المهَذَّبُ
في ثَمَراتِ الإيمانِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ 2009 م
ماليزيا
((بهانج - دار المعمور ))
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الإيمان الصحيح ، يتمخََّضُ عنه ثمرات عديدة في الدنيا قبل الآخرة ، قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام.
وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (277) سورة البقرة
إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا الأعمال الطيبة، وأدَّوا الصلاة كما أمر الله ورسوله، وأخرجوا زكاة أموالهم، لهم ثواب عظيم خاص بهم عند ربهم ورازقهم، ولا يلحقهم خوف في آخرتهم، ولا حزن على ما فاتهم من حظوظ دنياهم. (1)
وقد كتب عنها الكثير في ثنايا كتب العقيدة،وقد ذكرت كثيرا منها في كتابي (( الواضح في أركان الإيمان )) .
ولأهميتها البالغة فقد أفردتها بهذا الكتاب مع زيادات كثيرة ليست في كتابي ، التقطتها من هنا وهناك .
وقسمتها على الشكل التالي :
الباب الأول=ثمرات الإيمان العامة ،وهي ستة وثلاثون ...
الباب الثاني=ثمرات أركان الإيمان
المبحث الأول-ثمراتُ الإيمان بالله تعالى، وعددها اثنتان وثلاثون..
المبحث الثاني-ثمرات الإيمان بالملائكة ، وعددها اثنتا عشرة
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 290)(1/1)
المبحث الثالث-ثمرات الإيمان بالكتب السماوية، وعددها خمس
المبحث الرابع-ثمرات الإيمان بالرسل، وعددها تسع
المبحث الخامس-ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وعددها اثنتا عشرة
المبحث السادس-ثمرات الإيمان باليوم الآخر
المطلب الأول-الثمرات عامة للإيمان باليوم الآخر، وعددها سبعة
المطلب الثاني-الثمرات الخاصة للإيمان باليوم الآخر ، وعددها إحدى وثلاثون ثمرة .
والباب مفتوح للزيادة عليها لمن كان أهلاً لذلك .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف : 10 - 13]} .
نسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها والدال عليها في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
9 رمضان1430 هـ الموافق ل 30 /8/2009 م
- - - - - - - - - - - - -(1/2)
الباب الأول
ثمرات الإيمان العامة
إن منْ حكمة الله الربانيةِ أن جعل قلوبَ عباده المؤمنين تحسُّ وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته والتوكلِ عليه سبحانه وتعالى.فإنَّ شجرة الإيمانِ إذا ثبتتْ وقويتْ أصولها وتفرعت فروعُها،وزهتْ أغصانُها،وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره بكلِّ خيرٍ عاجلٍ وآجل في الدنيا والآخرة.وثمارُ الإيمان وثمراته ِوفوائدهِ كثيرةٌ قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابهِ الكريم.
فمن أعظم هذه الفوائدَ والثمارِ:
أولاً :الاغتباطُ بولاية الله الخاصة ِالتي هي أعظمُ ما تنافس فيه المتنافسون،وتسابق فيه المتسابقون،وأعظم ُما حصل عليه المؤمنون :
قال تعالى:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس/62-64].
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ،وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ،وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ،لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ،وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا.وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ):بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ،وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ،وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ،فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ،لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ،وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ،وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ،وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ،وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ.وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ(1/3)
)،وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ،بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ.وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ . (1)
فكلُّ مؤمن تقي،فهو لله وليٌّ ولايةً خاصةً،من ثمراتها ما قاله الله عنه:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة
فاللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَهُ،فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ والشَّكِّ وَالرَّيبِ إلى نُورِ الحَقِّ الوَاضِحِ.وَالمُؤْمِنُ لاَ وَليَّ لَهُ،وَلاَ سُلْطَانَ لأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى.أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ،يُزَيِّنُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالجَهَالَةِ،وَيُخْرِجَهُمْ عَنْ طُرِيقِ الحَقِّ وَنُورِهِ،إِلى الكُفْرِ وَظُلُمَاتِهِ،وَيُؤدِّي بِهِمْ إلى نَارِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أَبدَاً.وَالنُّورُ هُوَ الحَقُّ،وَالحَقُّ وَاحِدٌ،أمَّا الظُّلُمَاتُ وَهِيَ الكُفْرُ فَهِيَ أجْنَاسٌ . (2)
وإنما حازوا هذا العطاءَ الجزيلَ:بإيمانهمُ الصحيحِ،وتحقيقهِم هذا الإيمان بالتقوى،فإنَّ التقوى من تمامِ الإيمان.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ : كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " رواهُ البخاريُّ (3)
ثانياً :الفوزُ برضى اللهِ ودارِ كرامته:
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1427)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 264)
(3) - صحيح البخارى ( 6502 ) وشرح السنة للبغوي (1214) والسنن الكبرى للبيهقي 3/346 و10/219 (21508 ) والإتحاف للزبيدي 10/403 والصحيحة (1640) وشرح السنة 5/19 والفتح 11/340و341 والتلخيص الحبير 3/117 والأسماء والصفات 491 وصحيح الجامع ( 1782) والإحسان ( 347) وهـ ( 3989)(1/4)
قال تعالى:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) }[التوبة/71،72]
فالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ،وَمَوَدَّةٌ،وَتَعَاوُنٌ،وَتَرَاحُمٌ،وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ:فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ،وَيَأْمُرُونَ بِهِ،وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا،وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ،وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ،يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ،فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ،وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ،يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً،فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ،وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ،وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ،وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ . (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ:يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ،فَيَقُولُونَ:لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكِ،فَيَقُولُ:هَلْ رَضِيتُمْ؟فَيَقُولُونَ:مَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ،فَيَقُولُ:أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،فَيَقُولُونَ:يَا رَبِّ،وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟فَيَقُولُ:أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ بَعْدَهُ أَبَدًا. (2)
ثالثا:أن الله يدفعُ عن المؤمنينَ جميع المكارهِ،وينجّيهِم من الشدائدَ:
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1307)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7518 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7318 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 470) (7440)(1/5)
كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) سورة الحج
هذا إخبار ووعد وبشارة من الله،للذين آمنوا،أن الله يدافع عنهم كل مكروه،ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار،وشر وسوسة الشيطان،وشرور أنفسهم،وسيئات أعمالهم،ويحمل عنهم عند نزول المكاره،ما لا يتحملون،فيخفف عنهم غاية التخفيف.كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه،فمستقل ومستكثر. (1)
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم.ومن يدافع اللّه عنه فهو ممنوع حتما من عدوه،ظاهر حتما على عدوه ..ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح،والجهد والمشقة،والتضحية والآلام ...والعاقبة معروفة،واللّه قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة،ولا تضحية ولا ألم،ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة اللّه في هذا هي العليا،وأن للّه الحجة البالغة ..والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن اللّه سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من «التنابلة» الكسالى،الذين يجلسون في استرخاء،ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء،لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى اللّه بالدعاء،كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء! نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة،وأن يرتلوا القرآن،وأن يتوجهوا إلى اللّه بالدعاء في السراء والضراء.
ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة اللّه وحمايتها إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة.
والذخيرة التي يدخرونها للموقعة،والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال باللّه.
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 539)(1/6)
لقد شاء اللّه تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة.فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر وهي تدفع وتدافع،وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة ..عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة ولتؤتي أقصى ما تملكه،وتبذل آخر ما تنطوي عليه وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال.
والأمة التي تقوم على دعوة اللّه في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها،واحتشاد كل قواها،وتوفز كل استعدادها،وتجمع كل طاقاتها،كي يتم نموها،ويكمل نضجها،وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء،والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين،يعطل تلك الطاقات عن الظهور،لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه.أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة.وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه.فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة،والكر والفر،والقوة والضعف والتقدم والتقهقر.ومن المشاعر المصاحبة لها ..من الأمل والألم.ومن الفرح والغم،ومن الاطمئنان والقلق.ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة ..ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة،وتدبير الأمور في جميع الحالات ..وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس.
من أجل هذا كله،ومن أجل غيره مما يعلمه اللّه ..جعل اللّه دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء . (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2425)(1/7)
ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس - عليه السلام - وأنه (...فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:من الآية87] قال:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].إذا وقعوا في الشدائد،كما نجّينا يونس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :« دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ » (1) .
وقال تعالى:(...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)[الطلاق:من الآية4].
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمنينَ أَنَّهُ مَنِ اتَّقَى مِنْهُمُ اللهَ بِمُراعاةِ ما فُرِضَ عَليهِ في أَمْرِ المُطلَّقَاتِ والمُعْتَدَّاتِ،جَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ مِنَ الغَمِّ،وَيُفَرِّجُ عَنْهُ ما يَعْتَرِيهِ مِنَ الهَمِّ والكَرْبِ .وَمَنِ اتَّقَى اللهَ جَعَلَ اللهُ لَهُ منْ أَمْرِهِ مَخْرَجاً وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ،وَلاَ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بالٍ،وَمَنْ يَكل أَمْرَهُ إِلَى اللهِ،وَيُفوّضْهُ إِلَيهِ كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ،وَاللهُ مُنْفِذُ أَمْرِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيءٍ مِقْدَاراً وَوَقْتاً،فَلاَ تَحْزَنْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُ إِذَا فَاتَكَ شَيءٌ مِمّا كُنْتَ تَرْجُو وَتُؤمَلُ،فَالأُمُورُ مُقَدَّرَةٌ بِمَقَادِيرَ خَاصَّةٍ،{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } . (2)
وقال تعالى:{ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} سورة يونس
فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلاَّ أَنْ يَنَالَهُمْ مِنَ الأَيَّامِ الشِّدَادِ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَسْلاَفَهُمُ المَاضِينَ،الذِينَ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ،وَالتَّكْذِيبِ لِرُسُلِهِمْ،فَقُلْ لَهُمْ:إِنْ كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا،فَإِنِّي أَنْتَظِرُ أَنْ يُهْلِكَكُمُ اللهُ بِالعُقُوبَةِ لأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُرْسَلِينَ .
__________
(1) - سنن الترمذى (3845 ) صحيح = النون : الحوت
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5097)(1/8)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا،وَنُهْلِكَ المُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ.وَإِنْجَاءُ الرُّسُلِ وَالمُؤْمِنِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهَلاَكِ،الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ بِالكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ،حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ،وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ (1) .
وقال تعالى:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) } سورة الصافات
وَلَقَدْ سَبَقَ وَعْدُ اللهِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ أَنَّ العَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم المُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .وَأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَزِّرُهُمْ وَيُذِلُّ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ اللهِ،وَإِنَّ جُنْدَ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا،سَتَكُونَ لَهُمْ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي الحَرْبِ (2) .
والوعد واقع وكلمة اللّه قائمة.ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض وقام بناء الإيمان،على الرغم من جميع العوائق،وعلى الرغم من تكذيب المكذبين،وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين.ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار.وذهبت سطوتهم ودولتهم وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل.تسيطر على قلوب الناس وعقولهم،وتكيف تصوراتهم وأفهامهم.وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض.وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل،وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل.باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها.وحقت كلمة اللّه لعباده المرسلين.إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون.
هذه بصفة عامة.وهي ظاهرة ملحوظة.في جميع بقاع الأرض.في جميع العصور.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة للّه،يخلص فيها الجند،ويتجرد لها الدعاة.إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق،وقامت في طريقها العراقيل.ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار،وقوى الدعاية والافتراء،وقوى الحرب والمقاومة،وإن هي إلا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1467)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3838)(1/9)
معارك تختلف نتائجها.ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده اللّه لرسله.والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه.الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
هذا الوعد سنة من سنن اللّه الكونية.سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء ..
ولكنها مرهونة بتقدير اللّه،يحققها حين يشاء.ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة.
ولكنها لا تخلف أبدا ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة،ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين! ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند اللّه وأتباع رسله.ويريد اللّه صورة أخرى أكمل وأبقى.فيكون ما يريده اللّه.ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون ..ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد اللّه أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة.وكان ما أراده اللّه هو الخير لهم وللإسلام.وكان هو النصر الذي أراده اللّه لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام.
ولقد يهزم جنود اللّه في معركة من المعارك،وتدور عليهم الدائرة،ويقسو عليهم الابتلاء لأن اللّه يعدهم للنصر في معركة أكبر.ولأن اللّه يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع،وفي خط أطول،وفي أثر أدوم.
لقد سبقت كلمة اللّه،ومضت إرادته بوعده،وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد (1)
رابعاً:أن الإيمان والعمل الصالح - الذي هو فرعه - يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار،وفى دار القرار:
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3001)(1/10)
قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل
مَنْ عَمِلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَقَامَ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ،وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ،مُصَدِّقٌ كُتُبَهُ وَرُسُلَهُ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعِدُهُ بِأَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً،تَصْحَبُهَا القَنَاعَةُ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ،وَالرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ وَقَضَاهُ،إِذْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِتَدْبِيرِ اللهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ،وَاللهُ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ،لاَ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا فِيهِ المَصْلَحَةُ،وَفِي الآخِرَةِ يَجْزِيهِ اللهُ الجَزَءَ الأَوْفَى،وَيُثِيبَهُ أَحْسَنَ الثَّوَابِ،جَزَاءَ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ،وَمَا تَحَلَّى بِهِ مِنْ إِيمَاٍن (1) .
إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض.لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال.
فقد تكون به،وقد لا يكون معها.وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية:
فيها الاتصال باللّه والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه.وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة،وسكن البيوت ومودات القلوب.وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة ..وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل،حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند اللّه.وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا،ويتضمن هذا تجاوز اللّه لهم عن السيئات.فما أكرمه من جزاء!. (2)
والحياة الطيّبة تشمل:الرِّزق الحلال الطيِّب،والقناعة،والسعادة،ولذَّة العبادة في الدنيا،والعمل بالطاعة والانشراح بها.
قال الإمام ابن كثير:"والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله" (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1998)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2193)
(3) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (4 / 601)(1/11)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلاَمِ،وَرُزِقَ الْكَفَافَ،وَقَنَعَ بِهِ. (1)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ الْجُمَحِيُّ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ،قَالَ:قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا،فَصَبَرَ عَلَيْهِ. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا،وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ،فَأَمَّا الْكَافِرُ،فَيَطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا،فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ،لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا. (3)
خامساً:إن جميعَ الأعمال ِوالأقوال إنما تصحُّ وتكملُ بحسب ما يقوم بقلبِ صاحبِها من الإيمانِ والإخلاص:
ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كلِّ عمل،مثل قوله:{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (94) سورة الأنبياء .
فمن التزم الإيمان بالله ورسله،وعمل ما يستطيع من صالح الأعمال طاعةً لله وعبادة له فلا يضيع الله عمله ولا يبطله،بل يضاعفه كله أضعافًا كثيرة،وسيجد ما عمله في كتابه يوم يُبْعث بعد موته. (4)
هذا هو قانون العمل والجزاء ..لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان ..وهو مكتوب عند اللّه لا يضيع منه شيء ولا يغيب.
ولا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته،بل ليثبت للعمل الصالح وجوده.ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته،بل لتثبت للإيمان حقيقته.
إن الإيمان هو قاعدة الحياة،لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود،والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد،وترده إلى الناموس الواحد الذي
__________
(1) - سنن ابن ماجة- ط- الرسالة - (5 / 251)(4138) صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2473) و صحيح ابن حبان - (2 / 444) (670)
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 101) (377) صحيح
(4) - التفسير الميسر - (6 / 10)(1/12)
ارتضاه،ولا بد من القاعدة ليقوم البناء.والعمل الصالح هو هذا البناء.فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير.والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر ..والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء.فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر.ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة،لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم.ولا موصول بناموس مطرد.وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود.وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح،لأنه وسيلة البناء في هذا الكون،ووسيلة الكمال الذي قدره اللّه لهذه الحياة.فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها،لا فلتة عابرة،ولا نزوة عارضة،ولا رمية بغير هدف،ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
والجزاء على العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا.فالقرى التي هلكت بعذاب الاستئصال ستعود كذلك حتما لتنال جزاءها الأخير،وعدم عودتها ممتنعة،فهي راجعة بكل تأكيد. (1)
وقال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ،وَرِضْوَانٍ مِنَ اللهِ،وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ،وَهُوَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِناً مُصَدِّقاً بِالثَّوَابِ وَالجَزَاءِ وَاليَوْمَ الآخِرِ،فَأُولئِكَ يَشْكُرُ اللهُ سَعْيَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ،وَهُوَ دُخُولُ الجَنَّةِ (2) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2397)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2049)(1/13)
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها،فيؤدي تكاليفها،وينهض بتبعاتها،ويقيم سعيه لها على الإيمان.وليس الإيمان بالتمني،ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة،إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية.ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك الإنسان نفسه،فلا يكون عبدا لهذا المتاع.
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا،فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم،وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء.
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام.فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على اللّه،الذي خلقه فسواه،وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه. (1)
وأما إذا فقدَ العملُ الإيمانَ،فلو استغرق العاملُ ليلهُ ونهاره فإنه غير مقبول ٍ قال تعالى :(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان:23]
فهَؤُلاءِ المُجْرِمُونَ عَمِلُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا أَعْمَالاً ظَنُّوهَا حَسَنَةً مُفِيدَةً:كَصِلَةِ الأَرْحَامِ،وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ،والمَنِّ عَلَى الأًَسِيرِ..مِمَّا لَوْ كَانُوا عَملُوهُ مَعَ الإِيْمَانِ لَنَالُوا ثَوَابَهُ،فَعَمَدَ اللهُ تَعَالَى إٍِلى مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ هَذِهِ فًَجَلَهَا كَالهَبَاءِ المَنْثُورِ الذي لاَ يُفْيدُ ولا يَجْمَعُ (2) .
إنها أسستْ على غير الإيمان ِبالله ورسوله- الذي روحه:الإخلاصُ للمعبودِ،والمتابعةُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2218)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2760)(1/14)
قال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) } [الكهف/103-107]
قُلْ،أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ بِالبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ:هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ يَرْضَاهَا تَعَالَى،وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِيهَا،وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مَقْبُولٌ.وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْطِئُونَ وَاهِمُونَ،وَعَمَلُهُمْ مَرْدُودٌ .
يُفَسِّرُ اللهُ تَعَالَى هُنَا مَعْنَى ( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً )،وَيَدُلٌّ عَلَيْهِمْ،فَيَقُولُ:إِنَّهُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا أَعْمَالاً بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ،وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيءٍ مِنَ الهُدَى وَالصَّوَابِ،وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ وَمَحْبُوبُونَ،وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَسَنَةٌ يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى .
وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ،وَكَفَرُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا،وَكَفَرُوا بِحُجَجِ رَبِّهِمْ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلاَئِلِهِ التِي أَقَامَهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ،وَصِدْقِ رُسُلِهِ،وَكَذَّبُوا بِالآخِرَةِ وَالحِسَابِ،فَهَلَكَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبَطَلَتْ ( حَبِطَتْ )،فَلاَ تَزِنُ أَعْمَالُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شَيْئاً،وَلاَ يَكُونُ فِي كَفَّةِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَجِّحُهَا،لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ،وَالمَوَازِينُ لاَ تَرْجَحُ وَلاَ تَثْقُلُ إِلاَّ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ .وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ،العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،وَقَدْ جَازَاهُمُ اللهُ بِهَذا الجَزَاءِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ،وَاتِّخَاذِهِمْ،آيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَنُذُرِهِ هُزْواً،فَاسْتَهْزَؤُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ . (1)
فهم لما فقدوا الإيمانَ،وأحلوا محلَّه الكفرَ بالله وآياته - حبطتْ أعمالهُم قال تعالى:(...لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...)[الزمر:من الآية65] .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2243)(1/15)
ولهذا كانتِ الرِّدةُ عن الإيمانِ تحبطُ جميعَ الأعمالِ الصالحة،كما أنَّ الدخولَ في الإسلام والإيمانِ يجُبُّ ما قبله من السيئاتِ وإن عظُمتْ.التوبةُ من الذنوبِ المنافيةِ للإيمان،والقادحةِ فيه،والمنقصَةِ له - تجُبُّ ما قبلها.قال تعالى مبينا صفات عباده الصالحين :{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) [الفرقان/68-70] }
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ » (أخرجه ابن ماجة) (1) .
سادساً:أنَّ صاحبَ الإيمان يهديه اللهُ إلى الصراط المستقيم
ويهديه إلى علم الحقِّ،وإلى العمل به وإلى تلقي المحابَّ بالشكر،وتلقِّي المكارهَ والمصائبَ بالرضا والصبر:قال تعالى:({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9) سورة يونس .
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ،وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ،فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً،وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ،فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ،وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا . (2)
وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن .
مَا أَصَابَ أَحَداً شَيءٌ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا،إِلاَّ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ،فَالمَرْءُ يَعْمَلُ وَيَتَّخِذُ مِنَ الأَسْبَابِ مَا هُوَ في طَوقِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ،لَجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ،وَلَكِنَّ النَّتَائِجَ
__________
(1) - برقم(4391 ) وهو صحيح
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1374)(1/16)
بِيَدِ اللهِ وَوفْقَ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ،فَإِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَغْتَمَّ وَلاَ يَحْزَنَ،وَعَلَيهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّما كَانَ ذَلِكَ بإِرَادَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ.وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ وَآمَنَ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِقَضَاءِ اللهِ،وَقَدَرِهِ،فَصَبَرَ واحْتَسَبَ،عَوَّضَهُ اللهُ عَنْ إِصَابَتِهِ فِي الدُّنْيَا،هُدًى فِي قَلْبِهِ،وَيَقِينا صَادِقاً بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ،وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ،وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّهَا.فَالمُؤْمِنُ عَلَيهِ وَاجبَانِ:
- السَّعْيُ وَبَذْلُ الجُهْدِ واتِّخَاذُ الأَسْبَابِ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً .
- ثُمَّ التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ اليَقِينَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ هُوَ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلاَ يَغْتَمُّ وَلاَ يَحْزَنُ لِمَا يَقَعُ . (1)
وعَنْ صُهَيْبٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ،إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ،وَإِنَّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ،وَكَانَ خَيْرًا لَهُ،وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ. (2)
ولو لم يكنْ من ثمرات الإيمان،إلا أنهُ يسلِّي صاحبَه عن المصائبِ والمكارهِ التي تعترض كلَّ أحدٍ في كلِّ وقتٍ،ومصاحبةُ الإيمانِ واليقين أعظمُ مسلٍّ عنها،ومهونٍ لها وذلك:لقوةِ إيمانه وقوة توكله،ولقوة رجائهِ بثواب ربه،وطمعه في فضله؛ فحلاوةُ الأجر تخففُ مرارةَ الصبر قال تعالى:{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (104) سورة النساء
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة ..ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه ..إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء ..ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء ..إن المؤمنين يتوجهون إلى اللّه بجهادهم،ويرتقبون عنده جزاءهم ..فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون،لا يتجهون للّه،ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5088)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7692 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 155) (2896)(1/17)
فإذا أصر الكفار على المعركة،فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصرارا،وإذا احتمل الكفار آلامها،فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام.وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال،وتعقب آثارهم،حتى لا تبقى لهم قوة،وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
وإن هذا لهو فضل العقيدة في اللّه في كل كفاح.فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة،ويربو الألم على الاحتمال.ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد.هنالك يأتي المدد من هذا المعين،ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم.
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة.معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين.لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل.
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة ..ولكن القاعدة لا تتغير.
فالباطل لا يكون بعافية أبدا،حتى ولو كان غالبا! إنه يلاقي الآلام من داخله.من تناقضه الداخلي ومن صراع بعضه مع بعض.ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء.
وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار.وأن تعلم أنها إن كانت تألم،فإن عدوها كذلك يألم.
والألم أنواع.والقرح ألوان ..«وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» ..وهذا هو العزاء العميق.وهذا هو مفرق الطريق ..
«وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» ..يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب.ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح .. (1)
وقال تعالى:{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158) } سورة آل عمران
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 749)(1/18)
فَالَّذِينَ يُقْتَلُونَ وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ،وَنَصْرِ دِينِهِ،أَوْ يَمُوتُونَ فِي أَثْنَاءِ الجِهَادِ،سَيَجِدُونَ عِنْدَ رَبِهِمْ مَغْفِرَةً تَمْحُو مَا كَانَ مْنْ ذُنُوبِهِمْ،وَرَحْمَةً وَرِضْوَاناً خَيْراً مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الكُفَّارُ مِنَ المَالِ وَالمَتَاعِ فِي هَذِهِ الدُّنيا الفَانِيةِ،فَهَذَا ظِلٌّ زَائِلٌ،وَذَاكَ نَعِيمٌ خَالِدٌ .وَبِأيِّ سَبَبٍ كَانَ هَلاَكُكُمْ،فَإِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللهِ لِيَجْزِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَ،فَآثِرُوا مَا يُقَرِّبُكُمْ إلَى رَبِّكُمْ،وَيُحَقِّقُ لَكَ رِضَاهُ،فَعَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ (1) .
فالموت أو القتل في سبيل اللّه - بهذا القيد،وبهذا الاعتبار - خير من الحياة،وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار:من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع.خير بما يعقبه من مغفرة اللّه ورحمته،وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون.وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل اللّه المؤمنين ..إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية،ولا إلى اعتبارات بشرية.إنما يكلهم إلى ما عند اللّه،ويعلق قلوبهم برحمة اللّه.وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق،وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض ..
وكلهم مرجوعون إلى اللّه،محشورون إليه على كل حال.ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض،أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان.فما لهم مرجع سوى هذا المرجع وما لهم مصير سوى هذا المصير ..والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه،والاهتمام ..أما النهاية فواحدة:موت أو قتل في الموعد المحتوم،والأجل المقسوم.ورجعة إلى اللّه وحشر في يوم الجمع والحشر ..ومغفرة من اللّه ورحمة،أو غضب من اللّه وعذاب ..فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس.وهو ميت على كل حال! بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة،وحقيقة قدر اللّه.وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر وإلى ما وراء القدر من حكمة،وما وراء الابتلاء من جزاء .. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 450)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 499)(1/19)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّهُ قَالَ:مَا نَصَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي مَوْطِنٍ،كَمَا نَصَرَ يَوْمَ أُحُدٍ.قَالَ:فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ،فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:بَيْنِي وَبَيْنَ مَنِ انْكَرَ ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمِ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}،يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ:وَالْحَسُّ:الْقَتْلُ،{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ}،إِلَى قَوْلِهِ،{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}،وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاةَ،وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ،ثُمَّ قَالَ:احْمُوا ظُهُورَنَا،فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ،فَلا تَنْصُرُونَا،وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ،أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعًا،فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَرِ يَنْهَبُونَ،(1/287) وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَهُمْ كَذَا،وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ،وَالْتَبَسُوا،فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا،دَخَلَتِ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،وَالْتَبَسُوا،وَقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ،وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ،حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ،أَوْ تِسْعَةٌ،وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً نَحْوَ الْجَبَلِ،وَلَمْ يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُولُ النَّاسُ الْغَارَ،إِنَّمَا كَانُوا تَحْتَ الْمِهْرَاسِ،وَصَاحَ الشَّيْطَانُ:قُتِلَ مُحَمَّدٌ،فَلَمْ يُشَكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ،فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ،حَتَّى طَلَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ السَّعْدَيْنِ نَعْرِفُهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى،قَالَ:فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا،قَالَ:فَرَقِيَ نَحْوَنَا،وَهُوَ يَقُولُ:اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِهِ قَالَ:وَيَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى:اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمِ أنْ يَعْلُونَا حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا.فَمَكَثَ سَاعَةً،فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصِيحُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ:اعْلُ هُبَلُ،مَرَّتَيْنِ،يَعْنِي آلِهَتَهُ،أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ؟فَقَالَ عُمَرُ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَلاَ أُجِيبُهُ؟قَالَ:بَلَى فَلَمَّا قَالَ:اعْلُ هُبَلُ،قَالَ عُمَرُ:اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ.قَالَ:فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:يَا ابْنَ الْخَطَّابِ،إِنَّهُ قَدِ انْعَمَتْ عَيْنُهَا،فَعَادِ عَنْهَا،أَوْ فَعَالِ عَنْهَا،فَقَالَ:أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ؟فَقَالَ عُمَرُ:هَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ،وَهَا أَنَا ذَا عُمَرُ.قَالَ:فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ،الأَيَّامُ دُوَلٌ،وَإِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ.قَالَ:فَقَالَ عُمَرُ:لاَ سَوَاءً،قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ،وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ.قَالَ:إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ،لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وَخَسِرْنَا.ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ تَجِدُونَ فِي(1/20)
قَتْلاكُمْ مُثْلاً،وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا.قَالَ:ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ،قَالَ:فَقَالَ:أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَ ذَاكَ،وَلَمْ نَكْرَهْهُ." (1)
سابعاً :ومن ثمراتِ الإيمان ولوازمه حبُّ الله لهم :
قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96]
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب،وروح رضى يلمس النفوس.وهو ود يشيع في الملأ الأعلى،ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلىء به الكون كله ويفيض (2) ..
أي بسبب إيمانهم وأعمالِ الإيمان،يحبُّهم اللهُ ويجعلُ لهم المحبةَ في قلوب المؤمنينَ.ومَنْ أحبَّه اللهُ وأحبَّه المؤمنونَ من عبادهِ حصلتْ له السعادةُ والفلاحُ والفوائدُ الكثيرةُ من محبَّةِ المؤمنين من الثناءِ والدعاءِ له حياً وميتاً،والاقتداءِ به وحصولِ الإمامةِ في الدِّينِ .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ،قَالَ:فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ قَالَ:ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا،قَالَ:فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ،ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ،وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ،فَقَالَ:يَا جِبْرِيلُ،إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ،قَالَ:فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ،قَالَ:ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ:إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ،قَالَ:فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ،ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ.. (3)
وعَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:كُنَّا بِعَرَفَةَ,فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ،فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،فَقُلْتُ لِأَبِي:يَا أَبَهْ،إِنِّي لَأَرَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:وَمَا ذَاكَ؟قُلْتُ:لِمَا لَهُ مِنَ الْحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ،فَقَالَ:بِأَبِيكَ أَنْتَ يَا بُنَيَّ،سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا قَالَ:يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا،فَأَحِبُّوهُ،فَيُنَادِي جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّمَاوَاتِ:إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 741)(2609) صحيح
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2321)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6873) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 486)(9352) 9341-(1/21)
فُلَانًا،فَأَحِبُّوهُ،فَيُلْقَى حُبُّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحِبُّونَهُ،وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَالَ:يَا جِبْرِيلُ،إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ،فَيُوضَعُ لَهُ الْبُغْضُ فِي الْأَرْضِ " (1)
ثامناً:حصول الإمامة في الدين :
وهذه أيضاً من أجلِّ ثمرات الإيمان:أنْ يجعل َالله للمؤمنين الذين كمّلوا إيمانهم بالعلم والعمل - لسانَ صدقٍ - ويجعلُهم أئمةً يهتدونَ بأمرهِ كما قال تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) } [السجدة:23 - 24]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ آتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ ( الكِتَابَ )،لِتَكُونَ هُدىً وعِظَةً لِبني إِسْرائيلَ،كَمَا آتَى عَبْدَهُ مُحَمَّداً القُرآنَ،وأَمَرهُ بأَلاَّ يَكُونَ في شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ صِحَّةِ مَا آتاهُ اللهُ مِنَ الكِتَابِ،فَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِدْعاً في الرُّسُلِ،فَقَدْ آتى الله غَيْرَهُ مِنَ الأنبياءِ كُتُباً .
وَجَعَلَ اللهُ مِنْ بَني إِسْرَائيلَ أَئِمَّةً فِي الدُّنيا،يَهْدُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلى الخَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ،لأَنَّهُم صَبَروا عَلى طَاعَتِهِ،وَعَزَفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنيا وَشَهَواتِها،وَكَانُوا مُؤْمِنينَ بآياتِ اللهِ وَحُجَجِهِ،وَبِمَا اسْتَبَانَ لَهُمْ مِنَ الحَقِّ . (2)
وفيه إيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل،وتوقن كما أيقنوا،ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل.ولتقرير طريق الإمامة والقيادة،وهو الصبر واليقين. (3)
فبالصبرِ واليقينِ - اللذينِ هما رأسُ الإيمانِ وكمالُه - نالوا الإمامةَ في الدين (4) .
وقال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124) سورة البقرة
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (9 / 403) (3790 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6875 )
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3407)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2814)
(4) - موسوعة كتب ابن القيم - (ج 69 / ص 88)(1/22)
يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - اذكر ما كان من ابتلاء اللّه لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف،فأتمهن وفاء وقضاء ..وقد شهد اللّه لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى اللّه عنه فيستحق شهادته الجليلة:«وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» ..وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم.مقام الوفاء والتوفية بشهادة اللّه عز وجل.والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى.أو تلك الثقة:«قالَ:إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ..
إماما يتخذونه قدوة،ويقودهم إلى اللّه،ويقدمهم إلى الخير،ويكونون له تبعا،وتكون له فيهم قيادة.
عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر:الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد.ذلك الشعور الفطري العميق،الذي أودعه اللّه فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم،ويكمل اللاحق ما بدأه السابق،وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق ..ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى.وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث،تلبية لتلك الفطرة،وتنشيطا لها لتعمل،ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد.وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة.وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى.وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة.ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان،وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق،وفكرة عن تكوينها أدق،وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل،أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح: «قالَ:وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟» ..
وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه،يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا ..إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور،وبالصلاح والإيمان،وليست وراثة أصلاب وأنساب.فالقربى ليست وشيجة لحم ودم،إنما هي وشيجة دين وعقيدة.ودعوى القرابة(1/23)
والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية،التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح:«قالَ:لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..
والظلم أنواع وألوان:ظلم النفس بالشرك،وظلم الناس بالبغي ..والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة:إمامة الرسالة،وإمامة الخلافة،وإمامة الصلاة ..وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة.
فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها.ومن ظلم - أيّ لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في تنحية اليهود عن القيادة والإمامة،بما ظلموا،وبما فسقوا،وبما عتوا عن أمر اللّه،وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم ..
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم.بما ظلموا،وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق اللّه،وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم ..ودعواهم الإسلام،وهم ينحون شريعة اللّه ومنهجه عن الحياة،دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد اللّه.
إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل.ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا انبتّت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل ..وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته،بل يفصل بين الوالد والولد،والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة.فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر.ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة.والذين آمنوا من أهل الكتاب شي ء،والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر،ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة ..إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا ..إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة.وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين ..إنما هي مجموعة من(1/24)
المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم ..وهذا هو التصور الإيماني،الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني،في كتاب اللّه الكريم .. (1)
تاسعاً :رفعُ مكانتهِم في الدارين :
قال تعالى:{...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ..} (11) سورة المجادلة .
فهم أعلى الخلقِ درجةً عند الله وعندَ عبادهِ في الدنيا والآخرة،وإنما نالوا هذه الرفعةَ بإيمانهِم الصحيحِ وعملِهم ويقينهِم،والعلمُ واليقينُ من أصولِ الإيمانِ.
عاشراً :حصولُ البشارةِ بكرامةِ الله والأمنِ التامِّ منْ جميعِ الوجوهِ:
قال تعالى:(...وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(البقرة:من الآية223)
فأطلقها ليعمَّ الخيرُ العاجلُ والآجلُ،وقيّدَها في مثل قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (25) سورة البقرة
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ،وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ،أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا،وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ،كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ..وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا ( أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ،وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا ).وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا:هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً،وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً،لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها . (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 112)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 32)(1/25)
فلهم البشارةُ المطلقةُ والمقيَّدةُ،ولهمُ الأمنُ المطلقُ في مثل قوله تعالى:{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) [الأنعام]
وَكَيْفَ أَخَافُ أَنَا مِنْ هَذِهِ الأَصْنَامُ التِي تَعْبُدُونَهَا،وَهِيَ لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا،وَلاَ لِغَيْرِهَا نَفْعاً وَلاَ ضَراً،وَلاَ تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ فِي عِبَادِةِ اللهِ هَذِهِ الأَصْنَامِ،وَهُوَ القَادِرُ القَاهِرُ،وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ حُجَّةً وَلاَ بُرْهَاناً وَلاَ دَلِيلاً عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ هَذِهِ الأَصْنَامِ؟ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ التِي نَحْنُ فِيهَا:أَيْ الجَانِبَيْنِ - أَنَا وَأَنْتُمْ - أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ مُطْمَئِناً مَنْ عَبَدَ أَصْنَاماً حِجَارَةً لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ؟ هَذا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَتُقَدِّرُونَ الأُمُورَ .
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ مَنْ هُوَ الحَقِيقُ بِالأَمْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ:الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً،وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ ( يَلْبِسُوا ) بِظُلْمٍ،وَلاَ كُفْرٍ،وَلاَ شِرْكٍ بِاللهِ،فَهَؤُلاءِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ فِي العَذَابِ،وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ . (1)
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود.إنه إن كان أحد قمينا بالخوف فليس هو إبراهيم - وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد اللّه ويمضي في الطريق - وكيف يخاف آلهة عاجزة - كائنة ما كانت هذه الآلهة،والتي تتبدى أحيانا في صورة جبارين في الأرض بطاشين وهم أمام قدرة اللّه مهزولون مضعوفون! - كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة،ولا يخافون هم أنهم أشركوا باللّه ما لم يجعل له سلطانا ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك باللّه ما لا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن،لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟! هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى ويقضي اللّه بحكمه في هذه القضية:«الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ،أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» ..الذين آمنوا وأخلصوا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 871)(1/26)
أنفسهم للّه،لا يخلطون بهذا الإيمان شركا في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه.هؤلاء لهم الأمن،وهؤلاء هم المهتدون .. (1)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ قَالَ:فَانْتَهَى الرَّجُلُ إِلَيْنَا،فَسَلَّمَ،فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟قَالَ:مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي،قَالَ:فَأَيْنَ تُرِيدُ؟قَالَ:أُرِيدُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:فَقَدْ أَصَبْتَهُ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،عَلِّمْنِي مَا الإِِيمَانُ؟قَالَ:تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصُومُ رَمَضَانَ،وَتَحُجُّ الْبَيْتَ،قَالَ:قَدْ أَقْرَرْتُ.قَالَ:ثُمَّ إِنَّ بَعِيرَهُ دَخَلَتْ يَدُهُ فِي شَبَكَةِ جُرْذَانٍ،فَهَوَى بَعِيرُهُ وَهَوَى الرَّجُلُ،فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ،فَمَاتَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :عَلَيَّ بِالرَّجُلِ قَالَ:فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ فَأَقْعَدَاهُ فَقَالاَ:يَا رَسُولَ اللهِ،قُبِضَ الرَّجُلُ.قَالَ:فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ،فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ،فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ:ثُمَّ قَالَ:دُونَكُمْ أَخَاكُمْ قَالَ:فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ،فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ،وَكَفَّنَّاهُ وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ،قَالَ:فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ،قَالَ:فَقَالَ:أَلْحِدُوا وَلاَ تَشُقُّوا،فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا،وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا. (2)
ولهمُ الأمنُ المقيَّدُ في مثل قوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (48) سورة الأنعام.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1142)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 504) (19176) 19390- فيه لين(1/27)
إنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ لِيُبَشِّرُوا،مَنْ آمَنَ،بِالجَنَّةِ،وَحُسْنِ الثَّوَابِ،وَلِيُنْذِرُوا،مَنْ كَفَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ،بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ،فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ،فَهَؤُلاَءِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ،مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ،وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيا (1) .
فنفَى عنهمُ الخوفَ لما يستقبلونهُ،والحزنَ مما مضى عليهم،وبذلك يتمُّ لهم الأمنُ.
فالمؤمنُ له الأمنُ التامُّ في الدنيا والآخرة:أمِنَ منْ سخطِ اللهِ وعقابهِ،وأمنَ منْ جميعِ المكاره ِوالشرورِ.وله البشارةُ الكاملةُ بكلَّ خيرٍ،كما وقال تعالى:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس:62 - 64] }.
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله،ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.وصفات هؤلاء الأولياء،أنهم الذين صدَّقوا الله واتبعوا رسوله وما جاء به من عند الله،وكانوا يتقون الله بامتثال أوامره،واجتناب معاصيه.لهؤلاء الأولياء البشارة من الله في الحياة الدنيا بما يسرُّهم،وفي الآخرة بالجنة،لا يخلف الله وعده ولا يغيِّره،ذلك هو الفوز العظيم; لأنه اشتمل على النجاة مِن كل محذور،والظَّفَر بكل مطلوب محبوب. (2)
ويوضِّحُ هذه البشارةَ قولُه تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت/30-32]
إن الذين قالوا ربنا الله تعالى وحده لا شريك له،ثم استقاموا على شريعته،تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قائلين لهم:لا تخافوا من الموت وما بعده،ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من أمور الدنيا،وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها.وتقول لهم الملائكة:نحن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 838)
(2) - التفسير الميسر - (3 / 434)(1/28)
أنصاركم في الحياة الدنيا،نسددكم ونحفظكم بأمر الله،وكذلك نكون معكم في الآخرة،ولكم في الجنة كل ما تشتهيه أنفسكم مما تختارونه،وتَقَرُّ به أعينكم،ومهما طلبتم من شيء وجدتموه بين أيديكم ضيافة وإنعامًا لكم مِن غفور لذنوبكم،رحيم بكم. (1)
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (28) سورة الحديد
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ،مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى،عَلَى تَقْوى اللهِ،وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ،وَيَأْمُرُهُمْ بِالإِيْمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،وَيَعِدُهُمْ إِنْ هُمْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ،وَاتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا العَمَلَ بِأنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أَجْرَهُمْ ضِعْفَيْنِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِنَبِّيهِمْ وَبِالأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ قَبْلَهُ،وَأَجْراً آخَرَ لإِيْمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ،وَأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ هُدى وَنُوراً يَمْشُونَ بِهِ فَيُجِنِّبُهُمْ العَمَى وَالضَّلاَلَةَ،وَأَنَّهُ سَوْفَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ،وَيُعْلِمُهُمْ بِأَنَّ اللهَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ لِمَنْ شَاءَ،رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ،يَقْبَلُ إِنْ أَحْسَنُوا التَّوْبَةَ إِلَيهِ (2) .
فرتّبَ على الإيمانِ حصولَ الثواب المضاعفِ،وكمالَ النورِ الذي يمشي به العبدُ في حياتهِ،ويمشي به يومَالقيامة:{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (12) سورة الحديد
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَرَى المُتَصَدِّقِينَ،مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ،يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ،وَتَكُونُ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ،وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ:أَبْشِرُوا بِجَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا جَزَاءً لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ الصَّالِحَةِ،وَهَذَا الذِي فُزْتُمْ بِهِ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ . (3)
__________
(1) - التفسير الميسر - (8 / 400)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4981)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4966)(1/29)
فالمؤمنُ مَنْ يمشي في الدنيا بنورِ علمِه وإيمانِه،وإذا أُطفئتِ الأنوارُ يومَ القيامة:مشَى بنورهِ على الصراطِ حتى يجوزَ به إلى دارِ الكرامةِ والنعيمِ،وكذلكَ رتَّبَ المغفرةَ على الإيمانِ،ومن غُفرتْ سيئاتهُ سلِمَ منَ العقابِ،ونالَ أعظمَ الثوابِ. (1)
الحادي عشر:حصولُ الفلاح في الدارين :
الذي هو:إدراكُ غاية الغاياتِ،فإنه إدراكُ كلِّ مطلوبٍ،والسلامةُ من كلِّ مرهوبٍ،والهدَى الذي هو أشرفُ الوسائلَ.
كما قال تعالى :{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }[البقرة/2-5]
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ،وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ،الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ،وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ،وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ،وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ.وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ،وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ،وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا،وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ،وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ،لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ،وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ،وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ .
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ:مِنْ إِيمَانٍ باللهِ،وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ،وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ،وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ...هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ،وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ،وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ (2) .
__________
(1) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 43)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 9)(1/30)
ومن هدي فقد أفلح،فهو سائر على النور،واصل إلى الغاية،ناج من الضلال في الدنيا،ومن عواقب الضلال في الآخرة وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود.أولئك المهتدون بالكتاب وآياته،المحسنون،المقيمون للصلاة،المؤتون للزكاة،الموقنون بالآخرة،المفلحون في الدنيا والآخرة . (1)
فهذا هو الهدى التامُّ،والفلاحُ الكاملُ.
فلا سبيلَ إلى الهدَى والفلاح ِ- اللذينِ لا صلاحَ ولا سعادةَ إلا بهما - إلا بالإيمانِ التامِّ بكلِّ كتابٍ أنزلهُ الله،وبكلِّ رسولٍ أرسله اللهُ.فالهدى أجلُّ الوسائلَ،والفلاحُ أكملُ الغاياتِ (2) .
الثاني عشر:الانتفاعُ بالمواعظَ والتذكيرُ بالآيات:
قال تعالى:(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55)
وَثَابِرْ عَلَى دَعْوةِ النَّاسِ إلى اللهِ،وَذَكِّرْهُمْ بِهذا القُرآنِ،فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ القُلُوبَ المُوقِنَةَ التي فِيها اسْتِعْدَادٌ للهِدَايةِ . (3)
والتذكير نوعان:تذكير بما لم يعرف تفصيله،مما عرف مجمله بالفطر والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره،وكراهة الشر والزهد فيه،وشرعه موافق لذلك،فكل أمر ونهي من الشرع،فإنه من التذكير،وتمام التذكير،أن يذكر ما في المأمور به،من الخير والحسن والمصالح،وما في المنهي عنه،من المضار.
والنوع الثاني من التذكير:تذكير بما هو معلوم للمؤمنين،ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول،فيذكرون بذلك،ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم،وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه،من ذلك،وليحدث لهم نشاطًا وهمة،توجب لهم الانتفاع والارتفاع.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2784)
(2) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 43)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4609)(1/31)
وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين،لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة،واتباع رضوان الله،يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى،وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى }
وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير،فهذا لا ينفع تذكيره،بمنزلة الأرض السبخة،التي لا يفيدها المطر شيئًا،وهؤلاء الصنف،لو جاءتهم كل آية،لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. (1)
وقال تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:77]
وفي هذه القصة من العبر:عنايته تعالى بخليله إبراهيم،فإن لوطا عليه السلام من أتباعه،وممن آمن به فكأنه تلميذ له،فحين أراد الله إهلاك قوم لوط حين استحقوا ذلك،أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السلام كي يبشروه بالولد ويخبروه بما بعثوا له،حتى إنه جادلهم عليه السلام في إهلاكهم حتى أقنعوه،فطابت نفسه.
وكذلك لوط عليه السلام،لما كانوا أهل وطنه،فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدَّر الله من الأسباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم،حتى استبطأ إهلاكهم لما قيل له:{ إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } ومنها:أن الله تعالى إذا أراد أن يهلك قرية [ازداد] شرهم وطغيانهم،فإذا انتهى أوقع بهم من العقوبات ما يستحقونه. (2)
وهذا:لأن الإيمانَ يحملُ صاحبَه على التزامِ الحقِّ واتباعهِ،علماً وعملاً،وكذلك معه الآلةُ العظيمةُ والاستعدادُ لتلقِّي المواعظَ النافعةَ،والآياتُ الدالةُ على الحقِّ،وليس عنده مانعٌ يمنعُه من قبول الحقِّ،ولا منَ العملِ به.
الثالث عشر:الإيمانُ يقطعُ الشكوكَ التي تعرِض لكثيرٍ من الناس فتضر بدينهم :
قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 812)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 433)(1/32)
إنَّ المُؤْمِنينَ إيماناً حَقّاً هُمُ الذين صَدَّقوا اللهَ وَرَسُولهَ وَلَم يَشُكُّوا،وَلَم يَتَزَلْزَلُوا،وَلم يَتَرَدَّدوا،وَبَذَلَوا أنْفُسَهُم وَأمْوالَهُمْ لِلْجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ،وَرِفْعةِ شَأْنِ الإِسْلامِ،وَهَؤلاء هُمُ المُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ في إِيمَانِهمْ (1)
أي:من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله،فإن من جاهد الكفار،دل ذلك،على الإيمان التام في القلب،لأن من جاهد غيره على الإسلام،والقيام بشرائعه،فجهاده لنفسه على ذلك،من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على الجهاد،فإن ذلك،دليل على ضعف إيمانه،وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب،وهو الشك،لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني،بما أمر الله بالإيمان به،الذي لا يعتريه شك،بوجه من الوجوه.
وقوله:{ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي:الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة،فإن الصدق،دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان،وأعظم ذلك،دعوى الإيمان،الذي هو مدار السعادة،والفوز الأبدي،والفلاح السرمدي،فمن ادعاه،وقام بواجباته،ولوازمه،فهو الصادق المؤمن حقًا،ومن لم يكن كذلك،علم أنه ليس بصادق في دعواه،وليس لدعواه فائدة،فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. (2)
أي:دفعَ الإيمانُ الصحيحُ -الذي معهم -الريبَ والشكَّ الموجودَ،وإنزالهُ بالكليةِ،وقاومُ الشكوكَ التي تلقيها شياطينُ الإنسِ والجنِّ،والنفوسُ الأمّارة ُبالسوءِ.فليس لهذه العللِ المهلكةِ دواءٌ إلا تحقيقَ الإيمانِ.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح ِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ » (3) .
وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ »(أخرجه مسلم ) (4) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4506)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 802)
(3) - أخرجه مسلم برقم(360)
(4) - برقم(362 )(1/33)
وبهذا بينَ - صلى الله عليه وسلم - الدواءَ النافع لهذا الداء المهلكِ.وهي ثلاثة أشياء :
1- الانتهاءُ عن الوساوس الشيطانية
ٍ 2- والاستعاذةُ من شرِّ مَن ألقاها وشبّهَ بها؛ ليضلَّ بها العباد
3- والاعتصامُ بعصمةِ الإيمان الصحيحِ الذي مَنِ اعتصم به كانَ من الآمنين.وذلك:لأنَّ الباطل يتضحُ بطلانُه بأمورٍ كثيرة أعظمُها:العلمُ أنه منافٍ للحقِّ،وكلُّ ما ناقضَ الحقَّ فهو باطلٌ،قال تعالى {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس.
فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء،الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،ولا يأتي بالحسنات إلا هو،ولا يدفع السيئات إلا هو،ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.
{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } عن عبادة من هذا وصفه،إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم،ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا،ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.فليس له من الملك مثقال ذرة،ولا شركة له بوجه من الوجوه،ولا يشفع عند الله إلا بإذنه،فتبا لمن أشرك به،وويحًا لمن كفر به،لقد عدموا عقولهم،بعد أن عدموا أديانهم،بل فقدوا دنياهم وأخراهم. (1)
الرابع عشر:أن الإيمانَ ملجَأُ المؤمنينَ في كلِّ ما يلمُّ بهم:
من سرورٍ وحزنٍ وخوفٍ وأمنٍ،وطاعةٍ،ومعصيةٍ،وغير ذلك من الأمور التي لابدَّ لكل أحد منها،فيلجؤونَ إلى الإيمانِ عند الخوفِ فيطمئنونَ إليه فيزيدهُم إيماناً وثباتاً،وقوة ًوشجاعةً،ويضمحلُّ الخوفُ الذي أصابهُم كما قال تعالى:عن خيارِ الخلق:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 363)(1/34)
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } [آل عمران/173-175] .
خَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ،وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ،فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ،لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ،وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ:إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ،وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ،فَاحْذَرُوهُمْ،وَاخْشَوْهُمْ،فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ،رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ،وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ،وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ:إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ،وَهُوَ حَسْبُهُمْ .
فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ،وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ )،فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ،وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ،وَعَظِيمِ فَضْلِهِ،وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ،أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ،وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ،وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ،فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ،وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ،وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً،فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ،وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ.وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ،وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ . (1)
فهنا يردهم إلى السبب الأولى في العطاء:نعمة اللّه وفضله على من يشاء.ومع التنويه بموقفهم الرائع،فإنه يرد الأمر إلى نعمة اللّه وفضله،لأن هذا هو الأصل الكبير،الذي يرجع إليه كل فضل،وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل! «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» ..بهذا يسجل اللّه لهم في كتابه الخالد،وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 466)(1/35)
كله،صورتهم هذه،وموقفهم هذا،وهي صورة رفيعة،وهو موقف كريم.وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف،فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة.
نضجت.وتناسقت.واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها.وانجلى الغبش عن تصورها.وأخذت الأمر جدا كله.وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة،التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف.فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس ..والفارق هائل والمسافة بعيدة ..
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا.أطار الغبش،وأيقظ القلوب،وثبت الأقدام،وملأ النفوس بالعزم والتصميم ..نعم.وكان فضل اللّه عظيما في الابتلاء المرير ..
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع ..إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب،وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة ..ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان،وأن يبطلوا محاولته.فلا يخافوا أولياءه هؤلاء،ولا يخشوهم.بل يخافوا اللّه وحده.فهو وحده القوي القاهر القادر،الذي ينبغي أن يخاف:«إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه،ويلبسهم لباس القوة والقدرة،ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول،وأنهم يملكون النفع والضر ..ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه،وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد،وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب،فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم،ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل،وأن يتضخم الشر،وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا،لا تقف في وجهه معارضة،ولا يصمد له مدافع،ولا يغلبه من المعارضين غالب ..الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا.فتحت ستار الخوف والرهبة،وفي ظل الإرهاب والبطش،يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكرا،والمنكر معروفا،وينشرون الفساد والباطل والضلال،ويخفتون صوت الحق والرشد(1/36)
والعدل،ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير ..دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم،ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة.بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له،وجلاء الحق الذي يطمسونه ..
والشيطان ماكر خادع غادر،يختفي وراء أوليائه،وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ..ومن هنا يكشفه اللّه،ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره.ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته،ليكونوا منها على حذر.فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم.فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه،ويستند إلى قوته ..إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر.هي قوة اللّه.وهي القوة التي يخشاها المؤمنون باللّه،وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء.فلا تقف لهم قوة في الأرض ..لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:«فَلا تَخافُوهُمْ.وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. (1)
لقد اضمحلَّ الخوفُ من قلوبِ هؤلاء الأخيارِ،وخلفهُ قوةُ الإيمانِ وحلاوتُه،وقوةُ التوكل على الله،والثقةُ بوعده.
ويلجؤونَ إلى الإيمانِ عند الطاعة ِوالتوفيقِ للأعمالِ الصالحة:فيعترفون بنعمةِ الله عليهم بها،وأن نعمتَهُ عليهم فيها أعظمُ مِن نِعَمِ العافيةِ والرزقِ،وكذلك يحرصونُ على تكميلِها،وعملِ كلِّ سببٍ لقبولها،وعدمِ ردِّها أو نقصها.ويسألون الذي تفضلَ عليهم بالتوفيق لها:أن يتمَّ عليهم نعمتَهُ بقبولها،والذي تفضلَ عليهم بحصول أصلها:أن يتمَّ لهم منها ما انتقصوهُ منها { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (61) سورة المؤمنون
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 520)(1/37)
فهَؤُلاءِ الذينَ جَمَعُوا هَذِهِ المَحَاسِنَ،يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ،فَيُبَادرُونَهَا لِئلاَّ تَفُوتَهم إِذَا هُمْ مَاتُوا،وَيَتَعَجَّلُونَ فِي الدَّنْيَا وُجُوهَ الخَيْرَاتِ العَاجِلَةِ التي وُعِدُوا بِهَا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ،وَهُمْ لأَجْلِهَا سَابِقُونَ النَّاسَ إِلى الثَّوَابِ (1)
إنهم يلجؤون إلى الإيمانِ إذا ابتلوا بشيءٍ من المعاصي بالمبادرةِ إلى التوبةِ منها،وعملِ ما يقدرون عليه من الحسناتِ - لجبر نقصها.قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف
إِنَّ المُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا أَلَمَّ بِهِمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ بَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ،أَوْ لِيُوقِعَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ...تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّهِمْ وَتَذَكَّرُوا أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ،وَسْوَسَتِهِ،فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ،وَرَجَعُوا إِلَيْهِ،فَإِذَا هُمْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا ( مُبْصِرُونَ ) . (2)
فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم - ملجؤهُم إلى الإيمانِ ومفزعهُم إلى تحقيقهِ،ودفعِ ما ينافيه ويضادِّه،وذلك من فضل الله عليهم ومنِّهِ (3) .
الخامس عشر:الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في المُوبقات المُهلكة :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَزْنِي الزَّانِي،حِينَ يَزْنِي،وَهُوَ مُؤْمِنٌ،وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ،حِينَ يَسْرِقُ،وَهُوَ مُؤْمِنٌ،وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ،حِينَ يَشْرَبُهَا،وَهُوَ مُؤْمِنٌ،وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً،وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ.. (4)
ومن وقع منه ذلك؛فلضعف إيمانه،وذهاب نوره،وزوال الحياء من الله،وهذا معروف مُشاهد،والإيمان الصحيح الصادق،يصحبه الحياء من الله،والحبّ له،والرّجاء القويّ لثوابه،والخوف من عقابه،ورغبته في اكتساب النور،وهذه الأمور تأمر صاحبها بكل
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2614)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1156)
(3) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 46)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2475 ) وصحيح مسلم- المكنز - (211 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 414) (186)(1/38)
خير،وتزجره عن كل شرّ.فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " قَالُوا:إِنَّا نَسْتَحِي مِنَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ،وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ:" لَيْسَ ذَاكَ،وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى،وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى،وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى،وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا،فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَى مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " (1)
السادس عشر:التاسع عشر:خير الخليقة قسمان:هم أهل الإيمان
فعَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ،طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ،وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ،طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا،وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ،أَوِ الْفَاجِرِ،الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ،رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ،وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ،أَوِ الْفَاجِرِ،الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ،طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا. (2)
فالناس أربعة أقسام:
القسم الأول:خير في نفسه،متعدٍ خيره إلى غيره،وهو خير الأقسام،فهذا المؤمن الذي قرأ القرآن،
وتعلّم علوم الدين،فهو نافع لنفسه،نافع لغيره،مبارك أينما كان.
القسم الثاني:طيّب في نفسه،صاحب خير،وهو المؤمن الذي ليس عنده من العلم ما يعود به على غيره،فهذان القسمان هما خير الخليقة،والخير الذي فيهم عائد إلى ما معهم من الإيمان القاصر،والمتعدي نفعه إلى الغير بحسب أحوال المؤمنين.
القسم الثالث:من هو عادم للخير،ولكنه لا يتعدَّى ضرره إلى غيره.
القسم الرابع:من هو صاحب شر على نفسه وعلى غيره،فهذا شرّ الأقسام.
فعاد الخير كله إلى الإيمان وتوابعه،وعاد الشر إلى فقد الإيمان والاتّصاف بضدِّه (3)
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 169)(7334 ) حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1896) وصحيح ابن حبان - (3 / 48) (771)
(3) - انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص63-90.(1/39)
السابع عشر:الإيمان يثمر الاستخلاف في الأرض :
قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور
وعد الله بالنصر الذين آمنوا منكم وعملوا الأعمال الصالحة،بأن يورثهم أرض المشركين،ويجعلهم خلفاء فيها،مثلما فعل مع أسلافهم من المؤمنين بالله ورسله،وأن يجعل دينهم الذي ارتضاه لهم- وهو الإسلام- دينًا عزيزًا مكينًا،وأن يبدل حالهم من الخوف إلى الأمن،إذا عبدوا الله وحده،واستقاموا على طاعته،ولم يشركوا معه شيئًا،ومن كفر بعد ذلك الاستخلاف والأمن والتمكين والسلطنة التامة،وجحد نِعَم الله،فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله. (1)
ذلك وعد اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلفهم في الأرض.وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ..ذلك وعد اللّه.ووعد اللّه حق.ووعد اللّه واقع.ولن يخلف اللّه وعده ..فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد اللّه حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله وتوجه النشاط الإنساني كله.فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى اللّه لا يبتغي به صاحبه إلا وجه اللّه وهي طاعة للّه واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة،لا يبقى معها هوى في النفس،ولا شهوة في القلب،ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من عند اللّه.
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 259)(1/40)
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله،بخواطر نفسه،وخلجات قلبه.وأشواق روحه،وميول فطرته،وحركات جسمه،ولفتات جوارحه،وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا.ويتوجه بهذا كله إلى اللّه ..
يتمثل هذا في قول اللّه سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن:«يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» والشرك مداخل وألوان،والتوجه إلى غير اللّه بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك باللّه.
ذلك الإيمان منهج حياة كامل،يتضمن كل ما أمر اللّه به،ويدخل فيما أمر اللّه به توفير الأسباب،وإعداد العدة،والأخذ بالوسائل،والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض ..أمانة الاستخلاف ..
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم ..إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء وتحقيق المنهج الذي رسمه اللّه للبشرية كي تسير عليه وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض،اللائق بخليقة أكرمها اللّه.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح،لا على الهدم والإفساد.وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة،لا على الظلم والقهر.وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري،لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان! وهذا الاستخلاف هو الذي وعده اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..وعدهم اللّه أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده اللّه ويقرروا العدل الذي أراده اللّه ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها اللّه ..فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض،وينشرون فيها البغي والجور،وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان ..فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض.إنما هم مبتلون بما هم فيه،أو مبتلى بهم غيرهم،ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها اللّه آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده:«وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» ..وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب،كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها.فقد وعدهم اللّه إذن أن يستخلفهم(1/41)
في الأرض،وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض.ودينهم يأمر بالإصلاح،ويأمر بالعدل،ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض.ويأمر بعمارة هذه الأرض،والانتفاع بكل ما أودعها اللّه من ثروة،ومن رصيد،ومن طاقة،مع التوجه بكل نشاط فيها إلى اللّه.« وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» ..ولقد كانوا خائفين،لا يأمنون،ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ, فِي قَوْلِهِ:" " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهَمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ, وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا " إِلَى آخِرِ الآيَةِ, قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ سِرًّا وَهُمْ خَائِفُونَ لا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ, حَتَّى أُمِرُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ وَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ فِي السِّلاحِ, وَيُصْبِحُونَ فِي السِّلاحِ, فَغَبَرُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ إِنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا, مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ فِيهِ السِّلاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَنْ تَغْبُرُوا إِلا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا " إِلَى آخِرِ (1)
فأظهر اللّه نبيه على جزيرة العرب،فأمنوا ووضعوا السلاح.ثم إن اللّه قبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان.حتى وقعوا فيما وقعوا فيه،فأدخل اللّه عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط،وغيروا فغير بهم ..
«وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» ..الخارجون على شرط اللّه.ووعد اللّه.وعهد اللّه ..
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (10 / 193) (15568) حسن مرسل(1/42)
لقد تحقق وعد اللّه مرة.وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط اللّه:«يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» ..لا من الآلهة ولا من الشهوات.ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا.ووعد اللّه مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة.إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن.
لتخلف شرط اللّه في جانب من جوانبه الفسيحة أو في تكليف من تكاليفه الضخمة حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء،وجازت الابتلاء،وخافت فطلبت الأمن،وذلت فطلبت العزة،وتخلفت فطلبت الاستخلاف ..
كل ذلك بوسائله التي أرادها اللّه،وبشروطه التي قررها اللّه ..تحقق وعد اللّه الذي لا يتخلف،ولا تقف في طريقة قوة من قوى الأرض جميعا.
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة وبألا يحسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم :«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ،وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
فهذه هي العدة ..الاتصال باللّه،وتقويم القلب بإقامة الصلاة.والاستعلاء على الشح،وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة.وطاعة الرسول والرضى بحكمه،وتنفيذ شريعة اللّه في الصغيرة والكبيرة،وتحقيق النهج الذي أراده للحياة:«لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال،وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال.
فإذا استقمتم على النهج،فلا عليكم من قوة الكافرين.فما هم بمعجزين في الأرض،وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق.وأنتم أقوياء بإيمانكم،أقوياء بنظامكم،أقوياء بعدتكم التي تستطيعون.وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية.ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب.
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد اللّه في تلك الآيات.ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية،وهو يدرك شروطها على حقيقتها،قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب،أو يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات.(1/43)
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج اللّه،وحكمت هذا النهج في الحياة،وارتضته في كل أمورها ..
إلا تحقق وعد اللّه بالاستخلاف والتمكين والأمن.وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة،وذلت،وطرد دينها من الهيمنة على البشرية واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء.
ألا وإن وعد اللّه قائم.ألا وإن شرط اللّه معروف.فمن شاء الوعد فليقم بالشرط.ومن أوفى بعهده من اللّه؟ (1)
الثامن عشر:الإيمان ينصر الله به العبد :
قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47) سورة الروم
لَقَدْ أَرْسَلْنَا،يَا مُحَمَّدُ،قَبْلَكَ رُسُلاً إِلى أَقْومِهِمْ بالدَّلاَئلِ الوَاضِحَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ،وأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِليهمْ لدَعْوَتِهِمْ إِلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ،فَكَذَّبَتِ الأَقْوامُ رُسُلَها،فانتَقَمْنا مِنَ الكَافِرينَ الذينَ اجْتَرَحُوا السِّيِّئاتِ،وَنجَّينا الذينَ آمنُوا باللهِ،واسْتَجَابُوا لدَعْوةِ رُسُلِهِ وقدْ أَوْجَبنا عَلَى أَنْفُسِنا نَصرَ المُؤْمِنينَ،وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ،فَلاَ تَبْتَئِسْ يَا مُحَمَّدُ لما تَرَاهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ،وَمِنْ إِيذَائِهِمْ إِيَّاكَ،فَسَنَنْصُرُكَ عَليهِمْ . (2)
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين وجعله لهم حقا،فضلا وكرما.وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا.وكيف والقائل هو اللّه القوي العزيز الجبار المتكبر،القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد،وسنته التي لا تتخلف،وناموسه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب اللّه،ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها اللّه.واللّه هو الحكيم الخبير.يصدق وعده في الوقت
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2528)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3337)(1/44)
الذي يريده ويعلمه،وفق مشيئته وسنته.وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف.ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح.
ووعده القاطع واقع عن يقين،يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين. (1)
وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (51) سورة غافر
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى،إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ،وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ:
- إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم،كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ،عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ .
- وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ،وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ،وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ،كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ .
- وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ،بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ،كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى،عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ .
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ،بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ . (2)
إن وعد اللّه قاطع جازم:«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ..» ..بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذبا مطرودا،وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب،وفيهم من يلقى في الأخدود،وفيهم من يستشهد،وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد ..فأين وعد اللّه لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل،ويفعل بها الأفاعيل! ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور.ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2774)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4063)(1/45)
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان،وحيز محدود من المكان.وهي مقاييس بشرية صغيرة.فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان،ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان.ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك.وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها.فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها.وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها! والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم،قريبة الرؤية لأعينهم.ولكن صور النصر شتى.وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة ..إبراهيم عليه السّلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها ..أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار.كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار.هذه صورة وتلك صورة.وهما في الظاهر بعيد من بعيد.فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! ..
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام،كما نصرها باستشهاده.وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة،ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة،بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه،فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد.وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور.ومن القيم.قبل أن نسأل:أين وعد اللّه لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا! على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة.ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة.لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته.لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض.فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا.من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة.فشاء اللّه أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته،ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة،ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة.(1/46)
ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة،واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية.وفق تقدير اللّه وترتيبه.
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك.إن وعد اللّه قائم لرسله وللذين آمنوا.ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها.وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها.وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله.وإن هنالك لأشكالا من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه للّه وحده،ويتوكل عليه وحده،ويطمئن إلى قضاء اللّه فيه،وقدره عليه،ويحس أن اللّه وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار اللّه.ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول.وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي اللّه،ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير.
فسيكل هذا كله للّه.ويلتزم.ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير ..وذلك معنى من معاني النصر ..النصر على الذات والشهوات.وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال. (1)
التاسع عشر:الإيمان يثمر للعبد العزّة:
قال تعالى:{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون
وَيَقَولُ هَؤُلاَءِ المَنَافِقُونَ:إِذَا رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ فَإِنَّنَا سَنُخْرِجُ المُؤْمِنِينَ مِنْهَا،لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ هُم الأَقْوِيَاءَ الأَعِزَّاءَ فِيهَا لَكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ،وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ،وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ ضِعَافٌ قَلِيلُو العَدَدِ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ قَائِلاً:إِنَّ العِزَّةَ للهِ وَحْدَهُ،فَهُوَ ذُو الجَلاَلِ والعِزَّةِ،ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ مِنْ بِعْدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَسْتَغِزُّونَ بِعِزِّ اللهِ،وَبِنَصْرِهِ،فَهُمْ أَعِزَةٌ بِذَلِكَ،وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ العِزَّةَ بِوَفْرَةِ المَالِ وَكَثْرَةِ النَّاصِرِ . (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3085) وانظر كتابي (( الخلاصة في معاني النصر الحقيقية ))
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5074)(1/47)
ويضم اللّه - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه،ويضفي عليهم من عزته،وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا اللّه! وأي تكريم بعد أن يوقف اللّه - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره.ويقول:ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء.وهذا هو الصف العزيز! وصدق اللّه.فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن.العزة المستمدة من عزته تعالى.العزة التي لا تهون ولا تهن،ولا تنحني ولا تلين.ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان.فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة ..«وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟ (1)
العشرون:الإيمان يثمر عدم تسليط الأعداء على المؤمنين :
قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (141) سورة النساء
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى:أنَّ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِالمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السَّوْءِ،وَيَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ،وَظُهُورَ الكُفْرِ عَلَيهِمْ،وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ.فَإذَا نَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ،وَفَتَحَ عَلَيهِم،وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الغَنَائِمِ،قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَوَدِّدِينَ إِلَيْهِمْ:ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإذاً فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ نَصِيباً مِنَ المَغْنَمِ الذِي حُزْتُمُوهُ.وَإذَا كَانَ النَّصْرُ وَالغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ،قَالُوا لِلْكَافِرِينَ المُنْتَصِرِينَ:أَلَمْ نُسَاعِدْكُمْ فِي البَاطِنِ وَنَحْمِكُمْ،وَنُخَذِّلِ المُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيهِم ( أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ )؟فَاعْرِفُوا لَنَا هَذَا الفَضْلَ،وَأَعْطُونَا نَصِيباً مِمَّا أَصَبْتُمْ مِنَ المَغْنَمِ .
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ حِسَاباً عَسِيراً عَلَى بَوَاطِنِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَلَنْ يَنْفَعَهُمْ تَظَاهُرُهُمْ بِالإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَنِفَاقُهُمْ،وَأنَّهُ سَيَحْكُمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3580)(1/48)
الصَّادِقِينَ،وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ،الذِينَ يُبْطِنُونَ الكُفْرَ،وَيُظْهِرُونَ الإِيمَانَ،وَيُجَازِي كُلا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.وَيَقُولُ تُعُالَى:إنَّهُ لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سُلْطَاناً وَسَبِيلاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا،مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ،قَائِمِينَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ،وَإنْ حَقَّقَ الكَافِرُونَ بَعْضَ الظَّفرِ،فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ،فَالعَاقِبَةُ لِلْحَقِّ دَائِماً،وَالبَاطِلُ إلى زَوَالٍ.كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ سُلْطَاناً عَلَى المُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ . (1)
إنه وعد من اللّه قاطع.وحكم من اللّه جامع:أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة،ونظاما للحكم،وتجردا للّه في كل خاطرة وحركة،وعبادة للّه في الصغيرة والكبيرة ..فلن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ..
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها! وأنا أقرر في ثقة بوعد اللّه لا يخالجها شك،أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين،ولم تلحق بهم في تاريخهم كله،إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان.إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل اللّه وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون! ففي «أحد» مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطمع في الغنيمة.وفي «حنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا ..نعرفه أو لا نعرفه ..أما وعد اللّه فهو حق في كل حين.
نعم.إن المحنة قد تكون للابتلاء ..ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة،هي استكمال حقيقة الإيمان،ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه اللّه على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه،جاء النصر وتحقق وعد اللّه عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك ..إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح،وكلال العزيمة.فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 634)(1/49)
همودا وكلالا وقنوطا.فأما إذا بعثت الهمة،وأذكت الشعلة،وبصرت بالمزالق،وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق ..فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد.ولو طال الطريق! كذلك حين يقرر النص القرآني:أن اللّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ..فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود.وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا وفي حياتها واقعا وعملا.وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها.فالنصر ليس للعنوانات.إنما هو للحقيقة التي وراءها
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان،إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان.ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ..ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة.ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من اللّه.
ووعد اللّه هذا الأكيد،يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ..
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى،التي لا تضعف ولا تفنى ..وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ..
ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية،أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا.
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان ..إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية.ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل.وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها ..ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن «حقيقة» الكفر تغلبه،إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ..لأن حقيقة أي شيء أقوى من «مظهر» أي شيء.
ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان! إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق.وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين(1/50)
الباطل.مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون ..«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» ..«وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» .. (1)
وقال الشعراوي:" { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } وهذه نتيجة لحكم الله،فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين.ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين.وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب،ولكنه جعل الأسباب في الدنيا،فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه؛ لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر،فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها،فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً،وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين. ... ... ...
والحكمة العربية تعلمنا:إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب.لأن الإنسان عندما يخطئ يُصَحَّحُ له الخطأ،فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع،وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل؛ فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولأً ثم سها عنها،والمدرس يصحح له الخطأ،فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع.وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب.والباطل أيضاً من جنود الحق.
فعندما يستشري الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق.وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق،فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد،ويجعل البشر تصرخ،وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء؛ لأن الألم يقول للإنسان:يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان.ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب.
علينا - إذن - أن نعرف ذلك كقاعدة:الخطأ من حنود الصواب،والباطل من جنود الحق،والألم من جنود الشفاء،وكل خطأ يقود إلى صواب،ولكن بلذعة،وذلك حتى لا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 782)(1/51)
ينساه الإنسان.وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه،وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة؛ فنقول:" أغضب المخطئ سيبويه "؛ لأن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه؛ فهو مؤلف الكتاب.
وسيبوبه لم يكن أصلاً عالم نحو،بل كان عالم قراءات للقرآن،حدث له أن كان جالساً وعيبت عليه لحنة في مجلس،أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله ذلك،فغضب من نفسه وحزن،وقال:والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها.وأصبح مؤلفاً في النحو.
ومثال آخر:الإمام الشاطبي - رضي الله عنه - لم يكن عالم قراءات بل كان عالماً في النحو،وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها،فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيداً.وصار من بعد ذلك شيخاً للقراء.فلحنة - أي غلطة - هي التي صنعت من سيبويه عالماً في النحو،ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخاً للقراء؛ على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات،والشاطبي كان رجل نحو.
ولذلك أكررها حتى نفهمها جيداً:الخطأ من جنود الصواب،والباطل من جنود الحق،والألم من جنود الشفاء والعافية.
وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد،وكان ذلك للتربية؛ ففي " أحد " خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب،وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }[التوبة:25]
والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال:
إن الهزيمة لا تكون هزيمة إلا إذا لم تقتلع أسبابها
لكن إذا جهدت لتطرد شائباً فالحمق كل الحمق فيمن عابها(1/52)
فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصراً،وقد حدث ذلك في أحد،هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء،ثم كانت درساً مستفاداً أفسح الطريق للنصر.
فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب،وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج.فهو القائل:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ }[الأنفال:60]
فإن لم يعدّ المؤمنون ما استطاعوا،أو غرّتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق،وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني:{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }[فاطر:43]
إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية،والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قدر عمله.ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ،لذلك يؤدبه ويربيه - ولله المثل الأعلى - نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك؛ لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد،وقد يضربه.أما المدرس الخارجي فلا ينفعل؛ بل يأخذ الأمور بحجمها العادي.إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحياناً على من يرحم.
والشاعر العربي يقول:
فقسى ليزدجروا ومن يكُ حازماً فليقس أحيانا على من يرحمُ
ومثال آخر - ولله المثل الأعلى - الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالاً يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار،وطفل آخر لا يعرفه،فيتجه فوراً إلى ابنه ليصفعه،ويأمره بالعودة فوراً إلى الشقة،أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب،أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه.
وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود،والتأديب على قدر المنزلة في النفس.ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالاً.وساعة نرى لأن للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلنعلم(1/53)
أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم،ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث.فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله. (1)
الحادي والعشرون:الأمن التامّ والاهتداء :
قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ مَنْ هُوَ الحَقِيقُ بِالأَمْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ:الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً،وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ ( يَلْبِسُوا ) بِظُلْمٍ،وَلاَ كُفْرٍ،وَلاَ شِرْكٍ بِاللهِ،فَهَؤُلاءِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ فِي العَذَابِ،وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ . (2)
إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات،فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك الكائنات،ومن يغفل عن ذلك فقد لبَّس وخلط إيمانه بظلم.وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن تقول كما قال قارون:{ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي } بل اذكر وقل:" ما شاء الله "؛ لأنك إن قلت:{ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ } فالحق قد قال في شأن قارون:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ }[القصص:81] أين ذهب علم قارون الذي جاء به؟.
إذن فكل أمر من الأمور يجب أن تنسبه لله،فإن اختل شيء فيك من هذه المسألة فاعلم أنك لبَّست وخلطت إيمانك بظلم،والحق سبحانه وتعالى منا ذلك حتى تكون النعمة مباركة إقبالاً عليها أو انتفاعاً بها،ولا ينشأ من العمل الذي تعمله مبتدئاً بـ " بسم الله " إلا ما يعينك على طاعته،ويعينك على بر،ويعينك على خير،ولا تصرفه إلا في عافية.
وبعد ذلك يؤهلك مجموع هذه الأشياء في كل حركاتك وأعمالك إلى أن تأخذ أمناً آخر أجمع وأتم وأكمل من أمن الدنيا؛ إنّك تأخذ أمن الآخرة بأن تدخل الجنة.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 628)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 872)(1/54)
إذن { أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ } أي الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم،والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل دائماً بمنهجه؛ لأن إمدادات الله سبحانه وتعالى مستمرة،ورحماته وتجلياته لا تنقطع عن خلقه أبداً؛ لأنه قيوم أي إنه بطلاقة قدرته وشمول قيوميته يقوم سبحانه باقتدار وحكمة على كل أسباب مخلوقاته،فكن دائماً في صحبة القيوم؛ ليتجلى عليك بصفات حفظه،وصفات قدرته،وصفات علمه،وصفات حكمته،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ عِنْدَكَ مَنْفَعَةً فَإِنِّى سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ.فَقَالَ بِلاَلٌ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً فِى الإِسْلاَمِ أَرْجَى عِنْدِى مَنْفَعَةً إِلاَّ أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا تَامًّا فِى سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى أَنْ أُصَلِّىَ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ،خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ،وَمَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ،أَوْ نَحْوَ هَذَا،فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ،أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ،حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ. (2)
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصالاً وثيقا؛ ليعطينا،لا ليأخذ منا؛ لأن الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة لله أن البشر يأخذ خير عبده،ولكن عبوديتنا لله تعطينا خيره من خزائن لا تنفد،نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية،إذن الحق دائماً يريد أن يصلنا به.
{ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ } الأمن في الدنيا؛ والأمن بمجموع ما كان في الدنيا مع الأمن في الآخرة.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1149)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (600 ) وصحيح ابن حبان - (3 / 315) (1040)(1/55)
ولقائل أن يقول:هناك أناس لا يسمون باسم الله،ولا يخطر الله على بالهم،ويتحركون في طاقات الأرض ومادتها،وينعمون بها ويسعدون،وقد يسعدون بابتكارات سواهم. ... ...
ونقول:نعم هذا صحيح؛ لأن فيه فرقاً بين عطاء الفعل،والبركة في عطاء الفعل.إذا زرع الكافر فالأرض تعطي له،وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته،لكن لا يأخذ البركة في العطاء.
وما هي البركة في العطاء؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء لا يعينك على معصية،بل دائماً يعينك على طاعة.ونحن نرى كثيراً من الناس يصدق عليهم قوله سبحانه:{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } فإياك أن تغالط وتقول:إنهم لا يقولون:{ بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا،إنك حين تنظر إليهم تجد كل مرتقيات حضارتهم،وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائماً إلى الشر،لم يأت لهم ابتكار إلا استعملوه في الشر إلى أن يأذن الله فيشغلهم عن أشيائهم بما يصبُّ عليهم من العذاب والنكبات ولهم في الآخرة العقاب على شركهم وكفرهم.
إذن { أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ } أي إنّ هؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن في جزيئات أعمالهم والأمن المتجمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم الأمن في الجنة.{ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية.ولا يقال إنك موفق في الحركة إلا إذا أدت بك هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والاجتهاد.ولا مخلوق ولا مصنوع يحدد غايته،فاترك لله تحديد مهتمك،فسبحانه هو الذي خلقك،وفي عرف البشر،لا توجد صنعة تحدد مهمتها أبداً،بل إن الصانع هو الذي يحدد لها الغاية منها؛ فالغاية توجد أولاً قبل الصنعة،وما دامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن؟.
في الابتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى بالتجربة أولاً هو العالم،وأنت لا تعلم التجربة إلا بعد ما تظهر نتائجها الطيبة،والمسائل(1/56)
النظرية التي تتعب العالم يأتي التعب منها لأنها ليست مربوطة أولاً بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية،ولا بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية.فمن المهتدي إذن؟
إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها،والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية.وإذا حدث له عطب في ملكات نفسه،يستعين في إصلاح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات،وهو الله سبحانه،كما يرد الإنسان الآلة التي تتعطل لصانعها.ونجد كثيراً من الشعراء يسرحون في خيالهم فيقول الواحد منهم:
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين للغايات بعد المذاهب؟
ونقول له:من خلقك أوضح لك الغاية. (1)
الثاني والعشرون:حفظ سعي المؤمنين :
قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (30) سورة الكهف
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الأَشْقِيَاءِ،ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ،مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ،وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ،وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ،فَقَالَ تَعَالَى:إِنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَخْلُوقٍ مِنْ عِبَادِهِ آمَنَ بِالحَقِّ الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ،وَعَمِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ،وَلاَ يَظْلِمُهُ نَقِيراً . (2)
نلاحظ أن { مَنْ } هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يَقُل سبحانه:إنَّا لا نضيع أجر مَنْ أحسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يُحسِن العمل قد يكون كافراً،ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حَقّه،بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا.
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يُحرم ثمرة عمله واجتهاده،لكنها تُعجَّل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حَظَّ له في الآخرة.
ويقول تبارك وتعالى:{ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان:23]
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 864)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2171)(1/57)
ويقول تعالى:{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً }[الإسراء:18]
ويقول تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور:39]
فهؤلاء قد استوفوا أجورهم،وأخذوا حظّهم في الدنيا ألواناً من النعيم والمدح والثناء،وخُلِّدتْ ذكراهم،وأقيمت لهم التماثيل والاحتفالات؛ لذلك يأتي في الآخرة فلا يجد إلا الحسرة والندامة حيث فُوجئ بوجود إله لم يكُنْ يؤمن به،والإنسان إنما يطلب أجره مِمَّن عمل من أجله،وهؤلاء ما عملوا لله بل للإنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا،ولم يَبْقَ لهم شيء في الآخرة. (1)
وقال تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (94) سورة الأنبياء
فمن التزم الإيمان بالله ورسله،وعمل ما يستطيع من صالح الأعمال طاعةً لله وعبادة له فلا يضيع الله عمله ولا يبطله،بل يضاعفه كله أضعافًا كثيرة،وسيجد ما عمله في كتابه يوم يُبْعث بعد موته. (2)
فالحق -سبحانه وتعالى- يستأنف معنا العظة بالعمل الصالح ليعطينا الأمل لو رجعنا إلى الله،والدنيا كلها تَشهد أن أيَّ مبدأ باطل،أو شعار زائف زائل يُزخرفون به أهواءهم لا يلبث أنْ ينهار ولو بَعْد حين،ويتبين أصحابه أنه خطأ ويعدلون عنه.
ومثال ذلك الفكر الشيوعي الذي ساد روسيا منذ عام 1917 وانتهكت في سبيله الحرمات،وسفكتْ الدماء،وهدمتْ البيوت،وأخذت الثروات،وبعد أن كانت أمة تصدر الغذاء لدول العالم أصبحت الآن تتسول من دول العالم،وهم أول مَنْ ضَجَّ من هذا الفكر وعانى من هذه القوانين.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2154)
(2) - التفسير الميسر - (6 / 10)(1/58)
وقوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ..} [الأنبياء:94] ربط العمل الصالح بالإيمان،لأنه مُنطلَق المؤمن في كُلِّ ما يأتي وفي كُلِّ ما يدع؛ لينال بعمله سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
أمّا مَنْ يعمل الصالح لذات الصلاح ومن منطلق الإنسانية والمروءة،ولا يخلو هذا كله في النهاية عن أهواء وأغراض،فليأخذ نصيبه في الدنيا،ويحظى فيها بالتكريم والسيادة والسُّمْعة،وليس له نصيب في ثواب الآخرة؛ لأنه فَعَل الخير وليس في باله الله.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لذلك في قوله تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ..}[ النور:39].
يعني:فوجئ بوجود إله يحاسبه ويجازيه،وهذه مسألة لم تكُنْ على باله،فيقول له:عملتَ ليقال وقد قيل.وانتهت المسألة؛ لذلك يقول تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ..}[الشورى:20] أي:نعطيه أجره في عالم آخر لا نهاية له{ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى:20].لأنه عَمِلَ للناس،فليأخذ أجره منهم،يُخلِّدون ذكراه،ويُقيمون له المعارض والتماثيل..الخ.
وقوله تعالى:{ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ..} [الأنبياء:94] يعني:لا نبخسه حَقَّه ولا نجحد سَعْيه أبداً { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } [الأنبياء:94] نسجِّل له أعماله ونحفظها،والمفروض أن الإنسان هو الذي يُسجِّل لنفسه،فإنْ سجَّل لك عملَك ربُّك الذي يُثيبك عليه،وسجَّله على نفسه،فلا شكَّ أنه تسجيل دقيق لا يبخسك مثقال ذرة من عملك. (1)
إن الإيمان هو قاعدة الحياة،لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود،والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد،وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه،ولا بد من القاعدة ليقوم البناء.والعمل الصالح هو هذا البناء.فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2559)(1/59)
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير.والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر ..والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء.فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر.ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة،لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم.ولا موصول بناموس مطرد.وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود.وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح،لأنه وسيلة البناء في هذا الكون،ووسيلة الكمال الذي قدره اللّه لهذه الحياة.فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها،لا فلتة عابرة،ولا نزوة عارضة،ولا رمية بغير هدف،ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
والجزاء على العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا. (1)
الثالث والعشرون:زيادة الإيمان للمؤمنين :
قال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }سورة التوبة
وإذا ما أنزل الله سورة من سور القرآن على رسوله،فمِن هؤلاء المنافقين من يقول:-إنكارًا واستهزاءً- أيُّكم زادته هذه السورة تصديقًا بالله وآياته؟ فأما الذين آمنوا بالله ورسوله فزادهم نزول السورة إيمانًا بالعلم بها وتدبرها واعتقادها والعمل بها،وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين.وأما الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله،فإن نزول
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2397)(1/60)
السورة يزيدهم نفاقًا وشكًا إلى ما هم عليه من قبلُ من النفاق والشك،وهلك هؤلاء وهم جاحدون بالله وآياته. (1)
والسؤال في الآية الأولى:«أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟» ..سؤال مريب،لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه.وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه،بدل التساؤل عن غيره.وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب!
فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيمانا وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيمانا وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيمانا ..وأما الذين في قلوبهم مرض،الذين في قلوبهم رجس من النفاق،فزادتهم رجسا إلى رجسهم،وماتوا وهم كافرون ..وهو نبأ من اللّه صادق،وقضاء منه سبحانه محقق. (2)
وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (4) سورة الفتح
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم "الحديبية" فسكنت،ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم.ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين.وكان الله عليمًا بمصالح خلقه،حكيمًا في تدبيره وصنعه. (3)
الرابع والعشرون:نجاة المؤمنين :
قال تعالى في قصة يونس { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} سورة الأنبياء
__________
(1) - التفسير الميسر - (3 / 366)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1741)
(3) - التفسير الميسر - (9 / 200)(1/61)
واذكر قصة صاحب الحوت،وهو يونس بن مَتَّى عليه السلام،أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا،فتوعَّدهم بالعذاب فلم ينيبوا،ولم يصبر عليهم كما أمره الله،وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم،ضائقًا صدره بعصيانهم،وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة،فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس،والتقمه الحوت في البحر،فنادى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت تائبًا معترفًا بظلمه; لتركه الصبر على قومه،قائلا:لا إله إلا أنت سبحانك،إني كنت من الظالمين.فاستجبنا له دعاءه،وخلَّصناه مِن غَم هذه الشدة،وكذلك ننجي المصدِّقين العاملين بشرعنا. (1)
وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام (2)
فهذه ليست خاصة بيونس،بل بكل مؤمن يدعو الله بهذا الدعاء { وَكَذالِكَ...} [الأنبياء:88] أي:مثل هذا الإنجاء نُنْجي المؤمنين الذين يفزعون إلى الله بهذه الكلمة:{ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء:87] فيُذهِب الله غَمَّه،ويُفرِّج كَرْبه.
والمؤمن يتقلّب بين أحوال عدة منها:الخوف سواء الخوف أنْ يفوته نعيم الدنيا،أو الخوف من جبار يهدده،وقد يشعر بانقباض وضيق في الصدر لا يدري سببه وهذا هو الغَمُّ،وقد يتعرض لمكر الماكرين،وكَيْد الكائدين،وتدبير أهل الشر.
هذه كلها أحوال تعتري الإنسان،ويحتاج فيها لمَنْ يسانده ويُخرجه مما يعانيه،فليس له حَوْل ولا قوة،ولا يستطيع الاحتياط لكل هذه المسائل.
وقد تراوده بهجة الدنيا وزُخْرفها،فينظر إلى أعلى مِمّا هو فيه،ويطلب المزيد،ولا نهايةَ لطموحات الإنسان في هذه المسألة،كما قال الشاعر:تَمُوتُ مع المرْءِ حَاجَاتُه وتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِي
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 3)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 529)(1/62)
والناس تحرص دائماً على أن تستوعب نِعَم الحياة وراحتها،وهم في ذلك مُخْطِئون؛ لأن تمام الشيء بداية زواله،كما قال الشاعر:
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قيلَ تَم
لأن الإنسان ابنُ أغيار،ولا يدوم له حال من صحة أو مرض،أو غِنى أو فقر،أو حزن أو سرور،فالتغيُّر سِمَة البشر،وسبحان مَنْ لا يتغير،إذن:فماذا بعد أنْ تصل إلى القمةَ،وأنت ابنُ أغيار؟
ونرى الناس يغضبون ويتذمرون إنْ فاتهم شيء من راحة الدنيا ونعيمها،أو انتقصتهم الحياة شيئاً؟ وهم لا يدرون أن هذا النقص هو الذي يحفظ عليك النعمة،ويدفع عنك عيون الحاسدين فيُسلِّم لك ما عندك.
فتجد مثلاً أسرة طيبة حازتْ اهتمام الناس واحترامهم،غير أن بها شخصاً شريراً سِّيئاً،يعيب الأسرة،فهذا الشخص هو الذي يدفع عنها عُيون الناسِ وحَسَدهم.
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى،وعبَّر عنه في مدحه لسيف الدولة،فقال:
شَخَصَ الأنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاستْعِذ مِنْ شَرِّ أعيُنهم بِعَيْبٍ وَاحِدٍ
قال أحد الصالحين:عجبتُ لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى:{ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }[آل عمران:173] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول:{ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ..}[آل عمران:174].وعجبتُ لمَنْ اغتمَّ،ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء:87] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول:{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء:88].وعجبتُ لمن مُكِرَ به،ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ }[غافر:44] فإني سمعت الله بعقبها يقول:{ فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ...}[غافر:45].وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها،ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ...}[الكهف:39] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول:{ فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ...}[الكهف:40].(1/63)
وهكذا يجب على المؤمن أن يكون مُطْمئناً واثقاً من معيّة الله،ويضع كما نقول (في بطنه بطيخة صيفي)؛ لأنه يفزع إلى ربه بالدعاء المناسب في كل حال من هذه الأحوال،وحين يراك ربك تلجأ إليه وتتضرع،وتعزو كل نعمة في ذاتك أو في أهلك أو في مالك وتنسبها إلى الله،وتعترف بالمنعِم سبحانه فيعطيك أحسنَ منها. (1)
الخامس والعشرون:الأجر العظيم لأهل الإيمان :
قال تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (146) سورة النساء
أمَّا الذِينَ يَتُوبُونَ مِنَ المُنَافِقِينَ،وَيُقْلِعُونَ عَنِ النِّفَاقِ وَالكُفْرِ،وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ وَعَمَلَهُمْ،فَإِنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ،وَسَيَنَالُهُمُ الأَجْرَ العَظِيمَ الذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ . (2)
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين.ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه.وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل.وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين،وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم.وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين،ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجراً عظيماً. (3)
فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام باللّه،وإخلاص الدين للّه.ولكنه هنا ينص على الاعتصام باللّه،وإخلاص الدين للّه.لأنه يواجه نفوسا تذبذبت،ونافقت،وتولت غير اللّه.فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح،على التجرد للّه،والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة،وتلك الأخلاق المخلخلة ..ليكون في الاعتصام باللّه وحده قوة وتماسك،وفي الإخلاص للّه وحده خلوص وتجرد ..
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2553)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 639)
(3) - تفسير الشعراوي - ( / 633)(1/64)
بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض،وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار.
وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة اللّه وحده.المستعلين بالإيمان.المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان ..وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف:«وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».وبهذه اللمسات المنوعة،يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم،ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق،ويحذرهم مصيره.ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير،أن يخلص نفسه،وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص .. (1)
السادس والعشرون:معيّة الله لأهل الإيمان،وهي المعية الخاصة:معية التوفيق والإلهام والتسديد :
قال تعالى:{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (19) سورة الأنفال
قَالَ أَبُو جَهْلٍ فِي بِدْءِ المَعْرَكَةِ:( اللَّهُمَّ أقْطَعُنَا لِلرَّحْمِ،وَآتَانَا بِمَا لاَ نَعْرِفُ،فَأَحِنْهُ الغَدَاةَ ).فَكَانَ هُوَ المُسْتَفْتِحَ بِاللهِ وَالمُسْتَنْصِرَ بِهِ.وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ قُرَيْشاً،قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَدْرٍ،طَافَتْ بِالكَعْبَةِ وَأَخَذَتْ بِأَسْتَارِهَا،فَاسْتَنْصَرُوا بِاللهِ وَقَالُوا:( اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعَلَى الجُنْدَينِ،وَأَكْرِمَ الفِئَتَينِ،وَخَيْرَ القَبْلَتَيْنِ ).فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ وَمَعْنَاهَا:إِنْ تَسْتَنْصِرُوا بِاللهِ،وَتَسْتَحْكِمُوهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمُ المُؤْمِنِينَ،فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ.وَإِنْ تَنْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ بِاللهِ،وَالتَّكْذِيبِ لِرَسُولِهِ،فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ،وَإِنْ عُدْتُمْ إلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ وَمُحَارَبَةِ النَّبِيِّ وَالمُؤْمِنينَ وَعَدَاوَتِهِمْ،نَعُدْ لَكُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الوَقْعَةِ،وَلَنْ تَنْفَعَكُمْ وَلَنْ تُفِيدَكُمْ ( تُغْنِي عَنْكُمْ ) جُمُوعُكُمْ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 785)(1/65)
شَيْئاً،وَلَنْ تُحَقِّقَ لَكُمُ النَّصْرَ،فَإِنَّ اللهَ مَعَ رَسُولِهِ وَمَعَ المُؤْمِنِينَ،وَمَنْ كَانَ مَعَ اللهِ فَلاَ غَالِبَ لَهُ . (1)
وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (128) سورة النحل
إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَهُدَاهُ الذِينَ آمَنُوا،وَاتَّقَوْا مَحَارِمَ رَبِّهِمْ،فَاجْتَنَبُوهَا خَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ،وَالذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ،وَالقِيَامَ بِحُقُوقِهِ،وَلُزُومَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ،وَفِي تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ . (2)
وقال تعالى:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40) سورة التوبة
يا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لا تنفروا معه أيها المؤمنون إذا استَنْفَركم،وإن لا تنصروه; فقد أيده الله ونصره يوم أخرجه الكفار من قريش من بلده(مكة)،وهو ثاني اثنين(هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه) وألجؤوهما إلى نقب في جبل ثور "بمكة"،فمكثا فيه ثلاث ليال،إذ يقول لصاحبه(أبي بكر) لما رأى منه الخوف عليه:لا تحزن إن الله معنا بنصره وتأييده،فأنزل الله الطمأنينة في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،وأعانه بجنود لم يرها أحد من البشر وهم الملائكة،فأنجاه الله من عدوه وأذل الله أعداءه،وجعل كلمة الذين كفروا السفلى.وكلمةُ الله هي العليا،،ذلك بإعلاء شأن الإسلام.والله عزيز في ملكه،حكيم في تدبير شؤون عباده.وفي هذه الآية منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. (3)
السابع والعشرون:أهل الإيمان في أمنٍ منَ الخوف والحزن :
قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (48) سورة الأنعام
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1180)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2029)
(3) - التفسير الميسر - (3 / 282)(1/66)
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي،ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها اللّه للإنسان استخداما كاملا في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود،وفي أطوار الحياة،وفي أسرار الخلق والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه ..
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان،أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله.وهي في ذاتها خوارق معجزة ..ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود،ويتألف منها قوامه.وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند اللّه باهر،معجز في تعبيره ومعجز في منهجه،ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال.والذي لم يلحق به من بعده أي مثال! وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة،وتوجيها طويلا،حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة،وهذا المدى من الرقي وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري،في ظل التوجيه الرباني،والضبط القرآني،والتربية النبوية ..قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد،بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك،مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية! وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول،وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر،يرسله اللّه ليبشر وينذر،وهنا تنتهي وظيفته،وتبدأ استجابة البشر،ويمضي قدر اللّه ومشيئته من خلال هذه الاستجابة،وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة ..فمن آمن وعمل صالحا يتمثل فيه الإيمان،فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف.فهناك المغفرة على ما أسلف،والثواب على ما أصلح ..(1/67)
ومن كذب بآيات اللّه التي جاءه بها الرسول،والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود.يمسهم العذاب بسبب كفرهم،الذي يعبر عنه هنا بقوله:«بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» حيث يعبر القرآن غالبا عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع ..
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض.وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين ..
تصور يفرد اللّه سبحانه بالألوهية وخصائصها ويرد إلى مشيئة اللّه وقدره الأمر كله،ويجعل للإنسان - من خلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه،ويبين مصائر الطائعين للّه والعصاة بيانا حاسما وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله،مما كان سائدا في الجاهليات ..وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية،والجدل اللاهوتي،الذي استنفد طاقة الإدراك البشري أجيالا بعد أجيال!!! (1)
إنّ على المؤمن بربه أن يستحضر الأدلة والآيات التي تجعل إيمانه بربه إيماناً قوياً معقوداً؛ وهذا عمل القلب.ويعرف المؤمن أن عمل القلب لا يكفي كتعبير عن الإيمان؛ لأن الكائن الحي ليس قلباً فقط،ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة،وكل الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج ربه،فلا بد من التعبير عن الإيمان بأن يصلح الإنسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا سليما.
إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول:إن قلبي مؤمن وسليم.لا،فليست المسألة في الإيمان هكذا،صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك عن أداء مطلوب الإيمان؟ لماذا لا تعطي عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر،لماذا لا تعطي العين فرصة لتعتبر وتستفيد من معطيات ما ترى؟ وكذلك اليد،واللسان،والأذن،والقدم،وكل الجوارح. ...
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1093)(1/68)
والإصلاح هو عمل الجوارح،فيفكر الإنسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس،ويسمع القول فيتبع أحسنه،ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعمال.ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده محكماً غاية الإحكام،ويرى الإنسان الأشياء التي لا دخل له فيها في هذا الكون وهي على أعلى درجات الصلاحية الراقية،فالمطر ينزل في مواسمه،والرياح تهب في مواسمها ومساراتها،وحركة الشمس تنتظم مع حركة الأرض،وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلاح المطلق.
إن الفساد يأتي مما للإنسان دخل فيه،فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة،وعدم وجود مساحات من الخضرة الكافية،ويفسد الهواء أيضاً بالآلات التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود.وعندما صنع الإنسان الآلات نظر إلى هواه في الراحة،وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها،ومثال ذلك:" عادم " السيارات الذي يزيد من تلوث البيئة،ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث.إلا أن البعض يتراخى في الأخذ بها.
ونحن حين نأخذ بقمة الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع الآلات ونأخذ من الآلات ما يفيد الناس،فنعمل على الأخذ بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الأذى عن حياة الناس.فالعادم الذي من صناعتنا - مثل عادم السيارات والآلات - يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في الإنسان.
إن علينا أن نعرف أن من مسئولية الإيمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة عنه،وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس في مقدور كل إنسان أن يشتري سيارة ليركبها،فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه ألا يصلح من تلك الآلة التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس؟ لذلك فعلى المسلم ألا يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الأخذ بأسباب الحضارة من قواعدها الأصلية،وأن يدرس كيفية تجنب الأضرار حتى لا نقع في دائرة الأخسرين أعمالاً،هؤلاء الذين قال فيهم الحق(1/69)
سبحانه:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف:103-104].ولنا أن نأخذ المثل الأعلى دائماً من الكون الذي خلقه الله لنصونه،إن عادم وأثر وناتج أي شيء مخلوق لله يفيد الإنسان ويفيد الكون حتى فضلات الحيوان يُنتفع بها في تسميد الأرض وزيادة خصوبتها.وهكذا نعرف معنى:{ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }. ... ...
فالإيمان عمل القلب،والإصلاح عمل الجوارح،ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من صلاحه.ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصاً وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص،ليس الأمر كذلك،ولكننا أردنا أن نترف في الحياة،وما دمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق لله في المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة لله.وأن نتفاعل معها بالطاقات والجوارح المخلوقة لله،ما دمنا نريد أن نتنعم نعيماً فوق ضروريات الحياة.
ومثال ذلك أننا قديماً وفي أوائل عهد البشرية بالحياة،كان الإنسان عندما يعاني من العطش،يشرب من النهر،وبعد ذلك وجد الإنسان أنه لا يسعد بالارتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء النهر،فصنع إناءً من فخار ليشرب منه الماء،ثم صنع إناءً من الصاج،ثم صنع إناء من البلور،فهل هذه الأشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة؟
إنها من ترف الحياة.فإن أردت أن تترف حياتك فلتُعمل عقلك المخلوق لله في العناصر المخلوقة لله،بالطاقة والجوارح المخلوقة لله،وبذلك يهبك الله من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في الكون.ومثال ذلك:أن أهل الريف قديماً كانوا يعتمدون على نسائهم ليملأن الجرار من الآبار أو الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه.وعندما ارتقينا قليلاً،كان هناك من الرجال من يعمل في مهنة السقاية،ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت.وعندما قام أهل العلم بالاستنباط والاعتبار اكتشفوا قانون الاستطراق،فرفعوا المياه إلى خزانٍ عالٍ،وامتدت من الخزان " مواسير " وأنابيب مختلفة الأقطار والأحجام،وصار الماء موجوداً في كل منزل،هذا ما فعله الناس الذين استخدموا العقول المخلوقة لله.
وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه،فالأسرة كانت تكتفي بملء قربة أو قربتين من الماء،ولكن بعد أن صارت في كل منزل،أساء الكثير من الناس(1/70)
استخدام المياه،فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم،وتمثل ضغطاً على " مواسير " الصرف الصحي،فتنفجر ويشكو الناس من طفح المجاري.
إن على المسلم أن يرعى حق الله في استخدامه لكل شيء،فالماء الذي يهدره الإنسان قد يحتاج إليه إنسان آخر،وعندما نتوقف عن إهداره،نمنع الضرر عن أنفسنا وعن غيرنا من طفح " مواسير " الصرف الصحي.وليحسب كل منا - على سبيل المثال - كم يستهلك من مياه في أثناء الوضوء.إن الإنسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلاثاً ويتمضمض ثلاثاً،ويستنشق ثلاثاً،ويغسل وجهه ثلاثاً،ويغسل ذراعيه ثلاثاً،ويمسح برأسه،ويغسل أقدامه.ويترك الإنسان الصنبور مفتوحاً طَوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه،ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه. ... ... ...
فلماذا لا يفكر المسلم في أن يأخذ قدراً من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء؟ وكان الإنسان يتوضأ قديماً من إناء به نصف لتر من الماء،فلماذا لا نحسن استخدام ما استخلفنا الله فيه؟
على الإنسان منا أن يعلم أن الإيمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلاة ليصلح الإنسان من نفسه،يقتضي - أيضاً - إصلاح السلوك فلا نبذر ونهدر فيما نملك من إمكانات،وأن ندرس كيفية الارتقاء بالصلاح،فلا نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في الشيء السابق،بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى لا يدخل الإنسان منا في مناقضة قوله الحق:{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الإسراء:36].
أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم القيامة،لذلك لا يصح أن تتوانى عن الأخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك.وبذلك لا يكون هناك خوف عليك في الدنيا أو الآخرة؛ لأنك آمنت وأصلحت،وأيضاً لا حزن يمسك في الدنيا ولا في الآخرة:{ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.(1/71)
إنك بذلك تصون نفسك في الآخرة وفي الدنيا أيضاً؛ لأنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا متبعاً قوانين الله.وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عطِّل،إن رأيت فقيراً جائعاً أو عرياناً فاعلم أن حقاً من حقوقه قد أكله أو جحده غيره؛ لأن الذي خلق الكون،خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه،لكن الغني قبض يده عن حق الله،وأيضاً جاء قوم يتسولون بغير حاجة للتسول،والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين:ناحية إنسان استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره،أو من إنسان آخر غني لا يؤدي حق الله في ماله،بذلك يعاني المجتمع من المتاعب. (1)
وقال تعالى:{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) [الزخرف:68 -69] }
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ:يَا عِبَادِي لاَ تَخَافُوا مِنْ عِقَابِي،فَقَدْ آمَنْتُكُمْ مِنْهُ،وَرَضِيتُ عَنْكُمْ،وَلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ فِي الدُّنْيَا.فَالذِي أدَّخَرْتُهُ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ صِفَةَ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الأَمْنَ مِنَ اللهِ،وَالرِّضَا،فَلاَ يَخَافُونَ العَذَابَ،وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا،فَقَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ،وَصَفَتْ نُفُوسُهُمْ،وانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله بَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ . (2)
الثامن والعشرون:الأجر الكبير :
قال تعالى :{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء
إن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد يرشد الناس إلى أحسن الطرق،وهي ملة الإسلام،ويبشر المؤمنين الذين يعملون بما أمرهم الله به،وينتهون عمَّا نهاهم عنه،بأن لهم
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 830)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4272)(1/72)
ثوابًا عظيمًا،وأن الذين لا يصدقون بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء أعددنا لهم عذابًا موجعًا في النار. (1)
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم،فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق،وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور،بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض،والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة،وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء،وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه،وبين مشاعره وسلوكه،وبين عقيدته وعمله،فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم،متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض،وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه،ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة،فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء.ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار.ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا،وحكومات وشعوبا،ودولا وأجناسا،ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض.الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه،وهو أعلم بمن خلق،وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل،فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 4)(1/73)
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها،وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..«وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً،وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء.فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه.فلا إيمان بلا عمل،ولا عمل بلا إيمان.الأول مبتور لم يبلغ تمامه،والثاني مقطوع لاركيزة له.وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم ..وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن،فهم متروكون لهوى الإنسان.الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره،المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:«وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ..
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها.ولقد يفعل الفعل وهو شر،ويعجل به على نفسه وهو لا يدري.
أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه ..فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان.هدى القرآن وهو الإنسان! ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه اللّه لهم في الكتاب،وما يدل عليه هذا القضاء من سنن اللّه في العباد،ومن قواعد العمل والجزاء والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم .. (1)
التاسع والعشرون:الأجر غير الممنون :
قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (8) سورة فصلت
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2215)(1/74)
إِنَّ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَكُتُبِهِ،وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ،وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ فَإِنَّ اللهَ يَعِدُهُمْ بِأَنْ يَجْزِيَهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ الصَّالِحِ جَزَاءً كَرِيماً غَيْرَ مَقْطَوعٍ وَلاَ مَمْنُوعٍ . (1)
وقال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (25) سورة الانشقاق
وقال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (6) سورة التين
الثلاثون:القرآن إنما هو هُدىً ورحمةٌ للمؤمنين, وشفاءٌ ورحمة،وهو لهم هدى وشفاء :
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (57) سورة يونس
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم تذكِّركم عقاب الله وتخوفكم وعيده،وهي القرآن وما اشتمل عليه من الآيات والعظات لإصلاح أخلاقكم وأعمالكم،وفيه دواء لما في القلوب من الجهل والشرك وسائر الأمراض،ورشد لمن اتبعه من الخلق فينجيه من الهلاك،جعله سبحانه وتعالى نعمة ورحمة للمؤمنين،وخصَّهم بذلك; لأنهم المنتفعون بالإيمان،وأما الكافرون فهو عليهم عَمَى. (2)
وقال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء
وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنَ القُرْآنِ مَا يُسْتَشَفَي بِهِ مِنَ الجَهْلِ وَالضَّلاَلِ،وَمَا يُذْهِبُ مَا فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَْمْرَاضِ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ،وَالشِّرْكِ وَالزَّيْغِ،وَيَشْفِي مِنْهَا،وَهُوَ رَحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ،وَعَمِلَ بَأَوَامِرِهِ،وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ.أَمَّا الكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يَزِيدُهُمْ سَمَاعُ القُرْآنِ إِلاَّ بُعْداً عَنِ الإِيمَانِ وَكُفْراً،وَعُتُوّاً وَخَسَاراً،لأَنَّهُمْ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ . (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4105)
(2) - التفسير الميسر - (3 / 429)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2112)(1/75)
وقال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (44) سورة فصلت
ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه عليك -أيها الرسول- أعجميًا،لقال المشركون:هلا بُيِّنتْ آياته،فنفقهه ونعلمه،أأعجمي هذا القرآن،ولسان الذي أنزل عليه عربي؟ هذا لا يكون.قل لهم -أيها الرسول-:هذا القرآن للذين آمنوا بالله ورسوله هدى من الضلالة،وشفاء لما في الصدور من الشكوك والأمراض،والذين لا يؤمنون بالقرآن في آذانهم صمم من سماعه وتدبره،وهو على قلوبهم عَمًى،فلا يهتدون به،أولئك المشركون كمن يُنادى،وهو في مكان بعيد لا يسمع داعيًا،ولا يجيب مناديًا. (1)
الحادية والثلاثون:أهل الإيمان:لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ :
قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} سورة الأنفال
يُعَرِّفُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ:الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ فَزِعَتْ قُلُوبُهُمْ وَخَافَتْ ( وَجِلَتْ )،وَعَمِلَتْ بِمَا أَمَرَ اللهُ،وَتَرَكَتْ مَا نَهَى عَنْهُ.فَالمُؤْمِنُونَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَهُمُّوا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ يَظْلِمُوا،وَقِيلَ لَهُمْ:اتَّقُوا اللهَ،ارْتَدَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ خَوْفاً مِنَ اللهِ.وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ عَلَيْهِمْ رَسَّخَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَزَادَ فِيهِ،وَهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ،لاَ يَرْجُونَ سِوَاهُ،وَلاَ يَلُوذُونَ إِلاَّ بِجَناَبِهِ،وَلاَ يَسْأَلُونَ غَيْرَهُ .
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى إِيمَانَ المُؤْمِنِينَ وَاعْتِقَادَهُم،أَشَارَ هُنَا إلَى أعْمَالِهِمْ،فَقَالَ:إِنَّهُمْ يُؤَدُّونَ الصَّلاَةَ حَقَّ أَدَائِها،بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قُلُوبٍ،وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ جِهَادٍ،وَزَكَاةٍ،وَصَدَقَاتٍ،وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَاتِ كُلَّهَا .وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصَّفَاتِ هُمُ
__________
(1) - التفسير الميسر - (8 / 411)(1/76)
المُؤْمِنُونَ حَقَّ الإِيمَانِ،لَهُمْ دَرَجَاتٌ مِنَ الكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ رَبِّهِمْ،وَلَهُمْ مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ فِي الجَنَّاتِ،وَيَغْفِرُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ،وَيَشْكُرُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ،وَيَرْزُقُهُمْ رِزْقاً طَيِّباً وَافِراً كَرِيماً . (1)
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (74) سورة الأنفال
والذين آمنوا بالله ورسوله،وتركوا ديارهم قاصدين دار الإسلام أو بلدًا يتمكنون فيه من عبادة ربهم،وجاهدوا لإعلاء كلمة الله،والذين نصروا إخوانهم المهاجرين وآووهم وواسوهم بالمال والتأييد،أولئك هم المؤمنون الصادقون حقًا،لهم مغفرة لذنوبهم،ورزق كريم واسع في جنات النعيم. (2)
أولئك هم المؤمنون حقا ..فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان ..هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين ..إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها ..إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي،إلا إذا تمثل في تجمع حركي ..أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي،لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..وهؤلاء المؤمنون حقا،لهم مغفرة ورزق كريم ..والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله ..وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم.بل هي أكرم الرزق الكريم. (3)
الثانية والثلاثون:الإيمان الكامل يمنع من دخول النار،والإيمان الضعيف يمنع من الخلود فيها :
فإنّ من آمن إيماناً أدّى به جميع الواجبات،وترك جميع المحرَّمات؛ فإنه لا يدخل النار،كما أنه لا يُخلّد في النار من كان في قلبه شيء من الإيمان.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1163)
(2) - التفسير الميسر - (3 / 241)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1560)(1/77)
قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) } [الأنبياء/101-103]
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،قَالَ:" تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصِلُ الرَّحِمَ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ،عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزَاةٍ،فَأَصَابَ النَّاسَ مَخْمَصَةٌ،فَأَسْتَأْذَنَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَحْرِ بَعْضِ ظُهُورِهِمْ،فَقَالُوا:يُبْلِغُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا،فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ هَمَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي نَحْرِ بَعْضِ ظُهُورِهِمْ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،كَيْفَ بِنَا نَحْنُ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا جِيَاعًا رِجَالا،وَلَكِنْ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَدْعُو النَّاسَ بِبَقَايَا أَزْوَادِهِمْ،فَيَجْمَعُها،ثُمَّ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ،فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُبَلِّغُنَا بِدَعْوَتِكَ،فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَقَايَا أَزْوَادِهِمْ،فَجَعَلَ النَّاسُ يَجِيئُونَ بِالْحِفْنَةِ مِنَ الطَّعَامِ،وَفَوْقَ ذَلِكَ،فَكَانَ أَعْلاهُمْ مَنْ جَاءَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ،فَجَمَعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ قَامَ،فَدَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَدْعُوَ،ثُمَّ دَعَا الْجَيْشَ بِأَوْعِيَتِهِمْ،وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْثُوا،فَمَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وِعَاءٌ إِلا مَلَؤُهُ،وَبَقِيَ مِثْلُهُ،فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ،فَقَالَ:أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَإِنِّي رَسُولُ اللهِ لا يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدٌ يُؤْمِنُ بِهَا إِلا حَجَبَهُ عَنِ النَّارِ" (2)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِى الْمَوْتِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَهْلاً لِمَ تَبْكِى فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ لأَشْهَدَنَّ لَكَ وَلَئِنْ شُفِّعْتُ لأَشْفَعَنَّ لَكَ وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ لأَنْفَعَنَّكَ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلاَّ حَدَّثْتُكُمُوهُ إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ » (3) .
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 326) (7568 ) صحيح
(2) - الآحاد والمثاني (2004) حسن
(3) - صحيح مسلم (151)(1/78)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ».قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.قَالَ « يَا مُعَاذُ ».قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.ثَلاَثًا،قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ».قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا ».وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا (1) .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا يَسْأَلُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلاَثاً إِلاَّ قَالَتِ الْجَنَّةُ اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ وَلاَ اسْتَجَارَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ اللَّهَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثاً إِلاَّ قَالَتِ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ ». (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ » (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ،وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا " (4)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ:لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً،أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ:لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً،أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ:لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً . (5)
__________
(1) - البخاري(128 )
(2) - مسند أحمد (12774) صحيح
(3) - مسند أحمد(15334) صحيح
(4) - شرح السنة للبغوي(4168) صحيح
(5) - مسند أبي عوانة (338 ) صحيح(1/79)
وعَنْ حُذَيْفَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:يَا رَبَّاهُ،فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ وَعَلاَ:يَا لَبَّيْكَاهُ،فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ:يَا رَبِّ حَرَّقْتَ بَنِيَّ،فَيَقُولُ:أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ أَوْ شَعِيرَةٌ مِنْ إِيمَانٍ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ النَّاسُ:يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟قَالُوا:لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟قَالُوا:لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيَقُولُ:مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ،فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ،وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ،وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ،وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا،فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ:أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ:نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَقَامُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا،فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ،قَالَ:فَيَأْتِيهِمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ:أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا،وَيُضْرَبُ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ،وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ:اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ،وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ،هَلْ تَدْرُونَ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟قَالُوا:نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ،فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ،فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ،وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ،ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ،وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ،مَنْ أَرَادَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ،فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ،قَالَ:وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ،قَالَ:فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ،يُقَالُ لَهُ:مَاءُ الْحَيَاةِ،فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ،قَالَ:وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ،فَيَقُولُ:يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا،وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا،فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ:فَلَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،فَيَقُولُ:لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ،ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ:يَا رَبِّ،قَرِّبْنِي إِلَى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 382) (7378) صحيح(1/80)
بَابِ الْجَنَّةِ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،فَيَقُولُ:لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،وَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ،فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا قَرَّبَهُ مِنْهَا انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ،فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ،ثُمَّ يَقُولُ:يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَيَقُولُ:يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ،قَالَ:فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ جَلَّ وَعَلاَ،فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ دُخُولِ الْجَنَّةِ،فَإِذَا دَخَلَ قِيلَ لَهُ:تَمَنَّ كَذَا وَتَمَنَّ كَذَا،فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ:هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ،قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ،فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:حَفِظْتُ:هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا،وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا،فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ.فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى،فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى،فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ.فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى.فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى،فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ،فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا.أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا.فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّى،أَوْ تَضْحَكُ مِنِّى وَأَنْتَ الْمَلِكُ ».فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ،وَكَانَ يُقَالُ ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً . (2)
الكبو:الحبو -النواجذ:جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 16 / ص 450)(7429) صحيح
(2) - صحيح البخارى(6571 ) وصحيح مسلم(479 )(1/81)
وعَنْ حُذَيْفَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:يَا رَبَّاهُ،فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ وَعَلاَ:يَا لَبَّيْكَاهُ،فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ:يَا رَبِّ حَرَّقْتَ بَنِيَّ،فَيَقُولُ:أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ أَوْ شَعِيرَةٌ مِنْ إِيمَانٍ. (1)
وعن مَعْبَدَ بْنِ هِلالٍ،قَالَ:اجْتَمَعْنَا نَاسُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ،فَانْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ،يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ،وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ،وَقَالَ:خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ،فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّانِ قُلْنَا:لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَنِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ،وَهُوَ مُسْتَخْفِي فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ،فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَحَدَّثْنَاهُ الْحَدِيثَ،فَقَالَ:قَدْ حَدَّثَنَاهُ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً،وَلَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا مَا أَدْرِي أَنَسِيَ الشَّيْخُ أَمْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلُوا،قُلْنَا لَهُ:حَدَّثَنَا،فَقَالَ:قال يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - :ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ،ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا،فَيُقَالُ:يَا مُحَمَّدُ،ارْفَعْ،وَقُلْ تُسْمَعْ لَكَ،وَسَلْ تُعْطَ،وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،فَأَقُولُ:يَا رَبِّ،ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ:لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،قَالَ:لَيْسَ ذَاكَ لَكَ أَوْ قَالَ:لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ،وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ:لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،قَالَ:فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (2) .
الثالثة والثلاثون : الإيمان أعظم منة يمن بها الله تعالى على الإنس والجن :
إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها اللّه على عبد من عباده في الأرض.إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه اللّه ابتداء لهذا العبد وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع.
إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة وتجعل له في نظام الكون دورا أصيلا عظيما.
وأول ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري،حين تستقر حقيقته في قلبه،هو سعة تصوره لهذا الوجود،ولارتباطاته هو به،ولدوره هو فيه وصحة تصوره للقيم والأشياء والأشخاص
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 16 / ص 382)(7378) ومسند أبي عوانة(330) صحيح
(2) - مسند أبي عوانة (337) صحيح(1/82)
والأحداث من حوله وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى اللّه،وأنسه بكل ما في الوجود حوله،وأنسه باللّه خالقه وخالق هذا الوجود وشعوره بقيمته وكرامته وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى عنه اللّه،ويحقق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه.
فمن سعة تصوره أن يخرج من نطاق ذاته المحدودة في الزمان والمكان،الصغيرة الكيان،الضئيلة القوة.
إلى محيط هذا الوجود كله،بما فيه من قوى مذخورة،وأسرار مكنونة وانطلاق لا تقف دونه حدود ولا قيود في نهاية المطاف.
فهو،بالقياس إلى جنسه،فرد من إنسانية،ترجع إلى أصل واحد.هذا الأصل اكتسب إنسانيته ابتداء من روح اللّه.من النفخة العلوية التي تصل هذا الكائن الطيني بالنور الإلهي.النور الطليق الذي لا تحصره سماء ولا أرض ولا بدء ولا انتهاء.فلا حد له في المكان،ولا حد له في الزمان.وهذا العنصر الطليق هو الذي جعل من المخلوق البشري هذا الإنسان ..ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان ليرفعه في نظر نفسه،وليكرمه في حسه،وليشعره بالوضاءة والانطلاق وقدماه تدبان على الأرض،وقلبه يرف بأجنحة النور إلى مصدر النور الأول الذي منحه هذا اللون من الحياة.
وهو،بالقياس إلى الفئة التي ينتسب إليها،فرد من الأمة المؤمنة.الأمة الواحدة،الممتدة في شعاب الزمن،السائرة في موكب كريم،يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين،صلوات اللّه عليهم أجمعين ..ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان،فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة،العميقة الجذور،الممتدة الفروع،المتصلة بالسماء في عمرها المديد ..يكفي أن يشعر الإنسان هذا الشعور ليجد للحياة طعما آخر وليحس بالحياة إحساسا جديدا،وليضيف إلى حياته هذه حياة كريمة،مستمدة من هذا النسب العريق.
ثم يتسع تصوره ويتسع حتى يتجاوز ذاته وأمته وجنسه الإنساني ويرى هذا الوجود كله.الوجود الصادر عن اللّه،الذي عنه صدر،ومن نفخة روحه صار إنسانا.ويعرفه إيمانه(1/83)
أن هذا الوجود كله كائن حي،مؤلف من كائنات حية.وأن لكل شيء فيه روحا،وأن لهذا الكون كله روحا ..وأن أرواح الأشياء،وروح هذا الكون الكبير،تتوجه إلى بارئها الأعلى - كما تتوجه روحه هو - بالدعاء والتسبيح وتستجيب له بالحمد والطاعة،وتنتهي إليه بالإذعان والاستسلام.فإذا هو في كيان هذا الكون،جزء من كل،لا ينفصل ولا ينعزل.صادر عن بارئه،متجه إليه بروحه،راجع في النهاية إليه.وإذا هو أكبر من ذاته المحدودة.أكبر بقدر تصوره لضخامة هذا الوجود الهائل.وإذا هو مأنوس بكل ما حوله من أرواح.ومأنوس بعد ذلك كله بروح اللّه التي ترعاه.وعندئذ يشعر أنه يملك أن يتصل بهذا الوجود كله،وأن يمتد طولا وعرضا فيه وأنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة،وأن ينشئ أحداثا ضخمة،وأن يؤثر بكل شيء ويتأثر.ثم يملك أن يستمد مباشرة من تلك القوة الكبرى التي برأته وبرأت كل ما في الوجود من قوى وطاقات.القوة الكبرى التي لا تنحسر ولا تضعف ولا تغيب.
ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات.ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود،ومهمته الحقيقية في هذه الحياة.بوصفه قدرا من أقدار اللّه في الكون،يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء.ويمضي في رحلته على هذا الكوكب،ثابت الخطو،مكشوف البصيرة،مأنوس الضمير.
ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله،ولحقيقة الدور المقسوم له،ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور.من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله،ولما يقع له.فهو يعرف من أين جاء؟ ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا هو واجد هناك؟ وقد علم أنه هنا لأمر،وأن كل ما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر.وعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة،وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة،وأنه لم يخلق عبثا،ولن يترك سدى،ولن يمضي مفردا ..(1/84)
ومن هذه المعرفة تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير وعدم رؤية المطوي من الطريق،وعدم الثقة بالحكمة التي تكمن وراء مجيئه وذهابه،ووراء رحلته في ذلك الطريق.
يختفي شعور كشعور الخيام الذي يعبر عنه بما ترجمته:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدر لماذا جئت أين المقر؟
فالمؤمن يعرف - بقلب مطمئن،وضمير مستريح،وروح مستبشرة - أنه يلبس ثوب العمر بقدر اللّه الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخيبر.وأن اليد التي ألبسته إياه أحكم منه وأرحم به،فلا ضرورة لاستشارته لأنه لم يكن ليشير كما يشير صاحب هذه اليد العليم البصير.وأنه يلبسه لأداء دور معين في هذا الكون،يتأثر بكل ما فيه،ويؤثر في كل ما فيه.وأن هذا الدور يتناسق مع جميع الأدوار التي يقوم بها كل كائن من الأشياء والأحياء منذ البدء حتى المصير.
وهو يعلم إذن لماذا جاء،كما أنه يعرف أين المقر،ولا يحار بين شتى الفكر،بل يقطع الرحلة ويؤدي الدور في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين.وقد يرتقي في المعرفة الإيمانية،فيقطع الرحلة ويؤدي الدور في فرح وانطلاق واستبشار،شاعرا بجمال الهبة وجلال العطية.هبة العمر - أو الثوب - الممنوح له من يد الكريم المنان،الجميل اللطيف،الودود الرحيم.وهبة الدور الذي يؤديه - كائنا ما كان من المشقة - لينتهي به إلى ربه في اشتياق حبيب! ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق،قبل أن أحيا في ظلال القرآن،وقبل أن يأخذ اللّه بيدي إلى ظله الكريم.ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله،فعبرت عنه أقول:
وقف الكون حائرا أين يمضي؟ ولماذا وكيف - لو شاء - يمضي؟
عبث ضائع وجهد غبين ومصير مقنّع ليس يرضي
فأنا أعرف اليوم - وللّه الحمد والمنة - أنه ليس هناك جهد غبين فكل جهد مجزي.وليس هناك تعب ضائع فكل تعب مثمر.وأن المصير مرض وأنه بين يدي عادل رحيم.وأنا أشعر(1/85)
اليوم - وللّه الحمد والمنة - أن الكون لا يقف تلك الوقفة البائسة أبدا فروح الكون تؤمن بربها،وتتجه إليه،وتسبح بحمده.والكون يمضي وفق ناموسه الذي اختاره اللّه له،في طاعة وفي رضى وفي تسليم! وهذا كسب ضخم في عالم الشعور وعالم التفكير،كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب،فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثر والتأثير.
والإيمان - بعد - قوة دافعة وطاقة مجمعة.فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل،ولتحقق ذاتها في الواقع،ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة.كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها،وتدفعها في الطريق ..
« ذلك سر قوة العقيدة في النفس،وسر قوة النفس بالعقيدة.سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض وما تزال في كل يوم تصنعها.الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم،وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار،فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد مؤمن.
وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعا،ولكنها القوة الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح،والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضاعف» .
«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة،ولا تعتمد على التهاويل والرؤى.إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة.إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخفية،وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة،وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة،بقوة اليقين في النصر،وقوة الثقة في اللّه.وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء،وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه،وتجمع طاقاته وقواه كلها،وتدفعها في اتجاه.ومن هنا كذلك قوتها.قوة تجميع القوى والطاقات حول محور واحد،وتوجيهها في اتجاه واحد،تمضي إليه مستنيرة الهدف،في قوة،وفي ثقة،وفي يقين» .(1/86)
ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهره وخافيه.وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة تتجه اتجاها إيمانيا،فيلتقي بها المؤمن في طريقه،وينضم إلى زحفها الهائل لتغليب الحق على الباطل.مهما يكن للباطل من قوة ظاهرة لها في العيون بريق! وصدق اللّه العظيم:«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.قُلْ:لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ.بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».فهي المنة الكبرى التي لا يملكها ولا يهبها إلا اللّه الكريم،لمن يعلم منه أنه يستحق هذا الفضل العظيم.
وصدق اللّه العظيم.فماذا فقد من وجد الأنس بتلك الحقائق والمدركات وتلك المعاني والمشاعر؟ وعاش بها ومعها،وقطع رحلته على هذا الكوكب في ظلالها وعلى هداها؟ وماذا وجد من فقدها ولو تقلب في أعطاف النعيم.وهو يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام.والأنعام أهدى لأنها تعرف بفطرتها الإيمان وتهتدي به إلى بارئها الكريم؟ (1)
الرابعة والثلاثون : الإيمان بالله وحده يجعل الإنسان المؤمن لا يخاف إلا الله،ولا يهاب غيره
فالتعبد لإله واحد،يرفع الإنسان عن العبودية لسواه،ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد،فلا يذل لأحد،ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار ..ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان.الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود.إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد.
فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا،لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد.
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه،وكل ما يربطه باللّه،أو بالوجود،أو بالناس.فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة،وتحل محلهما الشريعة والعدالة.
وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه،وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها،وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة ..ولو كان فردا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3351)(1/87)
واحدا،لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من اللّه مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق،وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة،مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد،وبلا وساطة في الطريق.ويودع القلب نورا،والروح طمأنينة،والنفس أنسا وثقة.وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق،والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء! والاستقامة على المنهج الذي يريده اللّه.فلا يكون الخير فلتة عارضة،ولا نزوة طارئة،ولا حادثة منقطعة.
إنما ينبعث عن دوافع،ويتجه إلى هدف،ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في اللّه،فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح،والراية الواحدة المتميزة.كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين.
والاعتقاد بكرامة الإنسان على اللّه،يرفع من اعتباره في نظر نفسه،ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه اللّه إليها.وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه ..أنه كريم عند اللّه ..وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه،ويرده إلى منبت حقير،ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى ..هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة! ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني،فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع،ليس فيه ما يستغرب،ومن ثم ليس فيه ما يخجل ..وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء «3»!
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على اللّه.ثم برقابة اللّه على الضمائر واطلاعه على السرائر.وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما،ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره.والمؤمن يحس وقع نظر اللّه - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز.فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه! والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان(1/88)
بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم،يكره الشر ويحب الخير.ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة،وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية،ومن رزانة وتدبر.وهي ليست تبعة فردية فحسب،إنما هي كذلك تبعة جماعية،وتبعة تجاه الخير في ذاته،وإزاء البشرية جميعا ..أمام اللّه ..وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله،فيكبر في عين نفسه،ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله ..إنه كائن له قيمة في الوجود،وعليه تبعة في نظام هذا الوجود ..
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند اللّه،وهو خير وأبقى.«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» ..والتنافس على ما عند اللّه يرفع ويطهر وينظف ..يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن ..بين الدنيا والآخرة،والأرض والملأ الأعلى.مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة.فهو يفعل الخير لأنه الخير،ولأن اللّه يريده،ولا عليه ألا يدرّ الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود.فاللّه الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى،ولا يغفل شيئا من عمله.والأرض ليست دار جزاء.والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب.وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا،لا دفعة طارئة،ولا فلتة مقطوعة.وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر.سواء تمثل في طغيان طاغية،أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية،أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته.هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه،وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير،وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير،الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير،وتتعلق به كل ثمرة من ثماره،وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته،صائر إلى ذبول وجفاف.وإلا فهي ثمرة(1/89)
شيطانية،وليس لها امتداد أو دوام! وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة.وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء،ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات ..
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال،ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون،وتنسلك في طريق واحد،وفي حركة واحدة،لها دافع معلوم،ولها هدف مرسوم ..
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل،ولا يشد إلى هذا المحور،ولا ينبع من هذا المنهج.والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة ..جاء في سورة إبراهيم:«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ.لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ» ..وجاء في سورة النور:«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً،حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» ..وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله،ما لم يستند إلى الإيمان،الذي يجعل له دافعا موصولا بمصدر الوجود،وهدفا متناسقا مع غاية الوجود.وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى اللّه.فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه.
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني،وتناسقه مع فطرة الكون كله،ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله.فهو يعيش في هذا الكون،وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب.ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان،بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق.فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل،كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى،وهو هذا الكيان الإنساني.وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران.ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح.
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية ..خاسرة أي خسران! والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان،والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب.فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة.ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح ..هذا(1/90)
هو الإيمان الإسلامي ..لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك،كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن ..فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت.
شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها.فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا.وإلا فهو غير موجود! ومن هنا قيمة الإيمان ..إنه حركة وعمل وبناء وتعمير ..يتجه إلى اللّه ..إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير.وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة.وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني.وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود.صادرة عن تدبير،متجهة إلى غاية.وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود.الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن اللّه. (1)
الخامسة والثلاثون : المؤمنون صمام الأمان للبشر جميعاً
قال تعالى:{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (117) سورة هود
وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن اللّه في الأمم.فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير اللّه،في صورة من صوره،فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية،لا يأخذها اللّه بالعذاب والتدمير.فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون،ويفسد فيها المفسدون،فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد،أو يكون فيها من يستنكر،ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد،فإن سنة اللّه تحق عليها،إما بهلاك الاستئصال.وإما بهلاك الانحلال ..والاختلال!
فأصحاب الدعوة إلى ربوبية اللّه وحده،وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره،هم صمام الأمان للأمم والشعوب ..وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3965)(1/91)
اللّه وحده،الواقفين للظلم والفساد بكل صوره ..إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب،إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب اللّه،واستحقاق النكال والضياع .. (1)
السادسة والثلاثون :شعور الإنسان أنه مبتلى وممتحن يمنحه مناعة ضد الاغترار :
قال تعالى:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (14) سورة يونس
وهي لمسة قوية للقلب البشري إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل،وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه،وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك،وإنما هي أيام يقضيها فيه،ممتحنا بما يكون منه،مبتلى بهذا الملك،محاسبا على ما يكسب،بعد بقاء فيه قليل!
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري ..فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع ..
يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى،هي صمام الأمن له،وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه.
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض،وبكل شيء يملكه،وبكل متاع يتاح له،يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا،ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به،والتي يصورها قول اللّه سبحانه:«لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..ليجعله شديد التوقي،شديد الحذر،شديد الرغبة في الإحسان،وفي النجاة أيضا من هذا الامتحان! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها! ..فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1932)(1/92)
بتلك التصورات القاصرة ..لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة،ولا في خلق،ولا في حركة كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان! والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان.ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة.وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة،ولا بمنتجات هذه الحياة أيضا!
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية،والنظام الإسلامي،بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر،لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان! (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1770)(1/93)
الباب الثاني
ثمرات أركان الإيمان
المبحث الأول
ثمراتُ الإيمان بالله تعالى
1- استشعارُ الإنسان عظمة ِالله سبحانه وتعالى وجلاله وكماله، مما يدفع الإنسان إلى الخوف واللجوء إليه والتقرب إليه حبا وتعظيما ومهابة وإجلالا،وكل ذلك يؤثر في حياة المؤمن تأثيرا كبيرا يدفعه إلى السلوك القويم رجاء ثواب الله تعالى وخوف عقابه،كما أنه يملأ قلبه حبا للخير فيسعى إلى دعوة غيره بالتي هي أحسن حتى يشترك معه في تحصيل هذا الخير،لذا قال الله تعالى في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - :{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) } سورة التوبة
2.استعلاءُ نفس المؤمن وتحرره من العبودية لغير الله تعالى، فلا يخاف إلا إياه، ولا يطمع إلا في رضاه.وهذا ما يربي فيه الخصال الحميدة من العزة والكرامة والصدق والشجاعة والسخاء،لأنه صار عبدا لله حقا يستمد عزه من عزته كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)سورة المنافقون ْ .وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)سورة الأنعام }
3.إضفاءُ الحياة معنى أكبر وأبعد من المعاني القاصرة المتصفة بالذاتية والأنانية،حيث إن المؤمن يعتقد جازما بأن هذه الدنيا مزرعةٌ للآخرة، وأن له بكل ما يبذل في هذه الدنيا حسنةً،قال تعالى :{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم/39-43] }(1/94)
4.تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة خلقه،وبيان أنه المتفرد بصفات الكمال والجلال، فلا يتطرق إلى قلب المؤمن شيءٌ من أوهام تشبيه أحد من الخلق بالله عز وجل، أو وصف ذلك المخلوق بصفات الكمال الواجبة لله تعالى .
5 - يثمر للعبد محبةَ الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره،واجتناب نهيه،وإذا قام العبد بذلك نال بهما كمال السعادة في الدنيا والآخرة .قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة
6 - إنَّ الإيمان بالله ينشئ في النفس الأنفة والعزة ؛ لأنه يعلم أن الله هو المالك الحقيقي لكل ما في هذا الكون،وأنه لا نافع ولا ضار إلا هو،وهذا العلم يغنيه عن غير الله،وينزع من قلبه خوف سواه،فلا يرجو إلا الله،ولا يخاف سواه .قال تعالى:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) [آل عمران/173-175] }
7 - إنَّ الإيمان بالله ينشئ في نفسه التواضع ؛ لأنه يعلم أن ما به من نعمة فمن الله،فلا يغره الشيطان،ولا يبطر ولا يتكبر،ولا يزهو بقوته وماله .قال تعالى:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل .
8 - إنَّ المؤمن بالله يعلم علم اليقين أنه لا سبيلَ إلى الفلاحِ والنجاةِ إلا بالعمل الصالح الذي يرضاه الله.قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (37) سورة سبأ،في حين يعتقد غيره اعتقادات باطلة كاعتقاد أن الله أمر بصلب ابنه تكفيرا عن خطايا البشر،أو يؤمن بآلهة ويعتقد أنها تحقق له ما يريد،وهي في حقيقتها لا تنفع ولا تضر،أو يكون ملحدا فلا يؤمن بوجود خالق ..وكل هذه أماني،حتى إذا وردوا على الله(1/95)
يوم القيامة وعاينوا الحقائق أدركوا أنهم كانوا في ضلال مبين .قال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) سورة الأنعام .}
9 - إنَّ الإيمان بالله يربي في الإنسان قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل،حينما يضطلع بمعالي الأمور في الدنيا ابتغاء لمرضاة الله،ويكون على يقين تام أنه متوكل على ملك السماوات والأرض،وأنه يؤيده ويأخذ بيده،فيكون راسخا رسوخ الجبال في صبره وثباته وتوكله
10-الأمن التام والاهتداء التام: فبحسب الإيمان يحصل الأمن والاهتداء في الدنيا والبرزخ والآخرة.قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام .
11-الاستخلافُ في الأرض والتمكين والعزة: قال الله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور .
12-دخول ُالجنان والنجاة من النيران: قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (12) سورة محمد
13-الحياةُ الطيبة: فالحياة الطيبة الحافلة بكل ما هو طيب-إنما هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله-عز وجل- قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل .
14-حلولُ الخيرات ونزولُ البركات: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (96) سورة الأعراف .(1/96)
15-الهدايةُ لكل خير: قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن .وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9) سورة يونس .وقال تعالى:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } (24) سورة الحج .
16-السلامةُ من الخسارة: قال تعالى:[وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ] (العصر: 1-3).
17-الإيمانُ بالله سببٌ لدفاع الله عن أهله: قال عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) سورة الحج .
18-تكفيرُ السيئات: قال تعالى:[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ] (محمد:2).
19-الرفعةُ والعلو: قال تعالى:{...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة .
20-إخلاصُ العملِ: فلا يمكن للعبد أن يقومَ بالإخلاص لله، ولعباد الله، ونصيحتهم على وجه الكمال إلا بالإيمان الحقيقي .فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي،قَالَ:أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ " (أخرجه الحاكم في المستدرك ) (1)
21-قوةُ التوكل: فالإيمان بالله يوجب للعبد قوة التوكل على الله، {..وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) سورة الطلاق .وقال تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال/2-5] }
__________
(1) برقم(7844) وهو حسن(1/97)
22-الشجاعةُ: فالإيمان بالله يبعث على الشجاعة والإقدام؛ لأنه يملأ قلب المؤمن بالخوف من الله، والخشية له، وتعظيمه، وإجلاله.قال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب
23-حسنُ الخلق: فالإيمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس، وإذا ضعف الإيمان أو نقص أو انحرف أثَّر ذلك في أخلاق العبد انحرافاً بحسب بُعْده عن الإيمان.قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل
24-الإعانةُ على تحمل المشاقِّ: فالإيمان أكبر عون على تحمل المشاق، والقيام بالطاعات، وترك الفواحش والمنكرات.
25-الذكرُ الحسن: فالإيمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبراً عند الخلق أميناً.
26-عزةُ النفس: فالإيمان يوجب للعبد العفة، وعزة النفس، والترفع عن إراقة ماء الوجه؛ تذللاً للمخلوقين.
27-إن َّالإيمان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الإسلام وهو الجهاد البدني والمالي والقولي في سبيل الله.
28- ولايةُ الله لعبده المؤمن .. قال تعالى:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ.فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ.فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ ».(أخرجه البخاري ) (1) .
29- استغفارُ الملائكة لهم.يقول الله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
__________
(1) - برقم( 3209 ) ومسلم برقم(6873 )(1/98)
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)[غافر/7-9] }
30- السعادةُ التي يجدها المسلم في لذة العبادة.وهي الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين يقول الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى،وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى،فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى،وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ،وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا،وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا،وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » .(أخرجه الشيخان ) (1) .
وقال العلامة ابن القيم رحمه في مدارج السالكين (2) : "فإنه لا نعيمَ له ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقربه والشوق إلى لقائهِ، فهذه جنته العاجلة،كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة،فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخلِ الأولى وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخلْ جنة الآخرة،وقال بعض العارفين:إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ أقول:إن ْكان أهلُ الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ،وقال بعض المحبين:مساكينٌ أهلُ الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قالوا:وما أطيبَ ما فيها ؟قال:محبةُ الله والأنسُ به والشوقُ إلى لقائه والإقبالُ عليه والإعراض ُعما سواه أو نحو هذا من الكلام، وكلُّ من له قلبٌ حيٌّ يشهدُ هذا ويعرفُه ذوقاً.."
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 7405 ) ومسلم برقم(6981)
(2) - مدارج السالكين - (ج 3 / ص 7)(1/99)
31- ُ من سلطان الشيطان .ذلك أن الشيطانَ يوسوسُ لكل أحد ويدلُّه إلى ما يهلكه،وقد جعل الله لعباده المؤمنين حصوناً يمتنعون فيها من وسوسته،يقول الله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الله أكبر إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الله أكبر إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } سورة النحل(98 ـ 100)
32- يمدُّ الإنسان بقدرةٍ كبيرةٍ على تحمُّل المصائب.قال تعالى:{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (146) سورة آل عمران .
وعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».( رواه مسلم ) (1) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - برقم( 7692 )(1/100)
المبحث الثاني
ثمرات الإيمان بالملائكة
إنَّ الله -عز وجل- لم يطلع الناس على شيء من غيبه إلا وكان فيه نعمة عظيمة لهم، ومن فضل الله علينا أن ْ عَرَّفَنَا بهذه المخلوقات الكريمة.وجعل الإيمان بها من الإيمان بالغيبِ الذي يعد أول صفة للمتقين.قال تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }[البقرة: 1-3].
ومن هذه الثمرات :
1.وقوف المؤمن على عظيم قدرة الله تعالى،وذلك واضح في عظم خلق الملائكة.
2- اطمئنان المؤمن إلى أنه محاطٌ برعاية الله تعالى له، بهؤلاء الخلق العظام الذين يرعون شؤونه، ويسيرون كثيرا من شؤون الكون بإذن الله تعالى.
3- حثُّ المؤمن على العمل الصالح وزجره عن السيئات، حيث أن الملائكة يترصدون جميع أعماله ويسجلونها عليه.
4- إغلاقُ باب الخرافة والتخيلاتِ الباطلة والاعتقاد الزائف في الملائكة،وذلك ببيان الحقِّ في شأنهم،وتوضيح ما يخص البشر وينفعهم العلم به من أمر الملائكة.
5 - أنْ تتطهر عقيدة المسلم من شوائب الشركِ وأدرانه،لأنَّ المسلم إذا آمن بوجود الملائكة الذين كلفهم الله بهذه الأعمال العظيمة تخلَّص من الاعتقاد بوجود مخلوقات وهميةٍ تسهمُ في تسيير أمور ِ الكون .
6 - أنْ يعلم المسلم أن الملائكة لا ينفعونَ ولا يضرون،وإنما هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم،ويفعلون ما يؤمرون.قال تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) [الأنبياء/26-30] } فلا يعبدهم ولا يتوجه إليهم،ولا يتعلقُ بهم .(1/101)
7- شكرُ الله تعالى على لطفه وعنايته بعباده،حيث وكَّلَ بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك،مما تتحقق به مصالحهم في الدنيا والآخرة .
8- محبةُ الملائكة على ما هداهم الله إليه، من تحقيق عبادة الله على الوجه الأكمل ونصرتهم للمؤمنين واستغفارهم لهم .قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (12) سورة الأنفال.وقال تعالى:{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9) سورة غافر7-9
9- الاستقامةُ على أمر الله عز وجل: فإن من يستشعر وجود الملائكة معه وعدم مفارقتها له،ويؤمن برقابتهم لأعماله وأقواله وشهادتهم على كل ما يصدر عنه، ليستحي من الله ومن جنوده، فلا يخالفه في أمر ولا يعصيه في العلانية أو في السرِّ، فكيف يعصى الله مَنْ علم أن كل شيء محسوبٌ ومكتوبٌ؟
10- الطمأنينةُ: فالمسلمُ مطمئن إلى حماية الله له، فقد جعل الله عليه حافظًا يحفظه من الجن والشياطين ومن كل شرٍّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ...} (11) سورة الرعد .
11- حبُّ الله عز وجل: فالمسلم عندما يؤمن بالملائكة وأعمالهم ويرى كيف أن الله -عز وجل- وكَّل ملائكة بالسماء، وملائكة بالأرض، وملائكة بالجبال، وملائكة بالسحاب ..إلخ وكل ذلك من أجل الإنسان وراحته يتوجه إلى الله بالشكر فتزداد محبة الله في قلبه ويعمل على طاعته.عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ،وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ،ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا(1/102)
فِيكُمْ،فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ،وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ » .(أخرجه البخاري ) (1)
12- الصبر على طاعة الله: ومن ثمرات الإيمان بالملائكة الصبر، ومواصلة الجهاد في سبيل الله، وعدم اليأس والشعور بالأنس والطمأنينة، فعندما يصبح المؤمن غريبًا في وطنه وبين أهله وقومه حينما يدعوهم إلى الله ويجد منهم الصدَّ والاستهزاء يجد المؤمن من ملائكة الله أنيسًا ورفيقًا يصحبه ويطمئنه ويشجعه على مواصلة السير في طريق الهدى، لأن جنود الله معه، يعبدون الله كما يعبد المؤمن ربه، ويتجهون إلى خالق السموات والأرض كما يتجه، فيشعر بأنه لا يسير وحده إلى الله دائمًا بل يسير مع موكب إيمانى مع الملائكة ومع الأنبياء عليهم السلام، ومع السماوات والأرض وباقى مخلوقات الله التي تسبح بحمده.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 555 و 3223 و 7429 و 7486 ) ومسلم برقم(1464)(1/103)
المبحث الثالث
ثمرات الإيمان بالكتب السماوية
1)- أخذُ كتابِ الله بقوةٍ، والتمسكُ به وتعظيمُ أوامره والعملِ بها، وعدمِ ضرب بعضِها ببعضٍ، والإيمانُ بمتشابههِ، وردُّهُ إلى مُحْكمهِ، على طريقةِ الراسخينَ في العلم.قال تعالى:{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} آل عمران
2)-وأنه منهجُ حياةٍ متكاملٍ يهدي للتي هي أقومُ،ولا سعادةَ للبشريةِ إلا به 0 قال تعالى:{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {10} الإسراء
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور،بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض،والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة،وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء،وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه،وبين مشاعره وسلوكه،وبين عقيدته وعمله،فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم،متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض،وإذا العمل عبادة متى توجَّه الإنسان به إلى الله،ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة،فلا تشقُّ التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء .ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار .ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .(1/104)
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفراداً وأزواجاً،وحكومات وشعوباً،ودولاً وأجناساً،ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض .الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه،وهو أعلم بمن خلق،وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل،فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها،وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام. (1)
3)- أنزل الله عز وجل كتبه هدايةً للعباد، وجعل لها المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة، وجعلَ الإيمان بها ركناً من أركانِ دينهِ، لا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بها.قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة
وقد رتبَ سبحانه على الإيمان بكتبه ثمراتٍ عظيمةً، لعلَّ من أهمها السعادةُ في الدنيا والفوزُ في الآخرة، ذلك أنَّ من لم يؤمن بتلك الكتب فقد خالفَ أمر الله تعالى، وضلَّ ضلالا بعيداً، قال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } ( النساء:136)،فقد قرن سبحانه الإيمان بكتبه بالإيمان به، وجعل عاقبة الكفران بها كعاقبة الكفران به، سواء بسواء.
4)-استشعارُ المسلم لنعم الله عليه وآلاءه التي لا تعدُّ ولا تحصى، فقد جعل له كتباً تهديه سبلَ الرشاد، فلم يتركهُ سبحانه هملاً تتخطفه الأهواءُ والشهوات، وتتقاذفه الميولُ والرغبات، بل هيَّأ له من الأسباب ما يُصلِحُ أمره ويسددُ وجهته.ولن يقدِّرَ العبد ما أسبغ الله عليه من نعمة الإيمان به، وما يتبعه من إيمانٍ بما أنزله من كتب إلا عندما يتأملُ حالَ
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 8)(1/105)
من حُرم هذه النّعم، وحالَ من كان يحيا حياة الغيِّ والضلالِ، لا يدري الهدفَ من سيره، وما هي الغاية التي يسعى إليها من مسيره، قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (22) سورة الملك، وقال أيضاً في حق الضالين عن هديه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف .
5)-إنه يمنحُ المؤمن الشعورَ بالراحة والطمأنينة، وذلك بمعرفته أن َّالله سبحانه قد أنزل على كلِّ قوم ٍمن الشرائع ما يناسبُ حالهم، ويحققُ حاجتهم، ويهديهم لما فيه صلاحُ أمرهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } (المائدة: 48)،فإذا كان المؤمن على بينة من هذه السنَّة الإلهية ازداد إيماناً مع إيمانه، ويقيناً فوق يقينه، فيزدادُ حباً لربه ومعرفةً له وتعظيماً لقدره، فتنطلقُ جوارحه عاملةً بأوامر الله فتتحقق الغاية العظيمة من الإيمان بالكتب - وهي العمل بما فيها - فينالُ ثمرة هذا الإيمان سعادةً في الدنيا وفوزاً في الآخرة، وقد وعد الله عز وجل العاملين بشرعهِ الخير والبركات في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والأرض } (الأعراف:96) وقال أيضاً: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون َ} (المائدة:66).
إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي،ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية.ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل،وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم والعقل البشري،والموازين البشرية،والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج،بإزاء هذا الأمر الخطير ..
إن اللّه - سبحانه - يقول لأهل الكتاب - ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب - إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم - وهذا جزاء الآخرة.وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج اللّه الممثل في التوراة والإنجيل وما(1/106)
أنزله اللّه إليهم من التعاليم - كما أنزلها اللّه بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا،ونمت وفاضت عليهم الأرزاق،ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق،ووفرة النتاج وحسن التوزيع،وصلاح أمر الحياة ..ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج اللّه - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».
وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج اللّه في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا،لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدّم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا،ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة ..وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية ..يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله:«لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» ..
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا.إنما هو طريق واحد،تصلح به الدنيا والآخرة،فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة ..هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا ..
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب،ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة إنسانية واقعية،يقام،وتقام عليه الحياة ..وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية،وفيض الرزق،ووفرة النتاج،وحسن التوزيع،حتى يأكل الناس جميعا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا،ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا ..وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية.
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم.بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين.ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه(1/107)
وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع ..لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا ..
حقيقة:إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن اللّه،وعن منهجه للحياة،اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة،وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع،والكسب في مضمار المنافع الدنيوية،أن يتخلوا عن طريق الآخرة وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف،الذي يحضُّ عليه الدِّين.كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة،والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع،والكسب في مضمار المنافع،لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق،ولا مرضية للّه سبحانه ..
ولكن ..تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفرَّ من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟
كلا ..إنها ليست ضربة لازب!
فالعداء بين الدنيا والآخرة والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة،ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل ..بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا.إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا.وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان اللّه وثوابه الأخروي ..
هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية ..ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج اللّه الذي رضيه للناس ..فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة،وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة اللّه فريضة.والخلافة عمل وإنتاج،ووفرة(1/108)
ونماء،وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم،كما يقول اللّه في كتابه الكريم.
إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن اللّه،بإذن اللّه،وفق شرط اللّه ..
ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر،وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها - بل الخامات والموارد الكونية كذلك - هو الوفاء بوظيفة الخلافة.ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة - وفق منهج اللّه وشريعته حسب شرط الاستخلاف - طاعة للّه ينال عليها العبد ثواب الآخرة بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها اللّه له ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه،كما يصور التعبير القرآني الجميل! ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض،ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له،عاصيا للّه،ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه اللّه لها،وهو يقول للملائكة:«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً».وهو يقول كذلك للناس:«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ»،ومعطلا لرزق اللّه الموهوب للعباد ..وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا! والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق.فلا يفوّت على الإنسان دنياه لينال آخرته،ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه.فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي.
هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة،وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج اللّه ..فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف ..إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة - في المنهج الإسلامي - لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان ..فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه اللّه،فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون،ولا يأكل من سحت،ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه - مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض اللّه وما(1/109)
شرع - والمنهج يسجل للفرد عمله - في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات - عبادة للّه يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة ..
ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته باللّه في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة،وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان،وفي العمر كله بحج بيت اللّه.وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة ..
ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي.إنها تجديد للعهد مع اللّه على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة.وهي قربى للّه يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج،الذي ينظم أمر الحياة كلها،ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم.ويتجدد معها الشعور بعون اللّه ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل،والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق ..وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء،والجهاد لإقرار منهج اللّه في الأرض،وتقرير سلطانه في حياة الناس ..إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج،المعين على أداء شطره الآخر ..وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج اللّه في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض.كما يعد اللّه الناس في هاتين الآيتين الكريمتين
إن التصور الإسلامي،وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه،لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا - ولا العكس - إنما يقدمهما معا في طريق واحد،وبجهد واحد.ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج اللّه وحده في الحياة - دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج اللّه،أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج - ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل.
والتصور الإسلامي - وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه - لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى،بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية ..وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه بينما يدع للناس أن(1/110)
يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا - كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان!
- فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي - والمنهج الإسلامي - فريضة الخلافة في الأرض.والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى،تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس ..وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا والطريق هو الطريق،ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم.والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة،ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع ..لأنهما لا تجتمعان ..!
إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس،وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة،وبين العبادة الروحية والإبداع المادي،وبين النجاح في الحياة الدنيا،والنجاح في الحياة الأخرى ..إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج اللّه،وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها،معادية لمنهج اللّه في الأساس والاتجاه ..
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا،فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى ..
إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر،من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه،إذا هم آثروا اطراح الدين كله،على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة،والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم،يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب،ولا تطيق الفراغ والخواء.وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية،أو فلسفية،أو فنية ..على الإطلاق ..لأنها جوعة النزعة إلى إله ..(1/111)
وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر،إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في اللّه،وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته،وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج اللّه،وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني،والسلوك الديني،مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء،سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية،أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية ..وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين للّه،وأن الحياة للناس!
وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق،والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل! وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ..ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء ..لأنها لا تهتدي إلى منهج اللّه الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة،بل ينسق ..
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة،في فترة موقوتة،إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي،ولا تقيم منهج اللّه في حياتها،وهي موفورة الخيرات،كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء ...
إنه رخاء موقوت،حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت.وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني ..والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى :
تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم،مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء،وحافلا بالأحقاد،وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة ..وهو بلاء على رغم الرخاء! ..
وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر،لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع ..وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام! وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلا أو آجلا - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها.(1/112)
فالعمل والإنتاج والتوزيع،كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق.والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان! وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال.ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج،وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار! وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة ..وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية ..ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء!
وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار - وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي - وليس هذا إلا مثلا للآخرين،في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني وافتراق الدنيا والآخرة،وافتراق الدين والحياة أو اتخاذ منهج للآخرة من عند اللّه،واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج اللّه وحياة الناس! (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 930)(1/113)
المبحث الرابع
ثمرات الإيمان بالرسل
1- معرفةُ الله تعالى المعرفةَ الصحيحة عن طريق ما جاء به الرسل عليهم السلام.
2- بيانُ عظيم عناية الله تعالى بعبادهِ حيث أرسل إليهم رسلاً من أنفسهِم يبينون لهم آياتهِ وشريعتهِ،ويبشرونهم بجزيل الثواب لمن أمنَ بهم، و ينذرون من كفرَ بهم سوءَ العقاب.
3- تحقيق ُالرغبات والنزعاتِ البشرية في معرفة ما لا يستطيعُ العقل البشريُّ الوصولَ إليه بمجرده
4- بيانُ إمكان بلوغِ البشر درجاتٍ عاليةٍ في القرب من الله تعالى بالطاعة،لأن المرسلينَ إليهم هم من جنسهِم، قال الله تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبينَ ذلك للناس :(( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6} فصلت)).
5-محبةُ الرسل، والثناءُ والصلاةُ والسلامُ عليهم، والدعاءُ لهم على ما تحمَّلوه من أذى أقوامهم، وما صبروا عليه من مشقات الدعوة، والإقتداءُ والتأسِّي بهم في ذلك، ومتابعتُهم على نهجهِم وسنتهِم، وسيرتهِم ودعوتهِم إلى الله قال تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {21} الأحزاب
6- ونحبُّ بحبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلَ بيته الأطهارِ، وأصحابَه وأتباعَه وأنصارَه إلى يوم الدين، ونتولاهم ولا نبرأُ من أحدٍ منهم، بل نبغضُ من يبغضُهم، وبغير الخير يذكرهُم، فلا نذكرهُم إلا بخيرٍ، وحبُّهم عندنا دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ نتقربُ به إلى الله تعالى. قال تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {100} التوبة(1/114)
ونتميزُ عن أهل البدع بسلامةِ قلوبنِا وألسنتنا لهم، ولا نملُّ من أن ندعوَ بقوله تعالى: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ) [الحشر: 10].
7-ونُمسكُ عمّا شجرَ بين أصحابِ النبي عليه الصلاة والسلام، فهم في ذلك بينَ مجتهدٍ مصيبٍ ومجتهدٍ مخطئٍ، فلبعضهِم أجرٌ ولبعضهِم أجرانِ، رضوان الله عليهم أجمعين .
8-وهم مع ذلك ليسوا بمعصومينَ، ولكنَّهم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون، والمُدّ من أحدهم إذا تصدّق َبه خيرٌ من مثل جبلِ أحد ذهباً ممن بعدهم.فعن عِمْرَانَ بْنَِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « خَيْرُكُمْ قَرْنِى،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » ( أخرجه البخاري) (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ،وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » (أخرجه البخاري) (2)
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ « الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِثُ »( أخرجه مسلم ) (3) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى،فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ » أخرجه الشيخان (4) .
9-ونحبُّ أنصارَ الدين في كلِّ زمانٍ إلى قيامِ الساعة، القريبَ منهم والبعيدَ، من عرفنا منهم ومن لم نعرفْ، ولا يضرُّهم ألا نعرفهم.ولا نبرأُ من أحدٍ منهم أو نعاديهِ أو نعاملُه معاملةَ غيرِ المسلمين، بلْ نتولاَّهم وندعو لهم وننصرهُم ونجتهدُ أن نكون منهم.امتثالا
__________
(1) - برقم(2651 )
(2) - برقم(2652 )
(3) - برقم(6641 ) وهذا الحديث متواتر
(4) - البخارى برقم(3673) ومسلم برقم(6651 )- النَّصيف : النصف(1/115)
لقول النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » ( أخرجه البخاري ومسلم ) (1) .
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى »( أخرجه مسلم) (2) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - البخاري برقم (13 ) ومسلم برقم(179 )
(2) - برقم ( 6751 )(1/116)
المبحث الخامس
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
وللقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي:
1.القدَرُ من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العملِ والنشاطِ والسعيِ بما يرضي اللهَ في هذه الحياة،والإيمانُ بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعملَ ويقدِمَ على عظائم الأمور بثباتٍ وعزمٍ ويقينٍ .
2.ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَر أن يعرفَ الإنسانُ قدْرَ نفسه،فلا يتكبَّر ولا يبطُر ولا يتعالى أبدًا ؛ لأنهُ عاجزٌ عن معرفةِ المقدورِ،ومستقبل ِما هو حادثٌ،ومن ثمّ يقرُّ الإنسان بعجزهِ وحاجتِه إلى ربِّه تعالى دائمًا .وهذا من أسرارِ خفاءِ المقدور .قال تعالى:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (23) سورة الحديد.
3.ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَرِ أنه يطردُ القلقَ والضجرَ عند فواتِ المراد أو حصولِ مكروه ٍ، لأنَّ ذلك بقضاءِ الله تعالى الذي له ملكُ السموات والأرض.وهو كائنٌ لا محالةَ،فيصبرُ على ذلك ويحتسبُ الأجرَ،وإلى هذا يشيرُ الله تعالى بقوله :{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) [الحديد/22، 23]} .
وعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ قَالَ أَتَيْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ وَقَعَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِى بِشَىْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِى.فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ.قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ(1/117)
مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ.( أخرجه أبو داود) (1) .
4.الإيمانُ بالقدَر يقضي على كثيرٍ من الأمراض التي تعصفُ بالمجتمعات، وتزرعُ الأحقادَ بين المؤمنين،وذلك مثلُ رذيلةِ الحسَدِ،فالمؤمنُ لا يحسدُ الناس على ما آتاهم اللهُ من فضله ؛ لأنه هو الذي رزقَهم وقدَّر لهم ذلك،وهو يعلم أنه حين يحسدُ غيره إنما يعترضُ على المقدورِ،قال تعالى عن اليهود:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء.
وهكذا فالمؤمنُ يسعى لعملِ الخير،ويحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه،فإنْ وصلَ إلى ما يصبو إليه حمِدَ الله وشكرَهُ على نِعَمِهِ،وإنْ لم يصلْ إلى شيءٍ من ذلك صبرَ ولم يجزعْ،ولم يحقِدْ على غيرهِ ممنْ نالَ من الفضلِ ما لم ينلْهُ ؛ لأن اللهَ هو الذي يقسِم الأرزاق َ بين العبادِ قال تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (32) سورة الزخرف.
5.والإيمانُ بالقدر يبعث في القلوب الشجاعةَ على مواجهة الشدائد،ويقوي فيها العزائمَ فتثبت في ساحات الجهادِ ولا تخافُ الموتَ،لأنها توقنُ أن الآجالَ محدودة ٌلا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة . قال تعالى:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {34} الأعراف،وقال تعالى ردا على المنافقين :{ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}ْ[الأحزاب/15-17]
__________
(1) - برقم( 4701 ) وهو صحيح = السماط : الجماعة من الناس(1/118)
6- الإيمانُ بالقدر من أكبر العوامل التي تكونُ سبباً في استقامةِ المسلمِ، وخاصة في معاملته للآخرينَ، فحين يقصِّرُ في حقّهِ أحدٌ أو يسيءُ إليه أو يردُّ إحسانهُ بالإساءةِ أو ينالُ من عرضهِ بغير حق ٍّتجدهُ يعفو ويصفحُ، لأنه يعلم أن ذلك مقدّرٌ، وهذا إنما يحسنُ إذا كان في حقِّ نفسهِ، أمّا في حقِّ الله فلا يجوزُ العفوُ ولا التعللُ بالقدَر، لأن القدرَ إنما يحتجُّ به في المصائبِ لا في المعايبِ.،كما في قصة ِ مسطح رضي الله عنه عندما صدَّق أكاذيب المنافقين حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،ولما أنزل الله تعالى براءتها من السماء« قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا »(أخرجه البخاري ومسلم ) (1) .
7.والإيمانُ بالقدَر يغرسُ في نفس المؤمن حقائقَ الإيمان المتعددة،فهو دائم ُالاستعانةِ بالله،يعتمد على الله ويتوكلُ عليه مع فعل الأسبابِ،وهو أيضًا دائمُ الافتقارِ إلى ربه - تعالى - يستمدُّ منه العونَ على الثبات،ويطلبُ منه المزيد،وهو أيضًا كريمٌ يحبُّ الإحسانِ إلى الآخرين،فتجده يعطفُ عليهم
8.ومن آثارِ الإيمان بالقدَر أنَّ الداعيَ إلى الله يصدعُ بدعوتهِ، ويجهرُ بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخافُ في الله لومة لائمٍ، يبيّنُ للناس حقيقةَ الإيمان، ويوضحُ لهم مقتضياته، ويكشف الباطلَ وزيفهُ ودُعاتهِ وحماتهِ.فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصامتِ قَالَ:بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى
__________
(1) - البخاري برقم( 6185) و مسلم برقم(4974)(1/119)
أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.(أخرجه مسلم ) (1)
ويقولُ كلمةَ الحقِّ أمامَ الظالمينَ، ويفضحُ ما هم فيهِ من كفرٍ وظلمٍ،عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ».أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ »(أخرجه أبو داود) (2) .
وإذا كان الأمرُ هكذا فكيف يبقى في نفسِ المؤمن الداعية ذرّةٌ من خوفٍ وهو يؤمن بقضاءِ الله وقدَره؟! فما قُدِّرَ سيكونُ، وما لم يقدَّر لنْ يكونَ، وهذا كله مرجعه إلى الله وحده،والعبادُ لا يملكون من ذلك شيئاً.فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » (أخرجه الترمذي ) (3) .
8- الإيمانُ بالقدَر طريقُ الخلاصِ من الشركِ، وهو مفرقُ الطريقِ بين التوحيدِ والشركِ، فالمؤمنُ بالقدَر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادرٌ عن إلهٍ واحدٍ، ومعبودٍ واحدٍ، ومن لم يؤمنْ هذا الإيمانَ، فإنه يجعلُ مَنْ دونَ الله آلهةً وأرباباً.
9- وهو يفضي إلى الاستقامةِ على منهجٍ سواءٍ في السّراءِ والضرّاءِ، لا تبطرُه النعمةُ، ولا تيئسهُ المصيبةُ، فهو يعلمُ أن كلَّ ما أصابهُ من نعمٍ وحسناتٍ فمنَ اللهِ،لا بذكائهِ وحسنِ تدبيرهِ،{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل،وإذا أصابَهُ الضراءُ والبلاءُ علِم أن هذا بتقديرِ اللهِ ابتلاءً منه، فلا يجزعُ ولا ييأسُ، بل يحتسبُ ويصبرُ، فيسكبُ هذا الإيمان في قلبِ المؤمن الرضا والطمأنينةَ.قال تعالى عن
__________
(1) - برقم( 4874 )
(2) - برقم( 4346) ومسند أحمد برقم( 11442) والمعجم الكبير للطبراني برقم( 8007) وهو صحيح لغيره
(3) - برقم( 2706 ) وهو صحيح(1/120)
معركة أحد { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) [آل عمران/152، 153]} .
10- المؤمنُ بالقدر دائماً على حذر من أن يأتيهُ ما يضلُّه، كما يخشى أن يُختمَ له بخاتمةٍ سيئةٍ، وهذا لا يدفعه إلى التكاسلِ والخمولِ، بل يدفعُه إلى المجاهدةِ الدائبةِ للاستقامة، والإكثار من الصالحاتِ، ومجانبةِ المعاصي والموبقاتِ، كما يبقى قلبُ العبد معلقاً بخالقِه، يدعوهُ ويرجوهُ ويستعينُه، ويسألهُ الثبات على الحقِّّ كما يسأله الرشدَ والسدادَ.قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت .
11- إذا آمنَ المؤمنُ بالقدَر فإنه يقبلُ على أمر الله، وإنْ قلَّتِ الرفقةُ، ويقبلُ على الجهادِ في سبيله،وإنْ كانَ وحدَهُ.عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ غَابَ عَمِّى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ،لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِى قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ،فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ » - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ،فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ،الْجَنَّةَ،وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ .قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ .قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ،وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ،فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ .قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن(1/121)
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب (أخرجه البخاري) (1) .
عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، جَاءَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ أَكْفَانَهُ، فَقَالَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ .فَقُتِلَ، وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ فَسُرِقَتْ، فَرَآهُ رَجُلٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَالَ: إِنَّ دِرْعِي فِي قِدْرٍ تَحْتَ الْكَانُونِ،فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَأَوْصَى بِوَصَايَا، فَطَلَبُوا الدِّرْعَ، فَوَجَدُوهَا، وَأَنْفَذُوا الْوَصَايَا " " (أخرجه الحاكم في المستدرك ) (2)
12- الجِدُّ في العمل الذي يرضي اللهَ، والتواضعُ والبعدُ عن التكبر، وزعمِ استقلال الأسبابِ في إيجاد المسبباتِ، والرضا والاطمئنانُ والصبرُ والثباتُ، وعدمِ التسخُّطِ والقلقِ في الحياةِ، بخلافِ من لم يؤمنْ بالقدرِ، فإنهُ يصابُ بالكبرياءِ، ويزعمُ أنَّ ما أتاه اللهُ من ملكٍ وجاهٍ وغيره، إنما أوتيهُ بعلمهِ المستقلِّ عن اللهِ وبعلمِه وخبرتهِ، فإذا أصيبَ في شيءٍ من ذلك قلقَ واضطربتْ حياتهُ، وقد يصلُ به الأمر إلى إزهاقِ روحهِ لعدمِ صبرهِ وشدةِ تسخطهِ، كما هو حاصلٌ كثيراً اليومَ، وبخاصةٍ في العالم الذي بلغَ مبلغاً عظيماً من الرقيِّ الماديِّ.
قال تعالى عن قارون :{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص/76، 78] }.
__________
(1) - برقم(2805 )
(2) - برقم( 5035) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 464)(1327 ) صحيح(1/122)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِى الإِسْلاَمَ « هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ » .فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا،فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،الَّذِى قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ .فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِلَى النَّارِ » .قَالَ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ،فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ،وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا .فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ،فَقَتَلَ نَفْسَهُ،فَأُخْبِرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « اللَّهُ أَكْبَرُ،أَشْهَدُ أَنِّى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ » .ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ « إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ،وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ » (أخرجه البخاري ومسلم ) (1) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - البخارى برقم( 3062 ) ومسلم برقم(319 )(1/123)
المبحث السادس
ثمرات الإيمان باليوم الآخر
المطلب الأول
الثمرات عامة للإيمان باليوم الآخر
لما كانَ الإيمان باليوم الآخر أحدَ أصولِ الإيمان الستةِ التي لا يصحُّ إيمانُ مسلمٍ بدونها.
ولما لذلك الإيمانِ من أثرٍ في حياة المسلمِ وطاعته لأوامر الله (عزَّ و جلَّ) واجتنابِ نواهيه، ولما له من أثرٍ في صلاحِ القلوبِ وصلاحِ الناس وسعادتهِم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيانِ ذلك اليوم العظيم ِوالغفلةِ عنه من خطرٍ على حياةِ الناس ومصيرهِم..فلا غرابةَ إذن أن يردَ ذكرُ هذا اليوم كثيراً في القرآن الكريم،حتى لا تكاد تخلو منه صفحةٌ من صفحاتهِ.
وإذا كانَ الكتابُ والسنَّةُ قد اهتما غاية الاهتمامِ بتفاصيل ذلك اليوم المشهودِ، وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمقِ والجهلِ ألا نهتمَّ بما اهتمَّ به الوحيانِ.
إنَّ أعظمَ قضيةٍ يجبُ أن ينشغلَ بها كلُّ واحد منا هي: قضيةُ وجودهِ وحياتهِ والغايةِ منها، وقضيةُ مستقبلهِ ومصيرهِ وشقائهِ وسعادتهِ، فلا يجوزُ أن يتقدمَ ذلك شيءٌ مهما كان، فكلُّ أمر دونه هينٌ.وكلُّ خطبٍ سواه حقيرٌ.وهل هناكَ أعظمُ وأفدحُ من أن يخسرَ الإنسانُ حياتَه وأهلَه، ويخسرَ مع ذلك سعادتَه وسعادتَهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟ قال تعالى:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (15) سورة الزمر .وقال تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (45) سورة الشورى .
وأهميةُ هذا الموضوع تتجلَّى فيما يلي:(1/124)
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والتقوى، فقد كانَ يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أنَّ الدنيا لم تنفتحْ عليهم مثل اليوم، فلا شكَّ ولا ريبَ أننا أحوجُ منهم بكثير إلى أن نتذكرَ الآخرة ويذكّرَّ بعضُنا بعضاً، بعظمةِ شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركونُ كثيرٍ من الناس للدنيا، ولقد ترتبَ على ذلك أن قستِ القلوب، وتحجرتِ الأعينِ، وهُجِرَ كتابُ الله (عز وجل)، وإذا قرأ أحدُنا القرآن قرأهُ بقلب لاهٍ، فأنَّّى لمثل ذلك القلب أن يخشعَ لذكر اللهِ؟ وأنَّّى لعينيهِ أن تدمعَ خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاةِ،فقلّ الخاشعونَ والمطمئنون فيها..والله المستعان.
3- لما في تذكُّرِ ذلك اليومِ ومشاهدهِ العظيمةِ من حثٍّ على العملِ الصالحِ،والمبادرةِ لفعل الخيراتِ وترك المنكراتِ،بل ما تكاسلَ المتكاسلون في عمل الصالحات سواءٌ الواجب منها والمسنونُ إلا بسببِ الغفلةِ عن الآخرة والانشغالِ عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور،وقال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
4- لمَا ظهرَ في عصرنا اليومَ من المشكلاتِ المعقدةِ والأمراضِ المزمنةِ، التي نشأتْ عنها الأمراضُ النفسيةُ المتنوعةُ من القلقِ والاكتئابِ، اللذين يؤديانِ غالباً إلى حياةٍ يائسةٍ، ومن أسبابِ ذلك: البعدُ عن الله تعالى، وعن تذكُّرٍ اليومِ الآخر.
5- لمَّا تميزَ به زماننا اليومَ من كثرةِ المظالم في بعض المجتمعاتِ واعتداءِ الناس بعضهم على بعضٍ، من أكلٍ لأموالٍ غيرهِم بدونِ وجهِ حقٍّ، وكذلك النيلُ من الأعراضِ، والحسدِ والتباغضِ، والفرقةِ والاختلافِ، وبخاصة بين بعضَ الدعاةِ وطلبةِ العلم، ولا شكَّ(1/125)
أنه لا شيءَ مثلَ تذكرِ اليومِ الآخرِ، وتذكُّرِ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراضٍ.
6- ولما كان الركونُ إلى الدنيا والغفلةُ عن الآخرةِ من أعظمِ الأسبابِ في وهن النفوس وضعفها كان لا بدَّ من التذكيرِ المستمرِّ بذلك اليوم.وما فيه من نعيمٍ أو جحيمٍ، لأنَّ في هذا التذكير أكبرَ الأثر في نشاط الهممِ وعدم الاستسلامِ للوهنِ واليأسِ رجاءَ ثواب اللهِ (عزَّ وجلَّ) وما أعدَّهُ للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولمَّا قلَّ في برامجِ الدعوةِ والتربيةِ الاعتناءُ بهذه الجانب العظيمِ من التربية مما له الأثرُ الكبيرُ في الاستقامةِ على الجادة،والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ، ولكنْ نرى من بعضِ المهتمينَ بالدعوة من يستهينُ بهذا الجانبِ العظيمِ حتى صارَ بعضُهم يقللُ من أثرِ التذكرةِ بالآخرة بقوله: إن هذا الأمرَ يغلبُ عليه الوعظُ أو هذا مقالٌ عاطفيٌّ وعظيٌّ ... إلخ..مع أنَّ المتأملَ لكتابِ الله (سبحانه) وسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرَى بجلاءٍ جانبَ الوعظِ بارزاً بالربطِ بين الدنيا والآخرةِ والثوابِ والعقابِ..نسأل اللهَ أن يهدينا جميعاً.وأنْ يوفقَنا للاقتداءِ بالسنَّةِ والسيرِ على نهجِها.
الآثارُ المرجوةُ لليقين باليوم الآخر:
إنَّ في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحةً وثماراً طيبةً، لابدَّ أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلِّها، ولكنَّ هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضمَّ إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائقِ، لأن الواحد منا ـ مع يقينهِ باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمراتِ هذا اليقين ضعيفةٌ، فلابد إذن من سببٍ لهذا الأمر.
- - - - - - - - - - - -(1/126)
المطلب الثاني
الثمرات الخاصة للإيمان باليوم الآخر
وهناك ثمرات كثيرة للإيمان باليوم الآخر ومنها :
1- الإخلاصُ لله (عز وجل) والمتابعةُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
إنَّ الموقنَ بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزعِ الأكبر، لا تلقاهُ إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواعِ الشركِ الأكبر أو الشركِ الأصغر، حيث إنَّ الشرك َالأكبر يحبطُ جميعَ الأعمالِ، فتصير هباءً منثوراً، والشركُ الأصغر يحبطُ العملَ الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعُجب، والمنِّ، وطلب الجاهِ والشرف في الدنيا، فكلَّما كان العبدُ موقناً بلقاء ربه كان منه الحرصُ الشديد على ألا تضيعَ منه أعمالُه الصالحةُ في موقف القيامة، يومَ أن يكون في أشدِّ الأوقات حاجةُ إليها؛ ولذلك فهو يجاهدُ نفسه بحمايةِ أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله (تعالى) لعل َّ الله (عز وجل) أن ينفعه بها، كما أن اليقينَ بالرجوعِ إلى الله (عز وجل) يجعلُ العبد في أعماله كلِّها متبعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - غيرَ مبتدع ولا مبدلٍ؛ لأن الله (عز وجل) لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً صواباً، قال (تعالى):- ((قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) [الكهف: 110].
2- الحذرُ من الدنيا والزهدُ فيها والصبرُ على شدائدها وطمأنينةُ القلب وسلامتُه:
إذا أكثرَ العبدُ ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بالٍ، فإنَّ الزهدَ في الدنيا والحذرَ منها ومن فتنتها سيحلانِ في القلبِ، وحينئذٍ لا يكترثُ بزهرتِها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدنَّ عينيه إلى ما متَّع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، قال تعالى :{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه.وهذه الثمرةُ يتولد عنها بدورها ثمارٌ أخرى مباركةٌ طيبةٌ منها: القناعةُ، وسلامةُ القلب من الحرص والحسد والغلِّ والشحناء؛ لأن الذي يعيشُ(1/127)
بتفكيره في الآخرة وأنبائِها العظيمة لا تهمُّه الدنيا الضيقةُ المحدودةُ، مع ملاحظة أن إيمانَ المسلم ِباليوم الآخر وزهدَه في الدنيا لا يعني انقطاعَه عنها وعدم ابتغاءِ الرزق في أكنافِها؛ يقول (تعالى):{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص
كما يتولدُ أيضا من هذا الشعور، الراحةُ النفسيةُ والسعادةُ القلبية ُ،وقوة ُالاحتمال والصبرُ على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله (عز وجل) من الأجرِ والثواب، وأنه مهما جاء من شدائدَ الدنيا فهي منقطعةٌ ولها أجلٌ، فهو ينتظرُ الفرجَ ويرجو الثواب الذي لا ينقطعُ يوم الرجوعِ إلى الله (عز وجل)، قال (تعالى): {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (104) سورة النساء.وما إن ْيفقدُ القلبُ هذه المعاني حتى يخيمَ عليه الهمُّ والتعاسةُ، ومن هنا ينشأُ القلقُ والانزعاج ُوالضيقُ والحزنُ، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتِها، وامتلأ قلبهُ بهمِّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسَه لا تذهبُ على الدنيا حسراتٍ، ولا تنقطعُ نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكلُ قلبَه الغلُّ والحسدُ والتنافسُ فيها، ولا يقلُّ صبرُه ولا يجزعُ قلبهُ عند المحنِ والشدائد، ومهما حُرِم في هذه الدنيا الفانية ِ،فهو يعلمُ أنَّ للهِ (عز وجل) في ذلك الحكمةَ البالغةَ، وهو يرجو الأجرَ يوم القيامة، قال (تعالى): { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }[الزخرف/33-35].
3- التزودُ بالأعمال الصالحة وأنواع القربات ِ،واجتنابُ المعاصي والمبادرةُ بالتوبة والاستغفار:
فهو راجٍ خائفٌ، والسائرُ على الطريق إذا خافَ أسرع السير مخافة الفواتِ.(1/128)
عن بُكَيْرَ بْنِ فَيْرُوزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ » (أخرجه الترمذي) (1) .
وهو (سبحانه) كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوفَ لأهل الأعمال الصالحة، فعُلم أن الرجاءَ والخوفَ النافع ما اقترنَ به العمل، قال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون: 57- 61].
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْدَانِىِّ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ »( أخرجه الترمذي) (2) .
واللهُ سبحانه وصفَ أهلَ السعادة بالإحسانِ مع الخوفِ، ووصفَ الأشقياء بالإساءةِ مع الأمن (3) .قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)ْ[المؤمنون/57-61]، وقال تعالى: ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقرة: 218].
__________
(1) - برقم( 2638) وهو صحيح = أدلج : سار ليلا
(2) - برقم(3475 ) وهو صحيح
(3) - الجواب الكافي، ص 57، 58.(1/129)
4- الدعوةُ إلى الله عز وجل والجهادِ في سبيله:
إنهما من أفضل القرباتِ والأعمال الصالحةِ،وأثرهما عظيمٌ في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلماتِ إلى النور،قال تعالى:((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)) [ فصلت: 33]
وفي الجهاد أيضاً: حقيقةُ الزهد في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً: حقيقةُ الإخلاص؛ فإنَّ الكلام فيمن جاهدَ في سبيلِ الله، لا في سبيلِ الرياسةِ، ولا في سبيل المالِ، ولا في سبيل الحميَّةِ..وهذا لا يكون إلا لمن قاتلَ ليكون الدينُ كلُّه لله، ولتكونَ كلمةُ الله هي العليا، وأعظمُ مراتب الإخلاصِ: تسليمُ النفس والمالِ للمعبود، كما قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}[التوبة/111-112].
"وفي الحديث عن الجهادِ في سبيل الله عز وجل، ومحاربةِ الفساد وتعبيدِ الناس لربِّ العالمين أكبرُ ردٍّ على الذين يرونَ أن التعلقَ باليومِ الآخر والاستعدادَ له يعني اعتزالَ الناسِ، وتركَ الدنيا لأهلها، والاشتغالَ بالنفس وعيوبِها، وتركَ الحياةِ يأسن فيها أهلُها.قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف
فما يستيقنٌ أحد من لقاءِ الله في الآخرة؛ وهو يعي حقيقةَ هذا الدين، ثم يعيشُ في هذه الحياةِ سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشرِّ والفسادِ.إنما يزاولُ المسلمُ هذه الحياة الدنيا، وهو يشعرُ أنه أكبرُ منها وأعلَى، ويستمتعُ بطيباتِها أو يزهدُ فيها وهو يعلمُ أنها حلالٌ في الدنيا خالصةً له يوم القيامة.، ويكافحُ الشرَّ والفسادَ والظلم محتملاً الأذى والتضحيةَ حتى الشهادةِ، وهو إنما يقدِّمُ لنفسهِ في الآخرةِ، إنه يعلم من دينهِ أن الدنيا مزرعةُ الآخرةِ، وأن(1/130)
ليس هنالكَ طريقٌ للآخرة لا يمرُّ بالدنيا، وأن الدنيا صغيرةٌ زهيدةٌ، ولكنها منْ نعمةِ الله التي يجتازُ منها إلى نعمةِ الله الكبرَى" (1)
5- اجتنابُ الظلم بشتَّى صوره:
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، وأنه لا شيء يمنع النفسَ من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض: كاليقينِ بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، وإنصافِ المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكرَ العبد هذا الموقفَ العصيبَ الرهيب، وأنه لا يضيعُ عند الله شيء، كما قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (47) سورة الأنبياء، وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (111) سورة طه،إذا تذكر َهذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقنَ بتحققها فلا شكَّ أن ذلك سيمنعُه من التهاونِ في حقوق الخلق، والحذرِ من ظلمهم في دمِ أو مال أو عرض، خاصةًّ وأن حقوقَ العباد مبنيةٌ على المشاحَّة والحرصِ على استيفاء الحقِّ من الخصم، وبالذاتِ في يوم الهولِ الأعظمِ الذي يتمنَّى العبد فيه أن يكون له مظلمةٌ عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد، ومعلومٌ أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات.عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ،قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ،إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ،وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ » (أخرجه البخاري) (2) .و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ».قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ.فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ
__________
(1) - انظر اليوم الآخر في ظلال القرآن، ص6.
(2) -برقم(2449 )(1/131)
وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ »(أخرجه مسلم) (1) .
وقال تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر/30، 31] }.
6- حصولُ الأمن والاستقرارِ والألفةِ بين الناس بالحكمِ بشريعة الله:
إنَّ مجتمعاً يسودُ بين أهله الإيمانُ بالله عز وجل واليقينَ بالآخرة والجزاء والحساب، لا شكَّ أنه مجتمعٌ تسودُه المحبةُ ويعمُّه السلامُ؛ لأنَّ تعظيم اللهِ سبحانه سيجعلُ هذه النفوسَ لا ترضى بغير شرعِ الله عز وجل بديلاً، ولا تقبلُ الاستسلامَ إلا لحكمِه، وهذا بدورهِ سيُضفي الأمنَ والأمانَ على مثل هذه المجتمعاتِ، لأن أهلَها يخافونَ الله ويخافونَ يوم الفصل والجزاء، فلا تحاكم َإلا لشرعِ الله، ولا تعاملَ إلا بأخلاقِ الإسلام الفاضلةِ: فلا خيانةَ ولا غشَّ ولا ظلمَ، ولا يعني هذا أنه لا يوجدُ في المجتمعاتِ المسلمةِ من يظلمُ أو يخونُ أو يغشَّ، فهذا لم يسلمْ منه عصرُ النبوة ولا الخلافةِ الراشدة، لكنَّ هذه المعاصي تبقَى فرديةً، يؤدَّبُ أفرادُها بحكم ِالله عز وجل وحدوده، إذا لم يردعْهم وازع ُالدين والخوفِ من الله، والحالاتُ الفرديةُ تلك ليستْ عامةً، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام.وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة/208، 209]..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان .بهذا الوصف المحبب إليهم،والذي يميزهم ويفردهم،ويصلهم بالله الذي يدعوهم ..دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ..
- وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله،في ذوات أنفسهم،وفي الصغير والكبير من أمرهم .أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من
__________
(1) - برقم(6744 )(1/132)
تصور أو شعور،ومن نية أو عمل،ومن رغبة أو رهبة،لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه .
- استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية .الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير،في الدنيا والآخرة سواء .
- وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم،وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم،في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالمٍ كلّه سلم وكله سلام .عالمٌ كله ثقة واطمئنان،وكله رضى واستقرار .لا حيرة ولا قلق،ولا شرود ولا ضلال .سلام مع النفس والضمير .سلام مع العقل والمنطق .سلام مع الناس والأحياء .سلام مع الوجود كله ومع كل موجود .سلام يرف في حنايا السريرة .وسلام يظلل الحياة والمجتمع .سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه،ونصاعة هذا التصور وبساطته ..
- إنه إلهٌ واحد .يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل،ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
-وهو إلهٌ قوي قادر عزيز قاهر ..فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود .وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح .ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً،وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر .ولم يعد يخشى فوت شيء .ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .(1/133)
- وهو إله عادل حكيم،فقوته وقدرته ضمان من الظلم،وضمان من الهوى،وضمان من البخس .وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات .ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد،ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
-وهو رب رحيم ودود .منعم وهاب .غافر الذنب وقابل التوب .يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .فالمسلم في كنفه آمن آنس،سالم غانم،مرحوم إذا ضعف،مغفور له متى تاب.وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه،وما يطمئن روحه،وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
-كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب.وبين الخالق والكون .وبين الكون والإنسان ..فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة .وهذا الإنسان مخلوق قصداً،وغير متروك سدى،ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده،ومسخر له ما في الأرض جميعاً .وهو كريم على الله،وهو خليفته في أرضه .والله معينه على هذه الخلافة .والكونُ من حوله صديقٌ مأنوس،تتجاوب روحه مع روحه،حين يتجه كلاهما إلى الله ربه .وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به .وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير،الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذي يؤلِّفون كلهم هذا المهرجان!
- والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة،وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش،وحين يعينها على النماء،وحين يزيل من طريقها العقبات ..هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة .عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق،والحب والسلام .
- والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط ..
إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة ..(1/134)
إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب .فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه .ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس،فسوف يوفاه بميزان الله .ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد،فالعدل لا بد واقع .وما الله يريد ظلماً للعباد .
-والاعتقاد بالآخرة حاجزٌ كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات .بلا تحرج ولا حياء فهناك الآخرة فيها عطاء،وفيها غناء،وفيها عوض عما يفوت .وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادةُ،وأنه مخلوق ليعبد الله ..من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء .ترفع شعوره وضميره،وترفع نشاطه وعمله،وتنظف وسائله وأدواته .فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها .فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة .
وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل،وألا يعتسف الطريق،وألا يركب الصعب من الأمور .فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة ..
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع،وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق .فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة،وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله،في طاعة الله،لتحقيق إرادة الله ..وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال(1/135)
القصد أو ضياع الجزاء ..ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه .فهو إنما يقاتل لله،وفي سبيل الله،ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله .قانونه قانونه،ووجهته وجهته .فلا صدام ولا خصام،ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة .وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته،وتهتدي بالنور الذي يهتدي به،وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله
- والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة .لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء ..ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه .يحمل منها ما يطيق حمله،ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام
- والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني،في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة،والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال ..كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق .هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره .ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب،تختلف درجة صفائه،ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر،وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية!
- هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان،واللغات والألوان،وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات،والذي يرى صورته في قول النبي الكريم(1/136)
- صلى الله عليه وسلم - :« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » أخرجه مسلم (1) .
هذا المجتمع الذي من آدابه قوله تعالى:{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) [النساء/86] } وقوله تعالى :{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان،{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) [الحجرات/11-12] }
هذا المجتمع الذي من ضماناته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ.التَّقْوَى هَا هُنَا ».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »أخرجه مسلم (2)
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(6751)
(2) - أخرجه مسلم برقم( 6706)(1/137)
- ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء،ولا تروج فيه الفتنة،ولا ينتشر فيه التبرج،ولا تتلفت فيه الأعين على العورات،ولا ترفَّ فيه الشهوات على الحرمات،ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً ..
- هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة،والذي يسمع الله - سبحانه - يقول :{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور،{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور،{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور .{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور/30، 31] }
والذي يخاطب فيه نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) [الأحزاب/32، 33]}(1/138)
- وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها،ويأمن الزوج على زوجته،ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم،ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم .حيث لا تقع العيون على المفاتن،ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم .فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب ..
بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن،ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
- وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم،ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة،والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
- والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع،بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع .فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة،ولا يتسور على أحد بيته،ولا يتجسس على أحد فيه متجسس،ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة .
- المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون .كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم،و لا هوى حاشية ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية،الذي لا يخضع البشر فيه للبشر .إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته .فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين،في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
- هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة .ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء،ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
-ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان،في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام،أو التي عرفته(1/139)
ثم تنكرت له،وارتدت إلى الجاهلية،تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان ..هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري،وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو « السويد » حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام .وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات .وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان،مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت ..وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض،فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة .والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب ..ثم الانتحار ..والحال كهذا في أمريكا ..والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة .فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة،ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (208) سورة البقرة.. (1)
أما عندما يقلُّ الوازعُ الدينيُّ والخوفُ من الآخرةِ، ويكونُ التحاكمُ إلى أهواءِ البشر وحكمِهم فهذا هو البلاءُ العظيمُ والفسادُ الكبيرُ: حيثُ تداسُ القيم ُوالحرماتُ، ويأكلُ
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 183-186)(1/140)
القويُّ الضعيفَ، وبالتالي: لا يأمنُ الناسُ على أديانهِم ولا أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واختلالِ حياةِ الناس.
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت:
إنَّ من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد: طولَ الأمل، والأمانيَّ الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلةٍ شديدة عن الآخرة، واغترارٍ بزينة الحياة الدنيا، وتضييعِ ساعات العمر النفيسة في اللهثِ وراءها حتى يأتي الأجلُ الذي يقطع هذه الآمال، وتذهبُ النفس حسراتٍ على ما فرطت في عمرها، وأضاعتْ من أوقاتها.ولكنَّ اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، والتذكر َالدائم لقِصر الحياة الدنيا وأبديةِ الآخرة وبقائها، هو العلاجُ الناجعُ لطول الأملِ وضياع الأوقاتِ.و قَالَ عَلِيٌّ:إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَتَيْنِ:طُولَ الأَمَلِ , وَاتِّبَاعَ الْهَوَى , فَإِنَّ طُولَ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ،وَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ،عَنِ الْحَقِّ،وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً،وَإِنَّ الآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ , فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ،وَلاَ حِسَابَ , وَغَدًا حِسَابٌ،وَلاَ عَمَلَ ."أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ فِى حُبِّ الدُّنْيَا،وَطُولِ الأَمَلِ » (أخرجه البخاري ) (2) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ :" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ:شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ،وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ،وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ،وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ،وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"(أخرجه الحاكم ) (3) .
8- سلامةُ التفكير وانضباطُ الموازين وسموُّ الأخلاق:
__________
(1) - برقم(34489 ) وفيه راو مبهم
(2) - برقم(6420 )
(3) - برقم(7846) وهو صحيح(1/141)
لا يستوي من يؤمنُ بالله واليوم الآخر ويوقنُ بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه، ومَنْ لا يؤمنُ بالآخرة، أو يؤمن بها ولكنَّه في لهوٍ وغفلةٍ عنها، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (20) سورة الحشر .
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلمُ أن له غاية ًعظيمة في هذا الحياة، وأن مردَّه إلى الله عز وجل في يوم الجزاءِ والحسابِ والنشور، مع من لا يعلم ُمن هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كلُّ شيء عنده، وهو عن الآخرةِ من الغافلين.قال تعالى:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد،وقال تعالى :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) [آل عمران/190-194] }
إنهما لا يلتقيانِ في التفكيرِ، ولا في الميزانِ الذي توزنُ به الأشياءُ والأحداث، ولا في الأحكامِ، وبالتالي: فبقدرِ ما تسمو أخلاقُ الأوَّل وتعلو همتُه لسموِّ منهجه وميزانهِ بقدر ما تسفلُ وترذلُ أخلاقُ الآخرِ لسفالة تصورهِ وفساد ميزانِه.قال تعالى في وصف أهل الدنيا: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (7) سورة الروم.
9- الفوزُ برضا الله سبحانه وجنته، والنجاةُ من سخطه والنار:
وهذه ثمرةُ الثمار، وغايةُ الغايات،قال تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [آل عمران: 185].(1/142)
إنه لا بدَّ من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقةُ أنَّ الحياة َفي هذه الأرض موقوتةٌ،محدودةٌ بأجل؛ ثم تأتي نهايتُها حتماً ..يموتُ الصالحون يموتُ الطالحون .يموت المجاهدون ويموت القاعدون .يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذَلون للعبيد .يموت الشجعانُ الذين يأبون الضيم،ويموتُ الجبناء الحريصون على الحياة بأيِّ ثمن ..يموت ذوو الاهتمامات الكبيرةِ والأهدافِ العالية،ويموتُ التافهون الذين يعيشون فقط للمتاعِ الرخيص .الكل يموت ..{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ..كلُّ نفس تذوقُ هذه الجرعة،وتفارقُ هذه الحياة ..لا فارقَ بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة ِمن هذه الكأسِ الدائرة على الجميع .إنما الفارق في شيء آخر ؛الفارق في قيمة أخرى .الفارق في المصير الأخير :{ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } ..
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراقُ .وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلانٌ عن فلان .القيمةُ الباقيةُ التي تستحقُّ السعي والكدَّ .والمصيرُ المخوِّف الذي يستحقُّ أن يحسب له ألفَ حساب:{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } ..ولفظ { زحزح } بذاته يصور معناه بجرسه،ويرسم هيئته،ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبيةًّ تشدُّ إليها من يقترب منها،ويدخل في مجالها!
فهو في حاجةٍ إلى من يزحزحهُ قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة!
فمن أمكن أن يزحزحَ عن مجالها،ويستَنقَذَ من جاذبيتها،ويدخل الجنة ..فقد فاز .. (1)
10-تقويةُ الدافع الداخلي للعملِ الصالح،واستشعارُ قيمة الحياة، وأنها ابتلاء للآخرة ومزرعة لها.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدارانيُّ رحمه الله:" طُوبَى لِمَنْ حَذِرَ سَكَرَاتِ الْهَوَى وَثَوْرَةَ الْغَضَبِ وَالْفَرَحِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَصَبَرَ عَلَى مُرَارَةِ التَّقْوَى،وَطُوبَى لِمَنْ لَزِمَ الْجَادَّةَ بِالِانْكِمَاشِ وَالْحَذَرِ،وَتَخَلَّصَ مِنَ الدُّنْيَا بِالثَّوَابِ وَالْهَرَبِ كَهَرَبِهِ مِنَ السَّبْعِ الْكَلْبِ،طُوبَى لِمَنِ
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 22)(1/143)
اسْتَحْكَمَ أُمُورَهُ بِالِاقْتِصَادِ وَاعْتَقَدَ الْخَيْرَ لِلْمَعَادِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مَزْرَعَةً وَتَنَوَّقَ فِي الْبَذْرِ لَيَفْرَحَ غَدًا بِالْحَصَادِ،طُوبَى لِمَنِ انْتَقَلَ بِقَلْبِهِ مِنْ دَارِ الْغُرُورِ وَلَمْ يَسَعَ لَهَا سَعْيَهَا فَيَبْرُزُ مِنْ حَظَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا مِنْهُ عَلَى بَالٍ،اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ،مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ رَبِحَهُمَا وَمَنْ تَرَكَ الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا خَسِرَهُمَا وَكُلُّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا بَنُوهَا،بَنُو الدُّنْيَا تُسْلِمُهُمْ إِلَى خِزْيٍ شَدِيدٍ وَمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَشَرَابِ الصَّدِيدِ،وَبَنُو الْآخِرَةِ تُسْلِمُهُمْ إِلَى عَيْشٍ رَغَدٍ وَنَعِيمِ الْأَبَدِ فِي ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَأَنْهَارٍ تَجْرِي بِغَيْرِ أُخْدُودٍ .وَكَيْفَ يَكُونُ حَكِيمًا مَنْ هُوَ لَهَا يَهْوَى رَكُونٌ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ رَاهِبًا مَنْ يَذْكُرُ مَا أَسْلَفَتْ يَدَاهُ وَلَا يَذُوبُ،الْفِكْرُ فِي الدُّنْيَا حِجَابٌ عَنِ الْآخِرَةِ وَعُقُوبَةٌ لِأَهْلِ الْوَلَايَةِ،وَالْفِكْرَةُ فِي الْآخِرَةِ تُورِثُ الْحِكْمَةَ وَتُحْيِي الْقَلْبَ،وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً صَحَّ عِنْدَهُ غُرُورُهَا وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مُقْبِلَةً بِزِينَتِهَا شَابَ فِي قَلْبِهِ حُبُّهَا،وَمَنْ تَمَّتْ مَعْرِفَتُهُ اجْتَمَعَ هَمُّهُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ شُغْلَهُ " (1)
فالدنيا - في التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة.والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة،ورفع الشر والفساد عنها،ورد الاعتداء عن سلطان اللّه فيها،ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعا ..كل أولئك هو زاد الآخرة وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة،ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل،وما أصابهم من الأذى ..
فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن،أو تفسد وتختل،أو يشيع فيها الظلم والطغيان،أو تتخلف في الصلاح والعمران ..وهم يرجون الآخرة،وينتظرون فيها الجزاء من اللّه؟
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا - مع ادعائهم الإسلام - فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ويستيقنون من لقاء اللّه في
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (14413 )(1/144)
الآخرة.فما يستيقن أحد من لقاء اللّه في الآخرة،وهو يعي حقيقة هذا الدين،ثم يعيش في هذه الحياة سلبيا،أو متخلفا،أو راضيا بالشر والفساد والطغيان.
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا،وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى.ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة.ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن اللّه فيها.ويكافح الشر والفساد والظلم محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة ..إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة اللّه التي يجتاز منها إلى نعمة اللّه الكبرى ..
وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقة الحياة الآخرة وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم.
من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة.ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة ..
وكان العرب في جاهليتهم - وبسبب من هذه الجاهلية - لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر:ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة ..مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته ..شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة ..«العلمية» كما يصر أهلها على تسميتها! «وَقالُوا:إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» ..وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة ..
هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور،التي تلصق الإنسان بالأرض،وتلصق تصوره بالمحسوس منها كالبهيمة ..وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان،التي تطلق السعار في النفس،والتكالب على المتاع المحدود،والعبودية لهذا المتاع الصغير،كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح،ولا هدنة،ولا أمل في عوض،إن لم تقض هذه الشهوات(1/145)
الهابطة الصغيرة،التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة! ..وهذه الأنظمة والأوضاع،التي تنشأ في الأرض منظورا فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان بلا عدل ولا رحمة،ولا قسط ولا ميزان ..إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضا،وتصارع الطبقات بعضها بعضا،وتصارع الأجناس بعضها بعضا ..وينطلق الكل في الغابة انطلاقا لا يرتفع كثيرا على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم «الحضارة» ..في كل مكان ..كان اللّه - سبحانه - يعلم هذا كله ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية،وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية ..أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة ..من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ..ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة ..أولا لأنها حقيقة.واللّه يقص الحق.وثانيا لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان:تصورا واعتقادا،وخلقا وسلوكا،وشريعة ونظاما. (1)
وقال تعالى:{وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (57) سورة القصص
إنها النظرة السطحية القريبة،والتصور الأرضي المحدود،هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى اللّه يعرضهم للمخافة،ويغري بهم الأعداء،ويفقدهم العون والنصير،ويعود عليهم بالفقر والبوار:«وَقالُوا:إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» ..
فهم لا ينكرون أنه الهدى،ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس.وهم ينسون اللّه،وينسون أنه وحده الحافظ،وأنه وحده الحامي وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى اللّه وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم اللّه.ذلك أن الإيمان لم
__________
(1) -فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1070)(1/146)
يخالط قلوبهم،ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى،ولاختلف تقديرهم للأمور،ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار اللّه،وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه.
وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى اللّه معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه،والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة.فاللّه خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له.والذي يتبع هدى اللّه يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة،ويأوي إلى ركن شديد،في واقع الحياة.
إن هدى اللّه منهج حياة صحيحة.حياة واقعة في هذه الأرض.وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية.وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة.إنما هو يربطهما معا برباط واحد:صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض.ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة.فالدنيا مزرعة الآخرة،وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها.بشرط اتباع هدى اللّه.
والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى اللّه إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة.أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة اللّه والسير على هداه.يشفقون من عداوة أعداء اللّه ومكرهم،ويشفقون من تألب الخصوم عليهم،ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية!
وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - :«إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا».
فلما اتبعت هدى اللّه سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.(1/147)
وقد رد اللّه عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم.فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض،وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:«أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟» ..
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى اللّه،واللّه هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة،يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة.ولا يعلمون أن مرد الأمر كله للّه. (1)
وقال تعالى :{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (36) سورة محمد
فالحياة الدنيا لعب ولهو حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى.حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج اللّه فيها.ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية. (2)
11- تسليةُ المؤمنِ عما يفوته في الدنيا :
حتى يعلم َأن ثوابه الأعظم إنما هو في الآخرة،وأنَّ كل ما يصيبُه من بلاء في الدنيا فيصبرُ عليه فإنه يضاعِف حسناته في الآخرة.فعَنِ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ،حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا » (أخرجه البخاري) (3) .
وعَنْ عَطَاءَ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى .قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ،وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2703)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3302)
(3) - برقم(5640 )(1/148)
.قَالَ « إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ » .فَقَالَتْ أَصْبِرُ .فَقَالَتْ إِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ،فَدَعَا لَهَا "(أخرجه البخاري) (1) .
وقال تعالى :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) [آل عمران/146-148] }.
لقد كانت الهزيمة في «أحد»،هي أول هزيمة تصدم المسلمين،الذين نصرهم اللّه ببدر وهم ضعاف قليل فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية.فلما أن صدمتهم أحد،فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه! ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم.واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة،وبالاستنكار تارة،وبالتقرير تارة،وبالمثل تارة،تربية لنفوسهم،وتصحيحا لتصورهم،وإعدادا لهم.فالطريق أمامهم طويل،والتجارب أمامهم شاقة،والتكاليف عليهم باهظة،والأمر الذي يندبون له عظيم.
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام،لا يحدد فيه نبيا،ولا يحدد فيه قوما.إنما يربطهم بموكب الإيمان ويعلمهم أدب المؤمنين ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ويربطهم بأسلافهم من أتباع الأنبياء ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد.
وأنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير:«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا» ..
..وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة.فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح.وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح،وما استسلموا
__________
(1) - برقم(5652 )(1/149)
للجزع ولا للأعداء ..فهذا هو شأن المؤمنين،المنافحين عن عقيدة ودين ..«وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» ..الذين لا تضعف نفوسهم،ولا تتضعضع قواهم،ولا تلين عزائمهم،ولا يستكينون أو يستسلمون ..
والتعبير بالحب من اللّه للصابرين.له وقعه.وله إيحاؤه.فهو الحب الذي يأسو الجراح،ويمسح على القرح،ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء.فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم.صورة الأدب في حق اللّه،وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس،ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه.ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى اللّه ..لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة،ولتعترف بالذنب والخطيئة،قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:« وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا:رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا،وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا،وَثَبِّتْ أَقْدامَنا،وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء.بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء ..لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة.لقد كانوا أكثر أدبا مع اللّه،وهم يتوجهون إليه،بينما هم يقاتلون في سبيله.فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب،وتثبيت الأقدام ..والنصر على الكفار.فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار ..إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق اللّه الكريم.
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا،أعطاهم اللّه من عنده كل شيء.أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة.وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:«فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا،وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» ..وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان.فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد،وأعلن حبه لهم.وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض وقد(1/150)
تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي.وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة.وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل (1) ..
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،قَالَ: " لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَطْحَاءِ , فَأَخَذَ بِيَدِي , فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ , فَمَرَّ بِعَمَّارٍ , وَأَبِي عَمَّارٍ , وَأُمِّ عَمَّارٍ , وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ: " صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ " ( أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة ) (2) .
إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها،فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها،فإن اللّه يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء،ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق.فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها،ويستمتعون فيها كالأنعام،ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات.ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ،ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً».مذموما بما ارتكب،مدحورا بما انتهى إليه من عذاب.
«وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ،فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً».والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها،فيؤدي تكاليفها،وينهض بتبعاتها،ويقيم سعيه لها على الإيمان.وليس الإيمان بالتمني،ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة،إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية.ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك الإنسان نفسه،فلا يكون عبدا لهذا المتاع.
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا،فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم،وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 488)
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2812) (6662 ) حسن(1/151)
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام.فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على اللّه،الذي خلقه فسواه،وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء اللّه.سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها.وعطاء اللّه لا يحظره أحد ولا يمنعه،فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:«كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ.وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً».
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم،ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة.فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول.كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة؟
«انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا».
فمن شاء التفاوت الحق،ومن شاء التفاضل الضخم،فهو هناك في الآخرة.هنالك في الرقعة الفسيحة،والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا اللّه.وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل ... (1)
12- ازدياد الخوف والخشية من الله تعالى:
والرجاء في ثوابه الذي أعده لعباده المتقين،وذلك بالعمل بمقتضى أوامره واجتناب نواهيه والالتزام بشرعه..فعن بُكَيْرَ بْنِ فَيْرُوزَ قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ » (أخرجه الترمذي ) (2) .
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2218)
(2) - برقم(2638)وصحيح الجامع (6222) وهو صحيح = أدلج : سار ليلا(1/152)
وعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ خَافَ أَدْلَجَ،وَمَنْ أَدْلَجَ فَقَدْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ،أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ،أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ،جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ،جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ "(أخرجه الحاكم في المستدرك) (1) .
13- الإيمانُ بالآخرة صمامُ الأمان لهذا الإنسان في هذه الدار
فهو الذي يمنعه من الفسادِ والإلحادِ، ومن لم يؤمن بالآخرة لا يرتدعُ عن قبيحٍ ولا منكرٍ.قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (74) سورة المؤمنون .
فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار النشأة التي تحتم الإيمان بالآخرة،وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن،وتحقيق العدل المرسوم.فليست الآخرة إلا حلقة من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه اللّه لتدبير هذا الوجود.
هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة،والذين تنكبوا الطريق،لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة،ولا الابتلاء بالنقمة.
فإن أصابتهم النعمة حسبوا:«أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم،ولم تستيقظ ضمائرهم،ولم يرجعوا إلى اللّه يتضرعون له ليكشف عنهم الضر،ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون. (2)
14- الحرصُ على طاعة الله تعالى رغبةً ورهبةً :
فالحرصُ على طاعة الله تعالى رغبةً في ثوابِ ذلك اليوم، والبعدِ عن معصيته،خوفاً من عقاب ذلك اليوم.قال تعالى:{...إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء .
__________
(1) - برقم( 7852) وهو صحيح = الدلجة : السير في أول الليل والمراد التشمير والجد في الطاعة = الراجفة : النفخة الأولى في الصور ، والتي تميت الخلائق = الرادفة : النفخة الثانية في الصور يوم القيامة
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2475)(1/153)
أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم. (1)
15- اليقين بالآخرة يؤدي للهداية والفلاح:
قال تعالى:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة/2-5] } .
فاليقينُ بالآخرة هو مفرقُ الطريق بين من يعيشُ بين جدرانِ الحسِّ المغلقةِ،ومن يعيشُ في الوجودِ المديد الرحيب.بين من يشعرُ أن حياتَه على الأرض هيَ كلُّ ما له في هذا الوجود،ومن يشعرُ أن حياتَه على الأرض ابتلاءٌ يمهِّدُ للجزاء،وأنَّ الحياةَ الحقيقية إنما هي هنالكَ،وراء هذا الحيِّز الصغيرِ المحدودِ (2) .
واليقينُ بالآخرة هو الضمانُ ليقظةِ القلب البشري،وتطلعِه إلى ما عند الله،واستعلائهِ على أوهاق (3) الأرض،وترفعُه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبةِ الله في السرِّ والعلن وفي الدقيقِ والجليلِ؛ والوصول ِإلى درجة الإحسانِ التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:« الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ،فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » (4) .
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 530)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 12)
(3) - الأوهاق جمع وهق : وهو الحبْلُ المُغارُ يُرْمى في أُنشوطَة فتؤْخَذُ به الدابّة والإنسانُ - تاج العروس - (ج 1 / ص 6621)
(4) - أخرجه البخاري برقم( 4777) وفى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2784)(1/154)
وهؤلاءِ المحسنونُ هم الذين يكون الكتاب لهم هدىً ورحمةً؛ لأنهم بما في قلوبهِم من تفتحٍ وشفافيةٍ يجدون في صحبةِ هذا الكتاب راحةً وطمأنينةً؛ ويتَّصِلون بما في طبيعتهِ من هدى ونورٍ،ويدركونَ مراميهِ وأهدافهِ الحكيمة ِ، وتصطلحُ نفوسُهم عليه،وتحسُّ بالتوافقِ والتناسق ووحدةِ الاتجاه،ووضوحِ الطريق .
وإنَّ هذا القرآن ليعطي كلَّ قلبٍ بمقدارِ ما في هذا القلب من حساسيةٍ وتفتحٍ وإشراقٍ؛ وبقدر ما يقبلُ عليه في حب ٍّوتطلعٍ وإعزازٍ .إنه كائنٌ حيٌّ يعاطفُ القلوبَ الصديقةَ،ويجاوبُ المشاعر المتوجهةَ إليه بالرفرفةِ والحنينِ!
{ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) سورة البقرة.ومن هُديَ فقد أفلحَ،فهو سائرٌ على النورِ،واصلٌ إلى الغاية ِ، ناجٍ من الضلالِ في الدنيا،ومن عواقبِ الضلالِ في الآخرة؛ وهو مطمئنٌ في رحلته على هذا الكوكبِ تتناسقُ خطاهُ مع دورة الأفلاكِ ونواميسِ الوجود؛ فيحسُّ بالأنسِ والراحةِ والتجاوبِ مع كلِّ كائنٍ في الوجودِ (1) .
16- الذين آمنوا بالله واليوم الآخر َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ :
قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } [البقرة/62 ].
والآية تقرر أن من آمن باللّه واليوم الآخر من هؤلاء جميعا وعمل صالحا،فإن لهم أجرهم عند ربهم،ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.فالعبرة بحقيقة العقيدة،لا بعصبية جنس أو قوم ..وذلك طبعا قبل البعثة المحمدية.أما بعدها فقد تحدد شكل الإيمان الأخير (2) ..
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) }[المائدة/69]
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 3)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 75)(1/155)
فهؤلاء لا يخافون على مستقبلهم،فقد ضمنه لهم من خلقهم، ولا يحزنون على نعمة أو لعاعة ٍ تفوتهم في هذه الدار.رجاء ما عند الله تعالى من ثواب ٍ عظيم ٍ ادخره لهم .قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه
17- الإيمانُ بالله واليوم الآخرِ،مع الأخذِ بلوازمهما يجعل البلادَ آمنةً من غضبِ الله ومقته،ويرزقها من الطيباتِ:
قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) } [البقرة/126]
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ دَعَا إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ فَقَالَ:رَبِّ اجْعَلْ هذِهِ البُقْعَةَ المُحِيطَةَ بِالكَعْبَةِ بَلَداً آمِناً مِنَ الخَوْفِ فَلاَ يُرْعَبُ أَهْلُهُ،وُارْزُقْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِهِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مِنَ الثَّمَرَاتِ .فَرَدَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيهِ قَائِلاً:إِنَّهُ سَيَرْزُقُ المُؤْمِنِينَ وَغَيْرَ المُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ،لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَخْلُقُ خَلْقاً لا يَرْزُقُهُ .وُلكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذلِكَ الرِّزْقَ لِمَنْ كَفَرَ مَتَاعاً قَلِيلاً،مُدَّةَ وُجُودِهِمْ فِي الدُّنيا،ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ وَيَسُوقُهُمْ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ سَوْقاً لِيُعَذِّبَهُمْ فِيها،وَمَا أَسْوَأَهُ مِنْ مَصِيرٍ (1) ..
ومفهومُ الآية المخالفِ،أنَّ منْ لم يكنْ كذلك،سيعيشُ في قلقِ وخوفٍ ورعبٍ،وسيحرمه الله تعالى خيراتٍ كثيرةً .بسبب عدم إيمانه بالله واليوم الآخر مع العذاب الشديدِ،والمصير المحتوم الذي ينتظره يوم القيامة،كما قال تعالى:{ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) [النبأ/27-30] }.
18-الإيمانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو منبعُ كلِّ خيرٍ،وسببُ كلِّ برٍّ:
قال تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 133)(1/156)
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة/177] }.
قال الإمام الرازيُّ رحمه الله :" إنَّ الإنسانَ لا يمكنُه أنْ ينفقَ محبوبَهُ إلا إذا توسَّلَ بإنفاقِ ذلك المحبوبِ إلى وجدانِ محبوبِ أشرفِ منَ الأولِ،فعلَى هذا الإنسانُ لا يمكنُهُ أنْ ينفقَ الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقنَ سعادةَ الآخرةِ،ولا يمكنُه أنْ يعترفَ بسعادةِ الآخرةِ إلا إذا أقرَّ بوجودِ الصانعِ العالم القادر ِ، وأقرَّ بأنَّهُ يجبُ عليه الانقيادُ لتكاليفِه وأوامرِه ونواهيِهِ،فإذا تأملتَ علمتَ أنَّ الإنسانَ لا يمكنُه إنفاقَ الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميعِ الخصالِ المحمودةِ في الدنيا " (1) .
إن الإيمان باللّه هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى،وشتى الأشياء،وشتى الاعتبارات ..إلى عبودية واحدة للّه تتحرر بها النفس من كل عبودية،وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار ..وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام،ومن التيه إلى القصد،ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه.فهذه البشرية دون إيمان باللّه الواحد،لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة،ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة،كما يتجمع الوجود كله،واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات ..
والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان.وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء ..والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان،وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان.الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه ..
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 4 / ص 296)(1/157)
والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين،وهو الإيمان بوحدة البشرية،ووحدة إلهها،ووحدة دينها،ووحدة منهجها الإلهي ..ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.
وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة.انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق،ويقبض النفوس عن الأريحية،ويقبض الأرواح عن الانطلاق.فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال.وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال.
لا في الرخيص منه ولا الخبيث.فيتحرر من عبودية المال،هذه العبودية التي تستذل النفوس،وتنكس الرؤوس.ويتحرر من الحرص.والحرص يذل أعناق الرجال.وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام،الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها،يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات! ..ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة ..هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس،وكرامة الأسرة،ووشائج القربى.والأسرة هي النواة الأولى للجماعة.
ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم ..وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة،وبين الأقوياء فيها والضعفاء وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين وحماية للأمة من تشرد صغارها،وتعرضهم للفساد،وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية ..وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم،وصيانة لهم من البوار،وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة،التي لا يهمل فيها فرد،ولا يضيع فيها عضو ..وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة(1/158)
العسرة،وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل،وبأن الأرض كلها وطن،يلقى فيها أهلا بأهل،ومالا بمال،وصلة بصلة،وقرارا بقرار ..وهي للسائلين إسعاف لعوزهم،وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام.وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا،فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل،وأن يقنع ولا يسأل.فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال ..وهي في الرقاب إعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة.ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه،وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه.والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية،ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها،ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له،ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة،ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة ..كل أولئك ليسارع في فك رقبته،واسترداد حريته ..
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب.إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه،ظاهرا وباطنا،جسما وعقلا وروحا.إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم،وليست مجرد توجه صوفي بالروح.فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة.إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان،ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح،لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح.ومن ثم يجعل عبادته الكبرى ..الصلاة.
مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق.يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد،ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ويجعلها توجها واستسلاما للّه تحقيقا لنشاط الروح ..كلها في آن ..وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة،وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة ..في كل ركعة وفي كل صلاة.(1/159)
وإيتاء الزكاة؟ ..إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها اللّه حقا في أموال الأغنياء للفقراء،بحكم أنه هو صاحب المال،وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه،من شروطه إيتاء الزكاة.وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة،وليست الزكاة بديلة منه ..وإنما الزكاة ضريبة مفروضة،والإنفاق تطوع طليق ..والبر لا يتم إلا بهذه وتلك.وكلتاهما من مقومات الإسلام.وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق،ولا تغني هي عن الإنفاق.
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها،ويكررها القرآن كثيرا ويعدها آية الإيمان،وآية الآدمية وآية الإحسان.وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول.تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع اللّه.وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد،ولا يطمئن إلى عهد،ولا يثق بإنسان،ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله،ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟ ..إنها تربية للنفوس وإعداد،كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة،ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة،ولا تنهار جزعا أمام الشدة.إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل اللّه بعد عسر يسرا.إنه الرجاء في اللّه والثقة باللّه والاعتماد على اللّه.ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية،والعدل في الأرض والصلاح،أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة.الصبر في البؤس والفقر.والصبر في المرض والضعف.والصبر في القلة والنقص.
والصبر في الجهاد والحصار،والصبر على كل حال.كي تنهض بواجبها الضخم،وتؤدي دورها المرسوم،في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.(1/160)
ويبرز السياق هذه الصفة ..صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس ..يبرزها بإعطاء كلمة «الصَّابِرِينَ» وصفا في العبارة يدل على الاختصاص.فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: « وأخص الصابرين» ..وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر ..لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم،وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان باللّه والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد ..وهو مقام للصابرين عظيم،وتقدير لصفة الصبر في ميزان اللّه،يلفت الأنظار ..
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد،وتكاليف النفس والمال،وتجعلها كلا لا يتجزأ،ووحدة لا تنفصم.وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو «الْبِرَّ» أو هو «جماع الخير» أو هو «الإيمان» كما ورد في بعض الأثر.والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام.
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :«أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا،وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» ..أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم.صدقوا في إيمانهم واعتقادهم،وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة.
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به،ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق ..
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد اللّه أن يرفع الناس إليها،بمنهجه الرفيع القويم ..ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه،ويحاربونه،ويرصدون له العداوة،ولكل من يدعوهم إليه ..ونقلب أيادينا في أسف،ونقول ما قال اللّه سبحانه:يا حسرة على العباد! ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة،على أمل في اللّه وثيق،وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع،ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل.أمل وضيء منير.أن لا بد لهذه البشرية من أن تفي ء - بعد(1/161)
العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع،وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء ..واللّه المستعان. (1)
19- الإيمانُ بالله واليوم الآخر،هو الذي يجعل الإنسان يحافظ على الأمانة:
قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة.
فلا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن من حمل أو من حيض ..ويلمس قلوبهن بذكر اللّه الذي يخلق ما في أرحامهن،ويستجيش كذلك شعور الإيمان باللّه واليوم الآخر.فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن ..وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا.فهناك الجزاء ..هناك العوض عما قد يفوت بالتربص،وهناك العقاب لو كتمن ما خلق اللّه في أرحامهن،وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه،فلا يخفى عليه شيء منه ..فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن. (2)
20- الإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعلُ الإنسانَ ينتصرُ على نفسهُ وهواهُ :
قال تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (232) سورة البقرة .
عَنِ الْحَسَنِ ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ) قَالَ حَدَّثَنِى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا،حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا،فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ،فَطَلَّقْتَهَا،ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا،لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا،وَكَانَ رَجُلاً لاَ بَأْسَ بِهِ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 159)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 246)(1/162)
وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ) فَقُلْتُ الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ .(أخرجه البخاري ) (1) .
وفي رواية عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ كَانَتْ لِى أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَىَّ فَأَتَانِى ابْنُ عَمٍّ لِى فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلاَقًا لَهُ رَجْعَةٌ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَىَّ أَتَانِى يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُنْكِحُهَا أَبَدًا.قَالَ فَفِىَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآيَةَ.قَالَ فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ.(أخرجه أبو داود ) (2) .
فالإيمان باللّه واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب.حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض وحين تتطلع إلى اللّه ورضاه فيما تأخذ وما تدع ..والشعور بأن اللّه يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة،واغتنام الزكاة والطهر.لنفسه وللمجتمع من حوله.ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو اللّه الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة،ويعلقه بعروة اللّه،ويطهره من شوائب الأرض،وأدران الحياة،وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق .. (3)
22- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يمنع المرء من الرياءِ:
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة/264].
__________
(1) - برقم(5130)
(2) - برقم (2089 ) وهو صحيح
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 253)(1/163)
يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تُذْهِبُوا ثواب ما تتصدقون به بالمنِّ والأذى، فهذا شبيه بالذي يخرج ماله ليراه الناس، فيُثنوا عليه، وهو لا يؤمن بالله ولا يوقن باليوم الآخر، فمثل ذلك مثل حجر أملس عليه تراب هطل عليه مطر غزير فأزاح عنه التراب، فتركه أملس لا شيء عليه، فكذلك هؤلاء المراؤون تضمحلُّ أعمالهم عند الله، ولا يجدون شيئًا من الثواب على ما أنفقوه.والله لا يوفق الكافرين لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها. (1)
وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} [النساء/38، 39].
لقد أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه.أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير.وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال: { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي.
فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله:{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } .أي: أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص، وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 277)(1/164)
والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } (1)
أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان باللّه واليوم الآخر،والإنفاق من رزق اللّه.واللّه عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث.واللّه لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم.ولا خوف من الظلم في جزائهم ..بل هناك الفضل والزيادة،بمضاعفة الحسنات،والزيادة من فضل اللّه بلا حساب؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية،فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الآخر،وأنفقوا مما رزقهم اللّه؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا إنما هو رزق اللّه لهم.ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة ويزيدهم من فضله.وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فياله من كرم! ويا له من فيض! ويا لها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران! (2)
23- الإيمانُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلنا نردُّ كلَّ ما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - :
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء/59]
فَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَتِهِ تَعَالَى،وَبِالعَمَلِ بِكِتَابِهِ،وَبِإِطَاعَةِ رَسُولِهِ،لأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ،وَيُبَلِّغُ عَنِ اللهِ شَرْعَُ وَأَوَامِرَهُ،كَمَا يَأْمُرُ اللهُ بِإِطَاعَةِ أُوْلِي الأمْرِ،مِنْ حُكَّامٍ وَأُمَرَاءٍ وَرُؤَسَاءٍ جُنْدٍ،مِمَّنْ يَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي الحَاجَاتِ،وَالمَصَالِحِ العَامَّةِ،فَهَؤُلاءِ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ وَجَبَ أنْ يُطَاعُوا فِيهِ،بِشَرْطِ أنْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ،وَأنْ لاَ
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 178)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 661)(1/165)
يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ،وَلاَ سُنَّةَ نَبِّيهِ التِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ،وَأنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الأَمْرِ،وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ أَوْ نُفُوذِهِ .
وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ المُسْلِمُونَ فَمِنَ الوَاجِبِ رَدُّهُ إلى كِتَابِ اللهِ،وَسُنَّةِ رَسُولِهِ،وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ،وَيَحْتَكِمْ إلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَيْسَ مُؤْمِناً بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ .
وَمَنْ يَحْتَكِم إلى شَرْعِ اللهِ،وَسُنَّةِ رَسُولِهِ،فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلاً ( تَأْوِيلاً )،لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ إلاَّ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَمَنْفَعَتُهُمْ،وَالاحْتِكَامِ إلى الشَّرْعِ يَمْنَعُ الاخْتِلافَ المُؤَدِّي إلَى التَّنَازُعِ وَالضَّلاَلِ . (1)
24- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ راسخاً في العلم ِ :
قال تعالى:{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) [النساء/162] }
لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود، والمؤمنون بالله ورسوله، يؤمنون بالذي أنزله الله إليك -أيها الرسول- وهو القرآن، وبالذي أنزل إلى الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل، ويؤدُّون الصلاة في أوقاتها، ويخرجون زكاة أموالهم، ويؤمنون بالله وبالبعث والجزاء، أولئك سيعطيهم الله ثوابًا عظيمًا، وهو الجنة. (2)
وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور،لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين.فالعلم السطحي كالكفر الجاحد،هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة ..ونحن نشهد هذا في كل زمان.فالذين يتعمقون في العلم،ويأخذون منه بنصيب حقيقي،يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة،لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 552)
(2) - التفسير الميسر - (2 / 160)(1/166)
واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا،وذا إرادة واحدة،وضعت ذلك الناموس الواحد ..وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح اللّه عليهم،وتتصل أرواحهم بالهدى ..أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء،فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان،أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام.وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق ..وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان،أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد،على أيدي موكب واحد متصل من الرسل،صلوات اللّه عليهم أجمعين.
وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني - أول من تعني - أولئك النفر من اليهود،الذين استجابوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ،ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين،يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير ..ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين،الذين تعينهم صفاتهم:«وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ،وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ،وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
وهي صفات المسلمين التي تميزهم:إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة،والإيمان باللّه واليوم الآخر ..وجزاء الجميع ما يقرره اللّه لهم.«أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» .. (1)
25- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ويحافظ عليها:
قال تعالى:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [التوبة/18] }.
إِنَّ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ هُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ،وَبُكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ،وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً غَيْرَ اللهِ،فَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَيَقُولونَ كَلِمَةَ الحَقِّ،وَيَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ؛ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 804)(1/167)
مِمَّنْ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدَ اللهِ،لِتَوافُقِ فِعْلِهِ مَعَ إِيمَانِهِ،وَكَانَ مِنَ المُهْتَدِينَ إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ (1) .
إن العبادة تعبير عن العقيدة فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح،وبالعمل الواقع الصريح،وبالتجرد للّه في العمل والعبادة على السواء:«إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» ..
والنص على خشية اللّه وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر،لا يجيء نافلة.فلا بد من التجرد للّه ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك وخشية أحد غير اللّه لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصدا في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله للّه.وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد اللّه،ويستحقون أن يرجوا الهداية من اللّه:«فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» ..
فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح،ثم يكافئ اللّه على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح.
هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت اللّه وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها اللّه للمسلمين والمشركين،فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية،وعقيدتهم ليست خالصة للّه،ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد،لا يجوز أن يسوى هؤلاء - لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج - بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل اللّه وإعلاء كلمته:«أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟» ..«لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ».وميزان اللّه هو الميزان وتقديره هو التقدير.
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».المشركين الذين لا يدينون دين الحق،ولا يخلصون عقيدتهم من الشرك،ولو كانوا يعمرون البيت ويسقون الحجيج. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1254)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1614)(1/168)
26- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يثبت المؤمنين في القتال،فلا يفرون،ولا يستأذنون:
قال تعالى :{ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة/44، 45].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) نَسَخَتْهَا الَّتِى فِى النُّورِ ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهَ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ( أخرجه البيهقي في السنن) (1) .
فالذينَ يؤمنونَ بالله،ويعتقدونَ بيوم الجزاء،لا ينتظرونَ أن يؤذنَ لهم في أداء فريضةِ الجهادِ؛ ولا يتلكئون في تلبيةِ داعي النفرةِ في سبيل الله بالأموالِ والأرواحِ؛ بل يسارعونَ إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهُم الله،طاعةً لأمره،ويقيناً بلقائهِ،وثقة بجزائهِ،وابتغاءً لرضاه .وإنهم ليتطوعونَ تطوُّعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثُّهم،فضلاً عن الإذن لهم .إنما يستأذنُ أولئكَ الذين خلتْ قلوبُهم من اليقينِ فهم يتلكئونَ ويتلمَّسون المعاذير،لعلَّ عائقاً من العوائقِ يحولُ بينهم وبين النهوضِ بتكاليفِ العقيدةِ التي يتظاهرونَ بها،وهم يرتابونَ فيها ويتردَّدون .
إنَّ الطريقَ إلى الله واضحةٌ مستقيمةٌ،فما يترددُ ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريقَ،أو الذي يعرفُها ويتنكبَّهُا اتقاءً لمتاعبِ الطريق! (2)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 9 / ص 173)برقم(19053) وهو صحيح
(2) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 35)(1/169)
27- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ ينتفعُ بالموعظةِ:
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) [الطلاق/1-4] }
وَهَذَا الطَّلاَقُ يَتَعَلقُ بِالنِّسَاءِ المَدْخُولِ بِهِنَّ،ذَوَاتِ الحَيْضِ،أَمَّا غَيْرُ المَدْخُولِ بِهِنَّ فَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ .وَالنِّسَاءُ المَدْخُولُ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الحَيْضِ كَالآيِسَاتِ،وَغَيْرِ البَالِغَاتِ فَلَهُنَّ حُكْمٌ خَاصٌّ .
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِحْصَاءِ العِدَّةِ،وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا لِئَلاً تَطُولَ عَلَى المَرْأَةِ،كَمَا أَمَرَهُمْ بِحِفْظِ الأَحْكَامِ وَالحُقُوقِ التِي تَجِبُ فِيهَا .
وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالنِّدَاءِ لأَنَّهُ إِمَامُ أُمَّتِهِ،وَقُدْوَتُهَا .ثُمَّ أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنيِنَ بِخَشْيَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ وَتَقْوَاهُ،وَأَمَرَهُمْ بِأَلاَّ يَعْصوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ مِنْ طَلاَقِ النِّسَاءِ لِعِدَّتِهِنَّ،وَفِي القِيَامِ بِحُقُوقِ المُعْتَدَّاتِ،وَأَنْ لاَ يُخْرِجُوا النِّسَاءَ المُعْتَدَّاتِ مِنَ المَسَاكِنِ،التِي كَانَ الأَزْوَاجُ يُسَاكِنُونَهُنَّ فِيهَا قَبْلَ الطَّلاَقِ،فَهَذِهِ السُّكْنَى حَقٌّ وَاجِبٌ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلزَّوْجَاتِ،فَلاَ يَجُوزُ تَعَدِّي هَذَا الحَقِّ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَانْهِدَامِ المَنْزِلِ أَوِ الحَرِيقِ .
وَلاَ تَخْرُجُ المُعْتَدَّاتُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ،أَوِ بِسَبَبِ الإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ مَبَيِّنَةٍ تُوجِبُ حَدّاً مِنْ زِنىً أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا،أَوْ لِبَذَاءَةِ لِسَانٍ،أَوْ لِسُوءِ خُلُقٍ .
وَهَذِهِ الأَحْكَامُ التِي يُبَيِّنُهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الطَّلاَقِ لِلعِدَّةِ،وَمِنْ إِحْصَاءِ العِدَّةِ،وَالأَمْرِ بِاتِّقَاءِ اللهِ،وَعَدَمِ إِخْرَاجِ المُطَلِّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ لِسَبَبِ وَجِيهٍ،كُلُّ ذَلِكَ مِنْ حُدُودِ اللهِ التِي حَدَّهَا لِلمُؤْمِنِينَ،وَعَلَيْهِمْ أَلاَّ يَتَعْدَّوْهَا،وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ،وَأَضَرَّ بِهَا،وَلاَ يَعْلَمُ(1/170)
الزَّوْجُ فَقَدْ يُحَوِّلُ اللهُ قَلْبَهُ مِنَ البُغْضِ لِلْمُطَلَّقَةِ،إِلَى المَحَبَّةِ فَيَنْدَمُ عَلَى فِرَاقِهَا،إِذَا كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا،لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ مُرَاجَعَتَهَا .
فإِذَا بَلَغَتِ المُعْتَدَّاتُ أَجَلَهُنَّ وَشَارَفَتْ عِدَّتُهُنَّ عَلَى الانْقِضَاءِ ( وَلَكِنْ لَمْ تَنْتَهِ العِدَّةُ تَمَاماً )،فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَعْزِمَ إِمَّا عَلَى إِمْسَاكِهَا،وَإِعَادَتِهَا إِلَى عَصْمَتِهِ،وَمُعَامَلَتِهَا بِالمَعْرُوفِ،أَيْ مُحْسِناً صُحْبَتَهَا،وَإِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا بِمَعْرُوفٍ،دُونَ مُشَاتَمَةٍ وَلاَ تَعْنِيفٍ،بَلْ يُطَلِّقُهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ،وَيُؤَدِّي إِلَيهَا حُقُوقَهَا كَامِلَةً مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ حَسَنَةٍ،وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بإِشْهَادِ رَجُلَينِ مِنْ ذَوِي العَدْلِ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي حَالَتي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ،حَسْماً لِلنِّزَاعِ،فَقَدْ يَمُوتُ الزَّوْجُ فَيَدَّعِي الوَرَثَةُ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْهَا،فَيَحْرِمُوهَا مِيرَاثَهَا،وَمَخَافَةَ أَنْ تُنْكِرَ المَرْأَةُ عِدَّتَهَا فَتَقْضِي عِدَّتَهَا وَتَنْكِحَ زَوْجاً آخَرَ .وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الحَقِّ إِذَا اسْتَشْهِدُوا،وَبِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِذَا دُعُوا لأَدَائِهَا .
وَهَذَا الذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ هوَ عِظَةٌ لِمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخَرِ لِيَعْمَلَ بِهَا،وَيَسيرَ عَلى نَهْجِها .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمنينَ أَنَّهُ مَنِ اتَّقَى مِنْهُمُ اللهَ بِمُراعاةِ ما فُرِضَ عَليهِ في أَمْرِ المُطلَّقَاتِ والمُعْتَدَّاتِ،جَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ مِنَ الغَمِّ،وَيُفَرِّجُ عَنْهُ ما يَعْتَرِيهِ مِنَ الهَمِّ والكَرْبِ .
وَمَنِ اتَّقَى اللهَ جَعَلَ اللهُ لَهُ منْ أَمْرِهِ مَخْرَجاً وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ،وَلاَ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بالٍ،وَمَنْ يَكل أَمْرَهُ إِلَى اللهِ،وَيُفوّضْهُ إِلَيهِ كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ،وَاللهُ مُنْفِذُ أَمْرِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيءٍ مِقْدَاراً وَوَقْتاً،فَلاَ تَحْزَنْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُ إِذَا فَاتَكَ شَيءٌ مِمّا كُنْتَ تَرْجُو وَتُؤمَلُ،فَالأُمُورُ مُقَدَّرَةٌ بِمَقَادِيرَ خَاصَّةٍ،{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } (1) .
والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر.فهو يقول لهم:إنه يعظهم بما هو من شأنهم.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5096)(1/171)
فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون.وهذا هو محك إيمانهم،وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان!
«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» ..مخرجا من الضيق في الدنيا والآخرة،ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر.وهو تقرير عام،وحقيقة دائمة.
ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عند ما يتقي المتقون اللّه في هذا الشأن بصفة خاصة.وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير،فالتلاعب فيه مجاله واسع،لا يقف دونه إلا تقوى اللّه وحساسية الضمير.
«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ،إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» ..فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع،ومسالكه كثيرة،وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة،والتوكل على اللّه،وهو كاف لمن يتوكل عليه.فاللّه بالغ أمره.فما قدر وقع،وما شاء كان فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر،وقوة القاهر.الفعال لما يريد.البالغ ما يشاء.
والنص عام.والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب،بالنسبة لإرادة اللّه وقدره ..ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره.
«قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» ..فكل شيء مقدر بمقداره،وبزمانه،وبمكانه،وبملابساته،وبنتائجه وأسبابه.وليس شيء مصادفة،وليس شيء جزافا.في هذا الكون كله،وفي نفس الإنسان وحياته ..وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب كبير من التصور الإيماني (1) .
28- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ لا تأخذه رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ:
قال تعالى:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) [النور/2 ] }
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3601)(1/172)
الزانية والزاني اللذان لم يسبق لهما الزواج، عقوبةُ كل منهما مائة جلدة بالسوط، وثبت في السنة مع هذا الجلد التغريب لمدة عام.ولا تحملكم الرأفة بهما على ترك العقوبة أو تخفيفها، إن كنتم مصدقين بالله واليوم الآخر عاملين بأحكام الإسلام، وليحضر العقوبةَ عدد من المؤمنين; تشنيعًا وزجرًا وعظة واعتبارًا. (1) .
فهي الصرامة في إقامة الحد وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما،وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته،تراخيا في دين اللّه وحقه.وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين،فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها،فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة :«الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً،وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» ..
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون.إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان.وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز.حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة،وبين عفيف وزانية إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر.وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية،ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد:«وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» ..وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة.
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها.فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول،ولا خير لهم في كبتها أو قتلها.
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 208)(1/173)
ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها اللّه في كيانهم،وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر،يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة،وعمارة الأرض،التي استخلف فيها هذا الإنسان.
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد،أو لا تهدف إلى إقامة بيت،وبناء عش،وإنشاء حياة مشتركة،لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية،التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين،وبتعبير شامل التقاء إنسانين،تربط بينهما حياة مشتركة،وآمال مشتركة،وآلام مشتركة،ومستقبل مشترك،يلتقي في الذرية المرتقبة،ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك،الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية،تذهب بكل هذه المعاني،وتطيح بكل هذه الأهداف وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا،لا يفرق بين أنثى وأنثى،ولا بين ذكر وذكر.مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة.فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة،وليس وراءها عمارة في الأرض،وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية،لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار.وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع،الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها،وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها إنما ينظمها ويطهرها،ويرفعها عن المستوي الحيواني،ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية.فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية،والأشواق العلوية ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان،بل أشد غلظا من الحيوان.ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة،في حياة زوجية منظمة،بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان! دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا ..ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على(1/174)
أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة،من اختلاط الأنساب،وإثارة الأحقاد،وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة ..وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة.
ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية،ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس،والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد ..هذا السبب هو الأهم في اعتقادي.وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى.
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل،ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها.فالإسلام منهج حياة متكامل،لا يقوم على العقوبة إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة.ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر.
«ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل.أو اعترافا لا شبهة في صحته.
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا،لأنها غير قابلة للتطبيق.ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة،بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة وعلى تهذيب النفوس،وتطهير الضمائر وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب،فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة.ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة،الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود.أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لما عز ولصاحبته الغامدية.وقد جاء كل منهما يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطهره بالحد،ويلح في ذلك،على الرغم من إعراض النبي مرارا حتى بلغ الإقرار أربع مرات.ولم يعد بد من إقامة الحد،لأنه بلغ إلى الرسول بصفة(1/175)
مستيقنة لا شبهة فيها. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِى مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ ». (1)
فإذا وقع اليقين،وبلغ الأمر إلى الحاكم،فقد وجب الحد ولا هوادة،ولا رأفة في دين اللّه.فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة،وعلى الآداب الإنسانية،وعلى الضمير البشري.وهي رأفة مصطنعة.فاللّه أرأف بعباده.وقد اختار لهم.وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم.واللّه أعلم بمصالح العباد،وأعرف بطبائعهم،فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا،وتفسد فيها الفطرة،وترتكس في الحمأة،وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى ..
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة،وتطهير الجو الذي تعيش فيه.والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة. (2) .
29- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ لا يُوَادُّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ :
قال تعالى:{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) [المجادلة/22] } .
إنها المفاصلة الكاملة بين حزب اللّه وحزب الشيطان،والانحياز النهائي للصف المتميز،والتجرد من كل عائق وكل جاذب،والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد.« لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..فما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه،وما يجمع إنسان في قلب واحد ودّين:ودّا للّه ورسوله وودا
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4378 ) صحيح
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2488)(1/176)
لأعداء اللّه ورسوله! فإما إيمان أو لا إيمان.أما هما معا فلا يجتمعان.«وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» ..فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان.إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين:لواء اللّه ولواء الشيطان.والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب اللّه وحزب الشيطان.فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد.ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر.وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن.وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير.وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم.متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة.وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان اللّه.«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» ..فهو مثبت في قلوبهم بيد اللّه مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن.فلا زوال له ولا اندثار،ولا انطماس فيه ولا غموض! «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» ..
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من اللّه.وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق،ويصلهم بمصدر القوة والإشراق.
«وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» ..جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية.« رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ..وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة،ترسم حالة المؤمنين هؤلاء،في مقام عال رفيع.وفي جو راض وديع ..
ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم.انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به فتقبلهم في كنفه،وأفسح لهم في جنابه،وأشعرهم برضاه.فرضوا.رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه ..«أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ» ..فهم جماعته.المتجمعة تحت لوائه.المتحركة بقيادته.المهتدية بهديه.المحققة لمنهجه.الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه.فهي قدر من قدر اللّه.«أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار اللّه المختارون؟(1/177)
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين:حزب اللّه وحزب الشيطان.وإلى رايتين اثنتين:راية الحق وراية الباطل.فإما أن يكون الفرد من حزب اللّه فهو واقف تحت راية الحق،وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل ..وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان!! لا نسب ولا صهر،ولا أهل ولا قرابة،ولا وطن ولا جنس،ولا عصبية ولا قومية ..إنما هي العقيدة،والعقيدة وحدها.فمن انحاز إلى حزب اللّه ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في اللّه.تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم،وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم،ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب اللّه،فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة.ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل،فلن تربطه بأحد من حزب اللّه رابطة.لا من أرض،ولا من جنس،ولا من وطن ولا من لون،ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر ..لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فانبتت هذه الوشائج جميعا .. (1)
30- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ يعترف بجريمته.ويطلب تطهيره منها :
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى.فَقَالَ « وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ ».قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ ».قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فِيمَ أُطَهِّرُكَ ».فَقَالَ مِنَ الزِّنَى.فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَبِهِ جُنُونٌ ».فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ.فَقَالَ « أَشَرِبَ خَمْرًا ».فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ.قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَزَنَيْتَ ».فَقَالَ نَعَمْ.فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3514)(1/178)
فَوَضَعَ يَدَهُ فِى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِى بِالْحِجَارَةِ - قَالَ - فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ ».قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.- قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ ».قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى.فَقَالَ « وَيْحَكِ ارْجِعِى فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ ».فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِى كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ.قَالَ « وَمَا ذَاكِ ».قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا.فَقَالَ « آنْتِ ».قَالَتْ نَعَمْ.فَقَالَ لَهَا « حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ ».قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ.فَقَالَ « إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ».فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ.قَالَ فَرَجَمَهَا.( أخرجه مسلم ) (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ.فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً قَالَ « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً »(أخرجه مسلم ) (2) .
31- الإيمان بالله واليوم الآخر يدفع إلى التنافس في فعل الخيرات:
قال تعالى :{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) } [المطففين:1 - 6]
__________
(1) - برقم (4527 )
(2) -برقم ( 7180 ) وهناك أحاديث عديدة في هذا الباب -عالج : داعب(1/179)
إن أولئك المطففين،الذين يأكلون أموال الناس بالباطل،ولا يحسبون حساب اليوم الآخر،ويكذبون بيوم الحساب والجزاء،ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية ..إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد.يريد كل منهم أن يسبق إليه،وأن يحصل على أكبر نصيب منه.ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل ..
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس.إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم:«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» ..فهو مطلب يستحق المنافسة،وهو أفق يستحق السباق،وهو غاية تستحق الغلاب.
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم،إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب.والدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة.ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه.فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة ..
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا.بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا.والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع.والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض.أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين! والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين.إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة،ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق.على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى اللّه،ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها اللّه - سبحانه - وهو يقول:«وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .
وإن قولة «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» ...لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة،بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها.ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه! إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود،وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا اللّه.وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود.ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر.وإن مستوى النعيم(1/180)
في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!
ألا إن السباق إلى هناك ..«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» .. (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3859)(1/181)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. تفسير ابن كثير - دار طيبة -
3. تفسير الرازي
4. التفسير الميسر
5. تفسير السعدي
6. تفسير ابن أبي حاتم
7. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع -
8. سنن أبي داود - المكنز
9. سنن الترمذى - المكنز
10. سنن ابن ماجة - المكنز
11. سنن ابن ماجة- ط- الرسالة -
12. شرح السنة للبغوي
13. مسند أبي عوانة
14. موسوعة كتب ابن القيم
15. لتوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي
16. صحيح مسلم - المكنز -
17. صحيح البخارى- المكنز -
18. مدارج السالكين
19. مسند أحمد - المكنز
20. مسند أحمد (عالم الكتب)
21. صحيح ابن حبان
22. المعجم الكبير للطبراني
23. شرح مشكل الآثار
24. معرفة الصحابة لأبي نعيم
25. الخلاصة في معاني النصر الحقيقية للمؤلف
26.(1/182)
الجواب الكافي
27. اليوم الآخر في ظلال القرآن
28. حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ
29. صحيح الجامع الصغير
30. تاج العروس
31. السنن الكبرى للبيهقي
32. المستدرك للحاكم
33. الشاملة 3
34. برنامح قالون(1/183)
الفهرس العام
الباب الأول ... 3
ثمرات الإيمان العامة ... 3
أولاً :الاغتباطُ بولاية الله الخاصة ِالتي هي أعظمُ ما تنافس فيه المتنافسون،وتسابق فيه المتسابقون،وأعظم ُما حصل عليه المؤمنون : ... 3
ثانياً :الفوزُ برضى اللهِ ودارِ كرامته: ... 4
ثالثا:أن الله يدفعُ عن المؤمنينَ جميع المكارهِ،وينجّيهِم من الشدائدَ: ... 5
خامساً:إن جميعَ الأعمال ِوالأقوال إنما تصحُّ وتكملُ بحسب ما يقوم بقلبِ صاحبِها من الإيمانِ والإخلاص: ... 12
سادساً:أنَّ صاحبَ الإيمان يهديه اللهُ إلى الصراط المستقيم ... 16
سابعاً :ومن ثمراتِ الإيمان ولوازمه حبُّ الله لهم : ... 21
ثامناً:حصول الإمامة في الدين : ... 22
تاسعاً :رفعُ مكانتهِم في الدارين : ... 25
عاشراً :حصولُ البشارةِ بكرامةِ الله والأمنِ التامِّ منْ جميعِ الوجوهِ: ... 25
الحادي عشر:حصولُ الفلاح في الدارين : ... 30
الثاني عشر:الانتفاعُ بالمواعظَ والتذكيرُ بالآيات: ... 31
الثالث عشر:الإيمانُ يقطعُ الشكوكَ التي تعرِض لكثيرٍ من الناس فتضر بدينهم : ... 32
الرابع عشر:أن الإيمانَ ملجَأُ المؤمنينَ في كلِّ ما يلمُّ بهم: ... 34
الخامس عشر:الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في المُوبقات المُهلكة : ... 38
السادس عشر:التاسع عشر:خير الخليقة قسمان:هم أهل الإيمان ... 39
السابع عشر:الإيمان يثمر الاستخلاف في الأرض : ... 40
الثامن عشر:الإيمان ينصر الله به العبد : ... 44
التاسع عشر:الإيمان يثمر للعبد العزّة: ... 47
العشرون:الإيمان يثمر عدم تسليط الأعداء على المؤمنين : ... 48
الحادي والعشرون:الأمن التامّ والاهتداء : ... 54(1/184)
الثاني والعشرون:حفظ سعي المؤمنين : ... 57
الثالث والعشرون:زيادة الإيمان للمؤمنين : ... 60
الرابع والعشرون:نجاة المؤمنين : ... 61
الخامس والعشرون:الأجر العظيم لأهل الإيمان : ... 64
السادس والعشرون:معيّة الله لأهل الإيمان،وهي المعية الخاصة:معية التوفيق والإلهام والتسديد : ... 65
السابع والعشرون:أهل الإيمان في أمنٍ منَ الخوف والحزن : ... 66
الثامن والعشرون:الأجر الكبير : ... 72
التاسع والعشرون:الأجر غير الممنون : ... 74
الثلاثون:القرآن إنما هو هُدىً ورحمةٌ للمؤمنين, وشفاءٌ ورحمة،وهو لهم هدى وشفاء : ... 75
الحادية والثلاثون:أهل الإيمان:لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ : ... 76
الثانية والثلاثون:الإيمان الكامل يمنع من دخول النار،والإيمان الضعيف يمنع من الخلود فيها : ... 77
الثالثة والثلاثون : الإيمان أعظم منة يمن بها الله تعالى على الإنس والجن : ... 82
الرابعة والثلاثون : الإيمان بالله وحده يجعل الإنسان المؤمن لا يخاف إلا الله،ولا يهاب غيره ... 87
الخامسة والثلاثون : المؤمنون صمام الأمان للبشر جميعاً ... 91
السادسة والثلاثون :شعور الإنسان أنه مبتلى وممتحن يمنحه مناعة ضد الاغترار : ... 92
الباب الثاني ... 94
ثمرات أركان الإيمان ... 94
المبحث الأول ... 94
ثمراتُ الإيمان بالله تعالى ... 94
المبحث الثاني ... 101
ثمرات الإيمان بالملائكة ... 101
المبحث الثالث ... 104
ثمرات الإيمان بالكتب السماوية ... 104
المبحث الرابع ... 114(1/185)
ثمرات الإيمان بالرسل ... 114
المبحث الخامس ... 117
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر ... 117
المبحث السادس ... 124
ثمرات الإيمان باليوم الآخر ... 124
المطلب الأول ... 124
الثمرات عامة للإيمان باليوم الآخر ... 124
المطلب الثاني ... 127
الثمرات الخاصة للإيمان باليوم الآخر ... 127
1- الإخلاصُ لله (عز وجل) والمتابعةُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ... 127
2- الحذرُ من الدنيا والزهدُ فيها والصبرُ على شدائدها وطمأنينةُ القلب وسلامتُه: ... 127
3- التزودُ بالأعمال الصالحة وأنواع القربات ِ،واجتنابُ المعاصي والمبادرةُ بالتوبة والاستغفار: ... 128
4- الدعوةُ إلى الله عز وجل والجهادِ في سبيله: ... 130
5- اجتنابُ الظلم بشتَّى صوره: ... 131
6- حصولُ الأمن والاستقرارِ والألفةِ بين الناس بالحكمِ بشريعة الله: ... 132
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت: ... 141
8- سلامةُ التفكير وانضباطُ الموازين وسموُّ الأخلاق: ... 141
9- الفوزُ برضا الله سبحانه وجنته، والنجاةُ من سخطه والنار: ... 142
10-تقويةُ الدافع الداخلي للعملِ الصالح،واستشعارُ قيمة الحياة، وأنها ابتلاء للآخرة ومزرعة لها. ... 143
11- تسليةُ المؤمنِ عما يفوته في الدنيا : ... 148
12- ازدياد الخوف والخشية من الله تعالى: ... 152
13- الإيمانُ بالآخرة صمامُ الأمان لهذا الإنسان في هذه الدار ... 153
14- الحرصُ على طاعة الله تعالى رغبةً ورهبةً : ... 153
15- اليقين بالآخرة يؤدي للهداية والفلاح: ... 154(1/186)
16- الذين آمنوا بالله واليوم الآخر َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ : ... 155
17- الإيمانُ بالله واليوم الآخرِ،مع الأخذِ بلوازمهما يجعل البلادَ آمنةً من غضبِ الله ومقته،ويرزقها من الطيباتِ: ... 156
18-الإيمانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو منبعُ كلِّ خيرٍ،وسببُ كلِّ برٍّ: ... 156
19- الإيمانُ بالله واليوم الآخر،هو الذي يجعل الإنسان يحافظ على الأمانة: ... 162
20- الإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعلُ الإنسانَ ينتصرُ على نفسهُ وهواهُ : ... 162
22- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يمنع المرء من الرياءِ: ... 163
23- الإيمانُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلنا نردُّ كلَّ ما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : ... 165
24- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ راسخاً في العلم ِ : ... 166
26- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يثبت المؤمنين في القتال،فلا يفرون،ولا يستأذنون: ... 169
27- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ ينتفعُ بالموعظةِ: ... 170
28- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ لا تأخذه رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ: ... 172
29- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ لا يُوَادُّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ : ... 176
30- الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ يعترف بجريمته.ويطلب تطهيره منها : ... 178
31- الإيمان بالله واليوم الآخر يدفع إلى التنافس في فعل الخيرات: ... 179(1/187)