الخلو بامتناع خلوه عن الحركة والسكون كما مر وهو ضعيف لأن الدعوى عامة في كل عرض مع ضده وهذا الاحتجاج لا تعميم فيه ورب عرض سوى الحركة والسكون يخلو الجسم عنه وعن ضده فإن الهواء خال عن الألوان والطعوم وأضدادها نعم يصلح ردا على البغدادية حيث جوزوا الخلو عن الأكوان وعلى الصالحية حيث جوزوا الخلو عن الجميع فيما لا يزال وأما قياس البعض على البعض و قياس ما قيل الاتصاف بما بعده وبالعكس فأضعف من ذلك الضعيف يعني أن بعضهم حاول التعميم في الاحتجاج المذكور فقال لما ثبت امتناع الخلو عن الأكوان ثبت امتناعه عن سائر الأعراض بالقياس عليها وهو فاسد جدا فسادا ظاهرا إذ لا جامع فيه أصلا وبعضهم أراد إثبات المدعى فقال اتفقت الأشاعرة والمعتزلة على امتناع الخلو بعد الاتصاف وذلك لأجراء العادة من الله تعالى بخلق المثل أو الضد بعده عن الأشعري وامتناع زوال (2/641)
العرض إلا بطريان ضده عند المعتزلي فكذا يمتنع الخلو قبله قياسا عليه وهو أيضا خال عن الجامع مع ظهور الفارق وإنما كان أضعف من التمسك بالحركة والسكون لأنه يثبت بعضا من المطلوب بخلافها احتج المجوز للخلو بوجوه ثلاثة
الأول لو لزم من وجود الجوهر وجود العرض لكان الرب تعالى مضطرا إلى إحداث العرض عند إحداث الجوهر وأنه ينفي الاختيار
والجواب أن هذا لازم عليكم في امتناع وجود العرض دون الجوهر وامتناع وجود العلم دون الحياة وامتناع وجود العلم بالمنظور فيه دون النظر فإنكم لا تجوزون انقلاب العلم النظري بصفاته تعالى ضروريا وحصوله بلا نظر فيلزم كونه مضطرا إلى إحداث الجوهر والحياة والنظر عند إحداث الأمور الموقوفة عليها فما هو عذركم في صور الإلزام فهو عذرنا في محل النزاع ولا يخفى عليك أن الإلزام الثالث لا يتجه على من يسند النظر والعلم المستفاد منه إلى قدرة العبد وكذا إذا أبدل الثالث بما ذكره الآمدي من لزوم العلم بالمنظور فيه عند انتفاء الآفات المانعة منه
الوجه الثاني ما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق الله تعالى في العبد علما به والمعلومات أي المفهومات التي يمكن أن يتعلق العلم بها في نفسها غير متناهية لشمولها الواجب والممكنات والممتنعات فكذا العلوم المتعلقة بها غير متناهية والحاصل من تلك العلوم للعبد متناه لاستحالة وجود ما لا يتناهى فإن انتفى والظاهر أن يقال فقد انتفى عنه علوم غير (2/642)
متناهية فكان يجب على تقدير امتناع الخلو عن العرض وضده أن يقوم به بإزاء كل علم منتف عنه ضد له فيلزم حينئذ قيام صفات غير متناهية بالعبد وكذا الحال في المقدورات ونحوها كالمرادات وأنه محال لما عرفت
والجواب أن المنتفي عن العبد هو تعلق العلم بما لا يتناهى من المعلومات وأنه أي ذلك التعلق ليس بعرض بل هو أمر اعتباري وهذا الإلزام الذي ذكرتموه إنما يلزم من يحوج كل معلوم إلى علم على حدة ويجعله مع ذلك أمرا موجودا لا نفس التعلق الاعتباري ونحن لا نقول به بل يجوز أن يتعلق علم واحد بمعلومات متعددة أو نجعله نفس التعلق لا صفة موجودة
وأجاب الأستاذ أبو إسحق بناء على أصله من تضاد العلوم المتعددة وإن كانت مختلفة لا متماثلة أن أي بأن ضد العلوم المنتفية التي لا تتناهى هو العلم الحاصل سواء كان متعددا أو واحدا فلا محذور وألزم الأستاذ على أصله امتناع اجتماع علمين مطلقا في محل واحد لكونهما متضادين عنده فالتزمه وزعم أن لكل علم محلا من القلب غير ما للآخر فلا يجتمع علمان في محل واحد أصلا
وأجاب ابن فورك فقال المعلومات وإن كانت غير متناهية فالإنسان لا يقبل منها إلا علوما متناهية لامتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا وإذا لم يقبل ما لا يتناهى من العلوم لم يلزم على تقدير خلوه من العلوم التي لا تتناهى أن يتصف بأضداد غير متناهية لأن قيام الضد إنما يكون بدل ما كان المحل قابلا له
قال الآمدي وهذا أسد من جواب الأستاذ
قال المصنف وإنما يصح هذا الجواب لو امتنع وجود ما لا يتناهى بدلا كما يمتنع وجوده معا لكنه لم يثبت وأجيب عنه بأن اللازم حينئذ (2/643)
اتصاف العبد بصفات غير متناهية على سبيل البدل وليس بمستحيل لأن الحاصل للعبد في كل وقت مع ما قبله من الأوقات متناه قطعا
وأجاب القاضي الباقلاني بأنه قد يكون انتفاء ما انتفى عنه من العلوم التي لا تتناهى بضد عام هو صفة واحدة مضادة لجميع تلك العلوم المنتفية ولا استحالة في مثل ذلك كالموت والنوم فإنهما ضدان لجميع العلوم على الإطلاق وإذا جاز ذلك جاز أيضا أن تضاد صفة واحدة ما عدا العلوم الحاصلة
الوجه الثالث الهواء وكذا الماء خال عن اللون المخصوص كالسواد مثلا وعن ضده أيضا إذ لا لون له أصلا وكذا هو خال عن الطعوم المتضادة كما مرت الإشارة إليه
والجواب منع عدم اللون فيه بل له لون ما لكنه لا يدرك لضعفه أو التزم أن الشفيف الثابت للهواء والماء أمر وجودي هو ضد اللون المطلق لا عدمه
تنبيه
منهم أي من المتكلمين من قال قبول الأعراض الثابت للجواهر معلل بالتحيز للدوران فإنه إذا وجد التحيز وجد القبول وإذا عدم عدم والمدار علة للدائر وقيل لا لدوران كل منهما مع الآخر فليس إسناد أحدهما إلى الآخر أولى من العكس والحق التوقف لأن كل واحد من المذهبين ممكن ولا قاطع في شيء منهما (2/644)
المقصد السابع
المتن
الأبعاد متناهية سواء كانت في ملاء أو خلاء إن جاز خلافا للهند لوجوده
الأول لو وجد بعد غير متناه فلنا أن نفرض خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا يوازيه ثم يميل من الموازاة مائلا إلى جهته فيسامته ضرورة والمسامتة حادثة فلها أول وهي بنقطة فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي أول نقط المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض إلا والمسامتة مع ما قبلها قبل المسامتة معها لأن المسامتة إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية
تلخيصه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة والقسمان باطلان واعترض عليه بمنع إمكان الفرض وجوابه دعوى الضرورة
واعلم أن من الفروض ما يحكم العقل بجوازه كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وقد يقال عليه لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي
والجواب أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول وهو يكون بنقطة ضرورة ودليل امتناع اللازم لا يدل على عدم ملازمته وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي (2/645)
وقال بعض فضلاء المتأخرين إن أطول خط يفرض هو محور العالم والمسامتة مع النقطة التي فوقه قبل المسامتة معه وهذا مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل والوهم البحت لا عبرة به
الثاني وهو عكس الأول ولزيادة تقرير له أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف
الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهم ذراعين ذراعين وعلى هذا فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل
واعلم أن هذا يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات ولو جوز مجوز إسطوانة غير متناهية لم يتم ذلك (2/646)
الرابع نفرض ساقي مثلث كيف اتفق فللانفراج إليهما نسبة محفوظة بالغا ما بلغ فلو ذهبنا إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه نسبته إلى غير المتناهي كنسبة المتناهي إلى المتناهي هذا خلف
الخامس أنا نقسم ترسا بستة أقسام يحيط بكل قسم ضلعان ثم نخرج الأضلاع إلى غير النهاية ثم نردد في كل قسم فنقول هو إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين وإما متناه فكذا الكل لأنه ضعف المتناهي بمرات متناهية وهذا كالتتمة والتوضيح للبرهان السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع
السادس التطبيق وطريقه أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ومن نقطة قبلها بمتناه خطا آخر ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة أو تنقطع فينقطعان كما تقدم مرتين
السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ويتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي
احتج الخصم بوجوه
الأول ما وراء العالم متميز فإن ما يلي يمينه غير ما يلي يساره ضرورة والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذا بعد والجواب منع التميز وإنما ذلك وهم
الثاني أنه متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو كم والجواب أن التقدر وهم
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء متقدر إذ ما يسع إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه فثمة جسم مانع وعلى التقديرين فثمة بعد والجواب لا نسلم أنه لو (2/647)
لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا والجواب أن الكلية لا تقتضي الوجود ولا التعدد ولا عدم التناهي
الشرح
المقصد السابع الأبعاد الموجودة متناهية من جميع الجهات سواء كانت تلك الأبعاد في ملاء كالأبعاد المقارنة المادة الجسمية أو خلاء كالأبعاد المجردة عنها إن جاز الخلاء والمراد أن تناهي الأبعاد لا يتوقف على امتناع الخلاء خلافا للهند فإنهم ذهبوا إلى أنها غير متناهية وإنما قلنا بتناهيها لوجوه
الأول لو وجد بعد غير متناه ولو من جهة واحدة فلنا أن نفرض من مبدأ معين خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا بحيث يوازيه في وضعه الأول أي يكون بحيث لا يلاقيه أصلا وإن خرج إلى غير النهاية ثم يميل الخط المتناهي بحركته مع ثبات أحد طرفيه الذي في جانب المبدأ من الموازاة مائلا إلى جهته أي جهة الخط الغير المتناهي فيسامته أي يصير بحيث يلاقيه بالإخراج وذلك أعني حصول المسامتة بتلك الحركة معلوم ضرورة والمسامتة المذكورة حادثة لكونها معدومة حال الموازاة المتقدمة عليها فلها أول إذ كل حادث كذلك وهي أي مسامتته إياه بنقطة لأن تقاطع الخطين لا يتصور إلا عليها فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي (2/648)
أول نقطة المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض على الخط الذي فرض غير متناه إلا والمسامتة مع ما قبلها أي فوقها من جانب لا تناهي الخط قبل المسامتة معها وذلك لأن المسامتة مع أية نقطة تفرض إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين عند الطرف الثابت من الخط المتناهي فأحد الخطين هو هذا المتناهي مفروضا على وضع الموازاة والآخر هو بعينه أيضا لكن حال كونه على وضع المسامتة فكأن هناك خطا آخر كان منطبقا عليه فزال بحركته انطباقه مع بقاء أحد طرفيه على حاله ويزداد اتضاحه بأن نفرض الخط المتناهي خارجا من مركز كرة موازيا لغير المتناهي ثم نفرض حركتها حتى يصير مسامتا فيحدث عند مركز الكرة زاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية إذ قد بين إقليدس في الشكل التاسع من المقالة الأولى من كتابه أن كل زاوية مستقيمة الخطين يمكن تنصيفها بخط مستقيم ولا شك أن كل واحد من النصفين زاوية مستقيمة الخطين فيقبل التنصيف أيضا وهكذا إلى ما لا نهاية له على أن الزاوية المسطحة إما كم أو كيفية حالة فيه سارية في جهة واحدة منه فتكون قابلة للانقسام أبدا كالمقادير وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية يعني إذا فرض أن نقطة ما هي أول نقط المسامتة لم تكن تلك النقطة كذلك لأن المسامتة معها إنما تكون بحدوث زاوية منقسمة إلى نصفين ولا شك أن حدوث نصفها قبل حدوث كلها وفي حال حدوث النصف توجد المسامتة لزوال الموازاة حينئذ قطعا وتلك المسامتة مع نقطة فوقانية بلا شبهة فلا تكون النقطة الأولى أول نقط المسامتة وهكذا فلا يمكن أن يوجد هناك ما هو أول تلك النقط وقد تبين ذلك بأن المسامتة إنما تكون بالحركة وكل حركة منقسمة إلى جزء سابق وجزء لاحق فحال ما يوجد الجزء السابق تكون المسامتة مع نقطة أخرى وهكذا
قال المصنف تلخيصه أي تلخيص هذا الوجه أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض أي المفروض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة إذ مع ذلك الفرض (2/649)
إما أن تمتنع المسامتة وهو أحد الأمرين أو لا تمتنع فيجب أن يوجد أول نقط المسامتة وهو الأمر الآخر والقسمان باطلان أما وجود تلك النقطة فلما مر من استحالته واستلزام وجودها فلا يتصور امتناعها على ذلك الفرض كما لا يخفى ومنهم من فرض الخط المتناهي أولا مسامتا ثم تحرك إلى أن صار موازيا قال فلا بد من نقطة هي آخر نقط المسامتة لأنها كانت ثم زالت فيكون لها نهاية لكنه باطل لمثل ما مر وسماه برهان الموازاة
واعترض عليه بمنع إمكان الفرض أي لا نسلم أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن وجود خط غير متناه مع وجود خط آخر متناه فيكون موازيا للأول أولا مسامتا له بسبب حركته ثانيا إذ يجوز أن يكون بعض هذه الأمور محالا في نفسه أو يكون كل واحد منها ممكنا واجتماعها محالا كاجتماع قيام زيد مع عدمه وحينئذ جاز أن يكون البعد الغير المتناهي ممكنا والفرض ممتنعا على أحد الوجهين ويكون المحال ناشئا منه لا من البعد الذي لا يتناهى أو يكون كلاهما ممكنا ويلزم المحال من اجتماعهما
وجوابه دعوى الضرورة أي نحن نعلم ببديهة العقل أن كل واحد من الأمور المفروضة ومجموعها أيضا ممكن على تقدير لاتناهي الأبعاد فلو كان لا تناهيها ممكنا في نفس الأمر لم يكن هناك ممتنع لا بسيط ولا مركب فلا يتصور لزوم محال ولما لزم علم أن المحال هو اللاتناهي وحده
واعلم أن من المفروض ما يحكم العقل بجوازه بديهة كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة بتحريك خط مستقيم مع ثبات أحد طرفيه إلى أن يعود إلى وضعه الأول (2/650)
وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وما نحن فيه من قبيل هذه الفروض كما نبهنا عليه فلا يتجه عليه منع إمكانه على ذلك التقدير وقد يقال عليه أيضا لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي أي نستدل به على بطلان الملازمة فنقول إذا تحرك نصف قطر الكرة كما ذكرتم وجب أن لا يوجد في الخط الذي لا يتناهى نقط هي أول نقط المسامتة لأن المسامتة إنما تكون بزاوية وحركة مقسمتين فلا يوجد هناك ما هي أول نقطها لأن كل نقطة تفرض كذلك كانت المسامتة مع ما فوقها قبلها
والجواب عن هذا أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول لكونها حادثة وهو يكون بنقطة ضرورة فالنقطة التي حدثت المسامتة معها في ذلك الأول هي أول نقطها ودليل امتناع اللازم في نفسه لا يدل على عدم ملازمته لجواز أن يكون الملزوم أيضا ممتنعا كيف ولو دل على ذلك لما تم الأقيسة الاستثنائية التي استثنى فيها نقيض التالي واستدل عليه وإليه أشار بقوله وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي وقد يجاب أيضا بأنا نستدل هكذا لو كانت الأبعاد غير متناهية وتحرك الخط المتناهي من الموازاة إلى المسامتة فإما أن يوجد أول نقط المسامتة أو لا يوجد وكلاهما محال بدليلكم ودليلنا وعلى هذا بطل اعتراضكم بالكلية لكن بقي ههنا بحث وهو أنا لا نسلم أن المسامتة ببعض الزاوية أو الحركة قبل المسامتة الحاصلة بكلها وإنما يلزم ذلك إذا كان بعضهما موجودا بالفعل حتى يمكن أن يوجد به مسامتة لكنهما ينقسمان بالقوة لا بالفعل ولو صح ما ذكرتموه لامتنع حركة نصف قطر الدائرة على قوس منها لأن الحركة إلى نصف القوس قبل الحركة إلى كلها والحركة إلى نصف الزاوية قبل الحركة إلى كلها وهكذا بل تمتنع الحركة مطلقا فالشبهة إنما وقعت من موضع ما بالقوة مكان ما بالفعل ودفعه بعض الأفاضل بأن ما ذكرناه أحكام وهمية إلا أنها (2/651)
صحيحة إذ الوهم إنما يحكم بها على طاعة من العقل كسائر الهندسيات فليس المدعي إلا أنه لا بد للمسامتة الحادثة من أول نقطة في الوهم لكن الخط الغير المتناهي لا يتعين فيه نقطة للأولية بخلاف الخط المتناهي وفيه نظر إذ ليس يلزم من حدوث المسامتة إلا أن يكون لها زمان هو أول أزمنة وجودها فلا تكون المسامتة الحادثة فيه مسبوقة بمسامتة في زمان سابق عليه وهذا اللازم لا يستلزم أن يوجد هناك نقطة هي أول نقط المسامتة في الوهم بيانه أن نقول لا مسامتة حال الموازاة بل لا بد لحدوثها من حركة واقعة في زمان فإذا وجدت كانت المسامتة حاصلة في كل آن يفرض في ذلك الزمان وتلك الآنات المفروضة فيه غير متناهية أي لا تقف عند حد فكذا المسامتات المتوهمة فيها وكل واحدة منها إنما هي مع نقطة أخرى فلا تتعين نقطة أولى يقف الوهم عندها وهل هذا إلا مثل أن يقال لو حدثت الحركة لكان لها أول زمان توجد فيه وحينئذ فلا بد أن يتعين لها ولمسافتها جزء أول في الوهم لكنه محال لا يقال المسامتة آنية فلا بد لها من نقطة غير مسبوقة بأخرى في الوهم لأنا نقول مسامتة الخط للنقطة آنية وأما المسامتة المذكورة أعني مسامتة الخط للخط فلا يتصور حدوثها إلا بوجود حركة في زمان كما ذكرناه فليس هناك مسامتة إلا وهي مسبوقة في الوهم بأخرى إلى غير النهاية فلا يتعين فيه نقطة غير مسبوقة ويمكن أن يقال نحن ندعي أنه إذا وقع ذلك المفروض في الخارج فلا بد أن يتعين فيه نقطة هي أول نقط المسامتة إذ لا بد هناك من مسامتة غير مسبوقة فيه بأخرى إلا لزم وجود مسامتات غير متناهية العدد بالفعل في زمان متناه وهو محال فتلك المسامتة إنما هي بأولى النقط ولك أن تحمل ذلك الدفع على هذا المعنى بأن تجعل تعين النقطة في الوهم عبارة عن تعينها في الخارج على تقدير وقوع المفروض فيه فيندفع النظر عنه (2/652)
وقال بعض فضلاء المتأخرين وهو صاحب لباب الأربعين هذا الدليل مقلوب عليكم لدلالته على عدم تناهي الأبعاد بأن يقال إن أطول خط يفرض في البعد المتناهي الموجود هو محور العالم فإذا فرضنا خطا يوازيه ثم يتحرك حتى يسامته على طرفه والمسامتة مع النقطة التي فوقه خارج العالم قبل المسامتة معه لما ذكرتم بعينه فيلزم أن يكون على سمته نقط لا تتناهى وبعد غير متناه ينفرض فيه تلك النقط وهذا الذي ذكره مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل لأنه لا يمكن إخراج خط إلى خارج العالم إذ لا خلاء موجودا هناك ولا ملأ فكيف يتصور ملاقاته لنقطة معدومة فيه والوهم البحت الذي لا يساعده العقل لا عبرة به وتحقيقه أن اللازم مما ذكره نقط موهومة غير متناهية في خط موهوم غير متناه والكلام في تناهي الأبعاد الموجودة في الخارج دون الموهومة الصرفة
الوجه الثاني وهو عكس الأول في أنه فرض فيه أولا المسامتة والتقاطع بين الخطين وثانيا الموازاة وعدم الملاقاة واعتبر فيه آخر نقط التقاطع وهو لزيادة تقرير وتحقيق له أي للوجه الأول أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة من أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف وهو تناهيها على تقدير اللاتناهي وقد ذكره صاحب التلويحات واشتهر ببرهان التخلص وإنما يتضح إذا فرض كرة خرج من مركزها خط غير متناه قاطع لآخر غير متناه أيضا فإذا تحركت الكرة فقبل (2/653)
تمام الدورة لا بد أن يصير الخط الخارج من مركزها موازيا للآخر فيلزم تناهيهما وبرهان الموازاة على ما مر مأخوذ منه بفرض أحد الخطين متناهيا ومسامتا أو لا فظهر أن براهين المسامتة والموازاة والتخلص راجعة إلى أصل واحد
الوجه الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهما ذراعين ذراعين وعلى هذا يتزايد البعد بينهما بقدر ازديادهما ولو ترك ذكر تساوي الأضلاع واكتفى بالحيثية المفسرة له لكان الكلام أخصر وأظهر ومحصوله أن يكون الانفراج بينهما بقدر امتدادهما فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه أيضا بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا البرهان في الحقيقة هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل واهتدى إليه صاحب المطارحات وذلك التلخيص هو فرض الانفراج بين الخطين بقدر الامتداد إذ قد سقط به مؤنات كثيرة يحتاج إليها في السلمي الذي أورده في إشاراته كما تطلع عليها في شروحها
واعلم أن هذا الوجه الثالث يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات كما هو مذهب الخصم ومن جهتين أيضا لا من جهة واحدة إذ لا يمكن حينئذ فرض الانفراج بقدر الامتداد وإليه الإشارة بقوله (2/654)
ولو جوز مجوز اسطوانة غير متناهية في طولها لم يتم ذلك في إبطالها بخلاف الأولين فإنهما يبطلان لاتناهي الأبعاد على الإطلاق
الوجه الرابع وهو البرهان السلمي على الإطلاق وقد لخصه المصنف تلخيصا شافيا نفرض ساقي مثلث خرج من نقطة واحدة كيف اتفق أي سواء كان الانفراج بقدر الامتداد كما مر تصويره أو أزيد بأن يكون الانفراج ذراعين إذا كان الامتداد ذراعا أو أنقص كما إذا انعكس الحال بينهما فللانفراج إليهما أي إلى الساقين نسبة محفوظة بالغا ما بلغ وذلك لأن الخطين مستقيمان فلا يتباعدان إلى على نسق واحد فإذا امتدا عشرة أذرع مثلا وكان الانفراج حينئذ ذراعا فإذا امتد عشرين ذراعا كان الانفراج ذراعين قطعا وإذا امتدا ثلاثين كان ثلاثة أذرع وعليه فقس وهذا معنى حفظ نسبة الانفراج إليهما وحينئذ تكون نسبة الامتداد الأول أعني العشرة إلى الثاني أعني العشرين كنسبة الانفراج الأول أعني الذراع إلى الثاني أعني الذراعين وكذا الحال في نسبة الثالث إلى الثالث والرابع إلى الرابع وما بعدهما فلو ذهبنا أي الساقان إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه هو الامتداد الأول نسبته إلى غير المتناهي وهو الامتداد الذاهب إلى غير النهاية كنسبة المتناهي وهو الانفراج الأول إلى المتناهي وهو الانفراج بينهما حال ذهابهما إلى غير النهاية لما عرفت من أن نسبة الامتداد إلى الامتداد وكنسبة الانفراج إلى الانفراج هذا خلف لأن نسبة المتناهي إلى المتناهي المذكورين بجزئية معينة ويستحيل ذلك بين المتناهي وغير المتناهي لا يقال جاز أن يكون الانفراج الحاصل حال الذهاب غير متناه أيضا لأنا نقول فيلزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين
الوجه الخامس أنا نقسم جسما على هيئة الدائرة وليكن ترسا بستة أقسام متساوية بأن نقسم أولا محيط دائرته إلى ست قطع متساوية ثم (2/655)
نصل بين النقط المتقابلة بخطوط متقاطعة على مركزه فينقسم حينئذ إلى أقسام ستة متساوية يحيط بكل قسم منها ضلعان ثم نخرج الأضلاع بأسرها إلى غير النهاية حتى تنقسم الأبعاد كلها في طولها وعرضها أعني سعة العالم بهذه الأقسام ثم نردد في كل قسم فنقول هو في عرضه إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين هما الضلعان المحيطان به وإما متناه فكذا الكل متناه أيضا لأنه ضعف المتناهي الذي هو أحد الأقسام بمرات متناهية هي الستة وهذا البرهان المسمى بالترسي كالتتمة والتوضيح للبرهان الذي هو تلخيص السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع لأنك إذا فرضت على ضلعي كل قسم نقطتين متساويتي البعد عن المركز ووصلت بينهما بخط كان ذلك الخط مساويا لكل واحد من الضلعين وذلك لأن الزاوية التي عند المركز ثلثا قائمة إذ المحيط بكل نقطة أربع قوائم وقد قسمت ههنا بست زوايا متساوية وكذا كل واحدة من الزاويتين الباقيتين ثلثا قائمة لأنهما متساويتان لتساوي وتريهما وإذا كانت زوايا المثلث متساوية كانت الأضلاع كذلك فظهر أن الانفراج بين كل ضلعين بقدر امتدادهما كما في ذلك البرهان إلا أن ههنا تصويرا ومزيد توضيح لإمكان خروج خطين من نقطة بحيث ينفرجان على قدر امتدادهما وكان يكفيه ههنا أن يخرج من نقطة واحدة خطوطا ستة على أن تكون جميع الزوايا متساوية إلا أن في إمكان ذلك نوع خفاء ففرض دائرة لا شبهة في إمكان تقسيم محيطها إلى أقسام ستة متساوية وحينئذ يلزم تساوي الزوايا المركزية وكون كل واحدة ثلثي قائمة فينكشف مساواة البعد فيما بين الخطين لامتدادهما انكشافا تاما وهذه الوجوه أعني الثالث والرابع والخامس كما لا يخفى راجعة إلى برهان واحد (2/656)
الوجه السادس التطبيق الدال على تناهي الأبعاد من جميع الجهات وطريقه ههنا أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ونفرض من نقطة قبلها بمتناه خطا آخر إلى غير النهاية أيضا ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة واستحالته ظاهرة أو تنقطع فينقطعان فلا يكونان غير متناهيين كما تقدم مرتين مرة في بطلان التسلسل ومرة في تناهي القوى الجسمانية
الوجه السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة ما من هاتين النقطتين فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ونتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي في إتمام الدليل ولا يذهب عليك أن هذا تقرير آخر للتطبيق فقد عادت الوجوه السبعة إلى أدلة ثلاثة اثنان منها يدلان على امتناع الاتناهي مطلقا وواحد على امتناعه في جهتين أو أكثر
احتج الخصم على عدم التناهي بوجوه
الأول أن ما وراء العالم متميز فإن ما يبلي يمينه أي يمين العالم غير ما يبلي يساره ضرورة ألا ترى أن بديهة العقل شاهدة بأن ما يبلي القطب الشمالي غير ما يبلي القطب الجنوبي وما يبلي المشرق غير ما يبلي المغرب إلى غير ذلك والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذن موجود وبعد لقبوله التقدير سواء كان ماديا أو مجردا (2/657)
والجواب منع ثبوت التميز فيما وراء العالم بحسب نفس الأمر وإنما ذلك التميز الذي ذكرتموه وهم محض لا عبرة به أصلا
الثاني أنه أي ما وراء العالم متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو موجود و كم
والجواب أن التقدر الذي صورتموه وهم باطل لا يلتفت إليه قطعا
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء موجود لاستحالة مد اليد في العدم الصرف متقدر إذ ما يسع منه إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لليد من النفوذ وعلى التقديرين فثمة بعد إما مجرد أو مادي
والجواب لا نسلم أنه لو لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا فإذا وجدت تلك الأفراد كانت الأبعاد غير متناهية
والجواب أن الكلية وإن لم تمنع من وقوع جزئيات لا تتناهى إلا أنها لا تقتضي الوجود أي وجود شيء من الجزئيات ولا التعدد في الجزئيات ولا عدم التناهي فيها بل يجوز أن يكون الكلي ممتنع الوجود فلا يوجد شيء من أفراده أو ممتنع التعدد فلا تتعدد أفراده أو ممتنع اللاتناهي في أفراده فلا يوجد له أفراد غير متناهية كل ذلك لأمور خارجة عن مفهوم الكلية وعدم تناهي أفراد الجسم ممتنع للأدلة السابقة
المقصد الثامن
المتن
قال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدود الجهات لثلاثة أوجه (2/658)
الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد والمحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله لا به هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد فإن حصر الجهات في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا كرتين أو لا
والجواب لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان تدويرين في ثخن كرة وربما تتضمن ألوفا من الكرات كل واحدة أعظم من المحدد بما فيها ولا استبعاد فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا أو مخالفة له
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان
والجواب منع تساوي عناصرها وكائناتهما صورة ولئن سلمنا فلا نسلم تماثلهما حقيقة وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما غير طبيعي
الشرح
المقصد الثامن جوز المتكلمون وجود عالم آخر مماثل لهذا العالم (2/659)
لأن الأمور المتماثلة في الأحكام وإليه الإشارة في الكلام المجيد أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم
وقال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدد الجهات لثلاثة أوجه
الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد وكان المحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله ليتصور وقوعه فيها لابه كما هو الواقع هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد كما مر وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد بل بمحدد آخر فيجوز وقوع هذا في جهة منها فإن حصر الجهات المتحددة في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا معا كرتين أو لا وذلك لأن هذا العالم كروي فإن كان الآخر كرويا أيضا لم يتصور الملاقاة بينهما إلا بنقطة فلا بد أن يقع بينهما خلاء سواء تلاقيا أو لا وإن لم يكن كرويا وقع الخلاء أيضا لأن ملاقاة الكرة لما ليس بكرة لا تكون إلا مع فرجة
والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء أن نقول لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما أي يملأ ما بينهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان أي العالمان تدويرين مركوزين في ثخن كرة عظيمة يساوي ثخنها قطريهما أو يزيد عليهما وربما تتضمن تلك الكرة ألوفا من الكرات (2/660)
كل واحدة منها أعظم من المحدد بما فيها من الأفلاك والعناصر ولا استبعاد في ذلك فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها من الأفلاك الثلاثة والعناصر الأربعة ثلاث مرات وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا في الحقيقة أو مخالفة له فيها
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد كالماء مثلا حيزان طبيعيان وقد عرفت بطلانه
والجواب منع تساوي عناصرهما وكائناتهما المركبة منهما صورة أي لا نسلم تساويهما في الصورة النوعية وإن كانت متشاركة في الآثار والصفات كاشتراك ناريهما في الإحراق والإشراق ولئن سلمنا الإشتراك في الصورة النوعية فلا نسلم تماثلهما حقيقة لجواز الاختلاف في الهيولى الداخلة في حقيقتهما وإن سلمنا التماثل أيضا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما أي حصوله في أحد الحيزين غير طبيعي ولا نسلم أن القمر لا يكون دائما (2/661)
المرصد الثالث في النفس
وفيه مقاصد
المقصد الأول في النفوس الفلكية
المتن
وهي مجردة لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة
أما الأول فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية والأولان باطلان أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك مقتضى الطبيعية لكان الشيء الواحد مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها وأما الثاني فلأن إرادتها ليست عن تخيل محض وإلا امتنع دوامها (2/662)
على نظام واحد دهر الداهرين لا يختلف ولا يتغير فهي إذا ناشئة عن تعقل كلي ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب نفس الحركة سلمناه لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولك القسر على خلاف الطبع ممنوع وقد مر ما في دليله سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم ولم لا يجوز أن يكون تخليه خلاف تخيلنا سلمناه لكن لا نسلم أن محل التعقل مجرد وسنتكلم عليه
تفريعات
الأول لها مع القوة العقلية قوى جسمانية هي مبدأ للحركات الجزئية فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض دون البعض
الثاني ليس للأفلاك حس ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليها لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها لا تقبل ذلك والمقدمات كلها ممنوعة
الشرح
المرصد الثالث في مباحث النفوس المجردة وأحكامها
شرع في بيانها بعد الفراغ من مباحث الأجسام وعوارضها وفيه مقاصد أربعة
المقصد الأول في النفوس الفلكية وهي مجردة عن المادة وتوابعها (2/663)
لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة أما الأول وهو كون حركاتها إرادية فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية لما مر من أن أقسام الحركة الذاتية منحصرة فيها والأولان باطلان فتعين الثالث أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل ما وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك التحرك الدوري مقتضى الطبيعة ومستندا إليها لكان الشيء الواحد وهو الوضع المخصوص مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وقد وجه هذا الدليل بأن كل وضع يتوجه إليه المتحرك بالاستدارة يكون ترك ذلك الوضع هو عين التوجه إليه فيكون المهروب عنه بالطبع بعينه مطلوبا بالطبع في حالة واحدة بل يكون الهرب عن الشيء عين طلبه وأنه محال بديهة ورد عليه بأنه ترك وضع ليس توجها إليه بعينه لانعدامه بتركه بل غايته أنه توجه إلى مثله فلا يكون المتروك نفس المطلوب فالأولى أن يوجه بأن المتحرك بحركته المستديرة يطلب وضعا ثم يتركه ومثله لا يتصور من فاقد الإرادة لأن طلب الشيء المعين وتركه لا يكون إلا باختلاف الأغراض الموقوفة على الشعور والإرادة وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك لأنه تقدم في مباحث الاعتمادات ما هو بمعناه أعني أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك قسرا وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان تحرك الأفلاك على الاستدارة بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها في الجهة والسرعة والبطء وتوافقها في المناطق والأقطاب إذ لا يتصور هناك قسر إلا من بعضها لبعض لكن حركاتها كما شهدت به الأرصاد ليست متشابهة ولا متوافقة
وأما الثاني وهو أنه إذا كانت حركاتها إرادية كانت لها نفوس مجردة فلأن إرادتها المتعلقة بحركاتها ليست ناشئة عن تخيل محض من قوة جسمانية تدرك أمورا جزئية وإلا امتنع دوامها أي دوام الحركات (2/664)
الفلكية على نظام واحد دهر الداهرين أي أزلا وأبدا لا يختلف ولا يتغير لا في الجهة ولا في السرعة ألا ترى أن الحركات الحيوانية المستندة إلى الإدراكات الجزئية تختلف وتنقطع فهي أي إرادتها التي تترتب عليها الحركات السرمدية على وتيرة واحدة إذن ناشئة عن تعقل كلي يندرج فيه أمور غير متناهية ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض على هذا الدليل أن يقال لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم مع ذلك كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب في الحركة الطبيعية نفس الحركة لا حصول وضع معين فإن قيل حقيقة الحركة هي التأدي إلى شيء آخر فلا تطلب لذاتها بل لغيرها قلنا الحركة عندنا عبارة عن كون الجوهر في آنين في مكانين فجاز كونها مطلوبة لذاتها سلمناه أي سلمنا أن الحركات الفلكية ليست طبيعية لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولكم القسر على خلاف الطبع أي ما ليس فيه ميل طبيعي لا يقبل حركة قسرية ممنوع وقد مر ما في دليله من الخلل على أنه ليس يلزم من عدم كون حركاتها المستديرة طبيعية أن لا يكون لها ميل طبيعي مخالف لهذه الحركة ولا نسلم أيضا أن القاسر هناك منحصر في الأفلاك حتى يلزم التشابه بل نقول الحركة الحاصلة من بعضها في بعض تكون حركة عرضية لا قسرية سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم على حالة واحدة ولا يدوم سرمدا ولم لا يجوز أن يكون تخيله أي تخيل الفلك خلاف تخيلنا فلا يختلف ولا ينقطع بل يستمر أزلا وأبدا بتعاقب أفراد غير متناهية متعلقة بحركات متوافقة متماثلة فإن قيل القوى الجسمانية كما مر متناهية مدة وعدة وشدة فلا (2/665)
تستند إليها الحركات التي لا تتناهى
قلنا قد مر أيضا ما فيه ولو صح ذلك تعذر عليكم إثبات النفوس المنطبعة في الأجسام الفلكية سلمناه لكن لا نسلم أن محل العقل مجرد وما سيأتي من برهانه سنتكلم عليه هناك
تفريعان على القول بأن للأفلاك نفوسا مجردة وأنها أحياء ناطقة
الأول لها مع القوة العقلية التي نسبتها إليها كنسبة النفس الناطقة إلينا قوى جسمانية هي بتخيلاتها مبدأ للحركات الجزئية الصادرة عنها فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك أي لكونه مبدأ لوقوع الحركة الجزئية فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض بالوقوع دون البعض بل لا بد في وقوعه من إرادة جزئية متفرعة من إدراك جزئي لا يتصور إلا من قوة جسمانية وهذه القوى في الأفلاك كالخيال فينا إلا أنها سارية في جميع أجزائها بسيطة وتسمى نفوسا منطبعة
الثاني ليس للأفلاك حس من الحواس الظاهرة ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليهما لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها الجسمية والنوعية لا تقبل ذلك لامتناع الخرق والالتئام والكون والفساد عليها والمقدمات المذكورة كلها ممنوعة إذ لا نسلم أن هذه القوى إنما خلقت لما ذكر فإنه يجوز أن يكون خلقها لكونها كمالا للجسم ولا نسلم أيضا انحصار النفع والدفع في حفظ الصورة عن الفساد ولئن سلم فلا نسلم أن صورة الفلك لا تقبل الفساد وما استدل به عليه مدخول وفي الملخص أن كلام ابن سينا اضطرب في الحواس الباطنة فحيث (2/666)
نفاها استدل عليه بأنها متعلقة بالحواس الظاهرة لأن التخيل لحفظ صور المحسوسات والتوهم لدرك أحوالها الجزئية والتفكر للتصرف فيها فإذا لم يوجد الأصل وجب أن لا يوجد التبع ويرد على هذا الاستدلال أنا لا نسلم انحصار فائدتها في حفظ صور المحسوسات وأحوالها الجزئية والتصرف فيها إذ يجوز أن يكون فيها فوائد أخرى وإن سلم فلا نسلم أنه لا معطل في الوجود
المقصد الثاني
المتن
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة ليست مجردة جسمانية ولا جسما وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف هذا مذهب الفلاسفة ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق احتجوا بوجوه
الأول أنها تعقل البسيط فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما فإن كانت بسيطة فذاك وإلا كانت مركبة من البسائط وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه
وأما الثاني فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الآخر وأنه ينافي البساطة أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل المعقول وهو ممنوع فإن العلم مجرد تعلق وإن سلم فمحل لصورة البسيط ولا يلزم المطابقة من جميع الوجوه فقد لا تكون بسيطة وإن سلم (2/667)
فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وإن سلم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح وإن سلم أنه منقسم فالبقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته
الثاني أنها تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر والجواب ما تقدم
الثالث أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار ووضع فلا يكون مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع والجواب يعرف مما مر ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشبح لما له الشبح في الصغر والكبر
الرابع أنها تعقل الضدين فلو كان جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يقوم كل بجزء من الجسم
الخامس لو كان العاقل منها جسمانيا لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما وإلا احتاج إلى حصول صورة أخرى منه وأنه محال لأن يقتضي اجتماع المثلين فلا يحصل وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم كالقلب والدماغ وغيرهما إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة لجواز أن لا يكفي حضوره ولا يحتاج إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير (2/668)
ذلك سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة وهي تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات
الثاني للنظام أنه أجزاء لطيفة سارية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل إنما المتخلل والمتبدل فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص
السادس أنه الأخلاط المعتدلة كما وكيفا
السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة
واعلم أن شيئا من ذلك لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل
الشرح
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسما بل هي لا مكانية لا تقبل إشارة حسية وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف من غير أن تكون داخلة (2/669)
فيه بالجزئية أو الحلول هذا مذهب الفلاسفة المشهورين من المقتدمين والمتأخرين ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وجمع من الصوفية المكاشفين وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق عقولا كانت أونفوسا
احتجوا أي المثبتون بتجريدها بوجوه خمسة
الأول أنها تعقل البسيط الذي لا جزء له بالفعل فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما من الحقائق أي معنى ما من المعاني فإن كانت تلك الحقيقة بسيطة فذاك أي ثبت المطلوب أعني تعقلها للبسيط وإلا كانت تلك الحقيقة مركبة من البسائط بالفعل لأن الكثرة متناهية كانت أو غير متناهية يجب فيها الواحد بالفعل لأنه مبدؤها وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه بالضرورة لا يقال هذا إذا كان الكل معقولا بالكنه فإن تعقله بوجه ما لا يستلزم تعقل شيء من أجزائه لأنا نقول كلامنا في ذلك الوجه المعقول فإن كان بسيطا فذاك وإن كان مركبا كان له بسائط كل واحد بالفعل وأما الثاني وهو أنها إذا تعلقت بالبسيط كانت مجردة فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا أي لو كان ذا وضع أصالة أو تبعا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الجزء الآخر وأنه أي انقسام الحال الذي هو العلم ينافي البساطة في المعلوم إذ يجب أن يكون العلم مطابقا لمعلومه أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل للمعقول لأن التعقل عبارة عن حصول (2/670)
الصورة في القوة العاقلة وهو ممنوع فإن العلم عندنا مجرد تعلق بين العالم والمعلوم يمتاز به المعلوم عند العالم وذلك التعلق أمر اعتباري اتصف به العالم لأمر موجود حال فيه وإن سلم أن العلم بحصول صورة المعلوم فمحل أي فالنفس حينئذ محل لصورة البسيط الذي تعلقه لا لذات البسيط ولا يلزم المطابقة بين الصورة وذي الصورة من جميع الوجوه فقد لا تكون صورة البسيط بسيطة ألا ترى إلى ما قالوه من أنه يجوز أن يكون للبسيط الخارجي صورتان عقليتان أو أكثر كما مر في مباحث الحال و إن سلم أن صورة البسيط يجب أن تكون بسيطة فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وهو ممنوع وحينئذ جاز أن تكون النفس جوهرا فردا كما قال به بعض وإن سلم أن كل ذي وضع منقسم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح الحال عندكم في الجسم المنقسم في جميع الجهات مع أنه لا ينقسم في العمق وكالخط الحال في السطح مع عدم انقسامه في العرض وكالنقطة الحالة في الخط مع أنها لا تنقسم أصلا
وبالجملة إنما يلزم انقسام الحال إذا كان الحلول سريانيا وهو فيما نحن بصدده غير مسلم وإن سلم أنه أي الحال في المنقسم منقسم فبالقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته فإن الجسم البسيط عندكم منقسم بالقوة إلى ما لا يتناهى مع كونه بسيطا بالفعل إذ ليس فيه مفاصل متحققة فليس فيه انقسام فعلي ولا منافاة بين الانقسام وعدمه من جهتي القوة والفعل لأنهما جهتان متغايرتان (2/671)
الثاني من الوجوه الخمسة أنها أي النفس الإنسانية تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر في مباحثه من أن أجزاءه وجودات أو عدمات إلى آخر الكلام والجواب ما تقدم من المنوع الواردة على مقدمات أدلة بساطته والمنوع المذكورة في الوجه الأول الذي هو أعم منه
الثالث من تلك الوجوه أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر لأنها تحكم بين الكليات أحكاما إيجابية وسلبية فلا بد لها من تعقلها وأما الثاني فلأن النفس إذا كانت ذات وضع كان المعنى الكلي حالا في ذي وضع ولا شك أن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار مخصوص ووضع معين ثابتين لمحله فلا يكون ذلك الحال مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع فلا يكون حينئذ كليا هذا خلف لأن المقدر خلافه والجواب يعرف مما مر إذ لا نسلم أن عاقل الكلي محل له لابتنائه على الوجود الذهني وأيضاف الحال فيما له مقدار وشكل ووضع معين لا يلزم أن يكون متصفا بها لجواز أن لا يكون الحلول سريانيا ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشيخ لما له الشيخ في الصغر والكبر كالصور المنقوشة على الجدار وكصورة السماء في الحس المشترك مع وجود المطابقة بينهما وتحقيقه أن معنى المطابقة هو أن الصورة إذا جردت عما عرض لها بتبعية المحل كانت مطابقة لكثيرين ألا ترى أنه يجب تجريدها عن التشخص العارض لها بسبب المحل (2/672)
الرابع منها أنها تعقل الضدين إذ نحكم بينهما بالتضاد فلو كان مدركها جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال بديهة والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية فليس يلزم من ثبوت التضاد بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد أيضا لأن الضدين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجردا وإن سلمنا تضاد صورتي الضدين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الأخرى فلا يلزم اجتماع المتضادين في محل واحد
الخامس منها أن نبطل كونها جسما بما مر ثم نقول لو كان العاقل منها جسمانيا حالا في جميع البدن أو في بعضه لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما يعني أن الصورة الخارجية التي للمحل حاضرة بذاتها عند العاقل دائما فلو كفى ذلك في تعقله إياه كان تعقله مستمرا دائما وإلا احتاج تعقله له إلى حصول صورة أخرى منتزعة منه حاصلة فيه وأنه محال لأنه يقتضي اجتماع المثلين لأن الصورتين متماثلتان في الماهية فلا يحصل ذلك التعقل دائما وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم والقوة العاقلة كالقلب والدماغ وغيرهما من أجزاء البدن إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة بمنع ما ذكر في بيانها لجواز أن لا يكفي في تعقله حضوره بصورته الخارجية ولا يحتاج أيضا إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير ذلك لأن كون التعقل بحصول (2/673)
الصورة ممنوع عندنا سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع سلمنا تمثلهما لكن لا اجتماع بينهما في محل واحد لأن إحداهما محل للعاقلة والأخرى حالة فيها
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا وهي كثيرة لكن المشهور منها تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات يعني أنها جوهر لظهور قيامها بذاتها وغير منقسمة لما مر من تعقلها للبسائط وليست مجردة لامتناع وجود المجردات الممكنة فتكون جوهرا فردا هو في القلب لأنه الذي ينسب إليه العلم
الثاني للنظام أنه أجزاء هي أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل حتى إذا قطع عضو من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء إنما المتخلل والمتبدل من البدن فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق من أول عمره إلى آخره ولا شك أن المتبدل ليس كذلك
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص وهو المختار عند جمهور المتكلمين
السادس أنه الأخلاط الأربعة المعتدلة كما وكيفا (2/674)
السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة فالبدن بمنزلة الزق المنفوخ فيه واعلم أن شيئا من ذلك الذي رويناه لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل عليه
المقصد الثالث
المتن
في أن النفوس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقوله تعالى بعد تعداد أطوار البدن ثم أنشأناه خلقا آخر
والمراد إفاضة النفس
وقال بعضهم بل قبله لقوله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وغاية هذه الأدلة الظن أما الآية فلجواز أن يريد بقوله ثم أنشأناه جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس هذا والحكماء قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها
احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق بالبدن متمايزة (2/675)
أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها فتكون كل نفس نوعا منحصرا في الشخص فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد نفسان متماثلان وإن كان لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ وسنبطله وإن لم تكن متمايزة فبعد التعلق إن بقيت كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وإن لم تبق كما كانت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وأيضا فقد عدمت تلك الهوية وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب احتج الخصم بوجوه
الأول أن كل حادث له مادة قلنا أعم من مادة يحل فيها أو يتعلق بها
الثاني لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية والجواب المنع
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والجواب شرط امتناعه الترتب كما مر
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من شرط حادث دفعا للدور والتسلسل فلحدوث النفس شرط وهو حدوث البدن فإذا حدث البدن فاض عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى لما ذكرنا من حصول العلة بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة (2/676)
واعلم أن هذا دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها على وتيرة بخلاف مفارقة النفوس إذ قد يتفق وباء أو جائحة أو قتل عام يهلك فيها من النفوس ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان وليس شيء منها يصلح للتعويل وعلى أصل الدليل اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب
الشرح
المقصد الثالث في أن النفس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته عند من أثبتها زائدة على ذاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع حدوث البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقولهم تعالى بعد تعداد أطوار البدن ثم أنشأناه خلقا آخر والمراد بهذا الإنشاء إفاضة النفس على البدن
وقال بعضهم بل قبله لقوله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وغاية هذه الأدلة الظن دون اليقين الذي هو المطلوب أما الآية فلجواز أن يريد بقوله ثم أنشأناه جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم من ذلك حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس فلكل رجحان من وجه فيتقاومان هذا كما ذكرناه وأما الحكماء فإنهم قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق (2/677)
بالبدن متعددة متمايزة أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها وتعينها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها أو بلوازمها فتكون كل نفس من النفوس البشرية نوعا منحصرا في الشخص الواحد فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد فيما بين الجميع نفسان متماثلان وإن كان تمايزها لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم من أن تعدد أفراد النوع الواحد معلل بقابله والأعراض المكتنفة به ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ أي انتقالها من بدن إلى آخر وسنبطله وإن لم تكن قبل التعلق متمايزة بل كانت واحدة فبعد التعلق إن بقيت على وحدتها كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وسائر الصفات وأنه باطل بالضرورة وإن لم تبق كما كانت بل تكثرت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وحجم فلا تكون مجردة بل مادية وأيضا فقد عدمت بذلك التجزي والانقسام تلك الهوية الواحدة القديمة وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب وهو أن النفوس المتعلقة بالأبدان حادثة
احتج الخصم على قدمها بوجوه ثلاثة
الأول أن كل حادث له مادة فلو كانت النفس حادثة كانت مادية لا مجردة قلنا بعد تسليم الملازمة تلك المادة التي يستلزمها الحدوث أعم من مادة يحل الحادث فيها أو يتعلق بها والمعتق بالمادة يجوز أن يكون مجردا بحسب ذاته (2/678)
الثاني لو لم تكن الناطقة أزلية لم تكن أبدية أيضا والتالي باطل إتفاقا وأما الملازمة فلأنها إذا كانت حادثة يزول وجودها لأن كل كائن فاسد والجواب المنع ومعنى القضية المذكورة أن كل حادث فهو في حد ذاته قابل للعدم وليس يلزم منه طريانه عليه لجواز أن يمتنع عدمه لغيره أبدا
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والصواب عدم تناهي النفوس وذلك لأنها إذا كانت حادثة كان حدوثها بحدوث الأبدان التي هي شرط فيضانها من المبدأ القديم والأبدان غير متناهية لاستنادها إلى اقتضاء الأدوار الفلكية التي لا تتناهى فتكون النفوس البشرية غير متناهية أيضا لكن لا استحالة في لا تناهي الأبدان والأدوار لأنها متعاقبة بخلاف النفوس فإنها باقية بعد المفارقة فيلزم اجتماع أمور موجودة غير متناهية وهو محال بالتطبيق والجواب شرط امتناعه الترتب الطبيعي أو الوضع كما مر والنفوس الناطقة وإن كانت موجودة مجتمعة إلا أنها غير مترتبة فيجوز لا تناهيها
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من استناده إلى المبدأ القديم الواجب من شرط حادث فقوله دفعا للدور والتسلسل تعليل لما هو المقدر في الكلام وأما الاحتياج إلى الشرط فلئلا يلزم تخلف المعلول عن علته التامة فلحدوث النفس من المبدأ المفيض شرط وهو حدوث البدن لأنه القابل المستعد لتدبيرها وتصرفها فإذا حدث البدن فاضت عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ حيث قال إن صح التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى حدثت الآن لما ذكرنا من حصول العلة المؤثرة (2/679)
بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة واعلم أن هذا الذي ذكره أرسطو في حدوث النفس وبطلان التناسخ دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ على تقدير قدمها وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها أي حدوث النفوس على وتيرة واحدة فإنه كلما استعد بدن حدث نفس بخلاف مفارقة النفوس مع حدوث الأبدان إذ قد يتفق وباء أي فساد هواء أو جايحة أي حادثة مستأصلة كالطوفان أو قتل عام يهلك فيها من النفوس دفعة ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان كما نقل من أنه وقع حرب في أرض يونان فقتل في يوم واحد مائتا ألف من الجانبين ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها فلو كان تعلق النفوس على طريقة التناسخ لزم تعطل بعضها إلى أن يحدث بدن تتعلق به وليس شيء منها والأظهر منهما أي من هذين الطريقين الآخرين يصلح للتعويل إذ لا نسلم لزوم التذكر لأحوالها في البدن السابق لجواز كونه مشروطا بالتعلق به على أنه قد نقل عن بعضهم أنه قال إني لأتذكر كوني في صورة الجمل ولا نسلم أن عدد أبدان الحيوانات الصغيرة والكبيرة في البحور والبراري لا يساوي عدد تلك النفوس المفارقة (2/680)
وعلى أصل الدليل الذي أبطل به التناسخ اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب مثل أن يقال لا نسلم أن كل حادث لا بد له من شرط حادث فإن الفاعل المختار له أن يخصص الحوادث بأوقاتها من غير أن يكون هناك داع وليس هذا مستلزما للتخلف عن العلة المستلزمة سلمناه لكن لا نسلم أن شرط حدوث النفس هو البدن ولم لا يجوز أن يكون له شرط غيره سلمناه لكن لا نسلم أنه إذا حدث بدن وجب أن يفيض عليه نفس إنما يجب ذلك إذا لم يتعلق به نفس مستنسخة وقد يقال أراد بأصل الدليل ما ذكره أرسطو على حدوث النفس فإنه أصل لدليله على إبطال التناسخ فيعترض عليه بأنا لا نسلم أن علة التمايز إما الذات أو غيرها لأن التمايز أمر عدمي فلا يحتاج إلى علة ولا نسلم تماثل النفوس كلها ولا تماثل نفسين منها والاستعداد لا يجدي نفعا ولا نسلم أن تمايز أفراد نوع واحد إنما يكون بالقابل وما تقدم في بيانه قد ظهر لك هناك فساده إلى غير ذلك مما لا يخفى على الفطن
تعليق
ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها
لا نقول بأي رأي ولكن تعليقنا على أنه قال في ذلك اليوم ونسي أنه إن كان تعلق النفس بالتناسخ فالنفس تتعلق بالأجسام في الرحم وليس بعد الولادة والدليل قول الله ثم أنشأناه خلقا آخر في ذكر مراحل تطور الجنين فيكون التعلق في الرحم ثم الميلاد بعد فترة الحمل وهو لم يحص المواليد في العالم كله بعد إتمام تلك الفترة
المقصد الرابع
المتن
تعلق النفس بالبدن تعلق العاشق بالمعشوق لتوقف كمالاتها ولذاتها عليه وأولا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه (2/681)
وتفيده قوة بها تسري إلى جميع البدن فتفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عندنا للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى
الشرح
المقصد الرابع تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر وليس أيضا تعلقا في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها لما عرفت من أنها متجردة بذاتها غنية عما تحل فيه بل هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالآلات التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة ومن ثمة قيل هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقا جبليا إلهاميا فلا ينقطع ما دام البدن صالحا لأن تتعلق به النفس ألا يرى أنه تحبه ولا تمله مع طول الصحة ولا تكره مفارقته وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه فإنها في مبدأ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت إلى آلات تعينها على اكتساب تلك الكمالات وإلى أن تكون تلك الآلات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى إذا حاولت فعلا خاصا كالإبصار مثلا التفت إلى العين فتقوى على الإبصار التام وكذا الحال في سائر الأفعال ولو اتحدت الآلة لاختلطت الأفعال ولم يحصل لها شيء منها على الكمال وإذا حصلت لها الإحساسات توصلت منها إلى الإدراكات الكلية ونالت حظها من العلوم والأخلاق المرضية وترقت إلى لذاتها العقلية بعد إحتظائها باللذات الحسية (2/682)
فتعلقها بالبدن على وجه التصرف والتدبير كتعلق العاشق في القوة بل أقوى منه بكثير وإنما تتعلق من البدن أو لا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغداء الغذاء ولطيفه فإن القلب له تجويف في جانبه الأيسر ينحذب إليه لطيف الدم فيبخره بحرارته المفرطة فذلك البخار هو المسمى بالروح عند الأطباء وعرف كونه أول متعلق للنفس بأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة مما وراء موضع الشد ولا يبطلها مما يلي جهة الدماغ وأيضا التجارب الطبية تشهد بذلك وتفيده أي تفيد النفس الروح بواسطة التعلق قوة بها تسري الروح إلى جميع البدن فتفيد الروح الحامل لتلك القوة كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عند للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى كما مر مرارا (2/683)
المرصد الرابع في العقل
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث واحتجوا بوجهين
الأول الله تعالى واحد فلا يصدر عنه ابتداء إلا واحد ويمتنع أن يكون ذلك جسما لتركبه ولتقدم الهيولى والصورة عليه ضرورة ولا أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر ولا عرضا إذ لا يستقل بالوجود دون الجوهر ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم فيمتنع أن يكون سببا لما بعده فتعين أن يكون هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم (2/684)
والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجدد جزئيه فيكون مصدر الأثرين ولا جسما آخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع بالقياس إليه بالتجربة فلو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولى إليه وضع قبل الصورة وأنه محال ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه ولا أحد جزئيه وإلا لكان علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله بالوجود ولا عرضا لتأخره عنه فهو العقل
الاعتراض بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه وبواسطته يصدر الآخر وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله وأما على الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء لا يفيد العموم سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب كما مر (2/685)
الشرح
المرصد الرابع في العقل والمراد به كما مر موجود ممكن ليس جسما ولا حالا فيه ولا جزءا منه بل هو جوهر مجرد في ذاته مستغن في فاعليته عن الآلات الجسمانية وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث
قال بعضهم وجه الجمع بينه وبين الحديثين الآخرين أول ما خلق الله القلم وأول ما خلق الله نوري أن المعلول الأول من حيث أنه مجرد يعقل ذاته ومبدؤه يسمى عقلا ومن حيث أنه واسطة في صدور سائر الموجودات ونفوس العلوم يسمى قلما ومن حيث توسطه في إفاضة أنوار النبوة كان نورا لسيد الأنبياء واحتجوا عليه أي على إثبات العقل بوجهين
الأول الله تعالى واحد حقيقي لا تكثر فيه أصلا بوجه من الوجوه فلا يصدر عنه ابتداء إلا الواحد ويمتنع أن يكون ذلك الصادر عنه جسما لتركبه فلو صدر أولا لزم تعدد الصادر في المرتبة الأولى ولتقدم الهيولى (2/686)
والصورة عليه ضرورة لأن الجزء متقدم على الكل فلو كان هو الصادر الأول لتقدم على أجزائه ولا يجوز أيضا أن يكون الصادر الأول أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر فلا يستقل بالتأثير أيضا والصادر الأول مستقل بالوجود والتأخير معا ولا عرضا إذا لا يستقل بالوجود دون الجوهر الذي هو محله فكيف يوجد قبله ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم الذي هو آلتها فيمتنع أن يكون سببا لما بعده ويجب ذلك فيما صدر أولا فتعين أن يكون الصادر الأول هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم كالفلك مثلا لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجد جزئيه لأن موجد الكل حقيقة يجب أن يكون موجدا لكل واحد من أجزائه فيكون الواجب تعالى مصدر الأثرين في مرتبة واحدة ولا جسما للآخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع مخصوص بالقياس إليه أما بالمجاورة والقرب أو المحاذاة والمقابلة علم ذلك بالتجربة فإن النار لا تسخن أي جسم كان بل ما يقاربها والشمس لا تضيء إلا ما يقابلها فلو أوجد جسم جسما آخر لوجب أن يفيض صورته على هيولاه ولو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولى وضع قبل الصور وأنه محال لأن وضع الهيولى مستفاد من الصورة التي هي ذات وضع بالذات لكونها في حد نفسها ممتدة في الجهات ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه فإن النفس لا تؤثر إلا بآلات جسمانية فيكون تأثيرها متأخرا على الجسم فكيف يتصور إيجادها إياه ولا أحد جزئيه وإلا لكان ذلك الجزء الموجد للجسم علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله (2/687)
بالوجود دون الآخر فلا يتصور كونه علة موجدة للآخر ولا عرضا لتأخره عنه في الوجود فهو أي الموجد للجسم العقل
الاعتراض بناء على تسليم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الوجه الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه عن الواجب تعالى ابتداء وبواسطته يصدر الآخر وقد صرحوا بأن الصورة جزء لعلة الهيولى وليس يلزم من كونها غنية في مدخلية التأثير عن الهيولى كونها غنية في وجودها متشخصة عنها وإن سلم ذلك فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا على ذلك التعلق فيجوز أن يوجد الجسم بلا تعلق هو منشأ للتصرف والتدبير وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله
وأما على الوجه الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر الجسم فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء على سبيل التجربة كما ذكرتم لا يفيد العموم لأنه استقراء ناقص سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب بأن يوجد أحد جزئيه ابتداء وبتوسطه الجزء الآخر لما مر في الاعتراض على الوجه الأول
المقصد الثاني
المتن
في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته (2/688)
فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده عقل وباعتبار وجوبه بالغير نفس وباعتبار إمكانه جسم إسنادا للأشرف إلى الجهة الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك من الثاني عقل ونفس وفلك إلى العاشر ويسمى العقل الفعال المفيض للصور والأعراض على العناصر والمركبات يسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية وأوضاعها
الاعتراض هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع إن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي وإسناد الفلك الثامن مع ما فية من الكواكب المختلفة إلى جهة واحدة مشكل وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها إلى العقل الفعال
وبالجملة فلا يخفى ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
الشرح
المقصد الثاني في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده يصدر عقل وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس وباعتبار إمكانه يصدر جسم هو الفلك الأول وإنما قلنا إن صدورها عنه على هذا الوجه إسناد للأشرف إلى الجهة (2/689)
الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك يصدر من العقل الثاني عقل ثالث ونفس ثانية وفلك ثان وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك أعني فلك القمر ويسمى العقل الفعال المؤثر في هيولى العالم السفلي المفيض للصور والنفوس والأعراض على العناصر البسيطة وعلى المركبات منها بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وأوضاعها
الاعتراض أن يقال هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر متعددة وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل حينئذ أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع أن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وقد يجاب عنه بأنها ليست جزءا من المؤثر بل هي شرط للتأثير والشرط قد يكون أمرا اعتباريا لكن مثل هذه الاعتبارات من السلوب والإضافات عارضة للمبدأ الأول فيجوز أن تكون بحسبها مصدرا لأمور متعددة كالمعلول الأول وذلك مناف لمذهبهم الذي بنوا عليه كلامهم في ترتيب الموجودات وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي لا يلتفت إليه في المطالب العلمية وإسناد الفلك الثامن مع ما فيه من الكواكب المختلفة المقادير المتكثرة كثرة لا تحصى إلى جهة واحدة في العقل الثاني كما زعموه مشكل جدا وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها الفائتة عن الحصر إلى العقل الفعال مشكل أيضا
وبالجملة فلا يخفى عن الفطن المنصف ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
وفي الملخص أنهم خبطوا فتارة اعتبروا في العقل الأول جهتين وجوده وجعلوه علة العقل وإمكانه وجعلوه علة الفلك ومنهم من اعتبر (2/690)
بدلهما تعقله لوجوده وإمكانه علة لعقل وفلك وتارة اعتبروا فيه كثرة من ثلاثة أوجه كما ذكر في متن الكتاب وتارة من أربعة أوجه فزادوا علمه بذلك الغير وجعلوا إمكانه علة لهيولى الفلك وعلمه علة لصورته فظهر أن العقول عاجزة عن إدراك نظام الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر
المقصد الثالث
المتن
في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان
الخامس أنها عاقلة لذواتها إذا التعقل حضور الماهية المجردة عند الشيء ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد إذ كل مجرد يمكن (2/691)
أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ لا تضاد في التعقلات فيمكن أن يقارنه الماهية المجردة للغير في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها مطلقا إذ كونها في العقل ليس شرطا للمقارنة لأنه لو كان شرطا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور وإذا جاز مقارنة المجردة إياها أمكن تعقلها له وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل فإذا هو عاقل لكل ما يغايره بالفعل وهو المطلوب
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري وحقيقة العقول والنفوس وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان لا يعمم كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله وإن سلم فلا نسلم أنه يقتضي مقارنة الماهية المجردة للعقل وإنما يصح لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل وقد تكلمنا فيه وإن سلمنا فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة جواز مقارنته للغير مطلقا قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان مثلين وهو ممنوع فإن حصول الشيئين في ثالث مخالف لحصول أحدهما في الآخر وإن سلم فلا يلزم إمكان تعقله وإنما يلزم هذا لو كان هو قابلا للتعقل لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة لأنا نمنعه لجواز أن يكون أمرا مغايرا مشروطا بها
السابع أنها لا تعقل الجزئيات لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية ولأنها تتغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري في مسألة العلم (2/692)
خاتمة في الجن والشياطين وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وهو خلاف ما تعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى لو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف على الأفعال الشاقة ولا ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها
وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها وإن أردتم سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء ورقة القوام فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام كما في الأسد مع الحمار قال قوم هي النفوس الأرضية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة تتعلق بالخيرة وتعاونها على الخير (2/693)
وهي الجن والشريرة تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور
الشرح
المقصد الثالث في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى فلا يتصور إلا في المركب المشتمل على جهتي قبول وفعل وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل فلا تكون العقول لبساطتها فاسدة بل أبدية
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل بالفعل دائما وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان والعقول مجردة غير زمنية (2/694)
الخامس أنها عاقلة لذواتها إذ التعقل حضور الماهية المجردة عن الغواشي الغريبة عند الشيء المجرد القائم بذاته ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة والتغاير الاعتباري كاف في تحقق الحضور وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس فإن الإحساس إنما يكون بحصول صورة مغايرة عند الحاسة لا بحصول صورة مطلقا وإلا كانت الحواس مدركة لصورها الخارجية وهو باطل
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد من المجردات القائمة بذواتها فإنه يعقل الكليات إذ كل مجرد كذلك يمكن أن يعقل لأن ذاته منزه عن العلائق الغريبة عن ماهيته والشوائب المادية المانعة عن التعقل فماهيته لا تحتاج إلى عمل يعمل بها حتى تصير معقولة فإن لم تعقل كان ذلك من جهة العاقل فكل مجرد فهو في حد نفسه يمكن أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ نعلم بالضرورة أنه لا تضاد في التعقلات فكل معقول يمكن أن يعقل مع كل واحد من سائر المعقولات وأيضا كل ما يعقل فإنه لا ينفك عن صحة الحكم عليه بالأمور العامة كالواحدية والإمكان وغيرهما والحكم بين شيئين يستدعي تعقلهما معا فكل معقول يمكن أن يعقل مع غيره في الجملة وحينئذ فيمكن أن يقارنه أي المجرد الماهية المجردة أي الماهية الكائنة التي للغير في العقل لأن التعقل عبارة عن حصول ماهية المعقول في العاقل فإذا تعقل (2/695)
المجرد مع ماهية غيره كانا معا حاصلين في العقل فيكون كل منهما مقارنا للآخر فيه فإذا أمكن أن يقارن ماهية الغير المجرد في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها أي يقارن ماهية الغير ماهية المجرد مطلقا أي سواء كان المجرد موجودا في العقل أو في الخارج إذ كونها أي حصول ماهية المجرد في العقل ليس شرطا للمقارنة المطلقة وصحتها لأنه لو كان شرطا للمقارنة على الإطلاق وصحتها لكان مقارنته أي مقارنة المجرد للعقل التي هي أخص من مطلق المقارنة مشروطة أيضا بكونها أي بكون ماهية المجرد في العقل لأن الأخص لا بد أن يكون مشروطا بما شرط به الأعم وحينئذ يلزم الدور لأن كون ماهية المجرد في العقل هو عين مقارنته له المشروط به وإذا لم يكن كون المجرد في العقل شرطا للمقارنة بينه وبين ماهية الغير جازت المقارنة بينهما إذا كان المجرد موجودا في الخارج وإذا جاز مقارنة الماهية الكلية المجردة التي للغير إياها يعني ماهية المجرد حال كونها موجودة في الخارج أمكن تعقلها أي تعقل الماهية الكلية له أي للمجرد أذ لا معنى لتعقله للماهية الكلية إلا مقارنة تلك الماهية له في وجوده الخارجي وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل دائما لم عرفت فإذن هو عاقل لكل ما يغايره من الكليات بالفعل وهو المطلوب ومحصول الكلام أن المجرد يصح أن يكون معقولا إذ لا مانع فيه من تعقله وكل ما يصح أن يكون معقولا يصح أن يعقل مع كل واحد مما يغايره من المفهومات وكل ما أمكن أن يعقل مع غيره أمكن أن يقارن ماهيته ماهية غيره لأن تعقل الشيء عبارة عن حصول ماهيته في العقل ثم إن إمكان مقارنة المعقول المجرد الماهية معقول آخر ليس متوقفا على (2/696)
حصول المجرد في العقل لأن حصوله فيه نفس المقارنة فلو توقف إمكان المقارنة عليه كان إمكان الشيء متوقفا على وجوده ومتأخرا عنه وأنه محال وإذا لم يتوقف إمكان المقارنة على وجود المجرد في العقل أمكن المقارنة حال كون المجرد موجودا في الخارج ولا يتصور ذلك إلا بحصول الغير في المجرد وحلوله فيه وهو عين تعقله إياه وإذا أمكن تعقله له كان حاصلا بالفعل لأن التغير والحدوث من توابع المادة
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري تعالى فإن حقيقته مجردة مع أنه لا يمكن تعقلها للبشر عندكم وحقيقة العقول والنفوس فإنها غير معقولة لنا أين الجزم بإمكان تعقلها ولا نسلم أن المجرد في صيرورته معقولا لا يحتاج إلى عمل يعمل به إنما يصح ذلك إذا انحصر المانع من التعقل في المادة وتوابعها هو ممنوع وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان الشاهد بعدم التضاد والتنافي بين التعقلات لا يعمم شهادته لعدم تعلقه بجميع المفهومات كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله كما أشرنا إليه وإن سلم فلا نسلم أنه أي تعقله مع الغير يقتضي مقارنة الماهية المجردة التي لذلك الغير للعقل أي للمجرد المعقول وإنما يصح ذلك لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل حتى إذا تعقلا معا كانا موجودين متقارنين فيه وقد تكلمنا فيه حيث بينا أن للعلم تعلقا خاصا بين العالم والمعلوم وإن سلمنا أن تعقلهما يستلزم تقارنهما في الوجود الذهني فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة بينهما في العقل جواز مقارنته أي مقارنة المجرد للغير مطلقا
قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان أي مقارنة أحد (2/697)
المعقولين للآخر في العقل ومقارنة أحدهما للعقل مثلين حتى يلزم من اشتراط المقارنة الأولى بكون المجرد في العقل اشتراط الثانية به أيضا فيدور وهو أي كونهما مثلين ممنوع فإن حصول الشيئين كالمجرد وماهية الغير في ثالث هو العقل مخالف لحصول أحدهما أي أحد الشيئين كالمجرد في الآخر كالعقل فإن الأول مقارنة أحد الحالين في محل للحال الآخر والثاني مقارنة الحال لمحله فأين أحدهما من الآخر فلا يلزم من كون المقارنة بين المجرد وماهية الغير مشروطة بكون المجرد في العقل كون المقارنة بين المجرد والعقل مشروطة به ليكون من قبيل الاشتراط الشيء بنفسه لا يقال قد لزم من تعقلهما معا المقارنة بينهما في العقل فقلنا ليست المقارنة مطلقا مشروطة بكون المجرد في العقل وإلا دار كما عرفت لأنا نقول ليس يزعم الخصم أن كل ما يطلق عليه المقارنة بالنسبة إلى المجرد مشروط بكونه في العقل حتى يتم ما ذكرتم بل يزعم أن المقارنة بين المجرد وغيره من المعقولات مشروطة بكونها في العقل حتى إذا وجد المجرد في الخارج فإن شرط المقارنة بينهما فلم يمكن أن يقارنه غيره فلا يصح تعقله إياه وإن سلم تماثل المقارنتين وأنه يمكن مقارنة كل واحد من المعقولات للمجرد في الوجود الخارجي فلا يلزم من ذلك إمكان تعقله للمعقولات المقارنة له وإنما يلزم هذا لو كان هو أي المجرد قابلا للتعقل أي لكونه عاقلا وهو ممنوع لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة فإذا أمكنت المقارنة فقد أمكن التعقل قطعا لأنا نمنعه أي نمنع اتحادهما لجواز أن يكون التعقل أمرا مغايرا للمقارنة مشروطا بها وليس يلزم من إمكان الشرط في موضع إمكان المشروط فيه (2/698)
السابع أنها لا تعقل الجزئيات من حيث هي جزئية لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية لتدرك بها ولأنها أي الجزئيات تتغير فالعلم بها يكون متغيرا فلا يثبت لما لا يجوز عليه التغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري سبحانه في مسألة العلم فإن علمه تعالى محيط بها من غير أن يكون هناك آلة جسمانية أو تغير في ذاته أو صفاته الحقيقية
خاتمة لمباحث العقول في الجن والشياطين فإنها أيضا من الجواهر الغائبة عن حواسنا وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات وتنفذ في منافذها الضيقة نفوذ الهواء المستنشق واختلفوا في اختلافهما بالنوع مع الاتفاق على أنهما من أصناف المكلفين كالملك والإنس ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون الأجسام لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر هي على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وسبب من خارج يصل إليها وهو خلاف ما يعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى ولو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة محضة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية أي عدم اللون فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف الذي لا لون له على الأفعال الشاقة ولا (2/699)
ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها على تلك الأفعال وإن أردتم بها سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء متصغرة ورقة القوام فإن اللطافة تطلق على هذه المعاني فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء إلا أنه يشكل سهولة تشكلها بأي شكل شاءت فلذلك قال كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها ورقتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام في الرقة والغلظ ولا بالجثة في الصغر والكبر ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام والجثة كما في الأسد مع الحمار
قال قوم هي النفوس الأرضية فإن النفس إن كانت مدبرة للأجرام العلوية فهي النفس الفلكية وإن كانت مدبرة للعناصر فهي النفس الأرضية أي السفلية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية وإليها أشار بقوله أتاني ملك الجبال وملك الأمطار وملك البحار وقد وقع في بعض النسخ بدل الأرضية الكروبية بتخفيف الراء أي الملائكة المقربون ورد بأنه غير مناسب لأن الكروبية من الملائكة هم المهيمون المستغرقون في أنوار جلال الله سبحانه وتعالى بحيث لا يتفرغون معه لشيء أصلا لا لتدبير الأجسام ولا للتأثير فيها ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو (2/700)
وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة من المفارقة عن الأبدان تتعلق بالخيرة من المقارنة لها نوعا من التعلق وتعاونها على الخير والسداد وهي الجن والشريرة منها تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر والفساد وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور (2/701)
محرمتابع تدقيق الكتاب خالد الزبن سكينة تيسير يوسف كتاب المواقف ج3 (3/1)
الموقف الخامس في الإلهيات وفيه سبعة مراصد (3/5)
المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصانع
وفيه مسالك
المتن
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه
فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
وهو أن العالم حادث وكل حادث فله محدث
الثاني بإمكانها
وهو أن العالم ممكن لأنه مركب وكثير
وكل ممكن فله علة مؤثرة (3/7)
الثالث بحدوث الأعراض
مثل ما نشاهد من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد من مؤثر صانع حكيم
الرابع بإمكان الأعراض
وهو أن الأجسام متماثلة
فاختصاص كل بما له من الصفات جائر
فلا بد في التخصيص من مخصص له
ثم بعد هذه الوجوه نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر
ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وإما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر
فتعين الثاني
وهو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن موجودا فإن كان واجبا فذاك
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا طرح لمؤنات كثيرة كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين جميع الممكنات من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا تكون جزءه إذ علة الكل علة لكل جزء فيلزم أن يكون علة المجموع علة لنفسه ولعلله
فإذا هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي
فإثباته به مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به هو الممكنات بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ ليس ثمة هيئة اجتماعية (3/8)
والجواب أنا نريد الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية كما في مجموع العشرة
الثالث إن أردت بالعلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية
ومجموعها هو نفس الماهية
وإن أردت بها الفاعل فلم لا يجوز أن يكون جزءه قولك لأنه علة لكل جزء
قلنا ممنوع ولم لا يجوز أن يكون بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر
فإذا قطع النظر عنه لم تحصل الماهية فلم يكن فاعلا مستقلا
فإن قيل هذا منقوض بالمركب من الواجب والممكن وأيضا لو كان فاعل الكل فاعلا لكل جزء للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته
قلت الجواب عن الأول أنا قيدناه بما كل جزء منه ممكن فاندفع النقض
وعن الثاني الثاني أن التخلف عن العلة الفاعلية لا يمتنع
كيف والمراد أن علته لا تكون خارجة عن علة الكل وبذلك يتم مقصودنا
ولا (3/9)
يلزم ما ذكرتم إذ قد تكون علة كل جزء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل
المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة لاحتاج الكل إلى موجد مستقل يكون ارتفاع الكل مرة
بألا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا
ممتنعا بالنظر إلى وجوده
إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود
والذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء كان ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع فيكون واجبا
وهو المطلوب
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره
فيلزم ألا يوجد موجود
أما الأول فلأن ارتفاع الجميع مرة لا يكون ممتنعا لا بالذات ولا بالغير
وأما الثاني فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم
وقد ذكر ههنا شبهات كثيرة حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو
ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر ليلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن
إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا
ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما
ولنذكر منها عدة
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها
والأول باطل
لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته فتتقدم عليه بالوجود
والجواب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك
بل المشترك الوجود بمعنى (3/10)
الكون في الأعيان وأملنا صدق عليه الوجود فلا كالماهية والتشخص
أو وجوده غيره
وتقدم الماهية عليه ليس بالوجود كما تقدم
الثانية لو كان موجودا لكان إما مختارا أو موجبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل
وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل
والجواب لا نسلم أن العالم قديم
وقد مر ضعف دلائله
الثالثة لو كان موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا
والأول باطل
وإلا لزم التغير فيه لتغير المعلوم فلا يكون واجبا
والثاني باطل لأنا نعلم أن هذه الأفعال المتقنة لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير في الإضافات لا في الذات
وأنه جائز كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك تبحرا في العلوم
وعليك بعد الاهتداء إليه أن توقر من أمثاله الأباعر
خاتمة لما ثبت أن الصانع تعالى واجب فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
والمتكلمون إنما احتجوا عليه قبل إثبات ذلك
وعنه غنى
فلا نطول به الكتاب
الشرح
الموقف الخامس في الإلهيات التي هي المقصد الأعلى في هذا العلم وفيه سبعة مراصد لا خمسة كما وقع في بعض النسخ (3/11)
المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثبات الصانع
وللقوم فيه مسالك خمسة
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده
أو الإمكان مع الحدوث شرطا أو شطرا فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
قيل هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه حيث قال لا أحب الآفلين
وهو أن العالم الجوهري
أي المتحيز بالذات حادث كما مر وكل حادث فله محدث كما تشهد به بديهة العقل
فإن من رأى بناء رفيعا حادثا جزم بأن له بانيا
وذهب أكثر مشايخ المعتزلة إلى أن هذه المقدمة استدلالية
واستدلوا عليها تارة بأن أفعالنا محدثة ومحتاجة إلى الفاعل لحدوثها
فكذا الجواهر المحدثة لأن علة الاحتياج مشتركة وأخرى بأن الحادث قد اتصف بالوجود بعد العدم
فهو قابل لهما فيكون ممكنا
وكل ممكن يحتاج في ترجيح وجوده على عدمه إلى مؤثر كما سلف في الأمور العامة
الثاني الاستدلال بإمكانها
وهو أن العالم الجوهري ممكن لأنه مركب من الجواهر الفردة إن كان جسما
وكثير إن كان جسما أو جوهرا فردا
والواجب لا تركيب فيه
ولا كثرة بل هو واحد حقيقي
وكل ممكن فله علة مؤثرة
الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض أما في الأنفس مثل ما نشاهد (3/12)
من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد لهذه الأحوال الطارئة على النطفة من مؤثر صانع حكيم لأن حدوث هذه الأصوار لا من فاعل محال
وكذا صدورها عن مؤثر لا شعور له
لأنها أفعال عجز العقلاء عن إدراك الحكم المودعة فيها
وأما في الآفاق كما نشاهد من أحوال الأفلاك والعناصر والحيوان والنبات والمعادن
والاستقصاء مذكور في الكتاب المجيد ومشروح في التفاسير
الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض مقيسة إلى محالها كما استدل به موسى عليه السلام حيث قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
أي أعطى صورته الخاصة وشكله المعين المطابقين للحكمة والمنفعة المنوطة به وهو أن الأجسام متماثلة متفقة الحقيقة لتركبها من الجواهر المتجانسة على ما عرفت فاختصاص كل من الأجسام بما له من الصفات جائز فلا بد في التخصيص من مخصص له ثم بعد هذه الوجوه الأربعة نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وأما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر في مرصد العلة والمعلول من الأمور العامة فتعين الثاني
وهو المطلوب
ولا يذهب عليك أن ما ذكره تطويل ورجوع بالآخرة إلى اعتبار الإمكان وحده والاستدلال به
والمشهور أن المتكلمين استدلوا بأحوال خصوصيات الآثار على وجود المؤثر
فقالوا إن الأجسام محدثة لما مر فكذا الأعراض
فلا بد لها من صانع
ولا (3/13)
يكون حادثا
وإلا احتاج إلى مؤثر آخر فيلزم الدور أو التسلسل أو الانتهاء إلى قديم
والأولان باطلان والثالث هو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن في الواقع موجودا مع قطع النظر عن خصوصيات الموجودات وأحوالها
وهذه مقدمة يشهد بها كل فطرة فإن كان ذلك الموجود واجبا فذاك هو المطلوب
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر
ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا المسلك طرح لمؤنات كثيرة كانت في المسلك الأول من بيان حدوث العالم وإمكانه
وما يتوجه عليه من الأسئلة والأجوبة عنها فإنها سقطت ههنا كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين يعني صاحب التلويحات
وهو أنه لا شك في وجود ممكن كالمركبات
فإن استند إلى الواجب ابتداء أو انتهى إليه فذاك
وإن تسلسلت الممكنات
قلنا جميع الممكنات المتسلسلة إلى غير النهاية من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة موجدة ترجح وجوده على عدمه لما عرفت من أن الإمكان محوج
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول
ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا جميع أجزائه لأنه عينه
ولا تكون أيضا جزءه أي بعض أجزائه إذ علة الكل علة لكل جزء وذلك لأن كل جزء ممكن محتاج إلى علة
فلو لم تكن علة المجموع علة لكل واحد من الأجزاء لكان بعضها معللا بعلة أخرى فلا تكون تلك الأولى علة للمجموع
بل لبعضه فقط
وحينئذ فيلزم أن يكون الجزء الذي هو علة المجموع علة لنفسه ولعلله أيضا
وإذا لم تكن علة المجموع نفسه ولا أمرا (3/14)
داخلا فيه فإذن هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب ولا بد أن يستند إليه شيء من تلك الممكنات ابتداء فتنتهي به السلسلة
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي لأن ما لا يتناهى ليس له كل ولا مجموع ولا جملة
بل ذلك إنما يتصور في المتناهي
وتناهي الممكنات يتوقف على ثبوت الواجب فإثباته به أي إثبات الواجب بما يدل على تناهي الممكنات مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به أي بالمجموع وما يرادفه في هذا المقام هو الممكنات بأسرها بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي إذ يكفيه ملاحظة واحدة إجمالية شاملة لجميع آحاده
إنما الممتنع أن يتصور كل واحد مما لا يتناهى مفصلا ويطلق عليه المجموع بهذا الاعتبار
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد من آحاد السلسلة فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية بأن يكون كل واحد منها علة لما بعده ومعلولا لما قبله من غير أن ينتهي إلى حد يقف عنده
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ ليس ثمة هيئة اجتماعية إلا بحسب الاعتبار وما جزؤه اعتباري لا يكون موجودا خارجيا
والجواب أنا نريد بالمجموع الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية إذ الكل ههنا عين الآحاد كما في مجموع العشرة
ولا شك أن الكل بهذا المعنى موجود ههنا
الثالث إن أردت بالعلة العلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه
قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في العلة التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه فيكون كل واحد من تلك الأمور متقدما على (3/15)
المعلول
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل
كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية ومجموعها ليس متقدما بل هو نفس الماهية
وإن أردت بها أي بالعلة الفاعل وحده فلم لا يجوز أن يكون جزءه
قولك لأنه علة لكل جزء فيكون علة لنفسه ولعلله قلنا ذلك ممنوع
ولم لا يجوز أن يحصل بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد بالعلة هو الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل من الأجزاء على معنى أنه لا يستند شيء منها بالمفعولية إلا إليه أو إلى ما صدر عنه
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر لم يصدر عنه
فإذا قطع النظر عنه أي عن الآخر لم تحصل الماهية المعلولة التي هي المجموع
فلم يكن ذلك الفاعل فاعلا مستقلا بالمعنى المذكور
وهو خلاف المقدر
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه منقوض بالمركب من الواجب والممكن فإن مجموعهما من حيث هو مجموع لا شك أنه ممكن لاحتياجه إلى جزئه الذي هو غيره مع أن فاعله ليس فاعلا لكل واحد من أجزائه
وأيضا لو كان فاعل الكل بالاستقلال فاعلا لكل جزء منه كذلك للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني كالسرير مثلا إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته المستقلة
إذ عند وجود الجزء المتقدم كالخشب إن وجدت العلة المستقلة للكل لزم الأمر الثاني
وإن لم توجد لزم الأمر الأول
وكلاهما محال
قلت الجواب عن الأول وهو النقض أنا قيدناه أي الكل بما كل جزء منه ممكن كما مر آنفا فاندفع النقض (3/16)
فإن قيل نحن نمنع كون فاعل الكل فاعلا لكل جزء منه ونسنده بالمركب من الواجب والممكن فلا يجديكم إخراجه بقيد الإمكان
قلنا هذا المنع مندفع بما قررناه من الدليل على أن الفاعل المستقل للكل يجب أن يكون فاعلا لكل جزء منه إذا كانت آحادة بأسرها ممكنة
وعن الثاني وهو المعارضة أن التخلف عن العلة الفاعلية المستقلة بالمعنى الذي صورناه لا يمتنع
إنما الممتنع هو التخلف عن العلة الفاعلية المستجمعة لجميع ما يتوقف عليه التأثير
أعني العلة التامة
على أنا نقول كيف يتجه علينا ما ذكرتم
والمراد بقولنا علة الكل يجب أن تكون علة لكل جزء منه أن علته أي علة الجزء لا تكون خارجة عن علة الكل
وبذلك الذي ذكرناه من المراد يتم مقصودنا وهو أن علة المجموع المركب من الممكنات كلها لا يجوز أن تكون جزءه
إذ يلزم حينئذ أن لا تكون علة ذلك الجزء خارجة عنه
فهي إما نفسه وهو محال
أو ما هو داخل فيه فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى ما يكون علة لنفسه
وعلى تقدير التسلسل نقول كل جزء فرض علة في تلك السلسلة فإن علته أولى منه بأن تكون علة لها فيلزم ترجيح المرجوح
هذا خلف
ولك أن تتمسك في إبطال علية الجزء بهذا ابتداء
ولا يلزم ما ذكرتم من أحد الأمرين إذ قد تكون علة كل جزء من الأجزاء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل فعند وجود الجزء المتقدم توجد علته التامة وعند وجود الجزء المتأخر توجد علته التامة ويكون مجموع هاتين العلتين علة تامة للكل
ولا محذور فيه
نعم لو كانت العلة المستقلة للكل عين العلة المستقلة لكل واحد من أجزائه لزم ما ذكرتموه (3/17)
المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة أي لو لم يوجد الواجب لانحصرت الموجودات في الممكن
ولو انحصرت فيه لاحتاج الكل أي المجموع بحيث لا يشذ عنه شيء من أجزائه الممكنة إلى موجد لكونه ممكنا مركبا من ممكنات مستقل في الإيجاد بأن لا يستند وجرد شيء من أجزائه إلا إليه أو إلى ما هو صادر عنه فيكون هو الموجد لكل واحد منها إما ابتداء أو بواسطة هي منه أيضا يكون ارتفاع الكل مرة أي بالكلية وذلك بأن لا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا ممتنعا بالنظر إلى وجوده أي وجود ذلك الموجد المستقل إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود لما عرفت من أن الممكن ما لم يجب وجوده من علته لم يوجد ويلزم من ذلك امتناع عدمه من أجلها بحيث لا يتطرق إليه العدم أصلا بوجه من الوجوه
ولا شك أن عدم المجموع يكون على أنحاء شتى
فإنه قد يعدم بعدم هذا الجزء وبعدم جزء آخر
وهكذا فالموجد المستقل للكل يجب أن يكون بحيث يمتنع بسببه جميع هذه العدمات المنسوبة إلى أجزائه
والشيء الذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء أي عدم واحد منها كان ذلك العدم ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع لا نفسه ولا داخلا فيه لأن عدم شيء منهما ليس ممتنعا نظرا إلى ذاته وإلا كان واجبا لذاته فيكون ذلك الخارج عن جميع الممكنات واجبا وجوده في حد ذاته إذ لا موجود في الخارج سوى الممكن والواجب وهو المطلوب
فإن قلت ثبوت الواجب على تقدير انحصار الموجودات في الممكن (3/18)
يكون خلفا لازما على تقدير نقيض المطلوب لا مطلوبا كأنه قيل إن لم يكن الواجب موجودا لزم انحصار الموجود في الممكنات
ويلزم من وجود هذا الانحصار عدمه
فيكون محالا فيبطل نقيض المطلوب فتظهر حقيته
قلت نعم
لكن الخلف اللازم قد يكون عين المطلوب
ولذلك يقال هذا خلف
ومع ذلك هو مطلوبنا
وهذا المسلك غير محتاج إلى إبطال الدور والتسلسل ومستخرج من ملاحظة حال عدم المعلول بالقياس إلى علته
كما أن المسلك السابق لوحظ فيه حال وجوده مقيسا إليها
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره أي ممكن وحينئذ فيلزم أن لا يوجد موجود أصلا ضرورة انحصار الموجود في الواجب والممكن
أما الأول وهو أنه إذا لم يوجد واجب لم يوجد ممكن فلأن الواجب إذا لم يوجد كانت الموجودات بأسرها ممكنة
ولا شك أن ارتفاع الجميع المركب من الممكنات فقط مرة أي بالكلية لا يكون على ذلك التقدير ممتنعا لا بالذات وهو ظاهر لأنه وآحاده برمتها ممكنة
ولا بالغير لما عرفت من أن الغير الذي يمتنع به رفع الجميع بالمرة لا بد أن يكون موجودا خارجا عنه واجبا لذاته
والمفروض عدمه
وأما الثاني وهو أنه إذا لم يوجد واجب بذاته ولا بغيره لم يوجد موجود أصلا
فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم من أن الموجود إما واجب مسبوق وجوده بموجوبه الذاتي وإما ممكن مسبوق وجوده بموجوبه من علته
وهذا المسلك كالرابع في الاستغناء عن حديث الدور والتسلسل
وقربه منه مكشوف لا سترة به (3/19)
المسلك السادس ما أشار إليه بعض الفضلاء وتحريره أن الممكن لا يستقل بنفسه في وجوده
وهو ظاهر
ولا في إيجاده لغيره
لأن مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود
فإن الشيء ما لم يوجد لم يوجد
فلو انحصر الموجود في الممكن لزم أن لا يوجد شيء أصلا لأن الممكن وإن كان متعددا لا يستقل بوجود ولا إيجاد
وإذ لا وجود ولا إيجاد فلا موجود لا بذاته ولا بغيره
وهذا المسلك أخصر المسالك وأظهرها وقد ذكر ههنا أي في مقام إثبات الصانع شبهات كثيرة أوردها الإمام الرازي في كتبه وأجاب عنها لكن حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر لئلا يلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن ولا استبعاد في إمكان القدح في دليلهما معا إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما حتى يلزم ارتفاع المتقابلين
وذلك لأن الدليل ملزوم للمدلول
وانتقاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه
ولنذكر منها أي من تلك الشبه مع أجوبتها عدة لتطلع بها على أحوال نظائرها
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها إذ لا محال لكونه جزءا منها
والأول باطل لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته (3/20)
لامتناع كونه معلولا لغيرها فتتقدم ماهيته عليه أي على وجوده بالوجود وهو محال كما سلف والواجب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك في الوجود الذي هو عينه بل المشترك هو الوجود بمعنى الكون في الأعيان أعني مفهوم الوجود العارض للموجودات الخارجية
وأما ما صدق عليه الوجود فلا اشتراك فيه
وذلك كالماهية والتشخص أو وجوه غيره أي زائد عليه ومعلول لماهيته وتقدم الماهية عليه ليس بالوجود كما تقدم
الثانية من تلك الشبه لو كان الواجب موجودا لكان إما مختارا أو موجوبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل وكلاهما محال
والجواب لا نسلم أن العالم قديم وقد مر ضعف دلائله
الثالثة منها لو كان الواجب موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا والأول باطل وإلا لزم التغير فيه أي في ذات الواجب تعالى لتغير المعلوم الجزئي من حال إلى حال
فإن زيدا مثلا يتصف تارة بالقيام وأخرى بعدمه
والعلم لا بد فيه من أن يطابق معلومه فيتغير أيضا بحسبه فلا يكون الواجب على هذا التقدير واجبا بل حادثا لأن محل الحوادث حادث
والثاني باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الأفعال المتقنة المشاهدة في الجزئيات لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير اللازم في العلم إنما هو في الإضافات لا في الذات أي لا في صفاته الحقيقية
فإن علمه تعالى صفة واحدة حقيقية قائمة بذاته ومتعلقة بالمعلومات كلها
فإذا تغيرت لم تتغير تلك الصفة بل تغيرت تعلقاته بها وإضافاته إليها فيكون تغيرا في أمور اعتبارية لا في صفات حقيقية
وأنه جائز في الواجب كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك التطويل تبحرا في العلوم وتوسعا في التحقيق والتدقيق
وعليك بعد الاهتداء إليه بما نبهناك به من الضابطة والأمثلة أن توقر من أمثاله الأباعر جمع بعير (3/21)
خاتمة للمقصد الأول لما ثبت أن الصانع تعالى واجب وجوده وممتنع عدمه فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
قال الإمام الرازي في الأربعين كلاما محصله أنه لما ثبت انتهاء الموجودات إلى واجب الوجود لذاته والعدم على الواجب ممتنع لزم كونه تعالى أزليا أبديا
فلا حاجة إلى جعله مسألة على حدة
لكن المتكلمين لما لم يسلكوا تلك الطريقة بل أثبتوا أن هذه الممكنات المحسوسة محتاجة إلى موجود سواها احتاجوا في ذلك إلى وجود آخر فقالوا مثلا لو لم يكن أزليا لكان محدثا محتاجا إلى محدث آخر وتسلسل
ولو لم يكن باقيا دائما لكان عدمه بعد وجوده إما لذاته وهو باطل
وإما بفاعل وهو أيضا محال لأن العدم نفي محض فيمتنع كونه بالفاعل
وإما بطريان ضد
وأنه مستحيل
لأن القديم أقوى
فاندفاع الضد به أولى من انعدامه بالضد
وإما بزوال شرط وهو ممتنع لأن المحدث لا يكون شرطا للقديم
وإن فرض له شرط قديم نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل
ولما بطلت الأقسام كلها امتنع طريان العدم على الصانع
والمصنف صرح بأول كلامه ثم أشار إلى آخره بقوله والمتكلمون إنما احتجوا بوجوه أخر عليه أي على كون الصانع أزليا أبديا قبل إثبات ذلك أي قبل إثبات كونه واجبا وعنه أي عن الاحتجاج بتلك الوجوه على هذا المطلوب بعد بيان كونه واجبا غنى
فلا نطول به الكتاب كما طول به الإمام كتابه على ما أشرنا إليه
المقصد الثاني
المتن (3/22)
في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات
فهو منزه عن المثل والند تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة
وعند أبي هاشم يمتاز بحالة خامسة هي الموجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قلنا لو شاركه غيره في الذات لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية
وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب
وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بما مر في الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن
ومورد القسمة مشترك بين أقسامه وأيضا فنحن نجزم به مع التردد في الخصوصيات
والجواب أن المشترك مفهوم للذات
وأنه عارض للذوات المخصوصة
وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه المفهوم الذي يسمى ذات الموضوع
وهذا منشأ لكثير من الشبه
فإذا انتبهت له وكنت ذا قلب شيحان انجلت عليك وقدرت أن تغالط
وأمنت أن تغالط
منها قولهم الوجود مشترك
إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات
فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود والنزاع فيه (3/23)
ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية
وبالعكس قلنا فيه ما تقدم
ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا مفهوم الوحدة
ولا يلزم فيما صدق عليه
فإنه مختلف
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة واحدا
قلنا يكون ما صدق عليه واحدا
وأما المفهوم فلا
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته وجوده المشترك بين جميع الموجودات ويمتاز عن غيره بقيد سلبي
وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده ليس كذلك
وهذا بطلانه ظاهر
ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم
بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك
الذي هو الكون في الأعيان
زائد على ماهيته تعالى بالضرورة وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث
الشرح
المقصد الثاني في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات إليه ذهب نفاة الأحوال
قالوا والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه
وهو مذهب الشيخ الأشعري وأبي الحسين البصري
فإنهما قالا (3/24)
المخالفة بين كل موجودين من الموجودات إنما هي بالذات وليس بين الحقائق اشتراك إلا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقومة
وعلى هذا فهو منزه عن المثل المشارك في تمام الماهية والند الذي هو المثل المنادى
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة أي الواجبية والحيية والعالمية والقادرية التامتين
هذا عند أبي علي الجبائي
وأما عند أبي هاشم فإنه يمتاز عما عداه من الذوات بحالة خامسة هي موجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قالوا ولا يرد علينا قوله تعالى ليس كمثله شيء لأن المماثلة المنفية ههنا هي المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة
فإن قيل المذكور في الموقف الثاني الموجودية بدل الوجوب
وهو الموافق لما في المحصل والأربعين
أجيب بأن الوجود عند مثبتي الأحوال مشترك بين الموجودات كلها
فلا يتصور كونه مميزا
فالمراد بالموجودية المميزة هو الموجودية المقيدة بالواجبة فيرجع التمييز بالحقيقة إلى القيد
وتندفع المنافاة بين الكلامين
قلنا في إثبات المذهب الحق أنه تعالى لو شاركه غيره في الذات (3/25)
والحقيقة لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية فإن المتشاركين في تمام الماهية لا بد أن يتخالفا بتعين وتشخص حتى تمتاز به هويتهما ويتعددا ولا شك أن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب في هوية كل منهما وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بين الواجب وغيره بما مر في اشتراك الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن ومورد القسمة مشترك بين أقسامه
وأيضا فنحن نجزم به أي بالذات مع التردد في الخصوصيات من الواجب والجواهر والأعراض على قياس ما مر في الوجود
وأيضا فقولنا المعلوم إما ذات وإما صفة حصر عقلي
فلولا أن المفهوم من الذات شيء واحد لم يكن كذلك
والجواب أن المشترك مفهوم الذات أعني ما يصح أن يعلم ويخبر عنه أو ما يقوم بنفسه وأنه أي مفهوم الذات على الوجهين أمر عارض للذوات المخصوصة المتخالفة الحقائق على مآل قولهم إلى أن الأشياء متساوية في تمام الماهية مع اختلافها في اللوازم
وهو غير معقول
ومآل قولنا إلى عكس ذلك وهو ممكن وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه هذا المفهوم أعني الذي يسمى ذات الموضوع
وقد ثبت في غير هذا الفن أن العنوان قد يكون عين حقيقة الذات وقد يكون جزءها
وقد يكون عارضا لها
فمن أين يثبت التماثل والاتحاد في الحقيقة بمجرد اشتراك العنوان وهذه المغالطة
أعني اشتباه العارض بالمعروض منشأ لكثير من الشبه في مواضع عديدة
فإذا انتبهت له أي لهذا المنشأ ووقفت على حاله وكنت ذا قلب شيحان أي يقظان غيور على حرمه التي هي بنات فكره إنجلت عليك تلك الشبه وقدرت على أن تغالط غيرك وأمنت من أن تغالط أنت
منها أي من تلك الشبه قولهم الوجود مشترك إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات (3/26)
فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود لجواز أن يكون ذلك المفهوم خارجا عن حقائق أفراده المتخالفة فلا تكون حقيقة الوجود أمرا واحدا مشتركا مجزوما به
والنزاع إنما وقع فيه لا في مفهوم عارض لحقيقته
ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية كما في الواجب مثلا
وبالعكس أي نعقل الماهية دون الوجود كما في المثلث فلا يكون الوجود عينا ولا داخلا
قلنا فيه ما تقدم من أن الزائد مفهومه لا حقيقته ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا اللازم من دليلكم على تقدير صحته أن يكون مفهوم الوحدة عدميا لا وجوديا
إذ حينئذ يلزم تسلسل الوحدات الوجودية إلى ما لا نهاية له
ولا يلزم هذا التسلسل فيما صدق عليه فإنه مختلف فبعضه وجودي وبعضه عدمي وبعضه زائد وبعضه نفس الماهية كما مرت إليه الإشارة في مباحث الوحدة
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة ومن الصفات الأخر شيئا واحدا هو عين الذات
ولا شبهة في استحالته
قلنا يكون ما صدق أي ما صدق عليه العلم والقدرة مثلا واحدا
وأما المفهوم فلا يكون واحدا بل لكل منهما مفهوم على حدة
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى فلنكتف بما ذكرنا إذ لا يخفى عليك حالها
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته تعالى وجوده المشترك بين جميع الموجودات
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده ليس كذلك
وفي هذه العبارة نوع قصور
والأظهر أن يقال ذاته الوجود المشترك بين الجميع
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي هو أن وجوده ليس زائدا عليه بل هو عينه بخلاف سائر (3/27)
الموجودات
فإن وجودها زائد على ماهياتها
أو يقال ذاته وجوده المساوي لسائر الموجودات بناء على اشتراك الموجود
ويمتاز عنها بعدم عروضه لماهيته بخلاف وجودات الممكنات
فإنها عارضة لماهياتها
وهذا باطل بطلانه ظاهر
أما على المعنى الأول فلأنه يلزم منه أن تكون حقيقة الواجب أمرا مخالطا لجميع الممكنات حتى القاذورات
ولا يخفى استحالته
وأما على المعنى الثاني فلأنه يلزم منه التساوي في الصفات اللازمة
قال المصنف ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك الذي هو الكون في الأعيان زائد على ماهيته تعالى بالضرورة
وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث هل هو زائد عارض لماهيته أو ليس بزائد
المقصد الثالث
المتن في أن وجوده نفس ماهيته أو زائد
وأنه مساو لوجود الممكنات أو مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية
الشرح
المقصد الثالث في أن وجوده نفس ماهيته كما هو مذهب الشيخ وأبي الحسين والحكماء
أم زائد عليها كما هو مذهب جمهور المتكلمين
وأنه مساو لوجود الممكنات أم مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية فلا معنى للإعادة (3/28)
المرصد الثاني في تنزيهه وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن أنه تعالى ليس في جهة ولا في مكان
وخالف فيه المشبهة
وخصصوه بجهة الفوق
ثم اختلفوا فذهب محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها
وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل الجهات
وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد
وأنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال محاذ للعرش غير (3/29)
مماس له
فقيل بمسافة متناهية
وقيل غير متناهية
ومنهم من قال ليس ككون الأجسام في الجهة
لنا وجوه
الأول لو كان في مكان لزم قدم المكان
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه
والمكان مستغن عن المتمكن
الثالث لو كان في مكان فإما في بعض الأحياز أو في جميعها
وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز ونسبته إليها فيكون اختصاصه ببعضها ترجيحا بلا مرجح
أو يلزم الاحتياج في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير
وأما الثاني فلأنه يلزم تداخل المتحيزين وأنه محال بالضرورة
وأيضا فيلزم مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان جوهرا فإما ألا ينقسم أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزء لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى عن ذلك
وأما الثاني
فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال له كان جسما لقام بكل جزء علم وقدرة
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
وربما يقال لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات فيلزم إما قدم الأجسام أو حدوثه
وهو بناء على تماثل الأجسام
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب
وقد علمت ما فيه
احتج الخصم بوجوه (3/30)
الأول ضرورة العقل تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه
والجواب منع الضرورة
وإنما ذلك حكم الوهم
وأنه غير مقبول
وربما يستعان في تصوره بالإنسان الكلي وعلمنا به
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا
فهو إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول
الثالث إنه إما داخل العالم أو خارج العالم
أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول
والأولان فيهما المطلوب
والجواب أنه لا داخل ولا خارج
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا
وهو قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين
وقد يقال في تقريره أجمعنا أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام التحيز تبعا
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى الرحمن على العرش استوى وجاء ربك والملك صفا صفا فإن استكبروا فالذين عند ربك إليه يصعد الكلم الطيب تعرج الملائكة والروح إليه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى
وحديث (3/31)
النزول
وقوله الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فقرر
فالسؤال والتقرير يشعران بالجهة
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات
ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيلها إلى الله كما هو رأي من يقف على إلا الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء نحو قد استوى عمرو على العراق
والعندية بمعنى الاصطفاء والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
وجاء ربك أي أمره
وإليه يصعد الكلم الطيب أي يرتضيه
فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال
و من في السماء أي حكمه أو سلطانه أو ملك موكل بالعذاب
وعليه فقس
الشرح
المرصد الثاني في تنزيهه
وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد سبعة
المقصد الأول أنه تعالى ليس في جهة من الجهات ولا في مكان من الأمكنة وخالف فيه المشبهة وخصصوه بجهة الفوق اتفاقا ثم اختلفوا فيما بينهما فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنه ههنا أو هناك
قال وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل (3/32)
الجهات
وعليه اليهود
حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الركب الثقيل وقالوا أنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له
فقيل بعده عنه بمسافة متناهية
وقيل بمسافة غير متناهية
ومنهم من قال ليس كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى
والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به
لنا في إثبات هذا المطلوب وجوه
الأول لو كان الرب تعالى في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق من المتخاصمين
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه بحيث يستحيل وجوده بدونه
والمكان مستغن عن المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب المكان وكلاهما باطل
الثالث لو كان في مكان فإما أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها لأن المكان عند المتكلمين هو الخلاء المتشابه وتساوي نسبته أي نسبة ذات الواجب إليها وحينئذ فيكون اختصاصه ببعضها دون بعض آخر منها ترجيحا بلا مرجح إن لم يكن هناك مخصص من خارج أو يلزم الاحتياج أي احتياج الواجب في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير إن كان (3/33)
هناك مخصص خارجي
وأما الثاني وهو أن يكون في جميع الأحياز فلأنه يلزم تداخل المتحيزين لأن بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنه أي تداخل المتحيزين مطلقا محال بالضرورة
وأيضا فيلزم على التقدير الثاني مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان متحيزا لكان جوهرا لاستحالة كون الواجب تعالى عرضا
وإذا كان جوهرا فإما أن لا ينقسم أصلا أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزءا لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى الله عن ذلك
وأما الثاني فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه أي التركيب الخارجي ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال في إبطال الثاني لو كان الواجب جسما لقام بكل جزء منه علم وقدرة وحياة مغايرة لما قام بالجزء الآخر ضرورة امتناع قيام العرض الواحد بمحلين فيكون كل واحد من أجزائه مستقلا بكل واحد من صفات الكمال
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
كيلا ينقض دليله بالإنسان الواحد لجريانه فيه
وهذا الاستدلال ضعيف جدا لجواز قيام الصفة الواحدة بالمجموع من حيث هو مجموع
فلا يلزم ما ذكر من المحذور
وربما يقال في نفي المكان عنه تعالى لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات في الماهية فيلزم حينئذ إما قدم الأجسام أو حدوثه لأن المتماثلات تتوافق في الأحكام وهو أي هذا الاستدلال بناء على تماثل الأجسام بل على تماثل المتحيزات بالذات
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب في ذاته
وقد علمت في صدر الكتاب ما فيه وهو أن الاشتراك والتساوي في (3/34)
العوارض لا يستلزم التركيب
احتج الخصم على إثبات الجهة والمكان بوجوه خمسة
الأول ضرورة العقل أي بديهته تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه ليكون مختصا بجهة ومكان إما أصالة أو تبعا
والجواب منع الضرورة العقلية
وإنما ذلك حكم الوهم بضرورته وأنه غير مقبول فيما ليس بمحسوس وربما يستعان في تصوره أي تصور موجود لا حيز له أصلا بالإنسان الكلي المشترك بين أفراده وعلمنا به فإنهما موجودان وليسا متحيزين قطعا
أما الأول فلأنه لو كان متحيزا أو حالا فيه لاختص بمقدار معين ووضع مخصوص
فلا يطابق أفرادا متباينة المقادير والأوضاع
فلا يكون مشتركا بينها
وأما الثاني فلأن العلم بالماهية الكلية لا يختص بمقدار ووضع مخصوصين
وإلا لم يكن علما بتلك الماهية
فإن قلت الإنسان المشترك لا بد أن يكون له أعضاء مخصوصة من عين ويد وظهر وبطن وغيرها على أوضاع مختلفة ومقادير متناسبة وأبعاد متفاوتة
ولا شك في أنه من حيث هو كذلك يكون متحيزا
قلت هذا إنما يلزم إذا لم توجد تلك الأعضاء من حيث أنها كلية مشتركة
ولا شبهة أنها في الإنسان الكلي مأخوذة كذلك
وإنما قال وربما يستعان في تصوره ولم يقل وربما يستدل عليه لأن الاستدلال به موقوف على وجود الكلي الطبيعي ووجود العلم به في الخارج مع أنه مختلف فيه بخلاف الاستعانة المذكورة فإنها تتم مع ذلك الاختلاف الثاني
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا فهو أي الواجب (3/35)
تعالى إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول أي من الأحكام الوهمية
وقد عرفت أن أحكامه لا تقبل في غير المحسوسات لكنها قد تشتبه بالأوليات فتحسب أنها منها
الثالث أنه إما داخل العالم أو خارج العالم أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول وعما تقتضيه بداهة العقل
وإلا ولأن فيهما المطلوب وهو أنه متحيزة وفي جهة
والجواب أنه لا داخل ولا خارج وهذا خروج عن الموهوم دون المعقول
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا وهو أي الواجب تعالى قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين فإن القائم بنفسه هو المستغني عن محل يقومه
وليس يلزم من هذا كونه متحيز بذاته والقائم بغيره هو المحتاج إلى ذلك المحل
ولا يلزم منه كونه متحيزا تبعا
وقد يقال في تقريره أي تقرير الوجه الرابع أجمعنا على أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام هو التحيز تبعا فيكون هو متحيزا أصالة
ويجاب بأن القيام هو الاختصاص الناعت كما مر
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى الرحمن على العرش استوى وجاء ربك والملك صفا صفا فإن استكبروا فالذين عند ربك إليه يصعد الكلم الطيب تعرج الملائكة والروح إليه هل (3/36)
ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى وحديث النزول وهو أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة
وفي رواية في كل ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه
هل من مستغفر فأغفر له
وقوله الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فقرر ولم ينكر
وقال إنها مؤمنة
فالسؤال والتقرير المذكوران يشعران بالجهة والمكان
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات الدالة على نفي المكان والجهة
كيف ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيله إلى الله كما هو رأي من يقف على الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء
نحو قوله قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق
والعندية بمعنى الاصطفاء (3/37)
والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
وجاء ربك أي أمره وإليه يصعد الكلم الطيب أي يرتضيه
فإن الكل عرض يمتنع عليه الانتفال
ومن في السماء أي حكمه أو سلطانه
أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب للمستحقين وعليه فقس سائر الآيات والأحاديث
فالعروج إليه هو العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه
وإتيانه في ظل إتيان عذابه والدنو هو قرب الرسول إليه بالطاعة والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس والنزول محمول على اللطف والرحمة وترك ما يستدعيه عظم الشأن وعلو الرتبة على سبيل التمثيل
وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات
والسؤال بأين استكشاف عما ظن أنها معتقدة له من الأينية في الإلهية
فلما أشارت إلى السماء علم أنها ليست وثنية وحمل إشارتها على أنها أرادت كونه تعالى خالق السماء فحكم بإيمانها إلى غير ذلك من التأويلات التي ذكرها العلماء لهذه الآيات والأحاديث ونظائرها
فارجع إلى الكتب المبسوطة تظفر بها
المقصد الثاني
المتن في أنه تعالى ليس بجسم
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم
فالكرامية قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم إلا في التسمية
ومأخذها التوقيف
ولا توقيف
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل من لحم ودم كمقاتل بن سليمان
وقيل نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه (3/38)
ومنهم من يقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط
وقيل شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه
وأيضا يلزم تركبه وحدوثه
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح أو الاحتياج
وأيضا فيكون متناهيا فيتخصص بمقدار وشكل
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون لمخصص
ويلزم الحاجة
وحجتهم ما تقدم والجواب الجواب
الشرح
المقصد الثاني في أنه تعالى ليس بجسم وهو مذهب أهل الحق
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم ثم اختلفوا فالكرامية أي بعضهم قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم آخرون منهم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم على التفسيرين إلا في التسمية أي إطلاق لفظ الجسم عليه ومأخذها التوقيف
ولا توقيف ههنا
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل مركب من لحم ودم كمقاتل بن سليمان وغيره
وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه
ومنهم أي من المجسمة من يبالغ ويقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط أي شديد الجعودة
وقيل هو شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه في المقصد الأول
وأيضا يلزم (3/39)
تركبه وحدوثه لأن كل جسم كذلك
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح إذا لم يكن هنالك مرجح من خارج
وذلك الاستواء نسبة ذاته تعالى إلى تلك الصفات كلها أو الاحتياج أي احتياج ذاته في الاتصاف بذلك البعض إلى غيره
وأيضا فيكون متناهيا على تقدير كونه جسما فيتخصص لا محالة بمقدار معين وشكل مخصوص
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون بمخصص خارج عن ذاته لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح
ويلزم حينئذ الحاجة إلى الغير في الاتصاف بذلك الشكل والمقدار وحجتهم ما تقدم من أن كل موجود فهو إما متحيز أو حال في المتحيز كما تشهد به البديهة
والثاني مما لا يتصور في حقه تعالى
والأول هو الجسم
وأيضا كل قائم بنفسه جسم
وأيضا الآيات والأحاديث دالة على كونه جسما والجواب الجواب
المقصد الثالث
المتن
أنه تعالى ليس جوهرا ولا عرضا أما الجوهر أما عند المتكلم فلأنه المتحيز
وقد أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته
ووجود الواجب نفس ماهيته
وأما العرض فلاحتياجه إلى محله
الشرح
المقصد الثالث أنه تعالى ليس جوهرا ولا عرضا
أما الجوهر فنقول إنه مسلوب عنه تعالى فأما عند المتكلم فلأنه المتحيز بالذات وقد (3/40)
أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته ووجود الواجب نفس ماهيته فلا يكون جوهرا عندهم أيضا
وأما العرض فلاحتياجه في وجوده إلى محله
والواجب تعالى مستغن عن جميع ما عداه
المقصد الرابع
المتن
أنه تعالى ليس في زمان
هذا ما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
أما عند الحكماء فلأن الزمان مقدار حركة المحدد فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وأما عندنا فلأنه متجدد يقدر به متجدد فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حادث بالحدوث الزماني أو الذاتي فتقدم الباري سبحانه عليه ليس تقدما زمانيا
وأن بقاءه ليس عبارة عن وجوده في زمانين ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان
وأنه يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي ولو في الأمور المستقبلة
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى ليس في زمان أي ليس وجوده وجودا زمانيا
ومعنى كون الوجود زمانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في زمان
كما أن معنى كونه مكانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في مكان هذا مما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
وإن كان مذهب المجسمة يجر إليه كما يجر إلى الجهة والمكان
أما عند الحكماء فلأن الزمان (3/41)
عندهم مقدار حركة المحدد للجهات فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وتوضيحه أن التعين التدريجي زماني بمعنى أنه يتقدر بالزمان وينطبق عليه
ولا يتصور وجوده إلا فيه والتغير الدفعي متعلق بالآن الذي هو طرف الزمان
فما لا تغير فيه أصلا لا تعلق له بالزمان قطعا
نعم وجوده تعالى مقارن للزمان وحاصل مع حصوله
وأما أنه زماني أو آني أي واقع في أحدهما
فكلا
وأما عندنا فلأنه أي الزمان متجدد يقدر به متجدد
فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر الزمان به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه على ما يتضمنه هذا الأصل الذي مهدناه آنفا يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حدثنا بالحدوث الزماني كما هو رأينا أو الذاتي كما هو رأي الحكيم فتقدم الباري سبحانه عليه لكونه موجدا إياه ليس تقدما زمانيا وإلا لزم كونه تعالى واقعا في الزمان
بل هو تقدم ذاتي عندهم
وقسم سادس عندنا كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعضها ويعلم أيضا أن بقاءه ليس عبارة عن وجوده في زمانين وإلا كان تعالى زمانيا بل هو عبارة امتناع عدمه ومقارنته مع الأزمنة ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان وإلا لم يتصف به الباري تعالى وأنه أي ما ذكرناه من أنه تعالى ليس زمانيا يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي
ولو في الأمور المستقبلة الواقعة فيما لا يزال كقوله تعالى إنا أرسلنا نوحا وذلك لأنه إذا لم يكن زمانيا لا بحسب ذاته ولا بحسب صفاته كان نسبة كلامه الأزلي إلى جميع الأزمنة على السوية
إلا أن حكمته (3/42)
تعالى اقتضت التعبير عن بعض الأمور بصيغة الماضي وعن بعضها بصيغة المستقبل فسقط ما تمسك به المعتزلة في حدوث القرآن من أنه لو كان قديما لزم الكذب في أمثال ما ذكر
فإن الإرسال لم يكن واقعا قبل الأزل
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
منها إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل وسيكون موجودا في الأبد
وهو موجود الآن لم نرد به أن وجوده واقع في تلك الأزمنة بل أردنا أنه مقارن معها من غير أن يتعلق بها كتعلق الزمانيات
ومنها أنه لو ثبت وجود مجردات عقلية لم تكن أيضا زمانية
ومنها أنه إذا لم يكن زمانيا لم يكن بالقياس إليه ماض وحال ومستقبل
فلا يلزم من علمه بالتغيرات تغير في علمه
إنما يلزم ذلك إذا دخل فيه الزمان
المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم من امتناع اتحاد الإثنين مطلقا
وأنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب
وأيضا لو استغنى على المحل لذاته لم يحل فيه
وإلا احتاج إليه لذاته ولزم قدم المحل
وأيضا فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه
وإلا كان أحقر الأشياء
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول
والأجسام متساوية في القبول
وإنما التخصيص للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة
وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا وفي جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه
كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى (3/43)
تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين طوائف
الأولى النصارى
وضبط مذهبهم
أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه كل ذلك إما ببدنه أو بنفسه
وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق أو لا ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا والسابع لما سنبينه أن لا مؤثر إلا الله
وأما تفصيل مذهبهم فسنذكره في خاتمة الكتاب
الثانية النصيرية والإسحاقية من الشيعة
قالوا ظهور الروحاني (3/44)
بالجسماني لا ينكر ففي طرف الشر كالشياطين
وفي طرف الخير كالملائكة
فلا يمتنع أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة
ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم
الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول والاتحاد
والضبط ما ذكرناه في قول النصارى
ورأيت من ينكره ويقول إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها
وهذا العذر أشد من الجزم
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم أي في الموقف الثاني من امتناع اتحاد الإثنين مطلقا
وفي أنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره وذلك لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب الذاتي وأيضا لو استغنى عن المحل لذاته لم يحل فيه إذ لا بد في الحلول من حاجة
ويستحيل أن يعرض للغني بالذات ما يحوجه إلى المحل
لأن ما بالذات ما يحوجه إلى المحل لأن ما بالذات لا يزول بالغير وإلا احتياج إليه أي إلى المحل لذاته فإن الاستغناء عدم الاحتياج
فلا واسطة بينهما
ولزم حينئذ مع حاجة الواجب قدم المحل فيلزم محالان معا
وأيضا إذا حل في شيء فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه وهو باطل
وإلا أي إن (3/45)
لم يقبل الانقسام كالجوهر الفرد كان الواجب أحقر الأشياء لحلوله فيه
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول في الجسم والأجسام متساوية في القبول لتركبها من الجواهر الأفراد المتماثلة
وإنما التخصيص ببعض الأجسام دون بعض للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا في جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه لأن الحلول مفسر بالاختصاص الناعت دون التبعية في التحيز كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى فإنها قائمة بذاته ولا تحيز هناك
تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول طوائف ثلاث
الأولى النصارى ولما كان كلامهم مخبطا
ولذلك اختلف في نقله أشار إلى ما يفي بالمقصود فقال وضبط مذهبهم أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه
كل ذلك إما ببدنه أي بدن عيسى أو بنفسه
فهذه ستة
وإما أن لا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا
ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات
وسماه ابنا تشريفا وإكراما كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا من امتناع الاتحاد والحلول
والسابع باطل لما سنبينه أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
وهذا كلام إجمالي
وأما تفصيل مذهبهم (3/46)
فسنذكره في خاتمة الكتاب
كان في عزيمته أن يشير هناك إلى جميع الملل والنحل إشارة خفيفة لكنه بعد إتمام الكتاب رأى الاقتصاد على بيان الفرق الإسلامية أولى خوفا من الإملال
الطائفة الثانية النصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة قالوا ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر
ففي طرف الشر كالشياطين فإنه كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة إنسان ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه
وفي طرف الخير كالملائكة فإن جبريل كان يظهر بصورة دحية الكلبي والأعرابي فلا يمتنع حينئذ أن يظهره الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم وهذه ضلالة بينة
الطائفة الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول (3/47)
والاتحاد والضبط ما ذكرناه في قول النصارى والكل باطل سوى أنه تعالى خص أولياءه بخوارق عادات كرامة لهم
ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول لا حلول ولا اتحاد إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها بل نقول ليس في دار الوجود غيره ديار
وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجزم إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترىء على القول بها عاقل ولا مميز أدنى تمييز
المقصد السادس
المتن في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على شيء واحد فنقول الحادث الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد
ولا يقال له حادث فثلاثة
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها إلا أبو الحسين فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات
الثاني الإضافات
ويجوز تجددها اتفاقا
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به
امتنع تجدده
وإلا جاز
إذا عرفت هذا فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث فمنعه الجمهور
وقال المجوس كل حادث قائم به
والكرامية بل كل حادث (3/48)
يحتاج إليه في الإيجاد
فقيل هو الإرادة
وقيل كن واتفقوا أنه يسمى حادثا وما لا يقوم بذاته محدثا فرقا بينهما
لنا وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث لجاز أزلا
واللازم باطل
أما الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأيضا فتكون القابلية طارئة على الذات فتكون صفة زائدة
ويلزم التسلسل وإذا كانت من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم بدوامها والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي تقتضي جواز اتصاف الذات به أزلا إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا
فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني صفاته تعالى صفات كمال فخلوه عنها نقص
الثالث أنه تعالى لا يتأثر عن غيره
ويمكن الجواب عن الأول بأن اللازم أزلية الصحة
والمحال صحة الأزلية
فأين أحدهما من الآخر إذ لو لزم لزم في وجود العالم وإيجاده
لا يقال القابلية ذاتية دون الفاعلية لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل
وعن الثاني لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة لا يمكن بقاؤها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق
فلا ينتقل عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر
ولا يلزم الخلو وأما الخلو عن كل واحد منها
فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله
وإما لأنه لو لم يخل عنه لم (3/49)
يمكن حصول غيره
فيلزم فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة
وعن الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة
وإن أردت أن هذه الصفة تحصل في ذاته من فاعل غيره فممنوع لجواز أن يكون مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب
وإما على سبيل الاختيار فكما أوجد سائر المحدثات يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذا يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء وضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
والثلاث الأول مشكلة
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني
احتج الخصم بوجوه
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
قلنا تعلقه
وإنه إضافة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم أو مع وصف القدم وهو كونه غير مسبوق بالعدم
وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر (3/50)
قلنا المصحح هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
الثالث أنه تعالى صار خالقا للعالم بعد ما لم يكن وعالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد
قلنا التغير في الإضافات
قالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه
وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ وهو إما رفع الحكم أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود
والفلاسفة أثبتوا الإضافات مع عروض المعية والقبلية
والجواب أن التغير في الإضافات كما تقدم في تحرير محل النزاع
والحكماء لا يثبتون كل إضافة فلا يرد عليهم الإلزام
تنبيه الصفات حقيقية محضة كالسواد والبياض وذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية
ولا يجوز التغير في الأول مطلقا
ويجوز في الثالث مطلقا
والثاني لا يجوز التغير فيه ويجوز في تعلقه (3/51)
الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات من الجانبين على شيء واحد فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد ولا يقال له حادث وهو فثلاثة أقسام
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها في ذاته تعالى إلا أبو الحسين من المعتزلة فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات هكذا ذكره الآمدي في أبكار الأفكار
وقال الإمام الرازي في نهاية العقول اختلفت المعتزلة في تجويز تجدد الأحوال مثل المدركية والسامعية المبصرية والمريدية والكارهية
وأما أبو الحسين فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته تعالى
الثاني الإضافات أي النسب ويجوز تجددها اتفاقا من العقلاء حتى يقال إنه تعالى موجود مع العالم بعد أن لم يكن معه
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به امتنع تجدده كما في قولنا إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض
فإن هذه سلوب يمتنع تجددها
وإلا جاز فإنه تعالى موجود مع كل حادث (3/52)
ويزول عنه هذه المعية إذا عدم الحادث فقد تجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن
إذا عرفت هذا الذي ذكرناه فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث أي الأمور الموجودة بعد عدمها
فمنعه الجمهور من العقلاء من أرباب الملل وغيرهم
وقال المجوس كل حادث هو من صفات الكمال قائم به أي يجوز أن يقوم به الصفات الكمالية الحادثة مطلقا وقال الكرامية يجوز أن يقوم به الحادث لا مطلقا بل كل حادث يحتاج الباري تعالى إليه في الإيجاد أي في إيجاده للخلق ثم اختلفوا في ذلك الحادث فقيل هي الإرادة وقيل هو قوله كن فخلق هذا القول أو الإرادة في ذاته تعالى مستند إلى القدرة القديمة
وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف المذهبين
واتفقوا على أنه أي الحادث القائم بذاته يسمى حادثا
وما لا يقوم بذاته من الحوادث يسمى محدثا لا حادثا فرقا بينهما
لنا في إثبات هذا المدعى وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث بذاته لجاز أزلا
واللازم باطل
الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الإنقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي فإن القابلية إذا لم تكن لازمة بل عارضة كان الذات في حد نفسها قبل عروض القابلية لها ممتنعة القبول للحادث المقبول
وبعد عروضها ممكنة القبول له
فيلزم ذلك الانقلاب
ولو فرض زوال القابلية بعد ثبوتها لزم الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي
ولما لم يكن لنا (3/53)
حاجة إلى هذا لم نتعرض له وأيضا فتكون القابلية على تقدير عدم لزومها
وثبوتها للذات أزلا طارئة على الذات فتكون صفة زائدة عليها عارضة لها
وحينئذ فلا بد للذات من قابلية لهذه القابلية
فإن كانت قابلية القابلية لازمة للذات فذاك
وإلا فهناك قابلية ثالثة
ويلزم التسلسل في القابليات المحصورة بين حاصرين
وهو محال
وإذا كانت القابلية من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم القابلية بدوامها
والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي أي أزلية القابلية تقتضي جواز اتصاف الذات به أي بالحادث أزلا
إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به أي بالمقبول
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني من تلك الوجوه صفاته تعالى صفات الكمال
فخلوه عنها نقص
والنقص عليه محال إجماعا
فلا يكون شيء من صفاته حادثا
وإلا كان خاليا عنه قبل حدوثه
الثالث منها أنه
تعالى لا يتأثر عن غيره
ولو قام به حادث لكانت ذاته متأثرة عن الغير متغيرة به
ويمكن الجواب عن الوجه الأول بأن اللازم مما ذكرتموه من لزوم القابلية للذات هو أزلية الصحة أي أزلية صحة وجود الحادث
وهذا اللازم ليس بمحال
فإن صحة وجود الحادث أزلية بلا شبهة والمحال هو صحة الأزلية أي صحة أزلية وجود الحادث
وهذا ليس بلازم
لأن أزلية الإمكان تغاير إمكان الأزلية ولا تستلزمه كما في الحوادث اليومية على ما مر تحقيقه
فأين أحدهما من الآخر وأيضا ما ذكرتموه منقوض إذ لو لزم وصح لزم مثله في وجود العالم وإيجاده
فإنه تعالى موصوف في الأزل بصحة إيجاد العالم
فيصح في الأزل وجوده قطعا (3/54)
فيصح أن يكون العالم أزليا وهو محال
فلو لزم من القابلية الأزلية إمكان أزلية الحادث للزم من الفاعلية الأزلية إمكان أزلية العالم
لا يقال القابلية صفة ذاتية لازمة للذات فيلزم إمكان أزلية المقبول دون الفاعلية فإنها صفة غير لازمة
فلا يلزم إمكان أزلية المفعول لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل والتأثير
فإنها أزلية كما أشرنا إليه
فيلزم إمكان أزلية المفعول لا في الفاعلية الحاصلة بالفعل
ويمكن الجواب عن الوجه الثاني بأن يقال لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة غير متناهية لا يمكن بقاؤها واجتماعها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق على قياس الحركات الفلكية عند الحكماء
فلا ينتقل حينئذ عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر يعاقبه ولا يلزم الخلو عن الكمال المشترك بين تلك الأمور المتلاحقة
وأما الخلو عن كل واحد منها فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله مما يمتنع بقاؤه
إنما الممتنع هو الخلو عن كمال يمكن بقاؤه
وأما لأنه لو لم يخل عنه لم يمكن حصول غيره فيلزم حينئذ فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده أي فقد كل واحد منها لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة لا وجد أنه مع فقدان تلك الكمالات
إلا أن هذا التصوير ينافيه برهان التطبيق على رأي المتكلم كما سيشير إليه المصنف
ويمكن الجواب عن الوجه الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة إذ لا معنى لقيام الحادث بذاته تعالى سوى هذا فيكون قولك إنه لا يتأثر عن غيره (3/55)
عين مدعاك فيكون مصادرة على المطلوب
وإن أردت أن هذه الصفة الحادثة تحصيل في ذاته من فاعل غيره فممنوع إن ذلك لازم من قيام الصفة الحادثة به لجواز أن يكون حصوله في ذاته مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب والتلاحق وإما على سبيل الاختيار
فكما أوجد سائر المحدثات في أوقات مخصوصة يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
وهذا الاستدلال يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء ضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
والثلاث الأول من هذه المقدمات مشكلة
إذ لا دليل على صحتها
فلا يصح الاستدلال بها
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني واندفع عنه حديث تلاحق الصفات
احتج الخصم بوجوه ثلاثة
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور هذه الأمور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى
قلنا الحادث تعلقه أي تعلق ما ذكر من الصفات
وأنه أي ذلك التعلق إضافة من الإضافات فيجوز تجددها (3/56)
وتغيرها
إذا الكلام عندنا معنى نفسي قديم قائم بذاته لا يتوقف على وجود المخاطب بل يتوقف عليه تعلقه
وكذا السمع والبصر والإرادة والكراهة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم هذا المصحح الحادث أو كونه صفة مع وصف القدم
وكونه غير مسبوق بالعدم وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر في الصحة فتعين الأول فيصح قيام الصفة الحادثة به
قلنا المصحح للقيام به هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
فلا يلزم اشتراك الصحة
الثالث أنه تعالى صار مخالفا للعالم بعد ما لم يكن
وصار عالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد فقد حدث فيه صفة الخالقية وصفة العلم
قلنا التغير في الإضافات فإن العلم صفة حقيقة لها تعلق بالمعلوم يتغير ذلك التعلق بحسب تغيره
والخالقية من الصفات الإضافية أو من الحقيقية
والمتغير تعلقها بالمخلوق لا نفسها
وقالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه أي في قيام الصفة الحادثة بذاته تعالى وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ
وهو إما رفع الحكم القائم بذاته أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود فيكونان حادثين
والفلاسفة أثبتوا الإضافات أي قالوا بوجودها في الخارج مع عروض المعية والقبلية المتجددتين لذاته تعالى كما مر
فقد ذهبوا أيضا إلى قيام الحوادث به
والجواب أن التغير في الإضافات وهو جائز كما تقدم في تحرير محل النزاع فمراد الأشعرية أن تعلق الحكم به ينتهي أو يرتفع
وكذا مراد (3/57)
أبي الحسين والجبائية هو أن تعلق العلم والمريدية والكارهية يتجدد
أو نقول هؤلاء ذهبوا إلى تجدد الأحوال في ذاته كما نبهت عليه
والحكماء لا يثبتون كل إضافة
فلا يرد عليهم الإلزام بالمعية والقبلية ونظائرهما
فإنها إضافات لا وجود لها
تنبيه على ضابط ينتفع به في دفع ما تمسك به الخصم الصفات على ثلاثة أقسام حقيقية محضة كالسواد والبياض والوجود والحياة
وحقيقة ذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية وفي عددها الصفات السلبية
ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغير في القسم الأول مطلقا
ويجوز في القسم الثالث مطلقا
وأما القسم الثاني فإنه لا يجوز التغير فيه نفسه ويجوز في تعلقه
المقصد السابع
المتن اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة كالطعم واللون والرائحة والألم
وكذا اللذة الحسية
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون
وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري
ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات
وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذته أقوى اللذات
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا (3/58)
للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي دون وجود القابل
وإن سلم فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه بالحقيقة
الشرح
المقصد السابع اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة بالحس الظاهر أو الباطن كالطعم واللون والرائحة والألم مطلقا
وكذا اللذة الحسية وسائر الكيفيات النفسانية من الحقد والحزن والخوف ونظائرها
فإنها كلها تابعة للمزاج المستلزم للتركيب المنافي للوجوب الذاتي
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري يشهد به الوجدان ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذاته أقوى اللذات
ولذلك قالوا أجل مبتهج هو المبدأ الأول بذاته تعالى
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي لوجود المسبب دون وجود القابل
وإن سلم قبول ذاته لها فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه في الحقيقة حتى يكون هو أيضا سببا للذة كإدراكنا
ولو قدم هذا السؤال الثالث على الثاني لكان له وجه وجيه كما لا يخفى على ذي فطرة سليمة (3/59)
المرصد الثالث في توحيده تعالى
المتن وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية
لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية بدون الامتياز بالتعين
فيلزم تركبهما
وأنه محال وهو مبني على أن الوجوب وجودي
فإن صح لهم ذلك تم الدست ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية وكون التعين أمرا ثبوتيا إذ قد فرغنا عنهما
الثاني الوجوب هو المقتضي للتعين فيمتنع التعدد
أما الأول فإذ لولاه فإما أن يستلزم التعين لوجوب فيلزم تأخره ويلزم الدور
أو لا يستلزم فيجوز الانفكاك بينهما فيجوز الوجوب بلا تعين وأنه محال
والتعين بلا وجوب فلا يكون واجبا لذاته
وهو أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا
وأما الثاني فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية لوجهين (3/60)
الأول لو وجد إلهان قادران لكان نسبة المقدورات إليهما سواء إذ المقتضي للقدرة ذاتهما وللمقدورية الإمكان فتستوي النسبة
فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين وإما بأحدهما ويلزم الترجيح بلا مرجح
الثاني إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع
وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما
وأيضا فإذا فرض في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا
وأما الثاني فلأن ذلك الشيء لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر فيكون هذا عاجزا
هذا خلف
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل فاعل
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره وبالشرير من يغلب شره كما ينبىء عنه ظاهر اللغة (3/61)
لكنه غير ما لزم فلا يفيد إبطاله
ثم بعد يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز
فتعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا
الشرح
المرصد الثالث في توحيده تعالى
أفرده عن سائر التنزيهات اهتماما بشأنه وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته وذلك لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية مع التشارك في تمام الماهية بدون الامتياز بالتعين الداخل في هوية كل من ذينك المتشاركين فيلزم تركبهما أي تركب هوية كل منهما من الماهية المشتركة والتعين المميز
وأنه محال إذ يلزم أن لا يكون شيء منهما واجبا والمقدر خلافه
وهو أي هذا الوجه مبني على أن الوجوب وجودي إذ حينئذ يكون نفس الماهية
فإن صح لهم ذلك تم الدست وهو فارسي معرب بمعنى اليد
يطلق على التمكن في المناصب والصدارة
أي تم استدلالهم على هذا المطلب الجليل وحصل لهم مقصودهم الذي راموه
ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية
ولا منع كون التعين أمرا ثبوتيا كيلا يلزم التركيب حينئذ
وإنما لم يمكن منعهما إذ قد فرغنا عنهما أي عن هاتين المقدمتين وإثباتهما فيما تقدم
الثاني من الوجهين الوجوب الذي هو نفس ماهية الواجب هو المقتضي للتعين الذي ينضم إليه فيمتنع التعدد حينئذ في الواجب (3/62)
أما الأول وهو أن الوجوب هو المقتضي للتعين فإذ لولاه فإما أن يستلزم ويقتضي التعين الوجوب فيلزم تأخره أي تأخر الوجوب عن التعين ضرورة تأخر المعلول عن علته ويلزم الدور لأن الوجوب الذاتي الذي هو عين الذات يجب أن يكون متقدما على ما عداه علة له أو لا يستلزم ولا يقتضي شيء منهما الآخر فيجوز حينئذ الانفكاك بينهما لاستحالة أن يكون هناك أمر ثالث مقتضيا لهما معا حتى يتلازما لأجله فيجوز الوجوب بلا تعين
وأنه محال إذ يستحيل أن يوجد شيء بلا تعين ويجوز التعين بلا وجوب
فلا يكون ذلك التعين الموجود واجبا لذاته لامتناع الواجب بدون الوجوب
وهذا أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا ليتحقق كونه نفس الماهية
وأما الثاني وهو أن الوجوب إذا كان هو المقتضي للتعين امتنع التعدد فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص واحد
ولذلك لم يتعرض له
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الألوهية لوجهين
الأول لو وجد إلهان قادران على الكمال لكان نسبة المقدورات إليهما سواء
إذ المقتضي للقدرة ذاتهما
وللمقدورية الإمكان لأن الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية فتستوي النسبة بين كل مقدور وبينهما فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين
وإما بأحدهما
ويلزم الترجيح بلا مرجح
فلو تعددت الآلهة لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما الترجيح بلا مرجح (3/63)
الثاني من الوجهين إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال
فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما لعدم حصول مرادهما
وأيضا يلزم اجتماعهما لأن المانع من وقوع مراد كل منهما هو حصول مراد الآخر لا قادريته عليه
فإذا امتنع مراد كل منهما فقد حصل مرادهما معا
هذا خلف وأيضا فإذا فرض ما ذكرناه في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال وهو ارتفاعهما معا
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا كاملا فلا يكون إلها
وأما الثاني وهو أن يمتنع إرادة الآخر ضده فلأن ذلك الشيء الذي امتنع تعلق إرادة الآخر به هو لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته وإرادته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر وإرادته فيكون هذا عاجزا
فلا يكون إلها
هذا خلف
لأنه خلاف المقدر
وقد مر أنه يمكن إثبات الوحدانية بالدلائل النقلية لعدم توقف صحتها على التوحيد
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية دون الوثنية
فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود
ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب
واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصلا بها إلى ما هو إله حقيقة
وأما الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل منهما فاعل على (3/64)
حدة
فالمانوية والديصانية من الثنوية قالوا فاعل الخير هو النور
وفاعل الشر هو الظلمة
وفساده ظاهر لأنهما عرضان فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه
وكأنهم أرادوا معنى آخر سوى المتعارف فإنهم قالوا النور حي عالم قادر سميع بصير
والمجوس منهم ذهبوا إلى أن فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشر هو اهرمن
ويعنون به الشيطان
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا بمعنى أنه يوجد خير كثير وشر كثير
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره على شره وبالشرير من يغلب شره على خيره كما ينبىء عنه ظاهر اللغة فلا يجتمعان حينئذ في واحد لكنه غير ما لزم مما ذكر بل اللازم منه هو المعنى الذي أشرنا إليه
فلا يفيد إبطاله أي إبطال ما ليس بلازم ثم بعد هذا المنع والتنزل عنه يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز عن بعض الممكنات فلا يصلح إلها
فلا يوجد إلهان كما ذكرتم فنعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا (3/65)
المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصفات على وجه عام
المتن ذهب الأشاعرة إلى أن له صفات زائدة
فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا
وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه
والمعتزلة لهم تفصيل يأتي في كل مسألة (3/66)
احتج الأشاعرة بوجوه
الأول ما اعتمد عليه القدماء
وهو قياس الغائب على الشاهد
فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
وقد عرفت ضعفه
كيف والخصم قائل باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا وقد يمتنع ثبوتها في الشاهد بل الثابت فيه العالمية والقادرية والمريدية
الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا
نعم لو تصورا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما دون الآخر حصل المطلوب
ولكن أنى ذلك
الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحدا وأنه ضروري البطلان
وهذا من النمط الأول
والإيراد هو الإيراد
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة لكان فاعلا لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها
وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه
واحتج المعتزلة بوجوه
الأول ما مر أن إثبات القدماء كفر
وبه كفرت النصارى
والجواب ما مر من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا ليست أمرا وراء قيام العلم به
فيحكم عليها بأنها واجبة
وإن سلم فالمراد لوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها (3/67)
فذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة
فإنه نفس المتنازع فيه
وإن أردتم أنها واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر
الثالث صفته صفة كمال
فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفة الكمال فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه
وإن أردتم غيره فصوروه ثم بينوا لزومه
الشرح
المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد ثمانية
المقصد الأول في إثبات الصفات لله تعالى
على وجه عام لا يختص بصفة دون أخرى
ذهبت الأشاعرة ومن تأسى بهم إلى أن له تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا القياس فهو سميع يسمع بصير يبصر
حي بحياة وذهبت الفلاسفة والشيعة إلى نفيها أي نفي الصفات الزائدة على الذات فقالوا هو عالم بالذات وقادر بالذات
وكذا سائر الصفات
مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه فمنهم من لم يطلق شيئا منها عليه
ومنهم من لم يجوز خلوه عنها
والمعتزلة لهم في الصفات تفصيل يأتي في كل مسألة مسألة من مباحثها احتجت الأشاعرة على ما ذهبوا إليه بوجوه ثلاثة (3/68)
الأول ما اعتمد عليه القدماء من الأشاعرة وهو قياس الغائب على الشاهد فإن العلة واحدة والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
ولا شك أن علة كون الشيء عالما في الشاهد هو العلم فكذا في الغائب
وحد العالم ههنا من قام به العلم
فكذا حده هناك وشرط صدق المشتق على واحد منا ثبوت أصله له
فكذا شرطه فيمن غاب عنا وقس على ذلك سائر الصفات
وقد عرفت ضعفه في المرصد الأخير من الموقف الأول
كيف والخصم أي القائس كما وقع في كلام الآمدي قائل ومعترف باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا فإن القدرة في الشاهد لا يتصور فيها الإيجاد بخلافها في الغائب
والإرادة فيه لا تخصص بخلاف إرادة الغائب
وكذا الحال في باقي الصفات
فإذا وجد في أحدهما لم يوجد في الآخر فلا يصح القياس أصلا
كيف وقد يمنع ثبوتها أي ثبوت العلم والقدرة والإرادة ونظائرها في الشاهد بل الثابت فيه بيقين هو العالمية والقادرية والمريدية لا ما هي مشتقة منها فيضمحل القياس بالكلية
الوجه الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا على طريقة الإخبار الله الواجب أو العالم أو القادر أو الحي إلى سائر الصفات بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل لأن حمل هذه الصفات يفيد فائدة صحيحة بخلاف قولنا ذاته ذاته
وإذا بطل كونها نفسه
ولا مجال للجزئية قطعا تعينت الزيادة على الذات
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم أعني مفهوم العالم والقادر ونظائرهما على مفهوم الذات ولا نزاع في ذلك
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا يفيده هذا الدليل
نعم (3/69)
لو تصورا أي مفهوما الوصف والذات معا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما أي الوصف على الذات دون حمل الآخر أي الذات عليها حصل المطلوب وهو زيادة الوصف على الذات
ولكن أنى ذلك التصور الواصل إلى كنه حقيقتهما
الوجه الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة أيضا نفس الذات كما زعموه لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة أمرا واحدا
وأنه ضروري البطلان وكذا الحال في باقي الصفات التي ادعى أنها عين الذات
وهذا الوجه من النمط الأول أي الوجه السابق عليه
والإيراد هو الإيراد يعني أنه يدل على تغاير مفهومي العلم والقدرة ومغايرتهما للذات لا على تغاير حقيقتهما ومغايرتهما لها
والمتنازع فيه هو الثاني دون الأول
فمنشأ هذين الوجهين عدم الفرق بين مفهوم الشيء وحقيقته
فإن قلت كيف يتصور كون صفة الشيء عين حقيقته مع أن كل واحد من الموصوف والصفة يشهد بمغايرته لصاحبه وهل هذا إلا كلام مخيل لا يمكن أن يصدق به كما في سائر القضايا المخيلة التي يمتنع التصديق بها فلا حاجة بنا إلى الاستدلال على بطلانه
قلت ليس معنى ما ذكروه أن هناك ذاتا وله صفة
وهما متحدان حقيقة كما تخيلته بل معناه أن ذاته تعالى يترتب عليه ما يترتب على ذات وصفه معا
مثلا ذاتك ليست كافية في انكشاف الأشياء عليك بل تحتاج في ذلك إلى صفة العلم التي تقوم بك بخلاف ذاته تعالى فإنه لا يحتاج في انكشاف الأشياء وظهورها عليه إلى صفة تقوم به بل المفهومات (3/70)
بأسرها منكشفة عليه لأجل ذاته تعالى
فذاته بهذا الاعتبار حقيقة العلم وكذا الحال في القدرة
فإن ذاته تعالى مؤثرة بذاتها لا بصفة زائدة عليها كما في ذواتنا فهي بهذا الاعتبار حقيقة القدرة وعلى هذا تكون الذات والصفات متحدة في الحقيقة متغايرة بالاعتبار والمفهوم ومرجعه إذا حقق إلى نفي الصفات مع حصول نتائجها وثمراتها من الذات وحدها
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة على ذاته لكان هو فاعلا لتلك الصفة لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها أيضا لقيامها بذاته وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه واحتجت المعتزلة والشيعة بوجوه ثلاثة
الأول ما مر من أن إثبات القدماء كفروا به كفرت النصارى
والجواب ما مر أيضا من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات واحدة وصفات قدماء
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا يعني نفاة الأحوال ليست أمرا وراء قيام العلم به فيحكم بالنصب على جواب النفي عليها بأنها واجبة والحاصل أن العلم صفة قائمة بذاته تعالى وليس هناك صفة أخرى تسمى عالمية حتى يصح الحكم عليها بأنها واجبة فلا تكون محتاجة معللة بالعلم
وإن سلم ثبوت العالمية فالمراد بوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها فلذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة أيضا بهذا المعنى أعني صفة العلم
فإنه نفس المتنازع فيه بيننا إذ نحن نجوزه
وأنتم لا تجوزونه
وإن (3/71)
أردتم أنها أي العالمية واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر فإن الصفة في حد ذاتها محتاجة إلى موصوفها فيمتنع اتصافها بالوجوب الذاتي
الثالث صفته تعالى صفة كمال فيلزم على تقدير قيام صفة زائدة به أن يكون هو ناقصا لذاته مستكملا بغيره الذي هو تلك الصفة
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم استكماله بالغير ثبوت صفة الكمال الزائدة على ذاته لذاته فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه وإن أردتم به غيره أي غير المعنى الذي ذكرناه فصوروه أولا حتى نفهمه ثم بينوا لزومه لما ادعيناه
وملخصه أن المحال هو استفادته صفة كمال من غيره لا إتصافه لذاته بصفة كمال هي غيره
واللازم من مذهبنا هو الثاني دون الأول
لكن يتجه أن يقال تأثيره تعالى في صفة القدرة مثلا إن كان بقدرة واختيار لزم محذور أن التسلسل في صفاته وحدوثها
وإن كان بإيجاب لزم كونه تعالى موجبا بالذات فلا يكون الإيجاب نقصانا فجاز أن يتصف به بالقياس إلى بعض مصنوعاته
ودعوى أن إيجاب الصفات كمال وإيجاب غيرها نقصان مشكلة
المقصد الثاني في قدرته
المتن وفيه بحثان
البحث الأول في أنه تعالى قادر
وإلا لزم أحد الأمور الأربعة
إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر (3/72)
وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم
بيان الملازمة أنه إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول وإن وجد فإما ألا يستند إلى مؤثر أو يستند
فإن لم يستند فهو الثاني وإن استند فإما ألا ينتهي إلى قديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث
وإن انتهى فلا بد من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل فيلزم الرابع
وإن شئت قلت لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث والتالي باطل وبيان الملازمة لو حدث لتوقف على شرط حادث وتسلسل واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى الله تعالى وأنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته
الثاني أن يبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا بحركة دائمة
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم خليق بأن يسهل عليك ذلك
احتج الحكماء بوجوه
الأول تعلق القدرة بأحد الضدين إما لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح وأنه يسد باب إثبات الصانع وأيضا يلزم قدم الأثر
وإما لا لذاتها فيحتاج إلى مرجح
ويلزم التسلسل
والجواب أن تعلقها إنما هو بذاتها كما بينا في طريقي الهارب وقدحي العطشان قولكم فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من (3/73)
ترجيح القادر لأحد مقدوريه بلا مرجح ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح
وبالجملة فالترجيح بلا مرجح
أي بلا داعية
غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا
مغايرة ظاهرة ولا يلزم من صحته صحته
وربما يقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع
ولا ينتهي إلى الوجوب وقد عرفت ضعفه
قولكم يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاه دائما إذ نسبته إلى الأزمنة سواء
وأما القادر فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت دون غيره
فإن قيل إذا كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل فأي فرق بين الموجب والمختار
قلت أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي
ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس فإن قيل القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا
وإن سلمناه فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا إن شاء فعل العدم
فروع على إثبات القدرة عندنا
الأول القدرة قديمة
وإلا كانت واقعة بالقدرة لما مر ولزم التسلسل
الثاني إنها صفة واحدة
وإلا لاستندت إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداء سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت لزم ثبوت قدر غير متناهية
وهذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد (3/74)
الثالث قدرته تعالى غير متناهية
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم
ولا كم ثمة
وأما تعلقا فمعناه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره
وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل غير متناهية بالقوة
وهذه الأحكام مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
تنبيه القدرة صفة زائدة لما بينا
وقد يحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك سوى كونها قدرة
فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم لم لا يجوز اشتراك القدر الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
الثاني القدر في الشاهد مختلفة
ففي الغائب إن كانت مثلها لم تصلح لخلق الأجسام
وإلا لم يكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك (3/75)
والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات
والدليل عليه أن المقتضي للقدرة الذات والمصحح للمقدورية الإمكان
ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء
وهذا بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشيء وإنما هو نفي محض لا امتياز فيه ولا تخصيص خلافا للمعتزلة ولا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته دون بعض كما يقوله الخصم
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل
وهو أعظم الأصول
فرق
الأولى الفلاسفة
قالوا إنه واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران والصادر عنه العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد
الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب هي المدبرات أمرا لدوران الحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها (3/76)
إلى البعض وإلى السفليات
وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول وتأثير الطوالع
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف
وإذا قام البرهان على نقيضه
كيف ونقول لهم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية فلا يمكن جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية وأخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا ثم نردد ونقول الفلك إن كان بسيطا فقد بطل الإحكام لما ذكرناه وإلا بطل علم الهيئة إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة والحركات المختلفة تقتضي محركات مختلفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام لأنها مبنية على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة فالبروج مكوكبة والعبرة بقرب كواكبها الثابتة وبعدها ومسامتتها وعدمها لأنا نقول البروج كما علمت تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على رأيهم ثم اختصاص كل كوكب بجزء يبطل بساطة الأفلاك فيعود الإشكال
الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس
قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر وإلا لكان خيرا شريرا معا
والجواب أنا نلتزم التالي
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير لأحد أمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير أي ذلك مقتضى نحيزته
والغالب على هجيراه
وإما لعدم التوقيف
وأسماء الله تعالى توقيفية (3/77)
الرابعة النظام ومتبعوه قالوا لا يقدر على القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل
وكلاهما نقص
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه
وإن سلم فغايته عدم الفعل لوجود الصارف وذلك لا ينفي القدرة
الخامسة البلخي ومتابعوه قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة أو معصية أو سفه
والجواب أنها اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات
وهو خال عن الغرض كسائر أفعاله
ولا يلزم العبث
السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا وأراد العبد عدمه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور
ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء
والجواب أنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه
فراجع ما تقدم
الشرح
المقصد الثاني في قدرته
وفيه بحثان (3/78)
الأول في أنه تعالى قادر أي يصح منه إيجاد العالم وتركه
فليس شيء منهما لازما لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه
وإلى هذا ذهب المليون كلهم
وأما الفلاسفة فإنهم قالوا إيجاده للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور لاعتقادهم أنه نقصان وأثبتوا له الإيجاب زعما منهم أنه الكمال التام
وأما كونه تعالى قادرا بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو متفق عليه بين الفريقين إلا أن الحكماء ذهبوا إلى أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية له فيستحيل الانفكاك بينهما
فمقدم الشرطية الأولى واجب صدقه
ومقدم الثانية ممتنع الصدق
وكلتا الشرطيتين صادقتان في حق الباري سبحانه وتعالى
وأشار المصنف إلى الاحتجاج على كونه قادرا بقوله وإلا أي وإن لم يكن قادرا بل موجبا بالذات لزم أحد الأمور الأربعة إما نفي الحادث بالكلية أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر الموجب التام
وبطلان هذه اللوازم كلها دليل بطلان الملزوم
أما بيان الملازمة فهو أنه على تقدير كونه تعالى موجبا إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول
وإن وجد فإما أن لا يستند ذلك الحادث الموجود إلى مؤثر موجد أو يستند فإن لم يستند فهو الثاني من تلك الأمور
وإن استند فإما أن لا ينتهي إلى القديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث منها لأنه إذا استند إلى مؤثر لا يكون قديما ولا منتهيا إليه فلا بد هناك من مؤثرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتبة مجتمعة
وهو تسلسل محال اتفاقا
وإن انتهى فلا بد هناك من قديم يوجد حادثا بلا واسطة من الحوادث دفعا للتسلسل (3/79)
في الحوادث سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة
فيلزم الرابع وهو التخلف عن المؤثر الموجب التام ضرورة تخلف ذلك الحادث الصادر بلا واسطة عن القديم الذي يوجبه بذاته
وأما بطلان اللوازم فالأول بالضرورة والثاني بما علمت من أن الممكن الحادث محتاج إلى مؤثر
والثالث بما مر في مباحث التسلسل
والرابع بأن الموجب التام ما يلزمه أثره وتخلف اللازم عن الملزوم محال
وبأنه يلزم الترجيح بلا مرجح من فاعل موجب
فإن وجود ذلك الحادث منه في وقته ليس أولى من وجوده فيما قبله
قيل هذا الدليل برهان بديع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم
وقد تفرد به المصنف رحمه الله تعالى
وإن شئت قلت في إثبات كونه قادرا لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث
والتالي باطل بطلانا ظاهرا وأما بيان الملازمة فهو أن أثر الموجب القديم يجب أن يكون قديما إذ لو حدث لتوقف على شرط حادث كيلا يلزم التخلف عن الموجب التام وذلك الشرط الحادث يتوقف أيضا على شرط آخر حادث وحينئذ تسلسل أي لزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة
وكلاهما محال
واعلم أن هذا الاستدلال الذي أشار إليه بقوله وإن شئت قلت إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى ذات الله تعالى وصفاته إذ لولا ذلك لجاز أن يصدر عن الباري على تقدير كونه موجبا قديم مختار ليس بجسم ولا جسماني يصدر عنه الحوادث بحسب إرادته المختلفة فلا يلزم من إيجاب الباري قدم الحادث وأن نبين مع ذلك أيضا أنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته إذ لو جاز ذلك لأمكن أن يصدر عنه مع (3/80)
كونه موجبا حادث مشروط بصفة حادثة قائمة بذاته مشروطة بصفة أخرى
وهكذا إلى غير النهاية
وإذا ثبت حدوث ما سوى ذاته وصفاته وثبت أيضا استحالة قيام الصفات المتعاقبة إلى ما لا نهاية له بذاته تم الاستدلال المذكور بهذا الطريق لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثا بلا تسلسل الحوادث
فإن الصادر عنه بلا شرط أو بشرط قديم قديم قطعا لامتناع التخلف عن الموجب التام كما عرفت
الثاني من الطريقين أن نبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا استناده كذلك بحركة دائمة إذ على تقدير هذا الاستناد جاز أن يكون المبدأ الأول موجبا مفيضا لوجود الحادث اليومي على مادة قديمة بواسطة استعدادات متعاقبة مستندة إلى تلك الحركة السرمدية كما ذهبت إليه الفلاسفة حيث جوزوا التسلسل في الأمور المترتبة إذا لم تكن مجتمعة
وزعموا أن الحركة الدائمة هي الواسطة بين عالمي القدم والحدوث
فإنها ذات جهتين استمرار وتجدد
فباعتبار استمرارها جاز استنادها إلى القديم
وباعتبار تجددها صارت واسطة في صدور الحوادث عن المبدأ القديم
وإذا لم يجز هذا الاستناد فلو كان الباري تعالى موجبا لكان الحادث اليومي المستند إليه بواسطة أو بغير واسطة قديما
هذا خلف فقد تم هذا الاستدلال بهذا الطريق أيضا
ولقائل أن يقول ذلك البرهان البديع لا يتم أيضا إلا بالطريق الأول
إذ لو جاز قدم ما سوى ذاته تعالى وصفاته أو جاز تعاقب صفاته التي لا تتناهى لم يلزم الأمر الرابع
أعني التخلف
عن المؤثر التام
أما على الأول فلأنه جاز أن يكون ذلك (3/81)
القديم مختارا كما مر
وأما على الثاني فلجواز استناد الحادث إلى الموجب بتعاقب حوادث لا تتناهى
وليس يلزم على شيء من هذين تخلف الأثر عن مؤثره الموجب التام لأن مؤثره إما مختار مع كون الباري تعالى موجبا
وإما غير تام في المؤثرية لتوقف تأثيره فيه على شرائط حادثة غير متناهية قائمة بذاته تعالى
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم من المباحث خليق بأن يسهل عليك ذلك أي بيان الأمور المذكورة
أما بيان حدوث ما سوى الله سبحانه وتعالى فيما مر من المسلك العام في حدوث العالم مطلقا
أعني مسلك الإمكان أو المسلك الخاص بالأجسام مع نفي المجردات
وأما بيان امتناع تعاقب الصفات والحركات إلى غير النهاية فبالبرهان التطبيقي
إحتج الحكماء على إيجابه تعالى بوجوه كثيرة أقواها ما صرح به المصنف وعبر عنه بقوله
الأول لأنه الذي عليه يعولون وبه يصولون
وتقريره أن يقال لا يجوز أن يكون قادرا إذ تعلق القدرة منه بأحد الضدين المقدورين له كتخصيص الجسم بشكل معين ولون مخصوص مثلا دون ما عداه من الأشكال والألوان إما لذاتها بلا مرجح وداع فيستغني الممكن عن المرجح لأن نسبة ذات القدرة إلى الضدين على السوية كما اعترف به القائل بقادريته وأنه يسد باب إثبات الصانع إذ يجوز حينئذ أن يترجح وجود الممكن على عدمه من غير مرجح
وأيضا يلزم قدم الأثر لأن المؤثر حينئذ مستجمع لشرائط التأثير لأن الواجب أزلي
وكذا قدرته وتعلقها
فلا يجوز (3/82)
تخلف الأثر عنه
وهو باطل لأن أثر القادر حادث اتفاقا وخصوصا على رأيكم
وإما لا لذاتها فيحتاج تعلقها به إلى مرجح من خارج
ومع ذلك المرجح لا يجب الفعل
وإلا لزم الإيجاب بل كان جائزا هو وضده أيضا فيحتاج إلى مرجح آخر
ويلزم التسلسل في المرجحات
والجواب نختار أن تعلقها بأحد المقدورين إنما هو بذاتها لا بأمر خارجي
وليس يحتاج تعلق إرادة المختار بأحد مقدوريه إلى داع كما بينا في طريقي الهارب وقدحى العطشان
قولكم أولا فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من ترجح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وداع ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح المؤثر فيه إذ بينهما بون بعيد كما أشار إليه بقوله وبالجملة فالترجيح الصادر عن مؤثر قادر بلا مرجح
أي بلا داعية غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا مغايرة ظاهرة
ولا يلزم من صحته صحته أي من صحة الأول صحة الثاني
ألا يرى أن بديهة العقل شاهدة بامتناع الثاني بلا توقف
ولذلك لم يذهب إلى صحته أحد من العقلاء
ولا يشهد كذلك بامتناع الأول
ومن ثمة ترى جمعا يجوزونه وربما يختار أن تعلقها لا لذاتها ويقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى الوجوب فلا يلزم الإيجاب ولا يحتاج أيضا إلى مرجح آخر ليتسلسل وقد عرفت ضعفه بما مر من أن الأولوية التي لم تنته إلى حد الوجوب غير كافية في صدور الممكن عن المؤثر قولكم ثانيا يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم ذلك في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاء دائما إذ نسبته إلى (3/83)
الأزمنة سواء
وأما القادر الذي هو مؤثر تام فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت الذي أوجد الحادث فيه دون غيره بلا سبب يخص ذلك الوقت
فإن ضرورة العقل تدل على الفرق بين القادر المختار والعلة الموجبة
ألا يرى أن كل أحد يفرق بين كون الإنسان مختارا في قيامه وقعوده
وكون الحجر هابطا بطبيعته
فلو توقف فعل المختار على مرجح لم يبق بينه وبين الموجب فرق
فإن قيل هذا وجه ثان لهم في إثبات الإيجاب وتقريره أن يقال عندكم إرادة الله وقدرته متعلقتان من الأزل إلى الأبد بترجح الحادث المعين وإيجاده في وقت معين
وأن التغير في صفاته محال فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار
إلا أن المصنف أورده في صورة السؤال فقال إذ كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل على هذا الوجه وهو أن يوجد في وقت معين
فإنه يجب وجوده في ذلك الوقت
وحينئذ فأي فرق يكون بين الموجب والمختار قلت الفرق بينهما على تقدير وجوب الفعل من القادر أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس
وأما الموجب فإنه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الآخر عقلا
ويقرب من هذا ما قد قيل عند تمام المرجحات من القدرة التامة والإرادة الجازمة والوقت والآلة والمصلحة وزوال الموانع كلها توجب الفعل
وإلا أمكن أن يوجد معها تارة ولا يوجد أخرى
وأنه ترجيح بلا مرجح
وإذا وجب الفعل فلا فرق بين الموجب والقادر في ذلك بل في أن شرائط التأثير في القادر سريعة التغير لكنهم قالوا ذلك التغير إنما يتصور إذا كانت شرائط تأثير المؤثر منفصلة عنه (3/84)
وأما الذي يكون مبدأ لكل ما سواه فإن ذاته تمتنع عليه التغير
فكذا تأثيره في غيره لا يتغير أصلا
وأجيب عنه بمنع امتناع التغير في تعلق قدرته وإرادته وتأثيره المتفرع على ذلك التعلق
فإن قيل هذا وجه ثالث لهم
وهو أن يقال القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء فإنها لو تعلقت بأحدهما كانت إيجابا لا قدرة والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا لكونه نفيا صرفا فلا يستند إلى شيء
وحينئذ لا يكون الوجود أيضا مقدورا فلا قدرة أصلا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا فإن عدم المعلول مستند إلى عدم علته كما أن وجوده مستند إلى وجودها
وإن سلمناه أي كون العدم لا يصلح أثرا فالقادر من إن شاء فعل
وإن لم يشأ لم يفعل
لا إن شاء فعل العدم فإن العدم ليس أثرا مفعولا للقادر كالوجود بل معنى استناده إليه أنه لم تتعلق مشيئته بالفعل
فلم يوجد الفعل
وهذا أولى مما قيل هو الذي إن شاء أن يفعل فعل
وإن شاء أن لا يفعل لم يفعل لأن استناد العدم إلى مشيئة القادر يقتضي حدوثه كما في الوجود فيلزم أن لا يكون عدم العالم أزليا
فروع على إثبات القدرة كما هي عندنا أعني أن تكون صفة زائدة على الذات قائمة بها
الأول القدرة القائمة بذاته تعالى قديمة
وإلا كانت حادثة فيلزم قيام الحادث بذاته تعالى
وقد مر بطلانه
وكانت أيضا واقعة أي صادرة عن الذات بالقدرة لما مر في هذا المقصد من أن الحادث لا يستند إلى الموجب القديم إلا بتسلسل الحوادث
وهو باطل وإذا كانت واقعة بالقدرة (3/85)
لزم التسلسل لأن القدرة الأخرى حادثة أيضا إذ المقدر حدوث القدرة القائمة به تعالى
فتستند إلى قدرة أخرى فيلزم تسلسل القدرة إلى ما لا يتناهى
وهو أيضا محال
الثاني أنها صفة واحدة
وإلا لاستندت تلك القدر المتعددة القديمة بناء على الفرع الأول إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة كما عرفت في مباحث القدم
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت القدر الصادرة عن الموجب لزم ثبوت قدرة غير متناهية لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح كما ذهب إليه أبو سهل الصعلوكي
وهو باطل
لأن وجود ما لا يتناهى محال مطلقا
وقد تبين لك ضعف تساوي نسبة الأعداد بما تقدم من أن عدم الأولوية في نفس الأمر ممنوع وعندك لا يفيد ويزداد ضعفه ههنا بأن هذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد ويلزم منه نفي ما عدا القدرة من سائر الصفات إذ تأثير الذات فيها لا يمكن أن يكون بالقدرة والاختيار كما نبهت عليه بل يجب أن يكون بالإيجاب
فإذا صدرت عنه القدرة الواحدة بالإيجاب لم يصدر عنه صفة أخرى كذلك
وهو خلاف ما ذهب إليه مثبتو الصفات
الثالث قدرته تعالى غير متناهية أي ليست موصوفة بالتناهي لا (3/86)
ذاتا
ولا تعلقا
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم ولا كم ثمة إذ القدرة بحسب ذاتها من الكيف فيسلب عنها التناهي
وأما تعلقا فمعناه أي معنى سلب التناهي عنه هو إثبات اللاتناهي له
ومعنى لا تناهيه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره أي بما وراء ذلك الحد وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل دائما غير متناهية بالقوة دائما وهذه الأحكام الثلاثة التفريعية مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
يعني أن كل واحدة من سائر الصفات قديمة وغير متعددة وغير متناهية
فصفة العلم قديمة وواحدة وغير متناهية ذاتا بمعنى سلب التناهي
وغير متناهية تعلقا بمعنى إثبات اللاتناهي في تعلقها بالفعل والإرادة أيضا كذلك لكن تعلقها غير متناه بالقوة كما في القدرة
وعلى هذا فقس
واعتبر في كل صفة ما يناسبها من الأحكام المتفرعة فلا حاجة إلى التكرار
تنبيه القدرة صفة زائدة على الذات لما بيناه من إثبات زيادة الصفات على وجه عام
وقد تحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك بينها سوى كونها قدرة فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام لأن علة عدم الصلاحية موجودة فيها أيضا
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم فإن القبح حكم واحد وقد عللتموه تارة بكون الشيء ظلما وأخرى بكونه جهلا إلى غير ذلك
وكذا صحة الرؤية معللة عندكم بخصوصيات المرئيات وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم نقول لم لا يجوز اشتراك (3/87)
القدرة الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة تكون تلك الصفة علة لعدم صلاحيتها فلا يتعدى الحكم إلى القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
أي عدم وجداننا لتلك الصفة لا يدل على عدم وجودها في نفسها
الثاني القدرة في الشاهد مختلفة اختلافا ظاهرا ففي الغائب إن كانت القدرة مثلها أي مثل إحدى القدرة التي في الشاهد لم تصلح قدرة الغائب لخلق الأجسام كنظيرتها
وإلا لم تكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك أيضا
والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض فلا يلزم عدم صلاحيتها لما ذكر
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات أي جميعها والدليل عليه أن المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته والمصحح للمقدورية هو الإمكان لأن الوجوب والامتناع الذاتيين يحيلان المقدورية ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية وإذا ثبتت قدرته على بعضها تثبت على كلها
وهذا الاستدلال بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشيء
وإنما هو نفي محض ولا امتياز فيه أصلا ولا تخصيص قطعا
فلا يتصور اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه خلافا للمعتزلة
ومن أن المعدوم لا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته تعالى دون بعض كما يقوله الخصم فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية (3/88)
بعض المعدومات الثابتة المتميزة مانعة من تعلق القدرة به
وعلى قانون الحكمة جاز أن تستعد المادة لحدوث ممكن دون آخر
وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على سواء
قيل ولا بد أيضا من تجانس الأجسام لتركبها من الجواهر الفردة المتماثلة الحقيقة ليكون اختصاص بعضها ببعض الأعراض لإرادة الفاعل المختار إذ مع تخالفها جاز أن يكون ذلك الاختصاص لذواتها فلا قدرة على إيجاد بعض آخر منها
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل أعني عموم قدرته تعالى الممكنات كلها وهو أعظم الأصول فرق متعددة كما سيتلى عليك
الأولى الفلاسفة الإلهيون فإنهم قالوا إنه تعالى واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران
والصادر عنه ابتداء هو العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه من قبل
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وما تمسكوا به في إثباته فقد زيفناه
الفرقة الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب المتحركة بحركات الأفلاك هي المدبرات أمرا في عالمنا هذا لدوران الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودا وعدما مع مواضعها أي مواضع الكواكب في البروج وأوضاعها بعضها إلى بعض
وإلى السفليات وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول الأربعة
وما يتجدد فيها من الحر والبرد والاعتدال بواسطة قرب الشمس من سمت الرأس وبعدها عنه وتواسطها فيما بينهما وتأثير الطوالع في المواليد بالسعادة والنحوسة
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف كما في (3/89)
توأمين أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة
ولا يمكن أن يحال بذلك على ما بينهما من التفاوت في وقت الولادة لأن التفاوت بقدر درجة واحدة لا يوجب تغير الأحكام عندهم باتفاق فيما بينهم وسيما إذ قام البرهان على نقيضه فإن البراهين العقلية والنقلية شاهدة بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله كيف ونقول لهم ما أثبتموه من الأحكام لا يستتب لكم على قواعدكم لأنكم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية في الماهية فلا يمكن حينئذ جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية
وجعل درجة أخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا وكذا الحال في جعل بعض البروج بيتا لكواكب وبعضها بيتا لكواكب أخر
وفي جعل بعض الدرج شرفا وبعضها وبالا إلى غير ذلك من الأمور التي تدعونها فإنها كلها على تقدير البساطة تحكمات محضة ثم نردد ونقول إن الفلك إن كان بسيطا فقد بطلت الأحكام التي تزعمونها لما ذكرناه
وإلا بطل علم الهيئة
إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة متشابهة في أنفسها فالحركات المختلفة والمشاهدة والمرصودة منها تقتضي محركات مختلفة على أوضاع متفاوتة تكون حركة كل منها وحدها متشابهة غير مختلفة ويلزم منها حركات متخالفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام النجومية لأنها مبنية عليها على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام مترتبة عليها لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة متساوية الأجزاء في الماهية فالبروج مكوكبة بالثوابت المتخالفة في الطبائع
والعبرة في تلك الأحكام ليست بنفس البروج المتوافقة الطبيعة بل بقرب كواكبها الثابتة من السيارات وبعدها عنها ومسامتتها وعدمها
فمدار الأحكام المختلفة على اختلاف أوضاع الكواكب السيارة بحركاتها من الثوابت المركوزة في البروج
لأنا نقول البروج
كما علمت
تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على (3/90)
رأيهم وإن أمكن أن يقال فيه كواكب صغار غير مرئية فتختلف آثار السيارة بحلولها في البروج المختلفة الكواكب لكن لم يقل به أحد منهم
قلت البروج المعتبرة فيه وإن كانت خالية عن الكواكب إلا أنها تسامتها كواكب متخالفة الطبائع وهذا القدر كاف لاختلاف الأحكام والآثار
قلت تلك الكواكب تزول عن المسامتة بالحركة البطيئة فيلزم أن تنتقل الأحوال من برج إلى آخر وهو باطل عندكم ثم أنا نقول اختصاص كل كوكب بجزء معين من أجزاء الفلك يبطل بساطة الأفلاك إذ لو كانت بسيطة لزم الترجيح بلا مرجح
وعلى هذا فيعود الإشكال أعني بطلان الهيئة المتخيلة وما يترتب عليه من بطلان الأحكام
الفرقة الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس فإنهم قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر
وإلا لكان خيرا شريرا معا فلذلك أثبتوا إلهين كما مر تفصيله
والجواب أنا نلتزم التالي فإنه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقا لهما لأحد الأمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير
أي ذلك مقتضى نحيزته أي طبيعته
والغالب على هجيراه أي دأبه وعادته
وإما لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله تعالى توقيفية (3/91)
الفرقة الرابعة النظام ومتبعوه
قالوا لا يقدر على الفعل القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى عنه
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه على أي وجه أراد
وإن سلم قبح الفعل بالقياس إليه فغايته عدم الفعل لوجود الصارف عنه وهو القبح
وذلك لا ينفي القدرة عليه
الفرقة الخامسة أبو القاسم البلخي ومتابعوه
قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة مشتملة على مصلحة أو معصية مشتملة على مفسدة
أو سفه خال عنهما أو مشتمل على متساويين منهما
والكل محال منه تعالى
والجواب إنها أي ما ذكرتموه من صفات الأفعال اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا وصدوره بحسب قصدنا ودواعينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات فجاز أن يصدر عنه تعالى مثل فعل العبد مجردا عنها
فإن الاختلاف بالعوارض لا ينافي التماثل في الماهية
ولما كان لقائل أن يقول ما صدر عنه من أمثال أفعالنا إما أن يشتمل على مصلحة أو مفسدة أو يخلو عنهما وعلى التقادير يكون متصفا بشيء من الاعتبارات المذكورة أجاب عنه بقوله وهو أي ذلك المثل الصادر عنه خال عن الغرض كسائر أفعاله المنزهة عن الأغراض فلا يتجه أن يقال هناك مصلحة أو مفسدة
ولا يلزم من عدم ثبوت الغرض العبث إنما يلزم ذلك إذا كان الفعل ممن شأنه أن يتبع فعله الغرض لا ممن تعالى عن ذلك (3/92)
الفرقة السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا من أفعال العبد يوجد فيه وأراد العبد عدمه منه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان
أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر على مراده
والمقدر خلافه
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم من قدرة العبد فلا يتصور بينهما مقاومة كما يتصور في قدرتي إلهين لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء فيتقاومان فيه
والجواب إنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه فراجع ما تقدم
وعلى تقدير تأثيرها فتساويهما في هذا المقدور ممنوع بل الله تعالى أقدر عليه من العبد فتأثير قدرته فيه يمنع من تأثير قدرة العبد فيه
ولا يلزم من ذلك انتفاء قدرته بالكلية
نعم يثبت فيه نوع عجز وذلك ينافي الألوهية دون العبدية
المقصد الثالث
المتن في علمه تعالى وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن
وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة (3/93)
لها
ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم
فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع
إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما
ويمكن تصوره على وجه أكمل أو الموافق من بعض الوجوه فلا يدل على العلم أو أمرا ثالثا فبينه لنا
وكيف وأنه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة بلا فرجار ومسطر واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المربع
ولا يقع بينها فرج كما بين المدورات وما سواها
وهذا لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت بلا آلة مع أنه لا علم لهما
والجواب عن الأول أن المراد ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب
وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا (3/94)
يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه
أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
وعن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا مما هو مبدأ لذلك
الثاني أنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم
لا يقال قد يصدر عن النائم والغافل فعل قليل اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله
لأنا نقول لا نسلم الملازمة إذ الضرورة فارقة
وأما الحكماء فلهم أيضا مسلكان
الأول إنه مجرد
وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا على المقدمتين
الثاني إنه تعالى يعقل ذاته
وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة للشيء المجرد
وهو حاصل في شأنه
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه
والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
ويرد على الأول منع الكبرى
وبرهانه قد مر ضعفه
وعلى الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك
ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميه العلم حقيقته ذلك لا بد له من دليل سلمناه
لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير سلمنا لكن لا نسلم ان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء وعلم أنه علة له وأنه موجود
وأنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول
فلم قلتم إن ذلك حاصل له تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات
لأن الجزئيات (3/95)
صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا
لأن ما علم بماهيته أو بعلته يعلم كليا
فإن المعلوم ماهيته كذا إما وحدها أو مع كونها معللة بكذا
والماهية كلية
وكونها معللة بكذا كلي وتقييد الكلي بالكلي لا يفيد الجزئية
البحث الثاني أن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته
والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها
ونسبة الذات إلى الكل سواء
والمخالف في هذا الأصل فرق
الأولى من قال إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة والنسبة لا تكون إلا بين شيئين
ونسبة الشيء إلى نفسه محال
والجواب منع كون العلم نسبة بل هو صفة ذات نسبة
ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة
سلمناه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية
وكيف لا وأحدنا يعلم نفسه لا يقال ذلك لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه
وكلامنا في الواحد الحقيقي لأنا نقول أحدنا لو كان له نسبة إلى كل جزء منه فقد حصل المطلوب
وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه فيكون العالم غير المعلوم فلا يعلم نفسه
الثانية من قال إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية
لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به
فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد وذلك سفسطة (3/96)
والجواب أنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة فيمن يمكنه العلم بنفسه وإن أمكن له منعنا بطلان التالي
وأيضا فقد مر بطلان ما ذكروه في أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من قال أنه لا يعلم غيره
لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره
وإلا فمن علم شيئا
علم جميع الأشياء
فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم فيكون في ذاته كثرة غير متناهية
والجواب إنه كثرة في الإضافات
والعلم واحد
وذلك لا يمتنع
الرابعة من قال إنه لا يعقل غير المتناهي إذا المعقول متميز عن غيره
وغير المتناهي غير متميز عن غيره
وإلا لكان له حد به يتميز عن الغير
فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه
وفيه نظر لأن ذلك أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه
وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
الثاني المعقول كل واحد واحد
وأنه متميز عن غيره
ولا يضر عدم تميز الكل
والحق أنا نقول لا نسلم أن المتميز له حد ونهاية
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه بالحد والنهاية
وأنه ممنوع (3/97)
الخامسة من قال لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه ليس في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير والثاني الجهل
والجواب منع لزوم التغير فيه بل في الإضافات
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة بأن العلم بأنه وجد وسيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
وهذا مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى ليس زمانيا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل
إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان لا يتصور في حقه حال
ولا ماض ولا مستقبل
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع
فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع الوقوع وشرط العلم بأنه سيقع عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما
وقد يعبر عنه بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم فلم يعلم دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد
نعم لو انضم إليه العلم بدخول غد علم ذلك (3/98)
الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم
وقد يعبر عن هذا بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع بالعكس فتغايرا
السادسة من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل لا السلب الكلي إذ لو علم كل شيء فإذا علم شيئا علم علمه به وكذا علم علمه بعلمه ويلزم التسلسل
والجواب إنه تسلسل في الإضافات وأنه غير ممتنع
كيف وأنه قد يكون بعلمه نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي
تنبيه العلم صفة زائدة لما مر
وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد
فيلزم تماثلهما ويلزم قدمهما أو حدوثهما
فإن قيل هذا لازم عليكم في العالمية فما هو جوابكم فهو جوابنا
قلنا عالميته تعالى تعلق الذات وعالميتنا تعلق العلم فليسا من وجه واحد
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك في وجه التعلق التماثل إذ المختلفات تشترك في لازم واحد
فإن قيل فبم يعرف تماثل العلوم قلنا إن كان طريق آخر فذلك
وإلا توقف سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث كما في الوجود
الثاني إنه تعالى عالم بما لا نهاية له فيلزم علوم غير متناهية
والجواب أن التعدد في التعلقات وهي إضافية
الثالث يلزم علمه بعلمه
وتتسلسل
والجواب أنه في الإضافات (3/99)
الرابع لو كان ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم
والجواب المعارضة بقوله وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ولا يحيطون بشيء من علمه إن الله عنده علم الساعة كيف وأنه لفظي يقبل التخصيص
الشرح
المقصد الثالث في علمه تعالى
وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة من قدماء الفلاسفة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك في إثبات كونه تعالى عالما مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن أي محكم خال عن وجوه الخلل ومشتمل على حكم ومصالح متكثرة وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول أعني اتقان فعله فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما إذا تأمل في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة لها ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني وهو أن من كان فعله متقنا كان عالما فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم (3/100)
فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع إن فعله تعالى متقن إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما ويتضمن خللا ويمكن تصوره على وجه أكمل مما هو عليه أو الموافق للمصلحة من بعض الوجوه فلا يدل على العلم إذ ما من أثر إلا ويمكن أن ينتفع به منتفع سواء كان مؤثرا عالما أو لا كإحراق النار وتبريد الماء أو أمرا ثالثا فبينه لنا ما هو وكيف يدل على علم الفاعل ونقول أيضا أنه أي دليلك على إثبات علمه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة المتساوية بلا فرجار ومسطر
واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المثلث
والمربع والمخمس ولا يقع بينها أي بين المسدسات فرج كما يقع بين المدورات وما سواها من المضلعات وهذا الذي ذكرناه لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة
وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت وتجعل لها سدى ولحمة على تناسب هندسي بلا آلة مع أنه لا علم لهما بما يصدر عنهما
وما يتضمنه من الحكم
والجواب عن الأول أن المراد بالمتقن ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب الذي تتحير فيه العقول
ولا تهتدي إلى كمال ما فيه من المصالح والمنافع
ولا شك في دلالته على علم الصانع وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل واشتماله على كل كمال حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا ما هو مبدأ لذلك الفعل الصادر منهما
المسلك الثاني إنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم لأن (3/101)
القادر هو الذي يفعل بالقصد والاختيار
ولا يتصور ذلك إلا مع العلم
لا يقال كون كل قادر عالما ممنوع إذ قد يصدر عن النائم والغافل مع كونهما قادرين عند المعتزلة وكثير من الأشاعرة فعل قليل متقن اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله ولا عبرة بالقلة والكثرة لأنا نقول لا نسلم الملازمة
إذا الضرورة فارقة فإنها تجوز صدور قليل من المتقن عن قادر غير عالم
ولا تجوز صدور كثير عنه
وأما من جعل النوم ضدا للقدرة فالسؤال ساقط عنه وأما الحكماء فلهم في إثبات علمه تعالى أيضا مسلكان
المسلك الأول إنه مجرد أي ليس جسما ولا جسمانيا كما مر في التنزيهات وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا فيما سلف على المقدمتين
المسلك الثاني إنه تعالى يعقل ذاته وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة عن العلائق المادية للشيء المجرد القائم بذاته وهو حاصل في شأنه لأن ذاته مجردة غير غائبة عن ذاته فيكون عالما بذاته
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه أي لجميعه إما بواسطة أو بدونها والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيكون عالما بذاته وبجميع معلولاته
ويرد على المسلك الأول منع الكبرى القائلة بأن كل مجرد عاقل للمفهومات الكلية
وبرهانه الذي تمسكوا به قد مر ضعفه
ويرد على المسلك الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك (3/102)
لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان
إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك المعنى الذي عرفوه به ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميها العلم حقيقته ذلك الذي ذكروه لا بد له من دليل سلمناه أي سلمنا أن حقيقة العلم ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير بين الحاضر
وما حضر هو عنده فلا يكون الشيء عالما بنفسه كما اشترط ذلك في الحواس فإنها لا تدرك أنفسها مع كونها حاضرة عندها غير غائبة عنها
سلمناه أي عدم اشتراط التغاير لكن لا نسلم أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لأنه إذا علم الشيء علم لازمه القريب الذي هو معلوله
وإذا علما معا علم البعيد أيضا لأنه معلولهما
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء الذي هو علة وعلم أنه علة له أي للشيء الأخر الذي هو معلول
وعلم أنه موجود
وعلم أنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول فحينئذ يعلم وجود المعلول قطعا
لكن ما ذكرتم يدل على أنه عالم بذات العلة التي هي ذاته الحاضرة عنده
ولا يدل على ثبوت العلم الآخر فلم قلتم إن ذلك كله حاصل له حتى يتم مطلوبكم
تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات كما يفيدان العلم بالكليات
وذلك لأن الجزئيات معلولة بالكليات صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له فيكون عالما بهما معا
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا لأن ما علم بماهيته المجردة كما استفيد من الأول أو علم بعلته كما استفيد من الثاني يعلم علما كليا
فإن المعلول ماهيته كذا أما وحدها كما في المسلك الأول أو مع كونها معللة بكذا كما في المسلك الثاني والماهية كلية وكونها معللة بكذا كلي أيضا (3/103)
وتقييد الكلي بالكلي مرات كثيرة لا يفيد الجزئية فضلا عن تقييده به مرة واحدة
وههنا محل تأمل
فإنهم زعموا أن العلم التام بخصوصية العلة يستلزم العلم التام بخصوصيات معلولاتها الصادرة عنها بوسط أو بغير وسط
وادعوا أيضا انتفاء علمه تعالى بالجزئيات من حيث هي جزئية لاستلزامه التغير في صفاته الحقيقية
فاعترض عليهم بعض المحققين وقال إنهم مع ادعائهم الذكاء قد تناقض كلامهم ههنا
فإن الجزئيات معلولة له كالكليات
فيلزم من قاعدتهم المذكورة علمه بها أيضا
لكنهم التجأوا في دفعه إلى تخصيص القاعدة العقلية بسبب مانع هو التغير كما هو دأب أرباب العلوم الظنية فإنهم يخصصون قواعدهم بموانع تمنع إطرادها وذلك مما لا يستقيم في العلوم اليقينية
البحث الثاني إن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات وإنما قلنا عمومه للمفهومات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها ونسبة الذات إلى الكل سواء فإذا كان عالما ببعضها كان عالما بكلها
والمخالف في هذا الأصل أيضا فرق ست
الأولى من قال من الدهرية إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة (3/104)
والنسبة لا تكون إلا بين شيئين متغايرين هما طرفاها بالضرورة ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك
والجواب منع كون العلم نسبة محضة بل هو صفة حقيقة ذات نسبة إلى المعلوم ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة فإن قيل تلك الصفة تقتضي نسبة بين العالم والمعلوم فلا يجوز أن يكونا متحدين
قلنا هي تقتضي نسبة بينها وبين المعلوم ونسبة أخرى بينها وبين العالم
وهما ممكنتان كما عرفت
وأما النسبة بين العالم والمعلوم فهي بعينها النسبة الأولى من هاتين المذكورتين اعتبرت بالعرض فيما بينهما فلا إشكال سلمناه أي كون العلم نسبة محضة بين محله ومتعلقه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية فإن التغاير الاعتباري كاف لتحقق هذه النسبة
وكيف لا يكون كذلك وأحدنا يعلم نفسه مع عدم التغاير بالذات
لا يقال ذلك أي علمنا بذواتنا جائز لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه أي سواء كان تركيبا خارجيا أو ذهنيا
وكلامنا في الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه أصلا فلو كان عالما بذاته لزم تحقق النسبة بين الشيء ونفسه قطعا بخلاف المركب إذ فيه كثرة يمكن أن يتصور بينها نسبة فلا يتجه النقض به لأنا نقول أحدنا على تقدير علمه بنفسه لو كان له نسبة إلى كل جزئية فقد حصل المطلوب إذ قد تحقق النسبة بينه وبين جميع أجزائه وهو عينه وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه
فيكون العالم غير المعلوم لأن الجزء غير الكل فلا يعلم نفسه والمفروض خلافه
فإن قلت من أين ثبت التغاير الاعتباري المصحح للنسبة قلت من حيث أن ذات الشيء باعتبار صلاحيتها للمعلومية في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالمية في الجملة
وهذا القدر من التغاير يكفينا
الثانية من تلك الفرق من قال من قدماء الفلاسفة إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه
إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه
وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه في مذهب الفرقة الأولى
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء العلم (3/105)
بالعلم بذلك الشيء
وهكذا فيلزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية وهو محال لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به أي بأنه عالم
وذلك مما لا خفاء فيه فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات وسائر العلوم الدقيقة الكثيرة المباحث المثبتة بالدلائل القطعية ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد
وذلك سفسطة ظاهرة وإذا لزم الإمكان
ثبت المدعي لأن إمكان المحال محال
والجواب إنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة التي ذكرتموها إنما هي فيمن يمكنه العلم بنفسه
وإن أمكن له علمه بنفسه منعنا بطلان التالي المتضمن لهذا العلم الممكن بالفرض
وأيضا قد مر بطلان ما ذكروه في إثبات أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من الفرق المخالفة من قال إنه لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته
وذلك لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره أي بغير ذلك الشيء من الأشياء الأخر وإلا فمن علم شيئا علم جميع الأشياء لأن العلم به حينئذ عن العلم بها
وهو باطل
وإذا كان العلم بشيء مغايرا للعلم بشيء آخر فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم على حدة فيكون في ذاته كثرة متحققة غير متناهية هي العلوم بالمعلومات التي لا تتناهى
وذلك محال بالتطبيق
والجواب أنه أي ما ذكرتموه من كثرة العلم كثرة في الإضافات والتعلقات وذلك لأنه لا نسلم تعدد ذات العلم بتعدد المعلومات بل العلم واحد تتعدد تعلقاته بحسب معلوماته
وذلك أي تكثر الإضافات والتعلقات لا تمتنع لأنها أمور اعتبارية لا موجودة
الرابعة من تلك الفرق من قال إنه لا يعقل غير المتناهي
إذ المعقول متميز عن غيره لأن العلم إما نفس التميز أو صفة توجبه
ولأنه لو لم يتميز (3/106)
عن غيره لم يكن هو بالمعقولية أولى منه وغير المتناهي غير متميز عن غيره بوجه من الوجوه
وإلا لكان له حد وطرف به يتميز وينفصل عن الغير وإذا كان له طرف فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه يعني أن المجموع من حيث هو مجموع متميز عن غيره بوصف اللاتناهي ومعقول بحسبه
وإن كانت آحاده غير متميزة كما ذكرتم
وفيه نظر لأن ذلك الوصف
أعني اللاتناهي
أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه لأنه الموصوف باللاتناهي لا في ذلك المفهوم العارض لأنه موصوف بالوحدة
ولما اتجه أن يقال المراد أن مجموع ما صدق عليه معقول باعتبار عارضه
لا أن عارضه معقول في نفسه
أشار إلى دفعه فقال وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
وما ذكرتم علم إجمالي لا منازعة فيه لأحد
كيف ولا بد منه في الحكم بعد تميزه
الثاني المعقول كل واحد واحد ومن غير المتناهي وأنه متميز عن غيره من تلك الآحاد ومن غيرها ولا يضر في تميز كل واحد واحد عدم تميز الكل من حيث هو كل
ولم لزم من هذا الجواب كون غير المتناهي معلوما له تعالى تفصيلا لا إجمالا على عكس الجواب الأول أعرض عنه أيضا فقال والحق أن نقول لا نسلم أن المعقول المتميز يجب أن يكون له حد ونهاية يمتاز به عن غيره
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه وانفصاله عن غيره بالحد والنهاية
وأنه ممنوع لأن وجوه التميز لا تنحصر في الحد (3/107)
الخامسة منها من قال وهم جمهور الفلاسفة لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد عنها فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه ليس في الدار ويبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى
والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى
قالوا وكذا لا يعلم الجزئيات المتشكلة وإن لم تكن متغيرة كأجرام الأفلاك الثابتة على أشكالها لأن إدراكها إنما يكون بآلات جسمانية
وكذا الحال في الجزئيات المتشكلة المتغيرة إذ قد اجتمع فيها المانعان بخلاف الجزئيات التي ليست متشكلة ولا متغيرة فإنه يعلمها بلا محذور كذاته تعالى وذوات العقول
والجواب منع لزوم التغير فيه بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا إضافة محضة أو صفة حقيقية ذات إضافة
فعلى الأول يتغير نفس العلم
وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط
وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز
وإدراك المتشكل إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم حصول الصورة
وأما إذا كان إضافة محضة أو صفة حقيقة ذات إضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة وكثير من الأشاعرة بأن العلم بأنه وجد الشيء و العلم بأنه سيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة
فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم من عدم إلى وجود تغير في علمه
وهذا الذي ذكروه مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى ليس (3/108)
علما زمانيا أي واقعا في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصة بأزمنة متعينة فإنه واقع في زمان مخصوص
فما حدث منها في ذلك الزمان كان حاضرا عنده
وما حدث قبله أو بعده كان ماضيا أو مستقبلا
وأماعلمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
الماضي زمان هو قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه وغير مختص بجزء معين من أجزائه لا يتصور في حقه حال ولا ماض ولا مستقبل فالله سبحانه وتعالى عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها لا من حيث أن بعضها واقع الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل
فإن العلم بها من هذه الحيثية يتغير بل يعلمها علما متعاليا عن الدخول تحت الأزمنة ثابتا أبد الدهر
وتوضيحه أنه تعالى لما لم يكن مكانيا كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على سواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط
كذلك لما لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانية لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضي والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة سواء
فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته وليس في علمه كان وكائن وسيكون بل هي حاضرة عنده في أوقاتها فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها
لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه
ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغير أصلا كالعلم بالكليات
قال بعض الفضلاء وهذا معنى قولهم أنه يعلم الجزئيات على وجه كلي لا ما توهمه بعضهم من أن علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها
وما يتعلق بها من الأحوال
كيف وما ذهبوا إليه من أن (3/109)
العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ينافي ما توهموه كما سبقت إليه الإشارة
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك الذي ذكره هؤلاء المشايخ من أن علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع بالضرورة فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين أي المعلومين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع هو الوقوع
وشرط العلم بأنه سيقع هو عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما أصلا فضلا عن التنافي بين شرطيهما
وقد يعبر عنه أي عن الوجه الثاني بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم مستديما لذلك العلم فلم يعلم لأجل الظلمة دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد بذلك العلم المستمر فكيف يكون أحدهما عين الآخر نعم لو انضم إليه أي إلى العلم بأنه سيدخل العلم بدخول غد علم من هذين العلمين ذلك أي أنه دخل فيكون حينئذ هذا العلم متفرعا على العلمين السابقين لا عين أحدهما
وإنما لم يجعله وجها ثالثا كما فعله الإمام الرازي في الأربعين لأن محصوله هو أن العلم بأنه سيدخل البلد غدا ليس مشروطا بالعلم بمجيء الغد والعلم بأنه دخل في مثالنا هذا مشروط به فيكون راجعا إلى الوجه الثاني لا وجها على حدة
الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع كما إذا علم الحادث حال حدوثه ولم يشعر به قبله أصلا وبالعكس كما إذا علم حاله قبل حدوثه ولم يشعر به في أوانه وغير المعلوم أي ما ليس معلوما في زمان غير المعلوم أي مغاير لما هو معلوم في ذلك الزمان
وإذا تغاير المعلومان تغاير العلمان
وعلى هذا فقد رجع الثالث إلى الأول
والصواب كما هو في الأربعين أنه يمكن العلم بأنه سيقع مع الجهل بأنه عالم (3/110)
بأنه وقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم فيثبت حينئذ تغاير العلمين ابتداء
ويشهد لما قلناه قوله وقد يعبر عن هذا الثالث بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع وبالعكس فتغايرا لتنافي وصفيهما
أعني العلمية والجهلية كتنافي وصف المعلومية والمجهولية المعتبرتين في الوجه الثالث
وقد عده الإمام الرازي وجها برأسه ثم إن أبا الحسين بعد إبطاله جواب مشايخه التزم وقوع التغير في علم الباري سبحانه وتعالى بالمتغيرات
وزعم أن ذاته تعالى تقتضي كونه عالما بالمعلومات بشرط وقوعها فيحدث العلم بها عند وجودها ويزول عند زوالها ويحصل علم آخر
ورد عليه بأنه يلزم منه أن لا يكون الباري سبحانه وتعالى في الأزل عالما بأحوال وجودات الحوادث وهو تجهيله له تعالى عنه
السادسة من الفرق المخالفين من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل أي رفع الإيجاب الكلي لا بمعنى السلب الكلي كما زعمته الفرقة الثانية إذ لو علم كل شيء
فإذا علم شيئا علم أيضا علمه به لأن هذا العلم شيء من الأشياء ومفهوم من المفهومات
وكذا علم علمه بعلمه لأنه شيء آخر ويلزم التسلسل في العلوم
والجواب أنه تسلسل في الإضافات لا في أمور موجودة لأن العلم من قبيل الإضافة والتعلق عندنا وأنه أي تسلسل الإضافات غير ممتنع كما مر غير مرة قبل
نقول كيف يلزم التسلسل في الأمور الموجودة على تقدير كون العلم صفة حقيقية والحال أنه قد يكون علمه بعلمه (3/111)
نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي فإنهما قالا كل شيئين لا يجوز انفكاك العلم بهما كالعلم بالشيء والعلم بالعلم به وكالعلم بالتضاد والاختلاف
فقد يتعلق بهما علم واحد كما سلف في مباحث العلم من الموقف الثالث
تنبيه العلم صفة زائدة على ذاته تعالى قائمة به لما مر من بيان زيادة الصفات على الإجمال وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد وهو تعلق العلوم بمعلوماتها إما إجمالا أو تفصيلا فيلزم حينئذ تماثلهما لأن كل علمين تعلقا بمعلوم واحد من جهة واحدة فهما متماثلان ويلزم إما قدمهما معا أو حدوثهما معا لأن التماثلات يجب اشتراكها في اللوازم
فإن قيل في جوابهم هذا لازم عليكم في العالمية فإنه إذا تعلق عالميته تعالى بشيء وتعلق به عالميتنا من وجه واحد لزم تماثلهما واشتراكهما في القدم والحدوث فما هو جوابكم في العالمية فهو جوابنا في العلم
قلنا لهم أن يقولوا في دفع هذا النقض عالميته تعلق الذات بالمعلوم وعالميتنا تعلق العلم بالمعلوم
فليسا أي هذان التعلقان من وجه واحد فلا يكونان متماثلين
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك من وجه التعلق وطريقه التماثل إذ المختلفات بل المتضادات تشترك في لازم واحد (3/112)
فإن قيل إذا لم يدل ما ذكرناه على تماثل العلمين فبم يعرف تماثل العلوم
قلنا إن كان هناك طريق آخر إلى معرفة تماثلها فذلك يتوصل به إليها وإلا توقف كما في سائر الأشياء التي لا سبيل لنا إلى معرفتها سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث لأن المتماثلات قد تختلف فبهما كما في الوجود فإن وجوده تعالى قديم ووجود الممكنات حادث مع تماثلهما
وسره أن المتماثلين لا بد أن يتمايزا بشيء فربما كان ذلك الشيء مبدأ لحكم مختص
الثاني من الوجوه أنه تعالى عالم بما لا نهاية له فإذا فرض أن علمه زائد على ذاته فيلزم أن يكون له علوم موجودة غير متناهية ضرورة أن العلم بشيء غير العلم بشيء آخر
والجواب أن التعدد في التعلقات العلمية وهي إضافية فيجوز لا تناهيها
وأما ذات العلم فواحدة
الثالث منها يلزم على تقدير كونه عالما بعلم أن يكون علمه بعلمه أيضا زائدا على علمه وتتسلسل العلوم الموجودة إلى ما لا نهاية له
والجواب أنه في الإضافات لأن علمه واحد
وله تعلقات بمعلومات لا تتناهى
من جملتها علمه الذي يخالفه بالاعتبار دون الذات
الرابع لو كان تعالى ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم
والجواب المعارضة بقوله وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه (3/113)
ولا يحيطون بشيء من علمه
وتأويله بالمعلوم خلاف الظاهر إن الله عنده علم الساعة
كيف وأنه أي قوله وفوق كل ذي علم عليم دليل لفظي عام يقبل التخصيص فيجب تخصيصه بما عدا الباري سبحانه وتعالى ليوافق ما ذكرناه من الدليل القطعي على ثبوت علمه تعالى
المقصد الرابع في أنه تعالى حي
المتن هذا مما اتفق عليه الكل لأنه عالم قادر
وقد أطبقوا أيضا عليه
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال ولا تتصور في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبى الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور إنها صفة توجب صحة العلم إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم لكان اختصاصه بصحة العلم ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة
فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل
فلا بد من الانتهاء إلى ما لا يكون بصفة أخرى
والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد يقتضي الاختصاص بأمر
وليس جعل ذلك علة صحة العلم أولى من جعلها نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة فعليه بالدليل (3/114)
الشرح
المقصد الرابع في أنه تعالى حي
هذا ما اتفق عليه الكل من أهل الملل وغيرهم لأنه عالم قادر لما مر من الدلائل وقد أطبقوا أيضا عليه أي على أنه عالم إلا شرذمة لا يعبأ بهم كما عرفته
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي كما يشعر به كلام المحصل حيث قالوا المراد من الحياة إن كان اعتدال المزاج أو قوة الحس والحركة فهو معقول
وإن كان أمرا ثالثا فلا بد من تصويره وإقامة الدليل عليه وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال سواء كانت نفس قوة الحس والحركة أو مغايرة لها على ما اختاره ابن سينا كما مر ولا تتصور الحياة بشيء من هذه المعاني في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبي الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة إنها صفة توجب صحة العلم والقدرة إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم الكامل والقدرة الشاملة لكان اختصاصه بصحة العلم والقدرة المذكورين ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة الموجبة للصحة فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل في الصفات الوجودية
هذا خلف
فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون اختصاصه به بصفة أخرى فيكون ترجيحا بلا مرجح
ولما كان استدلالهم هذا مبنيا على تماثل الذوات أشار إلى بطلانه بقوله والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد (3/115)
يقتضي هو لذاته الاختصاص بآخر فلا يلزم ترجيح من غير مرجح
ومن العلوم أن ليس جهل ذلك الأمر الذي يقتضيه ذاته لذاته علة صحة العلم أولى من جعلها أي جعل ذلك الأمر أشبه نظر إلى قوله نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة على نفس الصحة فعليه بالدليل
المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها
فقال الحكماء إرادته نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
وقال أبو الحسين هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده بنفع الفعل يوجب الفعل
ويسميه بالداعية
وقال النجار إنه أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها
وقال الكعبي هي في فعله العلم
وفي فعل غيره الأمر به
وقال (3/116)
أصحابنا إنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا يمكن أن يقع بها ذاك من غير فرق
وكل واحد منهما فرض
فإن نسبته إلى الأوقات سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد من مخصص
وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين لا بمرجح
وليس القدرة لاستواء نسبتها إليهما
ولا العلم لأنه تبع الوقوع
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذا هو أمر ثالث
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين سواء فيعود الكلام فيها ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك بل تعلقها بأحدهما لذاتها لا يقال فيجب ذلك الجانب ويمتنع الآخر فيلزم سلب الاختيار
قلنا وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار
وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي
والأصحاب يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة لاحتاجت إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل
وقالت المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها
فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا
خاتمة قال الإمام الرازي كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته وهو قول ضرار
وإما أمرا سلبيا وهو أحد قولي النجار
وإما ثبوتيا معللا (3/117)
بذاته وهو القول الآخر له
وإما معللا بمعنى قديم وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية
أو موجود لا في محل
وهو قول الجبائية من المعتزلة
أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحدا ذهب إليه
ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
والثاني لزوم كون الجماد مريدا
والخامس والسادس لزوم التسلسل
والخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى
والسادس أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء
وكونه ذاته تعالى لا في محل لا يوجب اختصاصه به
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها وتحقيقها بالبرهان ثانيا فقال الحكماء إرادته تعالى هي نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
قال ابن سينا العناية هي إحاطة علم الأول تعالى بالكل وبما يجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام
فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق (3/118)
وقال أبو الحسين وجماعة من رؤساء المعتزلة كالنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي ومحمود الخوارزمي إرادته تعالى هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده ينفع في الفعل أو علمه به يوجب الفعل ويسميه أبو الحسين بالداعية
ولما استحال الظن والاعتقاد في حقه تعالى انحصر داعيته في العلم بالنفع ونقل عن أبي الحسين وحده أنه قال الإرادة في الشاهد زائدة على الداعي
وقال الحسين النجار أنه أي كونه مريدا أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها ومغلوبا
وقال الكعبي هي في فعله العلم بما فيه من المصلحة وفي فعل غيره الأمر به
وقال أصحابنا ووافقهم جمهور معتزلة البصرة أنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تلك الصفة تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه أي على ثبوت تلك الصفة بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا الضد يمكن أن يقع بها ذاك الضد من غير فرق بينهما في إمكان الوقوع بها وكل واحد منهما فرض وقوعه بها فإن نسبته إلى الأوقات المعينة كلها سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد لتخصيصه بالوقوع دون ضده
ولتخصيص وقوعه بوقته المعين دون سائر الأوقات من ثبوت (3/119)
مخصص يقتضيه وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا بمرجح هذا خلف
وليس ذلك المخصص القدرة لاستواء نسبتها إليهما وإلى الأوقات كلها كما عرفت ولا العلم لأنه تبع الوقوع أي العلم بوقوع شيء في وقت معين تابع لكونه بحيث يقع فيه لأنه ظله وحكاية عنه
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذن هو أي المخصص أمر ثالث يكون مغايرا للحياة والسمع والبصر والكلام أيضا
إذ لا يصلح شيء منها للتخصيص قطعا
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين وإلى الأوقات سواء إذ كما يجوز تعلقها بهذا الضد يجوز تعلقها بالضد الآخر
وكما يجوز إرادة وقوع واحد منهما في وقت يجوز إرادة وقوعه في وقت آخر فيعود الكلام فيها فيقال لا بد للتخصيص من مخصص مغاير للعلم والقدرة والإرادة فنثبت صفة رابعة ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك أي تساوي نسبة الإرادة إلى الضدين والأوقات حتى يلزم التسلسل بل هي صفة تعلقها بأحدهما ووقوعه في وقت معين لذاتها المخصوصة فلا حاجة إلى صفة أخرى
فإن قيل إذا تعلقت الإرادة لذاتها بأحد جانبي الفعل في وقت معين وعلى وجه مخصوص فيجب ذلك الجانب في ذلك الوقت على ذلك الوجه ويمتنع الجانب الآخر وحينئذ فيلزم الإيجاب وسلب الاختيار (3/120)
قلنا أي لأنا نقول وقد مر مثله وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه لأنه فرعه
وههنا بحث
وهو أن إرادة أحد الضدين إن كانت مغايرة لإرادة الآخر وكانت كل واحدة منهما لذاتها متعلقة بأحدهما على التعيين
اتجه أن يقال إذا لزم أحد الإرادتين ذات المريد لم يمكن له الإرادة المتعلقة بالجانب الآخر بدلا عن الإرادة الأولى
فلا قدرة بمعنى صحة الفعل والترك
وإذا لم يلزم جاز تجدد الإرادة وحدوثها
وإن لم تكن مغايرة لها بل تتعلق إرادة واحدة تارة بهذا وتارة بذاك
فإذا كان تعلقها بأحدهما لذاتها لم يتصور تعلقها بالآخر ويلزم الإيجاب
وما ذكره من أن الوجوب المترتب الاختيار لا ينافيه
إنما يصحح في القدرة
بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل كما سبق تصويره فتذكر وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي التابع لوجود المعلوم
وأما العلم الفعلي الذي كلامنا فيه فإنه متبوع وسبب لوقوع المعلوم فيصلح أن يكون مخصصا كما اخترناه في الباري سبحانه وتعالى
والأصحاب في جواب الحكماء يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين فلا يكون شيء منهما مخصصا وإن كان العلم فعليا
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة ولا شك أنها مستندة إلى المختار الذي هو ذاته تعالى لاحتاجت إلى إرادة أخرى مستندة إلى إرادة ثالثة وهكذا ولزم التسلسل في الإرادات الموجودة
وقالت المعتزلة أي الجبائيان وعبد الجبار ومن تابعهم من (3/121)
المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته تعالى فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض وتوجيه الأخذ على ما نقل عن المصنف أن قيام الصفة بذاتها يستلزم أن لا تكون صفة وهو ضروري البطلان
فكأنهم أرادوا بالإرادة المعدات المكتشفة بالممكن الذي يحدث في المادة
وذلك لأن المعد يخصص وقوع المقدور على صفة معينة بوقت معين يتم فيه الاستعداد المستفاد منه
ولا معنى للإرادة إلا الأمر المخصص كذلك والمعدات قائمة بذواتها
فالإرادة بهذا المعنى قائمة بذاتها
وفيه بعد لأنه خروج عن قانون الملة إلى القول بوجود المادة القديمة واختصاص الحوادث بأوقاتها على حسب استعداداتها المتعاقبة إلى غير النهاية
والأظهر أن يقال وجه الأخذ أنهم لما سمعوا مقالتهم هذه فهموا أن مخصص الحادث بوقته يجب أن يكون حادثا فيه
إذ لو كان موجودا قبله لزم الترجيح بلا مرجح
ولما اعتقدوا أن مخصص الحوادث إرادته تعالى حكموا بحدوثها
ولما لم يجوزوا قيام الحادث بذاته تعالى التجأوا إلى أنها قائمة بذاتها
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا من لزوم التسلسل في الإرادات على أن قيام الصفة بذاتها غير معقول وقيام الحادث بذاته تعالى قد مر بطلانه
خاتمة في ضبط مذاهب المتكلمين في كونه تعالى مريدا
قال (3/122)
الإمام الرازي في الأربعين كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته
وهو قول ضرار وإما أن لا يكون نفس ذاته وحينئذ إما أن يكون أمرا سلبيا
وهو أحد قولي النجار كما مر من كونه غير مغلوب ولا مكره
وإما أمرا ثبوتيا ولا بد له من علة لإمكانه فيكون إما معللا بذاته تعالى وهو القول الآخر له
وإما معللا بغير ذاته
وحينئذ إما أن يعلل بمعنى قديم قائم بذاته تعالى وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية أو موجود لا في محل وهو قول الجبائية وعبد الجبار من المعتزلة أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحد ذهب إليه ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
ويبطل الثاني لزوم كون الجماد مريدا لأنه غير مغلوب ويبطل الخامس والسادس لزوم التسلسل في الإرادات ويبطل الخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى والسادس خاصة أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء فإذا كانت الإرادة قائمة بذاتها فليس كونه تعالى مريدا بها أولى من كون غيره مريدا بها وكون ذاته تعالى لا في محل كتلك الإرادة لا يوجب اختصاصه به
لأن كونه لا في محل أمر سلبي
فلا يكون علة للثبوت
المقصد السادس
المتن في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه
وهو مما علم بالضرورة من دين محمد والحديث مملوء به لا يمكن إنكاره ولا تأويله
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح (3/123)
اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص
فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب بالسمع والبصر
ويتوقف على مقدمات
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا
وأنه ممنوع
إذ حياته مخالفة لحياة غيره
ولهذا لا يصح عليه الجهل والظن والشهوة والنفرة
الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو ممنوع
بل عدم ملكه لهما واتصافه بعدمهما ليس نقصا
وهو أول المسألة
الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا دليل
وقد تقدم ضعفه
الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص
والعمدة في إثباته الإجماع فليعول عليه في هذه المسألة ابتداء ويكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع إن أثبتناها بالظواهر فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها
وإن أثبتناها بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم ثابت في المسألة سواء بسواء
تنبيه قد تقدم أن طائفة يزعمون أن الإدراك نفس العلم
فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين
احتج بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة أو مشروطان به
وأنه محال في حقه
والجواب منع ذلك
ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك
فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا
فجاز ألا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به
الثانية إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر خروج عن المعقول (3/124)
والجواب إن انتفاء التعلق لا يستلزم انتفاء الصفة كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك لا يوجب انتفائهما أصلا
الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه وهو مما علم بالضرورة من دين محمد حاجة إلى الاستدلال عليه كما هو حق سائر الضروريات الدينية والقرآن
وكذا الحديث مملوء به بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله لأنه معلوم ضروري بلا اشتباه فيه
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب اتصافه بالسمع ويتوقف هذا الاحتجاج على مقدمات لا صحة لها
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا المصححة للاتصاف بالسمع والبصر
وأنه ممنوع إذ حياته مخالفة لحياة غيره فلا يجب كونها مصححة لذلك الاتصاف
ولهذا لا يصح عليه بسبب حياته الجهل والظن والشهوة والنفرة مع صحتها علينا بسبب حياتنا
المقدمة الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو أيضا ممنوع بل هما عدم ملكه لهما فلا يلزم من خلوه عن السمع والبصر اتصافه بهما لجواز انتفاء القابلية رأسا وإما اتصافه بعدمهما مع انتفاء القابلية فإنه ليس نقصا عندنا
كيف وهو أول المسألة المتنازع فيها بيننا
المقدمة الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا (3/125)
دليل عليها
وقد تقدم ضعفه بأن الهواء خال عن الألوان والطعوم المتضادة كلها
المقدمة الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص كلها
والعمدة في إثباته الإجماع على أن ساحة عزته مبرأة عن شوائب النقص
وحينئذ فليعول عليه أي على الإجماع في هذه المسألة ابتداء إذ قد أطبقوا على أنه تعالى سميع بصير وإذا اكتفوا بالإجماع يكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع الدال على التنزه إن أثبتناها بالظواهر من الآيات والأحاديث التي تدل على حجية الإجماع فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها أي من الظواهر الدالة على حجية الإجماع إذ يتجه على هذه اعتراضات كثيرة يحتاج إلى دفعها
فلا معنى للعدول عما هو أقوى في إثبات المدعي إلى التمسك بشيء يحتاج في إثباته إلى ما هو أضعف لأنه تطويل للمسافة مع التشبث بالأضعف
وإن أثبتناها أي حجية الإجماع بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم الضروري ثابت في المسألة التي نحن فيها سواء بسواء فلا حاجة بنا في إثبات السمع والبصر إلى التمسك بالإجماع ثم التمسك في حجيته بالعلم الضروري
فإنه تطويل بلا طائل بل نقول ابتداء هو مما علم من الدين بالضرورة كما ذكرناه
تنبيه قد تقدم في مباحث العلم أن طائفة يزعمون أن الإدراك أعني السمع والبصر وسائر إخوانهما نفس العلم بمتعلقه الذي هو المدرك وقد أبطلناه بأنا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم أبصرناه فإنا نجد بالبديهة بين الحالتين فرقا
ونعلم بالضرورة أن الحالة الثانية تشتمل على أمر زائد مع حصول العلم فيهما فذلك الزائد هو الإبصار
وللمصنف في هذا الإبطال (3/126)
مناقشة قد مرت هناك فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين وراجعين إلى العلم لا صفتين زائدتين عليه
وفي المحصل اتفق المسلمون على أنه تعالى سميع بصير لكنهم اختلفوا في معناه فقالت الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات
وقال الجمهور منا ومن المعتزلة والكرامية أنهما صفتان زائدتان على العلم
وقال ناقده أراد فلاسفة الإسلام من وصفه تعالى بالسمع والبصر مستفاد من النقل
وإنما لم يوصف بالذوق والشم واللمس لعدم ورود النقل بها
وإذا نظر في ذلك حيث العقل لم يوجد له وجه سوى ما ذكره هؤلاء
فإن إثبات صفتين شبيهتين بسمع الحيوانات وبصرها مما لا يمكن بالعقل
والأولى أن يقال ألما ورد النقل بهما آمنا بذلك وعرفنا أنهما لا يكونان بالآلتين المعروفتين واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما
احتج الباقي على نفيهما عنه تعالى بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة عن المسموع والمبصر أو مشروطان به كسائر الإحساسات وأنه أي التأثر المذكور محال في حقه تعالى
والجواب منع ذلك إذ المعلوم أنهما لا يحصلان لنا إلا مع التأثر ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس ذلك التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به (3/127)
الثاني إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر فيه خروج عن المعقول
والجواب إن انتفاء التعلق في الأزل لا يستلزم انتفاء الصفة فيه كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك بالفعل في وقت لا يوجب انتفائهما أصلا في ذلك الوقت
المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
المتن والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه وأنه إخباره عن كونه صادقا
وهو كلام خاص له تعالى
فإثبات الكلام به دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه
فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام أم لم يثبت
ثم قالت الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان
وهذا باطل (3/128)
بالضرورة
فإن حصول كل حرف مشروط بانقضاء الآخر فيكون له أول فلا يكون قديما
فكذا المجموع المركب منها
وقالت المعتزلة أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث
وهذا لا ننكره لكنا نثبت أمرا وراء ذلك
وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب واحد لا يتغير وغير المتغير غير المتغير
وأنه غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وغير الإرادة لأنه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه فإنه قد يأمره وهو يريد ألا يفعل المأمور به
فإذا هو صفة ثالثة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
ولو قالت المعتزلة إنه هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر به أو إرادته لما أمر به لم يكن بعيدا لكني لم أجده في كلامهم
إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك
وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه فصار محل النزاع نفي المعنى وإثباته
فإذا الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ إنما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة
وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة
لكنا نذكر بعض أدلتهم تكميلا للصناعة
وهو من المعقول والمنقول (3/129)
أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر
ولا مأمور ولا سامع سفه
الثاني لو كان قديما لاستوى نسبته إلى المتعلقات كالعلم
والجواب عن الأول أن ذلك في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
وعن الثاني إن الشيء القديم الصالح للأمور قد يتعلق ببعض دون بعض كالقدرة القديمة
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى وهذا ذكر مبارك وإنه لذكر لك ولقومك مع قوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث
الثاني إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيكون كن متأخرا عن الإرادة وحاصلا قبيل كون الشيء
وكلاهما يوجب الحدوث
الثالث وإذ قال ربك للملائكة وإذ ظرف زمان
والمختص بزمان معين محدث
الرابع كتاب أحكمت آياته ثم فصلت إنا أنزلناه قرآنا عربيا
الخامس حتى يسمع كلام الله (3/130)
السادس إنه معجز ويجب مقارنته للدعوى
وإلا فلا اختصاص له به
السابع إنه منزل و تنزيل
الثامن يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس
والمربوب محدث
التاسع إنه تعالى اخبر بلفظ الماضي نحو إنا أنزلناه إنا أرسلنا
العاشر النسخ رفع وما ثبت قدمه امتنع عدمه
والجواب أنها تدل على حدوث اللفظ وهو غير المتنازع فيه
تنبيه كلامه واحد عندنا لما مر في القدرة وانقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء بحسب التعلق
وقيل خمسة
وقال ابن سعيد وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق
تفريع على الكلام يمتنع عليه الكذب اتفاقا أما عند المعتزلة فلوجهين
الأول إنه قبيح وهو لا يفعل القبيح
وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل
الثاني إنه مناف لمصلحة العالم
والأصلح واجب عليه
والجواب منع وجوب الأصلح
وأما عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال
وأيضا فيلزم أن نكون أكمل منه في بعض الأوقات
واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي
فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه
وإنما تختلف العبارة (3/131)
الثاني إنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق
فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا
وأما هذه العبارات فلا
الثالث وعليه الاعتماد خبر النبي عليه السلام
وذلك يعلم بالضرورة من الدين
فإن قيل إنما يدل تصديقه على الصدق إذا امتنع عليه الكذب فيلزم الدور
قلنا التصديق بالمعجزة
الشرح
المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام فإنه تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام ويقولون إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا
وكل ذلك من أقسام الكلام فثبت المدعي
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه إذ لا طريق إلى معرفته سواه وأنه أي تصديق الله إياه إخباره عن كونه صادقا
وهو أي هذا الأخبار كلام خاص له تعالى فإذا قد توقف صدق الرسول على كلامه تعالى فإثبات الكلام لله سبحانه به أي بصدق الرسول دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام بأن تكون المعجزة من جنسه (3/132)
كالقرآن الذي يعلم أولا أنه معجزة خارجة عن قوة البشر ثم يعلم به صدق الدعوى أم لم يثبت كما إذا كانت المعجزة شيئا آخر ثم إن ههنا قياسين متعارضين
أحدهما إن كلام الله تعالى صفة له
وكل ما هو صفة له فهو قديم
فكلامه تعالى قديم
وثانيهما إن كلامه مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود
وكل ما هو كذلك فهو حادث
فكلامه تعالى حادث
فافترق المسلمون إلى فرق أربع ففرقتان منهم ذهبوا إلى صحة القياس الأول
وقدحت واحدة منهما في صغرى القياس الثاني
وقدحت الأخرى في كبراه
وفرقتان أخريان ذهبوا إلى صحة الثاني وقدحوا في إحدى مقدمتي الأول على التفصيل المذكور
وإلى ما ذكرناه أشار المصنف رحمه الله بقوله ثم قال الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف
فهؤلاء صححوا القياس الأول ومنعوا كبرى القياس الثاني
وهذا باطل بالضرورة
فإن حصول كل حرف من الحروف التي تركب منها كلامه على زعمهم مشروط بانقضاء الآخر منها فيكون له أي للحرف المشروط أول فلا يكون قديما وكذا يكون للحرف الآخر انقضاء فلا يكون هو أيضا قديما بل حادثا فكذا المجموع المركب منها أي من الحروف التي لها أول زمان وجود وآخره أو اجتمعا معا فيها فيكون حادثا لا قديما
والكرامية وافقوا الحنابلة في أن كلامه حروف وأصوات
وسلموا أنها حادثة لكنهم زعموا أنها قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به فقد قالوا بصحة القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأول
وقالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف كما ذهبت إليه الفرقتان المذكورتان
لكنها ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي
وهو حادث كما ذهبت إليه الكرامية خلافا للحنابلة
فهم أيضا صححوا القياس الثاني لكنهم قدحوا في صغرى (3/133)
القياس الأول
وهي أن كلامه تعالى صفة له
وهذا الذي قاله المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به ونسميه كلاما لفظيا ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى لكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ
ونقول هو الكلام حقيقة
وهو قديم قائم بذاته تعالى فنمنع صغرى القياس الثاني ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ولا يختلف ذلك المعنى النفسي بل نقول ليس تنحصر الدلالة عليه في الألفاظ إذ قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغير مع تغير العبارات
ولا يختلف باختلاف الدلالات وغير المتغير غير المتغير أي ما ليس متغيرا وهو المعنى النفسي مغاير للمتغير الذي هو العبارات ونزعم أنه أي المعنى النفسي الذي هو الخير غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وإن المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الإرادة لأنه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا فإن مقصوده مجرد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه
فإنه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه
واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا فإذا هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر والأمر صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم بامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
قال المصنف ولو قالت المعتزلة إنه أي المعنى النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم (3/203)
المتكلم بما أخبر به أو يصير سببا لاعتقاده إرادته أي إرادة المتكلم لما مر به لم يكن بعيدا لأن إرادة الفعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ومغايرة لما يدل عليها من الأمور المتغيرة والمختلفة
وليس يتجه عليه أن الرجل قد يخبر بما لا يعلم أو يأمر بما لا يريد
وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدل عليه بالعبارات مغايرة للإرادة كما تدعيه الأشاعرة لكني لم أجده في كلامهم بل الموجود فيه أن مدلول العبارات في الخبر راجع إلى العلم القائم بالمتكلم وفي الأمر راجع إلى إرادة المأمور به وفي النهي إلى كراهة المنهي عنه فلا يثبت كلام نفسي مغاير لباقي الصفات
وقد مر ما فيه
إذا عرفت هذا الذي قررناه لك فاعلم أن ما تقوله المعتزلة في كلام الله تعالى وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة وكونها حادثة قائمة بغير ذاته تعالى فنحن نقول به
ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك كما مر آنفا وما نقوله نحن ونثبته من كلام النفس المغاير لسائر الصفات فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه الذي ندعيه في كلامه تعالى فصار محل النزاع بيننا وبينهم نفي المعنى النفسي وإثباته فإذن الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ
إنما تقيدهم بالنسبة إلى الحنابلة القائلين بقدم الألفاظ وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا أي بلا تقييد بالنفسي واللفظي فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم أي لا يعطيهم فائدة وجدوى بالقياس إلينا إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة حينئذ تنفعهم
إذ على هذا التقدير ينحصر القرآن في هذه الألفاظ والعبارات
ولا سبيل لهم إلى هذا البرهان
فلا حجة لهم أيضا في تلك الأدلة المطلقة لكنا نذكر بعض أدلتهم التي من هذا القبيل ونجيب عنها تكميلا للصناعة الكلامية وتثبيتا لطلاب الحق في مزالق الأقدام وهو من المعقول والمنقول (3/135)
أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع فيه سفه فكيف يتصور ثبوته لله سبحانه وتعالى
الثاني لو كان كلامه تعالى قديما لاستوى نسبته إلى جميع المتعلقات لأنه حينئذ يكون كالعلم في أن تعلقه بمتعلقاته يكون لذاته
فكما أن علمه يتعلق بجميع ما يصح تعلقه به كذلك كلامه يتعلق بكل ما يصح تعلقه به
ولما كان الحسن والقبح بالشرع صح في كل فعل أن يؤمر به وأن ينهى عنه
فيلزم تعلق أمره ونهيه بالأفعال كلها فيكون كل فعل مأمورا به ومنهيا عنه معا
هذا خلف
وقد وقع في بعض النسخ كالعلم والقدرة
وهو سهو من القلم كما صرح به فيما بعد لا يجب تعلقها بكل ما يصح أن يتعلق به بخلاف العلم
والجواب عن الأول أن ذلك السفه الذي ادعيتموه إنما هو في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
ويرد عليه أن ما يجده أحدنا في باطنه هو العزم على الطلب وتخيله
وهو ممكن
وليس بسفه
وأما نفس الطلب فلا شك في كونه سفها بل قيل هو غير ممكن لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال
والجواب عن الثاني أن الشيء القديم الصالح للأمور المتعددة قد يتعلق ببعض من تلك الأمور دون بعض كالقدرة القديمة فإنها تتعلق ببعض المقدورات وهو ما تعلقت الإرادة به منها دون بعض
فإن قيل مخصص القدرة هو الإرادة فلا بد في الكلام أيضا مخصص
ويعود الكلام إليه ويلزم التسلسل (3/136)
قلنا تعلق الكلام ببعض دون آخر كتعلق الإرادة لذاتها ببعض ما يصح تعلقها به دون بعض فلا تسلسل على ما مر
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى وهذا ذكر مبارك وقوله وإنه لذكر لك ولقومك مع قوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث فإنهما يدلان على أن الذكر محدث فيكون القرآن محدثا
الثاني قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ معناه إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون
قوله كن وهو قسم من كلامه متأخرا عن الإرادة الواقعة في الاستقبال لكونه جزاء له ويكون حاصلا قبيل كون الشيء أي وجوده بقرينة الفاء الدالة على الترتيب بلا مهالة
وكلاهما يوجب الحدوث
أما التأخر عن الإرادة الحادثة في المستقبل فلأن التأخر عن الشيء يوجب الحدوث خصوصا إذا كان ذلك الشيء حادثا واقعا في الاستقبال
وأما التقدم على الكائن الحادث بمدة يسيرة فظاهر أيضا دلالته على الحدوث
الثالث قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة وإذ ظرف زمان ماض فيكون قوله واقع في هذا الظرف مختصا بزمان معين والمختص بزمان معين محدث
الرابع كتاب أحكمت آياته ثم فصلت فإنه يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثا
وكذا قوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا (3/137)
يدل على أن كلام الله تعالى قد يكون عربيا تارة وعبريا أخرى فيكون متغيرا وذلك دليل حدوثه
الخامس حتى يسمع كلام الله فإنه يدل على أن كلامه مسموع فيكون حادثا لأن المسموع لا يكون إلا حرفا وصوتا
السادس إنه أي القرآن معجز إجماعا ويجب مقارنته أي مقارنة المعجز للدعوى حتى يكون تصديقا للمدعي في دعواه فيكون حادث مع حدوثها
وإلا أي وإن لم يكن مقارنا لها حادثا معها بل يكون قديما سابقا عليها فلا اختصاص له به أي بذلك المدعي وتصديقه
السابع إنه أعني القرآن موصوف بأنه منزل وتنزيل
وذلك يوجب حدوثه لاستحالة الانتقال بالإنزال والتنزيل على صفاته القديمة القائمة بذاته تعالى
الثامن قوله دعائه يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس
فالقرآن مربوب كلا وبعضا
والمربوب محدث اتفاقا
التاسع إنه تعالى أخبر بلفظ الماضي نحو إنا أنزلناه إنا أرسلنا ولا شك أنه لا إنزال ولا إرسال في الأزل
فلو كان كلامه قديما لكان كذبا لأنه إخبار بالوقوع في الماضي
ولا يتصور ما هو ماض بالقياس إلى الأزل
العاشر النسخ حق بإجماع الأمة
ووقع في القرآن وهو رفع أو (3/138)
انتهاء ولا شيء منهما يتصور في القديم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
والإمام الرازي جعل هذين الوجهين في الأربعين من الأدلة المعقولة والحق ما اختاره المصنف
والجواب عن الوجوه العشرة أنها تدل على حدوث اللفظ كما لا يخفى على المتأمل
وهو غير المتنازع فيه كما تحققته
تنبيه كلامه تعالى واحد عندنا لما مر في القدرة من أنها لو تعددت لاستندت إلى الذات إما بالاختيار أو بالإيجاب
وهما باطلان
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى المختار
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء فيلزم وجود قدر لا تتناهى وإما انقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء فإنما هو بحسب التعلق فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا باعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا
وكذا الحال في البواقي
وقيل كلامه خمسة هي الأقسام المذكورة
وقال ابن سعيد من الأشاعرة هو في الأزل واحد وليس متصفا بشيء من تلك الخمسة وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها إذ الجنس لا يوجد إلا في ضمن شيء من أنواعه
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق يعني أنها ليست أنواعا حقيقية له حتى يلزم ما ذكرتم بل هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه بالأشياء فجاز أن يوجد جنسها بدونها ومعها أيضا
فليس كلام ابن سعيد ببعيد جدا كما توهموه
تفريع على ثبوت الكلام لله تعالى وهو أنه يمتنع عليه الكذب اتفاقا
أما عند المعتزلة فلوجهين (3/139)
الأول أنه أي الكذب في الكلام الذي هو عندهم من قبيل الأفعال دون الصفات قبيح
وهو سبحانه لا يفعل القبيح وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها مقيسة إلى الله تعالى
وستعرف بطلانه
الثاني أنه مناف لمصلحة العالم لأنه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن إخباره بالثواب والعقاب وسائر ما أخبر به من أحوال الآخرة والأولى
وفي ذلك فوات مصالح لا تحصى والأصلح واجب عليه تعالى عندهم فلا يجوز إخلاله به
والجواب منع وجوب الأصلح إذ لا يجب عليه شيء أصلا بل هو متعال عن ذلك قطعا
وأما امتناع الكذب عليه عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال إجماعا
وأيضا فيلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه أن نكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا
وهذا الوجه إنما يدل على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته يكون صادقا
وإلا لزم النقصان في صفته تعالى مع كمال صفتنا
ولا يدل على صدقه في الحروف والكلمات التي يخلقها في جسم دالة على معان مقصودة
ولما كان لقائل أن يقول خلق الكاذب أيضا نقص في فعله فيعود المحذور بعينه أشار إلى دفعه بقوله واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه فإن النقص في الإفعال هو القبح العقلي بعينه فيها وإنما تختلف العبارة دون المعنى
فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي كيف يتمسكون في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى
الثاني أنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم (3/140)
الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب
وإلا جاز زوال ذلك الكذب
وهو محال فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه واللازم وهو امتناع الصدق عليه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا الوجه الثاني أيضا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا لأنه القديم
وأما هذه العبارات الدالة على الكلام النفسي فلا دلالة على صدقها لأنها حادثة فيجوز زوالها بحدوث الصدق الذي يقابلها مع أن الأهم عندنا هو بيان صدقها
الثالث وعليه الاعتماد لصحته ودلالته على الصدق في الكلام النفسي واللفظي معا خبر النبي صادقا في كلامه كله وذلك أي خبره مما يعلم بالضرورة من الدين فلا حاجة إلى بيان إسناده وصحته
ولا إلى تعيين ذلك الخبر
بل نقول تواتر عن الأنبياء عليهم السلام كونه تعالى صادقا كما تواتر عنهم كونه تعالى متكلما
فإن قيل صدق النبي إنما يعلم بتصديقه تعالى إياه
وإنما يدل تصديقه إياه على الصدق أي صدق النبي إذا امتنع عليه تعالى الكذب ووجب أن يكون كلامه صدقا
فصدق النبي إنما يعرف بصدق الله تعالى فيلزم الدور إذا ثبت صدقه تعالى بصدق النبي كما فعلتم
قلنا التصديق بالمعجزة كما مر فهو تصديق فعلي لا قولي
ودلالتها على التصديق دلالة عادية لا يتطرق إليها شبهة كما ستقف عليه
واعلم أن للمصنف مقالة مفردة في تحقيق كلام الله تعالى على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب ومحصولها أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير
فالشيخ الأشعري لما قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده (3/141)
وهو القديم عنده
وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة
وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله تعالى الحقيقي
وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية
فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني
فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة
وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة
فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث
والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة
وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخرو أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته ثم كلامه
وهذا المحمل لكلام الشيخ مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام
ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى قواعد الملة (3/142)
المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل
المتن فالمقدمة هل لله تعالى صفة غير ما ذكرناه فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا على أنه لا دليل عليه فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه
ومنهم من قال نحن مكلفون بكمال المعرفة
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها
والجواب منع التكليف بكمال معرفته إذ هو بقدر وسعنا أو يعرفه بعض دون بعض
ولا يمتنع كثرة الهالكين
وأثبت بعض صفات أخر
الأولى البقاء
أثبته الشيخ صفة زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه كما في أول الحدوث
وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث
فلو دل ذلك على كونه زائدا لكان الحدوث زائدا ولزم التسلسل ونفاه القاضي أبو بكر والإمامان
إمام الحرمين والإمام الرازي
وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لوجهين
الأول لو كان زائدا لكان له بقاء ويتسلسل
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء
والثاني لو احتاج إلى الذات لزم الدور
وإلا لكان الذات محتاجا إليه وكان هو مستغنيا عن الذات فكان هو الواجب دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات وبأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين ينفي الأول والثاني الثاني
الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم زائد وأثبته ابن سعيد
ودليله ما مر في البقاء بإبطاله
ويخصه أنه إن أراد به أنه لا أول له فسلبي
أو أنه صفة لأجلها لا يختص بحير كما فسره الشيخ (3/143)
أبو إسحاق الإسفرايني فكذلك أو غيرهما فالتصوير ثم التقرير هذا منضم إلى ما سبق من أنه اعتباري
الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله الرحمن على العرش استوى اختلف الأصحاب فيه فقال الأكثرون هو الاستيلاء ويعود إلى القدرة
قال الشاعر
قد استوى عمرو على العراق ... من غير سيف ودم مهراق أي استوى
وقال الآخر
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر أي استولينا
لا يقال الاستواء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار وعن الثاني بأن الفائدة الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
وقيل هو القصد نحو ثم استوى إلى السماء
وهو بعيد
إذ ذلك يعدى ب إلى دون على
وذهب الشيخ
في أحد قوليه
إلى أنه صفة زائدة ولم يقم دليلا عليه
ولا يجوز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
الرابعة الوجه
قال تعالى ويبقى وجه ربك كل شيء هالك إلا وجهه (3/144)
أثبته الشيخ
في أحد قوليه
وأبو إسحاق الإسفرايني
والسلف صفة زائدة
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله في عدم القاطع
تنبيه الوجه وضع للجارجة ولم يوضع لصفة أخرى بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب فتعين المجاز والتجوز به عما يعقل وثبت بالدليل متعين
الخامسة اليد
قال تعالى يد الله فوق أيديهم ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين وعليه السلف وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنها مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة
وتخصيص خلق آدم بذلك تشريف
كما أضاف الكعبة إلى نفسه
وخصص المؤمنين بالعبودية
وقالت المعتزلة بل عن القادرية بناء على أصلهم وبعضم عن النعمة
وقيل صفة زائدة
وتحقيقه كما في الأول
السادسة العينان
قال تعالى تجري بأعيننا ولتصنع على عيني
وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة
وتارة إنه البصر
والكلام فيه ما مر آنفا
السابعة الجنب قال تعالى يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله
وقيل صفة زائدة (3/145)
وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر
أما تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى وعين ترقرق أو أراد الجناب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه
الثامنة القدم
قال فيضع الجبار قدمه في النار
التاسعة الإصبع
قال إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
العاشرة اليمين
قال تعالى والسموات مطويات بيمينه
الحادية عشرة التكوين أثبته الحنفية
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة والصحة لا تستلزم الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان وأنه للمكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة بل به تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه للممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذا أثر القدرة هو الكون فاستغنى عن صفة ذلك
فإن قيل المراد صحة الفعل لا صحة المفعول في نفسه
فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك فلا يحصل بها أحدهما بعينه
قلنا كل منهما يصلح أثر لها
وإنما يحتاج صدور أحدهما إلى مخصص وهو الإرادة
ولا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة
الشرح
المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل إحدى (3/146)
عشرة
فالمقدمة هي أنه هل لله تعالى صفة وجودية زائدة على ذاته غير ما ذكرناه من الصفات السبع التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا في نفيها على أنه لا دليل عليه أي على ثبوت صفة أخرى فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه لما مر من أن عدم الدليل عندك لا يفيد
وعدمه في نفس الأمر ممنوع
وإن سلم لم يفد أيضا لأن انتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه ومنهم من زاد على ذلك فاستدل على نفيها بأن قال نحن مكلفون بكمال المعرفة وإنما يحصل بمعرفة جميع صفاته
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها لكنا لا نعرفها
بل لا طريق لنا إلى معرفة الصفات سوى الاستدلال بالأفعال والتنزيه عن النقائص
ولا يدل شيء منهما على صفة زائدة على ما ذكر
والجواب منع التكليف بكمال معرفته
إذ هو أي التكليف بقدر وسعنا فنحن مكلفون بأن نعرف من صفاته ما يتوقف تصديق النبي العلم به لا بمعرفة صفات أخرى أو بأن نقول سلمنا تكليفنا بكمال معرفته
لكن لا يلزم من التكليف به حصوله من جميع المكلفين بل ربما يعرفه معرفة كاملة بعض منهم كالأنبياء والكاملين من أتباعهم دون بعض وهو من عداهم
وهؤلاء وإن كانوا هم الأكثرين ولكن لا يمتنع كثرة الهالكين بسبب ترك ما كلفوا به من كمال معرفته وأثبت بعض من المتكلمين صفات أخر بيانها تلك المسائل الإحدى عشرة
الأولى البقاء اتفقوا على أنه تعالى باق لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتية زائدة كما أشار إليه بقوله أثبته الشيخ أبو الحسن وأتباعه وجمهور معتزلة بغداد صفة وجودية زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه أي دون البقاء كما في أول الحدوث بل يتجدد بعده صفة هي البقاء (3/147)
وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث يعني أن البقاء حصل بعد ما لم يكن والحدوث زال بعد أن كان لأنه الخروج من العدم إلى الوجود عند الشيخ لا مسبوقية الوجود به فلو دل ذلك الذي ذكرتموه في البقاء على كونه وجوديا زائدا لكان الحدوث أيضا وجوديا زائد لما ذكرناه لأن العدم بعد الحصول كالحصول بعد العدم في الدلالة على الوجود في الجملة إذ حاصلهما الانتقال الواقع بين العدم وما يقابله
أعني الوجود ولزم التسلسل في الحدوثات الوجودية ضرورة أن الحدوث لا بد أن يكون حادثا
مع أن الشيخ معترف بأن الحدوث ليس أمرا زائدا وحله بعد نقضه أن تجدد الاتصاف بصفة لا تقتضي كونها وجودية كتجدد معية الباري تعالى مع الحادث وكذا زواله أيضا لا يقتضيه
وذلك كله لجواز اتصافه بالعدميات وزوال ذلك الاتصاف ونفاه أي نفى كون البقاء صفة موجودة زائدة القاضي أبو بكر والإمامان إمام الحرمين والإمام الرازي وجمهور معتزلة البصرة وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لا أمر زائد عليه لوجهين
الأول لو كان البقاء زائدا لكان له بقاء إذ لو لم يكن البقاء باقيا لم يكن الوجود باقيا لأن كونه باقيا إنما هو بواسطة البقاء المفروض زواله وحينئذ تتسلسل البقاءات المترتبة الموجودة معا
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء كما قيل في وجود الوجود ووجوب الوجوب وإمكان الإمكان فلا تسلسل أصلا
ويرد على هذا الجواب أن ما تكرر نوعه اعتباريا كما مر
الثاني لو احتاج البقاء على تقدير كونه وجوديا إلى الذات لزم الدور لأن الذات محتاج إلى البقاء أيضا
فإن وجوده في الزمان الثاني معلل به
وإلا أي وإن لم يحتج البقاء إلى الذات لكان الذات محتاجا إليه (3/148)
وكان مستغنيا عن الذات مع استغنائه عن غيره أيضا فكان البقاء هو الواجب الوجود لأنه الغني المطلق دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وما قيل من أن وجوده في الزمن الثاني معلل به ممنوع
غاية ما في الباب أن وجوده فيه لا يكون إلا مع البقاء
وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علة لوجوده فيه إذ يجوز أن يكون تحققهما على سبيل الاتفاق
وإليه الإشارة بقوله وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات يريد أن المثبتين للبقاء يفسرونه تارة باستمرار الوجود ويدعون أن الوجود في الزمان الثاني زائد على الذات وأخرى بأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين للنافين ينفي المعنى الأول من معنى البقاء لأن الاستمرار إذا لم يكن باقيا لم يكن الوجود مستمرا
ولا ينفي الثاني لأن البقاء إذا كان أمرا يعلل به الوجود في الزمان الثاني لا يلزم أن يكون له بقاء آخر والوجه الثاني ينفي المعنى الثاني دون الأول إذ لا يلزم من استمرار الوجود وكونه زائدا على الذات احتياج الذات في وجوده إلى البقاء الذي هو الاستمرار
فلا يلزم الدور
الصفة الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم وجودي زائد على ذاته وأثبته ابن سعيد من الأشاعرة ودليله على كونه صفة موجودة زائدة ما مر في البقاء وتصويره ههنا أن يقال القديم قد يطلق على المتقدم بالوجود إذا تطاول عليه الأمد
ومنه قوله تعالى كالعرجون القديم
والجسم لا يوصف بهذا القدم في أول زمان حدوثه بل بعده فقد (3/149)
تجدد له القدم بعد ما لم يكن فيكون موجودا زائدا على الذات
فكذا القدم الذي هو التقدم بلا نهاية لا بمجرد مدة متطاولة بإبطاله أي ما مر مع إبطاله
فلا حاجة إلى إعادة شيء منهما وحمل ما مر على الوجهين السابقين مما لا وجه لصحته والذي يخصصه أي يختص بإبطاله أنه إن أراد به أي بالقدم أنه لا أول له فسلبي فلا يتصور كونه وجوديا أو أنه صفة لأجلها لا يختص الباري سبحانه وتعالى بحيز كما فسره أي كما فسر كلام ابن سعيد بذلك الشيخ أبو إسحاق الإسفرايني فإنه قال معنى كلامه أنه تعالى مختص بمعنى لأجله ثبت وجوده لا في حيز كما أن المتحيز يختص بمعنى لأجله كان متحيزا
ولا يخفى عليك أن هذا التفسير بعيد جدا عن دلالة زيادة القدم عليه فكذلك يكون القدم أمرا سلبيا إذ مرجعه حينئذ إلى وجوده لا في حيز
فإن قلت هذا السلبي معلل بالقدم لا نفسه
قلت إن الصفات السلبية لا تعلل بخلاف الثبوتية أو غيرهما من المعاني فالتصوير أي فعليه تصوير ذلك المعنى المراد أولا ثم التقرير والتحقيق بإقامة الدليل عليه ثانيا
هذا الذي أوردناه ههنا في إبطاله منضم إلى ما سبق في مباحث الأمور العامة من أنه أي القدم أمر اعتباري لا وجود له في الخارج
فإنه يدل على بطلان مذهبه ودليله أيضا
الصفة الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى اختلف الأصحاب فيه
فقال الأكثرون هو الاستيلاء
ويعود الاستواء حينئذ إلى صفة القدرة
قال الشاعر
قد استوى عمرو على العراق ... من غير سيف ودم مهراق أي استوى
وقال الآخر (3/150)
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر أي استولينا
لا يقال الاستواء بمعنى الاستيلاء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة أي يشعر بسبق هذه الأمور التي تستحيل في حقه تعالى
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأن استيلاءه يعم الكل لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار ألا ترى أن الغالب لا يشعر به كما في قوله تعالى والله غالب على أمره
نعم ربما يفهم سبق تلك الأمور من خصوصية من أسند إليه الاستيلاء في أمر مخصوص
وعن الثاني بأن الفائدة هي الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
فإن استولى عليه كان مستوليا على غيره قطعا
وهذا عكس ما هو المشهور من التنبيه بالأدنى على الأعلى
وكلاهما صواب
فإنه كما يفهم من حكم الأدنى حكم الأعلى إذا كان به أولى كذلك يفهم عكسه إذا كان الأدنى بالحكم أولى
وقيل هو أي الاستواء ههنا القصد فيعود إلى صفة الإرادة نحو قوله تعالى ثم استوى إلى السماء
أي قصد إليها وهو بعيد
إذ ذلك تعدى ب إلى كالقصد دون على كاستيلاء
وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه أي الاستواء صفة زائدة ليست عائدة إلى الصفات السابقة وإن لم نعلمها بعينها ولم يقم دليل عليه
ولا يجوز التعويل في إثباته على الظواهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور
وهو أن يراد به الاستيلاء أو القصد على ضعف
فالحق التوقف مع القطع بأنه ليس كاستواء الأجسام
الصفة الرابعة الوجه
قال تعالى ويبقى وجه ربك
كل (3/151)
شيء هالك إلا وجهه أثبته الشيخ في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفرايني والسلف صفة ثبوتية زائدة على ما مر من الصفات
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله أعني الاستواء في عدم القاطع وعدم جواز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
تنبيه الوجه وضع في اللغة للجارحة المخصوصة حقيقة
ولا يجوز إرادتها في حقه تعالى ولم يوضع لصفة أخرى مجهولة لنا بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب إذ المقصود من الأوضاع تفهيم المعاني فتعين المجاز والتجور به عما يعقل وثبت بالدليل متعين وهو أن يتجوز به عن الذات وجميع الصفات
فإن الباقي هو ذاته تعالى مع مجموع صفاته وما سواه هالك غير باق
الصفة الخامسة اليد قال الله تعالى يد الله فوق أيديهم ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين على الذات وسائر الصفات
لكن لا بمعنى الجارحتين وعليه السلف
وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنهما مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة ولم يرد بقدرتين وتخصيص خلق آدم بذلك مع أن الكل مخلوق بقدرته تعالى تشريف وتكريم له كما أضاف الكعبة إلى نفسه في قوله أن طهرا بيتي للتشريف مع أنه مالك للمخلوقات كلها
وكما خصص المؤمنين بالعبودية لذلك في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
وقالت المعتزلة بأن اليد مجاز عن القادرية بناء على أصلهم الذي (3/152)
هو نفي الصفات وإثبات الأحوال
وقال بعضهم مجاز عن النعمة وهو في غاية الضعف إذ لا يلائم نسبة الخلق إلى اليد
وقيل صفة زائدة وهذا تكرار لما تقدم من مذهب الشيخ والسلف
وقد يوجد في بعض النسخ يد له
وقيل صلة
أي لفظة بيدي زائدة كما في قوله
دعوت لما نابني مسورا ... فلبا فلبى يدي مسور وهو في غاية الركاكة
وتحقيقه كما في الأول أي كالتحقيق الذي ذكرناه في الوجه من أنه موضوع للجارحة
وقد تعذرت فيجب الحمل على التجوز عن معنى معقول هو القدرة
الصفة السادسة العينان
قال تعالى تجري بأعيننا ولتصنع على عيني وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة على سائر الصفات وتارة إنه البصر والكلام فيه ما مر آنفا فإن إثبات الجارحة ممتنع
والحمل على التجوز عن صفة لا نعرفها يوجب الإجمال فوجب أن يجعل مجازا عن البصر أو عن الحفظ والكلاءة وصيغة الجمع للتعظيم
الصفة السابعة الجنب
قال تعالى أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله
وقيل صفة زائدة
وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر (3/153)
أما تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى وعين ترقرق أي تلمع وتتحرك
ورقراق الشراب ما تلألأ منه
أي جاء وذهب
وكذلك الدمع إذا دار في الحملاق أو أراد الجانب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه وحرمه
الصفة الثامنة القدم
قال أثناء حديث مطول فيضع الجبار قدمه في النار فتقول قط قط
أي حسبي حسبي
وفي رواية أخرى حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك
وفي أخرى يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد حتى يضع الرب قدمه عليها فتقول قط قط
وتأويل الجبار بمالك خازن النار أو بمن يرفع نفسه عن امتثال التكاليف مما لا يلتفت إليه كيف وقد ورد في رواية أنس في أثناء حديث وأما النار فلا تمتلى حتى يضع الله رجله فيها
الصفة التاسعة الإصبع
قال إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
وفي رواية إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء
ولا يمكن إثبات الجارحة
وأما وجه التأويل فكما في اليدين (3/154)
الصفة العاشرة اليمين
قال تعالى والسموات مطويات بيمينه
وتأويلها بالقدرة التامة ظاهرة
الصفة الحادية عشرة التكوين
أثبته الحنفية صفة زائدة على السبع المشهورة أخذا من قوله تعالى كن فيكون فقد جعل قوله كن متقدما على كون الحادثات
أعني وجودها
والمراد به التكوين والإيجاد والتخليق
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة
والصحة لا تستلزم الكون فلا يكون الكون أثرا للقدرة
وأثر التكوين هو الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان
وإنه للممكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة لأن ما بالذات لا يعلل بالغير بل به أي بإمكان الشيء في نفسه تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه ممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذن أثر القدرة هو الكون أي كون المقدور وجوده لا صحته وإمكانه
فاستغنى عن إثبات صفة أخرى كذلك أي يكون أثرها الكون
فإن قيل المراد بالصحة التي جعلناها أثرا للقدرة هو صحة الفعل بمعنى التأثير والإيجاد من الفاعل لا صحة المفعول في نفسه وهذه الصحة هي إمكانه الذاتي الذي لا يمكن تعليله بغيره
وأما الصحة الأولى فهي بالقياس إلى الفاعل ومعللة بالقدرة فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك على سواء من الشيء المقدور له فلا يحصل بها منه أحدهما بعينه بل لا بد في حصوله من صفة أخرى متعلقة به
أي بذلك الطرف وحده
فتلك الصفة هي التكوين
قلنا كل منهما أي من ذينك الطرفين يصلح أثرا لها أي للقدرة (3/155)
وإنما يحتاج صدور أحدهما بعينه عنها إلى مخصص بعينه وهو الإرادة المتعلقة بذلك الطرف وحينئذ لا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة المؤثرة فيه بواسطة الإرادة المتعلقة به
وقد ورد في حديث ليلة المعراج وضع كفه بين كتفي فوجدت بردها في كبدي
ولا يجوز إثبات الجارحة كما ذهبت إليه المشبهة
فقيل هو موصوف بكف لا كالكفوف
وقيل مؤول بالتدبير
يقال فلان في كف فلان
أي في تدبيره
فالمقصود من الحديث بيان ألطافه في تدبيره له وبيان أنه وجد روح ألطافه
لأن البرد يطلق على كل روح وراحة وطمأنينة
وقد ورد في الأحاديث أنه تعالى ضحك حتى بدت نواجذه
ويمتنع حمله على حقيقته
فقيل هو ضحك لا كضحكنا
وقيل مؤول بظهور تباشير الخير والنجح في كل أمر
ومنه ضحكت الرياض إذا بدت أزهارها
فمعنى ضحك ظهر تباشير الصبح
والنجح منه
وبدو النواجذ عبارةعن ظهور كنه ما كان متوقعا منه
ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير وبعضها على الكناية
وبعضها على المجاز مراعيا لجزالة المعنى وفخامته ومجانبا عما يوجب ركاكته
فعليك بالتأمل فيها وحملها على ما يليق بها
والله المستعان
وعليه التكلان (3/156)
المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن في الرؤية
والكلام في الصحة
وفي الوقوع
وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها
فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة
قالت الفلاسفة هي عائدة إلى تأثر الحدقة لوجوه
الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه عن نفسه أصلا
الثاني إن من نظر إلى روضة خضراء زمانا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة
فلولا تأثرها منه لما كان ذلك (3/157)
قلنا كل ذلك يدل على تأثر الحدقة
وأما عود الإبصار إليه فلا
فلا هي هو
ولا مشروطة به عندنا
وقد سبق ما فيه كفاية
ثم علمت أن الله تعالى ليس جسما ولا في جهة ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر
ويحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية
وقد استدل عليه بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل
والعمدة قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني والاحتجاج به من وجهين
الأول أن موسى سأل الرؤية
ولو امتنع لما سأل
لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
الثاني أنه علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن
الإعتراض أما على الأول فمن وجوه
الأول أن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع
وهذا تأويل العلاف
وتبعه الجبائي وأكثر البصريين (3/158)
والجواب أن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت بإلى فبعيد جدا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ثم يمتنع حملها عليه ههنا
أما أولا فلأنه يلزم ألا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله لن تراني نفي للرؤية بإجماع المعتزلة
الثاني إنه سأله أن يريه علما من أعلامه الدالة على الساعة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه نحو واسأل القرية وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلقوله لن تراني وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل من أعظم الأعلام
فلا يناسب قوله ولكن انظر إلى الجبل المنع من رؤية الآية
الثالثة إنما سألها بسبب قومه ليمنع فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان مصدقا بينهم لكفاه أن يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما قال إنكم قوم تجهلون عند (3/159)
قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وإلا لم يصدقوه في الجواب
وأما ثانيا فلأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه
بل ذلك لقصدهم إعجاز موسى تعنتا
فأظهر الله ما يدل على صدقه معجزا
الرابع إنه سألها وإن علم استحالتها ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فعل إبراهيم حين قال أرني كيف تحيي الموتى
قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
والجواب إن العلم لا يقبل التفاوت
ولذلك يؤول قول الخليل بما يضعف وبما يقوى مع أنه كان يمكنه ذلك من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
الخامس إنه قد لا يعلم امتناع الرؤية
ولا يضر مع العلم بالوحدانية أو السؤال صغيره لا يمتنع على الأنبياء
والجواب التزام أن النبي المصطفى بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يحوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة
ومن حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء
واحتجاجنا بلزوم العبث
وهو مما ننزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى لا يعد من الصغائر
وفي جوازها من الأنبياء ما سيأتي
وأما على الثاني فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية
فإذا قد علقه عليه حال حركته
ولا خفاء أن الاستقرار حال الحركة محال
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد (3/160)
وأنه ممكن قطعا إذ لو فرض لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته ليس بمحال إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة
إنما المحال الاستقرار مع الحركة
الثاني أنه لم يقصد بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء ويلزم
وههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
والشرط والمشروط
تذنيب كل ما سنتلوه عليك مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها
فلا نطول بذكرها الكتاب
المسلك الثاني هو العقل
والعمدة مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ والقاضي وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض
فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود وانتفائها عند العدم
ولولا تحقق أمر حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح
وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة
وهو غير جائز (3/161)
لما مر
ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
لكن الحدوث لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزء العلة
وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذا هي الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم
فعليه صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ يلتزمه ويقول لا يلزم من صحة الرؤية تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى لجريان العادة من الله بذلك
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها
والخصم يشدد عليه النكير
وما هو إلا استبعاد
والحقائق لا تؤخذ من العادات
ثم الإعتراض عليه من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر
بل المرئي الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض
قلنا والمرجع بهما إلى المقدار
وأنه عرض قائم بالجسم
والجواب أنا قد أبطلنا ذلك بما فيه كفاية
ونزيد ههنا أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض
فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة
وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض
وأيضا فالإمتداد شرط لقيام العرض بها
وإلا لقام بها
وإن كانت متناثرة فلا يكون عرضا
الثاني لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه وتحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن يتعلق به الرؤية ونعلم بالضرورة أنه أمر موجود
الثالث لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بل صحة رؤية الأعراض لا تماثل (3/162)
صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية واحد منهما
فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا فضلا عن أنها أي جوهر أو عرض هي وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما يقوله الفلاسفة بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض تقوم بها
وربما نغفل عن ذلك حتى لو سئلنا عن كثير منها لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها إذ كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بل الأمر الذي به الافتراق لما كان كذلك
الرابع لا نسلم أن المشترك بينهما ليس إلا الوجود أو الحدوث
فإن الإمكان مشترك بينهما
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية هو ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم
والإمكان ليس كذلك
وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية
والذي نعلمه فيهما خصوصية كل
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق إلا المشترك بينهما وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود (3/163)
الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك
والجواب ما سبق من أن المراد متعلق الرؤية
ولا يصلح العدم لذلك
فإن قيل ليس الحدوث هو العدم السابق بل مسبوقية الوجود بالعدم
قلنا وذلك أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان والجواب إن لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية
وذلك أمر مشترك بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق وألزمتم الاشتراك فيه فشيات الأشياء
وهي هيئات للهويات
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها
واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير
لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق وعدم الركون إلى أول عارض
ولله العون والمنة
السابع لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك
المقام الثاني في وقوع الرؤية
إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة (3/164)
قال الإمام الرازي الأمة في هذه المسألة على قولين يصح ويرى
ولا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا لا يرى لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع
وهو غير صحيح لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه أو نفي ما أثبته وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع وشيء منهما لا يخالف الإجماع
بل كل واحد مما قال به طائفة
وذلك كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما
وناف لهما
والتفصيل لا يكون خارقا للإجماع ولا ممنوعا عنه بالإجماع
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
وجه الاحتجاج إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار
ويستعمل بغير صلة
قال تعالى انظرونا نقتبس من نوركم
وبمعنى التفكر ويستعمل بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني
وبمعنى الرأفة ويستعمل باللام
يقال نظر الأمير لفلان
وبمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
نظرت إلى من حسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضي والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية
واعترض عليه بوجوه (3/165)
الأول لا نسلم أن إلى صلة بل واحد الآلاء
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
أبيض لا يرهب النزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلى والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة
الثاني أن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر الظماء حيا الغمام وقال
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح وقال
كل الخلائق ينظرون سجاله ... نظر الحجيج إلى طلوع هلال والجواب لا نسلم أن النظر ههنا للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء
ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية
إنما الممتنع حمل الموصول بإلى على غيرها
وفي الثاني أي ناظرات إلى جهة الله وهي العلو في العرف
ولذلك ترفع إليه الأيدي في الدعاء أو إلى آثاره من الضرب والطعن
وفي الثالث أي يرون سجاله ويجوز المجرد للرؤية آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا
إذ لا يصلح بشارة لما مر
الثالث إن النظر مع إلى لتقليب الحدقة
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته
ولم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
وانظر كيف ينظر فلان إلي (3/166)
والرؤية لا ينظر إليها
وقال تعالى وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضا والتجبر والذل والخشوع وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة
هذا وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية ولا ملزومها
ثم إنه للرؤية مجاز
ولا يتعين لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب إن النظر مع إلى للرؤية بالنقل
وقوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح من العرب بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال وربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه
وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
والبواقي كلها مجازات مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة
ولا قرينة معينة
فالتعيين تحكم لا يجوز لغة
ثم تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة
ومع الرؤية يكفيه التجوز
فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا للرؤية
وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة لا تصلح للتعويل عليها في المسائل العلمية
المسلك الثاني قوله تعالى في الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم فلزم كون المؤمنين مبرأين عنه
والمعتمد فيه إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر (3/167)
المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع
لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن والتالي باطل
بيان الشرطية لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته
فجازت رؤيته الآن
ولو جازت رؤيته لزم أن نراه لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية وجب حصول الرؤية
وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة
ونحن لا نراها وأنه سفسطة
وشرائط الرؤية سلامة الحاسة وكون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة ومقابلته وعدم غاية الصغر وعدم غاية اللطافة وعدم غاية البعد والقرب وعدم الحجاب الحائل
ثم لا يعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون البواقي مختصة بالأجسام
وهما حاصلان الآن
والجواب أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي
ويخرج منها إلى وسطه خط قائم عليه يقسم المثلث إلى مثلثين قائمي الزاوية
فيكون وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة أطول من وتر الحادة
فلا تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد
لأنا نقول نفرض هذا التفاوت ذراعا
فلو بعد المرئي بقدر ذلك وجب ألا يرى أصلا
وإذا يرى فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية (3/168)
قال بعض الفضلاء لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه لطرفي المرئي وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد صارت لسعتها في الغاية أو لضيقها في الغاية كالمعدومة فانعدمت الرؤية
وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ لأن رؤية كل أصغر مما هو عليه توجب الانقسام
ورؤيته أكبر مما هو عليه بمثل توجب ألا يرى إلا ضعفا ضعفا وبأقل من مثل توجب الانقسام
قوله يلزم تجويز جبال شاهقة لا نراها
قلنا هذا معارض بجملة العاليات
ثم إمكان مأخذ الجزم بعدم الجبل ما ذكرتم لوجب ألا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون نظريا
سلمنا الوجوب في الشاهد ولم يجب في الغائب
إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
الثانية شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط مطلقا كما مر أو في الغائب
الثالثة شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال
والجواب مثل ما مر
وأما السمعية فأربع
الأول قوله تعالى لا تدركه الأبصار
والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى
وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه (3/169)
والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول إن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
إنا لمدركون أي ملحقون
ثم نقل إلى المحيطة والرؤية المكيفة أخص من المطلقة
فلا يلزم من نفيها نفيها
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع
بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به
الثاني إن تدركه الأبصار موجبة كلية
وقد دخل عليها النفي فرفعها
ورفع الموجبة كلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ونفي الإسناد إلى الكل
ومع احتمال الثاني لم يبق فيه حجة لكم
هذا لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم
وإلا عكسنا القضية
الثالث إنها وإن عمت في الأشخاص فإنها لا تعم في الأزمان
ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا
الرابع إن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا
وأما عن الوجه الثاني وهو قوله تمدح بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح
إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد (3/170)
الثانية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا وقد استعظمه وذلك في ثلاث آيات
الأولى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا مستكبرا بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الثانية وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون
الثالثة يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم سمى ذلك ظلما وجازاهم به في الحال
ولو جاز لكان سؤالهم سؤالا لمعجزة زائدة
والجواب إن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة واستكبر إنزال الكتاب مع إمكانهما
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله حين طلبوا وهو أن يجعل لهم إلها
إذ قال إنكم قوم تجهلون ولم يقدم على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وقد مر
الثالث قوله تعالى لموسى لن تراني ولن للتأبيد وإذا لم يره موسى لم يره غيره إجماعا (3/171)
والجواب منع كون لن للتأبيد بل هو للنفي في المستقبل فقط كقوله تعالى ولن يتمنوه أبدا ويتمنونه في الآخرة
الرابعة قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب وإذا لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حاله الرؤية
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة
إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة
والجواب إنا نمنع الضرورة
وما ذلك منهم إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود
ولعل هذا فرعه
الشرح
المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى أي يجوز أن يتعلق به كالرؤية والعلم بالكنه وفيه مقصدان (3/172)
المقصد الأول في الرؤية والكلام في الصحة وفي الوقوع وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
قال الآمدي اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا
واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا فأثبته بعضهم ونفاه آخرون
وهل يجوز أن يرى في المنام فقيل لا
وقيل نعم
والحق أنه لا مانع من هذه الرؤيا وإن لم تكن رؤيا حقيقة
ولا خلاف بيننا في أنه تعالى يرى ذاته
والمعتزلة حكموا بامتناع رؤيته عقلا لذي الحواس
واختلفوا في رؤيته لذاته
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة فإن الحالتين وإن اشتركتا في حصول العلم فيها إلا أن الحالة الأولى فيها أمر زائد هو الرؤية
وكذا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم رأيناه فإنا نعلم بالبديهة تفرقة بين الحالتين
وإن في الثانية زيادة ليست في الأولى
قالت الفلاسفة هي أي تلك المغايرة والزيادة عائدة إلى تأثر الحدقة لا إلى زيادة في الانكشاف هي الرؤية والإبصار لوجوه (3/173)
الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه أي هذا التخيل عن نفسه أصلا وما ذلك إلا لأن الحدقة تأثرت عن صورة الشمس وبقيت صورتها في الحدقة بعد أن زالت الرؤية
الثاني إن من نظر بالاستقصاء إلى روضة خضراء زمانا طويلا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض فإنه يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة فقد تحقق أن حدقته تأثرت عن الخضرة وبقي صورتها فيها بعد التحول
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة وكذلك البياض الشديد يقهرها بحيث لو نظر الرائي بعد رؤيتهما إلى ضوء ضعيف أو بياض ضعيف لم يرهما
فلولا تأثرها أي تأثر الحاسة منه بل منهما لما كان الأمر كذلك
قلنا كل ذلك الذي ذكرتموه يدل على تأثر الحدقة عند الإبصار
وأما عود تلك الزيادة التي هي الإبصار إليه أي إلى التأثر فلا دلالة عليه فلا هي أي فلا الإبصار بتأويل الرؤية هو أي تأثر الحاسة ولا هي مشروطة به عندنا فجاز أن يرى الله سبحانه وتعالى من غير أن تتأثر عنه الحاسة
وقد سبق ما فيه كفاية وهو أن الرؤية أمر يخلقه الله في الحي
ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الحكماء ثم علمت أن الله تعالى ليس جسما ولا في جهة
ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في الأحاديث الصحيحة
وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية هذا ما تفرد به أهل السنة (3/174)
وخالفهم في ذلك سائر الفرق
فإن الكرامية والمجسمة وإن جوزوا رؤيته لكن بناء على اعتقادهم كونه جسما
وفي جهة
وأما الذي لا إمكان له ولا جهة فهو عندهم مما يمتنع وجوده فضلا عن رؤيته
وسيرد عليك زيادة تقرير لمذهبهم
وقد استدل عليه أي على جواز رؤيته تعالى بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل وإنما قدمه لأنه الأصل في هذا الباب
والعمدة من المنقولات في ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
والاحتجاج به من وجهين
الأول إن موسى عليه السلام سأل الرؤية
ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بل ينبغي أن لا يصلح للنبوة
إذا المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة
الثاني إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن إذ لو كان ممتنعا لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم
الاعتراض أما على الوجه الأول فمن وجوه
الأول إن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها
وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيما استعمال رأى بمعنى علم
وأرى بمعنى أعلم
فكأنه قال اجعلني عالما بك (3/175)
علما ضروريا
وهذا تأويل أبي الهذيل العلاف وتبعه فيه الجبائي
وأكثر البصريين
والجواب إن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت ب إلى فبعيد جدا
والصواب أن يقال لو كانت الرؤية المطلوبة في أرني بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا
والنظر وإن استعمل بمعنى العلم إلا أن استعماله فيه موصولا بإلى مستبعد مخالف للظاهر قطعا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ولا دليل ههنا
فوجب حمله على الرؤية بل على تقليب الحدقة نحو المرئي المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها أي حمل الرؤية المطلوبة عليه أي على العلم الضروري ههنا
أما أولا فلأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة
مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله لن تراني نفي للرؤية لا للعلم الضروري بإجماع المعتزلة
فلو حمل السؤال على طلب العلم لم يطابقا أصلا
الثاني من وجوه الاعتراض على الأول أنه لم يسأله إراءة ذاته بل سأل أن يريه علما وأمارة من أعلامه وأماراته الدالة على الساعة وتقدير الكلام أنظر إلى علمك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال انظر إليك نحو واسأل القرية أي أهلها
فتكون الرؤية المطلوبة (3/176)
متعلقة بالعلم أيضا
والمعنى أرني علما من أعلامك انظر إلى علمك وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلقوله لن تراني فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلام الساعة بإجماعهم
فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ
وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام الدالة عليها فلا يناسب قوله ولكن انظر إلى الجبل المنع من رؤية الآية
أي العلامة الدالة على الساعة المستفاد من قوله لن تراني على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها
وأيضا قوله فإن استقر مكانه لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره
الثالث من تلك الوجوه إنما سألها بسبب قومه لا لنفسه لأنه كان عالما بامتناعها
لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا أرنا الله جهرة وإنما نسبها إلى نفسه في قوله أرني ليمنع عن الرؤية فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم
وفي أخذ الصاعقة لهم دلالة على استحالة المسئول
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا بد له من دليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان موسى مصدقا بينهم لكفاه في دفعهم أن (3/177)
يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما زجرهم
وقال إنكم قوم تجهلون عند قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وإلا أي وإن لم يكن مصدقا بينهم بل كان القوم كافرين منكرين لصدقه لم يصدقوه أيضا في الجواب ب لن تراني إخبارا عن الله تعالى لأن الكفار لم يحضروا وقت السؤال ولم يسمعوا الجواب
بل الحاضرون هم السبعون المختارون
فكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم لمعجزاته الباهرة
وأما ثانيا فلأنهم لما سألوا وقالوا أرنا الله جهرة زجرهم الله تعالى وردعهم عن السؤال بأخذ الصاعقة فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه
وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسؤول لأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة عقب سؤالهم
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه بل جاز أن يكون ذلك الأخذ لقصدهم إعجاز موسى عن الإتيان بما طلبوه تعنتا مع كونه ممكنا فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم
كما أنكر قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقولهم أنزل علينا كتابا من السماء بسبب التعنت
وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن تعنتهم
الرابع من وجوه الاعتراض على الأول أنه سألها لنفسه وإن علم استحالتها بالعقل ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فيتقوى علمه بتلك الاستحالة
فإن تعدد الأدلة وإن كانت من جنس واحد تفيد زيادة قوة في العلم بالمدلول
فكيف إذا كانت من جنسين
وإنما سأل هذا السؤال وفعله فعل إبراهيم وسؤاله حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو (3/178)
لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فقد طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل
والجواب أن العلم لا يقبل التفاوت فإنه كما مر صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه
ولذلك يؤول قول الخليل تارة بما يضعف وهو أنه مخاطبة منه لجبريل عند نزوله إليه بالوحي ليعلم أنه منه عند الله وضعفه أنه خاطب الرب وجبرائيل ليس برب
وأيضا إحياء الموتى ليس مقدورا لجبرائيل فكيف يطلب منه وتارة بما يقوى وهو ما روي من أنه أوحى الله تعالى إليه أني اتخذت إنسانا خليلا وعلامته أني أحيي الموتى بدعائه
فظن إبراهيم أنه ذلك الإنسان فطلب الإحياء ليطمئن به قلبه مع أنه كان يمكنه أي يمكن موسى ذلك أي طلب التأكد من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
من الرؤية بأن يطلب إظهار الدليل السمعي على استحالتها بلا طلب
فيكون حينئذ طلبها خارجا عما يليق بالعقلاء خصوصا الأنبياء
الخامس من تلك الوجوه أنه قد لا يعلم امتناع الرؤية ولا يضر ذلك في نبوته مع العلم بالوحدانية لأن المقصود من وجوب معرفته عندنا هو التوصل إلى العلم بحكمته
وأنه لا يفعل قبيحا والغرض من البعثة هو الدعوة إلى أنه تعالى واحدا
وأنه كلف عباده بأوامر ونواه تعريضا لهم إلى النعيم المقيم
وذلك لا يتوقف على العلم باستحالة رؤيته
وأما من جعل الوجوب شرعيا فعنده يجوز أن لا تكون شريعة موسى آمرة بمعرفة أنه تعالى يستحيل رؤيته أو يعلم موسى امتناع الرؤية
والسؤال بطلبها صغيرة لا تمتنع على الأنبياء (3/179)
والجواب إلتزام أن النبي المصطفى المختار بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يجوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة ودون من حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء والطريقة العوجاء التي لا يسلكها واحد من العقلاء
واحتجاجنا بلزوم العبث على تقدير العلم بالاستحالة وهو ما تنزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى بطلب ما لا يجوز عليه ويشعر بالتجسم على رأيكم لا يعد من الصغائر بل من الكبائر التي يمتنع صدورها عنهم وعلى تقدير كون السؤال من الصغائر نقول في جوازها من الأنبياء ما سيأتي من المنع والتفصيل
وأما على الوجه الثاني أي الاعتراض عليه فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حال حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه أي وجود الرؤية عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية لحصول الشرط الذي هو الاستقرار
وهو باطل فإذن قد تعين أنه علقه عليه حال حركته
ولا خفاء في أن الاستقرار حال الحركة محال فيكون تعليق الرؤية عليها تعليقا بالمحال
فلا يدل على إمكان المعلق بل على استحالته
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال السكون أو الحركة
وإلا لزم الإضمار في الكلام وأنه أي استقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا
إذ لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته أي في زمانها ليس بمحال
إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه إنما المحال هو الاستقرار مع الحركة أي كونهما مجتمعين لا وقوع شيء منهما في وقت آخر بدل صاحبه
الثاني من الوجهين أنه لم يقصد من التعليق المذكور بيان إمكان (3/180)
الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار سواء كان ممكنا أو ممتنعا
فلا يلزم إمكان المعلق
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا والحال ههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون هو أيضا ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
وإيراد الشرط والمشروط لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه
لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك
هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح
تذنيب كل ما سنتلوه عليك في المقام الثاني مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها وصحتها بلا شبهة فلا نطول بذكرها في هذا الكتاب كما فعله جمع من الأصحاب
والله الموفق للصواب
المسلك الثاني من مسلكي صحة الرؤية هو العقل
والعمدة في المسلك العقلي مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر أيضا
وذلك لأنا نرى الطول والعرض في الجسم
ولهذا نميز (3/181)
الطويل من العريض
ونميز الطويل من الأطول
وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم لما تقرر من أنه مركب من الجواهر الفردة
فالطول مثلا إن قام بجزء واحد منها فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر فيقبل القسمة
هذا خلف
وإن قام بأكثر من جزء واحد لزم قيام العرض الواحد بمحلين
وهو محال
فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركب منها الجسم فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة مختصة بحال وجودهما
وذلك لتحققها عند الوجود كما عرفت وانتفائها عند العدم فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرتبة بالضرورة والاتفاق ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح لأن نسبة الصحة على تقدير استغنائها عن العلة إلى طرفي الوجود والعدم على سواء وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بالعلل المختلفة وهي الأمور المختصة إما بالجواهر وإما بالأعراض
وهو غير جائز لما مر في مباحث العلل ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث
إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة بتوهم كونها مصححة سوى هذين لكن الحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم
ولا ما هو مركب منه
وإذا أسقط (3/182)
العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذن هي أي العلة المشتركة الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم من اشتراك الوجود بين الموجودات كلها
فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا الدليل يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ الأشعري يلتزمه
ويقول لا يلزم من صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بذلك أي بعدم رؤيتها
فإنه تعالى أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها
والخصم يشدد عليه النكير أي الإنكار
ويقول هذه مكابرة محضة وخروج عن حيز العقل بالكلية ونحن نقول ما هو أي إنكاره إلا استبعاد ناشىء عما هو معتاد في الرؤية
والحقائق أي الأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات
ولا شبهة في أن الرؤية بالمعنى الذي حققناه فيما سلف ليست ممتنعة في سائر المحسوسات
ثم الاعتراض عليه بعد النقض المذكور من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر معا بل المرئي هو الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض وهما جوهران
قلنا الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار
فإنه عرض قائم بالجسم
والجواب إنا قد أبطلنا ذلك أي كونهما مقدارا قائما بالجسم بما فيه كفاية فإن وجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولى والصورة
وقد مر بطلانه بما لا حاجة إلى إعادته
ونزيد ههنا لإبطال وجود المقدار العرضي أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء (3/183)
إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء
فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها
وأيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها
وإلا لقام المقدار الواحد بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة
وهو ضروري البطلان
وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها
وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه
فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرأيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة
وهو المطلوب
الثاني من وجوه الاعتراض لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان والعدمي لا حاجة به إلى علة
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه
أي في باب الإمكان من الأدلة الدالة على كونه وجوديا والجواب تحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية كما صرح به الآمدي ما يمكن أن يتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة
واحتياج الصحة سواء كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري
ونعلم أيضا بالضرورة أنه أي متعلق الرؤية أمر موجود لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا
الثالث من تلك الوجوه لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بالشخص
وهو ظاهر
بل نقول صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس إذ يستحيل أن يرى الجسم عرضا أو العرض (3/184)
جسما
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر في مباحث العلل والمعلولات
فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية واحد منهما أي من الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها أي جوهر أو عرض هي
وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته
ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقوله الفلاسفة حيث يزعمون أن المرئي بالذات هو الألوان والأضواء
وأما الأجسام فهي مرئية بالعرض والتبعية بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر هي أعضاؤه وإلى أعراض تقوم بها أي بتلك الجواهر
وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها أي من تلك الجواهر والأعراض لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها
إذ كنا أي زمان كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها
أعني خصوصية هوية زيد مثلا لما كان الحال كذلك لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها
فلا تكون مجهولة لنا
فقد تحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى
فتصح رؤيته
الرابع من وجوه الاعتراض لا نسلم أن المشترك بينهما أي الجوهر والعرض ليس إلا الوجود والحدوث
فإن الإمكان أيضا مشترك بينهما وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو (3/185)
ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم والإمكان ليس كذلك لشموله الموجود والمعدوم
وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما
فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية لأن متعلقها يجب أن يكون معلوما لكونه مدركا بالبصر والذي نعلمه فيهما
أي في الجوهر والعرض الموجودين خصوصية كل منهما
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق لتعلقها إلا المشترك بينهما
وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز كل منهما عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وقد أبطلناه أيضا
وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود وبذلك يتم المطلوب
الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك أي عدميا
والجواب ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا ما يؤثر فيها ولا شك في أنه لا يصلح العدم لذلك أي لكونه متعلق الرؤية
فإن قيل ليس الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا
قلنا وذلك أي كون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه مدركا محسوسا
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته
وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث
وحقيقة (3/186)
الفرس مثل حقيقة الإنسان بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها
وذلك مما لا يقول به عاقل
فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا كما علم في صدر الكتاب
وقد أجاب الآمدي عن هذا السؤال بأن المتمسك بهذا الدليل إن كان ممن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأصحاب لم يرد عليه ما ذكرتموه
وإن كان ممن لا يعتقده كالشيخ فهو بطريق الإلزام
ولا يجب كون الملزوم معتقدا لما تمسك به
ولما لم يكن هذا مرضيا عند المصنف قال والجواب أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية لما عرفت من أن الوجود الخارجي ليس إلا كون الماهية ممتازة بحسب الهوية الشخصية وذلك أي كون الشيء ذا هوية يمتاز بها أمر مشترك بين الموجودات بأسرها بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما وألزمتم الاشتراك فيه على تقدير اشتراك الموجود على مذهبنا فشيات الأشياء أي خصوصياتها التي يمتاز بها بعضها عن بعض وهي هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به
فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم
وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح
فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ على ما مر في الأمور العامة إنما هو باعتبار ما صدقا عليه
وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الوجود
فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها
والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات
إذ يلزم منهما معا (3/187)
كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة
وهو باطل
فلذلك قال واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا الذي حققناه لك هو غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق اللامعة من الأفكار وعدم الركون إلى أول عارض يظهر ببادىء الرأي كما ركن إليه من حكم بأن كلام الشيخ في مباحث الرؤية حيث ادعى اشتراك الوجود ينافي ما تقدم حيث قال وجود كل شيء عينه ولله العون والمنة في إدراك الحقائق والاهتداء إلى الدقائق
السابع من الاعتراضات لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه كما في الحوادث لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك وهو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
وأن متعلقها هو الوجود مطلقا
أعني كون الشيء ذا هوية ما لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته
وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع
ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى
لكن لا يلتبس على الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري كمفهوم الماهية والحقيقية فلا تتعلق بها الرؤية أصلا
وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة
إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن (3/188)
به على تفصيلها
فإن مراتب الإجمالي متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة
فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال
ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا
وفي هذا الترويج تكلفات اخر يطلعك عليها أدنى تأمل
فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية وقد مر عمدتها
المقام الثاني في وقوع الرؤية
أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة أي في الدار الآخرة
قال الإمام الرازي مستدلا على وقوع الرؤية
الأمة في هذه المسألة على قولين فقط
الأول يصح ويرى
والثاني لا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا مع القول بالصحة أنه لا يرى
لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع على عدم الافتراق بين الصحة والوقوع في النفي والإثبات
بل كلاهما مثبتان معا أو منفيان معا
وهو أي هذا الاستدلال غير صحيح كما ذكره الآمدي لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه كما إذا ذهب بعض المجمعين إلى السالبة الكلية وآخرون إلى السالبة الجزئية (3/189)
فأحدث القول بالموجبة الكلية أو نفى ما أثبته كما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وبعضهم إلى الجزئية
فأحدث القول بالسالبة الكلية
وأما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وآخرون إلى السالبة الكلية
فإحداث القول بالموجبة الجزئية والسالبة الجزئية معا ليس خارقا للإجماع
إذ ليس بين القولين قدر مشترك
بل هو تفصيل وموافقة لطائفة في إحدى المسألتين
والأخرى في أخرى كما فيما نحن بصدده
وإليه أشار بقوله وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع
وشيء منهما لا يخالف الإجماع ولا يخرقه بل كل واحد من قولي التفصيل مما قال به طائفة من طائفتي المجمعين وإن كان خارقا لما قال به الطائفة الأخرى وذلك الذي ذكرناه في مسألتنا هذه كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما معا كالحنفية وناف لهما معا كالشافعية والتفصيل بينهما مما لم يقل به أحد من الأمة
ولكن لو قيل به لا يكون خارقا للإجماع بل موافقة للمثبت في مسألة
وللنافي في مسألة أخرى ولا يكون هذا التفصيل ممنوعا عنه بل يكون جائزا بالإجماع فهذا المسلك في إثبات الوقوع مردود
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
وجه الاحتجاج بالآية الكريمة إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى انظرونا نقتبس من نوركم أي انتظرونا
وقال ما ينظرون إلا صيحة واحدة (3/190)
أي ما ينتظرون
ومنه قوله تعالى فناظرة بم يرجع المرسلون
أي منتظرة
وقول الشاعر
وإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب أي لمنتظره
وجاء بمعنى التفكر والاعتبار ويستعمل حينئذ بفي
يقال نظرت في الأمر الفلاني أي تفكرت واعتبرت وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ويستعمل حينئذ باللام
يقال نظر الأمير لفلان أي رأف به وتعطف وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
نظرت إلى من أحسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق يقضي والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول لا نسلم أن لفظ إلى صلة للنظر بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
أبيض لا يرهب النزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلى أي نعمة
ويقرب منه ما قد قيل إن إلى بمعنى عند كما في قوله
فهل لكم فيما إلي فإنني ... طبيب بما أعيى النطاسي حذيما (3/191)
أي فيما عندي ومعنى الآية حينئذ عند ربها منتظرة نعمته
والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة مع أن الآية وردت مبشرة للمؤمنين بالإنعام والإكرام وحسن الحال وفراغ البال
وذلك في رؤيته تعالى فإنها أجل النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجه لا في الانتظار المؤدي إلى عبوسه
الثاني إن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر الظماء حيا الغمام ومن المعلوم أن العطاش ينتظرون مطر الغمام
فوجب حمل النظر المشبه على الانتظار ليصح التشبيه
وقال
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح أي منتظرات إتيانه بالنصر والفلاح
وقال
كل الخلائق ينظرون سجاله ... نظر الحجيج إلى طلوع هلال أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجاج ظهور الهلال
والجواب لا نسلم أن النظر ههنا أي فيما ذكر من الأمثلة للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء يطلبونه ويشتاقون إليه ولا يمتنع حمل النظر المطلق عن الصلة كالمذكور في المشبه به على الرؤية بطريق الحذف والإيصال
إنما الممتنع حمل الموصول ب إلى على غيرها أي غير الرؤية كالانتظار (3/192)
وفي الثاني أي ناظرات إلى آثاره أي آثار الله من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها الله تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر
وذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا وجوه ناظرات يوم بكر
وأن قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذاب
والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة لأنهم بطن من بكر بن وائل
وأراد بالرحمن مسيلمة
وعلى هذا فالجواب ظاهر
وفي الثالث أي يرون سجاله
ويجوز النظر المجرد عن الصلة للرؤية كما مر آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا يصح حمله عليه في الآية إذ لا يصح بشارة لما مر من أن انتظار النعمة غم ووصولها سرور
الثالث من وجوه الاعتراض أن النظر مع إلى حقيقة لتقليب الحدقة لا للرؤية
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته ولو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا
ولم أزل انظر إلى الهلال حتى رأيته ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه
وانظر كيف ينظر فلان إلي
والرؤية لا ينظر إليها وإنما ينظر إلى تقليب الحدقة
وقال تعالى وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون فالنظر الموصول ب إلى محمول على تقليب الحدقة لما ذكرنا ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع
وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئي هذا كما ذكرناه (3/193)
وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية وهو ظاهر
فلا يكون النظر الموصول ب إلى حقيقة فيها
وإلا لزم الاشتراك ولا ملزومها لزوما عقليا حتى يجب من تحققه تحققها بل لزوما عاديا مصححا للتجوز ثم نقول إنه للرؤية مجاز
ولكنه مجاز لا يتعين كونه مرادا في الآية لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم أي ولأي شيء يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب أن النظر مع إلى حقيقة للرؤية بالنقل الذي مر ذكره فلا يكون حقيقة وما استشهدتم به على كونه حقيقة لتقليب الحدقة لا يجدي نفعا إذ قوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح نقله من العرب
بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال
وإن سلمناه قلنا ربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته أي إلى مطلع الهلال والبواقي من الأمثلة كلها مجازات أي النظر فيها وقع مجازا عن تقليب الحدقة من باب إطلاق اسم المسبب الذي هو الرؤية على سببها الذي هو التقليب وعلى تقدير كون النظر حقيقة في التقليب الذي ليس بمراد يجب حمله في الآية على الرؤية مجازا لرجحانه على الإضمار الذي يحتمل وجوها كثيرة وإليه الإشارة بقوله مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمة الله وجهة الله وآثار الله ولا قرينة ههنا معينة لبعضها فالتعيين تحكم لا يجوز لغة فوجب المصير إلى المجاز المتعين ثم نقول أيضا تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة بل فيه نوع عقوبة فلا يكون مرادا في الآية وتقليب الحدقة مع الرؤية يكفيه التجوز وحده فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا عاديا للرؤية وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور فلنحمل الآية على التجوز عن الرؤية بلا إضمار شيء
وهو المطلوب
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه (3/194)
الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة جدا
وحينئذ لا تصلح هذه الظواهر للتعويل عليها في المسائل العلمية التي يطلب فيها اليقين
المسلك الثاني في إثبات الوقوع قوله تعالى في الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم
فلزم منه كون المؤمنين مبرأين عنه فوجب أن لا يكونوا محجوبين عنه بل رائين له
وهذا المسلك أيضا من الظواهر المفيدة للظن
والمعتمد فيه أي في إثبات الوقوع
بل وفي صحته أيضا إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية المستلزم لصحتها وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر المتبادر منهما
ومثل هذا الإجمال مفيد لليقين
المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم تلك الشبه إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع وهي أن يقال لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن
والتالي باطل بطلانا ظاهرا
وأما بيان الشرطية فهو أنه لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه أي جواز الرؤية حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته فلا يتصور انفكاكه عنه في شيء من الأزمنة فجازت رؤيته الآن قطعا
ولو جازت رؤيته الآن لزم أن نراه الآن لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية في ذلك الزمان وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ونحن لا نراها
وأنه سفسطة رافعة للثقة عن القطعيات وشرائط الرؤية ثمانية أمور
الأول سلامة الحاسة ولذلك تختلف مراتب الإبصار بحسب اختلاف سلامة الإبصار
وتنتفي بانتفائها (3/195)
والثاني كون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة بأن تكون الحاسة متلفتة إليه
ولم يعرض هناك ما يضاد الإدراك كالنوم والغفلة والتوجه إلى شيء آخر
والثالث مقابلته للباصرة في جهة من الجهات أو كونه في حكم المقابلة كما في المرئي بالمرآة
والرابع عدم غاية الصغر فإن الصغير جدا لا يدركه البصر قطعا
والخامس عدم غاية اللطافة بأن يكون كثيفا
أي ذا لون في الجملة وإن كان ضعيفا
والسادس عدم غاية البعد وهو مختلف بحسب قوة الباصرة وضعفها
والسابع عدم غاية القرب
فإن المبصر إذا التصق بسطح البصر
بطل إدراكه بالكلية
والثامن عدم الحجاب الحائل وهو الجسم الملون المتوسط بينهما
وهناك شرط تاسع هو أن يكون مضيئا بذاته أو بغيره
ولم يذكره ههنا لكونه مذكورا في بحث الكيفيات المبصرة مع أنه يمكن إدراجه في حضوره للحاسة المعتبرة في الشرط الثاني
ثم لا نعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون الست البواقي منها مختصة بالأجسام
وهما أي الشرطان المعقولان في رؤيته حاصلان الآن فوجب حصول رؤيته
والجواب عن هذه الشبهة
أما أولا فهو أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية وذلك لأن دليلكم وإن دل عليه لكن عندنا ما ينفيه لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض (3/196)
أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط فظهر أنه لا تجب الرؤية عند اجتماعها
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي ويخرج منها أي من العين إلى وسطه خط قائم عليه أي على سطحه يقسم ذلك الخط المثلث المذكور إلى مثلثين قائمي الزاوية الواقعة على جنبتي الخط القائم فيكون الخط الوسط وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة في المثلث أطول من وتر الحادة
فلم تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد بالنسبة إلى الرائي بل يكون وسط المرئي أقرب إليه من طرفيه
فجاز أن يرى الوسط وحده بدون الطرفين لأنا نقول نفرض هذا التفاوت الذي ذكرتموه في هذه الخطوط ذراعا
فلو كان عدم رؤية الطرفين لأجل البعد
فإذا فرض أنه بعد المرئي يقدر ذلك البعد الذي لطرفيه وجب أن لا يرى أصلا
وإذا يرى
فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية فتكون الأجزاء كلها مع ذلك التفاوت متساوية في حصول شرائط الرؤية وبعضها غير مرئي فلا تجب الرؤية مع حصولها
قال بعض الفضلاء أي صاحب اللباب معترضا على هذه المعارضة لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت رؤيته صغيرا وكبيرا بحسب رؤية الأجزاء وعدمها
وهو ممنوع
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها فإن القائلين بالانطباع ذهبوا إلى أن صورة المرئي (3/197)
إنما ترتسم من الرطوبة الجليدية في زاوية رأس مخروط متوهم قاعدته عند المرئي
وأن اختلافه بالصغر والكبر في الرؤية إنما هو بحسب ضيق تلك الزاوية وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد في الغاية صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة
قال المصنف وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا
وذلك لأن الرؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤيته أي رؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب أن لا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك
وهو باطل قطعا ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح
فوجب أن يرى الكل على حاله فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر
فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض
فتمت معارضتنا لدليلهم على وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها ثم نقول قوله إن لم يجد حصول الرؤية عند اجتماعها يلزم تجويز جبال شاهقة بحضرتنا لا نراها وهو سفسطة
قلنا هذا معارض أي منقوض بجملة العاديات فإن الأمور العادية تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها
ولا سفسطة ههنا
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها
فإنا نجوز وجودها ونجزم بعدمها
وذلك لأن الجواز لا يستلزم الوقوع ولا ينافي الجزم بعدمه فمجرد تجويزها لا يكون سفسطة
ثم نقول إن كان مأخذ الجزم بعدم الجبل المذكور ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب أن لا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من (3/198)
لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا
وأما ثانيا فهو أنا سلمنا الوجوب أي وجوب الرؤية في الشاهد عند حصول تلك الشرائط ولكنا نقول لم يجب أي لماذا يجب وجوب الرؤية في الغائب عند حصولها إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم والشرائط كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
وحينئذ جاز أن تجب رؤية الشاهد عند اجتماعها دون رؤية الغائب
الثانية من تلك الشبه شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية كما علم بالضرورة من التجربة المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها أي المقابلة مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط إما مطلقا كما مر من أن الأشاعرة جوزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه بل جوزوا رؤية أعمى الصين بقة أندلس
أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين في الحقيقة فجاز أن لا يشترط في رؤيته المقابلة المشروطة في رؤية الشاهد
وتحقيقه على ما في اللباب أن المراد من الرؤية انكشاف نسبته إلى ذاته المخصوصة كنسبة الانكشاف المسمى بالإبصار إلى سائر المبصرات
والانكشاف على وفق المكشوف في الاختصاص بجهة وحيز وفي عدمه
الثالثة منها شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال إذ لا يتصور له صورة تنطبع في حاسة
والجواب مثل ما مر وهو أن نمنع كون الرؤية بالانطباع إما مطلقا أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين
وأما الشبه السمعية فأربع لا ست كما وقع في بعض النسخ
الأولى قوله تعالى لا تدركه الأبصار والإدراك المضاف إلى (3/199)