بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : المنقذ من الضلال ـ موافق للمطبوع
المؤلف: حجة الإسلام الإمام / أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي
دار النشر : المكتبة الثقافية - بيروت / لبنان -
تحقيق : محمد محمد جابر
عدد الأجزاء / 1
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة والمدخل
الحمد لله ، الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة ، والصلاة على محمد المصطفى ، صاحب النبوة والرسالة ، وعلى آله وأصحابه الهادين من الضلالة . أما بعد : فقد سألتني أيها الأخ في الدين ، أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها ، وغائلة المذاهب وأغوارها ، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرقِ ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد ، إلى يفاعٍ الاستبصار ، وما استفدته ، أولاً من علم الكلام ، وما اجتويته ، ثانياً من طرق أهل التعليم ، القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام وما ازدريته ، ثالثاً من طرق التفلسف وما ارتخيته ، آخراً من طريقة التصوف وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق ، من لباب الحق ، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة وما ردني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة ، فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك ، بعد الوقوف على صدق رغبتك ،(1/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ، ومستوفقاً منه ، وملتجئاً إليه : اعلموا - أحسن الله تعالى إرشادكم ، وألان للحق قيادكم - أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة بالفرق ، وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الأكثرون ، وما نجا منه إلا الأقلون ، وكل فريق يزعم أنه الناجي ، " وكل حزبٍ بما لديهم فرحون " . وهو الذي وعدنا به سيد المرسلين صلوات الله عليه ، وهوا لصادق المصدوق حيث قال : " ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة " فقد(1/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
كان ما وعد أن يكون ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن ، وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر العميق ، وأخوض غمرته خوض الجسور ، لا خوض الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مظلمة ، وأتهجّم على كل مشكلة ، وأتقحم كل ورطة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ، لأميز بين محق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع ، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته ، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صفوته ، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته . وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني ، من أول أمري ، وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي ، وحتى انحلت عني رابطة التقليد ، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا ، إذ رأيت : صبيان النصارى لا يكون لهم(1/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
نشوء إلا على التنصُر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام . وسمعت الحديث المروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال : " كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواهُ يُهودانهِ ، وينُصرانهِ ، ويُمجِّسَانِهِ " فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات فقلت في نفسي : أولاً إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي ؟ فظهر لي : أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ، بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين ، مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه - مثلاً - من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً ، لم يروث ذلك شكاً وإنكاراً ، فإني إذا علمت : أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل : لا بل الثلاثة أكثر ، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها ، وشاهدت ذلك منه ، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية(1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
قدرته عليه فأما الشك بسببه فيما علمته فلا ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني .
مدخل السفسطة وجحد العلوم
ثم فتشت عن علومي ، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة ، إلا في الحسيات ، والضروريات ، فقلت الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات وهي الحسيات والضروريات فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات ، وأماني من الغلط في الضروريات من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محقق لا غدر فيه ، ولا غائلة له . فأقبلت بجد بليغ ، أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ؟ فانتهي بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً ،(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
وأخذ يتسع فيها ويقول : من أين الثقة بالحواس ؟ وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ،(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
وتحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة والمشاهدة - بعد ساعة - تعرف أنه متحرك ، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة ، بل بالتدريج ذرة ، ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف . وتنظر إلى الكوكب ، فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار . هذا ، وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس ، بأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته فقلت : قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا : العشرة أكثر من الثلاثة والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً . فقالت الحواس : بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالة فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت : أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً ، واستقراراً ، ولا تشكل في تلك الحالة فيها ، وثم تستيقظ فتعلم : أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل . فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك ، بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها ، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
يقظتك نوماً بالإضافة إليها فإذا وردت تلك الحالة ، تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا الحاصل لها . ولعل تلك الحالة ، ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم ، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم ، وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات ، ولعل تلك الحالة هي الموت ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهُوا " . فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة ، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ويقال له عند ذلك : " فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ " . فلما خطر لي هذه الخواطر ، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية . فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل . فأعضل الداء ، ودام قريباً من شهرين ، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال . حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ،(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين ، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة . ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، على " الشرح " ومعناه في قوله تعالى : " فمن يرد الله أن يهديهُ يشرح صدرهُ للإسلام " قال : " هو نور يقذفهُ الله تعالى في القلبِ " . فقيل : وما علامته ؟ قال : " التجافي عن دار الغُرُورِ ، والإنابة إلى دارِ الخُلُود " . وهو الذي قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيه : " إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ ، ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ " فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحاديين ، ويجب الترصد له كما قال صلى الله عليه وسلّم : " إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ ، ألا فتعرضُوا لها " والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب . فإن الأوليات ليست مطلوبة ، فإنها حاضرة ،(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
والحاضر إذا طلب نفر واختفى ، ومن طلب ما لا يطلب فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب .
القول في أصناف الطالبين
ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده ، أحضرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق : 1 - المتكلمون : وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر . 2 - الباطنية : وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم ، والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم . 3 - الفلاسفة : وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان . 4 - الصوفية : وهم يدعون أنهم خواص الحضرة ، وأهل المشاهدة والمكاشفة(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق ، فإن شذَّ الحق عنهم ، فلا يبقى في درك الحق مطمع ، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ، إذ من شرط(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
بالمقلد أن لا يعلم أنه مقلد ، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب لا يرأب وشعث لا يلم بالتلفيق والتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ، ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة . فابتدرت لسلوك هذه الطرق ، واستقصاء ما عند هذه الفرق . مبتدئاً بعلم الكلام . ومثنياً بطريق الفلسفة ، ومثلثاً بتعلم الباطنية ، ومربعاً بطريق الصوفية .
علم الكلام مقصوده وحاصله
ثم إني ابتدأت بعلم الكلام ، فحصَّلته ، وعقلته ، وطالعت كتب المحققين منهم ، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علماً وافياً بمقصوده ، غير واف بمقصودي ، وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة ، وحراستها عن تشويش أهل البدعة ، فقد ألقى الله تعالى ، إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق . على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار . ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها . فأنشأ الله تعالى ، طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ، على خلاف السنة المأثورة ، فمنه نشأ علم الكلام وأهله ، فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى إليه ، فأحسنوا الذب عن السنة ، والنضال عن العقيدة المتلقاة(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
بالقبول من النبوة ، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة ، ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ، واضطرهم إلى تسليمها ، إما التقليد ، أو إجماع الأمة ، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار وكان أكثر خوضهم في استخراج تناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم ، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلاً ، فلم يكن الكلام في حقي كافياً ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً . نعم لما نشأت صنعة الكلام ، وكثر الخوض فيه ، وطالت المدة ، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها . ولكن لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق . ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري ، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ،(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات ، والغرض الآن : حكاية حالي ، لا الإنكار على من استشفى به ، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء ، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر .
الفلسفة أحاصيلها
، ما يذم منها وما لا يذم ، وما يكفر فيه قائلة ، وما لا يكفر ، وما يبدع فيه وما لا يبدع ، وبيان ما سرقوه من كلام أهل الحق ، وما مزجوه بكلامهم لترويج باطلهم في درج ذلك ، وكيفية حصول نفرة النفوس من ذلك الحق - وكيفية استخلاص صراف الحقائق الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم . ثم إني ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام - بعلم الفلسفة ، وعلمت(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
يقيناً : أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم ، ثم يزيد عليه ، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم ، من غوره وغائله ، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً . ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك ، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم - حيث اشتغلوا بالرد عليهم - إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي ، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم ، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية . فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب ، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية ، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد . فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة ، على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع ، وتلبيس وتحقيق وتخييل ، واطلاعاً لم أشك فيه . فاسمع الآن حكايته ، وحكاية حاصل علومهم ، فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً وهم - على كثرة أصنافهم - يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم ، في البعد عن الحق والقرب منه .(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
أصناف الفلاسفة واتصاف كافتهم بالكفر
اعلم أنهم - على كثرة فرقهم ، واختلاف مذاهبهم - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : الدهريون ، والطبيعيون ، والإلهيون . الصنف الأول الدهريون وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر ، العالم القادر ، وزعموا : أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه ، وبلا صانع ، ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، كذلك كان ، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة .(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
والصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات ، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات . فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى ، وبدائع حكمته ، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم ، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ، ولا يطالع التشريح ، وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ، لا سيما بنية الإنسان . . إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم - لاعتدال المزاج - تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به ، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً ، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم ، كما زعموا ، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة ، وأنكروا الجنة والنار ، والحشر والنشر ، والقيامة ، والحساب ، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ، ولا للمعصية عقاب ،(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
فانحل عنهم اللجام ، وانهمكوا إنهماك الأنعام . وهؤلاء أيضاً زنادقة ، لأن أصل الإيمان هو : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر ، وإن آمنوا بالله وصفاته ، . والصنف الثالث الإلهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق ، وهذَّب لهم العلوم ، وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل ، وأنضج لهم ما كان فجاً من علومهم ، وهم بجملتهم ، ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية ، والطبيعية ، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم " وكفى الله المؤمنين القتال " بتقاتلهم . ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين ، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم ، إلا أنه استبقى من رذاذ كفرهم ، وبدعتهم ، بقايا لم يوفق للنزوع عنها ، فوجب تكفيرهم وتكفير(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين . كابن سينا والفارابي وأمثالهما . على أنه(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متلفسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين ، وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط ، يتشوش فيه قلب المطالع ، حتى لا يفهم ، وما لا يُفهم كيف يرد أو يقبل ؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ، بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام : 1 - قسم يجب التفكير به . 2 - وقسم يجب التبديع به . 3 - وقسم لا يجب إنكاره أصلاً ، فلنفصله .(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
أقسام علومهم
أعلم : أن علومهم - بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه - ستة أقسام رياضية ، ومنطقية ، وطبيعية ، وإلهية ، وسياسية ، وخلقية . أما الرياضية : فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم ، وليس يتعلق منه شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاًِ ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها . وقد تولدت منها آفتان : الأولى : من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ، فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم . ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول : لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجورهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين ، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر ولا مستند له سواه . وإذا قيل له : الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة ، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب ، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق ، وإن كان الحمق والجهل يلزمهم في غيرها ، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني ، لا يعرف ذلك من جربه وخاض فيه . فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحد بالتقليد ، ولم يقع منه موقع القبول ، بل تحمله غلبة الهوى ، والشهوة الباطلة ، وحب التكايس على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها . فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ،(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين ، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم سرى إليه شرهم وشؤمهم ، فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى . الآفة الثانية : نشأت من صديق للإسلام جاهل ، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم . فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف ، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ، لم يشك في برهانه ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً ، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم ، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية . وقوله صلى الله عليه وسلّم : " إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته ، فإذا رأيتم فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة " . وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر ، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص ، أما قوله عليه السلام : " لكن الله إذا تجلى لشيءْ خضع لهُ " فليس توجد هذه الزيادة في الصحيح أصلاً . فهذا حكم الرياضيات وآفتها .(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
وأما المنطقيات : فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس ، وشروط مقدمات البرهان ، وكيفية تركيبها ، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه . وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد ، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان ، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر ، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة ، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات بزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات ، ومثال كلامهم فيها قولهم : إذا ثبت أن كل " أ " " ب " لزم أن بعض " ب " " أ " " ي " إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ، ويعبرون عن هذه بأنه الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية . وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر ؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الإعتقاد في عقل المنكر ، بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار ، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم ، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة ، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ، بل تساهلوا غاية التساهل ، وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً ، فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين ، فيستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية .(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه . 3 - وأما علم الطبيعيات : فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة : كالماء والهواء والتراب والنار ، وعن الأجسام المركبة ، كالحيوان والنبات والمعادن ، وعن أسباب تغيرها وامتزاجها ، وكذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان ، وأعضائهم الرئيسية والخادمة ، وأسباب استحالة مزاجه وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم ، إلا في مسائل معينة ، وذكرناها في كتاب تهافت الفلاسفة وما عداها مما يجب المخالفة فيها ، فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ، وأصل جملتها : أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها . والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته . 4 - وأما الإلهيات : ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين ، على ما نقله الفارابي وابن سينا ، ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ، وتبديعهم في سبعة عشر . ولإبطال(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت أما المسائل الثلاث ، فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك في قولهم : 1 - إن الأجساد لا تحشر ، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة ، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية . ولقد صدقوا في إثبات الروحانية : فإنها كائنة أيضاً ، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به . 2 - ومن ذلك قولهم : " إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات " ، فهو أيضاً كفر صريح ، بل الحق أنه : " لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ " . 3 - ومن ذلك قولهم : يقدم العالم وأزليته ، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل . وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ، وقولهم : إنه عليم بالذات ، ولا يعلم زائد على الذات وما يجري مجراه ، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ، ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك . وقد ذكرنا في كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه . 5 - وأما السياسيات : فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
المتعلقة بالأمور الدنيوية ، والإيالة السلطانية ، وإنما أخذوه من كتب الله المنزلة على الأنبياء ، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء عليهم السلام . 6 - وأما الخلقية : فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها ، وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها ، وإنما أخذوها من كلام الصوفية ، وهم المتألهون المواظبون على ذكر الله تعالى ، وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا ، وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق الناس وعيوبها ، وآفات أعمالها ما صرحوا بها ، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم توسلاً بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم . ولقد كان في عصرهم بل في كل عصر جماعة من المتأهلين لا يخلي الله سبحانه العالم عنهم ، فإنهم أوتاد الأرض ، ببركاتهم تنزل الرحمة على أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال صلى الله عليه وسلّم : " بهم تمطرون ، وبهم ترزقون " ومنهم كان أصحاب الكهف وكانوا في سالف الأزمنة ، على ما نطق به القرآن ، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان : آفة في حق القابل ، وآفة في حق الراد .(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
1 - أما الآفة التي في حق الراد فعظيمة : إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مدوناً في كتبهم ، وممزوجاً بباطلهم ، ينبغي أن يهجر ولا يذكر بل ينكر على كل من يذكره إذ لم يسمعوه أولاً منهم ، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل ، لأن قائله مبطل ، كالذي يسمع من النصراني قوله : " لا إله إلا الله ، عيسى رسول الله " فينكره ويقول : " هذا كلام النصارى " ، ولا يتوقف ربما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول ، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلاة والسلام . فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره ، ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه ، وإن كان أيضاً حقاً عنده . وهذه عادة ضعفاء العقول ، يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق . والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين " علي بن أبي طالب " رضي الله عنه ، حيث قال : لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله ، والعارف العاقل يعرف الحق ، ثم ينظر في نفس القول : فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً ، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من تضاعيف كلام أهل الضلال ، عالماً بأن معدن الذهب الرغام . ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج . مهما كان واثقاً ببصيرته ، ويمنع - من ساحل البحر - الأخرقُ ، دون السباح الحاذق ، ويصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع . ولعمري لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
وكمال العقل ، وتمام الآلة في تمييز الحق عن الباطل والهدى عن الضلال وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن ، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها أصلاً ، وإن سلموا عن هذه الآفة التي ذكرناها . ولقد اعترض - على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين - طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم ، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم ، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل ، مع أن بعضها من مولدات الخواطر ، ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر ، وبعضها يوجد في الكتب الشرعية ، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية ، وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم ، فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفسه ، مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة ، فلم ينبغي أن يهجر ويترك ؟ فلو فتحنا هذا الباب ، وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ، للزمنا أن نهجر كثيراً من الحق ، ولزمنا أن نهجر جملة آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم وحكايات السلف ، وكلمات الحكماء والصوفية لأن صاحب إخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطل ، ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم . وأقل درجات العالم : أن يتميز عن العامي الغمر . فلا يعاف العسل ، وإن وجده في محجمة الحجَّام ، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل ، فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر ، فيظن أن(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
الدم مستقذر لكونه في المحجمة ، ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته ، فإذا عدمت هذه الصفة في العسل ، فكونه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة ، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار ، وهذا وهم باطل ، وهو غالب على أكثر الخلق . فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم ، قبلوه وإن كان باطلاً ، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً ، فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق ، وهو غاية الضلال هذه آفة الرد . 2 - والآفة الثانية آفة القبول : فإن من نظر في كتبهم كإخوان الصفا وغيره ، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية ، والكلمات الصوفية ، ربما استحسنها وقبلها ، وحسن اعتقاده فيها ، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظنه مما رآه استحسنه ، وذلك نوع استدراج إلى الباطل . ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
الغدر والخطر . وكما يجب صون من لا يحسن السباحة على مزالق الشطوط ، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب . وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيَّات ، يجب صون الأسماع عن مختلط الكلمات ، وكما يجب على المعزّم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل ، إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ، بل يجب عليه أن يحذّره منه ، بأن يحذر هو في نفسه ولا يمسها بين يديه ، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله ، وكما أن المعزّم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بني الترياق والسم ، واستخرج منها الترياق وأبطل السم ، فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه . وكذا الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القلاب ، وأخرج منه الإبريز الخالص ، وطرح الزيف والبهرج ، فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ، فكذلك العالم . وكما أن المحتاج إلى الترياق ، إذا اشمأزت نفسه منه ، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم وجب تعريفه ، والفقير المضطر إلى المال ، إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب ، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض ، هو سبب حرمانه الفائدة التي هي مطلبه ، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً ، كما لا يجعل الزيف جيداً ، فكذلك(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
قرب الجوار بين الحق الباطل ، لا يجعل الحق باطلاً ، كما لا يجعل الباطل حقاً ، فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها .
القول في مذهب التعليم وغائلته
ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات ، وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتهم ، لأطّلع على ما في كنانتهم . ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم . فلم يسعني مدافعته ، وصار ذلك مستحثاً من خارج ، ضميمة للباعث من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم . وكذلك قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم . فجمعت تلك الكلمات ، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق مبالغتي في تقرير حجتهم ، فقال : هذا سعي لهم ، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها ، وترتيبك إياها . وهذا الإنكار من وجه حق ، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة ، فقال الحارث : الرد على البدعة فرض فقال أحمد : نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها ، فيم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنه ؟ وما ذكره أحمد بن حنبل حق ، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت ، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية . نعم ، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم يتكلفوها ، ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إلي ، بعد أن كان قد التحق بهم ، وانتحل مذهبهم ، وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم ، بأنهم لم يفهموا بعد حجتهم ، ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم ، فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة عن اصل حجتهم ، فلذلك أوردتها ، ولا أن يظن بي أني - وإن سمعتها - لم أفهمها ، فلذلك قررتها . والمقصود ، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان .(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
والحاصل : أنه لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم ، ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل ، لما انتهت تلك البدعة - مع ضعفها - إلى هذه الدرجة ، ولكن شدة التعصب دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات كلامهم ، وإلى مجاحدتهم في كل ما نطقوا به ، فجاحدوهم في دعواهم : الحاجة إلى التعليم والمعلم ، وفي دعواهم أنه : لا يصلح كل معلم ، بل لا بد من معلم معصوم وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم ، وضعف قول المنكرين في مقابلته ، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب المخالفين ، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه ، بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم ، وأنه لا بد وأن يكون المعلم معصوماً ، ولكن معلمنا المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا قالوا : هو ميت فنقول : ومعلمكم غائب فإذا قالوا : معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد ، وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل فنقول : ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى : " اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكمْ نعمتي " ، وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا يضر غيبته . فبقي قولهم : كيف تحكمون فيما لم تسمعوه ؟ أبالنص ولم تسمعوه ، أم بالإجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف ؟ فنقول : نفعل ما فعله معاذ(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
إذ بعثه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى اليمن . أن نحكم بالنص عند وجود النص ، وبالإجتهاد عند عدمه . بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد إذ لا يمكنه أن يحكم بالنص ، فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية ، ولا يمكنه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام ، وأن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات ، وفات الانتفاع بالرجوع ، فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد ، إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة ، فيفوت وقت الصلاة . فإذن ، جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن . ويقال : إن المخطيء في الاجتهاد له أجرٌ واحدٌ وللمُصيبِ أجران فكذلك في جميع المجتهدات ، وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير ، فربما يظنه فقيراً باجتهاده وهو غني باطناً بإخفائه ماله ، فلا يكون مؤاخذاً به وإن أخطأ ، لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه . فإن قال : ظن مخالفهِ كظنه فأقول : هو مأمور باتباع ظن نفسه ، كالمجتهد في القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غيره فإن قال : فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله أم غيرهما ؟ فأقول : فالمقلد في القبلة عند الاشتباه في معرفة الأفضل الأعلم بدلائل القبلة ، فيتبع ذلك الاجتهاد ، فكذلك في المذاهب فرد الخلق إلى الاجتهاد - ضرورة - الأنبياءُ والأئمة مع العلم بأنهم(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
قد يخطئون ، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " . أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود ، وربما أخطأوا فيه . ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات فيكف يطمع في ذلك ؟ . ولهم ها هنا سؤالان : أحدهما قولهم : هذا وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد العقائد ، إذ المخطئ فيه غير معذور ، فكيف السبيل إليه ؟ فأقول : قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ، وما وراء ذلك من التفصيل ، والمتنازع فيه ، يعرف الحق فيه بالقسطاس المستقيم .(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
وهي الموازين التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقيم " فإن قال : خصومك يخالفونك في ذلك الميزان فأقول : ولا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه ، إذ لا يخالف فيه أهل التعليم ، لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه ، ولا يخالف فيه أهل المنطق ، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق وغير مخالف له ، ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات ، وبه يعرف الحق في الكلاميات . فإن قال : فإن كان في يدك مثل هذا الميزان فلم لا ترفع الخلاف بين الخلق ؟ ، فأقول : لو أصغوا إلي لرفعت الخلاف بينهم ، وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب القسطاس المستقيم فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعاً لو أصغوا ولا يصغون إليه بأجمعهم بل قد أصغى إلي طائفة ، فرفعت الخلاف بينهم . وإمامك يريد رفع الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم ، فلم لم يرفع إلى الآن ؟ ولم لم يرفع علي رضي الله عنه وهو رأس الأئمة ؟ أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهراً ، فلم لم يحملهم إلى الآن ؟ ولأي يوم أجله ؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف ؟ نعم كان يخشى من الخلاف نوع الضرر لا ينتهي إلى سفك الدماء ، وتخريب البلاد وأيتام الأولاد ، وقطع الطرق ، والإغارة على الأموال . وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف من الخلاف ما لم يكن بمثله عهد . فإن قال : ادعيت أنك(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة ، والاختلافات المتقابلة ، لم يلزمه الإصغاء إليك دون خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك ، ولا فرق بينك وبينهم وهذا هو سؤالهم الثاني ، فأقول : وهذا أولاً ينقلب عليك ، فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير : بما صرت أولى من مخالفيك ، وأكثر أهل العلم يخالفونك ؟ فليت شعري بماذا تجيب ؟ أتجيب بأن تقول : إمامي منصوص عليه ، فمن يصدقك في دعوى النص ، وهو لم يسمع النص من الرسول ؟ وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك . ثم هب أنه سلم لك النص ، فإن كان متحيراً في أصل النبوة ، فقال : هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى عليه السلام فيقول : الدليل على صدقي أني أحيي أباك ، فأحياه ، فناطقني بأنه محق ، فبماذا أعلم صدقه ؟ ولم يعلم كافة الخلق صدق عيسى عليه السلام بهذه المعجزة ، بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي ، والنظر العقلي لا يوثق به عندك ، ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة ، وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده . وسؤال الإضلال وعسر تحرير الجواب عنه مشهور فبماذا تدفع جميع ذلك ؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من مخالفه فيرجع إلى الأدلة النظرية التي(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
ينكرها ، وخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة وأوضح منها وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظيماً لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا عنه جواباً لم يقدروا عليه . وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم ، فلم يشتغلوا بالقلب بل بالجواب . وذلك مما يطول فيه الكلام ، وما لا يسبق سريعاً إلى الإفهام ، فلا يصلح للإفحام . فإن قال قائل : فهذا هو القلب ، فهل عنه جواب ؟ فأقول : نعم جوابه أن المتحير لو قال : أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها ، يقال له : أنت كمريض ، يقول : أنا مريض ولا يعين مرضه ويطلب علاجه فيقال له : ليس في الوجود علاج للمرض المطلق ، بل لمرض معين . من صداع أو إسهال أو غيرهما فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه ، فإن عين المسألة عرفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة ، التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق ، ويفهم منه أيضاً صحة الوزن ، كما يفهم متعلم علم الحساب ، نفس الحساب ، وكون المحاسب المعلم عالماً بالحساب وصادقاً فيه . وقد أوضحت ذلك في كتاب القسطاس المستقيم في مقدار عشرين ورقة ، فليتأمل . وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم ، فقد ذكرت ذلك في كتاب المستظهري أولاً ، وفي كتاب حجة الحق ثانياً ، وهو جواب كلام لهم عرض علي ببغداد ، وفي كتاب مفصل الخلاف الذي هو اثنا عشر فصلاً ثالثاً ، وهو جواب كلام عرض علي بهمدان ، وفي كتاب الدرجة المرقوم بالجداول رابعاً ، وهو من ركيك كلامهم الذي عرض علي بطوس ، وفي(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
كتاب القسطاس المستقيم خامساً ، وهو كتاب مستقل مقصوده أن هؤلاء ، ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ، بل هم مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الإمام ، طالما جربناهم فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم ، وإلى المعلم المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها ، فضلاً عن القيام بحلّها فلما عجزوا أحالوا على الإمام الغائب ، وقالوا : إنه لا بد من السفر إليه والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التبجح بالظفر به ، ولم يتعلموا منه شيئاً أصلاً ، كالمتضمخ بالنجاسة ، يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله ، وبقي متضمخاً بالخبائث . ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ، فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس وهو رجل من قدماء الأوائل ، ومذهبه أرك مذهب الفلسفة ، وقد رد عليه أرسطاطاليس ، بل استدرك كلامه واسترذله ، وهو المحكي في كتاب إخوان الصفا وهو على التحقيق حشو الفلسفة . فالعجب ممن يتعب طول العمر في تحصيل العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغيث ، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم فهؤلاء أيضاً(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم ، في رجع حاصلهم إلى استدراج العوام ، وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم ، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال : هات علمه وأفدنا من تعليمه وقف وقال : الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه ، فإنما غرضي هذا القدر فقط . إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات ، بل عجز عن فهمه ، فضلاً عن جوابه . فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تقلهم فلما جربناهم نفضنا اليد عنهم أيضاً .
طرق الصوفية
ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية ، وعلمت أن طريقتهم إنا تتم بعلم وعمل ، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس ، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله . وكان العلم أيسر علي من العمل ، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل : قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله ، وكتب الحارث المحاسبي ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغيرهم من المشايخ ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع . فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات . وكم من الفرق(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما ، وبين أن تكون(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
صحيحاً وشبعان ؟ وبين أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن تكون سكران بل السكران لا يعرف حد السكر ، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء . الطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها ، وهو فاقد الصحة . فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ، وبين أن تكون حالك الزهد ، وعزوف النفس عن الدنيا . فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال . وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك . وكان قد حصل معي - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها ، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى ، وبالنبوة ، وباليوم الآخر . فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي ، لا بدليل معين مجرد ، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها . وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطع علاقة القلب عن الدنيا ، بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى . وأن ذلك(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق . ثم لاحظت أحوالي ، فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب ، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ، ولا نافعة في طريق الآخرة . ثم تفكرت في نيتي في التدريس ، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ، فتيقنت أني على شفا جرف هار ، وأني قد أشفيت على النار ، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال . فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعد على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ، وأحل العزم يوماً ، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى . لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عشية ، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي : الرحيل الرحيل فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل فإن لم تستعد الآن للآخرة ، فمتى تستعد ؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع ؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار ثم يعود الشيطان ويقول : هذه حال عارضة ، إياك أن تطاوعها ، فإنها سريعة الزوال ، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة . فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعي الآخرة ، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة ، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي ، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب ، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب ، فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولا تنهضم لي لقمة ، وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
من العلاج وقالوا : هذا أمر نزل بالقلب ، ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم . ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي يجبي المضطر إذا دعاه وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام ، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً . واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب ديني ، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين ، وكان ذلك مبلغهم من العلم ، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعد عن العراق ، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة ، وأما من قرب من الولاة كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب علي ، وإعراضي عنهم ، وعن الالتفات إلى قولهم ، فيقولون : هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم . ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ، وقوت الأطفال ، وترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح ، ولكونه وقفاً على المسلمين . فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه . ثم دخلت الشام ،(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وأقمت به قريباً من سنتين اشغل الشغل لي إلا العزلة والخلوة ، والرياضة والمجاهدة ، اشتغالاً بتزكية النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله تعالى ، كما كنت حصلته من كتب الصوفية . فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ، أصعد منارة المسجد طول النهار ، وأغلق بابها على نفسي ، وثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة ، وأغلق بابها على نفسي . ثم تحركت في داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ، وفسرت إلى الحجاز ، ثم جذبتني الهمم ، ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه ، فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة ، وتصفية القلب للذكر . وكانت حوادث الزمان ، ومهمات العيال ، وضرورات المعيشة ، تغير في وجه المراد ، وتشوش صفوة الخلوة ، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أقوات متفرقة . لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق ، وأعود إليها . ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره لينتفع به . إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ، بل لو جمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً . فإن جميع حركاتهم وسكناتهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من نور مشكاة النبوة ،(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به . وبالجملة ، فماذا يقول القائلون في طريقة ، طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى ، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة ، استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله ؟ وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها . وهي على التحقيق أول الطريقة ، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه . ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات ، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد . ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال ، إلى درجات يضيق عنها النطق ، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه . وعلى الجملة ، ينتهي الأمر إلى قرب ، يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة الوصول ، وكل ذلك خطأ . وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأسنى . بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول : وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ . . . فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم ، وكرامات الأولياء ، هي على التحقيق ، بدايات الأنبياء . وكان ذلك أول حال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أقبل إلى جبل حراء حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى قالت العرب : إن محمداً عشق ربه . وهذه(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
حالة ، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها . فمن لم يرزق الذوق ، فيتيقنها بالتجربة والتسامع ، وإن أكثر الصحبة ، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً . ومن جالسهم ، استفاد منهم هذا الإيمان فهم القوم لا يشقى جليسهم . ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان ، على ما ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين . والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان . فهذه ثلاث درجات : " يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٌ " . ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون من هذا الكلام ، ويستمعون ويسخرون ، ويقولون : العجب إنهم كيف يهذون وفهيم قال الله تعالى : " ومنهم من يسمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم فأصمهُم وأعمى أبصارهم " . ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم ، حقيقة النبوة وخاصيتها ولا بد من التنويه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها .
حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها
اعلم : أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة ، خلق خالياً ساذجاً لا خير(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
معه من عوالم الله تعالى ، والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى ، كما قال : " وما يعلم جنودُ ربك إلا هو " وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ، ونعني بالعوالم ، أجناس الموجودات . فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس ، فيدرك بها أجناساً من الموجودات : كالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، واللين ، والخشونة ، وغيرها . واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعاً ، بل هلي كالمعدوم في حس اللمس . ثم تخلق له حاسة البصر ، فيدرك بها الألوان والأشكال ، وهو أوسع عالم المحسوسات . ثم ينفتح له السمع ، فيسمع الأصوات والنغمات ، ثم يخلق له الذوق . وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ، فيخلق فيه التمييز ، وهو قريب من سبع سنين ،(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وهو طور آخر من أطور وجوده . فيدرك فيه أموراً زائدة على عالم المحسوسات ، ولا يوجد منها شيء في عالم الحس . ثم يترقى إلى طول آخر ، فيخلق له العقل ، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله . ووراء العقل طور آخر تفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأموراً أخر ، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز . من إدراك المعقولات ، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز ، وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ، وذلك عين الجهل : إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه . والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال ، وحكي له ذلك ابتداء ، لم يفهمها ولم يقربها . وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة ، وهو النوم ، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير . وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له : إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ، ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب - لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته وقال : القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق . وهذا نوع قياسي يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي ، يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الغيب ، وأمور لا يدركها العقل . والشك في النبوة ، وإما أن يقع في مكانها ، وأو في وجودها ووقوعها ، وأو في حصولها لشخص معين . ودليل إمكانها ووجودها . ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ، كعلم الطب والنجوم ، فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي ، وتوفيق من جهة الله تعالى ، ولا سبيل إليها بالتجربة فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية فتبين بهذا البر هان ، أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل ، وهو المراد بالنبوة ، لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها . وما ذكرنا فقطرة من بحرها ، إنما ذكرناها لأن معك نموذجاً منها ، وهو مدركاتك في النوم ، ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً . وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ، فإنما يدرك بالذوق ، من سلوك طريق التصوف ، لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ، ولولاه لما صدقت به . فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
أنموذج ، ولا تفهمها أصلاً ، فكيف تصدق بها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم . وذلك الأنموذج تحصل في أوائل طريق التصوف ، فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس إليه فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة . فإن وقع لك الشك في شخص معين ، أنه نبي أم لا ؟ فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ، إما بالمشاهدة ، أو بالتواتر والتسامع ، فإنك إذا عرفت الطب والفقه ، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم ، وسماع أقوالهم ، وإن لم تشاهدهم ، ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي رحمه الله فقيهاً ، وكون جالينوس طبيباً ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير . بل بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ، فيحصل لك علم ضروري بحالهما . فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار ،(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
يحصل لك العلم الضروري بكونه ( صلى الله عليه وسلم ) على أعلى درجات النبوة ، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ، وكيف صدق ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : " من عمل بما علم ورثهُ الله علم ما لم يعلم " ويكف صدق في قوله : " من أعان ظالماً سلطهُ الله عليهِ " وكيف صدق في قوله : " من اصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ الله تعالى هُمُومَ الدنيا والآخرةِ " . فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري ولا تتمارى فيه . فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ، ولا من قلب العصا ثعباناً ، وشق القمر ، فإذن ذلك إذا نظرت إليه وحده ، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
الخارجة عن الحصر ، وربما ظننت أنه سحر وتخييل ، وأنه من الله تعالى إضلال فإنه " يُضِلُّ من يَشَاءُ ويَهدي من يشاءُ " . وترد عليك أسئلة المعجزات ، فإذا كان مستند إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة ، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكالات والشبهة عليها ، فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك ، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين ، كالذي يخبرك جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين ، بل من حيث لا يدري ولا يخرج من جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد . فهذا هو الإيمان القوي العلمي . وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية فهذا القدر من حقيقة النبوة ، كاف في الغرض الذي أقصده الآن ، وسأذكر وجه الحاجة إليه .
سبب نشر العلم بعد الإعراض عنه
ثم إني لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين ،(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ومرة بالقبول الإيماني : أن للإنسان بدناً وقلباً ، وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة ، وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه ، وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ولا ينجو " إلا من أتى الله بقلب سليم " وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى : في قلوبهم مرضٌ " وأن الجهل بالله سم مهلك ، وأن معصية الله بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي ، وأنه لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك . وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة ، لا ببضاعة العقل . وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ، ولا يخلو عن سر إلهي فيها ، يقتضيها بطريق الخاصية . وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركانها وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات . وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه ، إن عرفنا ذلك ، وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعمى عن درك ما يدرك بعين النبوة ، أخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى العميان إلى العقائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين . فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه .(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة ، ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة ، ثم في حقيقة النبوة ، ثم في العمل بما شرحته النبوة ، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ، فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ، وضعف إيمانهم ، فإذا هي أربعة : 1 - سبب من الخائضين في علم الفلسفة . 2 - وسبب من الخائضين في طريق التصوف . 3 - وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم . 4 - وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس . فإني تتبعت مدة آحاد الخلق ، أسألُ من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له : مالك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا ، فهذه حماقة ، فإنك لا تبيع الاثنين بواحد ، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة ؟ وإن كنت لا تؤمن ، فأنت كافر ، فدبر نفسك في طلب الإيمان ، وانظر سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً ، وهو سبب جرأتك ظاهراً ، وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع . فقائل يقول : إن هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه ، لكان العلماء أجدر بذلك ، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي ، وفلان يشرب الخمر ، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى . وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام ، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جراً إلى أمثاله .(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
وقائل ثان : يدعي علم التصوف ، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقى عن الحاجة إلى العبادة . وقائل ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف . وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول : الحق مشكل ، والطريق متعسرة والاختلاف فيه كثير ، وليس بعض المذاهب أولى من بعض ، وأدلة العقول متعارضة ، فلا ثقة برأي أهل الرأي . والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له ، فكيف أدع اليقين بالشك ؟ وقائل خامس يقول : لست أفعل هذا تقليداً ، ولكنني قرأت علم الفلسفة ، وأدركت حقيقة النبوة ، وإن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات ، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف ، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير ، مستغن فيها عن التقليد . هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة الإلهيين منهم ، وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي . وهؤلاء هم المتجملون بالإسلام . وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات ، ويعظم الشريعة بلسانه ، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر ، وأنواعاً من الفسق والفجور ، وإذا قيل له : إن كانت غير صحيحة فلم(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
تصلي ؟ فربما يقول : لرياضة الجسد ، ولعادة أهل البلد ، وحفظ المال والولد . وربما قال : الشريعة صحيحة ، والنبوة حق فيقال : فلم تشرب الخمر ؟ فيقول : إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء ، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ، وإني أقصد به تشحيذ خاطري . حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها : إنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا ، وأن يعظم الأوضاع الشرعية ، ولا يقصر في العبادات الدينية ، ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان ، والتزام العبادات ، أن استثنى شرب الخمرة لغرض التشافي ، فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم ، وقد انخدع بهم جماعة ، وزادهم انخداعاً ضعف اعتراض المعترضين عليهم ، إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق ، وغير ذلك مما هو ضروري لهم ، على ما بينا علته من قبل . فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب ، ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة ، حتى كان إفضاح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء ، ولكثرة خوضي في علومهم وطرقهم ، وأعني طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء . وانقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت محتوم . فماذا تغنيك الخلوة والعزلة ، وقد عم الداء ، ومرض الأطباء ، وأشرف الخلق على الهلاك ثم قلت في نفسي : متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ، والزمان زمان الفترة ، والدور دور الباطل ، ولو اشتغلت بدعوة الخلق ، عن طرقهم(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
إلى الحق ، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم ، وأنَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد ، وسلطان متدين قاهر . فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة . فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ، لا بتحريك من خارج . فأمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور ، لتدارك هذه الفترة ، وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي لو أصررت على الخلاف إلى حد الوحشة ، فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة ، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ، ولم ترخص لنفسك عسر معاناة الخلق والله سبحانه وتعالى يقول : بسم الله الرحمن الرحيم " ألم . أحسب الناسُ أن يتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذينَ من قبلهم " ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه " ولقد كذبت رسلٌ من قبلكَ فصبروا على ما كذبوا ولقد جاءك من نبأ المرسلين " ويقول عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم " يس والقرآن الحكيم . . إلى قوله إنما تنذرُ من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيبِ " فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة ، والخروج من الزاوية ، وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة ، وتشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة فاستحكم الرجاء . وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مئة ،(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
ويسر الله الحركة إلى نيسابور ، للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سن تسع وتسعين وأربع مئة ، وكان الخروج من بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مئة ، وبلغت العزلة إحدى عشر سنة وهذه حركة قدرها الله تعالى ، وهي من عجائب تقديراته التي لم يكن لهذا انقداح في القلب في هذه العزلة ، كما لم يكن الخروج من بغداد ، والنزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكانه أصلاً بالبال ، والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن " وأنا أعلم أني ، وإن رجعت إلى نشر العلم فما رجعت فإن الرجوع عود إلى ما كان وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه ، وأدعو إليه بقولي وعملي ، وكان ذلك قصدي ونيتي . أما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ، ويعرف به سقوط رتبة الجاه . هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي ، يعلم الله ذلك مني وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ، ولست أدري أأصل مرادي أم أخترم دون غرضي ؟ ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأني لم أتحرك ، ولكنه حركني ، وإني لم أعمل ، لكنه استعملني ، فأساله أن يصلحني أولاً ، ثم يصلح بي ، ويهدني ثم يهدي بي وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه ، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه ، ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان بذلك طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم . أما الذين ادعوا الحيرة من أهل التعليم فعلاجهم ما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم ولا نطول بذكره في هذه الرسالة . وأما ما توهمه أهل الإباحة ، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
في كيمياء السعادة . وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة ، حتى أنكر أصل النبوة ، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ، بدليل وجود عمل خواص الأدوية والنجوم وغيرهما . وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك وأننا أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم ، لأنه من نفس علمهم . ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلاً من نفس علمه برهان النبوة . وأما من أثبت النبوة بلسانه ، وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ، فهو على التحقيق كافر بالنبوة ، وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص ، ويقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ، وليس هذا من النبوة في شيء ، بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل ، تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة ، والعقل معزول عنها ، كعزل السمع عن إدراك الألوان ، والبصر عن إدراك الأصوات ، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات ، فإن لم يجوّز هذا ، فقد أقمنا البرهان على إمكانه ، بل على وجوده . وإن جوز هذا ، فقد أثبت أن هنا أموراً تسمى خواص ، لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً ، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها . فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته والذي يدعي علم الطبيعة ، يزعم أنه ما يبرد من المركبات ، إنما يبرد بعنصري الماء والتراب فهما العنصران الباردان . ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد . فلو أخبر طبيعي بهذا ولم يجربه ، لقال : هذا محال ، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية والهوائية والنارية لا تزيدها برودة ، فنقدر(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
الكل ماء وتراباً ، فلا يوجب هذا الإفراط في التبريد ، فإن انضم إليه حاران فبأن لا يوجب ذلك أولى ويقدر هذا برهاناً وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات ، ومبني على هذا الجنس فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ، وربما لم يألفوه قدروا استحالته ، ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة ، وادعى مدعٍ ، أنه عند ركود الحواس ، يعلم الغيب ، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول . ولو قيل لوا حد : هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء ، هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ، فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يبقى شيئاً من البلدة وما فيها ، ولا يبقى هو نفسه ؟ لقال : هذا محال وهو من الخرافات وهذه حالة النار ، ينكرها من لم ير النار إذا سمعها . وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل . فنقول للطبيعي : قد اضطررت أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ، ليست على قياس المعقول بالطبيعة . فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص ، في مداواة القلوب وتصفيتها ، ما لا يدرك بالحكمة العقلية ، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة ؟ قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق بهذا الشكل : يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ، وتنظر إليهما الحامل بعينها . وتضعها(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
تحت قدميها ، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج . وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في عجائب الخواص وهو شكل فيه تسعة بيوت ، ويرقم فيها رقوماً مخصوصة ، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر ، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب . ب ط د 2 9 4 ز ه ج 7 5 3 و ا ح 6 1 8 فيا ليت شعري من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين ، والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، وهو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة وسببها اختلاف هذه الأوقات . وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة . والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعقلوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول : أليس يختلف الحكم في الطالع ، بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديق ذلك سبب ، وإلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ، لعله جرب كذبه مئة مرة . ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم له : إذا كانت الشمس في وسط السماء ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت في ذلك الثوب فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربما سمعه من منجم وقد جرب كذبه مرات . فليت شعري من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص - معرفتها لبعض الأنبياء - فيكف ينكر مثل ذلك ، فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات ، لم يعرف قط بالكذب ولم لا يتسع لإمكانه ؟ فإن أنكر فلسفي إمكان هذه(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
الخواص في أعداد الركعات ، ورمي الجمار وعدد أركان الحج ، وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً . فإن قال : وقد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب ، فوجدت بعضه صادقاً ، فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبي استبعاده ونفرته ، وهذا لم أجربه به ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه ؟ وإن أقررت بإمكانه ؟ فأقول : إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك . على أني أقول : وإن لم تجربه ، فيقضي عقلك بوجوب التصديق والإتباع قطعاً . فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يجرب المرض ، فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء ، فقال : هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك . فماذا يقتضيه عقله ، وإن كان الدواء مراً كريه المذاق ، أن يتناول أن يكذب ؟ ويقول : أنا لا أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك فإن قلت : فيم أعرف شفقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعرفته بهذا الطب ؟ فأقول : وبم عرفت شفقة أبيك وليس ذلك أمراً محسوساً ؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علماً ضرورياً لا تتمارى فيه . ومن نظر في أقوال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق واللين واللطف ، إلى تحسين الأخلاق وإصلاح(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
ذات البين ، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم حصل له علم ضروري ، بأن شفقته ( صلى الله عليه وسلم ) على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده . وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على لسانه ، وفي الأخبار وإلى ما ذكره في آخر الزمان ، فظهر ذلك كما ذكره ، علم علماً ضرورياً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ، وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص ، والأمور التي لا يدركها العقل . فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار ، تعرف ذلك بالعيان . وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان . وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سيرة العلماء فيداوي هذا المرض بثلاثة أمور : أحدهما : أن نقول : إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر ، ولحم الخنزير والربا ، بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة ، وأنت تعرف ذلك وتفعله ، لا لعدم إيمانك بأنه معصية ، بل لشهوتك الغالبة عليك ، فشهوته كشهوتك ، وقد غلبته كما غلبتك ، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ، لا يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور المعين . وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ، وإن زجره الطبيب عنه ولا يدل ذلك على أنه ضار أو على الإيمان بالطب غير صحيح ، فهذا محمل هفوات العلماء ،(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
والثاني أن يقال للعامي : ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة ، ويظن أن علمه ينجيه ، ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعماله ، لفضيلة علمه . وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له وهو ممكن . فهو وإن ترك العمل ، يدلي بالعلم . وأما أنت أيها العامي إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ، فتهلك بسوء عملك ولا شفيع لك . الثالث : هو الحقيقة ، أن العالم الحقيقي لا يقارف معصية إلا على سبيل الهفوة ، ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً . إذ العلم الحقيقي ما يعرف أن المعصية سهم مهلك ، وأن الآخرة خير من الدنيا . ومن عرف ذلك ، لا يبيع الخير بما هو أدنى منه . وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس . فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى . وأما العلم الحقيقي ، فيزيد صاحبه خشية وخوفاً ورجاء ، وذلك يحول بينه وبني المعاصي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات وذلك لا يدل على ضعف الإيمان . فالمؤمن مفتن تواب وهو بعيد عن الإصرار والإكباب . هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما وآفات من أنكر عليهما ، لا بطريقه . نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ، وأرشده إلى الحق وهداه ، وألهمه ذكره حتى لا ينساه ، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ، واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. انتهى.(1/70)