ـ[مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع - موسوعة شاملة]ـ
وملحق بها السنة بيان الله تعالى على لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
المؤلف: ا. د. علي أحمد السالوس
الناشر: دار الفضيلة بالرياض، دار الثقافة بقطر، مكتبة دار القرآن بمصر
الطبعة: السابعة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
تمهيد
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل. ونصلى ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، والاتصال ببعض علمائهم. وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية - أي الجعفرية الاثنى عشرية - والمذاهب الأربعة.
غير أنني عندما بدأت الدراسة، ثم قرأت كثيراً من كتبهم، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب، حيث إن عقيدتهم في الإمامة، وما ينبنى عليها، تمنع التقريب وتحول دونه، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس، حيث يعتبر باقي الصحابة - وحاشاهم - مقرين للمعصية، راضين عنها.
وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ، فلا حاجة لإثارتها، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه. فكيف تكون دعوة التقريب؟
إن قلنا للشيعة: دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة، أفيقبلون؟(1/5)
وإذا كانوا لا يقبلون، بل لم توجه لهم هذه الدعوة، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة؟
لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة. ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين، ودعاة التقريب منهم، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة، ليفكروا في هذه الفوارق، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر.
وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي، والمعاملات المعاصرة، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها، مستعيناً بالله عز وجل.
وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان:
" عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة - هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً؟ ! "
وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء، وكشفت عن مفتريات وأباطيل، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات.
ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز، المصدر الأول للعقيدة والشريعة. فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية، وقسمته قسمين: -
القسم الأول: للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثانى: للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية.(1/6)
ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين، وأصول كل منهما. ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى، ويطعنون في الصحابة الكرام، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة، ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين، وهذه نتيجة حتمية، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى، وهم رءوس الغلو والضلال، وحملة لواء التشكيك والتضليل، وتحريف القرآن المجيد، وتكفير خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر.
وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي!!
فشغلت بالرد على البيان، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة، فكتبت عشرات المقالات، وبضعة كتب وأبحاث، ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة.
ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، ثم تكرر الطلب حتى استحييت، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب، فأعدت(1/7)
النظر فيما كتبت، واستعنت بالله عز وجل، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى "، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه، وأن عبد الحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة. والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم، وما يدرس منها لطلاب الأزهر، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا!!
وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم، وليس مما كتب عنهم، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر. وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء:
الجزء الأول في العقائد.
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله.
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله.(1/8)
والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه.
وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه.
وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة.
وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي: -
أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة؟
بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا.
والشيعة يزيدون على سبعين فرقة، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا.
ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان ... " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب.
غير أننى عندما بدأت البحث، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما. ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم، التي جعلوها(1/9)
أصلا من أصول الدين، أثرت في مصادر الشريعة، وجميع أبواب الفقه، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله".
فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب. ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات.
وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق.
من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين.
ثانيا: الشيعة ليسوا سواء
الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة، ومنهم من ينشد الاعتدال، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال. فعلى سبيل المثال.
ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري، وتفسير العياشى، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة: تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على، ومن بايعوهم، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل.(1/10)
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى، الكتاب الأول في الحديث عندهم، وقد ضل ضلالا بعيداً، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا.
وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة.
والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي، ومنهم من أخذ من كل نصيبا. وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله "، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة.
وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة.
ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا.
وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة.
والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة، حيث نرى تناقضا واضحا: -
فهم يثنون على الصحابة الكرام، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره، يضرب به عرض الحائط، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب.(1/11)
والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته، وبيان ما فيه من البلايا والرزايا.
وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
تناقض واضح جلى بلا شك!! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو!!
ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم، والمقصود بالصنم كتاب الكافى، وكتاب لله ثم للتاريخ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو، وما كتبه أحمد الكاتب، وموسى الموسوي، وغيرهم. ... فالشيعة إذن ليسوا سواء.
ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام
عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم، والذى جاوز الثمانين من عمره، جاهل بالكتاب والسنة ... معا، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ! هكذا زين الشيطان للرافضى!(1/12)
وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه، وبه نور الظلم، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل ... هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل، أو من الناس.
وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة ".
وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة.
رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة "، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة، ووجوب اجتماع الكلمة، أي أننا يجب أن نجتمع، على الكفر والزندقة، لا على سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ.
فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم، يغرون بالمال الوفير، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم.
رابعا: عبد الله بن سبأ
صاحب فكرة الوصي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو،(1/13)
فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبى الحسن مثل ذلك. وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي، وسعد بن عبد الله القمي، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى:
" عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ". (ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234. وكلها مراجع شيعية) .
ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة، ولرفع هذه التهمة الثابتة، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها، وإن قصته وضعها سيف بن عمر، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري.
وما قاله هذا الشيعي غير صحيح، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر، وليس منقولا عن طريق الطبري، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ، وليس في سندها سيف بن عمر:
فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة:
الكافى للكلينى 1/545، وللصدوق: فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213، وعلل الشرائع ص 344، والخصال 638، وللطوسى: تهذيب الأحكام 2/322، واختيار معرفة الرجال 2/108، والأمالى 1/234.
وراجع أيضا: وسائل الشيعة 18/554، ورجال الكشّى، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها. ويمكن أن يكون(1/14)
هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق. جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه:
الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ: من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76) .
وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي، قال: حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي، قال: حدثني محمد بن عثمان العبدى، عن يونس بن عبد الرحمان، عن عبد الله بن سنان، قال: حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه: أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله!! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك، وقال: نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي!! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه: ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار". وقال: إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك.
حدثني محمد بن قولويه، قال: حدثني سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى، عن ابن أبى عمير، عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه، فقال: إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار.
حدثني محمد بن قولويه: قال: حدثني سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن على بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم. نبرأ إلى الله منهم.
وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبى عمير، وأحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، والحسين بن سعيد، عن ابن أبى عمير، عن هشام بن سالم، عن أبى حمزة الثمالى، قال: قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله(1/15)
من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى، لقد ادّعى أمراً عظيماً! ما له لعنه الله، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً، أخا رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله.
وبهذا الإسناد: عن محمد بن خالد الطيالسى، عن ابن أبى نجران، عن عبد الله (بن سنان) ، قال: قال أبو عبد الله رضي الله عنه: إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ.
أقول ـ أي الخوئى: وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان، بدل عبد الله.
وقال الكشّى: " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في على رضي الله عنه مثل ذلك، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على!! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه(1/16)
وأكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة: أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية!! ".
أقول: بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى:
" إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا ... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير: " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه، اللهم وال من ... والاه ... " وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم (عبد الله بن سبأ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (11/205: 207) . انتهت الترجمة.
ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر، ومع ذلك يقول: أسطورة عبد الله بن سبأ، ويثنى على مرتضى العسكري! وعلى دراساته! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا؟!
ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنسبة لأصل التشيع، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر، خير البشر بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/17)
وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما. والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم؟! (1)
أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي:
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه، بأنه إله، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده.
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي: -
ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية.
ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك.
ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة، وكان أول من قال بذلك، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو
_________
(1) استدلال الخوئى هنا على أصل التشيع والرفض يأتي أثناء ذكر الأدلة ومناقشتها في هذا الجزء الأول.(1/18)
الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه.
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية، انظر المصادر التالية:
" الغارات للثقفى، " رجال الطوسي "، " الرجال " للحلي، " قاموس الرجال " للتستري، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري، " الكنى والألقاب " لعباس القمي، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ) ، " الرجال " لابن داود، " التحرير " للطاوسي، " مجمع الرجال " للقهبانى، " نقد الرجال " للتفرشى، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي.
فهذه على سبيل المثال لا الحصر، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري، والسيد محمد جواد مغنية، وغيرهما ... في نفى وجود هذه ... الشخصية، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة.
انتهى كلام السبد حسين الموسوي، العالم الشيعي النجفي، ومصادره كلها شيعية كما ذكر(1/19)
الجزء الأول في العقائد:
مقدمة
بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى:
لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها.
والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى.
والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد، وما بينه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة المطهرة.
وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم، وأبين وجهة نظرهم، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه.
وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة، لأن السنة مجال واسع رحب، ودور الكذّابين والوضاعين معروف. والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية، ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات، بل عشرات المئات، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان. وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين؟!(1/20)
وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي: الموطأ ومسند الإمام أحمد، والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة.
أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها. على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها. وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية.
غير أننى لم أكتف بهذا، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها، مع مناقشتها، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة.
وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم.
أولهما: كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية.
والكتاب الثانى هو: المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، ورددت عليه بكتابي: المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى.
فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين، والرد عليهما، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال.(1/21)
وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها: عصمة الأئمة، والبداء، والرجعة، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول: -
الفصل الأول ... : - الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.
الفصل الثانى ... : - أدلة الإمامة من القرآن العظيم.
الفصل الثالث ... : - الإمامة في ضوء السنة.
الفصل الرابع ... : - الاستدلال بالتحريف والوضع.
الفصل الخامس: - عقائد تابعة.
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنه نعم المولي ونعم ... النصير، وهو المستعان.
" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ"، " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"(1/22)
الفصل الأول
الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة
أولا: الإمامة والخلافة
الإمامة لغة التقدم، نقول: أمّ القوم وبهم: تقدمهم. والإمام: ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره: هادياً كان أو ضالاً، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم.
وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به أي اقتدى.
ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم، فهو إمام المسلمين، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو إمام الأئمة بأئمتها، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها.
ويطلق على قيم الأمر المصلح له، وعلى قائد الجند، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1) .
ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة، قال تعالى: -
" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " (2) أي جاعلك قدوة يؤتم به، وقال سبحانه: " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3)
_________
(1) من بينها مثلا: أمة يؤمه إذا قصده كما جاء في الآية الكريمة الثانية من سورة المائدة
{ولا آمين البيت الحرام} انظر مادة " أمم " في لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) البقرة: 124.
(3) الأنبياء: 73.(1/23)
وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ " (1) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم. وقال تعالى: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (2) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم ... القيامة.
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة. ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول: " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إدارة شئون المسلمين، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة " (3) .
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (4)
وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحسم الخلاف، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (5)
_________
(1) التوبة 12
(2) القصص:41
(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/21. والمعروف أن الخليفة الأول رضي الله عنه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده كل خليفة يخلف من سبقه.
(4) الملل والنحل 1/24.
(5) - سورة النساء: الآية 65.(1/24)
ثانيا: التفكير في الإمامة وبيعة الصديق
أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير؟
وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجعه الذي توفى فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً، قال ابن عباس: فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى أنت؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال على: والله لئن سألناها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، فوالله لا أسأله أبداً (1) .
وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال: " قيل: يا رسول الله، من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا علياً، ولا أراكم فاعلين، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (2)
معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال: " بلغنى أن قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت
_________
(1) انظر الرواية رقم 2374 بالجزء الرابع من مسند الإمام أحمد تحقيق وتخريج الشيخ أحمد شاكر. وانظر هذه الرواية بسند صحيح آخر رقم 299 ج 5 من المسند.
(2) المرجع السابق ج3 رواية رقم 859 وهى صحيحة الإسناد.(1/25)
فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة، وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة، وخالف عنا على والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر، فقلت لأبى بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم، فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر.
والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى، ولا يقربنى ذلك من إثم، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته(1/26)
الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، قال عمر: وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا ... رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " (1) .
ثالثاً: الإمامة عند الجمهور
مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي: -
أولاً: لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإلى هذا انتهى جمهور السنة، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم.
ثانياً: أن الخلافة في قريش: " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة: فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش "، ومما آخرجه هنا
_________
(1) صحيح البخاري - كتاب المحاربين - باب رجم الحبلى، وراجع المسند تحقيق شاكر ج1 رواية رقم 391 قوله: تغرة أن يقتلا: أي خوف وقوعهما في القتل. يحضوننا: يخرجوننا: زورت: هيأت وحسنت والتزوير: إصلاح الشيء، وكلام مزور: أي محسن. جذيلها المحكك: الجذيل تصغير جذل، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به، وهو تصغير تعظيم، أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا العود، وقيل: أراد أنه شديد البأس صلب المكسر. المرجب من الترجيب، وهو أن تعمد النخلة الكريمة ببناء إذا خيف عليها - لطولها وكثرة حملها - أن تقع. (انظر المسند ففيه المزيد) ..(1/27)
قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان ".
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش "، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان ".
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا، منها قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما بعد، يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر، ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية، فإذا هو أبيض يصلد " (1)
ثالثاً: لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ". " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار ".
فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (2) 2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (3)
_________
(1) المسند ج6 رواية رقم 4380، وانظر كذلك ج7 رواية رقم 4832، ج8 الروايتين 5677، 6121، ج13 الروايتين 7304، 7547.
(2) في فتح البارى بعد الحديث عن الرواية السابقة قال ابن حجر: قد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن علياً بايع أبا بكر في أول الأمر. وأما ما وقع في مسلم عن الزهرى أن رجلاً قال له: لم يبايع على أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها قال: لا ولا أحد من بنى هاشم. فقد ضعفه البيهقي بأن الزهرى لم يسنده، وأن الرواية الموصولة عن أبى سعيد أصح. وجمع غيره بأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث. وحينئذ يحمل قول الزهرى لم يبايعه على في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده، وما أشبه ذلك، فإن في انقطاع مثله عن مثله يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته، فأطلق من أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر على المبايعة التي بعد موت فاطمة لإزالة هذه الشبهة.
(3)(1/28)
رابعا: ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى، قال تعالى: -
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (1) . وقال جل شأنه: -" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (2) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (3)
خامساً: -أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته. " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " (...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ".
بعد هذه الملاحظات نقول: إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط ... الجمهور للخلافة الراشدة، خلافة النبوة، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة (4) .
ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة، ولم يطل على التاريخ من جديد، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية. والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة، وإنما هي في أهل
_________
(1) سورة النساء - الآية 58.
(2) سورة الشورى: الآية 38.
(3) آل عمران - الآية 159.
(4) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/93: 109، والفرق بين الفرق ص 210 -212.(1/29)
بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة. وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسى، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح. وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه.
*****
رابعاً: على وبيعة من سبقه
إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر. فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة. فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره. ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي، مع اعترافه بأفضلية الصديق، وعدم إنكار ... أحقيته لإمامة المسلمين: روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة ... الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه، فتشهد على فقال: " إنّا قد ... عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصيباً، حتى فاضت عينا أبى بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعه فيها إلا صنعته. فقال على لأبى بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر ... الظهر رقى على المنبر فتشهد، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذى اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون ...(1/30)
وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف ... " (كتاب المغازي باب غزوة خيبر) . وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ... ما سبق، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق ... أبى بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى على فقالوا: أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نورث ماتركنا فهو صداقة) .
واستبد بالأمر: إذا انفرد به غير مشارك له فيه، وقول الإمام: ولكنك استبددت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا في أمر الخلافة.
ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة ... رضي الله عنهما، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة.
وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام. على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما(1/31)
اشتهر به من الشدة، وقالوا لأبى بكر: قد وليت علينا فظاً غليظاً، ... فقال: لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت: وليت عليهم خيرهم (1) .
وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا: نسمع ونطيع، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله: " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (2) .
ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة. ومرت الخلافة العمرية الراشدة، وانتهى الأمر إلى الستة (3) ليختاروا واحدا منهم، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين، فلماذا انتهت إليه؟
روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن: لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالى، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور: طرقنى عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً،
_________
(1) انظر الملل والنحل 1/25، وجاء في كتاب الاستخلاف " إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمى به ورأيى فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت. ولكل امرئ ما اكتسب. وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون " (الكامل للمبرد 1/8) .
(2) عبقرية الصديق ص 164.
(3) الستة هم: على وعثمان والزبير وطلحة وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف. قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمرى إلى على. فقال طلحة: قد جعلت أمرى إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمرى إلى عبد الرحمن بن عوف.(1/32)
فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعانى فقال: ادع لي علياً فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قام على من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من على شيئاً، ثم ... قال: ادع لي عثمان فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون (1) .
وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله. وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى، وتذكر ما له من فضل ومكانة. إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً. وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة، بل زاد أوراها، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر
_________
(1) البخاري - كتاب الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس، وراجع فتح الباري - كتاب المناقب - باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه.(1/33)
الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" (1) .
وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً، على ومعاوية! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة ". (2) }
_________
(1) سورة الأنفال: الآية رقم 25.
(2) الشيعة معناها الأتباع والأنصار والفرقة، ولكن غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً، وجمعه أشياع وشيع. (انظر مادة شيع في القاموس المحيط) .
وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بمعناه في عدد من آياته كقوله تعالى: - {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص آية "15") . وقوله عز وجل في سورة الأنعام (الآية 159) : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . وقيل: إن ظهور هذا اللقب كان عام سبع وثلاثين من الهجرة، وقيل بل بعد أن قبض معاوية على زمام السلطة (انظر مختصر التحفة ص 5 وروح الإسلام ص 313) . وقال الدكتور طه حسين: الشيء الذي ليس فيه شك فيما أعتقد هو أن الشيعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخى الفرق لم توجد في حياة على وإنما وجدت بعد موته بزمن غير طويل. وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام على هو نفس معناها اللغوى القديم الذي جاء في القرآن (على وبنوه ص 173) . وتحدث بعد ذلك (ص 187 - 189) عن عودة الحسن من الكوفة إلى المدينة بعد الصلح مع معاوية، وعن مجىء وفد من أشراف الكوفة ومعاتبتهم له، وطلبهم إليه أن يعيد الحرب، وموقفه منهم. وقال الدكتور طه حسين بعد ذلك: "وأعتقد أن اليوم الذي لقى الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفه، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسى المنظم لشيعة على وبنيه، نظم الحزب في* *المدينة في ذلك المجلس وأصبح الحسن له رئيساً، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة " (ص 189-190) .(1/34)
خامساً: الخوارج ورأيهم في الإمامة
الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (1) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها: إكفار على، وعثمان وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (2) .
وللخوارج رأي خاص في الإمامة:
فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم. ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله. ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً. كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز، فإقامة الإمام في نظرهم ليست
_________
(1) هذه البقية من الإباضية، وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد الزنجبار. ويقولون عن مخالفيهم إنهم كفار نعمة لا كفار في الاعتقاد، وذلك لأنهم لم يكفروا بالله تعالى، ولكنهم قصروا في جنب الله عز وجل (انظر ص 91من الجزء الأول من تاريخ المذاهب الإسلامية) كما يقيم طوائف منهم في عمان والجزائر وتونس.
(2) الفرق بين الفرق ص 45، واقرأه إلى ص 67 للتعرف على الخوارج وآرائهم، وراجع كذلك: الملل والنحل 1/114 -138 والخطط المقريزية ج4 ص 178-180وفجر الإسلام 1/314، 325، وتاريخ المذاهب الإسلامية 1/96 -92.(1/35)
واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة. وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم. وخرجت على مخالفيهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (1)
سادساً: الإمامة عند الزيدية
الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين.
وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم. فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء.
وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، فقال: " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين نائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد. والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل
_________
(1) الفرق بين الفرق ص 65: 66.(1/36)
الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن، والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام، ويحكم بحكمه في القضايا " (1)
ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من ... الشيخين، وإنما قال: " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه، ورفضوا مقالته حتى قال لهم: رفضتمونى، ومن يومئذ سموا رافضه (2) .
وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه، فالجارودية زعموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الإمام على بالوصف دون التسمية، وهو الإمام بعده، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (3) .
ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن، ومنهم من توقف (4) .
_________
(1) الملل والنحل 1/155.
(2) الفرق بين الفرق ص 25، وانظر الملل والنحل 1/155.
(3) انظر المرجع الأول ص22، والملل والنحل 1/157 -158.
(4) انظر الملل والنحل 1/159 -162، والفرق بين الفرق ص 24، وفرق الشيعة ... ص 20 -21، ص 55، والفصل في الملل والأهواء والنحل ص 92-93.(1/37)
سابعاً: الإمامة عند الإسماعيلية
أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه.
ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده، وقد بلغ الرسول الكريم ربه، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى ولا أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان. ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر، فابنه جعفر الصادق. وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية.
فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل، الابن الأكبر، وافترق هؤلاء فرقتين:
فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه. وفرقة قالت: كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (1) .
_________
(1) الفرق بين الفرق ص39.(1/38)
والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم، ثم في (ظاهرين قائمين) من بعدهم. وقالوا: لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم. إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور.
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (1) .
ثامناً: عقيدة الإمامة عند الجعفرية
الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل، فأقول:
يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي، فالقول فيه مخلتف، ولذلك قالوا (2) .
_________
(1) انظر الملل والنحل 1/191-192.
(2) انظر أقوالهم في المراجع الآتية:
عقائد الأمامية ص 80:65 - أصل الشيعة وأصولها ص 41:33 - كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد: المقصد الخامس: الإمامة ص284 وما بعدها - بحار الأنوار: باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة 25/115: 175 وباب أنه جرى لهم (أي للأئمة) من الفضل والطاعة مثل ما جرى للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنهم في الفضل سواء. انظر نفس الجزء من ص 352 إلى363.(1/39)
إن الإمامة أصل من أصول الدين: -
لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا: فمن قائل بكفره، إلى قائل بالفسق، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية.
ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة! حيث قال: " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) .
وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف: وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة، فعنه أنه قال: الناصبى شر من اليهودى. قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ فقال: إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ... (انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر) .
وفى مصباح الهداية (ص 61-62) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة!
وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق: " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء. واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رسالته في الاعتقادات ص 103) .
وقال المفيد: " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في(1/40)
النار" (بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه) . والمفيد كان رأس الإمامية، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي.
وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى: فقه الشيعة الإمامية 1/15) .
الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه: -
فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان!
ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق.
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله.
وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى، لا يخطئ فيه ولايشتبه عليه، ولا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية، ولا إلي تلقينات المعلمين، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد. وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسدده ويرشده ويعلمه، فلما انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده. ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
_________
(1)) انظر أصول الكافى: باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (1/271-272) وباب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (1/273-274) وهذا الباب فيه ستة أخبار منها عن أبى * *عبد الله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده. وفى الباب الأسبق ذكر أن روح القدس خاصة بالأنبياء، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام. وروح القدس لاينام ولا يغفل ولايلهو ولا يزهو والإمام يرى به، وفيه الحاشية فسر الرؤية بقوله: يعنى ماغاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء! وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى! وانظر بحار الأنوار (47/25-99) باب الأرواح التي فيهم (أي في الأئمة) وأنهم مؤيدون بروح القدس..وقال ابن بابويه القمي في رسالته (ص 108-109) : " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله، متفقة المعانى، غير مختلفة، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى " وهذا القمي صاحب كتاب " فقيه من لايحضره الفقيه ": أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية. وقال المجلسى: أصحابنا أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة. عمداً وخطأ ونسيانّا قبل النبوة والإمامة وبعهدهما، بل من وقت ولادتهما إلى أن يلقوا الله تعالى. ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخة ابن الوليد، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " (بحار الأنوار: 25/350-351) . وقال الطوسي: " لا يجوز عليهم- أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله. فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل. وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم. والنوم سهو، وينسون كثيراً من تصرفاتهم أيضاً، وما جرى لهم فيما مضى من الزمن " (التبيان 4/165-116) . والطوسى يلقبونه بشيخ الطائفة، وهو صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة.(1/41)
لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية(1/42)
العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم، ورفع الظلم والعدوان من بينهم، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة.
الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وهم الشهداء على الناس، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه. فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه وعدوهم عدوه. ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى، فيجب التسليم لهم، والانقياد لأمرهم، والأخذ بقولهم.
ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم، ولا يصح أخذها إلا منهم، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى، غيرهم، ولايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم.
مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى، ولا يعين إلا بتعيينه.
ويعتقدون كذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على خليفته والإمام في البرية من بعده، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى، وإماماً للخلق في عدة مواطن، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم. كما أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر، نص عليهم جميعاً بأسمائهم، ثم نص المتقدم منهم على من بعده.(1/43)
6-الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهم: -
1- ابو الحسن على بن أبى طالب (المرتضى) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات، واستشهد سنة أربعين من الهجرة.
2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى " ... (3-50)
3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء " ... (4-61)
4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين " ... (38-95)
5-أبو جعفر محمد بن على " الباقر" ... (57-114)
6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق " ... (83-148)
7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم " ... (128-183)
8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا " ... (148-202 أو 203)
9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد " ... (195-220)
10-أبو الحسن على بن محمد " الهادى " ... (212أو 214-250)
11-أبو محمد الحسن بن على " العسكري" ... (232-260)
12-أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. قيل ولد سنة 256 هـ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ، وغيبة كبرى سنة 329(1/44)
تعقيب
بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي: -
جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً: على وبيعة من سبقه "، وأول من قال بالوصى بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد.
إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة، وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي شهد لهم بالخيرية، وبشر بعضهم بالجنة، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى؟!
ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه. وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير.(1/45)
وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبد الحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب!! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران، وعبد الحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص!! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما!!
ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال:
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعلم أنه زنديق: وذلك أن القرآن حق، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة. فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق ".
قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله، بحيث يكون الابن خلفا للأب، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه. وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا:(1/46)
" إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه واستصغروه، وقالوا: لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين، وجميع ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها، طفل غير بالغ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ
وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره، وعلى قول آخر في الثامنة، أي أنه كسابقه في سن الطفولة!
وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري: فقد توفى ولم ير له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة!! وهو غائب يحج كل عام يرانا ولانراه!!
والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد.
من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر، والشرك بالله عز وجل، ومن ادعت نبوة(1/47)
فرد من أفرادها، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم، وقالت: من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه!
والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية، وأنها تمثل مذهب أهل البيت! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً.
وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز، والسنة ... المطهرة!!
ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب.(1/48)
الفصل الثاني
أدلة الإمامة من القرآن العظيم
" بين يدى الفصل "
من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى، فلجأ معتنقوه إلى التأويل، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة. وأهم ما استدل به الجعفرية هو:
قال تعالى:
" إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (1)
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية، ويقولون: إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا فصل هو على بن أبى طالب، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و" وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع.
في آية المباهلة
" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (2)
_________
(1) سورة المائدة - الآية 55.
(2) سورة آل عمران - الآية 61.(1/49)
3 - قال تعالي:
" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (1)
قالوا: إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم، والإمامة تدور مع العصمة.
4- قال سبحانه وتعالى: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (2)
قالوا: إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل. ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط. أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة.
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك، فأوحى إليه:
"
_________
(1) سورة الأحزاب - الآية 33.
(2) سورة البقرة - الآية 124.(1/50)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1)
فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، فنادى وجلهم يسمعون:
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم بلى. فقال: من كنت مولاه فهذا على مولاه، إلى آخر ما قال، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة (2) .
وقبل أن ينصرف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (3)
فقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتى، والولاية لعلى من بعدى، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان (4) . فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري. فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم
_________
(1) سورة المائدة - الآية 67.
(2) أصل الشيعة وأصولها ص 134، وفيه " يا أيها النبي " و" اللهم نعم ".
(3) الآية الثالثة من سورة المائدة.
(4) انظر الغدير 1/11.(1/51)
شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل؟ فقال: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله عز وجل: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (1) الآيات (2)
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم، فلنعرض رأيهم، ونناقشه بالتفصيل.
أولا: الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره.
وقالوا في المعنى: إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق، والقيام بأمورهم، وتجب طاعته عليهم فقال:
_________
(1) أول سورة المعارج.
(2) الغدير 1/240.(1/52)
"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال: " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع.
ثم قالوا: هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا فصل، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على، ثبت النص عليه بالإمامة، ووضح. الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور. والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة. فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (1) .
هذا ما ذهب إليه الجعفرية، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري (2) .
-اختلفوا في المعنى بقوله تعالى:
"
_________
(1) راجع تأويلات الجعفرية للآية الكريمة، والروايات التي ذكروها لتأييد ما ذهبوا إليه في المراجع التالية: التبيان 3/558 - 564. ومجمع البيان 6/126 -130، والميزان 6/2 -24، وزبدة البيان ص 107 -110، وكشف المراد ص 289، ومصباح الهداية ص 179 -181، وتفسير شبر ص141
(2) انظر تفسير الطبري، تحقيق شاكر 10/424 - 425(1/53)
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم: عنى به على بن أبى طالب، وقال بعضهم: عنى به جميع المؤمنين.
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله. ثم ذكر روايتين:
الأولى: عن إسماعيل بن إسرائيل قال: حدّثنا أيوب بن سويد قال، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ " قال: على بن أبى طالب.
الثانية: هي حدثني الحارث قال: حدثني عبد العزيز قال: حدّثنا غالب بن عبيد الله قال، سمعت مجاهداً يقول في قوله: " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ " قال: نزلت في على ابن أبى طالب، تصدق وهو راكع.
والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد، وعتبة بن أبى الحكيم: فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (1) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلاً، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (2) .
فهذه الراوية إذن ضعيفة السند. والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك (3) فراويته لا يؤخذ بها.
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (4) : "
_________
(1) انظر المرجع السابق ج 5 حاشية ص 224.
(2) نفس المرجع ج10 حاشية ص 426.
(3) الموضع السابق من المرجع ذاته.
(4) انظر تفسيره 2/71.(1/54)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله:
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهى له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين. وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه.
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم قال: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: " وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
كما قال تعالى: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ... أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة. "(1/55)
وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات:
بدراسة روايات الطبري، ومما ذكره الحافظ ابن كثير، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية (1) .
الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات، سواء أكانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (2) .
قال ثعلب: الركوع الخضوع، ركع يركع، ركعاً وركوعاً: طأطأ رأسه. وقال الراغب الأصبهانى: الركوع الانحناء، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل: إما في العبادة، وإما في غيرها. وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله، قال الزمخشري: أي اطمأن، قال النابغة الذيبانى:
سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ ... إلى ربه رب البرية راكع
وتقول: ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:
_________
(1) راجع أيضا ما ذكر عن الإمام على في مفتاح كنوز السنة، فلا توجد إشارة لمثل هذه الرواية
(2) انظر تفسير الآلوسى 2/331.(1/56)
بيعت بكسر لئيم واستغاث بها من الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة.
ومنه كذلك: لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه: " وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ"، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع. وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا (1)
فقوله تعالى: - " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع.
وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت، وإنما تدل على الاستمرار والدوام، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة.
_________
(1) انظر مادة ركع في لسان العرب، وتاج العروس، وأساس البلاغة، وانظر كذلك تفسير الطبري 1/ 574 –575، وتفسير الألوسى 2 / 330.(1/57)
ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً! وهنا يرد تساؤل: إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه؟ وكذلك سائر الأمة؟
5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي:
" الواو فيه للحال: أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا. وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (1)
والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه. ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا؟
6.
_________
(1) الكشاف: 1/624، ولزهم إلى كذا: اضطرهم.(1/58)
سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وهذا نوع من الجدل العقيم، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه. كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين، وفى مثل قوله تعالى: -
" وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه؟! قال الألوسى: كيف يتوهم من قولك مثلاً: أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه؟! (1)
7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري.
8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها، وتأتى بمعنى الناصر والخليل، والسياق يحدد المعنى المراد، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى: - " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (2)
_________
(1) راجع تفسيره 2/332.
(2) سورة النساء – الآية 89.(1/59)
وقوله عز وجل: " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (1)
وقوله سبحانه: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (2)
ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه. ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (3) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى؟
وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (4) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم. ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (5)
_________
(1) نفس السورة – الآية 139.
(2) سورة التوبة – الآية 71.
(3) راجع الآيات القرآنية التي تبين ما ذكر مستعيناً بما جاء في مادة " ولى " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
(4) ... سورة المائدة – الآية 51.
(5) السورة السابقة – الآية 57.(1/60)
ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر.
فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه. وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة.
9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر.
وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم، وليست لمؤمن دون مؤمن، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف، بل كان في النصرة والمحبة (1) .
10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين، كل هذا صدر في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفذ في حياته، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
هذه بعض الملاحظات، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب أن يكون على بن أبى طالب. على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه. فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة.
_________
(1) تفسير الآلوسى 2/330.(1/61)
ثانياً: المباهلة
في آية المباهلة قالوا: اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين، والنساء إشارة إلى فاطمة، والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه. ولا يمكن أن يقال: إن نفسهما واحدة، فلم يبق المراد من ذلك إلا ... المساوى، ولا شك في أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (1) .
ونلاحظ هنا:
لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا ولاتتعرض للخلافة على الإطلاق، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه. وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة.
القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه، ويجب ألا يذهب إليه مسلم، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره.
لو قلنا: أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل، لأن المفضول بصفة عامة قد
_________
(1) كشف المراد ص 304، وانظر مصباح الهداية ص 99-103(1/62)
يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (1) .
عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: هذا خطأ، وإنما هذا مثل قوله: "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (2)
وقوله تعالى: "فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (3) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ " (4)
فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (5) .
_________
(1) قال ابن قيم الجوزية تحت عنوان: " تولية الرسّول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنفع على من هو أفضل منه ": وبهذا مضت سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يولى الأنفع للمسلمين عى من هو أفضل منه، كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار. وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له: (ياأبا ذر، إنى أراك ضعيفاً، وأحب لك ما أحبه لنفسى، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم) . وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، لأنه كان يقصد أخواله بنى عذرة، فعلم أنهم يطيعونه ما لايطيعون غيره للقرابة.... إلخ - انظر أعلام الموقعين 1/114 -115.
(2) سورة النور - الآية 12.
(3) سورة البقرة - الآية 54.
(4) نفس السورة - الآية 84.
(5) المنتقى ص 17 - حاول أحد الجعفرية نقض كلام ابن تيمية فقال: " فلولا إذ سمعتموه ظن كل مؤمن بنفسه خيراً، وظنت كل مؤمنة بنفسها خيراً، لا أن كل مؤمن ظن بأخيه خيراً " (منهاج الشريعة 2/287) ويكفى هنا أن نذكر ما قاله الطوسي شيخ الطائفة في تفسيره:
" هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم - خيراً، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة، * *فكأنه جرى على جماعتهم وهو كقوله: " فسلموا على أنفسكم " وهو قول مجاهد ... . إلخ " ... (انظر التبيان 7/416) .(1/63)
قال الزمخشري: " فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه. وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم. وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (1) .
وبعد: فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا.
_________
(1) تفسير الكشاف 1/434 - وقال أحد مفسري الجعفرية: " والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين رجال النصارى، لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطئنان الداعى بصدق دعواه، وكونه على الحق، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم، وفى سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم. ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم ". الميزان (3/244) .(1/64)
ثالثاً: التطهير
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا " (1) فخير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاته، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله: " يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ ((.... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (2)
(( (() . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
_________
(1) سورة الأحزاب - الآيتان 28، 29.
(2) الآيات الخمسة من نفس السورة وهى:
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} .(1/65)
وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده، وإنما هو خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وأنه يدل على عصمتهم، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة.
فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي: تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة، ثم دلالة الآية على عصمتهم، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة.
وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين: (1) .
الأول: الخطاب في قوله تعالى " عنكم "، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون (- على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث؛ أي " عنكن " و" يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات.
الثانى: أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار.
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله: " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" (2) وهذا خطاب لامرأة إبراهيم عليه السلام.
_________
(1) انظر أدلتهم في: التبيان 8/339 –340، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة ... 22/137 –139، وجوامع الجامع ص 372، والميزان 16/330-331، ومصباح الهداية ... ص 103-109.
(2) سورة هود ـ الآية 73.(1/66)
وقوله تعالى: " فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (1) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب.
وقوله تعالى: " وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ " (2)
وقوله عز وجل: " إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (3)
وقوله تعالى: " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (4)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر،
_________
(1) سورة القصص – الآية 29.
(2) السورة السابقة – الآية 12.
(3) سورة العنكبوت – الآية 33.
(4) سورة يوسف – الآية 29.(1/67)
بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (1) .
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سئل: كيف نصلى عليك؟ فقال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". وهذا الحديث متفق عليه.
وكذلك بما ورى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك، حميد مجيد " (2) .
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: " بنى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً.... فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة " (3)
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (4) .
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً. هذا بالنسبة
_________
(1) انظر مادة " أهل " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وارجع إلى الآيات التي اشتملت على هذه الكلمة.
(2) نيل الأوطار 2/ 324 –326.
(3) صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ... ".
(4) انظر المادة في معاجم اللغة.(1/68)
لأمهات المؤمنين. ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك. فلننظر إذن في الروايات.
قال الطبري: حدثني محمد بن المثنى، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية، عن أبى سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نزلت هذه الآية في خمسة: في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه، وفاطمة رضي الله عنها " (1) .
وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة (2) .
والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول: قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري. وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (3) .
أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين.
_________
(1) تفسير الطبري ط الحلبي 22/6.
(2) انظر نفس المرجع 22/6 -8.
(3) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً في روايات الغدير في بحث قادم إن شاء الله.
(4) انظر تفسير ابن كثير 3/483.(1/69)
وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول.
وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة، وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم قال: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار.
وروى الطبري عن أنمس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة، فيقول: الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ". وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر.
وروى عدة روايات عن أم سلمة: قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندي، وعلى فاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة (1) ، فأكلوا وناموا، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً "
وفى رواية أخرى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلسهم على كساء، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله، فضمه فوق رءوسهم، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه، فقال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
_________
(1) الخزيرة: لحم يقطع قطعاً صغاراً ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذر عليه الدقيق وعصد به، ثم أٌدم بأي إدام. وتطلق الكلمة أيضاً على الحساء من الدسم والدقيق.(1/70)
وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم.
وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت، ففي إحداهما:
عن أبى عمار قال: إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا، قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا، إنى عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين، فألقى عليهم كساء له، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. (قلت: يا رسول الله وأنا؟ قال وأنت. قال: فوالله إنها لأوثق عمل عندي. وفى الأخرى: اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق. قال واثلة: فقلت من ناحية البيت: وأنا يا رسول الله من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي. قال واثلة، إنها لمن أرجى ما أرتجى) .
ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء. وهذه الروايات هي: -
حدثني أبو كريب قال: ثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدري، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (1) خيبرياً، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت أم سلمة: ألست منهم؟ قال: أنت إلى خير.
_________
(1) أي جعل الكساء يغطيهم.(1/71)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية، عن أبى سعيد، عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: إنك إلى خير، أنت من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت، وفى البيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا موسى بن يعقوب، قال: ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع عليا والحسين، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إلى الله ثم قال: هؤلاء أهل بيتي. فقالت أم سلمة: يا رسول الله أدخلنى معهم. قال: إنك من أهلي ".
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى، عن يحيى بن عبيد المكى، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة، قال: " نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة، وأجلسهم بين يديه، ودعا علياً فأجلسه خلفه. فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً. وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك، وأنت على خير "
حدثنا ابن حميد، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم ابن سعد قال: " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة، ... قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة: جاء النبي: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيتي، فقال: لاتأذنى لأحد، فجاءت(1/72)
فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بساط، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا، قالت: فوالله ما أنعم وقال: إنك إلى خير "
وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي:
أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد.
ثانياً: - في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد ": وهو متكلم فيه: وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى، وقال ابن معين وابن عدى: لا بأس به، وقال أبو حاتم، يُكتب حديثه، وقال الآجري عن أبى داود: صدوق ولكنه يتشيع، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: له أحاديث مناكير، وقال ابن سعد: كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً، وكتبوا عنه للضرورة. وقال صالح بن محمد جزرة: ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو. وقال الجوزجانى: كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه. وقال الأعين: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب، يعنى بالمثلثة لا بالنون. وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال: لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و‘يكتب حديثه. وقال الأزدى: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق. وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (1) .
_________
(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.(1/73)
من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (1) .
وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب، وهو متكلم فيه أيضاً: وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان، وقال الآجري عن أبى داود: هو صالح، وقال ابن عدى: لابأس به عندي ولا برواياته. وقال على بن المديني: ضعيف الحديث: منكر الحديث.
وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد: لا يعجبني.
ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبد الرحمن بن صالح، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه: وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما. وقال موسى بن هارون: كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الآجري عن أبى داود: لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: وذكروه مرة أخرى فقال: كان رجل سوء. وقال ابن عدى: معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (2) .
وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: لا بأس به. يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدى:
_________
(1) قد يقال: كيف لا يحتج به وهو من شيوخ البخاري؟ فنقول: من الثابت أن له مناكير كما قال الإمام أحمد بن حنبل، والإمام البخاري يعرف متى يكتب ومتى يترك ولذا جاء في كتاب توجيه النظر (ص 103) في الحديث عن خالد بن مخلد:
" أما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدى من حديثه وأوردها في كامله، وليس فيها شىء مما أخرجه له البخاري، بل أم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبى هريرة: من عادى لي وليا – الحديث "
وما ذكره الجزائرى هنا هو قول ابن حجر (انظر هدى الساري ص 400) .
(2) انظر الترجمة في تهذيب التهذيب.(1/74)
مضطرب الحديث، قليل الحديث، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه. وضعفه النسائي.
رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبد القدوس، وهو شيعي متكلم فيه:
قال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أغرب. وقال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه قال: ليس بشىء، رافضى خبيث. وقال محمد بن مهران الحمال: لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره. وقال أبو ... داود: ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال: ليس ... بشىء. وقال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى (1) .
وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم.
بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق، والظاهر من الآيات الكريمة، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة؟ (2)
وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير. ثم عقب على الحديث بقوله: إنه غريب (3) .
وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول: "
_________
(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
(2) الشيعة يستندون في استدلالهم على ما روى عن أم سلمة – انظر مراجعهم السابق ذكرها.
(3) كتاب المناقب – باب مناقب أهل بيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/75)
أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان: رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد ((.... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه....، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد ".
ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة.
والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال: (1) إنها نص في دخول أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل البيت ههنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً: إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وذكر روايات الطبري وروايات أخرى، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد: " ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً ". فقال له حصين. ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال ومن هم؟ قال: هم آل على، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، رضي الله عنهم.
وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها: فقلت له: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل ...
_________
(1) انظر تفسيره 3/483-486.(1/76)
العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (1) .
ثم قال ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم.
ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند: قال حصين: " ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (2) (( (() . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته.
وقال ابن كثير بعد ذلك: الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَداخلات في قوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (( ... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي
_________
(1) الرواية الأولى ذكرت بطريقين آخرين أيضاً – انظر الرواية في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب، رضي الله تعالى عنهم جميعاً.
(2) المسند 4/366-367.(1/77)
أحق "، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال: " هو مسجدى هذا "، فهذا من هذا القبيل، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بتسميته بذلك والله أعلم. وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (1) .
وقال القرطبى (2) : قوله تعالى: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ". هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، ومن هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة لا رجل معهن، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى: هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة. وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن "، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل. كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي امرأتك ونساؤك، فيقول هم بخير، قال تعالى: " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره. وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم، وإذا اجتمع
_________
(1) انظر المنتقى ص 168 - 169.
(2) راجع تفسيره 14/182-184.(1/78)
المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت. لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم.
ثم قال القرطبى: " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل.
وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (1) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال: إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه، وأزواجه أهله، كما قال في حديث الإفك: " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب. واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها، وفى بعضها: وما قال إنك من أهل البيت، وفى أخرى: أنت من أزواج النبي، وأنت على خير أو إلى خير.
وفى رواية: قلت يا رسول الله: ألستُ من أهلك؟ قال: بلى (2) .
_________
(1) انظر كتابه 1/332-339.
(2) وذكر القرطبى عن القشيرى قال: قالت أم سلمة: أدخلت رأسى في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم. (انظر تفسيره 14/183) وقال الزمخشري: " أهل البيت" نصب على النداء أو على المدح. وفى هذا دليل بين على أن نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل بيته ". ... (انظر الكشاف 3/260) .(1/79)
قالت: فأدخل في الكساء؟ قلت: فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم.
وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجها منها، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية. والجواب يؤيده. ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي، فما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه.
وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال: جوابنا له: أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال.... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم، ورفعه لمقدارهم، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى.
ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط لأن الآيات في نساء النبي، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول:
" الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها. إما بأمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عند التأليف بعد الرحلة " (1) .
_________
(1) الميزان 16/330(1/80)
فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها ولا صلة بينهما؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده، والعجز يبعد عن هذا كل البعد؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الطبرسي: " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (1) .
وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق.
ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس؟
وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين؟
_________
(1) مجمع البيان 2/139 ط مكتبة الحياة.(1/81)
وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة. قال الطوسي (1) :
" استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا: ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم، وذلك يدل على عصمتهم" (2)
وقد انفرد الجعفرية بهذا القول، وخالفوا أهل التأويل جميعاً، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور:
مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده.
في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً، فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء؟
أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث
_________
(1) يطلق عليه الجعفرية لقب " شيخ الطائفة ".
(2) مجمع البيان 22/139 ط مكتبة الحياة.(1/82)
التطهير، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة، فيقول: الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة.
ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال:
" أتانى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا نائم وفاطمة، وذلك من السحر، حتى قام على الباب، فقال: ألا تصلون؟ فقلت مجيباً له: يا رسول الله، إنما نفوسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا، قال: فرجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرجع إلى الكلام، فسمعته حين ولى يقول، وضر ب بيده على فخذه: وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (1) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال: " دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى فاطمة من الليل، فأيقظنا للصلاة، قال: ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل، قال، فلم يسمع لنا حساً، قال: فرجع إلينا فأيقظنا، وقال: قوما فصليا، قال: جلست وأنا أعرك عينى وأقول: إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال: فولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول ويضرب بيده على فخذه: ما نصلى إلا ما كتب لنا! ما نصلى إلا ماكتب لنا! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (2) .
فهنا يتضح حرص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
_________
(1) حديث رقم 571 ج 2 من المسند، وانظر في التعليق بيان المرحوم الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد، والروايات الأخرى الصحيحة لهذا الحديث.
(2) حديث رقم 705 ج 2 من المسند، وإسناده صحيح.(1/83)
قال ابن تيمية:
أما الآية (الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها، وذلك كقوله تعالى:
"مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (1)
" يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (2)
" يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (3)
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته، ثم أيد رأيه بدعائهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحاب الكساء (4) .
6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. ولا قائل بعصمة هؤلاء، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل، والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص.
بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين. فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم؟!
_________
(1) سورة المائدة – الآية رقم 6.
(2) سورة النساء – الآية 26.
(3) سورة النساء – الآية 28.
(4) انظر المنتقى ص 168، وانظر ص 428.(1/84)
هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (1) ، وهو استدلال عقلى، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة؟!
ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن، ولكنا نقول: إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم، ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى. فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية، ولكنه لا يثبت العصمة.
والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة. على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي.
*****
رابعا: عصمة الأئمة
ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة.
ومما استدلوا به قوله تعالى: - " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ".
_________
(1) وبهذا أيضا استدل العالم المعاصر محمد تقى الحكيم، وذهب إلى أن الإرادة تكوينية لا تشريعية (انظر الأصول العامة للفقه المقارن ص 150) .(1/85)
قالوا: تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره، فإن قيل: إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمى ظالماً، فيصح أن يناله، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً. فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها. والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (1) .
ثم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما: محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب، فلأحدهما كانت الرسالة، وللآخر كانت الإمامة، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة.
ونلاحظ هنا:
1. في تأويل الآية الكريمة (2) " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم، يدينون به، ويقرون بنبوته. ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة، أو الإمامة والاقتداء، فيقتدي به الصالحون. والعهد اختُلف في تأويله: فقيل الرسالة والوحي، وقيل الإمامة، وهو واضح من التأويل السابق، ويؤيده عدة روايات. وعن ابن عباس ... قال: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته أنقضه، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: ليس لظالم عهد. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: لا ينال
_________
(1) انظر التبيان 1/449، ومجمع البيان 1/202، ومصباح الهداية 60-63.
(2) نظر تفسير الماتريدى: ص 279، والطبرى تحقيق شاكر 3/18- 24، وابن كثير1/167، والآلوسى 1/306 -308، والبحر المحيط 1/374 -379، والقرطبى 2/107-109.(1/86)
عهد في الآخرة الظالمين، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة. وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه، يقول لا ينال الظالمين، ألا ترى أنه قال:
" وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (1)
يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان، وقال جويبر عن الضحاك: لاينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني. وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: " لا طاعة إلا في المعروف. فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل، ورد باقي الأدلة.
2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين، قال الزمخشري: " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى (2) وأشباهه، وقالت له امرأة: أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل: فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف
_________
(1) سورة الصافات – الآية 113.
(2) اللص المتغلب والخليفة الذي ذكره الزمخشري هو هشام بن عبد الملك، وأما الدوانيقى فهو المنصور أخو السفاح، سمى بذلك قيل لبخله، وقد ذكر يعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً (البحر المحيط 1/378) .(1/87)
الظلمة، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم " (1)
ا
3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2) . وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى:
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (3)
4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال: استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن (غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله
_________
(1) الكشاف 1/309 وقال القرطبى (2/109) قال بن خويزمنداد: وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة، ولا حاكماً، ولا مفتياً ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام.
(2) رواه ابن ماجة وابن أبى عاصم، ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن. ووقع في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين بلفظ " رفع " بدل " وضع "، وحول الحديث كلام يطول ذكره، انظر المقاصد الحسنة ص 228 – 230 وكشف الخفاء 1/433-434.
(3) روى الامام مسلم وغيره ما يفيد استجابة ربنا عز وجل لهذا الدعاء، وروى كذلك عند الجعفرية: انظر مجمع البيان 2/404، وانظر كذلك تفسير بن كثير 1/342-343، والقرطبى 3/431-432 والكشاف 1/408.(1/88)
تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم) ، ثم قال: " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر، أو ظالم في لغة وعرف وشرع، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث، ولا قائل به " (1) .
5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى، وأنه تربى في بيت النبوة، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخلق بخلقه، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما.
والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا.
6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل. وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة. وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (2) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء.
_________
(1) انظر تفسير الآلوسى 1/307 - 308.
(2) انظر فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ج1 ص 37:18.(1/89)
7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع، ويبين أنهم.
" كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (1)
كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول: الظلم اسم ذم، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى:
"أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (2)
وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون؟
فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم، وما بنوه على هذا التأويل.
والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب أن يكون على بن أبى طالب ولا على إمامة أحد بعينه.
*****
خامسا: الغدير
ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ينص على على وينصبه علماً للناس، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع. وبحث ما قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغدير يتعلق بالسنة، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة، آيتان من سورة المائدة، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم. وآية التبليغ هي قوله تعالى:
"
_________
(1) سورة آل عمران - الآية رقم 110.
(2) انظر التبيان 1/158، والآية المذكورة هي رقم 18 من سورة هود.(1/90)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1)
ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول، قال الطوسي (2) :
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: قال محمد بن كعب القرظى وغيره: إن أعرابياً هم بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه.
الثانى: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلن يهاب قريشاً، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة. وقيل: كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حراس بين أصحابه، فلما نزلت الآية قال: ألحقوا بملاحقكم، فإن الله تعالى عصمنى من الناس.
الثالث: قالت عائشة: إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من الوحي للتقية.
الرابع: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه.
_________
(1) سورة المائدة – الآية 67.
(2) التبيان 3/587-588.(1/91)
ولم يناقش الطوسي ما قيل، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على (1) ، وظاهر النص لا يدل على هذا، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة، فليس فيها ما أثر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون.
قال الطبري في تفسير الآية الكريمة: -
" هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم إياه، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم، وسائر المشركين وغيرهم، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم والتهجين لهم، وما أمرهم به وما نهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله، ولاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه، وأن لايتقى أحداً في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (2) .
والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة، ومع تكملة الآية ذاتها. والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة.
_________
(1) انظر البيان ط مكتبة الحياة 6/152 –153، والميزان 6/42 –64 وتفسير شبر ... ص 143، والغدير 1/214 –229، ومصباح الهداية 190-198.
(2) تفسير الطبري تحقيق شاكر 10/467.(1/92)
والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفاه الله إياه، وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً، فأومن من ذلك، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (1) .
أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة، حيث قال:
" يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول:
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما، من طرق عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله تعالى عنها. وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: -
_________
(1) صاحب كتاب الغدير ذكر أن الطبري يرى أن الآية الكريمة نزلت في الغدير كما يذهب الجعفرية (امظر كتابه 1/214 –216 –223-225) وما قاله الطبري يتفق مع أهل التأويل – كما نص هو على هذا – وإن اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت، ومعنى هذا أن أهل التأويل متفقون على صحة ما ذهب إليه الجعفرية لو صح ما ذكره صاحب الغدير! قول غريب نعود إليه في الحديث عن الآية التالية.(1/93)
" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (1)
وقال ابن أبى حاتم:
حدثنا أحمد بن منصور الرمادى، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له: إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس، فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: -
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد. وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال: قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه: هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل (2) ، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري:
قال الزهرى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته يومئذ: " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: " اللهم هل بلغت ". قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان،
_________
(1) المائدة الآية- 67.
(2) أي الدية.(1/94)
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا؟ " قالوا: يوم حرام، قال: " أي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام، قال: " فأي شهر هذا " قالوا: شهر حرام، قال: " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". وقد روى البخاري عن على بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان به نحوه، وقوله تعالى:
" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته (1) . ا. هـ.
ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة. وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عصمه الله تعالى منهم، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم: " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها. فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (2) } 129 {) ، وذكر بعض روايات الطبري ... وغيره.
وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية.
وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل
_________
(1) تفسير ابن كثير 2/77 –78.
(2) المرجع السابق 2/97.(1/95)
به، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا، أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، ولا ننزى حماراً على فرس " (1) } 130 {) .
وهذه رواية صحيحة السند، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية.
على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه، وبين أنه قول لا يستقيم. قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة: (أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة، ولا مسلمة لديهم أصلاً) (2) وأيد هذا القول: ثم قال: ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى: " وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه ... " إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (3) : وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك. ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة: بل لو قيل لم تصح، لم يبعد، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله
_________
(1) انظر الرواية وتخريجها، وبيان صحة سندها في المسند ج 3 رواية رقم 1977 تحقيق المرحوم الشيخ أحمد شاكر، وأشار إلى روايات أخرى مؤيدة. وفى التعليق تفسير للجزء الأخير بأن الخيل كانت في بنى هاشم قليلة فأحب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تكثر فيهم.
(2) تفسير الآلوسى 2/349.
(3) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631، والبحر المحيط 3/530.(1/96)
وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولا يخشى إلا الله سبحانه (1) .
ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه، وبدلالة السياق، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة، وهذا ما لم نجده. وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة.
والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (2) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين، فقال بعضهم: يعنى جل ثناؤه بقوله: " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.
وقال آخرون: إن الله عز وجل أخبر نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين به، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم، بإفرادهم البلد الحرام، وإجلائه عنه
_________
(1) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631، والبحر المحيط 3/530.
(2) جزء من الآية الثالثة.(1/97)
المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (1) .
والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ثم لم ينزل بعدها فريضة (2) .
وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بعد نزوله الآية الكريمة: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وولاية على بن أبى طالب من بعدى.
ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله: " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي".
ولم يشر الطوسي إلى الولاية، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين، فقد قال الطبري في تفسيره: " يعنى جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك. وبنحو الذي قلنا
_________
(1) انظر تفسير الآية الكريمة في الطبري تحقيق شاكر 9/517 ـ 531 وابن كثير 2/12 ـ 14 والكشاف 1/593، والآلوسى 2/248 ـ 249 والقرطبى 6/61 ـ 63، والبحر المحيط 3/426.
(2) راجع للجعفرية: التبيان 3/435 -436، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 6/25 ـ 26، وجوامع الجامع ص 104، وتفسير شبر ص 133، ومصباح الهداية ص 204 ـ 205.(1/98)
في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً، فلما نزلت براءة: فنفُى المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك في تمام النعمة: " وأتممت عليكم نعمتي ".
وعن قتادة: نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجهم.
وعن الشعبي قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم منار الجاهلية، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك.
وعن عامر قال: نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ". وعن الشعبي بنحوه.
إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير. وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير. وذكر الطبري بعض هذه الروايات، وروايات أخرى معارضة، ثم قال: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، ووهى أسانيد غيره.
وقال الحافظ ابن كثير: " قال الإمام أحمد: حدثنا أبى جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟(1/99)
قال: قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية عرفة في يوم جمعة (1) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً. فقال عمر: إنى لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت: يوم عرفة وأنا والله بعرفة. قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم. وقد روى هذا عن غير وجه من عمر ".
وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة. ثم ذكر الروايات المعارضة، وهى التي استوهاها الطبري، وبين ضعفها، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع، وقال: وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى، عن أبى سعيد الخدري، أنها نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غدير خم حين قال لعلى: " من كنت مولاه فعلى مولاه ". ثم رواه عن أبى هريرة
_________
(1) الرواية صحيحة الإسناد، ورواها الإمام أحمد بسند صحيح أخر، وانظر الروايتين رقم 188، 272 في الجزء الأول من المسند.(1/100)
وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع، ولايصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان، (1) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله.
ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى (3 ص 529) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523) وذكره المؤرخون منهم: إن وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الثانى عشر من ربيع الأول، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في
_________
(1) المروى في الصحاح الستة عن طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً، ذكرها ابن الوزير – من علماء الزيدية – في كتابه الروض الباسم، وأثبت صحتها ثم صحة باقي الأحاديث المروية عن طريقه في غير الأحكام، وأشار إلى أنه لم يرد حديث واحد عن طريق معاوية في ذم الإمام على " انظر كتابه 2/114 –119".(1/101)
صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (1) . لزيادة الأيام حينئذ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (2) .
أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير.
ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى. وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.
وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في ... غديره (3) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة، فهى لعلى بالنص، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها، والله تعالى ورسوله بريئان منهم.... إلخ.
_________
(1) من العجيب الغريب أن الروايات التي ينكرها هنا يستدل بها هي ذاتها في مكان آخر بشيء آخر، فذكر قول اليهودى " لو نزلت فينا هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً " ثم قال: وصدر من عمر ما يشبه التقرير لكلامه. وانتهى من هذا إلى أن يوم نزولها عيد وهو عيد الغدير! ولم يشر إلى يوم عرفة! (انظر الغدير 1/283) .
(2) المرجع السابق 1/230.
(3) انظر المرجع المذكور 1/214-216.(1/102)
والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (1) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير.
وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة، أفكل أهل التأويل جعفريون؟!
وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية، ولم يشر إلى تفسيره، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب. إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات: وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له، ولا يبين رأي الطبري (2) .
_________
(1) راجع قوله في ج1 ص 223-225.
(2) قد بحثت عن الكتاب المذكور فلم أجده، وبحثت عن أسماء الكتب المنسوبة للطبرى فوجدت ما يزيد عن مائة كتاب منها كتاب فضائل على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه. قال ياقوت الرومى في كتابه إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب 6/452 بأن الطبري تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل، ولم يتم، فالطبرى إذن لم يتم كتابه وهو – مع عشرات الكتب الأخرى – غير موجود، فلعل أحداً استغل هذا فأخرج كتاباً بعنوان الولاية ونسبه للطبرى. والرواية التي ذكرها صاحب كتاب الغدير عن زيد بن أرقم نقلا عن كتاب الولاية لا تصح بحال، وقد ذكرنا من قبل الروايات الصحيحة عن زيد بن أرقم كما رواها الإمامان أحمد ومسلم. فإذا كان الطبري قد صحح الأخبار الواردة في غدير خم كما قال ياقوت فإنها لا تزيد عما أخرجه مسلم، وما صح من مسند أحمد، أما أن يصح عنده مالا يؤمن به، بل لا يقول به إلا الغلاة فهذا أمر مرفوض قطعاً. *
*ومن المعاصرين لشيخ المفسرين عالم شيعي اسمه محمد بن جرير بن رستم الطبري ويكنى أبا جعفر، وله كتاب المسترشد في الإمامة (انظر الفهرست للطوسى ص 158 ـ 159) فلعله صاحب كتاب الولاية، واستغل التشابه بين الاسمين والكنيتين في نسبة الكتاب لشيخ المفسرين، وهو بلا أدنى شكل براء مما جاء به.(1/103)
وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور.
ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل.
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ".
والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق، وما ذكره بعضهم (1) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة: وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ، ولذا قال: سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما. وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (2) .
وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه، قال: لما نصب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً عليه السلام يوم غدير
_________
(1) سبق ذكر روايتهم في بداية الفصل.
(2) انظر التبيان 10/112 –113.(1/104)
خم، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النعمان بن الحرث الفهرى فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلى مولاه: فهذا شىء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء "، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ".
ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية، وقال الحسن: إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ" (1) .
وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية، وبعدها سبع سور مكية أخرى، ثم ذكر السور المدنية. وفى إحدى هذه الروايات: " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة ".
ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (2) ، ذكر أن سورة المعارج مكية، وفسرها بما يتفق مع مكيتها، ولم
_________
(1) المرجع السابق 10/350.
(2) انظر مقدمة جوامع الجامع ففيها بيان سبب التأليف، ومما جاء في هذه المقدمة ... ص 3: " وحثني وبعثنى عليه أن خطر ببالى وهجس بضميرى، بل ألقى في روعى، محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة ".(1/105)
يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق. وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال: فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي (1) .
فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية.
*****
تعقيب
بعد المناقشة السابقة نقول: -
ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول، وتأويلات انفردوا بها، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم.
قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول:
" ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة، أو آيات ذات سياق واحد، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم
_________
(1) انظر المرجع السابق ص 508-509.(1/106)
الآيات وبطلان سياقها. وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (1) .
وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها.
ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل:
ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازى (2) .
ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد، لأن الغالب عليه المراسيل.
يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم - تبيان كل شيء - كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات.
غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة، ووضع الروايات كأسباب للنزول، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان.
*****
_________
(1) الميزان 4/76-88.
(2) مقدمة في أصول التفسير ص 20.(1/107)
الفصل الثالث
الإمامة في ضوء السنة
أولا: خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية، فهم يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند غدير خم، بعد منصرفه من حجة الوداع، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب"! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال!
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها، وهى: الموطأ، والمسند والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (1) التي جمعها ابن هشام.
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً من أمور الحج (2) . ثم ورد ما يأتي:
"
_________
(1) ولد في المدينة سنة 85 هـ، ثم خرج إلى العراق وأقام ببغداد حتى توفى. ووفاته محصورة بين سنة 150 وبين 153 هـ. قيل إنه كان يتشيع، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، أخرج له مسلم في المتابعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه. وقال الدارقطنى: اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به. (انظر ترجمته في السيرة النبوية لابن هشام: مقدمة الناشرين ص 13: 17، وراجع ترجمته كذلك في تهذيب التهذيب) .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد أن ذكر ترجمته: فالذى يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق. وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً. وقد احتج به الأئمة، والله أعلم.
(2) السيرة النبوية 4/602.(1/108)
قال ابن اسحاق: وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمرة، عن يزيد بن طلحة بن ركانة، قال: لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل قال: ويلك؟ ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن اسحاق: فحدثنى عبد الله بن عبد الرحمن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يشكى.
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق: ثم مضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، اسمعوا قولى: فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم، لا تظَلمون ولا تظُلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان(1/109)
مسترضعاً في بنى ليث، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، أيها الناس: إن النسىء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب ... مضر (1) ، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان (2) . لايملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اشهد (3) .
_________
(1) ورجب مضر: إنما قال لأن ربيعة كانت تحرم رمضان، وتسميه رجباً، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
(2) عوان: جمع عانية وهى الأسيرة.
(3) السيرة النبوية 4/603 -604.(1/110)
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيشاً، واستعمل عليهم على بن أبى طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر، فأرسل خالد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره لما فعله أبو الحسن.
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام، والأقوال مختلفة، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى.
وخطبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج، وفى آخر الباب " فطفق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يقول: اللهم اشهد وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع ".
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتاب الحج في صحيح مسلم. وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى ... عنهم، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (1) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة، وهنا يأتي تساؤل وهو: أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر، وقد أكمل الله تعالى دينه، وخطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وودع الناس في حجة الوداع؟
_________
(1) انظر حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحمد ناصر الدين الألبانى ص 40-45، ص 77-79.(1/111)
أظن هذا مستبعداً، ولكن ليس مستحيلاً!
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بينا، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته.
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس بمسلم من يرى هذا، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون، وأقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهى تعتبر عندهم من السنة، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة!
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها: الصحيحان، والمسند، والترمذى، والنسائى، وابن ماجه (1) .
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره، اقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه " (2) .
_________
(1) انظر مفتاح كنوز السنة – باب الميم فيما ذكره عن محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... .
(2) كتاب النهى عن القول بالقدر، وهذا الحديث الشريف وصلة ابن عبد البر من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (انظر تنوير الحوالك 2/208) . *
*وقال ابن عبد البر كذلك: مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38) . وقال جلال الدين السيوطى: " ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد ... فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شىء " (نفس المرجع 1/6) .(1/112)
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى: حدثنا محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف اليامى، قال: " سألت عبد الله بن أبى أوفى: أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، قلت: فكيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية؟ فقال: أوصى بكتاب الله ". (انظر كتاب الوصايا. باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه، أو به وبنحوه ليشمل السنة ". (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ج6 ص 240) .
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال: ثنا سفيان قال: ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبى أوفى: " هل أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: لم يترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً يوصى فيه. قلت: وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله ". (انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع فقال: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ".(1/113)
ومما قاله المناوى في شرحه:
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما. واعتصم بحبلهما، وهما الفرقان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة.
(راجع الجزء الثالث ص 240-241، حديث رقم 3282 وشرحه، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة، أما ما ثبت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان واضح الدلالة، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (1)
وقوله عز وجل: " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ " (2)
وقوله سبحانه وتعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (3)
_________
(1) سورة الحشر – آية 7.
(2) سورة النساء – آية 80.
(3) سورة النساء – آية 65.(1/114)
إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ابتعد عن الإيمان. وضل ضلالاً بعيداً.
من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة المطهرة، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الكتاب والعترة، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل.
ثانيا: روايات التمسك بالكتاب والعترة
من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى، ثم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أذَّكركم الله في أهل بيتي "، وقول زيد: " إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ". وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت، بيت نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار، وعلينا أن نصلهم، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى" (1) ، وقال " ارقبوا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل بيته " (2) .
_________
(1) البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانظر كذلك الرواية رقم 55 بالجزء الأول من المسند، وسندها صحيح.
(2) البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب الحسن والحسين.(1/115)
وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت، ولا لأحد بعينه، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم.
وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند، وفى سنن الترمذي. وروايات المسند هي: -
1. حدثنا عبد الله، حدثني أبى، حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إنى تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14) .
2.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة، عن الأعمش، عن عطية العوفى، عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قال: " إنى أوشك أن أدعى فأجيب، وإنى تارك فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل، وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظرونى بم تخلفونى فيهما؟ " (3/17) .
3.حدثنا عبد الله، حدثنا أبى، ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك يعنى ابن أبى سليمان، عن عطية، عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26) .
4.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك بن أبى سليمان، عن عطية العوفى، عن أبى سعيد الخدري قال:(1/116)
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى: الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) .
5.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا الأسود بن عامر، ثنا شريك، عن الركين، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (5/181/182) .
6.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا أحمد الزبيرى، ثنا شريك عن الركين، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم خليفتين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " (5/189-190) .
والترمذى أخرج روايتين هما (1) : - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: " ياأيها الناس، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب) .
-حدثنا على بن المنذر كوفى، حدثنا محمد بن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبى سعيد، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم ما إن
_________
(1) انظر مناقب أهل بيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبواب المناقب من سننه.(1/117)
تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما ". (حسن غريب) .
مناقشة الروايات
هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة، وبالنظر فيها نجد ما يأتي: -
عن أبى سعيد الخدري خمس روايات، الأربع الأولى من المسند، والثانية من سنن الترمذي، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد.
وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه، وقال: بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول: قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري.
وقال ابن حبان: سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى، فإذا قال الكلبى: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، وروى عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبى، قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير، وقال أيضاً: كان هشيم يتكلم فيه. وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء، وكذلك أبو حاتم. ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال: " كان ثقه إن شاء الله، وله أحاديث(1/118)
صالحة، ومن الناس من لا يحتج به ". وسئل يحيى بن معين: كيف حديث عطية؟ قال: صالح (1)
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل. وقد يقُال هنا: إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه؟
والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم. ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال: قلت لأبى: ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبى رواد؟ قلت: نعم، قال الأحاديث بخلافه، قلت: فقد ذكرته في المسند؟ قال: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير. وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند، ورد كثيراً مما روى، ولم يقل به، ولم يجعله مذهباً له (2) .
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده، وثار عليه من ثار، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند "، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، ثم أجاب عنها، ومما قال: " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا. وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وهكذا حال هذه الأحاديث (3) .
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة.
_________
(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال.
(2) انظر المسند تحقيق شاكر – طلائع الكتاب 1/75.
(3) ص 11 من القول المسدد.(1/119)
الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي، عن محمد بن فضيل، ثم انقسم السند إلى طريقين: انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد، والثانى إلى زيد بن أرقم، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل. وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل، وهو المذكور أولاً في الإسناد، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (1) .
وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق.
والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم، فيُستبعد الجمع عن طريقه. فلم يبق إلا على بن المنذر، وهو من شيعة الكوفة. قال ابن أبى حاتم: سمعت منه مع أبى، وهو صدوق ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن نمير: هو ثقة صدوق. وقال الدار قطنى: لا بأس به، وكذا قال مسلمة بن قاسم، وزاد: كان يتشبع.
_________
(1) راجع صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من من فضائل على بن ابى طالب رضي الله تعالى عنهم، والمسند 4/366-367.(1/120)
وقال الإسماعيلى: في القلب منه شىء لست أخيره. وقال ابن ماجه: سمعته يقول: حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (1) .
وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله: فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم.
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر. وهو الانقطاع في موضعين، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان. وهما يرويان بالعنعنة. فلم يثبت سماع كل منهما هنا.
والأعمش وحبيب من الثقات. وثبت سماع الأعمش من حبيب، وسماع حبيب من زيد بن أرقم. إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى، وحبيب كوفى أيضاً، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص.
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس: إذا حدثني رجل عنك بحديث، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (2) .
فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب، إلا أنه أبان عن رأيه، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه.
_________
(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
(2) الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلى، مولاهم أبو محمد الكوفي. انظر ترجمته وترجمة حبيب في تهذيب التهذيب. وميزان الاعتدال.(1/121)
وفى المستدرك روى الحاكم (1) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب. وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره، وما أكثر رجاله. غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف. والحاكم ذكر الحديث بروايتين: -
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (2) }
{) .
القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال:
" وثقة أحمد بن صالح، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط، ولم يذكر عنه شيئاً، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال: القاسم بن
_________
(1) هو عبد الله بن عبد الله الضبى النيسابورى. ولد سنة 321 هـ وجاوز الثمانين حيث توفى سنة 405 هـ. قال عنه ابن حجر في لسان الميزان: إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك، فما أدرى هل خفيت عليه؟ فما هو ممن يجهل ذلك. وإن علم فهو خيانة عظيمة
ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين. والحاكم أجل قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكراً من أن يذكر في الضعفاء. ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها.
(2) انظر المستدرك 3/109 - 110.
وهذا الحديث من الأحاديث التي أنكرها عليه أصحاب الحديث، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه. ... (راجع ترجمته بشئ من التفصيل في التذكرة التي كتبت في صدر كتابه معرفة علوم الحديث للدكتور السيد معظم حسين) .(1/122)
حسان سمع من زيد بن ثابت، وعن عمه عبد الرحمن بن حرملة، وروى عنه الركين بن الربيع، لم يصح حديثه في الكوفيين ".
ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا، ثم لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري، وأنا أظن أن قول البخاري في عبد الرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبد الرحمن " (1)
وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت، وقال ابن القطان: لايعرف حاله (2) .
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير، وليس في هذا توثيق ولا تضعيف. وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً، ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً. وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبد الرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري؟
لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء، وهو مخطوط ولا يوجد منه نسخ
_________
(1) انظر المسند ج 5 التعليق على الرواية 3605، وهذه غير روايات العترة.
(2) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.(1/123)
في مصر، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (1) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر ولا يعرف (2) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم. فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري.
لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله، قال أبو حاتم عن زيد هذا: كوفى قدم بغداد، منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات (3) .
وخطبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (4) ، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (5) .
_________
(1) في الحديث عن أحد الرواة قال العلامة المرحوم أحمد شاكر: " نقل الحافظ في التهذيب أن البخاري ذكره في الضعفاء، ولم أجد فيه ". وهذا يؤيد أنه لم يسمع بكتاب الضعفاء الكبير للبخاري – انظر قوله في الحديث عن الرواية رقم 646 بالجزء الثانى من المسند.
(2) يطلق البخاري " منكر الحديث " على من لا تحل الرواية عنه، أما عند غيره فمنكر الحديث في درجة ضعيف الحديث – انظر: قواعد في علوم الحديث للتهانوى ص 258، وانظر كذلك تدريب الراوى 1/349 وحاشية ص 347 وميزان الاعتدال 1/6.
(3) نظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال.
(4) راجع صحيح مسلم – كتاب الحج – باب حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(5) انظر حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها جابر بن عبد الله ص 40-45.(1/124)
الاختلاف حول الحديث
رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وهذا لا خلاف حول صحته.
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث، وظهر ما بها من ضعف. وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة. وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع.
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت، وصحح الحديث السيوطى والمناوى، وقال المناوى: " قال الهيثمى: رجاله موثقون، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر وزاد أنه قال: في حجة الوداع، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي. قال السمهودى: وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا. هـ.
وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت، وبينا ضعف الإسناد، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه. فهو من رواية القاسم بن حسان، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم.
وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل. فالتصحيح إذن غير مقبول، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل إلى سبعين(1/125)
غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة.
ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل، وهو ممن أخرج الحديث، ذكر أنه ضعيف لا يصح، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال: " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح " (1) .
وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمه الله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (2) .
وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر، دار نقاش حول هذا الحديث، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (3) ، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث.
أحدهما:
_________
(1) منهاج السنة النبوية 4/105.
(2) انظر صحيح الجامع الصغير 2/217- حديث رقم 2454.
(3) كلام الشيخ صحيح، ولذلك فقد جمعت كل ما استطعت جمعه والنظر فيه من الروايات، وقد أرشدني إلى هذا المنهج، وساعدني في التطبيق منذ سنوات العلامة الثبت المحقق الأستاذ محمود شاكر - رحمه الله رحمة واسعة.(1/126)
معجم الطبرانى، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان، فالرواية إذن غير صحيحة.
والثانى: مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (1) . ولم يتذكر لماذا صحح الحديث، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات.
والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح.
في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح (ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144.
قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة. وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص:
الرواية رقم 6143:
عن جابر، قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: " ياأيها الناس: إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي) .
والرواية الأخرى نصها كما يلى:
وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من
_________
(1) راجع ما ذكرناه من قبل عن الحاكم ومستدركه، وعن روايتيه لهذا الحديث.(1/127)
السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما ". (رواه الترمذي) .
هاتان هما الروايتان، أما التخريج فهو كما يلى:
الرواية الأولى: " وقال - أي الترمذي -: حديث حسن غريب.
قلت - أي الألبانى -: وإسناده ضعيف "
الرواية الثانية: " وقال: حديث حسن غريب قلت: وإسناده ضعيف أيضاً، لكنه شاهد للذى قبله ".
هذا ما قرأته، ونقلته بنصه، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن؟
وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير، فوجدت خمس عشرة رواية:
تسع منها عن زيد بن أرقم، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها: 4980، 4981، 4982، 5025، 5026، 5027، 5028، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات.
أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى:
روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد، وهما رقم 2678، 2679 بالجزء الثالث.
وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى، وهما رقم 2680، 2683، وهما بالجزء الثالث أيضاً.(1/128)
وروايتان يرويهما القاسم بن حسان، وهما رقم 4922، 4923، وهما بالجزء الخامس.
ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك. كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ. فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا.
فقه الحديث
مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (1) ، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما. ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول، فالكتب التي تبحث في الفرق، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا، والجعفرية
_________
(1) ومع هذا الضعف جاء في كتاب المراجعات للموسوي بأنها متواترة! (ص 51) ونسب للشيخ سليم البشرى أنه تلقى هذا القول بالقبول! (ص 54) وأنه طلب المزيد، وذكر صاحب المراجعات روايات أخرى أشد ضعفاً، ونسب للشيخ البشرى أنه أعجب بها، ورآها حججاً ملزمة! (ص 55-61) وسيأتي الحديث مرة أخرى عن هذا الكتاب.(1/129)
مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا، فإذا أمرنا بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه! بالطبع لا.
إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى: -
"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا (1) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة.
فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك، وهذا ضعف آخر، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة.
وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية.
قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14) : " إن ائتمرتم بأوامر كتابه، وانتهيتم بنواهيه، واهتديتم بهدى عترتى، واقتديتم بسيرتهم، اهتديتم فلم تضلوا.
قال القرطبى: وهذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم، يقتضى وجوب احترام أهله، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها ".
ثم قال المناوى بعد هذا (3/15) : لن يفترقا: أي الكتاب والعترة، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض: أي الكوثر يوم القيامة.
_________
(1) راجع البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/130)
زاد في رواية: كهاتين، وأشار بأصبعيه، وفى هذا مع قوله أولاً: " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما، وإيثار حقهما على أنفسهما، واستمساك بهما في الدين، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية، والأسرار والحكم الشرعية، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق. وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته. قال الحكيم: " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل، والتخلى عن الرذائل، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد، والتنويه يرفعه قدره. ثم قال الشريف: هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به، كما أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا. هـ.
وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح: " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره ".
وقال أيضاً: " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة ".
بالنظر في هذه الأقوال، وبتدبر متن الحديث، نقول:(1/131)
يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت.
أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة، تلك حقيقة واقعة، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية.
إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم، فمن يتأسى به منهم، ونتمسك بسيرته، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت.
وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله: -
" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (1)
لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن، فالأيام أثبتت بطلانه، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال؟
أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق؟ !
5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم، فالعطف على الصغير، ورعاية اليتيم، والأخذ بيد الجاهل، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
_________
(1) النساء - الآية 59.(1/132)
ثالثا: روايات أخرى متصلة بالغدير
هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (1) : -
حدثنا ابن نمير، حدثنا عبد الملك، عن أبى عبد الرحيم الكندى، عن زاذان أبى عمر قال: سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: من كنت مولاه فعلى مولاه.
حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى، حدثني زياد بن أبى زياد: سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال: أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا.
قال عبد الله بن أحمد، حدثنا على بن الحكيم الأودى، أنبأنا شريك، عن أبى إسحق، عن سعيد بن وهب، عن زيد بن يثُيع قالا: نشد على الناس في الرحبة: من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم إلا قام؟ قال: فقام من قبل سعيد ستة، ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلى يوم غدير خم: أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى، قال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
قال عبد الله بن أحمد، حدثنا على بن حكيم، أنبأنا شريك، عن أبى إسحق، عن عمرو ذى مر، بمثل حديث أبى إسحق، يعنى عن سعيد وزيد، وزاد فيه: وانصر من نصره، واخذل من خذله.
_________
(1) انظر الروايات وتخريج المرحوم شاكر لها في المسند ج 2، وأرقامها على التوالى 641، 670، 950، 951، 961، 964، 1310.(1/133)
قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القوايرى، حدثنا يونس بن أرقم، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس:
أنشد الله من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد؟
قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدرياً، كانى أنظر إلى أحدهم، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال: دخلت على عبد الرحمن بن أبى ليلى، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال: أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهده يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم إلا من قد رآه؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته.
قال عبد الله بن أحمد: حدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا شبابة، حدثني نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه، قال: فزاد الناس بعد: وال من والاه، وعاد من عاداه.(1/134)
مناقشة الروايات
هذه هي الروايات السبع، والرواية الأولى سندها ضعيف، إلا أن متنها صحيح وهو: " من كنت مولاه فعلى مولاه "، والروايات الأخرى تؤيده، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (1) .
وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". وفى الرابعة " وانصر من نصره، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد: وال من والاه، وعاد من عاداه ".
فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه، وعاد من ... عاداه "، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (2) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح.
_________
(1) انظر كشف الخلفاء 2/274 , والرواية الساسة تتفق مع كثير من الروايات فيما عدا زيادة إنكار بعض الصحابة ودعاء الأمير عليهم، وهى ضعيفة السند بحمد الله تعالى، فاتفق هذا الضعف مع هذه الزيادة التي لم تأت في رواية صحيحة على الإطلاق، والتي لا تستقيم مع ماعرف عن الصحابة الكرام، فليس بمؤمن من يكتم شهادة حق، وهذه شهادة معروفة لا ضرر في إظهارها ولا خير في إنكارها، فلو كان هؤلاء ممن نافقوا لا من المؤمنين فلم يقدمون على هذا الكتمان؟ وأنى هذا إذا كان الجرم ينسب لأنس بن مالك وزيد بن أرقم وبراء بن عازب وغيرهم من أجلاء الصحابة! ثم أنى لمن تربى في بيت النبوة وتخلق بخلقها أن يدعو عليهم بدلاً من أن يدعو لهم! ولكن هذه الاتهامات لخير قرن ـ مع ضعفها ـ تعجب بعض الشيعة فيلتقطونها من أي مصدر لتأييدها وترويجها. (انظر مثلاً الغدير 1/191-195) .
(2) انظر المسند ط الميمنية 4/368 - 373.(1/135)
والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على؟
سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها، وبمعنى الناصر والخليل، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة، ولا مكان للخلافة هنا، ولو أرادها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه، ولكانت القرائن كذلك تؤيده.
ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور (1)
ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين
_________
(1) للإمام على خطب كثيرة تبين تخاذل هؤلاء الشيعة، يمكن الرجوع إليها في نهج ... البلاغة - وعندما أغار سفيان بن عوف بجنده على الأنبار، ثم انصرفوا وافرين، خطب الإمام خطبة منها: " فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم: هذه حمارةّ القيظ، أمهلنا يُسَّبح عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر!
يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم! معرفة والله جرت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبى قيحاً، وشحنتم صدرى غيظاً، وجرعتمونى نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم على رأيى ... بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبى طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له* *بالحرب " (نهج البلاغة ص 53 -54) (ترحاً: هماً وحزناً أو فقراً - حمارة القيظ: شدة الحر - سبخ عنا الحر: خفف - صبارة الشتاء: شدة برده - القر بالضمة: البرد - ربات الحجال: النساء - السدم: الهم مع أسف أو غيظ - النغب: جمع نغبة كجرعة لفظاً ومعنى ... - التهمام: الهم - أنفاساً: أي جرعة بعد جرعة) .(1/136)
السابقين وعلى من بايعهم، وهذا لم يثبت على الإطلاق، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج.
وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق ولا فضله، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى: أصبت وأحسنت، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف، أي حين بايع، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر: " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصيباً ". وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر وتشهد، وعظم حق أبى بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر، ولا إنكاراً للذى فضله الله به، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علنا، فوجدنا في أنفسنا ".
فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد به غيره، وله ما يؤيد وجهة نظره، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه. وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو(1/137)
غسله، أو الصلاة عليه أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء.
فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه، ولما تمت البيعة أصلاً.
والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد.
وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى (1) }
{) .
قال الآلوسى:
"
_________
(1) ذكر صاحب كتاب المراجعات أن الشيخ سليم البشرى لم يقتنع فقط بقول الجعفرية في تفسير كلمة المولى التي وردت في روايات الغدير، بل كتب يخاطبه (ص 220) : " لو كان المراد الناصر أو نحوها ما سأل سائل بعذاب واقع، فرأيكم في المولى ثابت مسلم! ".
ولا أدرى أكان علامة زمانه شيخ الجامع الأزهر يجهل ما ذهب إلى جمهور المفسرين بلا خلاف من مكية سورة المعارج؟ لقد ذكرت من قبل ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وموافقة الطوسي لهم، وهو شيخ طائفة الجعفرية، وكذلك إمام المفسرين عند الجعفرية، أكان شيخ الأزهر والمالكية جعفرياً أكثر من شيخ طائفتهم وإمام مفسريهم فاتخذ من السورة الكريمة ما يؤيد رأي صاحب المراجعات؟ أم أن هذا نُسب كذباً لشيخ الأزهر – ولم يطبع الكتاب إلا بعد وفاته – كدأب كثير من أصحاب الفرق عند البحث عن طريق يسلكونها لتأييد مذهبهم؟ وقد رأينا من قبل ما نسبه صاحب الغدير لشيخ المفسرين الطبري! وسبق في ص 137 ما نسب للشيخ البشرى، المسألة إذن تحتاج إلى نظر! وقد دعانى هذا إلى تأليف كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت به يقيناً براءة الشيخ البشرى مما نسب له، وبينت بالأدلة ضلال عبد الحسين مؤلف المراجعات، بل كفره وزندقته.(1/138)
ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد. ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (1) .
وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى، فإنى وجدت روايات فيها التقييد، وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي، ففيها أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن علياً منى وأنا منه، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (2) وزاد الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان ". وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها: " وإنه منى وأنا منه، وهو وليكم بعدى " (3) .
وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة، وهو متكلَّم فيه: وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار. قال ابن سعد: كان ثقة وبه ضعف، وكان يتشيع.
وقال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به. قيل له: إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه؟ فقال: إنما كان يتشيع، وكان يحدث بأحاديث في فضل على، وأهل البصرة يغلون في على. قلت عامة حديثة رقاق؟ قال:
نعم، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه، وكان يستضعفه. وكان عبد الرحمن بن مهدى يستثقل حديثه.
_________
(1) تفسير الآلوسى 2/351.
(2) المسند ط الميمنية 4/438، والترمذى – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب رضي الله عنه.
(3) المسند 5 / 365.(1/139)
وقال البخاري: يقال كان أميّاً، وقال في الضعفاء، يخالف في بعض أحاديثه. وقال ابن المديني: هو ثقة عندنا، وقال أيضاً: أكثر عن ثابت، وبقية أحاديثه مناكير.
وقال ابن شاهين في المختلف فيهم: إنما تكلم فيه لعلة المذهب، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول: جعفر بن سليمان ضعيف.
وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج.
والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (1) ، وهو من شيعة الكوفة، ومتكلَّم فيه أيضاً، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة حديثة لين.
وقال أحمد: روى الأجلح غير حديث منكر.
وقال القطان: في نفسى منه شىء. وقال أيضاً: ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين، يعنى أنه ما كان بالحافظ. وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول، جعل أبا سفيان أبا الزبير.
وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم، وقال ابن سعيد: كان ضعيفاً جداً، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء. إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً.
_________
(1) انظر ترجمة كل منهما في تهذيب التهذيب.(1/140)
رابعا: روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
بعد هذا كله نقول: إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية
من القول في الإمامة، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز.
1-خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان؟ فقال: " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى ".
هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (1) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه، وقد استخلف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة آخرين (2) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته، ولو أراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلافة العظمى لقالها، فما يمنعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولقال ذلك للمسلمين، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف. وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترضية لنفسه وتهدئة
_________
(1) راجع البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب على بن أبى طالب- وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل على بن أبى طالب واللفظ لمسلم، والمسند ج 3 رواية رقم 1463 وتخريج الشيخ شاكر لها.
(2) استخلف الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المدينة ابن أم مكتوم لما خرج لحرب بنى النضير، وفى غزوة الخندق، وعثمان بن عفان لما خرج لغزوة ذات الرقاع، وأبا لبابة بن عبد المنذر لما سار لغزوة بدر (انظر المنتقى ص 53، 212) .(1/141)
لخواطره، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أنزله منه منزلة هارون من موسى، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة، واستثناؤها دليل على العموم " (1) .
وقولهم فيه نظر، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً، وهذا ينقض العموم، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى. بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة، ولكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء، والصبيان والعجزة، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام، كما ولى الأمر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (2) .
2-روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... " يكون اثنى عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبى: إنه قال: كلهم من قريش (3) ".
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعته يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفى على قال: فقلت لأبى ما قال؟ قال: كلهم من ... قريش ".
_________
(1) المراجعات ص 152.
(2) لفصل في الملل والأهواء والنحل ص 94، وانظر المنتقى حاشية ص 213.
(3) كتاب الأحكام من صحيحه – باب الاستخلاف.(1/142)
وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر ... خليفة " (1) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (2) .
وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين، وصلاح حال المسلمين. وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر!
وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا. ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على.
3-أخرج البخاري (3) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قوموا عنى.
قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
وعن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه فقال: إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا، ولاينبغى عند نبي تنازع، فقالوا: ماشأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال: دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها (4) .
وفى رواية للإمام أحمد (5) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح، سمع سعيد جبير يقول: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى، قلنا يا أبا العباس، وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه فقال: ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً،
_________
(1) راجع مسلم – كتب الإمارة – باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
(2) راجع سنن أبى داود – كتاب المهدى.
(3) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب كراهية الخلاف.
(4) راجع صحيح البخاري - باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته.
(5) المسند ج 3 رواية رقم 1935، وانظر تخريج الشيخ شاكر وشرحه لها.(1/143)
فتنازعوا، ولا ينبغى عند نبي تنازع، فقالوا ما شأنه؟ أهجر؟ قال سفيان: يعنى هذى، استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعونى، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه، وأمر بثلاث، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت سعيد عن الثالثة، فلا أدرى أسكت عنها عمداً، وقال مرة أو نسيها؟ وقال سفيان مرة: وإما أن يكون تركها أو نسيها.
ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (1) .
_________
(1) كتاب الوصية - باب ترك الوصية، وفى كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري - باب جوائز الوفد - جاءت رواية أخرى اختلفت النسخ في متنها (انظر طبعة مطابع الشعب سنة 1378 هـ) ففي إحدى النسخ أسند الهجر إلى الرسول الكريم بغير استفهام، ولكن في نسختين أخريين أثبتت همزة الاستفهام، ولعلهما هنا أصح، وهذا يتفق مع الروايات الأخرى، وفى صحيح مسلم كانت الروايات بلفظ " أهجر" ولكن رواية جاءت بلفظ " إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهجر " هكذا بغير استفهام بل بأداة تأكيد! وصاحب فتح البارى تحدث عن المراد بقولهم ... " أهجر " فقال: المراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم* ... *فائدته، ووقوع ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستحيل، لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى ... (3: النجم) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنى لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً". وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه من كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه عليه لنقل. ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته. ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ من شدة وجعه. وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضى في العادة إلى ما ذكره ".
ثم قال: وأوصاهم بثلاث أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتب لم يكن أمراً متحتماً، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ويعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً، وحفظوا عنه أشياء لفظاً، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم. (انظر باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته) .(1/144)
ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال! فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامة، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس، وأنت إذا تأملت في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده "، وقوله في حديث الثقلين: " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتى أهل بيتي "، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284، وفى ص 255 قال: " ومع(1/145)
ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث: أن يولوا عليهم علياً، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى، فزعموا أنهم نسوها ".
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة، رضوان الله عليهم. وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات، ولكن يكفى أن نقول: بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة.
على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (1) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد، وشجاعته أمام الحجاج، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (2) .
_________
(1) جاء في الموضع السابق من فتح البارى: " قال الداودى: الثالثة الوصية بالقرآن، وبه جزم ابن التين. وقال المهلب: بل هو تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبى بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أن تكون هو قوله (ولا تتخذوا قبرى وثنا) فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود. ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: الصلاة وما ملكت أيمانكم.
(2) انظر ما كتب عنه في الغدير 1/65.(1/146)
وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك! (1)
{) .
وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف.
_________
(1) قال ابن تيمية: " من توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة على فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، وأما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبى بكر وتقديمه. وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون أنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى , وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له (أي للواجب) . فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله (المنتقى ص 349-350) .
وقال العقاد: " أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتوصية باختيار على للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسىء إلى كل ذى شأن في هذه المسألة، ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأي في المسألة مثل رأيه. فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصى بخلافة على أو خلافة غيره، لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال، أو إشارة كالإشارة التي فهم منها إيثار أبىبكر بالتقديم، وهى إشارته إليه أن يصلى بالناس، وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه، ولم يكن بين على وبين لقائه حائل، وكانت السيدة فاطمة زوج على عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة، فلو شاء لدعى به وعهد إليه. وفضلاً عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه، نرجع إلى سابقة من سنن النبي في تولية الولاة، فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد خلافة على فحيل بينه وبين الجهر بما أراد ". (عبقرية عمر ص 209-210) .(1/147)
خامسا: روايات لها صلة بموضوع الإمامة
مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي: -
من يؤمّر بعدك؟
1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (1) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال: " قيل: يا رسول الله: من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليّاً، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم ".
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحداً، وإنما جعل هذا للمسلمين، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (2) .
الاستخلاف
2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى؛ أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأثنوا عليه فقال: راغب راهب، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على، لا أتحملها حياً وميتاً " (3) .
_________
(1) انظر ج 2 - رواية رقم " 859" - وراجع بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد.
(2) ذكر صاحب كتاب الغدير (1/12) الجزء الأخير فقط " وإن تؤمروا علياً " ولم يشر إلى الصاحبين، وبذلك يتغير مدلول الحديث ليتفق مع عقيدته!
(3) راجع البخاري - كتاب الأحكام: باب الاستخلاف، ومسلم: كتاب الإمارة باب الاستخلاف وتركه، واللفظ للبخاري.(1/148)
وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: " دخلت على حفصة فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قال: فقلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أنى أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت، فدخلت عليه، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره، قال: ثم قلت: إنى سمعت الناس ... يقولون فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع، فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً، وأنه غير مستخلف" (1) .
وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال: " لتخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بى الأشقى؟ قالوا: ياأمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته! قال: إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى، قالوا: فاستخلف علينا، قال: لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ قال: اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم ".
_________
(1) انظر الموضع السابق من صحيح مسلم، وروى أبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال عمر: إنى إن لا أستخلف، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله إلا أن ذكر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحداً، وأنه غير مستخلف. (انظر سنن أبى داود - كتاب الخراج والفىء والإمارة - باب في الخليفة يستخلف) .(1/149)
وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال: " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه، قال الناس: فأعلمنا من هو؟ والله لنبيرن عترته! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى، قالوا: إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن. قال لا، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحد لخلافته.
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال: " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال: سبحان الله! صدق الله ورسوله، فقلت لرجل من بنى يشكر: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله، قال: فانطلقنا إليه: فقلنا: يأأمير المؤمنين، رأيناك إذا شهدت مشهداً، أو هبطت وادياً، أو أشرفت على أكمة، قلت: صدق الله ورسوله، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك؟ قال: فأعرض عنا، وألححنا عليه، فلما رأي ذلك قال: والله ما عهد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (2) .
_________
(1) انظر المسند ج 2 الروايتين 1078، 1339، وبالحاشية بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد.
(2) انظر الرواية وصحة إسنادها بالمسند ج 2 رقم 1206.(1/150)
وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يوص، وقد روى هذا عن ابن عباس، وعبد الله بن أبى أوفى، والسيدة عائشة (1) .
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر
3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال: " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (2) .
وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت: " قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (3) .
وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم، وبسندين آخرين (4) .
_________
(1) راجع صحيح البخاري - باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته، وكتاب التفسير: باب من قال لم يترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ما بين الدفتين، وباب الوصاة بكتاب الله عز وجل - وراجع كذلك مسلم كتاب الوصية: باب ترك الوصية. والمسند حـ 5 روايات 3189، 3355، 3356.
(2) البخاري - كتاب الأحكام - باب الاستخلاف.
(3) مسلم كتاب الفضائل - باب من فضائل أبى بكر الصديق.
(4) انظر المسند حـ 6 ص 47، 106، 144 وذكر استاذ الفلسفة الدكتور أحمد محمود صبحى الرواية الأخيرة لهذا الحديث الشريف، ولم يذكر مصادره بل اكتفى بنسبته لبعض أهل السنة، ثم قال " ولا شك أن الوضع ظاهر في هذا الحديث، وأنه أريد به معارضة حديث الشيعة في أمر كتاب النبي الذي ينسب إلى عمر* *أنه منعه، ولو صح كتاب النبي إلى أبى بكر لكان نصاً جلياً لأبى بكر، وهو ما لم يقل به جمهور المسلمين "
ورجل الفلسفة أقحم نفسه هنا فيما لا يعرف، فحديث يرويه الشيخان والإمام أحمد بسند صحيح كيف يقال أنه موضوع بلا شك؟ ! ومن المتهم بالوضع إذن؟
والشيخان والإمام أحمد رووا الحديث الذي ظنه حديث الشيعة في أمر كتاب النبي وقال: بأن هذا وضع لمعارضته! ورواية البخاري تدل أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم ولكنه لم يرسل، فلا نصاً جلياً هنا لأبى بكر حتى يرفض الحديث لعدم صحة المتن.
والمؤلف كذلك اعتبر حديث التمسك بالكتاب والعترة من الأحاديث المتفق على صحتها عند أهل السنة، مع أن رواياته لم تصح منها واحدة كما بينا من قبل. (انظر كتابه نظرية الإمامة ص 235-236) .(1/151)
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق، فهو الأولى بها، وتم ما قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر.
وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور، منها: جعله أمير الحج في العام التاسع، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً، بل جعله تحت إمرة الصديق.
ومنها خطبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله. فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسى: ما يُبكى هذا الشيخ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا.
قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر ".
(1/152)
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى ... بكر " (1) .
وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (2) .
ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمهم، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى.
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، وروى النسائي عنه أيضاً (3) قال: " لما ُقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار، ألستهم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ". فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (4)
_________
(1) راجع صحيح البخاري - كتاب الصلاة: باب الخوخة والممر في المسجد.
(2) راجع المسند جـ 4 رواية رقم 2432. والترمذى: كتاب المناقب: باب مناقب أبى بكر الصديق.
(3) انظر المسند ج 1 رواية رقم 133، وانظر كذلك ج 5 الروايتين 3765، 3842 وانظر سنن النسائي - كتاب الإمامة، واللفظ لأحمد.
(4) ذكر سيدى عبد القادر الجيلانى -الذي ينتهى نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم - أن خلافة أبى بكر رضي الله عنه كانت باتفاق المهاجرين والأنصار وفيهم* *الإمام على، وذكر قول عمر في إمامة الصلاة التي رواها الإمام أحمد، ثم قال: " قيل في النقل الصحيح: لما بويع أبو بكر الصديق قام ثلاثاً يقبل على الناس يقول: ياأيها الناس أقلتكم بيعتى، هل من كاره؟ فيقوم على في أوائل الناس فيقول: لا نقيلك ولا نستقيلك أبداً، قدمك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن يؤخرك؟ وبلغنا عن الثقات أن علياً - رضي الله عنه - كان أشد الصحابة قولاً في إمامة أبى بكر رضي الله عنه. وروى أن عبد الله بن الكواء دخل على على بعد قتال الجمل وسأله: هل عهد إليك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الأمر شيئاً؟ فقال: نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام، فرضينا لدنيانا بما رضي الله ورسوله لديننا، فولينا الأمر أبا بكر ".
انظر الغنية 1/68، وراجع كذلك القول في عدم تأخر الإمام على عن المبايعة فيما نقلناه عن فتح البارى في حاشية ص 18 من فصل الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.(1/153)
{) .
ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال: أتت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر (1) .
المهدى
4-أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ".
وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ".
وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمى ".
_________
(1) انظر البخاري كتاب الأحكام: باب الاستخلاف، ومسلم كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبى بكر الصديق، واللفظ للبخاري.(1/154)
وفى رواية ثانية: " لا تذهب الدنيا أو قال: لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى "، ووردت هذه الرواية بأسانيد ... أخرى (1) .
وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن، وكثر حولها الجدل. والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (2) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (3) .
_________
(1) سئل أستاذنا العلامة المحقق محمود محمد شاكر عن المهدى قال: الحديث عن المهدى متصل بالمسيح والمسيح الدجال، فالثلاثة من علامات الساعة، وسيكونون في وقت واحد، ومن هنا يظهر خطأ من يجعل المهدى منفصلاً عن غيره. وسيكون المهدى حاكماً كسائر الحكام، ثم يهديه الله - سبحانه وتعالى - ويصلحه في ليلة. وأشار سيادته إلى خطأ الشيعة وأمثالهم، وخطأ المنكرين لأحاديث المهدى صحيحة. وفى صحيح مسلم قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمه الله هذه الأمة ". وعقب الشيخ ناصر الدين الألبانى على كلمة " أميرهم " بقوله: " هو المهدى محمد بن عبد الله - عليه السلام - كما تظاهرت بذلك الأحاديث بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن، وقد خرجت شيئاً منها في (الأحاديث الضعيفة) ". انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم 2061.
(2) انظر روايات المسند وتخريجها: جـ 2، جـ 5، جـ 6،: روايات 645، 773، 3571، 3572، 3573، 4098، 4279.
(3) انظر الترمذي - كتاب الفتن: باب ما جاء في المهدى، وفى سنن ابن ماجة " يكون في أمتى المهدى، إن قصر فسبع، وإلا فتسع ". (كتاب الفتن - باب خروج المهدى، وانظر سنن أبى داود - كتاب المهدى) .(1/155)
فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (1) !
وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها، بل وجدنا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة. ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى ". وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال: إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... يملأ الأرض عدلاً (2)
وبعد: فتلك سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين. فالحمد لله عز وجل الذي هدانا ... لهذا، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
_________
(1) ذهبت فرقة الشيخية - التي خرجت على الجعفرية - إلى أن المهدى سيوجد بالولادة مما أثار غضب الاثنى عشرية. (انظر المهدية في الإسلام ص 241) .
(2) فالمهدى إذن اسمه محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن، وينتهى نسبه إلى الحسن لا إلى الحسين رضي الله عنهما. (انظر عون المعبود شرح سنن أبى داود - كتاب المهدى 11 / 370، 371، 381، 382) وفى التفسير الكاشف للعالم الجعفرى محمد جواد مغنية أشار إلى المهدى وأحاديثه وقال: وفى هذا المعنى أحاديث كثيرة وصحيحة، منها ما رواه أبو داود في كتاب السنن - وهو أحد الصحاح السته: " قال رسول الله: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " ... (5/302) .
ولا ندرى لم ذكر هذا الحديث الشريف واعترف بصحته مع أنه يخالف عقيدته!(1/156)
الفصل الرابع
الاستدلال بالتحريف والوضع
رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول، وتأويلات انفردوا بها، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم. كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة.
والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة. وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم، ونشر هذه العقيدة الباطلة، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم. وغير أهل الاختصاص، وهم الكثرة، بل عامة الناس، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة.
ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل. ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية ".(1/157)
وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة، ويزين له باطل هذا الرافضي، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى ".
وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين، والرد عليهما، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان.
تحريف القرآن الكريم
للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم، وبيان موقفهم من القرآن الكريم، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث، وهو كتاب الكافى، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد.
وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه ... " حجج الكتاب "، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة، والمتقون، وخير البرية، ... إلى آخره، أما خير أمة(1/158)
أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار، والفجار، والكفار، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، حيث خصهما بمزيد من الطعن؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال. وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه.
وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم. ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى، حيث جاء بأربعين آية كريمة، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله. وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب ... عنها، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة (من بدايته إلى ص 297) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات، ففيها إقناع وإمتاع، وفضح للغلاة الرافضة. وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب، وهو ما يتعلق بقوله تعالى ... " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ ... رَاكِعُونَ " (55: المائدة) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام:
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى:
" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (سورة البقرة: 111) .(1/159)
وقال تعالى:
" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (سورة النمل: 64) .
فالصادق لابد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل. وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبا عليه، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس. فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهانا، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض.
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول.
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام، وروجوها على أقوام، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل، فقبلها لهواه، ولم ينظر في حقيقتها. ومنهم من كان له نظر فتدبرها(1/160)
فوجدها تقدح في حق الإسلام، فقال بموجبها، وقدح بها في دين الإسلام، إما لفساد اعتقاده في الدين، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام.
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام.
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة، إلى القدح في علىّ، ثم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم في الإلهية، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم. ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد.
ثم نقول: ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه: الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده. وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم.
فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته: لا حكما، ولا فضيلة، ولا غير ذلك. وكذلك الشيعة.
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها، بطل الاحتجاج به. وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم.(1/161)
الثانى: قوله: " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
وأما ما نقله من تفسير الثعلبى، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك. ولهذا يقولون: " هو كحاطب ليل ".
وهكذا الواحدى تلميذه، وأمثالهما من المفسرين: ينقلون الصحيح والضعيف.
ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث، أعلم به من الثعلبى والواحدى، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى، مع أن الثعلبى فيه خير ودين، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال.
وأما أهل العلم الكبار: أهل التفسير، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد، وابن أبى حاتم، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات.
دع من هو أعلم منهم، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع، ويروى كثيرا من فضائل علىّ، وإن كانت ضعيفة، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر.
وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى، وأمثال هؤلاء المفسرين، لكثرة ما(1/162)
يروونه من الحديث ويكون ضعيفا، بل موضوعا. فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى، لم يجز أن نعتمد عليه، لكون الثعلبى وأمثاله رووه، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب؟ !
وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله، حيث قال: " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف.
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه، فكيف إذا ادّعى إجماعا؟ !
الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول: نزلت في أبى بكر. ونقل عن عبد الملك: قال: سألت أبا جعفر، قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناسا يقولون: هو علىّ. قال: فعلىُّ من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله.
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاوية بن صالح، حدثنا علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس في هذه، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا ". قال: وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ، عن عبد الملك بن أبى سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية، فقال: " هم الذين آمنوا ". قلت: نزلت في علىّ؟ قال: علىّ من الذين آمنوا. وعن السدى مثله.
الوجه الرابع: أنّا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح. وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون.(1/163)
وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا.
واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها.
والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين.
والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة.
من هذه المراجع صحيح البخاري!
ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، فكيف يستدل به هذا الرافضي؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل. فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري.
قال الرافضي: وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم:
" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" (19: الحج)
وقال في الحاشية: أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال: أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة. (قال البخاري) : قال قيس: وفيهم نزلت: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ "، قال: هم الذين(1/164)
بارزوا يوم بدر: على وصاحباه حمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
قلت: نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه، كما أخرجه غيره. والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا، وما سيلقونه في جهنم.
ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار، فرفض المشركون، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام. وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش، وهو مركز القيادة، وليس معه غيره. وممن شهد بدرا عمر وعثمان (1) رضي الله عنهم جميعا. والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة، ومن بعده من الخلفاء الراشدين. وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا، وقطعت لهم ثياب من نار.
أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك.
فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش! ! انظر كيف يفترى على الكذب! ... (
_________
(1) تخلف عثمان على امرأته رقية بنت رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وكانت مريضة، فتوفيت وجاءت البشرى بالفتح حين دفنت، فضرب له رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بسهمه من الغنيمة، وبأجره من المشهد، فهو بدرى ـ جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 88.(1/165)
ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى، علامة زمانه، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين)
هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري.
وإليك الخبر الثانى:
قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب)
نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي:
" فقالوا: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، الحديث " ثم قال الرافضي: " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية ". ا. هـ.
قلت: هذه رواية متفق على صحتها، ولكن من الآل؟
ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عندما سئل: كيف نصلى عليك؟ فقال: " قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل ابراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته. . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى. ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين.
والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر، وإزالة هذا اللبس والتلبيس، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذه الفرقة.(1/166)
ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونحدد أولا المراد بالأهل:
جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل:
أهل يأهل أهلا وأهولا: تزوج، وأهل المكان أهولا: عمر بأهله، وأهل فلانة: تزوجها.
والأهل: الأقارب والعشيرة والزوجة.
وأهل الدار ونحوها: سكانها.
وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل: أهل: يحدد معناه بما يضاف إليه.
فأهل الرجل: زوجه، وعشيرته، وذوو قرباه.
وأهل الدار: سكانها.
وأهل الكتاب، وأهل الإنجيل، وأهل القرية، وأهل المدينة، ... إلخ: من يجمعهم الكتاب، أو الإنجيل ... إلخ.
ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل.
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال:
" بنى على النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك.. فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة (1) .
_________
(1) صحيح البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم..".(1/167)
من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هم: زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم: كعلى بن أبى طالب، وابن عباس وأبيه، وجعفر، وغيرهم. وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث والآثار، وكتبنا تشهد بذلك: انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار.
والرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره، وإنما علم صحابته الكرام، وأهل بيته الأطهار، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين.
والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار، هم خير أمة أخرجت للناس، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات، وكفى بالله شهيدا، وشهد لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى.
وعن هؤلاء الصحابة الكرام، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة نبينا المطهرة، وما يتصل بهما من البيان والأحكام، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى.
ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى:
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فاعلم أنه زنديق. وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق. وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق ".(1/168)
هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون، فما موقف عبد الحسين وفرقته؟
أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد: بأنها مقدسة، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان. سنجد الطعن والتفسيق، بل التكفير والنفاق.. لمن؟ لخير أمة أخرجت للناس!! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا.
وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أمهات المؤمنين، وهن أول المراد من أهل البيت، فهن: الصديقة بنت الصديق، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ... إلخ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه، وعن غيره، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم.
وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه: ففي قوله تعالى:
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا " (1) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة:
_________
(1) التحريم - 01(1/169)
يقول أحد علمائهم، بل علامتهم المجلسى: " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما!! " (1) .
كما طعنوا في أمهات المؤمنين: أم حبيبة، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (2) . (انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت!!)
ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت: فهذا مثلا عبد الله بن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، وأبوه عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماذا قالوا فيهما؟
من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح: تفسير على بن إبراهيم القمي، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب، ونجد القمي يروى أن ابن عباس، وأباه، نزل فيهما قوله تعالى: " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (3) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى: " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (4)
_________
(1) بحار الأنوار جـ 22 ص 33.
(2) انظر كتابى: بين الشيعة والسنة. دراسة مقارنة في التفسير وأصوله، ص 255.
(3) 72: الإسراء.
(4) 34: هود، وانظر فرية القمي في تفسيره 2 / 23.(1/170)
ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد، بل تجرءوا على بنات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن! أي والله بنات النبي نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرعلى رضي الله تعالى عنه، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها: وجعلنا عليا صهرك (1) .
فإذا كان علي من أهل البيت، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا (2) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرقية تزوجها بعد إسلامه، وهاجر بها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام. وأصغر بنات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أم كلثوم، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب، وطلقها قبل أن يدخل بها، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة.
أما أكبر بنات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف. وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت.
هؤلاء هن بنات النبي الأربعة، والأزواج الثلاثة، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة، وهم جميعا من أهل البيت؟
_________
(1) سيأتي الحديث عن موقف هذه الفرقة من القرآن الكريم في الجزء الثانى.
(2) انظر بيان قرابته من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب " ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه " للشيخ محب الدين الخطيب: ص 5، 6.(1/171)
رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين، وتولى الخلافة بعدهما، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله.
وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حملها وهو يصلى. وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة. ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة (1) .
أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن؟
قال أحد علمائهم: " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى. وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما " (2) . ا. هـ.
ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتزوجها عثمان، ولم يمت زوجها قبلها، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص. أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة. وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن
_________
(1) انظر ترجمة أبى العاص في باب الكنى من الجزء الرابع من الإصابة لابن حجر، ... ص 121: 123 ترجمة رقم 692.
(2) انظر زبدة البيان ـ حاشية ص 575.(1/172)
أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اغسلنها وترا، ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الآخرة كافورا ".
وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة؟ !
أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت؟ ! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض؟
أما الطاهرتان رقية وأم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين. وفى كتاب منهاج الشريعة، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع.
ومما قاله: " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (1) وقال: " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض ... النسوة " (2) .
وقال: " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (3) .
أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته؟
ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة:
_________
(1) منهاج الشريعة 2 / 289.
(2) المرجع نفسه 2 / 290.
(3) منهاج الشريعة 2 / 291.(1/173)
زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل، فإذا بالرافضة يقولون: " ذاك فرج غصبناه "!! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له!! (انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434) .
وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام، فيبدو ذليلا جبانا!! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح.
ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق، وهو كتاب معجم رجال الحديث:
ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى:
(7618، 8729، 8731، 8787، 8788، 14000، 14002) .
هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم؟
كلهم من آل البيت الأطهار، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان.. تأمل! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه، منهم أبو بكر وعثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف. وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين.
هؤلاء آل البيت الأطهار: على والحسن والحسين، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار، وبراءتهم من الرافضة الفجار.(1/174)
وفى كتاب كشف الأسرار (ص 17، 18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان:
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت: "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة، اختصاصنا بأهل البيت، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت – حسب رأينا – إذ الولاء والبراء مع العامة – وهم أهل السنّة – بسبب أهل البيت، والبراءة من الصحابة، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، ذَكَرهم وأنثاهم، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم.
وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم.
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338)
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " ياأشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (1) ... قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى
_________
(1) السدم: الهم. والنُّغَب: جمع نغبة كجرعة وجُرع. والتهمام: الهم.(1/175)
لقد قالت قريش: إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع ". " نهج البلاغة " (ص 70، 71)
وقال لهم موبّخاً: منيت بكم بثلاث، واثنتين: " صُمُّ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعُمْى ذوو أبصار، لا أحرار وصُدُق‘ عند اللقاء، ولا إخوان‘ ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها ". " نهج البلاغةَّ " (ص 142)
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه، وله فيهم كلام كثير.
وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته: " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا ". " الإرشاد المفيد " (ص 241) .
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم، فكان مما قال:
" لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء، وتهافتم كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا، ألا لعنةُ الله على الظالمين ". " الاحتجاج " (2/24) .
وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه؟!
ولهذا قال السيد محسن الأمين: " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، وقتلوه ". " أعيان الشيعة " (القسم الأول)(1/176)
وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى، فيضيع أهل بيتي، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير ". " الاحتجاج " (2/10) .
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة: " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم: قاتلتم عترتى، وانتهكتم حرمتى؛ فلستم من أمتى ". " الاحتجاج " (2/32)
وقال أيضاً عنهم: " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم؟ ". " الاحتجاج " (2/29) .
وقال الباقررضي الله عنه: " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً، والربع الآخر أحمق ". " رجال الكشّي " (ص 79) .
وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً ". " أصول الكافى " (1/496) . انتهى. هذا بعض ما قاله العالم الشيعي.
بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع:(1/177)
ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما.
قال الرافضي:
عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى:
" وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة، فنزل عند أحجار الزيت، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه، وتركوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط. وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى:
" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية.
قلت: نظرت في تفسير مجاهد، وهو مطبوع، فلم أجد ما سبق. ثم نظرت في الدر المنثور (6 / 220 ـ 221) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنص على أبى بكر وعمر. وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله، وفيها: " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا: أنا فيهم، وأبو بكر، وعمر ".
والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه، وفيه. " ما بقى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر:(1/178)
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال: " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر ".
ثم قال: وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار ".
وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين.
أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح!! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: -
" فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال: هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة، وأحب أن يذكرهما، ويذكرهما عباده. (الدر المنثور 5 / 50) .
وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى: - " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال: هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس" رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ...." قال: عن شهود الصلاة المكتوبة. وأخرج الفريابى عن عطاء مثله.(1/179)
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد. فقال ابن عمر: فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " (الدر المنثور 5 /52) .
ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة. ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة.
قال الرافضي: أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى: " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " (274: البقرة)
قال: نزلت في على بن أبى طالب.
قلت: أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره، فقالوا: نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة. ولا خيلاء، وقالوا: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة. (انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم، وأولهم أبو بكر الصديق، الذي نزل فيه قول الله تعالى:
"وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى".(1/180)
والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق. (انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360) ولذلك فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال: " وواسانى بنفسه وماله " (راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن شهد له الله ـ عزوجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره، وأنه الجبت، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار!! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير!!) .
قال الرافضي:
وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: (وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ((1)
ثم قال: أخرج الحاكم (3، 4) عن ابن عباس قال: " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث. وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال: " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ا. هـ.
قلت: لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول، لا عند الحاكم ولا عند غيره، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب، وصحح الخبر، ولم يتعقبه الذهبي (3 / 398) .
_________
(1) البقرة: الآية 207.(1/181)
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن الله تبارك وتعالى اختارنى، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا. فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ".
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (جـ 3 ص 632)
إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو أبو بكر الصديق، فعمر الفاروق، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت!
فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته، يستحق ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اللعنة والخسران يوم القيامة.
إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم، حتى لا يأتىأحد ويقول: كيف تلعن مسلما؟ وأين أنت من دعوة التقريب؟ ! أقول: قد لعنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف لا نلعنه؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة "، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله! !
فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين، عدو الإسلام والمسلمين، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة.(1/182)
الاستدلال بالأحاديث الموضوعة
بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم.
وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان: ابن المطهر وعبد الحسين، أحدهما أو كلاهما، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين. ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر، وجواب شيخ الإسلام.
حديث الدار
هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال:
" المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة، المنقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى اثنا عشر.
الأول: ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى:
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنى عبد المطلب في دار أبى طالب، وهم أربعون رجلا، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا، ولم يتبين ما أكلوه، فبهرهم (النبي صلى الله عليه وآله) بذلك، وتبين لهم آية نوبته، فقال:(1/183)
يا بنى عبد المطلب، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة، وبعثنى إليكم خاصة، فقال: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى، ووصيي ووارثي، وخليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على: فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى، فقال: اجلس ثم أعاد القول ثالثة، فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقمت فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر. فقال: اجلس فأنت أخي ووزيرى، ووصيى ووارثى، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب: ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميرا عليك ". ا. هـ
قال شيخ الإسلام:
والجواب من وجوه: الأول: المطالبة بصحة النقل. وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى، بل وابن جرير وابن أبى حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف.(1/184)
وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة. والضعيفة، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه، ويدع روايات كثيرين عدول، وقد رووا ما يناقض ذلك.
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك، لوجب النظر في الروايتين: أيهما أثبت وأرجح؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل.
الثانى:
أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين: إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع، ولو أنه مسألة فرعية، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم. فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به(1/185)
الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك. فأما إذا لم يعلم إسناده، ولم يثبته أئمة النقل، فمن أين يعلم؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه؟!
الثالث:
أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب.
وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد، أبو مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه، كذبه سماك بن حرب وأبو داود، وقال أحمد: ليس بثقة، عامة أحاديث بواطيل. قال يحيى: ليس بشئ. قال ابن المديني: كان يضع الحديث. وقال النسائي وأبو حاتم: متروك الحديث. وقال ابن حبان البستى: كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر، وهو مع ذلك يقلب الأخبار، لا يجوز الاحتجاج به، وتركه أحمد ويحيى.
ورواه ابن أبى حاتم، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس، وهو ليس بثقة. وقال فيه يحيى بن معين: ليس بشئ رافضى خبيث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطنى: ضعيف.
وإسناد الثعلبى أضعف، لأن فيه من لا يعرف، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة.
الرابع:
أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر. ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة: العباس، وأبو طالب، والحارث، وأبو لهب. وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة، وهم بنو(1/186)
هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة: العباس، وحمزة، وأبو طالب، وأبو لهب، فآمن اثنان، وهما حمزة والعباس، وكفر اثنان، أحدهما نصره وأعانه، وهو أبو طالب، والآخر عاداه وأعان أعداءه، وهو أبو لهب.
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلى. وطالب لم يدرك الإسلام، وأدركه الثلاثة، فآمن على وجعفر في أول الإسلام، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة عام خيبر.
وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها، ولهذا لما قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته: " ننزل غدا في دارك بمكة " قال: " وهل ترك لنا عقيل من دار؟ "
وأما العباس فبنوه كلهم صغار، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل. وهب أنهم كانوا رجالاً فهم: عبد الله، وعبيد الله، والفضل. وأما قثم فولد بعدهم، وأكبرهم الفضل، وبه كان يكنى. وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين، ولم يولد للعباس في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده.
وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل. والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة، وكلاهما تأخر إسلامه، وكان من مسلمة الفتح.
وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح، وكان له ثلاثة ذكور، فأسلم منهم اثنان: عتبة ومغيث، وشهد الطائف وحنينا، وعتيبة دعا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأكله الكلب، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا، فأين الأربعون؟ !(1/187)
الخامس:
قوله: " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا.
السادس:
أن قوله للجماعة: " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجوز نسبته إليه. فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين، وأعانوه على هذا الأمر، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته، وفارقوا أوطانهم، وعادوا إخوانهم، وصبروا على الشتات بعد الألفة، وعلى الذل بعد العز، وعلى الفقر بعد الغنى، وعلى الشدة بعد الرخاء، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له.
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده؟ أيعين واحدا بلا موجب؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة، إلا بأمر سهل، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر. وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة، إلا وله من هذا نصيب وافر، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ !
السابع:
أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر. بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/188)
في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكان اجتماع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به في دار الأرقم، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب.
الثامن:
أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا. ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا، فاجتمعوا، فخص وعم فقال: " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ".
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا. يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا. سلانى ما شئتما من مالى ". وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه: " قام على الصفا ".
وقال في حديث قبيصة: " انطلق إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم نادى: يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير. إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله، فخشى أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه ".(1/189)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه " فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فجعل ينادى: " يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية: " يا بنى فهر، يا بنى عدى، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو، فاجتمعوا فقال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقى؟ " قالوا: ما جربناعليك كذبا. قال: " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال: فقال أبو لهب: تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ فقام فنزلت هذه السورة: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " (سورة المسد: 1) .
وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا: " بلى ".
فإن قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى.
قيل له: مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب. والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب، ويروون ما سمعوه، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق، ومحمد بن يحيى الذهلى، والبخاري، ومسلم، وأبى داود، والنسائى، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين، وأبى عبد الله ابن منده، والدار قطنى، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه(1/190)
الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم.
وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم. مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان، وابن المديني، وأحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وأبى زرعة، وأبى حاتم، والنسائى، والترمذى، وأحمد بن عدى، وابن حبان، وأبى الفتح الأزدى، والدارقطنى وغيرهم.
وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة. ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور: سورة سورة.
وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث. وكذلك غير هذا.
وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا، والبغوى أتبع للسنة منهما.
وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا، بل الاعتبار بميزان العدل.
وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الأصول، والأحكام، والزهد، والفضائل. ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة، وفضائل معاوية.
ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب، من غير تمييز بين صحيح وضعيف، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء، وكذلك غيره ممن
صنف في الفضائل. ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية. ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على،(1/191)
وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم.
وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك. ا. هـ.
قلت: وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند، وذكر اسناده، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته.
وما جاء في المسند (1 / 111) هو ما يأتي: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد ابن عبد الله الأسدي، عن على، قال: لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال: جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا. قال: فقال لهم: من يضمن عنى دينى ومواعيدى، ويكون معى في الجنة، ويكون خليفتى في أهلي؟ فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله، أنت كنت بحرا، من يقوم بهذا! قال: ثم قاله الآخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال على: أنا. (انتهى الخبر) .
هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده، وقال: " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام ".
قلت: لننظر في الاسناد ثم في المتن:
أما الاسناد ففيه ما يأتي:
1-(1/192)
الأعمش ثقة لكنه مدلس، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن، ".... الأعمش (عن) المنهال ... "
2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي:
وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل: أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق. وقال الحاكم: غمزه يحيى بن سعيد، وتكلم فيه ابن حزم، وكان يضعفه. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد.
وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري (ص 446) :
ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه، وحديث آخر في تفسير حم فصلت، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق. (انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال، وهدى الساري ص 445: 446) .
3 - عباد بن عبد الله الأسدي:
قال الرافضي: هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما. سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر. وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وهشام بن عروة.
قلت: هذا من كذب الرافضي وتضليله! فمن ذكره الرافضي مدني، وصاحبنا كوفي!
والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل، فهما اثنان: والمدني لا خلاف حول توثيقه، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي. روى عن على. وعنه المنهال بن عمرو. قال البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان(1/193)
في الثقات. قلت (أي ابن حجر) : وقال ابن سعد: له أحاديث. وقال على بن المديني ضعيف الحديث. وقال ابن الجوزي: ضرب ابن حنبل على حديثه عن على: أنا الصديق الأكبر، وقال: هو منكر. وقال ابن حزم: هو ... مجهول. ا. هـ
ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي، والبخاري نفسه ضعفه حين قال: فيه نظر.
وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني. قال الذهبي في الميزان:
عباد بن عبد الله الأسدي. عن على. قال البخاري: سمع منه المنهال بن عمرو. فيه نظر.
قلت (أي الذهبي) : روى العلاء بن صالح، حدثنا المنهال، عند عباد بن عبد الله، عن على، قال: أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، وما قالها أحد قبلى، ولا يقولها إلا كاذب مفتر، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين.
قلت (أي الذهبي) : هذا كذب علَى علىّ.
قال ابن المديني: ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، له في خصائص على. ا. هـ.
والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء.
هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال:
"راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد، ونقبت عن رجال سنده، فإذا هم ثقات أثبات حجج " !(1/194)
وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله!! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي، وهو من الضعفاء، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني، وهو من الثقات! حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك!
ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند، بل يدركه كل من يحسن القراءة !
فنص المسند:
" ويكون خليفتى في أهلي "، فأين الإمامة العامة هنا؟! ونهاية الخبر " فقال على: أنا "، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة: " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا...." فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند، وهو موضع الاستدلال؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا:
".. يابنى عبد المطلب، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى؟ قال: فلم يقم إليه أحد. قال (أي على) : فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، قال: فقال: اجلس، قال: ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى ". انتهى الخبر.
(انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود، ولذلك أمره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجلوس، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة.
فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام، والطعن في نقلة الكتاب والسنة، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
(1/195)
قال الرافضي في المراجعة (20) بعد ذكر الخبر:
" أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد، وكان الكذب في الإسناد والمتن.
وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل:
ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه. فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة: " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا ". قال (أي على) : فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبى طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! (جـ3 ص40) .
فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة، حيث قال ما نصه:
" تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ".
المراجعة الثامنة وأحاديثها
في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى، بل من أخبث الروافض، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة وكفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ.
وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل، وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا.(1/196)
وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ ":
والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له.
(راجع معاجم اللغة: والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء.
ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس.
استند أساسا إلى حديث الثقلين، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق. أما الروايات غير الصحيحة، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة.
والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة، كرواية صحيح مسلم وغيره، وذكر الروايات الأخرى.
وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه "، وقد سبق الحديث عنه. وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة "، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب.
وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس !! هكذا ظهر خليفة ابن سبأ.
فلننظر إلى هذين الحديثين(1/197)
الحديث الأول:
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر.
وذكر رواية أخرى للحديث، وهى:
" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له ".
وقال: أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد.
الحديث الثانى:
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف (في الدين) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب (يعنى في أحكام الله عز وجل) اختلفوا فصاروا حزب إبليس ".
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت: الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك (3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد، والحديث الثانى في المستدرك (3 / 149) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال: بل موضوع.(1/198)
والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي. قال البخاري عنه: منكر الحديث، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه. وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم، وغيره (1) .
والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا. وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وبين أنه موضوع، وقال: وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (2) . وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: 1 / 419 "، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب (ص) ، فقال: " كذاب، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا ".
ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة، وهو حديث الثقلين، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه. وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم: إمام صدوق، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك، فما أدرى هل خفيت عليه؟ فما هو ممن يجهل ذلك. وإن علم فهو خيانة عظيمة. ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين. والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء. ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له، وقطع بترك الرواية
_________
(1) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 10 / 271 ـ 272، والجرح والتعديل لابن أبى حاتم 8 / 316 ـ 317، والمغنى في الضعفاء للذهبى 2 / 320.
(2) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 84 ـ 85.(1/199)
عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر.
ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير: في الجزء الثالث (ص 45، 46) ثلاث روايات:
الأولى
هي رقم 2636، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر: وهو متروك، وعلى بن زيد ابن جدعان: وهو ضعيف.
والثانية
رقم 2637، وفى سندها عبد الله بن داهر: وهو متروك. وعبد الله بن عبد القدوس: بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير، والأعمش: وهو مدلس، وهنا عنعن.
والرواية الثالثة
رقم 2638، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى. وهو أيضا في الرواية الرابعة، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34، ورقمها 12388.
فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين، فكيف يحتج بمثلها؟ ! (انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا!
فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها. بل إن ابن(1/200)
المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (1) .
والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه. " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (2) .
وتحدث ابن القيم عنه فقال: " ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسي وزير هولاكو، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين والسحرة. ونقل أوقاف المدارس والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم، وبطلان الميعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله: من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة، واتخذ للملاحدة مدارس " (3) ثم قال:
" وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر " (4) .
وقال أيضا:
" وكان هؤلاء زنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا،
_________
(1) انظر الأحاديث الثلاثة ورد شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية: 3 / 444، ... 7 / 142، 7 / 395، وما بعد الصفحات المذكورة.
(2) مقدمة منهاج السنة للدكتور محمد رشاد سالم1 / 95، وانظر قول ابن تيمية في7 / 414.
(3) ، (254) إغاثة اللهفان، ص 601.
(4)(1/201)
وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا (1) .
وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (2) ، ولا عجب، فهدفهما واحد. ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال (ص: خ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله!!
المراجعة التاسعة
وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء
مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا، وتكفير خير أمة أخرجت للناس، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ.
وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى: " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ". ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء. لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته.
ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها:
_________
(1) المرجع السابق، ص 600.
(2) انظر المراجعة 110، ص 342.(1/202)
فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة، ويطلب المزيد بقوله: أطلق عنان القلم....؟ !
يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، وضوال الحكمة؟!
والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا: " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و..... إلخ "؟! .........." فزدنى منه لله أبوك زدنى "؟!
والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا!!
والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها، وطلب المزيد منها، ووصفها بأنها أدلة وبينات!! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة.
لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه!
المراجعة العاشرة وأحاديثها
بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله، بل إعجابا بهذا الباطل، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغير ذلك من البلايا والرزايا، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع، فكيف إذا كان(1/203)
يستدل بها على عقيدة الرافضي، والحكم على الأمة كلها بالضلال؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد.
ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته، أي أقوى الأحاديث في نظره.
وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي، ومنهجه في كتابه المراجعات.
ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص، وأرقامها في كتابه هي: 892، 893، 894.
وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب
892 (من أحب أن يحيا حياتى، ويموت موتتى، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل، غرس قضبانها بيديه، فليتول على بن أبى طالب، فإنه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة) .
موضوع: رواه أبو نعيم في " الحلية " (4 / 349 ـ 350) والحاكم (3 / 128) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " (18 / 65 / 2) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال: ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى: وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فذكره. وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق، تفرد به يحيى ".
قلت: وهو شيعي ضعيف، قال ابن معين: " ليس بشئ ". وقال البخاري: "(1/204)
مضطرب الحديث ". وقال ابن أبى حاتم (4 / 2 / 196) عن أبيه: " ليس بالقوى، ضعيف الحديث ".
والحديث قال الهيثمى في " المجمع" (9 / 108) : " رواه الطبرانى، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى، وهو ضعيف ".
" قلت: وأما الحاكم فقال: صحيح الإسناد "! فرده الذهبي بقوله: " قلت: أنى له الصحة والقاسم متروك. وشيخه (يعنى الأسلمى) ضعيف. واللفظ ركيك، فهو إلى الوضع أقرب ".
وأقول: القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه.
نعم للحديث عندي علتان أخريان:
الأولى: أبو إسحاق، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه، وقد عنعنه.
الأخرى: الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم، وتارة من مسند زياد بن مطرف، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال: " قال ابن منده: " لا يصح ": قلت: في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى. وهو واه ".
قلت: وقوله " المحاربى " سبق قلم منه. وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى.
(تنبيه) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده. والكشف عن علته. أسباب عدة، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في (مراجعاته) (ص 27) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله. واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله. فبادرت إلى الكشف عن إسناده، وبيان ضعفه، ثم الرد على الإيهام المشار إليه،(1/205)
وكان ذلك منه على وجهين. فأنا أذكرهما، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول:
الأول: أنه سابق الحديث من رواية مطين ومن ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف، وصدره برقم (38) . ثم قال:
" ومثله حديث زيد بن أرقم.... " فذكره، ورقم له بـ (39) . ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ! والحقيقة خلاف ذلك، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق.
والآخر: أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده. وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة ". " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه ".
فتعقبه عبد الحسين (!) بقوله: " أقول: هذا غريب من مثل العسقلانى، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم.... ".
فأقول: أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى، فقد قال في الترجمة الأولى:
" يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة ". وقال بعده بترجمة:
"(1/206)
يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف، من التاسعة ".
وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول: " ... . الأسلمى وهو واه " فقال واهما: " المحاربى وهو واه ".
فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال. فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين. وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى. أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله:
" ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة.. وأمانة النقل ".
أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة. وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال: " وهو واه ".
وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم (2578) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث، فأين الأمانه المزعومه أين؟!
(تنبيه) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان، وقد كنت أولا(1/207)
رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا، وأميز ذلك في كل ترجمة ".
قلت: فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو هذا الحديث، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله: (1 / 199) : " زياد بن مطرف، ذكره مطين في الصحابة، ولم يصح ".
وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث.
ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير عابئ بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ". رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان.
وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع. بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله. من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها. مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل. وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم (4881 ـ 4975) .
893 (من سره أن يحيا حياتى، ويموت ميتتى، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى) .
موضوع: رواه أبو نعيم (1 / 86 و4 / 174) من طريق محمد بن زكريا الغلابى: ثنا بشر بن مهران: ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا. وقال: " تفرد به بشر عن شريك "(1/208)
قلت: هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه.
وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم: " ترك أبى حديثه ". قال الذهبي: " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى، لكن الغلابى متهم ". قلت: ثم ساق هذا الحديث. والغلابى قال فيه الدارقطنى: " يضع الحديث ". فهو آفته.
والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات" (1 / 387) من طرق أخرى، وأقره السيوطى في " اللآلئ " (1 / 368 ـ 369) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما، هذا أحدهما وقال: " الغلابى متهم ".
وقد روى بلفظ أتم منه، وهو:
894 " من سره أن يحيا حياتى، ويموت مماتى، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدى. فإنهم عترتى، خلقوا من طينتى، رزقوا فهما وعلما، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى، القاطعين فيهم صلتى، لا أنالهم الله شفاعتى ".
موضوع: أخرجه أبو نعيم (1 / 86) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم: ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم: ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ: ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. وقال:
" وهو غريب ".
قلت: وهذا إسناد مظلم، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون. لم أجد ذكرهم. غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر، قال ابن أبى حاتم (1 / 1 / 73) : "(1/209)
كتبنا عنه وهو صدوق ". وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1) .
وأما سائرهم فلم أعرفهم، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات، التي يتشبث الشيعه بها، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها، وهى فضيلة على رضي الله عنه.
ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " (2 / 253 / 1) للرافعى أيضا عن ابن عباس، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " (12 / 120 / 2) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه:
" هذا حديث منكر، وفيه غير واحد من المجهولين ".
قلت: وكيف لا يكون منكرا، وفى مثل ذاك الدعاء! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يتناسب مع خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأفته ورحمته بأمته؟
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال (6 / 155 و217 ـ 218) موهما أنه في مسند الإمام أحمد، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى ... ... .
وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل على رضي الله عنه، بل حشر كل ما روى فيه! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/210)
ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم. بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة. والله المستعان.
انتهى كلام الشيخ العلامة، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه.
هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته، وكلها موضوعة مكذوبة، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها، وعددها ثلاثة عشر، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى:
خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة. وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح. والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله، متجاهلا ما يعارضه. ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق.
ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء.
وباقى مراجعه هي: إسعاف الراغبين، والشرف المؤبد، والشفا، وإحياء الميت، والأربعين للنبهانى، وتفسير الثعلبى، وتفسير الزمخشري. وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة.
فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار، فضلا عن أن تكون من الصحاح. بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة.
*****(1/211)
باب مدينة العلم
من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها "، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر.
قال رحمه الله تعالى:
وحديث: " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد، فَسَدَ أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب.
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة.
وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره.
قيل لهم: فلابد من العلم بعصمته أولا. وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دَوْر، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها. وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره.
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلغه إلا واحد.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على. أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا، وإنما كان غالب(1/212)
علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن علىّ.
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على. ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل. ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا. وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة.
وقال ابن حزم: " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال: " وهذا كذب، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: كثرة روايته وفتاويه. والثانى: كثرة استعمال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لا علم له. وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته، وجميع أكابر الصحابة حضور، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها، وأعلم المذكورين بها، وهى عمود الإسلام. ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة، لا أقل، وربما كان أكثر، إذ قد استعمل غيره، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة.
وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر، ثم الذي من طريق عمر. وأما من طريق على فمضطرب، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه.(1/213)
وأيضا فوجدناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل أبا بكر على الحج، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج. وهذه دعائم الإسلام.
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البعوث، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل.
وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج، وساواه في الجهاد، فهذه عمدة للعلم.
ثم وجدناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها، فصح ضرورة أنه أعلم بها، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق؟ أو المشارك الذي لا يسبق؟ فبطلت دعواهم في العلم، والحمد لله رب العالمين.
وأما الرواية والفتيا، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا سنتين وستة أشهر، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة، يصح منها نحو خمسين حديثا. وقد عاش بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزيد من ثلاثين سنة، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده، لذهاب جمهور الصحابة، وكثر سماع أهل الآفاق، منه مرة بصفين، وأعواما بالكوفة، ومرة بالبصرة، ومرة بالمدينة، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا، وكثرة سماع الناس منه، إلى لزوم أبى بكر موطنه، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه، وفتاويه من فتاويه، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه.(1/214)
وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس. وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا، يصح منها نحو خمسين، كالذى عن على سواء، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة وأربعون حديثا في هذه المدة، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان.
وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه، فإذا نسبنا مدة من مدة، وضربا في البلاد من ضرب فيها، وأضفنا حديثا إلى حديث، وفتاوى إلى فتاوى، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند، وثلثمائة مسند، وأربعة وسبعون مسندا، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما، أزيد من ألف وخمسمائة، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها، فبطل قول هذا الجاهل ".
إلى أن قال: " فإن قالوا: قد استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن؟ قلنا: نعم، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن، وقد استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر على بعوث فيها الأخماس، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك، إذ لا يستعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عالما بما يستعمله عليه، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعلم ذلك، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما، وقد استعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى، فلعلىّ في هذا شركاء كثير، منهم أبو بكر وعمر، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم ".(1/215)
نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان
أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى، وبين خطأ منهجه في النقل. وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما: نهج البلاغة، والصواعق المحرقة، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق: وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله.
أولا: نهج البلاغة
كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما: " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ".
وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال: " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى: " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه،(1/216)
لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا ".
وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى: " قاتلك الله يا بن أبى فروة، ما أجرأك على الله! لا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة "! .
(انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6) .
فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة، ولا وزن له من الناحية العلمية. وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة.
وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه. فلو كان مسندا فليس بحجة، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد؟ !
وفى عام 1406 هـ (1986 م) ظهرت طبعة جديدة للكتاب، وجاء تحت العنوان ما يأتي:
نسخة جديدة محققة وموثقة، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم. تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون.
فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق. قال أستاذنا في التقديم:
إنها قضية ذات كتاب: أو كتاب ذو قضية. فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى. ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفر به أو اقتنائه.(1/217)
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه: أولاهما: من هو صانع هذا الكتاب؟ أهو الشريف الرضى، أم هو أخوه المرتضى؟ والأخرى: مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم، أو بعبارة أدق: ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل، أو تفتقر إلى برهان، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام.
وقالوا: إنه مما يحير هذا الشك ويقويه، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع: وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي.
قالوا: إن فيه من دقة الوصف، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة، كالأين والكيف، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية، والعد، وكلام الخالق، وما لم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام.
وقالوا: إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه.
وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة، وبالإيجاز أخرى، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه، كعهده(1/218)
إلى الأشتر النخعى. دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها.
وأمر آخر يريب: وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة، وهذه كلها شبهات تعلو، ومسائل تطفو، تحمل الباحث على كثير من التأمل، وطويل من الدرس. شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار، ليظهر من بينها يقين التحقيق.
لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك.
ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها، أو في تفصيلها فقط دور جملتها. وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا. هـ
وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى، حيث قال:
وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص:
1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي.
2- نصوص رواها الشيعة وحدهم.
3- نصوص لم يروها أحد.
4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة.(1/219)
5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين.
(انظر ص 81: 97)
والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط. وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على؟
بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال: (ص 65)
" وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى، أو عاصروه، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه ".
وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية، وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة، فما بالك بأصول العقيدة؟ !
بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها، وبدأها بتوثيق الخطب:
أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله: " ولا وقت معدود "، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه. (انظر ص 101) وهى هنا خمسة أسطر فقط، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر. والثانية نصف سطر، وقال المحقق (ص 101) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى. والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص 102) ـ قلت: الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة. وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة. وفى ص 297: 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق. وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام(1/220)
الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وخيرهم الشيخان، يتعارض مع كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه.
ثانيا: الصواعق المحرقة
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى، المتوفى سنة 974 هـ.
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها، ولذلك قال في بداية الكتاب:
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا، ومنهاجا شريفا، ومسلكا منيفا. ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة. . إلخ " (ص 9) .
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة ونحوهما، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا، ثم نبين مسلك عبد الحسين.
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات، ومما جاء فيها: بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات. ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة. وأخيرا طريق ثبوت الخلافة.
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا:(1/221)
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل، وقسم الباب إلى خمسة فصول:
الأول: في بيان كيفيتها: وبدأه بقول: " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج.. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل.
وقال بعد هذا (ص 20) .
" وأخرج النسائي، وأبو يعلى، والحاكم وصححه: عن ابن مسعود قال: لما قبض رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر ابن الخطاب، فقال: يا معشر الأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ". ثم قال بعد هذا (ص 21) :
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه، والحاكم، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال: خطب أبو بكر فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله. فقال على والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها؛ إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة بين الناس وهو حى ".
وقال أيضا:
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار، وذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنهم إلا ذكره، وقال: لقد علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر،(1/222)
فبر الناس تابع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء. ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ (انظر ص 21: 22) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر، فقال:
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود.
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا، فهو عند الله سيئ. وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود، وهو من أكابر الصحابة، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكذلك عند جميع المعتزلة، وأكثر الفرق، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى. فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا. على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان.
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول: أجمع الناس على خلافة أبى بكر، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم. وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة(1/223)
قال: ما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة. وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما. إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر، فإذا لم يبال على بها، ونازعه، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته، ولقد سأله العباس في أن يبايعه، فلم يقبل، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم. ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر بخبر: الأئمة من قريش، فانقادوا له وأطاعوه، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة، وأحق بالإجابة، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة، ولكن وقى الله شرها.
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر: إلا أنا أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها. إنه لصاحب الغار وثانى اثنين، وإنا لنعرف له شرفه وكبره، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولقد قلدت(1/224)
أمرا عظيما "، إلى آخر ما مر، فقبلوا منه ذلك، وما اعتذر به. (انظر ص 23: 25) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري، بقوله:
فتأمل عذره وقوله: لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه، وأنه لا ينكر ما فضله الله به، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم! (ص 26) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال:
فمنها قوله تعالى:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال: هو والله أبو بكر، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال: لما توفى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال: فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه. " فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال:
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله، أقول لك ما قال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا. (انظر 27: 28) .(1/225)
واستمر في ذكر الآيات الكريمة، ومما قاله:
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى: " قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما: هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة: سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول: الصديق في القرآن في هذه الآية. قال: لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة. قال: فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما. قال ابن كثير: ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق.
فإن قلت: يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو على قلت: لا يمكن ذلك مع قوله تعالى: " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجماعا كما مر، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة، ورعاية حقوقها، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة، وعندهم كفار، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها.(1/226)
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال: إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله. يقول الله تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى: " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".
وجه الدلاله: أن الله تعالى سماهم صادقين، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته. أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن، كما قاله ابن كثير، (انظر ص 31: 32) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر، انتقل إلى السنة المطهرة. فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة، والأحاديث التي تدل على فضله، وهى تزيد على المائة، وذكرها في أبواب متفرقة.
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر.(1/227)
1 ـ أخرج أحمد وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود. وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه: إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا. والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس:
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر، واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود.
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله، فبكى أبو بكر وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد خيره الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر، وفى لفظ لهما: لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر، وفى آخر لعبد الله بن أحمد: أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر. وفى آخر للبخاري: ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل. سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر. وفى آخر لابن عدى: سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر. وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم.(1/228)
قال العلماء: في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها.
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال: بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك، فأتيته فسألته، فقال: إلى أبى بكر. ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات.
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإنى أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها. وفى بعضها قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد، ثم قال: دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر.
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال: مرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشتد مرضه، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس، فقال: مرى أبا بكر فليصل بالناس، فعادت، فقال: مرى أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة: قولى له يأمر عمر، فقالت له، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف! مروا أبا بكر.
واعلم أن هذا الحديث متواتر، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة.(1/229)
وفى بعض طرقه عن عائشة: لقد راجعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبى بكر. وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالصلاة، وكان أبو بكر غائبا، فتقدم عمر، فصلى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، لا، لا، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، فيصلى بالناس أبو بكر، وفى رواية عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر، فقال يا عمر: صل بالناس، فلما كبر وكان صيتا وسمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. وفى حديث ابن عمر: كبر عمر فسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبيره فأطلع رأسه مغضبا، فقال: أين ابن أبى قحافة؟ قال العلماء: في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بالإمامة.
قال الأشعرى:
قد علم بالضرورة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن. انتهى. وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة. ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه: لقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أن يصلى بالناس، وإنى لشاهد وما أنا بغائب، وما بى مرض، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا.
قال العلماء: وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بنى عمرو بن عوف، فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال يا ...(1/230)
بلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة. ثم أمر أبا بكر فصلى. ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن، وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس، والأموال، ووصول كل ذى حق إلى حقه، فلذلك رضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر الدين، وهو الإمامة العظمى، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر.
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟ قلت: يا أمير المؤمنين: سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون. قال والله وما زدتنى إلا عماء، قلت: يا أمير المؤمنين مرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانية أيام، فدخل عليه بلال، فقال يا رسول الله: من يصلى بالناس؟ قال: مر أبا بكر يصلى بالناس، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (1) ، فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسكوت الله، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعجبه فقال: بارك الله فيك.
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة: لما بنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وضع في البناء حجرا، قال لأبى بكر: ضع حجرك إلى جنب حجرى، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر، ثم قال لعثمان: ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدى. قال أبو زرعة: إسناده لا بأس به، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه، والبيهقى في الدلائل، وغيرهما. وقوله
_________
(1) أي على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/231)
لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم. على أن قوله آخر الحديث: هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (1) .
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر. وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل نص على خلافة أبى بكر؟
وقال (ص 42 وما بعدها) :
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك. ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا. وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج: لم ينص على أحد، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال: قالوا يا رسول الله: ألا تستخلف علينا؟ قال: إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب. وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف. وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى (يعنى أبا بكر) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها. والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت.
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى: ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأستخلف، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى
_________
(1) انظر كتاب الصواعق ص 35: 39.(1/232)
على خيرهم. وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال: قال على: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا فقدمنا أبا بكر. وقول البخاري في تاريخه: روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبى بكر وعمر وعثمان: هؤلاء الخلفاء بعدى. قال البخاري: ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى، ومر أن هذا الحديث، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه، ومراد من أثبته أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص عليه وأشار إليه قبل ذلك. ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال، وإن بعد بخلافه عند الموت، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين: معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد. على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال: وصحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف الله أبا بكر، فوالله ما عصيته ولا غششته، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته. الحديث.
فتأمل قوله في أبى بكر: ثم استخلف الله أبا بكر، وفى عمر: ثم استخلف عمر، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه بما ذكرناه. وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه، وعلى كل فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر، فأخبر بذلك كما مر، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا(1/233)
واقعا مخالفا له، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص. . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة.
واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر: أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين، وغير ذلك مما يأتي. إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها، إذ لم يصل علمه لأئمة الحديث المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه. وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر. نعم روى آحادا خبر: أنت منى بمنزلة هارون من موسى. وخبر: من كنت مولاه فعلى مولاه. وسيأتي(1/234)
الجواب عنهما واضحا مبسوطا، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة، فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد. أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي. فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا.
وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ.
وقولهم: ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل. فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح: خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم. وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة. ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه. معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام. ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم. ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر(1/235)
جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى.
وحاصله مع الزيادة: أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة: هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره. ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه، فقال على: لا نرى لها أحدا غيرك، فبايعه هو وسائر المتخلفين.
ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات، فهى إذن في صلب موضوعنا، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا، ولذلك أكتفى بذكر بعضها:
الشبهة السابعة
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين. وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ". وخبر: " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم، فتكون معصومة، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث.
وجوابها: أما عن الأول، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات. وأما عن الثانى، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت، ولسن(1/236)
بمعصومات اتفاقا، فكذلك بقية أهل البيت. وأما بضعة منى: فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى: فيما يرجع للخير والشفقة، ودعواها أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن، فلم يكمل نصاب البينة، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء، وعدم حكمه بشاهد ويمين، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم، أنه صوب ما فعله أبو بكر، وقال: لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به. وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما قالت: أعطانى فدك، فقال: هل لك(1/237)
بينة، فشهد لها على وأم أيمن، فقال لها: فبرجل وأمرأة تستحقينها. ثم قال زيد: والله، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه. وعن أخيه الباقر أنه قيل له: أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا؟ فقال: لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة.
وأخرج الدارقطنى، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر، وكان يكره أن يخالفهما.
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به. فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب، فلا يشكل عليك ذلك، وتأمله فإنه مهم. ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو: عن الزهرى، قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخلهم فلبث قليلا، ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلى يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بينى وبين هذا، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير، فاستب على وعباس، فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه، قالوا: قد قال ذلك. فأقبل عمر على على وعباس، فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال ذلك؟ قالا: نعم.
قال: فإنى أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال: " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حياته، ثم توفى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر رضي الله عنه: فأنا ولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم حينئذ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا ولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع، فجئتنى يعنى عباسا، فقلت لكما إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت، وألا فلا تكلمانى، فقلتما ادفعه(1/238)
إلينا بذلك، فدفعته إليكما، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه.
قال، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير، فقال: صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول أرسل أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما أخبرتهن. قال، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا، فغلبه عليها، ثم كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما، ثم بيد الحسين بن على، ثم بيد على بن الحسين، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم، وهى صدقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقا. ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال، والله لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى.
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا نورث ما تركناه صدقة، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/239)
وبسنة أبى بكر، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق، فصدقاه على ذلك. فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث، أن للعباس فيه حصة، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة، وليس بإرث، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة، ونحوهم، فلا يتصور بهم ذنب، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث، وهذا عين مدعانا، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثمنهن أيضا، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم.
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً، ثم استحضره الباقون، وعلموا أنهم سمعوه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ... (ص 57: 60) .
الشبهة الثانية عشرة
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة: أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى. قالوا: ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة(1/240)
لعلى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا لما صح الاستثناء، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه، وهو غير جائز على الأنبياء، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عملا بالدليل بأقصى ما يمكن.
وجوابها: أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة. وقوله: اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له، لم يستلزم نقصا يلحقه؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة.
سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل(1/241)
الكائنه لهارون من موسى، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه، فقال على كما في الصحيح: أتخلفنى في النساء والصبيان؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له: ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور، إذ قال له: اخلفنى في قومى وأصلح، وأيضاً فاستخلافه على المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة، وبه نقول، وقد استخلف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده.
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال، وقوله: أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقوله: سلموا على على بإمرة الناس.
وجوابها: مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا لعنة الله على الكاذبين، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير، وكيف(1/242)
والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً، لكن لما حفظ الله على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة، ومن ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر: اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب فيه
التعيين، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه، وخبر: أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم!
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له.(1/243)
وجوابها: منع الحصر فيما عللوا به، فهو من مفترياتهم، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإمام قوم وهم له كارهون، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً.
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً..
وجوابها: أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة: وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد. ألا ترى إلى قولهم: إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت، فأسقطت ولدا اسمه المحسن، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي(1/244)
أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار. نسأل الله السلامة آمين. ... (ص 73: 77) .
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى (ص 78) وجعل عنوانه:
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً، وغير ذلك من قبائحهم ".
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات، يحسن قراءتها، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب (ص 85) حيث قال:
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه(1/245)
من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما، وما كانا عليه. وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس. أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه:
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة، ثم عمر، ثم عثمان، ثم، على، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم. وفيه فصول ".
وجعل عنوان الفصل الأول:
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية ".
وقال: " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق، ثم عمر. ثم اختلفوا، فالأكثرون: ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان، ثم على، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان، وقيل: بالوقف عن التفاضل بينهما، وهو رواية عن مالك، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة: أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم قال: أو في ذلك شك؟ فقيل له: وعلى وعثمان؟ فقال: ما أدركت أحدا ممن(1/246)
اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر. انتهى، وقوله رضي الله عنه: أو في ذلك شك؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر، ثم عمر على بقية الأمة قطعى، وتوقفه هذا رجع عنه، فقد حكى القاضى عياض عنه: أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان. قال القرطبى: وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" (ص 286) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل، وقال:
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة. قال الذهبي: وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته. ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك، قال: ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً. وعدد منهم جماعة، ثم قال: فقبح الله الرافضة ما أجهلهم! انتهى.
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال: خير الناس بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، ثم رجل آخر. فقال ابنه محمد بن الحنفيه: ثم أنت، فقال: إنما أنا رجل من المسلمين، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك، وفى بعضها: ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر، عليه ما على المفترى. ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم.
وأخرج الدار قطنى عنه: لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى. وصح عن مالك، عن جعفر الصادق، عن أبيه الباقر، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى، وقال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى (ص 90 ـ 91) .(1/247)
ثم قال: ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً. أعاذه الله من ذلك، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش. وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كان السيف على رأسه مسلطاً، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه.
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية. ذكره شيخ الإسلام الغزالى. قال غيره: بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك، وأقبح؛ كقولهم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين الإمامة إلا لعلى، فمنع من ذلك وقال: مروا أبا بكر تقية! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً.
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد، وقال الشافعى: أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها، وكان عالماً والعالم لا يبالى(1/248)
بأحد، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي.
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية، فقد أبقى مقتضيها بولايته، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل.
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا، وقال: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، فقال على: أعوذ بالله، رحمهما الله، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد، وصعد المنبر، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها: ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجد والوفاء والجد في أمر الله، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان، لا يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله، فقبض وهو عنهما راض، والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره في حياته وبعد موته، فقبضا على ذلك فرحمهما الله، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق. حبهما قربة وبغضهما مروق. ثم ذكر أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر، ثم قال: ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى، وفى رواية: وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا(1/249)
وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (1) ،
وكان أول من أظهر ذلك، فقال على: معاذ الله أن أضمر لهما ذلك. لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، وسترى ذلك إن شاء الله، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا، قال الأئمة: وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما ادعوا فيه الألوهية.
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن، فقال له: أما والذى بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا.
إذا تقرر ذلك، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم، وأنه لا مؤمن
_________
(1) ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن " أصله من اليمن وابن أمة سوداء، وكان يهوديا فأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر ودخل دمشق لذلك..وأفاض فيه ابن جرير في تاريخه وهو الذي قال بالنص على الخلافة في على وأبنائه وأحدث القول برجعة على، وأنه فيه الجزء الإلهي وأنه هوالذى يجئ في السحاب ـ قال المقريزى: ومن ابن سبأ تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة ـوذكر أنه كان يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله، ونزل البصرة سنة ثلاث وثلاثين، فطرده عبد الله بن عامر منها لسوء مقالته، فخرج إلى الكوفة، فأخرج منها، فنزل بمصر واستقر بها وبث دعاته في الأمصار، وكاتب من مال إليه منهم بالعيب في ولاتهم. انظر " من عبر التاريخ للكوثرى ". وراجع ما سبق عن ابن سبأ في بداية الجزء الأول.(1/250)
غيرهم، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن صحابته وأهل بيته؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى هلم، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين. إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه. والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته ... إلخ ".
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه: " في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " (ص 98) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة (ص 98: 102) ، ثم قال: " وأما الأحاديث: فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة.
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا، إذن لنقلناه كله أو جله، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " (372) وتحت العنوان جاء ما يأتي:
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه. قال سبحانه: ... "(1/251)
وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل. ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه، وقال سبحانه: " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين. كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما. وقال سبحانه: " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ "، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه، وقول على كرم الله وجهه، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذى صدق به أبو بكر. وأي منقبه أبلغ من هذا، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى: أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى: " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور: أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عنقه وخنقه به، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ قال: فترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر، وهو أول القوم إسلاما، وذلك ظاهر جلى.
وقال جابر بن عبد الله الأنصارى: كنا ذات يوم على باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أفيكم أبو بكر؟ قالوا: لا، قال: لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة.
وخبر أبى الدرداء المشهور قال: رآنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أمشى أمام أبى بكر، وقال: يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر. ومن وجه آخر: أتمشى بين يدى من هو خير منك؟ فقلت يا رسول الله: أبو بكر خير منى؟ قال: ومن أهل مكة جميعاً، قلت يا رسول الله: أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال: ومن أهل المدينة جميعاً، قلت: يا رسول الله: أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين؟ قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر.
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على.
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر: من خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: ما طلعت الشمس ولا(1/252)
غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر.
وقد روى محمد بن الحنفية قال: سألت والدى علياً وأنا في حجره، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر، ثم حملتنى حداثة سنى قلت: ثم أنت يا أبتى؟ قال: أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض، وخير الأولين، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح.
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن فضائل عمر. فقال: يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه(1/253)
السلام، فقال لي يا محمد: لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر، وقال: قال لي ربى عز وجل: لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً. نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى:
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال: "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل: ... المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين.
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل.
أخبرنا أبو سعيد الشريحى، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى، أنبأنا عبد الله بن جليد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان، حدثنا ابن نمير، حدثنا أبى، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت: أمرتم(1/254)
بالاستغفار لأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسببتموهم، سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها ".
قال مالك بن معرور، قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالت: حوارى عيسى رضي الله عنه، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.
قال مالك بن أنس: من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فىء، ثم تلا:
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية:
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله: " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى بكر: أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض.
قال الحسن بن الفضيل: من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر لإنكار نص القرآن، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً.(1/255)
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً.
*****
تعقيب
أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة، وثبت بالنصوص القاطعة، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى.
ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين:
فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند. فكيف بانقطاع أربعة قرون؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة!
وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد، والسنة المطهرة الثابتة.
وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق (ص 69) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال:
" ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ".
أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله:
" إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا ".(1/256)
وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى.
أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله. وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة، ويعارضها الصريح من الصحيح، بل المتواتر أحيانا. أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح.
ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل!
أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى: " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ".
وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق: ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه، ولا نعرفه إلا عن الكذابين، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر.(1/257)
الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437: 479) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل. قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى:
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول.
منها: أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها، وما نزل من القرآن في الغزوات، كنزول الأنفال بسبب بدر، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد، ونزول أولها بسبب نصارى نجران، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير، ونزول الأحزاب بسبب الخندق، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك، وغيرها وأمثال ذلك.(1/258)
فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع، علم أنه كذب، مثل ما يروى هذا الرافضي، وأمثاله من الرافضة وغيرهم، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات، كما تقّدم التنبيه عليه، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة، وأن المعراج كان بمكة، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكونوا ناساً معينين، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة يستسقون، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة.
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب.
ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس.
وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان، أو تولّى بين عثمان وعلى، أو أخبرنا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يؤذن له في العيد، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان، أو(1/259)
أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم، وخاصة لأمتنا شرعا، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم، فضلا عن أن تتواتر، علم أنها كذب.
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد (من أهل العلم) بإسناد صحيح، فضلا عن أن يكون متواترا، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة، وحين موت عمر، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم، ونظائر ذلك كثيرة.
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه.
والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما، وكذب ما تدعيه الرافضة.(1/260)
ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم، ممن يدّعى نصاً خفياً، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة، أو يتوقف في التفضيل؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار.
فصل
واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره، لكنها كلها كذب.
والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم، لكن المكذوب في فضل على أكثر، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل ".
قال: " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف: صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا. وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق، ويقولون: قال جعفر، وقال فلان. وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ ".
فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء ابن صالح، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قال علىّ رضي الله عنه: أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديقِّ الأكبر، لا يقولها بعدى إلا كاذب، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له: " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين ".
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد.(1/261)
قال أبو الفرج: " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله. قال على بن المديني: كان ضعيف الحديث ". وقال أبو الفرج: " حماد الأزدى: روى أحاديث لا يتابع عليها. وأما المنهال فتركه شعبه. قال أبو بكر الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ: " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال: اضرب عليه فإنه حديث منكر ".
قلت: وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا، مثل هذا الحديث؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب. وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه، فقد علمنا أن علياً لم يقله، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر، بل وقدح الشيعة في عثمان، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا هو فيما دون ذلك.
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله، وقد علمنا أنه كذب، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا.
مثل ما رواه عبد الله في " المناقب ": حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن على. وحدثنا أبو خثيمة، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال: لما نزلت: ... " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/262)
رجالا من أهل بيته: إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث.
وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط، وكذبه ظاهر من وجوه.
وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل ": حدثنا عثمان، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبى صادق، عن ربيعة بن ناجز، عن على، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل.
وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جوين، قال: سمعت عليا يقول: أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج: " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب. قال يحيى: ليس بشيء قال السعدى: غير ثقة. وقال ابن حبان: كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث. وأما الأجلح فقال أحمد: قد روى غير حديث منكر. قال أبو حاتم الرازى: لا يحتج به. وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول "
قال أبو الفرج: " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا، فكيف يصح هذا؟ ".
وذكر حديثا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع، فإنه كان كذابا يضع الحديث ".
وحديثا فيه: " أنا أولهم إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية " قال: " وهو موضوع، والمتهم به بشر بن إبراهيم. قال ابن عدى وابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات ". ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى، عن مأمون عن الرشيد. قال: وهذا الأبرازى كان كذابا.(1/263)
وذكر حديثا: " أنت أول من آمن بى، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، أو يعسوب الظلمة ".
قال: " وهذا حديث موضوع. وفى طريقه الأول: عباد بن يعقوب. قال ابن حبان: يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، وفيه علىّ بن هاشم. قال ابن حبان: كان يروى المناكير عن المشاهير.، وكان غاليا في التشيع. وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى: ليس بشئ. وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه ".
قلت: لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله.
وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر. قال ابن معين: ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير. قال أبو الفرج بن الجوزي: " كان غاليا في الرفض ".
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة؛ فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره. وإنما يعرف ذلك علماء الحديث، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها، وسلكوا طريقا آخر.
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث، العالمين بما بعث الله به رسوله. ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول: نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد، أو لم يُعلم أيها الصحيح، ونترك الاستدلال بها في الطرفين، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر، وما يٌعلم من العقول والعادات، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها.(1/264)
فنقول: من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة: لا برغبة ولا برهبة، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم، ولا طلبها أيضا بلسانه، ولا قال: بايعونى، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه، ولا أكرهه على المبايعة، ولا منعه حقا له، ولا حرك عليهم ساكنا. وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة. .
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة.
وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه، رضي الله عنهم أجمعين. ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا، وشرع في قتال فارس والروم، ومات والمسلمون محاصرو دمشق، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يستأثر عنهم بشئ، ولا أمّر له قرابة.
ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب، ففتح الأمصار، وقهر الكفّار، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان، ونشر الإسلام والدين، وبسط العدل في العالمين، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يتلوث لهم بمال، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية، فهذا أمر يعرفه كل أحد.(1/265)
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ، وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمع فيه بعض الطمع، وتوسّعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة، حتى قُتل مظلوما شهيداً.
وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك، والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه، المبغضون له، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه، المبغضون لغيره من الصحابة؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك، فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر، بل اقتضى رأيه القتال، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقاً، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ.
وضعفت خلافة (النبوة) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم، كما في الحديث المأثور: " تكون نبوّة ورحمة، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية، فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده، وعلى آخر الخلفاء الراشدين، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر: إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق(1/266)
المنصوص عليه من جهة الرسول، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا، ولا قوتل في خلافته كافر، ولا فرح مسلم، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين، وشيعته لم تفرح بها، لأنها لم تغلب، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة.
وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى..
وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له ... مقصودة ـ أولى وأحرى.
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد، وشيخى مكان، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول: إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة، وأقرب إلى قصد الدين والخير.
فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى.
أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل.(1/267)
ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف، وقالوا: ثَمَّ نص على خلافته كُتم، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر، بسببها مُنع حقه.
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر.
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا؟ !
فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده، فضلا عن على، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على، رضي الله عنهم.
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى.
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص، كالنقل لفضائل على، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة، أو أن إمامته منصوص ... عليها. وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة، وأن النصوص إنما دلت عليه.
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها.(1/268)
قال تعالى: " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ... (سورة الفرقان: 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه.
قال تعالى: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" (سورة المؤمنون: 71) .
وهنا طريق آخر. وهو أن يُقال: دواعى المسلمين بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت متوجهة إلى اتباع الحق، وليس لهم ما يصرفهم عنه، وهم قادرون على ذلك، فإذا حصل الداعى إلى الحق، وانتفى الصارف مع القدرة، وجب الفعل.
فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق. وذلك أنهم خير الأمم، وقد أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة. ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً. وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم. وكذلك عامة قبائل قريش، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى. وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ.
وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما. وقد قال أبو قحافة، لما قيل له أن ابنك تولى، قال: " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم؟ " قالوا: نعم. فعجب من ذلك، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين.
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب، وأبو بكر كان أتقاهم.(1/269)
وهنا طريق آخر، وهو أنه تواتر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة.
وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر. فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم، وولوا فاسقا وظالما، ومنعوا عادلا عالما، مع علمهم بالحق، فهؤلاء من شر الخلق، وهذه الأمة شر الأمم، لأن هذا فعل خيارها، فكيف بفعل شرارها؟ !
وهنا طريق آخر. وهو أنه قد عُرف بالتواتر، الذي لا يخفى على العامة والخاصة، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به، وصحبة له، وقربا إليه، واتصالا به، وقد صاهرهم كلهم، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولا يلعنهم، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم.
وحينئذ: فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك، في حياته أوبعد موته. فإن كانوا على غير الاستقامة، مع هذا التقرب، فأحد الأمرين لازم: إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم. وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قيل:
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة ... وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه. ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول، كما قال مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في(1/270)
الرسول ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين.
ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة، وإنه وضع عليها. وطريق آخر أن يقال: الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية، والصوارف منتفية، والقدرة حاصلة، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم، ومن أفضلهم نسبا، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة: لا عداوة نسب ولا إسلام، بأن يقول القائل: قتل أقاربهم في الجاهلية.
وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم، ولهم الشوكة، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا، والقبائل التي قتل منها، كبنى عبد مناف، كانت تواليه، وتختار ولايته، لأنه إليها أقرب. فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ولايته، أو كان هو الأفضل المستحق لها، لم يكن هذا مما يخفى عليهم، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته، إذا لم يكن هناك صارف يمنع، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى، ولا معارض لها ولا صارف أصلا.
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه، بل هو قادرون على ولايته. ولو قالت الأنصار: علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم، وقام أكثر الناس مع علىّ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون، إلا كما يبغضون أمثاله. بخلاف عمر، فإنه كان شديدا عليهم، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر.(1/271)
ولهذا لما استخلفه أبو بكر، كره خلافته طائفة، حتى قال له طلحة: ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أبا لله تخوفنى؟ أقول: وليت عليهم خير أهلك.
فإذا كان أهل الحق مع علىّ، وأهل الباطل مع علىّ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد، فمن يكون فيهم المحق؟
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك، ولم يّدع داع إلى علىّ: لا هو ولا غيره، واستمر الأمر على ذلك، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى، لا لوجود المانع، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق، فضلا عن نص جلى، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه، مع وجود المانع.
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير، لو كان لعلىّ حق. فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه، ولا أرغب ولا أرهب، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله، وبعضهم يقول: خذله. وكان قتلة عثمان في عسكره، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته.
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر، فكان جنده أعظم، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة، وليس(1/272)
هناك داع قوى يدعو إلى منعه، كما كان بعد مقتل عثمان، ولا جند يجمع على مقاتلته، كما كان بعد مقتل عثمان.
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه، فلو تبين أن الحق لعلىّ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر: إما أن يُسلم إليه، وإما أن يجامله، وإما أن يعتذر إليه. ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم، لو كان الأمر كذلك، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر، لو كان أحق، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد، لو كان ظالما.
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير.
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا، وكلاهما ممتنع عادة ودينا، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها، فكيف إذا علم كذبها؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها؟ ومقاييس لا نظام لها، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى.
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ،(1/273)
الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك، لو تعرض لم تثبت. وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك. فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه، فقد سلك مسلك السفسطة، فإن السفسطة أنواع: أحدها: النفى والجحد والتكذيب: إما بالوجود وإما بالعلم به.
والثانى: الشك والريب، وهذه طريقة اللاأدرية، الذين يقولون: لا ندرى، فلا يثبتون ولا ينفون، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به.
والثالث: قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد، فيقول: من اعتقد العالم قديما فهو قديم، ومن اعتقده محدثا فهو محدث، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح، فإن هذا هو اعتقاده. لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج.
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الخلفاء الثلاثة، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً.
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ، وسفسطتهم أكثر؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية.
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته، ومما يُظهر أنه رسول حق، ليس ملكا من الملوك؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات(1/274)
لوجوه: أحدهما: محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته. والثانى: لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار.
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم.
وكذلك ملوك الطوائف، كبنى بويه، وبنى سلجق، وسائر الملوك بالشرق والغرب، والشام، واليمن، وغير ذلك.
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك، ويقولون: هذا من العظم، وهذا ليس من العظم، أي من أقارب الملك.
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم، ودون سائر بنى عبد مناف: كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف، الذين كانوا أجل قريش قدراً، وأقرب نسبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله، وأنه ليس ملكا؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً: لا بقرب نسب منه، ولا بشرف بيته، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى.
ودل ذلك على أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك. فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً.(1/275)
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته. فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال، وإن كان ذلك مباحا، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء، بل كان عبد الله ورسوله.
كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ".
وقال: " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا، فقلت: بل عبدا رسولا ".
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم. ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة.
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الضعف العظيم، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى، وضعف قلوب أهل الأمصار، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم.
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم، فقهرهم وفتح بلادهم. وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك.
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل علىّ أو عثمان، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا، مع قوة الإسلام(1/276)
في زمانه، وعلىّ كان أعجز من عثمان، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما، ومع هذا فلم يقهر عدوه، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم، مع قلة الأعوان وقوة العدو؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر، وتمام نعمة الله بهما على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الناس بعده، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا، إما لعدم القدرة، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل: لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة؟ فلابد أن يكون سبب ذلك: إما عدم كمال القدرة، وإما عدم كمال الإرادة. وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله.
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل، وإرادتهما أفضل. فبهذا نصر الله بهما الإسلام، وأذل بهما الكفر والنفاق، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا.
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض، فضّل بعض الخلفاء على بعض. فلما لم يؤت ما أوتيا، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعجز وأعجز؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع: إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه.
فيقال: إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه، فكيف يطيعه من لم يبايعه؟ وإذا قيل: لو بايعوه بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر.
فيقال: قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر، ولم يفعل ما يشبه فعلهما، فضلا عن أن يفعل أفضل منه.
وإذا قال القائل: إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى، فنصرهم الله لذلك.(1/277)
قيل: هذا يدل على فساد قول الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا.
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على، دل ذلك على أنهما أفضل منه.
وإن قالوا: إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل: هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة: إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم، كانوا من أشر الناس، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا، ولا طائفة ينتصر بها على العدو، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار.
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك: إما إلى الإمام، وإما إلى أتباعه، وإما إلى المجموع.
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول.
وهذا بين لمن تدبره؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.(1/278)
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم.
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان. وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه، كسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وبن عمر، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبى هريرة، وأمثال هؤلاء من السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان.
ومنهم من قاتله، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين.
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل، لأن عليا كان موجودا على عهد الثلاثة، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره، كما تقول الرافضة، أو كان أفضل وأحق بها، كما يقوله من يقوله من الشيعة، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به، بل ما نهوا عنه، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به.
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل. وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة.
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار، الذي تواترت به الأخبار، وعلمته البوادى والحضار؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه، وقمع المرتدين، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله.
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم(1/279)
فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر، وغير ذلك من الحوادث المشكورة، والأعمال المبرورة.
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين. فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار.
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون: إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين، وإن اليهود والنصارى خير منهم، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد. وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين.
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال: من المعلوم بالاضطرار، والمتواتر من الأخبار، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب، هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا، والكفار مستولون على عامة الأرض، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى، متجرعون لمرارة البلوى، وفارقوا الأوطان، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، كما وصفهم الله تعالى بقوله:
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (سورة الحشر: 8) .(1/280)
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم، لم يكرههم عليه مكره، ولا ألجأهم إليه أحد؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال، مأمورين بالصفح والصبر، فلم يسلم أحد إلا باختياره، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء: إنه لم يكن من المهاجرين من نافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية، وكانوا منافقين.
كما قال تعالى:
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ... (سورة التوبة: 101)
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله، محبين لله ولرسوله، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم.
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق، كما يقوله من يقوله من الرافضة، من أعظم البهتان، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله.(1/281)
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة. ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟!
وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله، طوعا غير إكراه، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضى للمعاداة، لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوى المقتضى للموالاه، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً؟
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له وجب وجوده، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن. ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المقتضى للمعاداة أضعف، والقدرة عليها أضعف. ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته.
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو.(1/282)
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد فتح مكة، ثم رأوا ظهور الإسلام، فأسلموا مغلوبين، فهموا بالردة، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص.
فأما أهل مدينة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما أسلموا طوعا، والمهاجرون منهم والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد، بل ضعف غالبهم بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله، وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه.(1/283)
الفصل الخامس
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية. وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى، فما بنى على باطل فهو باطل، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز، وهذه العقائد أهمها: عصمة الأئمة، والبداء، والرجعة، والتقية.
أولا: عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله، وأن قوله قول الله تعالى، وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحكمه وجوب طاعته والتسليم له، والرد إليه على جهة القطع. (1)
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي: -
1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً، فهو مكان النبي، متصف بكل صفاته إلا النبوة.
_________
(1) جوامع الكلم 1 / 8.(1/284)
2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم.
3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر، فلابد من عصمته في الباطن، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه.
4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه (1) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم، فكريمة قوله تعالى: " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا (2) .
" ومن ذلك مثل قوله تعالى " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب، بل تنكر عليه، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق، وأما بفعله ففعله ذنب
_________
(1) انظر تلخيص الشافى ص 318، وجوامع الكلم جـ 1 صفحات: 7، 8، 19، 20.
(2) انظر أصل الشيعة وأصولها ص 102.(1/285)
والذنب باطل يدعو إلى الباطل، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة، فلا يتم له هدايته إلى الحق، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة، أو بقول مطلق، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه، دون من وقع منه الذنب، لعدم القطع بحصول النجاة في اتباعه " (1) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه. وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر.
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله " (2) .
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر، والسيد إذا عاتب عبده، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه، لأنه عاص له، قادم على مخالفة أمره، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة
_________
(1) جوامع الكلم 1 / 20.
(2) الدعوة الإسلامية ص 253.(1/286)
البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء، وداعي أمر الله هو العقل. وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان. وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد ".
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال، ولا يستلزم النقصان، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (1) .
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب، وإنما هو تكميل على تكميل، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (2) .
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: " عَفَا اللهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (3) .
_________
(1) جوامع الكلم 1 / 18.
(2) المرجع السابق 1 / 19.
(3) المرجع السابق 1 / 24.(1/287)
وقوله تعالى: " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم ". وقيل: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم.
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له. فلما رأوه قد تحكم وتمكن، وما استقصى، غفروا ما ظنوه من الذنوب، ونقل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد، كسر ثلثمائة وستين إلهاً، فقال تعالى: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها، تهكما بهم واستهزاء (1) .
_________
(1) المرجع السابق 1 / 25، والمعروف أن الرسول الكريم لم يعبد الأصنام قط، ولذلك فالمراد بقوله " من عبادتها " أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذنب ـ من وجهة نظر الكفار ـ لأنه قصر في عبادة الأصنام فلم يتخذها آلهة.(1/288)
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (1) .
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى، وهو ليس بذنب في الحقيقة. نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين، ولهذا ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين (2) .
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال: " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب. فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب. فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (3) .
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً.
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي
_________
(1) جوامع الكلم 1 / 26.
(2) نفس المرجع 1 / 27.
(3) جوامع الكلم 1 / 32.(1/289)
تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (1) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة. وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب.
وعندما أرسل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل إلى اليمن، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومعاذ ليس معصوماً، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها: من فعل القبيح وترك الواجب، واتباع الناس له، إلى غير ذلك.
ولو وجبت العصمة للإمام، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد، لأن الإمام الواحد لا يكفي، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث.
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم، وإنما في إرسال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس.
_________
(1) ... سورة الحجر: الآية التاسعة.
(2) ... " لا تجتمع أمتى على ضلالة ": رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم، واختلف في إسناده فتحدث السخاوى عن رواياته المختلفة ثم قال: " حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره ". المقاصد الحسنه للسخاوى ص 460.(1/290)
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم، وبسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا. كتاب الله وسنة نبيه (1) .
ويقول تعالى في سورة النساء: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
(فلم يقل: وأطيعوا أولى الأمر، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق، بخلاف ما لو قيل: أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله.
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف "، وقال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وقال: " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: "
_________
(1) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن إسحاق التي جمعها ابن هشام 4، 603 ـ 604. والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ، مرسلا، ووصله ابن عبد البر. (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) ، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وعن أبى هريرة، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبي ـ (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) .(1/291)
فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (1) .
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا!
قال ابن تيمية (2) ، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر: أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة: أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، كما قال تعالى: (3) " وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم، ولا في أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى: (4) " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "
_________
(1) جامع الرسائل 1 / 273 ـ 275.
(2) المرجع السابق 1 / 263.
(3) سورة النساء: الآية السادسة.
(4) سورة البقرة: الآية 124.(1/292)
ليس فيه معنى العصمة، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان، كما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ (1) وقوله تعالى (2) " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد. قال تعالى: (3) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله، فأين وجوب العصمة للإمام هنا؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع.
_________
(1) وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين. له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمى المعروف بأخى عاصم في فوائده، بسنده عن ابن عباس بلفظ: رفع الله. ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم بلفظ: وضع بدل رفع، ورجاله ثقات، ولذا صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن (انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 228 ـ 230) .
(2) سورة يونس: الآية 35.
(3) سورة يونس: الآيتان 34، 35.(1/293)
ويقول تعالى في سورة السجدة: (1) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون؟!
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم، قال تعالى: (2) " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف: (3) . " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
_________
(1) الآيتان 23، 24.
(2) سورة البقرة: الآيات: 35، 36، 37.
(3) الآيتان: 22، 23.(1/294)
وفي سورة طه (1) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى، وظلم نفسه. فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك.
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (2) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان، فكل إنسان معصوم إذن. وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة! وليس الأمر كذلك! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً؟
يقول ابن تيمية: " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله، ولم يكن ذلك ذنبا، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله ". (3)
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة. وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي، وانتهى ... إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (4) .
_________
(1) الآيتان: 121، 122.
(2) جوامع الكلم 1 / 26.
(3) جامع الرسائل 1 / 275.
(4) انظر عصمة الأنبياء ص 12 ـ 13.(1/295)
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى:
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (1)
فقتل موسى للرجل، واعتبار ذلك من عمل الشيطان، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى، واستجابة الله له، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أخطاء وقع فيها.
ففي سورة الأنفال: (2)
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
_________
(1) سورة القصص، الآيتان: 15، 16.
(2) الآية: 67.(1/296)
وفي سورة التوبة: (1) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
وفي سورة الأحزاب (2) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس: (3) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذنوباً: قال تعالى: (4) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
_________
(1) الآيتان: 42، 43.
(2) الآية 37.
(3) الآيات من 1: 10.
(4) سورة غافر الآية: 55.(1/297)
وقال عز وجل: (1) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"
وقال سبحانه: (2) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى: (3) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة.
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال: " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ". (4) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية، فأين هذا من قوله تعالى: (5)
_________
(1) سورة محمد الآية 19.
(2) سورة الفتح، الآيتان 1، 2.
(3) سورة الانشراح، الآيتان 2، 3.
(4) جوامع الكلم 1 / 25.
(5) سورة فاطر، الآية: 18.(1/298)
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه: (1) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، وإنما عصمتهم مقيدة محددة، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه، فلا يقرون على سهو فيه، وبهذا يحصل المقصود من البعثة ". (2)
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء: " والذى نقول:
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. (3)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (4) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة.
_________
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.
(2) المنتقى ص 84 ـ 85.
(3) عصمة الأنبياء ص 4، وانظر الآراء المختلفة حول العصمة في الصفحتين الثانية والثالثة.
(4) المرجع السابق ص 1.(1/299)
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ. لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا!
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى ". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً.
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم. (1)
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال: " خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى ".
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (2) ، وقد استخلف غيره أيضا. وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة! على رضي الله عنه، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فكلهم يحبون الله تعالى، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبهم الله
_________
(1) راجع صحيح البخاري: كتاب المناقب. باب مناقب على بن أبى طالب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل على بن أبى طالب.
(2) انظر الوشيعة ص م ط وما بعدها ففيه تحليل مفصل لهذا الحديث، وبيان بطلان استدلال الإمامية، وانظر الفصل في الملل ص 94 ـ 95، ومختصر التحفة ص 162 ـ 164، والمنتقى ص 468 ـ 470.(1/300)
عز وجل، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة.
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن من أمن ... الناس على في صحبته، وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (1) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت. قال عليه الصلاة والسلام: إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (2) .
وبمنطق الشيعة نقول: إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر، وتتبعه فيما يقوله لها، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية، ولكن أحدا لم يقل به، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر، يصيب ويخطئ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً. وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (3) .
_________
(1) صحيح البخاري: " كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين، وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبى بكر الصديق، واللفظ للبخاري.
(2) المرجعيين السابقين، وفى مسلم " فإن لم ... " بزيادة الفاء.
(3) راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة.(1/301)
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان، ولكنهم - عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر، فأما المنسوخ، والمنهى عنه، والمتوب عنه، فلا قدوة فيه بالاتفاق، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (1) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً.
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام. ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء، فهذا مسلم به، وإنما نقول: إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: " قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ". (2)
قال ابن تيمية: " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً، وهو متواتر عنه " (3) .
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (4) . فلو كان أحدهما مصيباً، كان الآخر مخطئاً، أي غير معصوم، ولا
_________
(1) جامع الرسائل 1/276.
(2) ... صحيح البخاري، كتاب المناقب - باب مناقب المهاجرين.
(3) ... جامع الرسائل 1/261.
(4) ولذلك حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين، فشكوا في إمامتها، ورجعوا عنها: انظر فرق الشيعة - ص 25-26.(1/302)
يمكن أن يكون الاثنان مصيبين. فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوى العصمة، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل.
ثانياً: البداء
البداء: الظهور والانكشاف، تقول: بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد، تقول: بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي. (1)
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم، الأول في مثل قوله تعالى: " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (2) .
وقوله سبحانه وتعالى: (3) ... " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ".
والثانى في قوله تعالى: (4) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين ".
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
_________
(1) انظر مادة (بدو) في القاموس المحيط ولسان العرب.
(2) سورة الزمر: الآية 47.
(3) سورة البقرة: الآية 284.
(4) سورة يوسف: الآية 35.(1/303)
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي، فرفضوا القول بالبداء، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل. (1)
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض، يُخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ، وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون، وذكر لما يثبت وما يمحى ... " يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة. (2)
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي (3) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
_________
(1) انظر: الوشيعة ص 110 – 120، والتحفة الاثنا عشريه ص 315 وما بعدها، والنسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفى زيد رحمه الله ص19-26 جـ 1: وشيخنا لم يذكر الإمامية بالذات، والبداء الذي أنكره لم تقل به الإمامية وإنما ذهبت إليه فرق أخرى من الشيعة كالبدائية، فقد زعمت أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له، ويندم لكونه خلاف المصلحة! وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات الكريمة على ذلك! انظر مختصر التحفة ص 16.
(2) انظر: الدين والإسلام ص 171.
(3) ص 148.(1/304)
وقال: " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل: هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله. قيل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق (1) .
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء: " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه، معاذ الله، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا (بدا لله) أي بدا حكم لله، أو شأن لله " (2) .
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري: فقد روى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن ثلاثة في بنى إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص ... " إلى آخر الحديث الشريف (3) .
_________
(1) عقب أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - على نسبة مثل هذه الأخبار إلى الإمام الصادق بقوله: إن هذه الأخبار في مجموعها تدل على أن البداء في نظر الصادق هو أن يظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه، وذلك لا ينافى علم الله تعالى ". (الإمام الصادق ص 236) .
(2) الدين والإسلام ص 173، وانظر كذلك قول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة والتشيع " ص 53-54 ففيه بيان أن البداء لا يستدعى الجهل وحدوث العلم لذات الله سبحانه.
(3) انظر صحيح البخاري - الجزء الرابع - كتاب بدء الخلق: باب ما ذكر عن بنى إسرائيل.(1/305)
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة؟ ينافحون عنه، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا: " ما عبد الله بشئ مثل البداء "، " ما عظم الله بمثل البداء " (1) .
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا، فهم يقولون: إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته، أو رسله المقربين بحادثة ما، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال: مثال هذا: أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال: بدا لله فيه أن يمد في أجله، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (2) .
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع، فما الحكمة من هذا البداء؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين ... المضلين؟ (3) .
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء!
_________
(1) راجع باب البداء من كتاب الكافى.
(2) انظر: الدين والإسلام ص 172 وما بعدها، وانظر كذلك: جوامع الكلم ص 145 من الرسالة القطيفية، والدعوة الإسلامية ص 35 وما بعدها.
(3) لهذا وقع الخلاف بين الإمامية في الإخبار: أيجوز أم لا؟ (انظر الدعوة الإسلامية ... ص 37-38) .(1/306)
وأول من نادى به المختار الثقفى، لأنه كان يدعى علم الغيب، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال: قد بدا لربكم! (1) .
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين، وقال لقومه: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف. ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم، ولا تخل فيكم: فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له: ما ترى ما يحل بنا من القوم، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد عمل سلاحهم فينا، وقتل من ترى منا، فقال لهم: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟ (2)
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله: " إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (3) .
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369) :
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين ".
وعلق صاحب الحاشية بقوله: " مرة للتصديق، وأخرى للقول بالبداء "
_________
(1) انظر: النسخ في القرآن الكريم 1/25 –26، وضحى الإسلام 1/354، والإمام الصادق ص: 234، والملل والنحل للشهرستانى 1/132-133.
(2) فرق الشيعة ص 70.
(3) ص 147 من الكتاب المذكور ج 1.(1/307)
فالقول بالبداء، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب، فإذا حدث غير ما أخبروا، فإنما قد بد الله! ومصدق الكذب يؤجر مرتين!
والمسلمون قاطبة - عدا الشيعة - يرفضون هذا القول، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى: (1)
" وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يقول: (2) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (3)
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة! يقول الشيخ محمد جواد مغنية: وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب الله، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه: "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ "، وقوله: " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله: " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر: لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق.
_________
(1) سورة آل عمران: الآية 179.
(2) سورة الأعراف: الآية 188.
(3) الأنعام: الآية 50.(1/308)
ثم قال: وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين. ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب، ولا الإيحاء والإلهام، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل، أو مفتر كذاب (1) .
وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب! (2) ولولا هذا لما قيل بالبداء.
ثالثاً: الرجعة
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى، سيرجع بعد غيبته الكبرى، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن، رغم مضى أكثر من ألف عام! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة.
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (3) .
_________
(1) انظر: الشيعة والتشيع: ص 43، 48.
(2) في تفسير البداء اعتراف بعلم الغيب، وكذلك يرى أكثر الشيعة أن الأئمة يعلمون الغيب: انظر مثلا حديث السيد كاظم الكفائى في تعقيبه على الأخبار التي تنسب علم الغيب للأئمة. (الحديث آخر هذه الموسوعة) ، وراجع رأي عبد الحسين شرف الدين في ردى على مراجعاته.
(3) انظر: جوامع الكلم 1/12.(1/309)
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة، وهى رجعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته قبل يوم القيامة، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم، ولهم في ذلك خرافات كثيرة: كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس، يعرفه الخلائق، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (1) .
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة، وأطالوا الحديث عنها، وعن إمكانها، وعن أدلة إثباتها، والرد على من ينكرها. كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم، والكتب التي تتناول موضوعات عامة.
ونضرب مثلا هنا بكتاب: " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ.
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة!!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها.
والكتاب كله مثل للغلو والضلال، بل يصل إلى الكفر والزندقة. ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة، وإثبات ضلال القائلين بها. والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً.
_________
(1) انظر: المرجع السابق ص 13، 41، والشيعة والتشيع ص 55، ضحى الإسلام 3/242، والإمام الصادق ص 240.(1/310)
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية (1) .
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (2) .
رابعاً: التقية
نقول: اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء: أي: حِذَرْته (3) ومنها قوله تعالى (4) :
" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً "
وفى قراءة: " تقية " (5)
ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين: إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان.
وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك، أو مالك، أو لتحتفظ بكرامتك، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين، وقد بلغوا الغاية في التعصب،
_________
(1) انظر جوامع الكلم 1/13، 41 والشيعة والتشيع ص 55، وضحى الإسلام 3/242، والإمام الصادق ص 240.
(2) راجع مناقشة هذه العقيدة، وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في كتاب: مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200-203
(3) انظر القاموس المحيط ولسان العرب مادة " وقى ".
(4) آل عمران: الآية 28.
(5) انظر: تفسير البيضاوى ص 70، وإملاء ما من به الرحمن للعكبرى 1/130.(1/311)
بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (1) .
واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة، وبقوله تعالى: (2)
" إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ "
وبقصة عمار، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، ولم يؤثر ذلك في إيمانه، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (3) .
والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام، فلا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات.
ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان، وتأباه النفوس المؤمنة.
ونذكر على سبيل المثال: كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين!
فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس، أو غاية شريفة.
ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة "
فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له، فله أن يضحى بنفسه، وله أن يحافظ عليها.
_________
(1) الشيعة والتشيع ص 49.
(2) سورة النحل: الآية 106.
(3) انظر: الدعوة الإسلامية ص 38 – 39 وأصل الشيعة وأصولها: ص 192 –195، والشيعة والتشيع ص 48-53.(1/312)
وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (1)
والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ، وهوجموا من أجله؟
أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية:
الأول: أنهم غالوا في قيمة التقية، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً. من ذلك ما جاء في كتاب الكافى:
عن أبى عبد الله في قوله تعالى: " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية. " وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة. (فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم) .
وعن أبى عبد الله: " إن تسعة أعشار الدين التقية، ولا دين لمن لا تقية له! ".
وعنه عن أبيه: " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية (2) . وعن أبى جعفر: " التقية من دينى ودين آبائى، ولا إيمان لمن لا تقية له ".
فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان؟!
_________
(1) أصل الشيعة: ص193.
(2) انظر: الأصول من الكافى ج 2 باب التقية ص 217-221.(1/313)
والسبب الثانى: أنهم وقد أحلوها هذه المكانة، فلم يتمسكوا بأحكامها، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه، وطبقوها في غير حالاتها (1) ، ولنضرب لذلك الأمثال:
يرون في التيمم مسح الوجه والكفين، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين. وقالوا: إن ذلك محمول على ضرب من التقية (2) . فما الذي يدعو إلى هذه التقية؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم، فلا ضير عليهم، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم، والتعبد بما يرونه باطلاً
وهم لا يشترطون للجمعة المصر، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (3) . ورووا عن الإمام على أنه قال: لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود. وقالوا: إن هذا الخبر قيل تقية (4) .
ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية، ثم من الذي يتقى؟ أعلى كرم الله وجهه؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم، واستشهد من أجل مبادئه، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين، أمن روى عنه؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!
_________
(1) يقول المؤرخ الهندى سيد أمير على: " إلا أن هذه التقية، وهى الابن الطبيعى للاضطهاد والخوف، قد غدت عادة متأصلة في نفوس الفرس الشيعيين إلى درجة أنهم أصبحوا يمارسونها حتى في الظروف التي لا تكون ضرورية فيها " ص 336 من كتابه: روح الإسلام.
(2) انظر: الاستبصار: باب كيفية التيمم: ص 170-171 ج1.
(3) انظر: المغنى: 2/174.
(4) انظر: الاستبصار: ص 420 ج1.(1/314)
وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشافعى وأحمد وغيرهم (1) .
ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال: كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة، ثم لا يعود حتى ينصرف.
ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة، يعنى في التكبير.
وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله: " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (2) .
وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال: النفساء تقعد أربعين يوما. وعن أبى عبد الله: سبع عشرة، وثمانى عشرة، وتسع عشرة، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين، وبين الأربعين إلى الخمسين! وعن أبى جعفر: ثمانى عشرة.
فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية، وقال: لأنها موافقة لمذهب العامة، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (3) .
بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم، وإخفاء للحق، وترويجاً للكذب.
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله -: " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن
_________
(1) انظر المغنى 2 / 373.
(2) الاستبصار ج 1: ص 479، وانظر ص 498.
(3) انظر: الاستبصار ج1: باب أكثر أيام النفاس: ص 151 وما بعدها.(1/315)
يتسمى بها، بل له اسم آخر، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (1)
والسبب الثالث: أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية، أو الحاجة، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً! (2) .
ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها، وقال: " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج.
فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية.
---
_________
(1) الإمام الصادق: ص 245.
(2) انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة: ص 145.(1/316)
الكتاب الثاني
القسم الأول
التفسير وأصوله عن أهل السنة
د. علي السالوس(1/320)
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله.
مقدمة
إن الحمد كله لله، نحمده سبحان وتعالى، ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، ونصلى ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا الجزء الثاني من كتابنا الذي يبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث كان الجزء الأول دراسة مقارنة في عقيدة الإمامة والعقائد التابعة، وجاء هذا الجزء في التفسير وأصوله، وهو دراسة مقارنة أيضاً، ولذلك جعلته قسمين:
القسم الأول: تحدثت فيه عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثاني: جعلته لبيان التفسير وأصوله عند الشيعة.
والقسم الأول يضم ثمانية فصول، والقسم الثاني سبعة فصول.
وهذا الجزء طبع من قبل في كتاب مفرد، ولم أجد فيه ما يحتاج إلى الحذف أو الإضافة، غير أن خاتمته عرضت موجزا للبحث، وأشارت إلى نتائجه، فلا حاجة هنا إذن إلى إثبات ما كتبته في الخاتمة.
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يتقبله منا، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(1/321)
القسم الأول: التفسير وأصوله عند أهل السنة.(/)
الفصل الأول: علم التفسير
التفسير في اللغة:
التفسير في اللغة راجع إلى معنى الإظهار والكشف والبيان، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1) فكلمة: " تفسيرا " هنا يراد بها البيان والوضوح.
التفسير في الاصطلاح:
قال الزركشى في البرهان التفسير في الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها. ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها. وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (2) .
وما ذكره الزركشى يحدد ما يقوم به المفسر لكتاب الله المجيد، فعليه أن يبين كل ما ذكر، ويوضحه ويكشف عنه.
التأويل:
وقد يطلق على التفسير التأويل؛ فتفسير الطبري سماه " جامع البيان عن تأويل أي القرآن "، وعند تفسير الآيات الكريمة يقول: القول في تأويل كذا، أو اختلف أهل التأويل، أو اتفق أهل التأويل ... إلخ.
_________
(1) 33: الفرقان.
(2) انظر البرهان: 2 / 148.(1/322)
وفى لسان العرب: أول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره.
وممن ذهب إلى عدم التفرقة بين التفسير والتأويل: أبو عبيد، وأبو العباس أحمد ابن يحيى، وابن الأعرابى، وثعلب: غير أنه قال: التفسير والتأويل واحد، أو هو كشف المراد عن المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر (1) .
وأصل التأويل في اللغة من الأول وهو الرجوع لعاقبة الأمر، ومعنى ... قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي: إلام تئول العاقبة في المراد به؟ ويقال: آل الأمر إلى كذا: أي صار إليه؛ والمآل: هو العاقبة والمصير.
وتقول: أولته فآل: أي صرفته فانصرف، فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني.
وقيل: أصل التأويل من الإيالة، وهى السياسة، فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام ويسوسه، ويضع المعنى فيه موضعه.
والمعنى اللغوى للتأويل لا يمنع من إطلاقه على التفسير، ولكن قوماً ذهبوا إلى التفرقة بين التفسير والتأويل: فالماتريدى الذي سمى تفسيره " تأويلات أهل السنة "، مما يرجح أنه لا يفرق بينهما، قال:
التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه عنى باللفظ هذا. والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة.
وقال ابن حبيب النيسابورى والبغوى وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب والسنة، من طريق الاستنباط. والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها.
_________
(1) راجع التفسير والتأويل في لسان العرب، والقاموس المحيط، وكشف الظنون: علم التأويل 1 / 334 , وعلم التفسير 1 / 427.(1/323)
وقال ابن الأثير: المراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلى إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.
وقال الراغب الأصفهانى: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل في الكتب الإلهية وغيرها.
وقال السيد الشريف على بن محمد الجرجانى: التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسير: وهو ما لا يدرك إلا بالنقل؛ كأسباب النزول، والقصص، فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، وهو ما يتعلق بالدراية، فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهى وإن أصاب فيهما (1) .
وأمام هذا الخلاف ننظر إلى معنى التأويل كما يفهم من الكتاب والسنة.
كلمة تأويل في القرآن الكريم: كلمة تأويل ذكرت في القرآن الكريم سبع عشرة مرة، ففى سورة آل عمران (آية 7) { ... هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}
_________
(1) انظر حاشيته على تفسير الكشاف للزمخشرى 1 / 15.(1/324)
والمعنى هنا أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل، يصرفون المتشابه عن معناه الذي يوافق المحكم إلى ما يوافق أغراضهم وباطلهم، ولا يعلم تأويله الحق الذي يحمل عليه وتفسيره الصحيح إلا الله، والعلماء الثابتون في علمهم المتمكنون يرجعون المتشابه إلى المحكم، ويقولون: كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا، فلا يمكن أن يخالف بعضه بعضا.
فكلمة تأويله الأولى تعنى تحريف المعنى، ولهذا يأخذون من القرآن الكريم " المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم " (1) .
وكلمة تأويله الثانية تعنى التأويل الحق الذي يحمل عليه المتشابه، وهو المعنى الصحيح الذي لا يتعارض مع المحكم. وفى سورة النساء آية 59: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أحسن تأويلا: أحسن عاقبة ومآلا.
وفى سورة الأعراف آية 53: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} والتأويل هنا معناه: عاقبة أمره، وما يئول إليه ما أخبر به سبحانه وتعالى من الوعد والوعيد.
_________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 345، وانظره إلى ص 347.(1/325)
وفى سورة يونس آية 39: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ُ} أي: مآله وعاقبة أمره، وهو خذلانهم في الدنيا، وخلودهم في النار في الآخرة. وفى سورة يوسف وردت الكلمة في ثمانى آيات، أرقامها: 6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101.
ومن هذه الآيات الكريمة: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: بيان الرؤيا، وهو تفسيرها وعبارتها.
ومنها: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}
والأولى تعني تعبير الرؤيا، والثانية: نبأتكما بتأويله: أي أخبرتكما بأحواله التي سيكون عليها وماهي.
فالتأويل هنا بيان ما هيته وكيفيته (1) ،
وقال ابن كثير: يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم فإنه عارف بتفسيره، ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه (2) .
ومن هذه الآيات الكريمة أيضا: {
_________
(1) انظر الكشاف 2 / 320.
(2) انظر تفسيره 2 / 478.(1/326)
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} . ومنها: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ... } .
وفى سورة الإسراء آية 35: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ... } أي: مآلا في الآخرة.
وفى سورة الكهف آية 78: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} .
وفيها أيضاً آية 82: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرً} والتأويل هنا هو ما ذكره الخضر ـ ـ تفسيراً للأحداث التي رآها موسى ـ ـ وأنكرها، وهى: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.
كلمة تأويل في السنة المطهرة:
وننظر بعد هذا في كتب السنة:
1 ـ روى الإمام أحمد والطبرانى عن ابن عباس أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا له فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
وعند البزار: " اللهم علمه تأويل القرآن ".(1/327)
وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة: " اللهم اعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل " (1) .
2 ـ وروى الشيخان أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون على وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك. وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين " (2) .
3 ـ وفى رواية جابر لحجة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" نظرت إلى مد بصري من بين يديه، بين راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، ما عمل به من شيء عملنا به...... " (3) .
4 ـ وروى الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن " (4)
تعنى أنه مأخوذ من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}
5 ـ وفى صحيح البخاري أيضاً: ... فكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: لا يرث المؤمن الكافر.
_________
(1) انظر فتح الباري 7 / 100 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)) البخاري ـ كتاب الإيمان ـ باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب من فضائل عمر رضي الله عنه.
(3) سنن ابن ماجه ـ كتاب المناسك ـ باب حجة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه أبو داود والنسائى.
(4) البخاري ـ كتاب الأذان ـ باب التسبيح والدعاء في السجود.(1/328)
قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى " 72: الأنفال ": {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ... الآية (1) .
قال ابن حجر: قوله " قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون إلخ " أي كانوا يفسرون قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} بولاية الميراث، أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث وغيره (2) .
6 ـ ومن حديث رواه الإمام أحمد أن الرسول قال: " يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عزوجل " (3) .
7 ـ روى الإمام مالك عن كعب الأحبار، أن رجلاً نزع نعليه، فقال:
لم خلعت نعليك؟ لعلك تأولت هذه الآية ... {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ... قال: ثم قال كعب للرجل: أتدرى ما كانت نعلا موسى؟ ... إلخ (4)
8 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر. قال الزهرى: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان (5) .
_________
(1) البخاري ـ كتاب الحج ـ باب توريث دور مكة وبيعها.
(2) فتح البارى 3 / 452.
(3) المسند 4 / 155.
(4) الموطأ ـ كتاب اللباس ـ باب ما جاء في الانتعال. والآية الكريمة المذكورة هي رقم 12 من سورة طه.
(5) البخاري ـ كتاب تقصير الصلاة ـ باب يقصر إذا خرج من موضعه.(1/329)
أراد بتأويل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ما روى عنه أنه أتم الصلاة بمكة في الحج، والخلاف حول تأويل عثمان يطول ذكره (1) .
بعد هذا العرض لما جاء في القرآن الكريم، وفى كتب السنة النبوية المطهرة، نرى أن إطلاق تأويل القرآن على تفسيره لا يتعارض مع ما جاء من استعمال كلمة تأويل في هذين المصدرين، إضافة إلى ما رأيناه من قبل من المعنى اللغوى، مع عدم إغفال أن التأويل منه ما هو باطل فاسد، ومنه ما هو حق صحيح، وكذلك التفسير.
التفرقة بين التفسير والتأويل:
والذين رأوا التفرقة بين التفسير والتأويل نرى أن فيما ذهبوا إليه نظراً:
1 ـ فكلام الماتريدى يجعل التفسير قاصراً على قول المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ما لا يحتاج إلى تفسير! ولعل هذا هو الذي جعله يسمى تفسيره " تأويلات أهل السنة ".
ويتعارض هذا مع ما جاء في السنة من أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرف تأويل القرآن الكريم، وأنه يتأول القرآن.
2 ـ ما ذهب إليه النيسابوري والبغوي وغيرهما من قصر التفسير على الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها غير مسلم، فالتفسير بمعناه المفهوم لا يتم بهذا وحده، وإنما لابد من النظر والاستنباط حتى يتم التوضيح والإظهار والبيان، أي التفسير، فما ذكروه من أنه تأويل هو أيضا تفسير، ومثله ما ذكره ابن الأثير.
3 ـ كلام الراغب الأصفهاني لا يمنع اطلاق التأويل على التفسير.
4 ـ كلام الشريف الجرجاني يشير إلى نوعى التفسير المعروفين، وهما: التفسير المأثور أو النقلي، وهو يتعلق بالرواية، والتفسير العقلي، وهو يتعلق
_________
(1) انظر فتح البارى 3 / 570 ـ 572.(1/330)
بالدراية، وما ذكره عن كل منهما صحيح، غير أنه سمى أحدهما تفسيراً والآخر تأويلاً، وتفسير القرآن الكريم يجمع الاثنين.
وقد بين ابن تيمية سبب الخلاف في فهم المراد بالتأويل فقال: " أصل ذلك أن لفظ التأويل فيه اشتراك بين ما عناه في القرآن، وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن" (1) ثم بين أن معاني التأويل ثلاثة، فقال: " التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف
وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله، ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية، ونحو ذلك، ومراده التفسير.
والمعنى الثاني في لفظ السلف، وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً، هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الشئ المخبر به (2) .
_________
(1) ... دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 1 / 106.
(2) المرجع السابق ص 109 ـ 110.(1/331)
التفسير والتأويل والمعنى:
وقد يطلق على التفسير أيضاً المعنى؛ فالفراء ـ مثلاً ـ سمى تفسيره " معاني القرآن "، وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن التأويل فقال: التأويل والمعنى والتفسير واحد، وقال مثل هذا ابن الأعرابي (1) .
وروى عن ابن مسعود أنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (2) .
وعلى هذا يمكن القول: تفسير الآية كذا، أو تأويلها، أو معناها، وكل هذا تعبير صحيح.
غير أننا إذا جئنا إلى العلم القائم بذاته، الذي له نشأته وتطوره، وكتبه ورجاله، فإننا لا نكاد نجد إلا اسماً واحداً تعارف عليه الجميع وهو: " علم التفسير ".
_________
(1) راجع لسان العرب، مادتى " فسر " و" أول ".
(2) انظر تفسير الطبري تحقيق شاكر 1 / 80.(1/332)
الفصل الثاني: تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بيان السنة للقرآن:
قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ... } (1) .
وقال عزوجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)
وقال جلت قدرته: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3)
فالله سبحانه وتعالى كما تكفل بحفظ القرآن الكريم، تكفل كذلك ببيانه. والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فهم القرآن الكريم جملة وتفصيلا، فلم يعزب عنه شئ من علمه. ثم كان عليه أن يبين لصحابته الكرام ما يغيب عنهم.
وتفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقرآن الكريم فيه بيان للمجمل، وقد يقيد المطلق أو يطلق المقيد، وقد يخصص العام أو يعمم الخاص، كل ذلك بوحى من الله وأمره، وتعليمه وتوفيقه جلت عظمته كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... } (4) .
_________
(1) 17 ـ 19: القيامة.
(2) 44: النحل.
(3) 2: يوسف.
(4) 3 ـ 5 النجم.(1/333)
القسم الثاني
التفسير وأصوله عند الشيعة الاثني عشرية
ثلاثة وجوه:
قال الإمام الشافعى رضي الله عنه: فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثلاثة وجوه:
فأجمعوا منها على وجهين , والوجهان يجتمعان ويتفرقان. أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب , فبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما نص الكتاب. والآخر مثل ما أنزل فيه جملة كتاب , فبين عن الله تعالى معنى ما أراده.
وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ماسن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ليس فيه نص كتاب. فمنهم من قال: جعل الله سبحانه له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن سن فيما ليس له فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن فيه من البيوع وغيرها من الشرائع لأن الله قال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} ، وقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحرَّمَ الرِّبَا}
وأورد الإمام الشافعى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه " (1) .
عدم كثرة ما يتصل بالتفسير من السنة:
ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين كثيرا من أحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، وغير ذلك مما لم يبين في القرآن الكريم، ولا سبيل إلى معرفته إلا بهذا البيان النبوى، غير أن هذا البيان من الأحاديث المتصلة بالتفسير،
_________
(1) انظر الرسالة للإمام الشافعى: ص 28 ـ 29.
والآيتان الكريمتان المذكورتان هما: رقم 188 من سورة البقرة، ورقم 275 من السورة نفسها.(1/334)
والتى صحت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس كثيراً. وسبب هذا أن الصحابة الكرام كانوا أعلم الناس بالقرآن الكريم؛ فبلغتهم نزل، وهم أفصح العرب، وعاشوا أسباب النزول، فعرفوا ظواهر القرآن الكريم، وتعلموا الأحكام وطبقوها: فعن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.
وعن أبى عبد الرحمن قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا أنهم كانوا يستقرءون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا (1) .
قال ابن خلدون: " أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزل جملا جملا، وآيات آيات، لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً لها. وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها " (2) .
جمع أحاديث التفسير:
وأورد هنا بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة المتصلة بالتفسير التي أمكننى جمعها ما استطعت بحول الله تعالى وقدرته وتوفيقه، وأعتمد هنا أساساً على هذه الكتب:
_________
(1) انظر الخبرين في تفسير الطبري 1 / 80 تحقيق شاكر.
(2) مقدمة ابن خلدون 3 / 996. ونلحظ أن الدقة تنقصه في قوله " فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه "، وسنرى ـ على سبيل المثال ـ أن بعض الصحابة فهموا بعض الآيات فهما خاطئا، وأن أشياء غابت عن االصحابه كلهم أو بعضهم.(1/335)
أولا: صحيح البخاري ـ وشرحه فتح الباري ـ حيث أخرج الكثير من الأحاديث في كتاب التفسير، قال ابن حجر في نهاية هذا الكتاب في فتح الباري:
" اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعه وما في حكمها، الموصول من ذلك أربعمائة حديث وخمسة وستون حديثاً، والبقية معلقة وما في معناه. المكرر من ذلك فيه وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثاً، والخالص منها مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريج بعضها ولم يخرج أكثرها لكونها ليست ظاهرة في الرفع، والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهى ستة وستون حديثا ".
وبعد أن ذكر هذه الأحاديث قال:
" وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثراً ".
فصحيح البخاري إذن فيه الكثير من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، ومن الآثار كذلك، والأخذ منه يغنينا عن النظر في السند، وإن كنا هنا سنقتصر على الأحاديث المرفوعة فقط.
يضاف إلى هذا أن ابن حجر في شرحه يذكر ما يتصل بالموضوع من الأحاديث برواياتها المختلفة، وكذلك الرواة.
ثانيا: صحيح مسلم، ومختصره للحافظ المنذرى. وإن كان الإمام مسلم لم يخرج الكثير (1) ، غير أننا نأخذ مما أخرجه لكونه من الصحيح.
ثالثا: الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي: قال بعد أن تحدث عن طبقات المفسرين، وأوشك على الانتهاء من كتابه:
" وإذ قد انتهى بنا القول فيما أردناه من هذا الكتاب فلنختمه بما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التفاسير المصرح برفعها إليه ".
_________
(1) أخرج في كتاب التفسير سبعة وخمسين حديثاً، واتفق مع البخاري منها في أربعة عشر حديثاً.(1/336)
وبعد أن ذكر قدراً كبيراً من الأحاديث قال:
" فهذا ما حضرنى من التفاسير المرفوعة المصرح برفعها، صحيحها وحسنها، وضعيفها ومرسلها ومعضلها، ولم أعول على الموضوعات والأباطيل".
وإذ نستعين بما أورده السيوطي في الإتقان إلا أنا لا نأخذ منه إلا الصحيح والحسن سواء أكان ما ذكره مأخوذاً من كتب السنة أم من كتب التفسير.
رابعاً: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي أيضا: وهذا الكتاب يختلف عن سابقيه، فهو في ستة أجزاء من الحجم الكبير، وفيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أكثر مما فيه من الأحاديث الصحيحة.
فلا نزعم أنا قرأناه كله، ولكننا رجعنا إليه في تفسير بعض الآيات الكريمة لأنه يتوسع كثيرا في ذكر الروايات المختلفة، والإشارة إلى من رواها من رجال الحديث والتفسير.
خمسة وثلاثون حديثاً:
بعد هذا لنبدأ في ذكر أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدد ما جمعته بلغ خمسة وثلاثين حديثا.
1 ـ عن أبى سعيد بن المعلى قال: " كنت أصلى في المسجد فدعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلى، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} ؟ ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدى، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته ". [(1/337)
البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب ما جاء في فاتحة الكتاب. وأخرجه الترمذى بسند آخر في فضائل القرآن: باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، وقال: حسن صحيح. وأخرجه كذلك ابن خزيمة والحاكم: انظر فتح الباري 8 / 157] .
2 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال ". [أخرجه الترمذى في أبواب التفسير: سورة فاتحة الكتاب، وأخرجه أحمد وابن حبان: انظر فتح الباري 8 / 159. ... وذكر السيوطي أخبارا كثيرة ثم قال: قال ابن أبى حاتم: لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ـ انظر الدر المنثور 1 / 16] .
3 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين ". [البخاري ـ كتاب التفسير ـ سورة البقرة ـ باب: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وفى رواية " من المن الذي أنزل على بنى إسرائيل " انظر فتح الباري 8 / 164] .
4 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قيل لبنى إسرائيل {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ... } فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة ". [أخرجه الشيخان في كتابي التفسير في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، وفى سنن الترمذي دخلوا متزحفين على أوراكهم أي منحرفين. وانظر روايات أخرى في الدر المنثور 1 / 71] .(1/338)
5 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله جل ذكره {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً} والوسط: العدل ". [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ـ سورة البقرة: باب: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... } وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وزيد في رواية: " فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه ": انظر فتح الباري 8 / 172] .
6 ـ عن عدى بن حاتم رضي الله عنه قال: " قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين. ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار ".
[البخاري: باب: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ... } وأخرجه الترمذى في تفسير الآية الكريمة بلفظ " إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " وقال: هذا حديث حسن صحيح] .
7 ـ عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ ... } يعنى صماماً واحداً. [أخرجه الترمذى وقال: هذا حديث حسن صحيح، ويروى: في صمام واحد] .(1/339)
وعن ابن عباس قال: " جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلى الليلة. قال: فلم يرد عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، قال: فأنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ} أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ".
[أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب. وقال ابن حجر في الفتح " ... 8 / 191 ": أخرجه أحمد والترمذى من وجه صحيح.
وراجع كثيراً من الأخبار المرفوعة والموقوفة في الدر المنثور ... 1 / 261 ـ 267] .
8 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الخندق: " حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ـ أو أجوافهم ـ نارا " " شك يحيى بن سعيد القطان أحد الرواه ".
[البخاري ـ سورة البقرة: باب " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطىـ وأخرج مسلم عدة روايات في كتاب الصلاة: باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وفى بعضها " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر "، وعند الترمذى " صلاة الوسطى صلاة العصر " وقال: حسن ... صحيح، ورواه غيرهم: انظر فتح الباري 8 / 195، والإتقان 2 / 192، والدر المنثور 1 / 300 ـ 305] .
9 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة ولا اللقمتان. إنما المسكين الذي يتعفف. اقرءوا إن شئتم ـ يعنى قوله تعالى {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} .(1/340)
[البخاري ـ سورة البقرة ـ باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وروى أحمد وأبو داود والنسائى وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه مرفوعاً " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف "، وفى رواية ابن خزيمة " فهو ملحف "، والأوقية أربعون درهما.
ولأحمد من حديث عطاء بن يسار عن رجل من بنى أسد رفعه " ومن سأل وله أوقية أوعدلها فقد سأل إلحافاً ".
ولأحمد والنسائى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه " من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف " انظر فتح الباري 8 / 202 ـ 203، والدر المنثور 1 / 358 ـ 363] .
10 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه: يعنى بشدقيه ـ يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} إلى آخر الآية
[البخاري ـ سورة آل عمران: باب: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ، وعند الترمذى: " ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا "، وقال: حسن صحيح. ورواه أيضاً أحمد والنسائى وابن خزيمة. انظر فتح الباري 8 / 230] .
11 ـ قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإنى سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب. [(1/341)
أخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والحميدى في مسانيدهم وأبو داود والترمذى وصححه والنسائى وابن ماجه وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 2 / 339، والإتقان 2 / 193] .
12 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ... } وفى رواية أخرى قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتى المطر أحد إلا الله، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
[انظر البخاري: سورة الأنعام. باب: {وَعِندَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وسورة الرعد باب: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} وسورة لقمان ـ باب: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .
وروى أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة} الآية. انظر فتح الباري 8 / 514، والدر المنثور 3 / 15] .
13 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
وفى رواية أخرى قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها. ثم قرأ الآية.(1/342)
[انظر البخاري ـ سورة الأنعام: باب {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} ، وباب: {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} .
ورواه مسلم وأحمد والترمذى وغيرهم، انظر الإتقان 2 / 194، وفى رواية لمسلم: ثلاث إذا خرجن {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض.
راجع كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم ـ سورة الأنعام باب في قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} واقرأ أخباراً كثيرة في الدر المنثور 3 / 57 ـ 62] .
14 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً، فذلك قوله عزوجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
[مختصر مسلم ـ سورة الأعراف ـ باب في قوله تعالى {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ... } .
وأخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمى والترمذى والنسائى وآخرون ـ انظر الدر المنثور 3 / 85] .
15 ـ عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بى عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى ـ رضي الله عنه، قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في(1/343)
المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبى: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا " لمسجد المدينة ". قال: فقلت: أشهد بأنى سمعت أباك هكذا يذكره.
[مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الصلاة باب في المسجد الذي أسس على التقوى، وكتاب الحج باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى، وأخرجه ابن أبى شيبة وأحمد والترمذى والنسائى وغيرهم.
وفي إحدى الروايات: اختلف رجلان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال الآخر هو مسجد قباء، فأتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه، فقال: هو مسجدى هذا.
انظر الدر المنثور 3 / 277، والإتقان 2 / 195.
ومن المعلوم أن الآية الكريمة إنما نزلت في مسجد قباء، ولكن إذا كان هذا المسجد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى ... بتسميته بذلك.
راجع ما قاله ابن تيمية وابن كثير في كتابى: آية التطهير بين أمهات المؤمنين وأهل الكساء: ص 26] .
16 ـ عن صهيب ـ رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ... } قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم تثقل موازيننا، وتبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم.(1/344)
[أخرجه أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه وغيرهم، وفى رواية: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن. انظر الدر المنثور 3 / 305 والإتقان ... 2 / 195] .
17 ـ عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قال: هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وفى الآخرة الجنة.
وفى رواية: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، فهى بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة.
[أخرجه سعيد بن منصور وابن أبى شيبة وأحمد والترمذى وحسنه وغيرهمـ انظر الدر المنثور 3 / 311 والإتقان 2 / 195 ـ 196] .
18ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول: رب أعرف " مرتين ". فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم. ثم تطوى صحيفة حسناته.
وأما الآخرون ـ أو الكفار ـ فينادى على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم.
[البخاري ـ سورة هود ـ باب {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
وفى مسلم: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عزوجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا، وإنى أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله.(1/345)
راجع مختصر صحيح مسلم ـ كتاب التوبة وقبولها ـ باب في النجوى وتقرير العبد بذنوبه.
وأخرجه ابن المبارك وابن أبى شيبة وابن جرير وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 325] .
19 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ليملى للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
[البخاري ـ سورة هود ـ باب {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
وفى مسلم: إن الله عزوجل يملى للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ ... انظر مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الظلم ـ باب في الإملاء للظالم.
وأخرج الحديث: الترمذى والنسائى وابن ماجه وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 349] .
20 ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً أصاب من إمرأة قبلة، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر ذلك له، فأنزلت عليه {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال الرجل: أَِلىَ هذا؟ قال: لمن عمل بها من أمتى.
[البخاري ـ سورة هود ـ باب: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .(1/346)
وفى مسلم: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني عالجت أمرأة في أقصى المدينة، وإنى أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال: فلم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية:
{أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال رجل من القوم: يا نبي الله: هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة.
سورة هود ـ باب في قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ... } .
وأخرجه أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 352] .
21 ـ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أخبرونى بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا، تؤتى أكلها كل حين، قال ابن عمر: فوقع في نفسى أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم. فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي النخلة.....
[البخاري ـ سورة إبراهيم ـ باب: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ... } .
ورواه الترمذى والنسائى والحاكم وابن حبان وأحمد باختلاف يسير عن البخاري ـ انظر الإتقان 2 / 197، وراجع كذلك الدر المنثور 4 / 76 ـ 77(1/347)
وفى مسلم: أخبرونى بشجرة شبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، تؤتى أكلها كل حين.
مختصر مسلم: كتاب الإيمان ـ باب مثل المؤمن ... ..] .
22 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ... } .
[البخاري ـ سورة إبراهيم باب: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ... ورواه غير البخاري كثير من الأئمة ـ انظر الإتقان 2 / 197 ... والدر المنثور 4 / 78] .
23 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح.
يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
[البخاري ـ سورة الإسراء ـ باب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
وأخرجه عبد الرزاق ومسلم وابن جرير وغيرهم. وأخرج أحمد والترمذى وصححه والنسائى وابن ماجه وآخرون عن أبى هريرة في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها.
انظر الدر المنثور 4 / 196، والإتقان 2 / 198] .(1/348)
24 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى قام خطيباً في بنى إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ... إلخ.
[انظر الخبر بتمامه، وأخباراً أخرى للبخارى وغيره في فتح الباري ... 8 / 409 ـ 425، وانظر الدر المنثور 4 / 229 ـ 240 ومختصر صحيح مسلم ـ كتاب ذكر الأنبياء وفضلهم ـ باب في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام] .
25 ـ عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ؟ وموسى قبل عيسى بكذا أوكذا قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم.
[أخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 4 / 270 والإتقان 2 / 198] .
26 ـ عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادى في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} .
[أخرجه الشيخان وغيرهما ـ انظر الدر المنثور 4 / 287، والإتقان ... 2 / 199] .
27 ـ(1/349)
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة.
[البخاري ـ سورة الفرقان باب: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ... } .
قال ابن حجر: وفى حديث أبى هريرة عند البزار " يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل: فكيف يمشون على وجوههم " الحديث.
ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يحشرون ركبانا، ومن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار فيحشرون على وجوههم. فتح الباري ... 8 / 492.
وروى الحديث مسلم وغيره ـ انظر الإتقان 2 / 198.
ومختصر مسلم ـ كتاب صفة القيامة ـ باب حشر الكافر على وجهه يوم القيامة] .
28 ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
[البخاري سورة لقمان باب {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1/350)
ورواه أحمد ومسلم وغيرهما ـ انظر الإتقان 2 / 193، والدر المنثور ... 3 / 26. ومختصر صحيح مسلم: كتاب التفسير ـ سورة الأنعام ـ باب في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ] .
29 ـ عن فروه بن مسيك المرادى ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومى بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم وأمرنى، فلما خرجت من عنده أرسل في أثرى فردنى، فقال: ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، قال وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أم امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، وأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسام وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار.
فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة.
أخرجه أحمد وعبد بن حميد والبخارى في تاريخه والترمذى وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبرانى وابن أبى حاتم وابن عدى والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبأ: أرجل هو أم امرأة أم أرض؟ فقال: بل هو رجل ولد عشرة: فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون: فمذحِج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشاميون: فلخم وجذام وعاملة وغسان.
[الدر المنثور 5 / 231، وانظر الإتقان 2 / 200] .
30 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: " ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أبيت. ...(1/351)
قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. ويبلى كل شئ من الإنسان إلا عجب ذنبه، فيه يركب الخلق.
وفى رواية أخرى. ما بين النفختين أربعون. قال: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قال: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شئ إلا يبلى، إلا عظماً واحداً. وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة.
[البخاري ـ سورة الزمر ـ باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وسورة النبأ ـ باب: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} .
وقوله: أبيت: أي امتنعت عن القول بتعيين ذلك لأنه ليس عندى في ذلك توقيف. ولابن مردويه عن الأعمش في هذا الحديث فقال " أعييت " من الإعياء وهو التعب، وكأنه أشار إلى كثرة من يسأله عن تبيين ذلك فلا يجيبه.
وفى حديث أبى سعيد عند الحاكم وأبى يعلى: قيل: يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال: مثل حبة خردل.
والعجب. عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع.
وقال العلماء. هذا عام يخص منه الأنبياء، لأن الأرض لا تأكل أجسادهم. (انظر فتح الباري 8 / 552 ـ 553. وانظر الحديث في مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الفتن ـ باب ما بين النفختين أربعون ويبلى الإنسان إلا عجب الذنب. وأخرج الحديث أحمد والترمذى وابن ماجه وآخرون. انظر الدر المنثور ... 5 / 336) .
31 ـ(1/352)
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
[البخاري ـ سورة المطففين ـ باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقوله: " في رشحه ": بفتحتين أي عرقه لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شىء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء.
وفى رواية أخرى: حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه.
وفى رواية لمسلم: تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
انظر فتح الباري: 8 / 696. ومختصر صحيح مسلم: كتاب صفة القيامةـ باب دنو الشمس من الخلق يوم القيامة. والإتقان: 2 / 203. وأخرجه مالك وعبد بن حميد والترمذى وغيرهم: انظر الدر المنثور 6 / 324] .
32 ـ عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس أحد يحاسب إلا هلك. قالت: قلت: يا رسول الله جعلنى الله فداءك، أليس يقول الله عزوجل {فَأَمَّا مَنْ أُوتيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك.
[البخاري ـ سورة الانشقاق ـ باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
ومختصر مسلم ـ كتاب التفسير ـ سورة الانشقاق ـ باب في قولة ... تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} .(1/353)
وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذى وغيرهم: انظر الدر المنثور ... 6 / 329، والإتقان 2 / 203] .
33 ـ عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، وذكر الناقة والذى عقر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} إنبعث لها رجل عزيز عارم، منيع في رهطه مثل أبى زمعه عم الزبير بن العوام.
[البخاري ـ سورة الشمس، وانظر فتح الباري 8 / 705 ـ 706.
وأخرج الحديث: سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذى والنسائى وآخرون ـ انظر الدر المنثور 6 / 357] .
34 ـ عن على بن أبى طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، وما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآية.
وفى رواية أخرى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ... } الآية.
[انظر البخاري ـ سورة الليل ـ من الباب الثالث إلى الباب السابع، وهو الأخير.(1/354)
والحديث: أخرجه الجماعة وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 6 / 359] .
35 ـ عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر.
[البخاري ـ سورة الكوثر ـ الحديث الأول] .
وذكر الإمام البخاري حديثين آخرين:
أحدهما: عن أبى عبيدة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم.
والحديث الآخر عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
وفى رواية للنسائى لحديث السيدة عائشة: هو نهر أعطيه نبيكم في بطنان الجنة. قلت: ما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها.
وقال ابن حجر تعقيباً على الحديث الثالث للبخارى: هذا تأويل من سعيد بن جبير جمع به بين حديثى عائشة وابن عباس. وقد أخرج الترمذى من طريق ابن عمر رفعه: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت " الحديث: قال: إنه حسن صحيح. وفى صحيح مسلم: " بينما نحن عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ غفا إغفاءه، ثم رفع رأسه مبتسماً. فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربى عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة " الحديث.(1/355)
وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس أنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره أن المراد به نهر في الجنة، لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، ولعل سعيداً أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا معدل عنه.
[انظر فتح الباري 8 / 732، وراجع مجموع الأحاديث المتصلة بالموضوع في الدر المنثور 6 / 401 ـ 403] .
نتائج الجمع:
هذه هي الأحاديث الشريفة في التفسير التي أمكن جمعها. وأشرنا من قبل إلى دور السنة بالنسبة للقرآن الكريم، فلا حاجة للإعادة، ولكن نذكر هنا بعض الملاحظات، في ضوء هذه الأحاديث:
1 ـ بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابة الكرام ما لا علم لهم به، ولا طريق إلى معرفته إلا بهذا البيان النبوى، مثل الأمور المتعلقة بالأمم السابقة، وأنبيائهم، أو الأمور الغيبية كبعض ما سيحدث يوم القيامة وأشار إليه القرآن الكريم، واحتاج إلى بيان.
2 ـ ونلاحظ كذلك أن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهموا بعض الآيات الكريمة فهما خاطئاً، فصحح لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فهموا، وبين لهم مراد الله تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . وقوله عزوجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} .
3 ـ بين الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قد يغيب عن الصحابة كلهم أو بعضهم، مثل: تعريف المسكين، والصلاة الوسطى، ومفاتح الغيب..إلخ.(1/356)
4 ـ كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحيانا صحابته ليتأكد من صحة فهمهم، كما سأل عن الشجرة الطيبة، والصحابة بدورهم كانوا يسألونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما غاب عنهم، كالسؤال عن " الذين يحشرون على وجوههم "، وعن {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} مع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نوقش الحساب هلك ".
5 ـ لعل هذه الأحاديث الشريفة هي أكثر ما صح عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير آيات من كتاب الله العزيز، إلى جانب بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجمل في القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها.
وهذه الأحاديث قليلة بلا شك، وهى وما يصح مثلها تعتبر وحدها عند جمهور المسلمين الحجة التي لا ترد، لأنها قول المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا يظهر الفرق جلياً بين جمهور المسلمين والشيعة الجعفرية، فالشيعة يعتبرون أئمتهم جميعاً معصومين، فأقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهم ما للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان مجمل الكتاب، أو تقييد مطلقه، أو تخصيص عامة، لأن أقوالهم تدخل ضمن مفهوم السنة كمصدر من مصادر التشريع، ولها دورها بالنسبة للقرآن الكريم.
ولهذا عندما ندرس كتب التفسير عندهم فإنا سنجد أن بعض التفاسير تعتبر في معظمها حجة عندهم، لأنهم يرون أنها مأخوذة عن الأئمة(1/357)
الفصل الثالث: تفسير الصحابة رضي الله عنهم
أعلم الناس بالقرآن:
بعد تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتى تفسير الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم ـ كما أشرنا من قبل ـ كانوا أعلم الناس بالقرآن الكريم؛ فبلغتهم نزل، وهم أفصح العرب، وعاشوا أسباب النزول، فعرفوا ظاهر القرآن الكريم، وتعلموا الأحكام وطبقوها.
الموقوف والمرفوع:
وكثير من التفسير المأثور عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يعتبر في حكم المرفوع وإن لم يكن مرفوعاً. وسبق من قبل كلام ابن حجر في اشتمال كتاب التفسير من صحيح البخاري على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، وعلى خمسمائة وثمانين أثراً من آثار الصحابة التي لا تأخذ حكم الرفع. فما ينتهى إلى الصحابة إذن قد يأخذ حكم المرفوع وقد يعتبر موقوفاً عليهم. على أن الإمام مسلماً لم يوافق الإمام البخاري على تخريج أكثر أحاديثه لكونها ليست ظاهرة في الرفع. واتفق الشيخان على أن تفسير الصحابى يأخذ حكم المرفوع إذا كان التفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مدخل للرأى فيه: ومشى على هذا الحاكم في علوم الحديث، وابن الصلاح وغيرهما (1) .
بعض ما صح من تفسيرهم:
وكى نأخذ صورة واضحة لتفسير الصحابة رضي الله عنهم، ننقل هنا بعض ما جاء في كتاب التفسير من صحيح البخاري.
_________
(1) انظر: تدريب الراوى 1 / 192 ـ 194، والإتقان 1 / 31.(1/358)
1 ـ " 4495 " - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: قلت لعائشة ـ رضي الله عنهاـ زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا يومئذ حديث السن:
أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... } فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما.
فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... } (1) .
2 ـ " 4498 " حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قال: سمعت مجاهداً قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " كان في بنى إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة
{كُتِبَ عَليْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد ... {
_________
(1) نقلنا الأخبار بأرقامها التي وضعها المرحوم محمد فؤاد عبد الباقى كما جاءت في فتح البارى طبع المطبعة السلفية. وكتاب التفسير يقع في الجزء الثامن.(1/359)
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع بالمعروف ويؤدى بإحسان ... {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قتل بعد قبول الدية ".
3 ـ " 4505 " حدثنى إسحاق، أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار، عن عطاء، سمع ابن عباس يقرأ: ... {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً.
4 ـ " 4506 " حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قرأ {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: هي منسوخة.
5 ـ " 4507 " حدثنا قتيبة، حدثنا بكر بن معز، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة قال: " لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... } كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ".
6 ـ " 4512 " حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتو البيت من ظهره فأنزل الله ... {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} .
7 ـ " 4521 "(1/360)
حدثنى محمد بن أبى بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، أخبرنى كريب، عن ابن عباس قال: " يطوف الرجل بالبيت ما كان حلالا حتى يهل بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هديه من الإبل أو البقر أو الغنم ما تيسر له من ذلك أي ذلك شاء، غير إن لم يتيسر له فعليه ثلاثة أيام في الحج وذلك قبل يوم عرفة، فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه، ثم لينطلق حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام ثم ليدفعوا من عرفات، فإذا أفاضوا منها يبلغوا جمعاً الذي يتبرز فيه، ثم ليذكروا الله كثيراً، أو أكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حتى ترموا الجمرة ".
8 ـ " 4528 " حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمعت جابراً رضي الله عنه، قال: " كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت {نسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ} .
9 ـ " 4568 " حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، عن ابن أبى مليكة، أن علقمة بن وقاص خبره، أن مروان قال لبوا به: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان امرئ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يعمل معذباً لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود فسألهم عن شئ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ... } كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} .
10 ـ " 4573 "(1/361)
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج قال: أخبرنى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أن رجلاً كانت له يتيمة فأنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شئ، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفى ماله ".
11 ـ " 4574 " حدثنى عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال: " أخبرنى عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} فقالت: يا بن أختى، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال "
12 ـ " 4590 " حدثنا آدم بن أبى إياس، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان قال: سمعت سعيد بن جبير قال: " آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت(1/362)
فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شئ ".
13 ـ " 4600 " حدثنا عبيد بن اسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: " هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية ".
14 ـ " 4601 " حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} ... قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأنى في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك ".
15 ـ " 4613 " حدثنا على بن سلمة، حدثنا مالك بن سعير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أنزلت هذه الآية {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ... } في قول الرجل: لا والله وبلى والله ".
16 ـ " 4682" حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وأخبرنى محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ: {أَلا إِنَّهُمْ تَثْنُونىَ(1/363)
صُدُورَهُمْ} قلت: يا أبا العباس ما تثنونى صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحى أو يتخلى فيستحى فنزلت {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} .
] تثنونى: بفوقانية، وسكون المثلثة، وفتح النون، وسكون الواو، وكسر النون بعدها ياء، على وزن تفعو عل، وهو بناء مبالغة كاعشوشب، لكن جعل الفعل للصدور ـ قاله ابن حجر في الفتح [.
17 ـ " 4683 " حدثنا الحميدى حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال: " قرأ ابن عباس {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} وقال غيره عن ابن عباس " يستغشون " يغطون رءوسهم " سىء بهم " ساء ظنه بقومه " وضاق بهم " بأضيافه " بقطع من الليل " بسواد " إليه أنيب " أرجع ".
18 ـ " 4695 " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: " أخبرنى عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال: قلت: أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا بذلك أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن. قالت: أجل لعمرى، لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك ".
19 ـ " 4700 " حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء سمع ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا} قال: " هم كفار أهل مكة ".
20 ـ " 4705 "(1/364)
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: هم أهل الكتا ب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ".
21 ـ " 4706 " حدثنى عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبى ظبيان، " عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ} قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، اليهود والنصارى ".
22 ـ " 4714 " حدثنى عمرو بن على، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، حدثنى سليمان، عن إبراهيم، عن أبى معمر، عن عبد الله: " إلى ربهم الوسيلة " قال: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم " زاد الأشجعى، عن سفيان، عن الأعمش: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} .
23 ـ " 4716 " حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} قال: شجرة الزقوم.
24 ـ " 4722 " حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ... {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} ... قال: نزلت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي(1/365)
بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} .
25 ـ " 4732 " حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال: سمعت خبابا قال: جئت العاص بن وائل السهمى أتقاضاه حقاً لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلت: لا، حتى تموت ثم تبعث. قال: وإنى لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم. قال: إن لي هناك مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} . رواه الثورى وشعبة وحفص وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش.
26 ـ " 4753 " حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن عمر بن سعيد ابن أبى حسين قال: حدثنى ابن مليكة قال: استأذن ابن عباس ـ قبيل موتها ـ على عائشة وهى مغلوبة، قالت: أخشى أن يثنى على، فقيل: ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن وجوه المسلمين، قالت: ائذنوا له. فقال: كيف تجدينك؟ قال: بخير إن اتقيت. قال: فأنت بخير إن شاء الله تعالى، زوجة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينكح بكرا غيرك، ونزل عذرك من السماء.
ودخل ابن الزبير خلافه، فقالت: دخل ابن عباس فأثنى على، وددت إني كنت نسياً منسياً ".
27 ـ " 4806 " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن العوام قال: سألت مجاهداً عن السجدة في ص فقال: سئل ابن عباس فقال: ... {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... } ، وكان ابن عباس يسجد فيها.(1/366)
28 ـ سورة حم السجدة. قال المنهال، عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف على، قال {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} ، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا ـ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ... } فقد كتموا هذه الآية. وقال: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} إلى قوله {دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال ... {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... } إلى {طَائِعِينَ} فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ـ عَزِيزًا حَكِيمًا ـ سَمِيعًا بَصِيرًا ... } فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ... } ثم في النفخة الأخرى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} وأما قوله ... {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ... ـ ... وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم. فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً. وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما(1/367)
بينهما في يومين آخرين فذلك قوله " دحاها " وقوله {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فجعلت الأرض وما فيها من شئ في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين.
{وَكَانَ اللهُ غَفُورًا} سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله.
29 ـ " 4818 " حدثنى محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوساً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ... } فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن بطن من قريش إلا كان فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة.
30 ـ " 4822 " حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: إن من العلم أن تقول لما لا يعلم: الله أعلم. إن الله قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ... } إن قريشاً لما غلبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعصوا عليه قال: اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع {قَالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ... } فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه،(1/368)
فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إلى قوله جل ذكره {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} .
31 ـ " 4933 " حدثنا عمرو بن على، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، حدثنى عبد الرحمن بن عابس: " سمعت ابن عباس رضي الله عنهما: ... {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ... } حبال السفن، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ".
32 ـ 4940 " حدثنا سعيد بن النضر، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشر جعفر بن أياس، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ... } : حالاً بعد حال، قال هذا نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
33 ـ " 4969 " حدثنا عبد الله بن أبى شيبة، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " أن عمر رضي الله عنه ـ سألهم عن قوله تعالى {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ... قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا بن عباس؟ قال: أجل أو مثل ضرب لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعيت له نفسه ".
خصائص تفسيرهم:
هذا بعض ما جاءنا من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، ونكتفى بهذا القدر؛ ففيه بيان لمعالم هذا التفسير.
ونلاحظ هنا ما يأتى:
1 ـ(1/369)
الصحابة الكرام لم يتعرضوا لتفسير القرآن الكريم كله آية آية، وإنما فسروا القليل من الآيات الكريمة التي لم يدرك معناها بعض المسلمين.
2 ـ وإذا كانوا ـ رضي الله عنهم ـ لم يفسروا إلا القليل من الآيات الكريمة، فإنهم فسروا كثيرا من الكلمات، ويبدوا هذا واضحاً جلياً لمن يقرأ كتاب التفسير من صحيح البخاري.
3 ـ تحدثوا عن أسباب النزول، ونحن ندرك العلاقة بين سبب النزول والمعنى المراد.
وأشرنا إلى أن مثل هذا التفسير يأخذ حكم المرفوع.
4 ـ تكلموا كذلك عن الناسخ والمنسوخ.
5 ـ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليسوا سواء في فهم القرآن الكريم وإدراك معانيه؛ وإنما برز منهم من اشتهر بالتفسير كالخلفاء الراشدين الأربعة، وبن عباس، وابن مسعود، وأبى بن كعب، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهؤلاء كما كان لهم دورهم في بيان بعض ما أنزل الله تعالى، كان لهم كذلك دور آخر في تصحيح ما يظهر من فهم خاطئ لبعض الآيات الكريمة، سواء أكان ذاك الخطأ فردياً أم جماعياً، وإن كانت تلك الأخطاء قليلة. وهؤلاء الكرام البررة كانوا يستجيبون لكل من يطلب علمهم، وكانت تشد إليهم الرحال. وقام بعضهم بدور كبير في عصر التابعين كما سنرى إن شاء الله سبحانه.
6 ـ قد نجد شيئاً من الاختلاف أو التعارض في بعض ما ثبت من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، غير أن هذا قليل نادر.
التدوين:
من المعلوم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يدونوا من التفسير إلا ما كان يكتبه بعضهم في مصاحفهم الخاصة، وهو جد قليل، حتى أخطأ بعض المتأخرين فظنوه من وجوه القرآن الكريم التي نزل بها من عند الله عز وجل.(1/370)
ويذكر أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ له كتاب في التفسير (1) ، وقد يكون هذا صحيحا، إلا أن مثل هذا الكتاب لم يصلنا، ولم نسمع عن كتاب آخر لأى أحد من الصحابة الكرام، فكيف إذن وصلنا ما أثر عنهم من تفسير؟
تفسير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ جاءنا عن طريق رجال الحديث، وعن طريق أصحاب التفاسير الذين عنوا بالتفسير المأثور؛ فعندما جاء عصر التدوين، الذي يبدأ من القرن الثاني الهجرى، أخذ علماء الحديث يجمعون ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذوا كذلك يدونون ما أثر عن الصحابة الكرام. وفى بحثهم دونوا ما يتصل بأمور العقيدة، وفروع الشريعة، ودونوا كذلك ما يتصل بالتفسير، فقد اعتبروه باباً من أبواب السنة.
وإلى جانب التسليم بأن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أفهم الناس بكتاب الله تعالى، فإن رجال الحديث يعتبرون بعض ما يثبت من التفسير عن الصحابة الكرام في حكم المرفوع إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أشرنا في بداية الحديث عن تفسير الصحابة.
أما رجال التفسير فإنهم يعلمون أن ما ثبت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التفسير قليل، فغاية ما يطمحون إليه أن يجدوا من الآثار ما يصل إلى الصحابة رضي الله عنهم.
كتاب تنوير المقباس:
وبين أيدينا كتاب " تنوير المقباس من تفسير ابن عباس " لأبى طاهر محمد ابن يعقوب الفيروز ابادى صاحب القاموس، وهو يحتوى على تفسير القرآن الكريم كله، أفحقاً وصلنا تفسير جميع أي القرآن الكريم عن ابن عباس رضي الله ... عنهما؟
لنقرأ أولاً شيئاً مما جاء في هذا التفسير.
_________
(1) راجع ترجمة ابن عباس في طبقات المفسرين للداودى، ومعجم المؤلفين 6 / 66.(1/371)
قراءة الكتاب:
في سورة الفاتحة فسر البسملة كما يلى:
" الباء " بهاء الله وبهجته وبلاؤه وبركته، وابتداء اسمه بارئ.
" السين " سناؤه وسموه أي ارتفاعه، وابتداء اسمه سميع.
" الميم " ملكه ومجده ومننه على عباده الذين هداهم الله تعالى للإيمان، وابتداء اسمه مجيد.
" الله " معناه الخلق يألهون ويتألهون إليه أي يتضرعون إليه عند الحوائج ونزول الشدائد.
" الرحمن " العاطف على البر والفاجر بالرزق لهم ودفع الآفات عنهم.
" الرحيم " خاصة على المؤمنين بالمغفرة وإدخالهم الجنة، ومعناه الذي يستر عليهم الذنوب في الدنيا، ويرحمهم في الآخرة فيدخلهم الجنة (1) .
وفى سورة البقرة قال بأنها مدنية ويقال مكية، ثم بدأ تفسيرها بما يأتى:
{ألم} يقول: ألف الله، لام جبريل، ميم محمد، ويقال: ألف آلاؤه، لام لطفه، ميم ملكه، ويقال: ألف ابتداء اسمه الله، لام ابتداء اسمه لطيف، ميم ابتداء اسمه مجيد، ويقال: أنا الله أعلم، ويقال: قسم أقسم به.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} : أي هذا الكتاب الذي يقرأ عليكم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه أنه من عندى، فإن آمنتم به هديتم، وإن لم تؤمنوا به عذبتم. ويقال ذلك الكتاب يعنى اللوح المحفوظ، ويقال: ذلك الكتاب الذي وعدتك يوم الميثاق به أن أوحيه إليك، ويقال: ذلك الكتاب: يعنى التوراة والإنجيل، لا ريب فيه: لا شك فيه أن فيهما صفة محمد ونعته (2) .
_________
(1) انظر الصفحة الثانية من التفسير المذكور.
(2) انظر الصفحة الثالثة.(1/372)
نتيجة القراءة:
هذا بعض ما جاء في هذا التفسير المنسوب لابن عباس، ونلاحظ هنا ما يأتى:
1 ـ بادئ ذى بدء نذكر بأن الثابت عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في التفسير لا يكاد يزيد عن مائة حديث كما قال الإ مام الشافعى (1) ، وهذا الكتاب فيه تفسير لكل آيات القرآن الكريم!
2 ـ في هذا التفسير ـ كما نرى ـ ما لا يصح عن ابن عباس أو غيره من مفسري الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو أي أحد من الراسخين في العلم، وإنما بعضه أقرب إلى التفسير الباطني والإشاري الذي لا يستند إلى أي أساس علمي صحيح. وبعضه الآخر غير مقبول: كاحتمال أن تكون سورة البقرة مكية، وأن يكون المراد من {ذَلِكَ الْكِتَابُ} شيئاً غير القرآن الكريم.
3 ـ قال الحافظ ابن كثير في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم} : روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مسعر، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: بسم الله. قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: وما أدرى. قال له عيسى: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة ".
وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بابن زبريق، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبى مليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكره.
_________
(1) انظر الإتقان 2 / 189.(1/373)
وقال ابن كثير بعد هذا: وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم (1) .
وفى سورة البقرة قال ابن كثير في تفسير {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ... } : قال ابن جريج قال ابن عباس: ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدى ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج.
ثم قال: وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبى وغيره أن " ذلك " إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنزاله عليه، أو التوراة أو الإنجيل، أو نحو ذلك في أقوال عشرة، وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.
والكتاب القرآن، ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به (2) .
وفى كتاب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " قال السيوطي: أخرج ابن جرير، وابن عدى في الكامل، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبى، بسند ضعيف جداً عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. " وذكر ما نقلناه من قبل (3) .
_________
(1) انظر تفسير ابن كثير 1 / 17.
(2) انظر المرجع السابق 1 / 39.
(3) انظر الدر المنثور 1 / 8.(1/374)
وهذا الخبر الذي رفضه ابن كثير والسيوطى يرويه عطية عن أبى سعيد الخدرى: وعطية هذا هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى ".
تحدث عنه الإمام أحمد بن حنبل، وعن روايته عن أبى سعيد، فقال بأنه ضعيف الحديث، وأن الثورى وهشيماً كانا يضعفان حديثه، وقال: بلغنى أن عطية كان يأتى الكلبى فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبى سعيد، فيقول: قال أبو سعيد فيوهم أنه الخدرى.
وقال ابن حبان: سمع عطية من أبى سعيد الخدرى أحاديث، فلما مات جعل يجالس الكلبى، فإذا قال الكلبى: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، وروى عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثنى أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدرى، وإنما أراد الكلبى.
قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب (1) .
وتفسير تنوير المقباس يرويه الكلبى، مما يؤيد استبعاد أن يكون هذا الخبر لأبى سعيد الخدرى، ويؤكد ما ذكر عن عطية من أنه أخذ التفسير عن الكلبى الذي كناه بأبى سعيد ليوهم أنه الخدرى.
وفى تفسير الطبري. الذي حققه وعلق حواشيه أستاذنا العلامة محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه أخوه الأكبر الشيخ أحمد – رحمهما الله -، نجد الخبر المتعلق بالبسملة المذكور آنفاً، وفى الحاشية نجد في التخريج " هذا حديث موضوع، لا أصل له "، ثم تفصيلاً لبيان هذا الوضع، وإشارة وتعليقاً على ما ذكره ابن كثير والسيوطى (2) .
_________
(1) انظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وراجع ما كتبته عن عطية في الفصل الثالث من الباب السابق عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة.
(2) انظر الكتاب المذكور 1 / 121 ـ 122.(1/375)
ونخرج من هذا إلى أن بعض ما جاء في كتاب تنوير المقباس ساقط بالمرة، لا تصح نسبته إلى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبعضه ينقضه ويرده ما روى عن ابن عباس نفسه في التفسير من طرق مقبولة.
سلسلة الكذب:
الفيروز ابادى روى التفسير بإسناده عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس: وإذا نظرنا في هذا السند تبين لنا موضع الكذب على الصحابى الجليل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما. فمحمد بن مروان هو السدى الأصغر، كوفى:
قال عبد السلام بن حازم، عن جرير بن عبد الحميد: كذاب.
وقال الدورى، عن ابن معين: ليس بثقة.
وقال ابن نمير: ليس بشئ.
وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف غير ثقة.
وقال صالح بن محمد: كان ضعيفا، وكان يضع.
وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، متروك الحديث، لا يكتب حديثه ألبتة.
وقال ابن عدى: الضعف على رواياته بين.
وقال الجوزجانى: ذاهب.
وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً، ولا يحتج به بحال.
وقال أبو جعفر الطبري: لا يحتج بحديثه.
وقال عبد الله بن نمير: كان السدى كذاباً، ذكره ابن شاهين في الضعفاء.
وقال الساجى: لا يكتب حديثه.(1/376)
هذا بعض ما جاء في ترجمته (1) ، ولا خلاف حول جرحه، ومثل هذا الراوى يكفى لرد ما يروى عن طريقه، فما بالك إذا روى عن الكلبى؟
والكلبى هو محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن عبد الحارث بن عبد العزى، أبو النضر الكوفى.
اتفق ثقات أهل النقل على ذمه وترك الرواية عنه في الأحكام والفروع. قال الإمام أحمد: لا يحل النظر في تفسير الكلبى.
وقال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبى صالح أحاديث موضوعة.
وقال الجوزجانى: كذاب ساقط.
وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه اظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه. روى عن أبى صالح التفسير، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس؛ لا يحل الاحتجاج به.
وقال أبو صالح: إني لم أقرأ على الكلبى من التفسير شيئاً! ويبدو أن الكلبى نفسه في وقت من حياته أحس بفداحة جرمه، ولذلك قال فيما رواه عنه سفيان الثورى:
ما حدثت عن أبى صالح عن ابن عباس فهو كذب، فلا ترووه.
وقال ليث بن أبى سليم: كان بالكوفة كذابان: أحدهما الكلبى (2) ، والآخر السدى!
_________
(1) انظر ترجمته في تهذيب 9 / 436، ترجمة رقم 719 والسدى نسبة إلى سدة مسجد الكوفة، ومن الرواة السدى الكبير، وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة: أحسن حالاً من الصغير، متكلم فيه؛ وثقه بعضهم وضعفه وآخرون.
(2) انظر ترجمة الكلبى في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال ووفيات الأعيان ... 4 / 309 ـ 311، وطبقات المفسرين للداودى ـ ترجمة رقم 491.
ومما جاء في ترجمته أنه كان من أتباع عبد الله بن سبأ الذين يقولون إن علياً لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها! *
* وفيها أنه اعترف بأنه سبئى، وقال: كان جبرائيل يملى الوحي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلاء جعل يملى على على!!(1/377)
فسلسلة الكذب (1) إذن قد اجتمعت في إسناد هذا التفسير الذي طبع مرات وانتشر بين المسلمين!! غير أن الأستاذ الشيخ محمد حسين الذهبى ـ رحمه الله ـ قد نبه من قبل، وبين هذا الكذب (2) .
والكتاب على أي حال لا تصح نسبته إلى ابن عباس، ولا يمثل التفسير في عصر الصحابة رضي الله عنهم.
موقف الشيعة من تفسير الصحابة:
ويبقى هنا أن نقول بأننا قد عرفنا منزلة التفسير الذي يثبت عن الصحابة الكرام عند جمهور المسلمين، وأن بعض هذا التفسير قد يأخذ حكم المرفوع.
أما موقف الشيعة فلا يتفق مع الجمهور.
فإذا كان الصحابة من أئمتهم الاثنى عشر فتفسيرهم كتفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أدنى فرق، لأن لهم ما للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العصمة، وما يثبت عنهم يعتبر داخلاً في مفهوم السنة عند الجعفرية كما ذكرنا في نهاية الحديث عن تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وينطبق هذا على ثلاثة من الصحابة هم: على بن أبى طالب، وابناه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم.
ولا خلاف حول هذا الحكم بين الجعفرية، فهم مجمعون عليه، أما الخلاف فواقع بالنسبة لغير الثلاثة:
فبعض المفسرين يذكر آراء الصحابة ويروى عنهم، وهؤلاء قلة نادرة، أما أكثر مفسرى الجعفرية فإنهم يطعنون في الصحابة الكرام، بل يكفرون من رضي
_________
(1) تحدث السيوطي عن جيد الطرق عن ابن عباس، ثم قال: " وأوهى طرقه طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدى الصغير فهى سلسلة الكذب " " الإتقان 2 / 189 ".
(2) راجع كتابه " التفسير والمفسرون " 1 / 82.(1/378)
الله عنهم ورضوا عنه كما سيأتى بالتفصيل في تناولنا لكتب التفسير عندهم، وإنما أردنا إشارة سريعة قبل ترك الحديث عن تفسير الصحابة. ولعل هذا الأمر يزداد وضوحاً عندما نتحدث عن الجرح والتعديل عند الجعفرية، فعلى سبيل المثال: إذا نظرنا في كتاب تنقيح المقال في أحوال الرجال، وهو من أشهر كتب الجرح والتعديل عندهم، ولمؤلفه عبد الله المامقانى منزلة وأى منزلة! إذا نظرنا في هذا الكتاب رزئنا بالآتى:
عثمان بن عفان الأموى خليفة العامة ـ أي عامة المسلمين غيرهم ـ ضعيف.
عبد الله بن عمر بن الخطاب: خبيث، ضعيف.
عبد الرحمن بن عوف من أضعف الضعفاء.
المغيرة بن شعبة: في غاية الضعف.
معاوية بن أبى سفيان: زندقته أشهر من كفر إبليس.
نعمان بن بشير الأنصارى: من أضعف الضعفاء.
خالد بن الوليد: صحابى لعين
وهكذا!! (1)
_________
(1) راجع ترجمة هؤلاء وغيرهم في الكتاب المذكور، وبإذن الله جلت عظمته سنتحدث بالتفصيل عن الجرح والتعديل عند الجعفرية في الباب التالى عن السنة المطهرة.(1/379)
الفصل الرابع: تفسير التابعين
حاجة التابعين إلى التفسير:
التابعون ـ رضي الله عنهم ـ جاءوا بعد عصر التنزيل فكانوا أكثر حاجة إلى التفسير ممن شهدوا نزول القرآن الكريم، وفيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لهم ما نزل إليهم.
فكان على التابعين أن يتعلموا من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ما أخذوه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما شاهدوه من أسباب النزول، وما فهموه وعملوا به من أي الذكر الحكيم.
والصحابة الكرام بدورهم ما كانوا ليكتموا علماً تعلموه، أو فهماً فهموه، سواء منهم من استقر في مواطن التنزيل، ومن رحل إلى الأمصار الإسلامية التي فتحت.
جلس التابعون يستفسرون من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى أن بعضهم كان يجلس إلى الصحابى ومعه الألواح يستفسر عن كل ما هو في حاجة إليه من فاتحة الكتاب الكريم إلى نهاية آياته البينات (1) . قال مجاهد بن جبر: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيما نزلت وكيف كانت (2) .
_________
(1) عن ابن أبى مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: " اكتب "، حتى سأله عن التفسير كله. انظر دقائق التفسير 1 / 81.
(2) انظر الإتقان 2 / 189.(1/380)
مدارس التفسير:
واشتهر في ذلك العصر ثلاث مدارس للتفسير، إحداها بمكة المكرمة، والثانية بالمدينة المنورة، والثالثة بالكوفة.
قال ابن تيمية: " أما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم. وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن " (1) .
وشهرة هذه المدارس لا يعنى أن باقى الصحابة الكرام لم يجلسوا إلى تابعيهم يعلمونهم، أو أن التابعين لم يلجئوا لباقى الصحابة.
نواة التدوين:
مع أن التفسير ظل يحمل طابع التلقى والرواية، إلا أن نواة التدوين ظهرت في بعض الجهود الفردية، حيث كان بعض التابعين يكتب ما يسمع، وما يفهم نتيجة تمكنه من اللغة، ومعرفته بأساليب القول.
وتفسير التابعين نراه مبثوثاً في كتب التفسير التي جاءت بعد ذلك كتفسير الطبري، وفى بعض كتب السنة. والمشهور أن لكل من سعيد بن جبير، ومجاهد
_________
(1) دقائق التفسير 1 / 57. ورجح المرحوم الشيخ الذهبى قيام مدرسة المدينة على أبى بن كعب ـ راجع ما كتبه بإسهاب عن المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، في كتابة " التفسير والمفسرون " ... 1 / 100 ـ 127.(1/381)
ابن جبر، تفسيراً مدوناً (1) .
غير أن الأول لم يصلنا تفسيره هذا حتى الآن، أما مجاهد فعثر على مخطوطة لتفسيره، ونسخت في القرن السادس الهجرى، وهيأ الله تعالى لها من يحققها، ويخرجها كتاباً للناس (2) .
ولعلنا بدراسة هذا التفسير نأخذ صورة عامة لما كان عليه التفسير في عهد التابعين.
تفسير مجاهد:
من دراسة التفسير نلاحظ ما يأتى:
أولا: التفسير، وإن تناول السور الكريمة كلها تقريبا (3) غير أنه لم يفسر إلا بعض الآيات فقط وهى ليست كثيرة وإن كانت أكثر مما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذه نتيجة متوقعة، فكلما بعد الناس عن عصر التنزيل كلما احتاجوا إلى المزيد من التفسير والبيان.
_________
(1) ويذكر أن لغيرهما كذلك تفاسير، منهم: رفيع بن مهران أبو العالية الرياحى، والضحاك ابن مزاحم، والحسن البصرى، وعطاء بن أبى رباح، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم من التابعين كما نرى في تراجمهم.
" راجع ترجمة من سبق وغيرهم في طبقات المفسرين للداودى ".
(2) حقق هذه المخطوطة الأستاذ عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتى " مجمع البحوث الإسلامية بباكستان ".
وحققها كذلك الأخ الصديق الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام.
واعتمد كل من المحققين على نسخة واحدة لم يعثرا على غيرها، وذكرت لزميلى الدكتور محمد بأن دار الكتب المصرية فيها نسختان ولعل كلا من الأخوين يرجع إلى النسخة الثانية ليستفاد منها في طبعات تالية إن شاء الله تعالى.
(3) قال الدكتور محمد عبد السلام في وصف المخطوطة:
ليست كلها عن مجاهد وإنما بها قدر غير يسير عن غيره، بل هناك سور بتمامها لم يذكر شئ عن مجاهد في تفسيرها، وهى: المعارج، نوح، المدثر، القيامة، الدهر، التكاثر، القارعة. ولم يأت بالمخطوطة تفسير للفاتحة، ولا لسورة " الكافرون ".(1/382)
ثانيا: معظم ما في التفسير بيان لمعانى كلمات، وهذا يعنى أن التابعين كما كانوا لا يفسرون الآيات التي يظنونها واضحة المعنى، كانوا كذلك يتناولون الآيات التي يرون الحاجة إلى تفسيرها، ويكتفون ببيان معاني الكلمات التي يتوقف عليها فهم المعنى.
على أنا نجد أن بعض الكلمات القرآنية المفسرة أوضح معنى بالنسبة لنا من كلمات التفسير. مثال هذا ما جاء في تفسيره لسورة الذاريات:
عن مجاهد قال: " المحروم ": المحارف.
وعنه: " فجاء بعجل " يقول: حسيل.
ولعل هذا يرجع إلى أن بعض الكلمات تشيع في عصر دون عصر، ... ككلمتى: المحارف وحسيل، شاعتا في عصره وكادتا لا تظهران في عصرنا.
ثالثا: في تفسير بعض الآيات الكريمة وتوضيح معناها نرى الحديث عن أسباب النزول، مثال هذا ما جاء في تفسير سورة الرعد:
عن مجاهد: قال كفار قريش، يا محمد، سير لنا جبالنا فتتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة، أو قرب لنا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم، فأنزل الله عزوجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} إلى آخر الآية.
وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ... } قال: قالت قريش حين أنزل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ... } ما نراك يا محمد تملك من شئ، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ... } تخويفاً ووعيداً لهم، أي إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ويحدث في كل شهر(1/383)
رمضان فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء: أرزاق الناس، ومصائبهم، وما يقسم لهم.
رابعا: وفى التفسير نرى أحياناً الإشارة الى النسخ: ففي سورة النساء مثلاً:
عن مجاهد في قوله: " فئاذوهما " يعنى سبَّاً، ثم نسختها {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... } " 2: النور ".
خامسا: في بعض الحالات نرى خلافاً بين مجاهد وأستاذه ابن عباس، أو بين مجاهد وغيره من التابعين.
سادسا: يتعرض التفسير أحيانا لبعض الأحكام الفقهية، مثال هذا ما جاء في سورة النساء من الحديث عن صلاة الخوف وهو ما يلى: عن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ... } وذلك يوم كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعسفان، والعدو بضحنان، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه الظهر أربع ركعات، ركوعهم وسجودهم وقيامهم وقعودهم جميعاً، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم إذا قاموا للعصر، فأنزل الله عزوجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ ... } إلى آخر الآية. فصف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه خلفه صفين، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، ثم سجد الأولون بسجود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآخرون قيام، ثم سجد الآخرون، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف الأول، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصرت صلاة العصر ركعتين.
سابعا: بدت الإسرائيليات واضحة في هذا التفسير! وأكثرها يتصل بنبيين هما: موسى وسليمان ـ عليهما السلام.(1/384)
هذا ما بدا لي عندما قرأت تفسير مجاهد، ثم أتحفنى زميلى المفضال الدكتور محمد عبد السلام برسالته للدكتوراه " تفسير مجاهد بن جبر " وفى هذه الرسالة جعل الباب الثاني لبيان منهج مجاهد في التفسير.
أشار في بداية الباب أن المفسرين من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا قدراً يسيراً من آياته، وأنهم كانوا يقتصرون على توضيح المعنى اللغوى بأوجز لفظ، مع ندرة ما يستنبط من الأحكام الفقهية، وذكر لسبب النزول، وأخذ عن أهل الكتاب في حدود ما سمح به.
ثم قال:
وهذا كان منهج ابن عباس كبير مفسرى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا نحن تتبعنا تفسير تلميذه مجاهد، وجدناه ينهج هذا النهج، ويزيد عليه بما يلى:
1 ـ زيادة القدر المفسر من الأحكام.
2 ـ كثرة ما استنبط من الأحكام.
3 ـ بذر نواة المذاهب الفقهية والكلامية، ولذا وجدنا الشافعى يعتمد على مجاهد في فقهه، والمعتزلة أيضاً يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه من القول بعدم رؤية الله عز وجل.
4 ـ التوسع في الاتصال بأهل الكتاب وسؤالهم.
قال: والمدقق في تفسير مجاهد يجده قد أفاد كثيراً من أستاذه ابن عباس، واقتفى أثره ووافقه في تفسير العديد من الآيات، كما أنه كان يخالفه أحياناً، وأبرز تلك المخالفة قول مجاهد بالرأى في بعض الآيات فمنهج مجاهد هو:
توضيح المعنى اللغوى بأوجز عبارة، مع ذكر سبب النزول، واستنباط الأحكام، والأخذ عن أهل الكتاب، والقول بالرأى في حدود ما سمح به. ا. هـ.
وإن كان لتفسير التابعين منزلته غير أنه ليس بحجة إلا عند إجماعهم، فإذا اختلفوا فليس قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من جاء بعدهم.(1/385)
والشيعة الاثنا عشرية يجعلون العصمة لاثنين من التابعين، هما: على بن الحسين زين العابدين، المتوفى سنة 95، وابنه محمد: أبو جعفر الباقر، المتوفى سنة 114، أما غير أئمتهم فلا وزن لتفسيرهم عند الشيعة.(1/386)
الفصل الخامس: أحسن طرق التفسير
بعد أن انتهينا من الحديث عن تفسير التابعين، وقد ذكر الأخذ عن أهل الكتاب، والتفسير بالرأى، نرى أن نقف هنا وقفة عند أحسن طرق التفسير كما يراه غالب الجمهور.
وفى هذه الوقفة بيان لقيمة التفسير المأثور عن التابعين، وحديث عن الإسرائيليات، والتفسير بالرأى، وهو ما كان يلزمنا أن نبينه بعد الحديث عن تفسير التابعين، فهذه الوقفة إذن تغنينا عن التكرار. ولعل أنسب ما نثبته هنا هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أيضاً" ما قاله الحافظ ابن كثير، وحاول الالتزام به في تفسيره.
قال ابن تيميه رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير من فتاواه "ص363: 375 " وطبعت المقدمة كاملة في كتاب مستقل:
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة:
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أجمل ... في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له؛ ... بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى: كل ما حكم به ... رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(1/387)
وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعنى السنة.
والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن؛ لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى. قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله "، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد.
أقوال الصحابة:
وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: " مثل عبد الله ابن مسعود "، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش عن أبى الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناوله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضاً، عن أبى وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.(1/388)
ومنهم الحبر البحر " عبد الله بن عباس "، ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ". وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس. ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش، عن أبى وائل: استخلف على عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفى رواية سورة النورـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
الإسرائيليات:
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: " بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
" أحدها " ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
و" الثاني " ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
و"(1/389)
الثالث " ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتى عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغى في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا ... } أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن(1/390)
الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور، والله الموفق للصواب.
أقوال التابعين:
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين " كمجاهد بن جبر " فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا إبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمتة، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، وبه قال الترمذى، قال: حدثنا الحسين بن مهدى البصرى، حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة. قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً، وبه إليه قال: حدثنا ابن أبى عمر، حدثنا سفيان بن ... عيينة، عن الأعمش، قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكى، عن ابن أبى مليكة، قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اِكتب، حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان سفيان الثورى يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبى رباح، والحسن البصرى، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبى العاليه، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها(1/391)
من لا علم عنده اختلافاً، فيحكيها أقوالا، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشىء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشىء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبه بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
التفسير بمجرد الرأى حرام:
فأما " تفسير القرآن بمجرد الرأى فحرام، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ".
حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ". وبه إلى الترمذى قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنى حسان بن هلال قال: حدثنا سهيل ـ أخو حزم القطعى، قال: حدثنا أبو عمران الجونى، عن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "، قال الترمذى هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهل بن أبى حزم.
وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم،(1/392)
أو من قبل أنفسهم، وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت بالأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر؛ لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم. وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به. والله أعلم.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبى معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟!
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمود بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمى، أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله:
{وَفاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ـ منقطع.
وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس، أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن يزيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفى ظهر قميصه أربع(1/393)
رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟ .
وهذا كله محمول على أنهما ـ رضي الله عنهما ـ إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} .
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن ... أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها. إسناده صحيح. وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبى مليكه، قال: سأل رجل ابن عباس عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ؟ فقال الرجل إنما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس، هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. وقال ابن درير: حدثنى يعقوب ـ يعنى ابن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن مهدى بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن. فقال أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عنى، أو قال: أن تجالسنى، وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال إنا لا نقول في القرآن شيئاً.
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألنى عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء، يعنى عكرمة. وقال ابن شوذب: حدثنى يزيد بن أبى(1/394)
يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثنى أحمد بن عبده الضبى، حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث، عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبى تأول آية من كتاب الله قط. وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائى، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلمانى عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة، عن عبد الله بن أبى السفر، قال: قال الشعبى: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، أنبأنا عمر بن أبى زائدة، عن الشعبى، عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
التفسير بالرأى عن علم:
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله(1/395)
تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} ، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامه بلجام من نار ".
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن أبى الزناد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. " انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية "(1/396)
الفصل السادس: التفسير في القرن الثاني
وفى القرن الثاني الهجرى بدأ عصر التدوين. ونحن نعلم أن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز أمر بجمع السنة وتدوينها، وخلافته كانت في العام التاسع والتسعين من القرن الأول، وتوفى في العام الأول من القرن الثاني، وأول من استجاب له ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 هـ، وتبعه آخرون، وشاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقته، وكان التفسير كما عرفنا باباً من أبواب السنة، ومن هنا كان جمعه وتدوينه. ولم يصلنا مما دُوِن في ذلك القرن إلا القليل: كموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام الشافعى، ومسند أبى داود الطيالسى المتوفى سنة204هـ، وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيبانى صاحب الإمام أبى حنيفة.
غير أن هذا القرن شهد التفسير كعلم قائم بذاته، ونتحدث هنا عن ثلاثة كتب هي: التفسير الكبير لمقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، وتفسير يحيى بن سلام المتوفى سنة 200 هـ، ومعانى القرآن لأبى زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفى سنة 207 هـ.
أولاً: تفسير مقاتل بن سليمان
هذا أول تفسير يصلنا حتى الآن يفسر جميع أي القرآن الكريم، والراجح أن أحداً لم يسبقه في هذا المجال. وسفيان الثورى الذي توفى بعد مقاتل بأحد عشر عاماً طبع تفسيره في مجلد واحد، وهو أقرب ما يكون إلى تفسير مجاهد (1) ، مما يرجح أن طريقة تفسير بعض الآيات والكلمات هي التي كانت لا تزال سائدة
_________
(1) عبد الرحمن السورتى محقق تفسير مجاهد كثيراً ما نراه يشير إلى تفسير سفيان الثورى في الحاشية.(1/397)
في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين.
في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين.
ومع سبق مقاتل، وضخامة تفسيره الذي يقع في أربعة مجلدات، إلا أن هذا التفسير لم يحتل مكانة علمية عند جمهور العلماء، وذلك لأن مقاتلاً مجروح؛ متهم بالكذب، والتجسيم، وكثرة النقل عن أهل الكتاب.
وليس لهذا التفسير من قيمة إلا بمقدار صحة ما فهمه هو من معاني الآيات الكريمة، ولهذا قال الذهبى عنه: متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم، بحراً في التفسير. ويروى عن الشافعى ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير ابن أبى سلمى في الشعر، وعلى أبى حنيفة في الكلام (1) .
ثانياً: تفسير يحيى بن سلام
المؤلف والكتاب: يحيى بن سلام بن أبى ثعلبة التميمى ـ مولى لهم ـ يكنى أبا ذكريا، بصرى، قدم مصر وصار إلى إفريقيا وسكنها، وحج منها، وتوفى بمصر بعد رجوعه من الحج في صفر سنة مائتين.
قال ابن الجزرى في ترجمته ليحيى:
صاحب التفسير. روى الحروف عن أصحاب الحسن البصرى عن الحسن ابن دينار وغيره.
وله اختيار في القراءه من طريق الآثار.
روى عن حماد بن سلمة، وهمام بن يحيى، وسعيد بن أبى عروبة.
_________
(1) انظر ترجمة مقاتل بن سليمان في تهذيب التهذيب 10 / 279: 285 وطبقات المفسرين للداودى 2 / 330 ـ 331.(1/398)
قال الدانى: ويقال أنه أدرك من التابعين نحواً من عشرين رجلاً وسمع ... منهم، وروى عنهم.
نزل المغرب، وسكن أفريقيا دهراً، وسمع الناس بها كتابه في تفسير القرآن، وليس لأحد من المتقدمين مثله، وكتابه الجامع.
وكان ثقة ثبتاً، ذا علم بالكتاب والسنة، ومعرفة اللغة العربية، وكان صاحب سنة، وسمع منه بمصر عبد الله بن وهب، ومثله من الأئمة (1) .
وفى ترجمته في لسان الميزان قال ابن حجر:
حدث بالمغرب عن سعيد بن أبى عروبة ومالك وجماعة.
ضعفه الدارقطنى. وقال ابن عدى: يكتب حديثه مع ضعفه، روى عنه بحر ابن نصر وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال سعيد بن عمرو البردعى: قلت لأبى زرعة في يحيى بن سلام المغربى: فقال: لا بأس به، ربما وهم. وقال أبو حاتم الرازى: كان شيخا بصرياً وقع إلى مصر، وهو صدوق. وقال أبو العرب في طبقات القيروان: كان مفسراً، وكان له قدر ومصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ، من خيار خلق الله (2) .
نقرأ ما سبق عن يحيى وعن تفسيره، ولكن أين هذا التفسير؟ وما منهجه؟ ولماذا قيل: ليس لأحد من المتقدمين مثله؟
ما كنت أدرى عن هذا التفسير شيئاً.
ونحن نعرف أن القرن الثاني شهد طائفة من الأئمة تكلموا في الجرح والتعديل، وكان لهذا أثره في جمع الأخبار، مع التصحيح والتضعيف والترجيح،
_________
(1) غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبى الخير محمد بن محمد ابن الجزرى ... 2 / 373 ترجمة رقم 3848. وانظر طبقات المفسرين للداودى 2 / 371 ترجمة رقم 685.
(2) انظر ترجمته أيضاً في ميزان الاعتدال للذهبى.(1/399)
ولكن ما كنت أعرف أحداً سبق محمد بن جرير الطبري إلى هذا في مجال التفسير كعلم مستقل، مع أن الطبري عاش في القرن الثالث وتوفى أوائل الرابع" 224: 310 " غير إني عندما قرأت كتاب " التفسير ورجاله " لعالم تونس الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وجدته يتحدث عن تفسير يحيى بن سلام. وأورد هنا ما كتبه ذلك العالم الفاضل ليستفيد القارئ كما استفدت، وحتى تكون الحلقة متصلة عندما نأتى للحديث عن تفسير الطبري.
منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني:
تحدث الشيخ عن منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني الهجرى فقال:
كانت أول التفاسير ظهوراً في النصف الثاني من القرن الثاني بعد كتاب عبد الملك بن جريج ـ التفاسير المتوخيه طريقة جمع الأقوال ـ بحسب ما انتهى إلى مؤلفيها من طرق الإسناد.
وقد اقتضى ذلك لا محالة اشتمال الكتاب الواحد، في الآية الواحدة على أخبار متخالفة، وآثار متفاوتة الدرجات من حيث مظنة الثبوت لقوة الأسانيد وضعفها. فتطلب ذلك رجوعاً إلى تلك الأخبار بالنقض والتمحيص، ليوضع منها ما يوضع على بساط الطرح والتزييف، ويثبت منها ما يثبت على مدرجة الاعتماد والتحصيل.
لا سيما وقد انتهى الكثير منها إلى المؤلفين متبعاً لتعاليق نقدية اتصلت بها وصارت ذيولا لها، منذ أن كانت متناقلة بالطريق الشفهى، قبل أن تدخل حيز التدوين.
فأصبح موقف المؤلفين حيال تلك الأخبار، مثل موقف مصنفى السنة من مختلف الحديث، وموقف الفقهاء من متعارض فتاوى فقهاء الصحابة والتابعين، موقفاً يستدعى إدخال عناصر جديدة من المعارف المتصلة بتوضيح البحث، ثم(1/400)
إدخال عنصر شخصى من النقد والتقدير، والإسقاط والتحصيل، أو الجمع والتأويل، ينتهى إلى حكم موضوعى فاصل بحسب اجتهاد المؤلف، وتقديره، تتخذ له تلك الأخبار المتخالفة أسانيد ومقومات للاستنتاج كما يتخذ مجموع البينات المتعارضة مع ما يتصل بها من وسائل الإثبات سنداً لقضاء القاضى.
وكانت أهم العناصر المرجوع إليها، بالإضافة إلى عنصر الروايات الواردة، عنصرين يتصلان مباشرة باللفظ القرآنى: هما عنصر القراءة وعنصر الإعراب.
حلقة الاتصال بين القرنين الأول والثالث:
وبعد أن تحدث عن العنصرين، وصلة كل منهما بالتفسير، قال:
" وإنه لمما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام: أن الذين يشيرون إلى هذه الطريقة وخصائصها من الكاتبين حديثاً في تاريخ التفسير، يبادرون إلى ضرب المثل بتفسير محمد بن جرير الطبري، فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث، وصاحبه توفى أوائل القرن الرابع، والحال أن الحلقه التي يتم بها اتصال السلسلة وضاعت عن الكاتبين المحدثين في تاريخ التفسير: من المستشرقين وغير المستشرقين، هي حلقة أفريقية تونسية، بالوقوف عليها يتضح كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري، ويتضح لمن كان الطبري مديناً له بذلك المنهج الأثرى النظرى الذي درج عليه في تفسيره العظيم.
وإنما نعنى بهذا تفسيراً جليلاً من صميم آثار القرن الثاني، وهو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، ألف بالقيروان وروى فيها، وبقيت نسخته الوحيده بين تونس والقيروان، وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير(1/401)
النقدى، أو الأثرى النظرى التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري واشتهر بها.
ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمى البصرى الأفريقى المتوفى سنة 200، وهو تفسير يقع في ثلاثين جزءاً من التجزئة القديمة، أي في ثلاث مجلدات ضخمة، مبنى على إيراد الأخبار مسندة، ثم تعقبها بالنقد والاختيار. فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحاً إسنادها بقوله: " حدثنا " يأتى بحكمه الاختيارى مفتتحاً بقوله: " قال يحيى "، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوى، والتخريج الإعرابى، ويتدرج من اختيار المعنى إلى اختيار القراءة التي تتماشى وإياه، مشيراً إلى اختياراته في القراءة بما يقتضى أن له رواية أو طريقاً لا يبعد أن تكون راجعة إلى قراءة أبى عمرو بن العلاء البصرى، لأن يحيى بن سلام بصرى النشأة، وإلى طريقه المختار في القراءة يشير في تفسيره بقوله: " والذى في مصحفنا ".
وقد نص ابن الجزرى على أن هذا الكتاب سمع من مؤلفه بإفريقيا، وشهد بأنه كتاب ليس لأحد من المتقدمين مثله، وكذلك نقل عن إمام القراءات أبى عمرو الدانى أنه قال: " ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن سلام ". وذلك ينطق بسبقه إلى طريقه، وابتكاره منهجاً. وقد تلقى هذا التفسير عن مؤلفه فقيه أفريقى هو أبو داود العطار المتوفى سنة 244.
وتوجد من هذا التفسير لبلادنا التونسية نسخة عظيمة القدر موزعة الأجزاء، نسخت منذ ألف عام تقريبا، منها: مجلد يشتمل على سبعة أجزاء بالمكتبة العبدلية بجامع الزيتونة الأعظم، وآخر يشتمل على عشرة أجزاء بمكتبة جامع القيروان، ومن مجموعهما يتكون نحو الثلثين من جملة الكتاب. ويوجد جزء آخر لعله يتمم بعض نقص النسخة، هو من المقتنيات الخاصة لبعض العلماء الأفاضل.
ولعل فذاذة هذه النسخة التونسية هو الذي يعتذر به للذين أهملوا شأن ابن سلام في مراحل التفسير، وإن كان التعريف بها حاصلاً منذ أكثر من خمسين سنة،(1/402)
في الجزء الأول من الفهرس التفصيلى للمكتبة العبدلية، وقد أخذت عنها صور لمعهد المخطوطات العربية، وكثير من دور الكتب في المشرق ... والمغرب " ا. هـ.
من كلام الشيخ محمد الفاضل بن عاشور نرى أن التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني لم يختلف عن الحديث في الاستفادة من الجرح والتعديل، وسلك منهج التصحيح والتضعيف والترجيح. ونسأل الله تعالى أن يهيئ لكتاب التفسير هذا من يحققه ويخرجه للمسلمين.
ثالثاً: معاني القرآن للفراء
الفراء وإملاء الكتاب:
الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمى، ولد بالكوفة سنة 144 هـ، ونشأ بها وتربى على شيوخها، ومنزلته العلمية معروفة: لقب بأمير المؤمنين في النحو، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائى. واستقر به المقام في بغداد، وتوفى سنة 207 هـ.
وفى بداية الكتاب يقول راويه أبو عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السمرى:
" هذا الكتاب فيه معاني القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ـ يرحمه الله ـ عن حفظه من غير نسخة، في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات والجمع في شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. قال: حدثنا محمد بن الجهم، قال: حدثنا الفراء، قال:
تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانية " ا. هـ.(1/403)
الهدف والمنهج:
ومن العنوان الذي اختاره الفراء يتضح الهدف من أماليه، فهو لا يريد تفسير القرآن الكريم آية آية، وإنما يقف عند بعض الآيات الكريمة ليفسر مشكل الإعراب والمعانى. ولذلك رأينا الكتاب يزخر بمناقشات نحوية مستفيضة، ووقفات لغوية.
وهذا التفسير يعتمد على تمكن صاحبه من اللغة، ومعرفته بأساليبها، وإمامته في النحو، ومعرفته بلهجات العرب، وبالقراءات المختلفة.
ولا نكاد نجد فيه اهتماماً بذكر الأخبار المروية عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الصحابة أو التابعين.
ومثل هذا التفسير لا يعد من التفسير المأثور، ولعله أول كتاب يصلنا في التفسير العقلى، وقيمته العلميه تستند إلى مدى التزامه بالمنهج العلمى المقبول لمثل هذا النوع من التفسير، وتمكنه من أدواته ووسائله. ولنذكر شيئا من هذا التفسير يوضح منهجه.
بعد قول الفراء السابق " تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه " قال:
فأول ذلك اجتماع القراء وكتاب المصاحف على حذف الألف من
{بسم الله الرحمن الرحيم} وفى فواتح الكتب، وإثباتهم الألف في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ... وأخذ يبين سبب هذا، ثم انتقل إلى تفسير أم الكتاب فقال: قوله تعالى: {الْحَمْد للهِ} .
اجتمع القراء على رفع الحمد. وأما أهل البدو فمنهم من يقول: {الْحَمْدَ للهِ} ومنهم من يقول {الْحَمْدِ للهِ} . ومنهم من يقول {الْحَمْدُ للهِ} . فيرفع الدال واللام.(1/404)
وقال: " فأما من نصب ... " وبين وجه كل من الحالات المذكورة.
ثم قال: " عليهُم " و" عليهِم ": وهما لغتان، لكل لغة مذهب في العربية.
وفصل في بيان سبب ضم الهاء وكسرها، ثم قال:
وقوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} .
بخفض " غير " لأنها نعت للذين.
وبعد أن بين سبب ضبط كلمة " غير " قال:
وأما قوله تعالى: {وَلاَ الضَّالِّينَ} فإن معنى " غير " معنى " لا "، فلذلك ردت عليها " ولا " ... إلخ.
وهكذا سار الفراء في تفسيره لفاتحة الكتاب (1) .
وعند تفسير سورة النور قال:
ومن سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم: قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ترفع السورة بإضمار هذه سورة أنزلناها. ولا ترفعها براجع ذكرها لأن النكرات لا يبتدأ بها قبل أخبارها، إلا أن يكون ذلك جواباً؛ ألا ترى أنك لا تقول: رجل قام، إنما الكلام أن تقول: قام رجل. وقبح تقديم النكرة قبل خبرها أنها توصل ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة. فيقال: رجل يقوم أعجب إلىّ من رجل لا يقوم: فقبح إذ كنت كالمنتظر للخبر بعد الصلة. وحسن في الجواب؛ لأن القائل يقول: من في الدار؟ فتقول: رجل، وإن قلت: رَجُلٌ فيها فلا بأس؛ لأنه كالمرفوع بالرد لا بالصفة.
_________
(1) راجع التفسير في ج 1 ص 3 ـ 8.(1/405)
ولو نصبت السورة على قولك: أنزلناها سورة وفرضناها كما تقول: مجرداً ضربته كان وجهاً. وما رأيت أحداً قرأ به (1) .
وفى سورة النمل قال الفراء:
وقوله: {إِنِّي لَا يخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ... } ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} فهذا مغفور له. فيقول القائل كيف صُير خائفاً؟ قلت: في هذه وجهان: أحدهما أن تقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة. ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً يخاف ويرجو: فهذا وجه. والآخر أن تجعل الاستثناء من الذين تُركوا في الكلمة؛ لأن المعنى: لا يخاف المرسلون إنما الخوف على غيرهم.
ثم استثنى فقال: إلا من ظلم فإن هذا لا يخاف، يقول: كان مشركاً فتاب وعمل حسناً فذلك مغفور له ليس بخائف.
وقد قال بعض النحويين: إن " إلا " في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لدى المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً، وجعلوا مثله قول الله: {لِئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ... } أي ولا الذين ظلموا. ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأنى لا أجيز قام الناس إلا عبد الله، وهوقائم؛ إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. وقد أراه جائزاً أن تقول: عليك ألف سوى ألف آخر، فإن وضعت " إلا " في هذا الموضع صلحت وكانت " إلا " في تأويل ما قالوا. فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا. ولكن مثله مما يكون في معنى إلا كمعنى الواو وليست بها.
_________
(1) راجع ص 243، 244.(1/406)
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ... } هو في المعنى: إلا الذي شاء ربك من الزيادة. فلا تجعل إلا " في منزلة " الواو ولكن بمنزلة سوى. فإذا كانت سوى في موضع إلا صلحت بمعنى الواو؛ لأنك تقول: عندى مال كثير سوى هذا، أي وهذا عندى؛ كأنك قلت: عندى مال كثير وهذا. وهو في سوى أنفذ منه في إلا لأنك قد تقول: عندى سوى هذا، ولا تقول: إلا هذا (1) .
وفى سورة سبأ:
وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} " 17 " هكذا قرأه يحيى وأبو عبد الرحمن أيضاً. والعوام: {وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} . وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} موضع " ذلك " نصب بـ " جزيناهم ".
يقول القائل: كيف خص الكفور بالمجازاة والمجازاة للكافر وللمسلم وكل واحد؟ فيقال: إن جازيناه بمنزلة كافأناه والسيئة للكافر بمثلها وأما المؤمن فيجزى لأنه يزاد ويتفضل عليه ولا يجازى. وقد يقال: جازيت في معنى جزيت، إلا أن المعنى في أبين الكلام على ما وصفت لك؛ ألا ترى أنه قد قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} ولم يقل {جاَزَيْنَاهُم} وقد سمعت جازيت في معنى جزيت وهى مثل عاقبت وعقبت، الفعل منك وحدك. وبناؤها ـ يعنى ـ فاعلت على أن تفعل ويفعل بك (2) .
_________
(1) ج 2 ص 287 ـ 288.
(2) ج 2 ص 359.(1/407)
وأكتفى بهذا القدر، ولعله ـ مع قلته ـ يبين منهج الفراء في تفسيره، وقيمته العلمية.
*****(1/408)
الفصل السابع: القرن الثالث وتفسير الطبري
القرن الثالث الهجرى يعتبر العصر الذهبى بالنسبة لتدوين السنة؛ فقد شهد ميلاد مسند الإمام أحمد والصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وسنن أبى داود، والترمذى، وابن ماجه، والنسائى، وغيرها من كتب السنة.
ومع أننا رأينا التفسير علماً قائماً بذاته، إلا أن رجال الحديث كانوا يدونون الأخبار المتصلة بالتفسير مع غيرها من الأخبار، فكان هذا خيراً عظيماً بالنسبة للتفسير.
وإلى جانب هذا فإن أعظم كتاب في التفسير ظهر في هذا القرن، وهو تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري، المسمى " جامع البيان عن تأويل أي القرآن ".
الطبري: علمه وكتبه:
الطبري هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير. وهو ـ كما قال الذهبى ـ الإمام العالم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، من أهل آمل طبرستان. مولده سنة أربع وعشرين ومئتين، وطلب العلم بعد الأربعين ومئتين، وأكثر الترحال، ولقى نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً، وذكاء، وكثرة تصانيف، قل أن ترى العيون مثله (1) .
كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة، وغير ذلك (2) .
_________
(1) سير أعلام النبلاء 14 / 267.
(2) المرجع السابق 14 / 270.(1/409)
ونقل الذهبى وابن كثير وابن حجر قول الخطيب في تاريخه عن الطبري: كان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره: فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعانى، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في " أخبار الأمم وتاريخهم "، وله كتاب: " التفسير " لم يصنف مثله ... إلخ (1) .
وقال ابن كثير: روى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع، ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ... إلخ (2) .
وقال السيوطي: رأس المفسرين على الإطلاق، أحد الأئمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره
ثم قال: وله التصانيف العظيمة، منها: " تفسير القرآن "، وهو أجل التفاسير، لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء قاطبة، منهم النووى في تهذيبه، وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية، ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده.. إلخ (3) .
_________
(1) انظر المرجع السابق 14 / 269، والبداية والنهاية 11 / 145، ولسان الميزان ... 5 / 100.
(2) انظر البداية والنهاية 11 / 145.
(3) انظر طبقات المفسرين للسيوطي: ص 95، 96.(1/410)
والطبرى ـ رأس المفسرين والمؤرخين ـ نجد في ترجمته (1) الحديث عن كتبه، ما تم منها وما لم يتم. وأهم كتبه التي مات قبل تمامها كتابه " تهذيب الآثار"، وهو مطبوع ميسر الرجوع إليه والحمد لله تعالى (2) .
عقيدة الطبري:
الحديث عن الطبري وعن كتبه يطول كثيراً، والذى يعنينا أساساً هو تفسيره، ولكن ونحن في مجال التفسير المقارن بين الشيعة وأهل السنة نرى من اللازم بيان عقيدة هذا الإمام التي وقع ضجاج كبير حولها، حيث رماه بعضهم بأنه من الشيعة الإمامية، غير أن كتبه تثبت براءته.
لما بلغه أن أبا بكر بن أبى داود تكلم في حديث غدير خم، عمل كتاب: " الفضائل "، فبدأ بفضل أبى بكر، ثم عمر، وتكلم على تصحيح حديث غدير خم، واحتج لتصحيحه، ولم يتم الكتاب.
وفى الباب السابق ذكرت الروايات المختلفة لهذا الحديث، وبينت ما هو صحيح منها، وما هو مختلف فيه، وما هو ضعيف أو موضوع مصنوع في دار الضرب بالكوفة. ولا أدرى ما الذي صح عند الطبري؟ وربما صحح ما بينت ضعفه أو وضعه. وعندما رجعت لتهذيب الآثار رأيت عدم استبعاد هذا ... الاحتمال:
ففى مسند على رضي الله عنه ـ يذكر حديث " أنا دار الحكمة وعلى بابها "، ويقول: " وهذا خبر عندنا صحيح سنده " ولكنه يضيف قوله " وقد يكون على
_________
(1) انظر ترجمته في المراجع السابقه، وأخص سير أعلام النبلاء، وفى غيرها من المراجع مثل: تاريخ بغداد 2 / 162، وطبقات المفسرين للداودى 2 / 106.
(2) طبع بتحقيق الدكتور ناصر الرشيد وآخر، ثم حققه شيخنا العلامة محمود محمد شاكر، محقق تفسير الطبري، جزاه الله خيراً.(1/411)
مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح لعلتين " ثم يذكر تأييداً له حديثاً عن ابن عباس: " أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها " (1) .
وتصحيح مثل هذه الآحاديث لا يعنى أنه من الإمامية وإلا لما تحدث عن فضل أبى بكر وعمر، فضلاً عن أن يبدأ بهما. ونراه في مسند على يروى أن قاتل الزبير استأذن على على فقال: ليدخل النار، سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لكل نبي حوارى وإن حوارى الزبير بن العوام " (2) ونحن نعرف تكفير الشيعة لمن قاتل علياً، وما رواه الطبري ينقض قولهم. وكان الطبري يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر على رضي الله عنه، ثم قال الطبري: من قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامى هدى، أيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكاراً عليه: مبتدع! مبتدع! هذا يقتل، من قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامى هدى يقتل يقتل (3) .
وقال الذهبى في ميزان الاعتدال " 3 / 498 " في ترجمة الطبري:. " ثقة صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر.
أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ، فقال: كان يضع للروافض، كذا قال السليمانى: وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعى عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغى أن يتأنى فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير، فلعل السليمانى أراد الآتى:
_________
(1) انظر تهذيب الآثار 1 / 89 ـ 90 ـ والحديث الأول رواه الترمذى في الباب الخامس من مناقب على بن أبى طالب، وقال: " هذا حديث غريب منكر " والثاني قال عنه البخاري: " منكر " وقال بوضعه ابن معين وابن الجوزى والذهبى وغيرهم، وصححه الحاكم!! وافتى بحسنه ابن حجر ـ انظر فيض القدير 3 / 46 ـ 47، والمقاصد الحسنة 97، وكشف الخفاء 1 / 235.
(2) تهذيب الآثار 1 / 140.
(3) انظر سير أعلام النبلاء 14 / 275، ولسان الميزان 5 / 101، وفيه زياده العبارة الأخيرة: " من قال إن ... ".(1/412)
محمد بن جرير بن رستم، أبو جعفر الطبري. رافضى ... ".
وعقب ابن حجر فقال: " ولو حلفت أن السليمانى ما أراد إلا الآتى لبررت، والسليمانى حافظ متقن، كان يدرى ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل، والله أعلم. وإنما رمى بالتشيع لأنه صحح حديث غدير خم، وقد اغتر شيخ شيوخنا أبو حيان بكلام السليمانى ... " (1) .
هذه كلمة موجزة عن الطبري، وبعد حياة بارك الله تعالى فيها توفى سنة عشر وثلاثمائة، ودفن ببغداد.
تفسير الطبري
الثناء على الكتاب:
ذكرنا آنفا بعض ما جاء في ترجمة أبى جعفر عن تفسيره القيم.
ومما جاء عن هذا الكتاب أيضاً أن ابن جرير قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم. فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ولما أراد أن يملى التفسير قال لهم نحواً من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
وقال الحاكم: سمعت أبا بكر بن بالويه يقول: قال لي أبو بكر بن خزيمة: بلغنى أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: بلى، كتبته عنه إملاء. قال: كله؟ قلت: نعم. قال: أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومئتين. قال: فاستعاره منى أبو بكر، ثم رده بعد سنين، ثم قال: لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
_________
(1) لسان الميزان 5 / 100.(1/413)
وقال أبو محمد الفرغانى: لو ادعى عالم أن يصنف من كتاب التفسير لابن جرير عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوى على علم مفرد مستقصى لفعل.
وقال أبو حامد الإسفرايينى: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً.
وقال السيوطي في الإتقان " 2 / 190 ": ". . . وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، ثم ابن أبى حاتم، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه، وأبو الشيخ ابن حبان، وابن المنذر، في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلا ابن جرير؛ فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوقها بذلك ".
هذه بعض الأقوال التي تبين قيمة هذا الكتاب، ولكنها لا تغنى عن النظر في الكتاب نفسه لنبين منهجه وقيمته العلمية، فلننظر فيه.
بيان الطبري لمنهجه:
ذكر الطبري في مقدمة التفسير " ص 6 " ما يلى:
" ونحن ـ في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه ـ منشئون إن شاء الله ذلك، كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعاً، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافياً، ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه. ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأختصر ما أمكن من الاختصار فيه ".
وفى المقدمة أيضا " ص 73 " نجد " القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن "، ويذكر تحت هذا العنوان ما يبين أن مما أنزل الله تعالى من القرآن ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن منه ما لا يعلم(1/414)
تأويله إلا الله الواحد القهار، وأن منه مايعلم تأويله كل ذى علم باللسان الذي نزل به القرآن.
ثم يذكر أبو جعفر بعد هذا بعض الأخبار التي رويت بالنهى عن القول في تأويل القرآن بالرأى، ويعقب عليها " ص 77: 79 " وبعده نجد " ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة " ... " ص 80 ".
ثم نجد " ذكر الأخبار عن بعض السلف، فيمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموماً علمه به " " ص 90 " وبعد الأخبار نجد ما يأتى:
قال أبو جعفر: قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة:
أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقاتُ ما كان من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم تأويله.
والثالث منها: ما كان علمهُ عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يُوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم.
فإذا كان ذلك كذلك، فأحق المفسرين بإصابة الحق ـ في تأويل القرآن الذي إلى علم تأويله للعباد السبيلُ ـ أوضحهم حجة فيما تأول وفسر، مما كان تأويله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون سائر أمته من أخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثابته عنه: إما من جهة النقل المستفيض، فيما وُجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض، وإما من جهة(1/415)
نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض، أو من جهة الدلالة المنصوبه على صحته؛ وأصحهم برهاناً ـ فيما ترجم وبين من ذلك ـ ممّا كان مُدركاً علمُه من جهة اللسان: إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائناً من كان ذلك المتأول والمفسر، بعد أن لا يكون خارجاً تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة ". " ص 92: 93 ".
تفسير الطبري لختام فاتحة الكتاب:
هذا بعض ما جاء في مقدمته المستفيضة، ولعله يوضح المنهج الذي ارتضاه الطبري لتفسيره.
وأضيف هنا شيئاً من هذا التفسير قبل الحديث عنه، وقد يبدو ما أنقله غير مناسب لكثرة صفحاته، غير أنه تفسير آية كريمة واحدة هي الأخيرة من سورة الفاتحة، وما ذكره بعد تفسيرها، وأريد أن يشترك القارئ في الاستنباط حيث يجد نصاً بين يديه، ولهذا أهميته في مجال التفسير المقارن، وما أكثر ما في هذا النص من العلم والنفع!
كما رأيت أن أذكر في الحاشية تخريج الأحاديث للشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، ولكن سأكتفى بالنتائج دون التفصيل حتى لا يزداد المنقول. وإليك ما ذكره الطبري في تفسير قوله تعالى: ... {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} .
القول في تأويل قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} : وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، إبانة عن الصراط المستقيم، أي الصراط هو؟ إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطاً مستقيماً. فقيل لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(1/416)
قل يا محمد: أهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} " سورة النساء: 66: 69 ".
قال أبو جعفر: فالذى أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته أن يسألوا ربهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق، هو طريق الذين وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سلكه فاستقام فيه طائعاً لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوى الخبر عن ابن عباس وغيره:
188 ـ حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } يقول: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك (1) .
189 ـ حدثنى أحمد بن حازم الغفارى، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبى جعفر، عن ربيع: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، قال: النبيون (2) .
190 ـ
_________
(1) ضعبف الإسناد.
(2) أبوجعفر هو الرازى التميمى: ثقة، تكلم فيه بعضهم.(1/417)
حدثنى القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} قال: المؤمنين (1) .
191 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: ... {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، المسلمين.
192 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله {صرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه (2) .
قال أبو جعفر: وفى هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه، لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَلا يسمعونه يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمت أن قول القائل لآخر: { ... أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} مقتض الخبر عما أنعم به عليه، فأين ذلك الخبر في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدمنا البيان ـ فيما مضى من كتابنا هذا ـ عن اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض، إذا كان البعض الظاهر دالاً على البعض الباطن وكافياً منه. فقوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } من ذلك. لأن أمرَ الله جل
_________
(1) هذا الخبر منقطع بين ابن جريج وابن عباس.
(2) عبد الرحمن بن زيد: متأخر من أتباع التابعين، وهو ضعيف جداً.(1/418)
ثناؤه عباده بمسألته المعونة، وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم، لما كان متقدماً قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ... ، الذي هو إبانه عن الصراط المستقيم وإبدال منه ـ كان معلوماً أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم، هو المنهاج القويم والصراط المستقيم، الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفاً. فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك ـ مع قرب تجاور الكلمتين ـ مغنياً عن تكراره.
كما قال نابغة بنى ذبيان:
كأنك من جمال بنى أُقْيشٍ ... يُقَعْقَعُ خلف رِجْليه بِشَن
يريد: كأنك من جمال أقيش، جمل يقعقع خلف رجليه بشن، فاكتفى بما ظهر من ذكر " الجمال " الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف.
وكما قال الفرزدق بن غالب:
ترى أرباقَهُمْ مُتقَلدِيها إذا صَدِى الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ
يريد: متقلديها هم، فحذف " هم "، إذ كان الظاهر من قوله أرباقهم، دالاً عليها. والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } .
******
القول في تأويل قوله: {غَيرِ المَغضُوبِ عَليهِمْ} :
قال أبو جعفر: والقراءة مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها والخفض يأتيها من وجهين:
أحدهما: أن يكون " غير " صفة لـ " الذين " ونعتاً لهم فتخفضها. إذ كان ... " الذين " خفضاً، وهى لهم نعت وصفة. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتاً لـ ... " الذين "، و" الذين "، معرفة و" غير " نكرة، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة الموقته كالأسماء التي هي أماراتّ بين الناس، مثل زيد وعمرو وما أشبه ذلك، وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل الرجل والبعير وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتها، وكانت " غير " مضافة إلى مجهول من الأسماء، نظير " الذين "، في أنه معرفة غير مؤقته، كما " الذين " معرفة غيرمؤقتة ـ جاز من أجل ذلك أن يكون {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ... نعتاً لـ {(1/419)
الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} كما يقال: " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل "، يراد: لا أجلس إلا إلى من يعلم، لا إلى من يجهل. ولو كان {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} معرفة موقتة، كان غير جائز أن يكون {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} لها نعتاً. وذلك أنه خطأ في كلام العرب ـ إذا وصفت معرفة موقتة بنكرة ـ أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها. خطأ في كلامهم أن يقال: " مررت بعبد الله غير العالم "، فتخفض " غير " إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مررت بعبد الله، مررت بغير العالم. فهذا أحد وجهى الخفض في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} .
والوجه الآخر من وجهى الخفض فيها: أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة الموقتة، وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت " غير " مخفوضةٌ بنية تكرير " الصراط " الذي خُفض " الذين " عليها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت عليهم، صراط غير المغضوب عليهم.(1/420)
وهذان التأويلان في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، وإن اختلفا في اختلاف معربيهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه بدينه الحق، فقد سلم من غضب ربه، ونجا من الضلال في دينه.
فسواء ـ إذ كان سبب قوله {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} غير جائز أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط غير غاضب ربهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضلآلا، وقد هداهم الحق ربهم. إذ كان مستحيلا في فطرهم اجتماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد ـ أًوُصِفَ القوم؛ مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرح وصفهم به.
هذا، إذا وجهنا {غَيرِ} إلى أنها مخفوضة على نية تكرير {الصِّرَاطَ} الخافض {الَّذِينَ} ، ولم نجعل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} من صفة {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، بل إذا جعلناهم غيرهم. وإن كان الفريقان لا شك منعماً عليهما في أديانهما.(1/421)
فأما إذا وجهنا {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ... } إلى أنها من نعت، {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم} ، فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب {غَيرِ} في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، وإن كنت للقراءة بها كارهاً لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهراً مستفيضاً، فرأى للحق مخالف، وعن سبيل الله وسبيل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبيل المسلمين متجانف. وإن كان له ـ لو كان جائزاً القراءة به ـ في الصواب مخرج.
وتأويل وجه صوابه إذا نصبت: أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في {عَلَيهِمْ} ، العائدة على {الَّذِينَ} . لأنها وإن كانت مخفوضة بـ {عَلَي} فهى في محل نصب بقوله { ... أَنعَمتَ} . فكان تأويل الكلام ـ إذا نصبت {غَيرِ} التي مع {المغضُوبِ عَلَيهِمْ} ـ: صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم، غير مغضوب عليهم، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في {غَيرِ} في قولك: مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد، فتقطع " غير الكريم " من " عبد الله "، إذ كان " عبد الله " معرفة موقتة، و" غير الكريم " نكرة مجهولة.
وقد كان بعض نحويى البصريين يزعم أن قراءة من نصب {غَيرِ} في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، على وجه استثناء {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} من(1/422)
معاني صفة {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرأوا ذلك نصباً: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } إلا المغضوبَ عليهم ـ الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق ـ فلا تجعلنا منهم. وكما قال نابعة بنى ذبيان:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جواباً، وما بالربع من أحد
إلا أوارى لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
والأوارى معلوم أنها ليست من عداد " أحد " في شىء. فكذلك عنده، استثنى {غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِمْ} من {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شىء.
وأما نحويو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفوه. وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال {وَلاَ الضَّالِّينَ} ، لأن " لا " نفى وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شىء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القوم إلا أخاك وإلا أباك. وفى الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القوم إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدوماً من كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله، علمنا ـ إذ كان قوله {وَلاَ الضَّالِّينَ} معطوفا على قوله {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ـ أن {غَيرِ} بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، باختلاف أوجه إعراب ذلك.(1/423)
وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجه إعرابه ـ وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل أي القرآن لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله، فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءة {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} بخفض الراء من {غَيرِ} ، بتأويل أنها صفة لـ {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ونعت لهم ـ لما قدمنا من البيان ـ إن شئت، وإن شئت فبتأويل تكرير {صِرَاطَ} كل ذلك صواب حسن.
فإن قال قائل: فمن هؤلاء المغضوب عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟
قيل: هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} " سورة المائدة: ستين ". فأعلمنا جل ذكره ثمة، ما أحل بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منة منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يحل بنا مثل الذي حل بهم من المثلات، ورأفة منه بنا.
فإن قال: وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله، على ما وصفت؟
قيل:
193 ـ(1/424)
حدثنى أحمد بن الوليد الرملى، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقى، قال: حدثنا سفيان بن عيينه، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عدى ابن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المغضوب عليهم، اليهود (1) .
194 ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث، عن عدى بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن المغضوب عليهم اليهود (2) .
195 ـ حدثنى على بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد ابن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مرى ابن قطرى، عن عدى بن حاتم، قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله عز وجل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} قال: هم اليهود (3) .
196 ـ حدثنا حميد بن مسعدة السامى، قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا الجريرى، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، فقال: من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم اليهود (4) .
197 ـ حدثنى يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريرى، عن عروة، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر نحوه.
198 ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلى، قال: أخبرنى عبد الله بن شقيق: أنه أخبره من سمع
_________
(1) إسناده صحيح.
(2) إسناده صحيح.
(3) صحيح الإسناد.
(4) هذا الإسناد مرسل، وسيأتى مرسلاً أيضاً 197، 199، ولكنه سيأتى موصولاً 198.(1/425)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو بوادى القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بنى القين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ ـ قال: المغضوب عليهم. وأشار إلى ... اليهود (1) .
199 ـ حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال حدثنا خالد الواسطى، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر نحوه.
200 ـ حدثنا أبو كريب، قال حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " غير المغضوب عليهم " يعنى اليهود الذين غضب الله عليهم (2) .
201 ـ حدثنى موسى بن هرون الهمدانى، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدى في خبر ذكره، عن أبى مالك وعن أبى صالح عن ابن عباس ـ وعن مرة الهمدانى عن ابن مسعود ـ وعن ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، اليهود.
202 ـ حدثنا ابن حميد الرازى، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ ... } ، قال: هم اليهود.
203 ـ حدثنا أحمد بن حازم الغفارى، قال: حدثنا عبد الله، عن أبى جعفر، عن ربيع: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، قال: اليهود.
204 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين: قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} قال: اليهود.
_________
(1) إسناد صحيح، وسيأتى تفسير " الضالين" بهذه الأسانيد 210، 211، 212، 213.
(2) لم يخرجوه.(1/426)
205 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن ... زيد: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، اليهود.
206 ـ حدثنى يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنى ابن زيد عن أبيه، قال: المغضوب عليهم اليهود.
قال أبو جعفر: واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره:
فقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من خلقه، إحلال عقوبته بمن غضب عليه، إما في دنياه وإما في آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ... } " سورة الزخرف: 55 ".
وكما قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} " سورة المائدة: 60 ".
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه ـ وإن كان كذلك من جهة الإثبات ـ فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم. لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها.
القول في تأويل قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} :(1/427)
قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن: " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، ويستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج:
ما كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فعلَهُمُ ... وَالطيبَان أبو بَكْرِ وَلا عُمَرُ
فجاز ذلك، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام.
قال أبو جعفر: وهذا القول الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه بـ " لا " التي معناها الحذف، ولا جائز العطف بها على " سوى " ولا على حرف الاستثناء. وإنما لـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة، أحدهما: الاستثناء، والآخر: الجحد، والثالث: سوى. فإذا ثبت خطأ أن تكون " لا " بمعنى الإلغاء مبتدأ، وفسد أن يكون عطفا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها ـ صح وثبت أن لا وجه لـ " غير " التي مع " المغضوب عليهم "، يجوز توجيهها إليه على صحة، إلا بمعنى الجحد والنفى، وأن لا وجه لقوله " ولا الضالين " إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ".
فتأويل الكلام إذا ـ إذ كان صحيحا ما قلنا بالذى عليه استشهدنا ـ اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ونضل ضلالهم؟
قيل: هم الذين وصفهم الله في تنزيله فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} " سورة المائدة: 77 ".(1/428)
فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟
قيل:
207 ـ حدثنا أحمد بن الوليد الرملى، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عدى بن حاتم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا الضالين "، قال: النصارى (1) .
208 ـ حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث، عن عدى بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الضالين النصارى.
209 ـ حدثنى على بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مرى بن قطرى، عن عدى بن حاتم، قال: سألت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: النصارى هم الضالون.
210 ـ حدثنا حميد بن مسعدة السامى، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا الجريرى، عن عبد الله بن شقيق أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالون، النصارى.
211 ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن الجريرى، عن عروة ـ يعنى ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنحوه (2) .
_________
(1) هذه الأحاديث والأخبار والآثار 207 ـ 220، في تفسير " الضالين "، سبقت أوائلها في تفسير " المغضوب عليهم "، مع تخريجها، في الأرقام 193 ـ 206، مع شئ من التقديم والتأخير.
(2) الحديث 211 ـ سبق هذا الإسناد 197.(1/429)
212 ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلى، قال: أخبرنى عبد الله بن شقيق: أنه أخبره من سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو بوادى القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بنى القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ ـ قال: هؤلاء الضالون، يعنى النصارى.
213ـ حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطى، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالون. يعنى النصارى.
214 ـ حدثنا محمد بن حميد: قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: " ولا الضالين " قال: النصارى.
215 ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " ولا الضالين " قال: وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بِفِرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود، ولا تضلنا كما أضللت النصارى، فتعذبنا بما تعذبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك.
216 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين، النصارى.
217 ـ حدثنى موسى بن هرون الهمذانى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّىّ في خبر ذكره عن أبى مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس ـ وعن مرة الهمذانى، عن ابن مسعود ـ وعن ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا الضالين "، هم النصارى.
218 ـ حدثنى أحمد بن حازم الغفارى، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبى جعفر، عن ربيع: " ولا الضالين "، النصارى.(1/430)
219 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: اخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: " ولا الضالين "، النصارى.
220 ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، قال: الضالين، النصارى.
*****
قال أبو جعفر: فكلّ حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج. القويم، فضالٌ عند العرب لإضلاله وجه الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارى ضُلالاً. لخطئهم في الحق منهج السبيل. وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أو ليس ذلك أيضاً من صفة اليهود؟
قيل: بلى.
فإن قال: كيف خصَّ النصارى بهذه الصفة، وخصَّ اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم؟
قيل: كلا الفريقين ضلاّل مغضوبٌ عليهم، غيَر أن الله جل ثناؤه وسَم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسم ِّواحداً من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه.
فيظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال، بقوله " ولا الضالين "، وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون، كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم ـ دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية، جهلاً منه لسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كل موصوفٍ بصفةٍ أو مضاف إليه فعل، لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن(1/431)
يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب، فالحق فيه أن يكون مضافاً إلى مسببه. ولو وجب ذلك، لوجب أن يكون خطأ قول القائل: " تحركت الشجرة "، إذْ حَّركتها الريح؛ و" اضطربت الأرض "، إذ حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكلام.
وفى قول الله جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ... } ... " سورة يونس: 22 " بإضافته الجرى إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها ـ ما دل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله " ولا الضالين"، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى، تصحيحاً لما ادعى المنكرون: أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عز ذكره نصاً في أي كثيرة من تنزيله، أنه المضل الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ... } " سورة الجاثية: 23 ". فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره.
ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه ـ وإن كان مسببه غير الذي وجد منه ـ أحياناً، وأحياناً إلى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسباً، ويوجده الله جل ثناؤه عيناً منشأة؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه؛ كسباً له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له ـ وإلى الله جل ثناؤه، بإيجاد عينه وإنشائها تدبيراً.(1/432)
مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن:
إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان: بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، كلام الله جل ثناؤه، لفضله على سائر الكلام بارتفاع درجته على أعلى درجات البيان، فما الوجه ـ إذ كان الأمر على ما وصفت ـ في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، إذ كان لا شك أن من عرف ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى. وأن من كان لله مطيعاً، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الآيتان اللتان ذكرنا؟
قيل له: إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته ـ بما أنزل إليه من كتابه ـ معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله، ولا لأمة من الأمم قبلهم. وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوى جميعها كتابه الذي أنزله على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير ـ لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحوى معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيراً من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال. وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب.
ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله، نظمه العجيب ورصفه الغريب وتأليفه البديع؛ الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت كسوراً عن أن تأتى بمثله ـ لديه أفهام الفهماء، فلم يجدوا له إلا التسليم(1/433)
والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوى، مع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب. وأمرٌ وزجرٌ، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو ما في أم القرآن، فلما وصفت قبل من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع ـ برصفه العجيب ونظمه الغريب، المنعدل عن أوزان الأشعار وسجع الكهان وخطب الخطباء ورسائل البلغاء، العاجز عن رصف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد ـ الدلاله على نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ـ تنبيه العباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته، ليذكروه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيد، ويستوجبوا عليه الثواب الجزيل؛ وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته، وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته ـ تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الآلهة والأمداد؛ وبما فيه من ذكره ما أحل بمن عصاه من مَثُلاته، وأنزل بمن خالف أمره من عقوبته ـ ترهيب عباده عن ركوب معاصيه، والتعرض لما لا قبل لهم به من سخطه، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيراً لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
221ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربى، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنى العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبى السائب مولى زهره، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال الله: " حمدنى عبدى ". وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... } ، قال: " أثنى علىّ عبدى ". وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: " مجدنى عبدى. فهذا لي "(1/434)
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ... } إلى أن يختم السورة، قال: " فذاك له " (1) .
222 ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن اسحق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبى السائب، عن أبى هريرة ن قال: إذا قال العبد: " الحمد لله "، فذكر نحوه، ولم يرفعه (2) .
223 ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثنى العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرقة عن أبى السائب، عن أبى هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله (3) .
224 ـ حدثنى صالح بن مسمار المروزى، قال: حدثنا زيد بن الحُباب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله الأنصارى، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عزوجل: " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، وله ما سأل ". فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: " حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... } ، قال: " أثنى على عبدي " وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: " مجدني عبدي " قال: " هذا لي، وله ما بقى " (4) .
" آخر تفسير سورة فاتحة الكتاب "
_________
(1) صحيح الإسناد.
(2) و (3) صحيح الإسناد، وهذا الحديث ـ بإسناديه الموقوفين ـ مرفوع حكماً.
(3) صحيح الإسناد.
(4)(1/435)
مدى التزام الطبري بمنهجه:
هذا هو تفسير الطبري للآية الأخيرة من سورة الفاتحة، وذكرنا من قبل بعض ما جاء في المقدمة عن المنهج الذي ارتضاه لتفسيره، وخلاصة هذا المنهج هو ما يأتى:
أولاً: الاستيعاب لكل ما بالناس إليه الحاجة بحيث يكون كتابه في التفسير جامعاً يكفى عن سائر الكتب غيره.
ثانياً: نقل ما اتفق عليه المفسرون، وما اختلفوا فيه، وبيان علل كل مذهب من مذاهبهم، وتوضيح ما صح لديه من ذلك.
ثالثاً: ذكر الطبري أن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة:
أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه.
الوجه الثاني: لا يعلم إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالث: ما كان علمه عند أهل اللسان.
والوجه الأول يدخل في نهى الطبري عن القول في تأويل القرآن بالرأى.
والوجه الثاني يعتمد فيه على صحة النقل.
والوجه الثالث: يعتمد فيه على الشواهد من أشعار العرب السائرة، ومنطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، ويضع الطبري هنا قيداً له أهميته وهو ألا يخرج التأويل عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة.
هذا هو المنهج الذي رأى الطبري الأخذ به لتأليف كتابه في التفسير، فإلى أي مدى التزم بهذا المنهج؟
إذا نظرنا لتفسيره لختام فاتحة الكتاب نراه قسم الآية الكريمة ثلاثة أجزاء، وفى كل جزء يسترشد بكتاب الله تعالى لتوضيح المعنى، فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، ثم يسهب في ذكر الأخبار المسندة التي تؤيد هذا المعنى، وهذه سمة غالبة في تفسيره كله. ومن الإشارة إلى تخريج الأخبار وجدنا منها الصحيح وغير الصحيح. والطبرى عند اختلاف أهل التأويل نراه غالباً يختار ويرجح، ويصحح(1/436)
ويضعف: مثال هذا ما نقلته من تفسيره في الباب الأول عند الحديث عن الغدير، فتعقيباً على الروايات التي ذكرت في تفسيره لقوله تعالى { ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ... } قال الطبري: " وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، ووهى أسانيد غيره " (1) .
ونذكر مثلا آخر يبين هذا المنهج؛ ونراه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (2) .
حيث فسر الآية الكريمة، وقال: " وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
ثم قال: " ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي؟ وما نهايتها؟ ".
وذكر الأقوال المختلفة، ثم عقب بقوله:
" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد، وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته، ووضوح صحته في الدنيا، ومنهم من علم حقيقته ذلك بهلاكه ببدر، وقبل ذلك، ولا حد عند العرب للحين، لا يجاوز ولا يقصر عنه.
_________
(1) انظر تفسير الطبري للآية الثالثة من سورة المائدة في كتابه بتحقيق شاكر 9/517ـ531، وراجع ما كتبته عن الغدير في الفصل الثاني من الباب الأول، وعبارة الطبري تجدها في ص 104.
(2) الآية 88 من سورة ص، وراجع تفسيرها في كتابه 23 / 188 ـ 189 وانظر أيضاً تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ... } " 51: سبأ " فقد ذكر الأخبار المختلفة، ثم رجح الصحيح منها ـ انظر 22 / 106 ـ 109.(1/437)
فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ".
وأيد ما ذهب إليه بخبر عن عكرمة.
ومع هذا نرى الطبري أحيانا يأخذ بأخبار غير صحيحة، ونرى هذا مثلا عند تفسير قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (1) ، ولهذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية الكريمة: " ذكر ابن أبى حاتم وابن جرير ههنا آثارا. عن بعض السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها، فلا نوردها " (2) .
وأخذ الطبري بمثل هذه الأخبار لا يمثل المنهج الذي ارتضاه لنفسه، وإنما يشير إلى الخطأ عند التطبيق.
ولقد حاول الطبري أن يلتزم بمنهجه، ومما يبين حرصه على الالتزام بالمنهج ما ذكره عند القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ... } ... " 35: البقرة "، حيث قال:
" اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نهى عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السنبلة. ذكر من قال ذلك " (3) .
وذكر الطبري اثنى عشر خبرا، ثم قال:
" وقال آخرون: هي الكرمة. ذكر من قال ذلك ".
وذكر عشرة أخبار، وقال:
"
_________
(1) 37: الأحزاب.
(2) تفسير ابن كثير 3 / 491.
(3) تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 516، وانظره إلى ص 521.(1/438)
وقال آخرون هي التينة. ذكر من قال ذلك ".
وذكر خبرا واحدا، ثم عقب بقوله:
" والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجه أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن، دلالةً على أي أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها، بنص عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأى ذلك من أي رضا، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا.
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنى يأتى ذلك؟ وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم، إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به " ا. هـ.
هذا كلام الطبري وهو يؤكد ما ذكره في منهجه.
وهذا يتصل بوجهين من أوجه التأويل الثلاثة التي ذكرها، وهما:
الوجه الأول: الذي لا سبيل إلى الوصول إليه.
والثاني: الذي لا يعلم إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما الوجه الثالث، وهو ما كان علمه عند أهل اللسان، فيتضح في تفسيره السابق للآية الأخيرة من فاتحة الكتاب عندما تحدث عما يتصل بمحذوف وهو تمام(1/439)
الخبر عن النعمة التي أنعمها عليهم، حيث أشار إلى اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض، واستدل ببيتين، ثم قال:
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى.
ويتضح أيضاً في بيانه لقراءة " غير "، وذكره للخلاف بين أهل البصرة وبعض نحويى الكوفة في القول بإلغاء " لا ".
ومما يسترعى الانتباه أنه بعد أن ذكر جواز نصب كلمة " غير "، رفض القراءة بالنصب قائلا:
" وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرا مستفيضا، فرأى للحق مخالف، وعن سبيل الله وسبيل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متجانف. وإن كان له ـ لو كان جائزا القراءة به ـ في الصواب مخرج ´
وقول الطبري يؤيد التزامه بالقيد الذي ذكره في هذا الوجه الثالث، حيث اشترط لقبول التأويل ألا يخرج عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة.
ويؤيد هذا أيضا قوله في تأويل قول الله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (1) .
حيث قال: قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين.
وبعد أن بين الأوجه الأربعة قال: " والقراءة التي هي القراءة، الرفع دون النصب، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين. وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم " (2) .
_________
(1) 18: سورة البقرة.
(2) تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 330.(1/440)
ونرى الطبري قبيل الانتهاء من تفسير آخر الفاتحة يرد على القدرية، ثم نراه بعد هذا يقول: " مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن "، ويذكر المسألة، ويرد على هؤلاء الطاعنين.
ويختم الطبري تفسير فاتحة الكتاب بذكر بعض الأخبار في فضلها. وهى أخبار صحيحة الإسناد.
ولعل هذا يرينا ما أراده من أن يكون تفسيره مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة، جامعا يكفى عن سائر الكتب غيره. ويبين ما نقلناه من قبل في فضل هذا الكتاب القيم، وقيمته العلمية.
موقف الطبري من الإسرائيليات:
وقبل أن نختم هذه الكلمة الموجزة عن تفسير الطبري نريد أن نعرف موقفه من الإسرائيليات.
ولعل أحسن ما نثبته هنا هو ما قاله أستاذنا العلامة الشيخ محمود محمد شاكر- رحمه الله، الذي قضى سنوات من عمره المبارك في تحقيق هذا الكتاب. فبعد أن وصل أستاذنا مع الطبري إلى الآية الثلاثين من سورة البقرة، وانتهى من قول الطبري في تأويل قوله تعالى " خليفة "، والأخبار التي ذكرها في هذا التأويل كتب أستاذنا الكلمة التالية:
" تذكرة "
تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى " الخلافة "، و" الخليفة "، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى " الخليفة ". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في(1/441)
الفقرة التالية للأثر رقم: 605، إذ ذكر ما روى عن ابن مسعود وابن عباس، وما روى عن الحسن في بيان معنى " الخليفة "، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: 465 عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: 353 " فإن كان ذلك صحيحا، ولست أعلمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابا ... "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس ـ إن صح عنهما ـ أو ما فهمه الرواه الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير أي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآى كتاب الله.
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارا للمعانى التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويا. ولما لم يكن مستنكرا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي يرتضيها أهل الحديث، والتى لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل ـ سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم.
وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارىء كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شىء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخى السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفى هذا مقنع لمن(1/442)
أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرا. " 1 / 453، 454 ". ا. هـ.
وفى الآية الكريمة ذاتها عند قول الطبري في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ... } .
ذكر الطبري خبراً فيه كثير من الإسرائيليات (1) ، ثم نقده، فعقب أستاذنا بقوله: نقد الطبري دال أيضا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله (2) .
ثم قال الطبري: " وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة " وبين الطبري بعد هذا تأويل الخبر، ثم قال:
" وهذا الذي ذكرنا هو صفة منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية " فعقب أستاذنا أيضا بقوله:
" وهذا أيضا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى؛ وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير " (3) .
ومما يؤيد ما ذكره أستاذنا الشيخ شاكر ما يأتى:
_________
(1) انظر الخبر رقم 607 ج 1 ص 458، 460، وقول الطبري بعده.
(2) 1 / 462 بالحاشية.
(3) تفسير الطبري ـ الحاشية 1 / 462.(1/443)
في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (1) ، نرى الطبري يذكر أخبارا، ولكنه لا يأخذ بها (2) .
وفى تأويل قوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ... } (3) ، نرى الطبري في ذكره للمراد بالأمانة يثبت أخبارا مختلفة، ثم يأخذ بغير الإسرائيليات (4) .
ومثل هذا ما ذكرناه من قبل عند بيان منهجه في قبول الأخبار أو رفضها.
ومع هذا كله نراه أحيانا يذكر الإسرائيليات ولا يرفضها، مثل الإسرائيليات التي ذكرها عند تأويل قول الحق تبارك وتعالى {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَينَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدً اً} (5) .
ويمكن أن يقال هنا ما قلناه عند الحديث عن زواج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ الطبري بأخبار لا تصح.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
******
_________
(1) 69: الأحزاب.
(2) انظر تفسيره 22 / 50 وما بعدها.
(3) 72: الأحزاب.
(4) انظر تفسيره 22 / 54 وما بعدها.
(5) 34: سورة " ص "، وانظر تأويلها في تفسير الطبري 23 / 156 وما بعدها. ورفض الحافظ ابن كثير هذه الإسرائيليات ـ انظر تفسيره 4 / 34 ـ 36.(1/444)
الفصل الثامن: كتب التفسير بعد الطبري
لا يتسع المجال للحديث عن كتب التفسير المختلفة بعد الطبري، فإن هذا يطول كثيراً. ويكفى أننا عرفنا ما يتصل بالتفسير منذ النشأة في عصر الرسالة لآخر القرن الثالث الهجرى، ورأينا أحسن طرق التفسير وما يقبل وما يرفض من التفسير المأثور والتفسير العقلى.
وهذا الجزء إنما ألف أساساً في مجال التفسير المقارن بين الجمهور، وهم أهل السنة والجماعة، وبين الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية.
وما سبق من دراسة يبين أصول التفسير، والاتجاهات المختلفة إلى حد كبير. والتفسير بعد هذه القرون يمكن وضع الضوابط لقبوله أو رفضه في ضوء ما سبق من هذه الدراسة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة؟ الزمخشرى أم القرطبى؟ أم البغوى؟ أو غير هؤلاء؟ فأجاب: الحمد لله
أما التفاسير التي في أيدى الناس فأصحها " تفسير محمد بن جرير الطبري " فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبى.
والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع، وابن أبى قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فاسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة " البغوى " لكنه مختصر من " تفسير الثعلبى "، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك.(1/445)
وأما " الواحدى " فإنه تلميذ الثعلبى، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبى فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره. وتفسيرة و" تفسير الواحدى: البسيط والوسيط والوجيز " فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها.
وأما " الزمخشرى " فتفسيرة محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة ... وأصولهم خمسة ... وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدى أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين.
و" تفسير القرطبى " خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدعة، وإن كان كل من هذه الكتب لابد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذى حق حقه.
و" تفسير ابن عطية ". خير من تفسير الزمخشرى، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها.
وثم تفاسير كثيرة جداً، كتفسير ابن الجوزى، والماوردى " (1) . ا. هـ.
من هذا نرى شيخ الإسلام وهو يعطى صورة مجملة للتفاسير، يذكر في البداية، ثم يؤكد في النهاية أن أصحها تفسير الطبري.
أما ابن عطية، الذي اثنى ابن تيمية على تفسيرة، فإنا نجده يشير إلى تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدد من الصحابة والتابعين تحت " باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين "، ثم يقول: " ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كعبد الرزاق، والمفضل، وعلى بن أبى طلحة، والبخارى، وغيرهم.
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 13 / 385 ـ 388.(1/446)
ثم إن محمد بن جرير الطبري رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد، وشفا في الإسناد " (1) .
وابن الجوزى في تفسيره نقل عن مصادر " في طليعتها تفسير ابن جرير، وكتب الحديث، وكتابا ابن قتيبة: مشكل القرآن، وغريب القرآن، وكتب معاني القرآن، ولا سيما كتابا الفراء والزجاج، والحجة: لأبى على الفارسى، ومجاز القرآن: لأبى عبيدة، وكتب ابن الأنبارى في القرآن، وأسماء الله الحسنى: للخطابى، وغيرها " (2) .
ومعنى هذا أن ما صح من تفسير مأثور عند ابن الجوزى فهو مستمد من مصدرين رئيسين، هما: تفسير الطبري، وكتب الحديث.
ولم يخل تفسيره من الاستشهاد ببعض الأحاديث المنكرة التي لا ... تصح ... إلخ " (3) .
والماوردى في تفسيره يذكر الأخبار دون ذكر الأسانيد، ومثله ابن عطية وابن الجوزى، ولذلك وجدت من حقق هذه التفاسير الثلاثة حاولواتخريج هذه الأخبار (4) .
_________
(1) تفسير ابن عطية 1 / 31، وابن عطية توفى سنة 541 هـ.
(2) ، (3) زاد المسير في علم التفسير لأبى فرج عبد الرحمن بن الجوزى المتوفى ... سنة 596 ـ انظر مقدمة المحقق ص 4، 5.
(3) انظر التفاسير الثلاثة: النكت والعيون للماوردى المتوفى سنة 450 هـ نشرة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، والمحرر الوجيز لابن عطية طبع في دولة قطر على نفقة أميرها، وتفسير ابن الجوزى نشره المكتب الإسلامى.
(4) السمرقندى توفى سنة 373 هـ، والثعلبى سنة 427، أما البغوى فتوفى سنة 510. انظر ما كتبه المرحوم الدكتور الذهبى عن هذه التفاسير في كتابه القيم التفسير والمفسرون ... ج 1 ص 224، 227، 234.(1/447)
والذين سبقوا هؤلاء، كالسمرقندى والثعلبى، الأخبار في تفسيرهم غير مسندة. والبغوى الذي اختصر تفسير الثعلبى لم يذكر الأسانيد أيضاً (1) . والخبر إنما يكون حجة إذا كان مسنداً صحيحاً.
وأهم كتاب في التفسير بعد الطبري هو تفسير الحافظ ابن كثير، ومنهجه في التفسير هو منهج شيخه ابن تيمية. وينقل عن شيخ المفسرين ابن جرير، وعن كتب السنة، غير أنه لا يكتفى بالنقل، بل يبين الصحيح وغيره وما يقبل وما يرفض ويحذر من الإسرائيليات وينبه عليها. وهو من أكثر الكتب فائدة وانتشاراً.
والسيوطى في كتابه: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، يكتفى بنقل الأخبار، ونسبتها لأصحابها، دون تمييز بين غث وسمين. والتفسير النقلى الذي يعتبر حجة، وحاكماً للتفسير العقلى، يمكن القول بأنه بعد شيخ المفسرين إلى عصرنا يستمد من رافدين رئيسين، هما: كتب السنة، وتفسير الطبري. لذا رأيت أن أقف عنده لأنتقل للقسم الثاني من الكتاب، وهو بيان التفسير عند الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، والله المستعان، وهو نعم المولى ونعم النصير.
_________
(1)(1/448)
القسم الثاني: التفسير وأصوله عند الشيعة.(/)
تحدثت في الجزء السابق عن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، رأيناهم يجعلون الإمام كالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصمته وصفاته وعلمه، ويرون أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحى عند جمهورهم؛ حيث يقولون بأن الأئمة لا يوحى إليهم كالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يقوم الإلهام مقام الوحى في عصمة الإمام وعدم خطئه، وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليسدده ويرشده ويعلمه، فلما انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده، ولم يصعد ليؤدى الوظيفة نفسها مع الأئمة. ومع هذا الخلاف في القول بالوحى، غير انهم لم يختلفوا في القول بعصمة الأئمة.
وبمراجعة التفسير عندهم، أصوله وكتبه، رأيت أن عقيدتهم في الإمامة كان لها أكبر الأثر في وضع الأصول، وفى تناولهم لكتاب الله تعالى، ولعل بيان هذا الأثر كاف شاف في مجال التفسير المقارن بين السنة والشيعة، فحيث لا يوجد أثر لعقيدتهم في الإمامة يصبح تفسيرهم كتفسير غيرهم، وبقدر وجود هذا الأثر بقدر افتراقهم عمن سواهم.
والشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء، فمنهم من ينهج منهجا فيه شىء من الاعتدال والابتعاد عن الغلو، وصيانة كتاب الله المجيد، ومنهم الغالى المفترى الكذاب، الذي حاول أن يؤيد عقيدته في الإمامة بتحريف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، وجعل القرآن العظيم كأى كتاب من كتب الفرق الضالة المضلة.
وفى هذا القسم الثاني من الجزء الثاني ننتقل للحديث عن التفسير وأصوله عند الشيعة: فنبين أولاً أصول التفسير عندهم ببيان دور الإمام بالنسبة للقرآن المجيد، ثم ننتقل للدراسة التطبيقية، فننظر في كتب التفسير عندهم. وما دام الشيعة ليسوا سواء فإن الدراسة تشمل الكتب التي تمثل الاتجاهات المختلفة، ونبدؤها بدراسة ثلاثة كتب ظهرت في القرن الثالث الهجرى تعتبر(1/449)
مصادرهم الرئيسة للتفسير المأثور، وإن كانت كلها تمثل أقصى درجة في الغلو والتطرف، والضلال والتضليل. ونتبع هذه الثلاثة نماذج من الكتب الأخرى التي تبين اتجاهات التفسير بعد القرن الثالث إلى العصر الحديث.
واستكمالاً للبيان والتوضيح رجعت إلى كتاب " الذريعة إلى تصانيف الشيعة "، فوجدت عشرات الكتب التي يدل العنوان نفسه على غلو المؤلف وضلاله، وكتباً أخرى يظهر فيها هذا الأثر عندما يتحدث عنها صاحب كتاب الذريعة، فرأيت أن أثبت شيئاً مما جاء في كتاب الذريعة هذا.
فالقسم الثاني إذن يبين أصول التفسير الشيعى، ويقدم دراسة لبعض كتبهم، وهى ستة عشر كتاباً من القرن الثالث إلى العصر الحديث، ثم نشير إلى عشرات الكتب التي تبين تأثر أصحابها بعقيدة الإمامة.
فإذا ضممنا هذا القسم إلى القسم الأول اتضحت الصورة في مجال التفسير المقارن، والله عزوجل هو المستعان.(1/450)
الفصل الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق
الإمام كالنبي:
ذكرنا من قبل قول الجعفرية بأن الإمام كالنبى في عصمته وصفاته وعلمه، ولذلك فهم يشيرون إلى القرآن الكريم والإمام بقولهم: ذلك القرآن الصامت وهذا القرآن الناطق، فالإمام هو ـ في رأيهم ـ القرآن الناطق (1) ، ودوره بالنسبة للقرآن الصامت كدور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء بسواء.
مذهب الإخباريين:
وما دام القرآن الكريم صامتاً فلابد من الرجوع إلى القرآن الناطق حتى يوضح مراد الله تعالى، ولهذا قال الإخباريون من الجعفرية (2) : لا يجوز العمل
_________
(1) انظر الشيعة والتشيع ص 45، ويزعمون أن الإمام علياً قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم، أخبركم عنه. إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتى إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين. فلو سألتمونى عنه لأخبرتكم عنه لأنى أعلمكم ". ... (ص 3 من مقدمة تفسير القمي، وانظر الكافى 1 / 61، 8 / 50) . ويزعمون كذلك أن الإمام الصادق قال: " إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق " وأن أباه الباقر قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا ". (تفسير القمي 2 / 295، 425) .
(2) ينقسم الجعفرية إلى أصوليين وإخباريين: الأصوليون يعتمدون على الاستنباط والاجتهاد وإعمال العقل، فهم يبحثون ويفكرون بذهنية أصولية، وهم أصحاب علم أصول الفقه عند الجعفرية. والإخباريون لا يعتمدون إلا على متون الأخبار التي تروى عن أئمتهم. ويرى الأصوليون أن الحركة الإخبارية ظهرت في أوائل القرن الحادى عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادى، واستفحل أمرها بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادى عشر وخلال القرن الثاني عشر، على حين يرى الإخباريون أن الاتجاه الإخبارى كان هو الاتجاه السائد بين الفقهاء الإمامية إلى نهاية عصر الأئمة ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع وبعده ـ*(1/451)
بظاهر القرآن الكريم!! وقال جمهور الجعفرية ـ وهم الأصوليون ـ بحجية الظواهر ولكنهم قالوا: لا يجوز الاستقلال في العمل في بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن الأئمة. (1)
قول الأصوليين:
وناقش الأصوليون الإخباريين فيما ذهبوا إليه: قال صاحب فوائد الأصول بعد أن بين حجية الظواهر:
" نسب إلى الإخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز، واستدلوا على ذلك بوجهين، الأول: العلم الإجمالى بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية، والعلم الإجمالى كما يمنع عن جريان الأصول العملية، يمنع عن جريان الأصول اللفظية من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات. الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين، أما الأول فلأن العلم الإجمالى ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات، والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ... وأما الثاني فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة، بل متواترة، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين: طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأى والاستحسانات الظنية، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب
_________
(1) *حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الإخبارى، ويعتمدون على العقل في استنباطهم، ويربطون البحث الفقهى بعلم الأصول تأثراً بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف ـ كما يقولون ـ في التوسع والانتشار. والإخباريون الآن قلة قليلة بالنسبة للأصوليين، والقسم الكثير منهم في البحرين، وهم أيضاً عدد قليل (انظر المعالم الجديدة للأصول ص 76 ـ 82، وفقه الشيعة الإمامية 1 / 48 ـ 50 وانظر كذلك موقف الإخباريين من علم الأصول في الحاشية للقمى 2 / 211) .(1/452)
في بيتهم صلوات الله عليهم، ولا يخفى أن مفاد كل من الطائفتين أجنبى عما يدعيه الإخباريون " (1) .
فالإخباريون يمنعون العمل بظاهر الكتاب، والأصوليون يمنعونه كذلك إلاَّ بعد الرجوع إلى أقوال الأئمة، ويندرج تحت هذا الظاهر مثل العام والمطلق وغيرهما مما هو ظاهر في معنى ومحتمل لمعنى آخر، فالعام ظاهر في العموم مع احتمال التخصيص، والمطلق ظاهر في الإطلاق مع احتمال التقييد (2) فيرون إذن وجوب الرجوع إلى الأئمة وما روى عنهم بمعرفة مراد الله عزوجل.
قال أحد علمائهم المعاصرين (3) : " لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص "، ويوضح هذا بقوله: " لا شك في أن بعض عمومات القرآن الكريم
_________
(1) فوائد الأصول 3 / 48، وانظر كذلك الأصول العامة للفقه المقارن ص 102 ـ 105 وأصول الفقه للمظفر 3 / 130: 134، 138، 141.
(2) تحدث أحد علمائهم عن الأصول اللفظية وحددها بخمسة هي: أصالة الحقيقة ـ أي الأصل أن تحمل الكلام على معناه الحقيقى، وأصالة العموم، واصالة الإطلاق، وأصالة عدم التقدير، والأصل الخامس هو أصالة الظهور، وقال عن هذه الأصالة: " موردها ما إذا كان اللفظ ظاهراً في معنى خاص لا على وجه النص فيه الذي يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر، فإن الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه. وفى الحقيقة أن جميع الأصول المتقدمة راجعة إلى هذا الأصل، لأن اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلاً ـ ظاهر في الحقيقة، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه، فمؤدى أصالة الحقيقة نفس مؤدى أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص، وهكذا في باقى الأصول المذكورة، فلو عبرنا بدلاً عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحاً مؤدياً للغرض، بل كلها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور، فليس عندنا في الحقيقة إلا أصل واحد هو أصالة الظهور ". (أصول الفقه للمظفر، 1 / 31 ـ 32) .
(3) هو الشيخ محمد رضا المظفر، من كبار علمائهم. انظر كتابه أصول الفقه 1 / 136. وهو الذي نقلنا عنه الأصول اللفظية آنفاً.(1/453)
والسنة الشريفة لها مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات، وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة، والأئمة الأطهار ـ عليهم الصلاة والسلام. حتى قيل ما من عام إلا وقد خص. ولذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأيهم في الأحكام، لأن في الكتاب المجيد والسنة عاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، وهذه الأمور لا تعرف إلا من طريق آل البيت، وصاحب البيت أدرى بالذى فيه.
وهذا ما أوجب التوقف في التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص، واليأس من وجود المخصص، لجواز أن يكون هذا العام من العمومات التي لها مخصص موجود في السنة أو الكتاب لم يطلع عليه من وصل إليه العام. وقد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس ". ا. هـ.
والسنة ـ عند الجعفرية تتسع لتشمل أقوال أئمتهم، وهم مجمعون على الأخذ بما ورد من كلام الأئمة مخصصا لكثير من عمومات القرآن الكريم، ومقيداً لكثير من مطلقاته، وما قام قرينة على صرف جملة من ظواهره، ويعتبرون هذا من الأمور القطعية التي لا يشك فيها أحد (1) . ولكن المخصصات التي ترد عن الأئمة أتعتبر من باب النسخ أم التخصيص؟ خلاف وقع بين الجعفرية!
النسخ بعد عصر النبوة:
1 ـ فمنهم من ذهب إلى أن المخصصات ناسخة لحكم العمومات، لأن العام لما ورد وصل وقت العمل به بحسب الغرض، فتأخير الخاص عن وقت العمل لو كان مخصصاً ومبيناً لعموم العام يكون من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو قبيح من الحكيم، لأن فيه إضاعة للأحكام ولمصالح العباد بلا مبرر. فوجب أن يكون ناسخا للعام، والعام باق على عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاص، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاص (2) .
_________
(1) انظر أصول الفقه للمظفر 1 / 141: 142.
(2) المرجع السابق 1 / 143: 144 وعند أهل السنة إذا قصر العام على بعض أفراده يعتبر تخصيصاً عند جمهور الأصوليين، لأن المراد بالتخصيص عندهم بيان أن المراد بالعام* *بعض أفراده، لا فرق بين أن يكون البيان متصلا بالمبين أو منفصلاً عنه ما دام لم يتأخر عن وقت الحاجة إليه، فإذا تأخر كان نسخاً، ولا يكون حينئذ إلاَّكلاماً مستقلاً. أما الحنفية فإنهم يفرقون بين المتصل والمنفصل من الكلام المستقل، فيجعلون الأول مخصصاً ومبيناً، والثاني ناسخاً، لأن الشارع إذا أراد بالعام ـ من أول الأمر بعض أفراده قرنه بما يدل على مراده من المخصصات حتى لا يقع التجهيل الذي يتنزه الشارع الحكيم عنه، فإذا أورد العام من غير مخصص ومبين دل هذا على أن الشارع يريد جميع أفراده ابتداء. فإذا جاء بعد ذلك نص يخرج من العام بعض ما كان داخلاً فيه كان ناسخاً لا مخصصاً، فالخارج من العام بالتخصيص لم يدخل فيه ابتداء، والخارج منه بالنسخ دخل فيه ابتداء ثم أخرج. " انظر أصول التشريع ... ص 244 "
وهذا التخصيص أو النسخ عند الحنفية لا يكون إلا إذا وصل الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حد التواتر أو الشهرة: أما إن كان خبر واحد فلا يخصصه ولا ينسخه إلا إذا كان عام الكتاب قد خص قبل بقطعى حتى صار بذلك التخصيص ظنياً، ويرى الجمهور أن خبر الواحد يخص عام الكتاب " انظر أصول الفقه للخضرى 184 ".(1/454)
وكيف يمكن النسخ بعد عصر النبوة وانقطاع الوحى؟
قيل " إن إنقطاع الوحى لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه يمكن أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي، وأودع الوصي إلى وصى آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى إلى الأئمة، وعقد في الكافى باب في ذلك، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) .
ومن المعلوم أن حلآل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلال إلى يوم القيامة، وحرامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام إلى يوم القيامة، وهم يروون هذا أيضا عن أئمتهم، فأنى يتحقق النسخ؟
يقول السيد أبو القاسم الخوئى ـ مرجعهم السابق بالعراق: " الظاهر منه ـ أي من الخبر ـ عرفاً بيان استمرار الشريعة المقدسة، وأنها لا تنسخ بشريعة أخرى، فالمراد منه أن كل ما يكون إلى يوم القيامة متصفاً بالحلية أو الحرمة فهو
_________
(1) فوائد الأصول 4 / 274.(1/455)
حلال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حرامه، فأحكامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستمرة إلى يوم القيامة، ولا تنسخ بشريعة أخرى " (1) .
التخصيص:
2 ـ ومن الجعفرية من جعل هذه المخصصات كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه، فهى ليست تخصيصاً طارئاً بعد عصر النبوة، وإنما اختفت تلك المخصصات المتصلة ووصلت إليهم المخصصات المنفصلة.
وقال الشيخ الطوسى: " لكثرة الدواعى إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة، واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. وأجيب عن هذا بأنه لا وجه لهذه الاستحالة، فإنا نرى أن كثيراً من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمة مروية عن العامة ـ أي جمهور المسلمين - بطرقهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا " (2) .
كتمان الحكم تقية أو للتدرج:
3 ـ ومن الجعفرية من ذهب إلى التخصيص كذلك، ولكن على أساس أن هذه المخصصات " هي المخصصات حقيقة، ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام، لأن العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعى، بل الحكم هو الذي تكفل المخصص المنفصل ببيانه. وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهراً إلى أن يرد المخصص، فيكون مفاد العموم حكماً ظاهرياً، ولا محذور في ذلك، فإن المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكماً واقعياً لا حكماً ظاهرياً " (3) .
_________
(1) أجود التقريرات ص 512.
(2) فوائد الأصول 4 / 274.
(3) المرجع السابق 4 / 274.(1/456)
ويوضح عالم آخر هذا الرأى فيقول: " العام يجوز أن يكون وارداً لبيان حكم ظاهرى صورى لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعى، ولو لمصلحة التقية، أو لمصلحة التدرج في بيان الأحكام كما هو معلوم من طريقة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان أحكام الشريعة، مع أن الحكم الواقعى التابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية إنما هو على طبق الخاص. فإذا جاء الخاص يكون كاشفاً عن الحكم الواقعى، فيكون مبيناً للعام ومخصصاً له، وأما الحكم العام الذي ثبت أولاً، ظاهراً وصورة، إن كان قد ارتفع وانتهى أمره، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه، وليس هو من باب النسخ " (1) .
ثم يعقب على هذا بقوله: " وإذا جاز أن يكون العام وارداً على هذا النحو من بيان الحكم ظاهراً وصورة: فإن ثبت ذلك كان الخاص مخصصاً، أي كان كاشفاً عن الواقع قطعاً. وإن ثبت أنه في حدود بيان الحكم الواقعى للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، فلا شك في أنه يتعين كون الخاص ناسخاً له. وأما لو دار الأمر بينهما، إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما، فأيهما أرجح في الحمل؟ فنقول الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص " (2) .
ومع هذا الترجيح فقد رأى غيره أن هذه الحالة لا يجوز حملها إلا على النسخ (3) .
وكتمان الحكم الواقعى تقية هذا أمر غير معروف عن النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أظن الشيعة يقولون به، فما يجوز لمسلم أن يعتقده، فلعلهم أرادوا التقية بالنسبة للأئمة؛ بمعنى أن الإمام يكتم هذا الحكم، لأنه لو أظهره خشى على نفسه وعلى شيعته،
_________
(1) أصول الفقه المظفر 1 / 144.
(2) المرجع السابق 1 / 144.
(3) انظر الآراء المختلفة والترجيحات في الحاشية على الكفاية 2 / 198: 199، وفوائد الأصول 4 / 273، وأجود التقريرات ص 506: 512 والبيان ص 424: 428.(1/457)
ومن هنا تكون التقية. وهذا الرأى وإن كان غير مقبول أصلاً، إلا أنه يتمشى مع عقيدة الجعفرية.
أما التدرج في بيان الأحكام الذي يعتقده الجعفرية فيوضحه عالمهم المشهور محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله: " يعتقد الإمامية أن لله بحسب الشريعة الإسلامية من كل واقعة حكما حتى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. وما من معاملة على مال، أو عقد نكاح، ونحوها إلا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد. وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي بالوحى من الله أو الإلهام، ثم إنه ـ سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث أو حدوث الوقائع أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار، بين كثيرا منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافين به، الطائفين كل يوم بعرش حضوره، ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين في الآفاق {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعى والبواعث لبيانها، إما لعدم الابتلاء بها في عصر النبوة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.. والحاصل أن حكمة التدرج اقتضت بيان جملة من الأحكام، وكتمان جملة، ولكنه ـ سلام الله عليه ـ أودعها عند أوصيائه، كل وصى يعهد به إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له حسب الحكمة من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلا، بل يودعه عند وصيه إلى وقته " (2) .
_________
(1) 143: سورة البقرة.
(2) أصل الشيعة وأصولها ص 145 ـ 146.(1/458)
من الواضح البين بعد هذا أن ما ذكره الجعفرية بالنسبة للقرآن الناطق- أي الإمام ـ أثر من آثار عقيدتهم في الإمامة، فأقوالهم هنا لا تصح إلا بصحة عقيدتهم حتى يكون للإمام ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البيان والتخصيص والتقييد، بل النسخ، وحتى لا ينتهى التدرج بانقطاع الوحى وانتقال صاحب الرسالة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى، وإنما يبقى دور لمن جعلوهم شركاءه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرسالة.
وما ذكره الشيعة هنا ليس مسألة نظرية، وإنما يبين أصول التفسير، والتشريع أيضاً، وسنرى تطبيقاً عملياً لها في كتبهم التي تناولت بالدراسة كتاب الله تعالى، وعند الحديث عن كتبهم سنرى ثلاثة كتب في التفسير ظهرت في القرن الثالث الهجري، وأن هذه الكتب جعلت كتاب الله تعالى أشبه بكتاب من كتب الشيعة، فأكثر الآيات خاصة بالأئمة وولايتهم، وكفر من ينكر هذه الولاية، إلى غير ذلك من الغلو والضلال كما سيتضح، وسنرى هذا في عشرات من كتب التفسير الشيعى الأخرى.
والجعفرية لم يبدأوا التفكير في علم الأصول إلا في القرن الرابع الهجري، ولم يدخل هذا العلم دور التصنيف والتأليف إلا في القرن الخامس (1) . إذا عرفنا هذا أمكن القول بأن ما ذكره الشيعة هنا من علم الأصول إنما كان استنتاجاً من تلك الكتب الثلاثة، أو تبريراً لها، حيث إنها كانت تعتمد على روايات تزعم نسبتها للأئمة.
*****
_________
(1) راجع التصنيف في علم الأصول ص 54 وما بعدها من كتاب المعالم الجديدة للأصول.(1/459)
الفصل الثاني: الظاهر والباطن
حجية الظواهر:
ذكرنا آنفاً موقف الإخباريين من ظاهر القرآن الكريم، ورد جمهور الجعفرية عليهم. فهم يرون حجية الظهور. قال مرجعهم السابق بالعراق عن حجية ظواهر القرآن:
" لاشك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته، فيأتمروا بأوامره ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} " 47: 24 " (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} " 39: 27 ".
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " 26 / 192 ".
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} " 193: 194 ".
{بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ} " 195 ". وقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} " 3: 138 ". وقوله تعالى: { ... فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
_________
(1) يقصد المؤلف بالرقم الأول رقم السورة وهى سورة محمد، وباقى السور التي أشار إلى أرقامها هي على الترتيب: الزمر، الشعراء، آل عمران، الدخان، القمر، النساء.(1/460)
يَتَذَكَّرُونَ} " 44: 58 ". وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} " 54: 17 ". وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ... } " 4: 82 ". إلى غير ذلك من الآيات الداله على وجوب العمل بما في القرآن، ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.
ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب، وفهم العرب لمعانيه، أن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافى الغرض من إنزال القرآن، ودعوة البشر إلى الإيمان به ... إلخ " (1) .
وقال عالم آخر عن حجية الظواهر (2) :
"هي أوضح من أن يطال فيها الحديث مادام البشر في جميع لغاته قد جرى على الأخذ بظواهر الكلام، وترتيب آثارها ولوازمها عليها، بل لو أمكن أن يتخلى عنها لما استقام له التفاهم بحال، لأن ما كان نصاً في مدلوله مما ينتظم في كلامه لا يشكل إلا أقل القليل.
وبالضرورة أن عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان بدعاً من العصور، لينفرد به الناس في أساليب تفاهمهم بنوع خاص من التفاهم لا يعتمد الظهور ركيزة من ركائزه، وما كان للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طريقة خاصة في التفاهم انفرد بها عن معاصريه، وإلا لكانت
_________
(1) البيان للخوئىص 281: 282، وراجعه إلى ص 291.
(2) هو العالم محمد تقى الحكيم، أستاذ الأصول والفقه المقارن في كلية الفقه بالنجف بالعراق. انظر كتابه الأصول العامة ص 102: 107.(1/461)
أحدوثة التاريخ، فالقطع بإقرار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطريقتهم في التفاهم كاف في إثبات حجية الظواهر.
وقد نزل القرآن بلغة العرب، وتبنى طريقتهم في عرض أفكاره، وكان لكلامه ظاهر يفهمونه ويسيرون على وفقه " (1) .
اللجوء للتأويل تأييداً للعقيدة:
ومع القول بحجية الظاهر، إلا أنهم ـ كما رأينا من قبل ـ جعلوا للإمام ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان المراد من قول الله تعالى، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه. وفى الجزء الأول وجدنا أنهم لما لم يجدوا من ظاهر القرآن الكريم ما يؤيد عقيدتهم لجئوا إلى التأويل، وناقشناهم فيما ذهبوا إليه فلم نجد لهم دليلا يمكن الاحتجاج به. وإذا كانت العقيدة من أساسها ليس لها ما يؤيدها من كتاب الله تعالى فكيف بما يتبعها من عقائد وتفريعات؟
الباطن:
والشيعة الاثنا عشرية لم يقفوا عند حد التأويل الذي أشرنا إليه، فهم ينسبون للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللأئمة أنهم قالوا: إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن، أو إلى سبعين بطناً! (2) وهم لا ينفردون بالقول بأن للقرآن الكريم ظاهرا وباطنا، فقد قيل به قديماً وحديثاً. قال أستاذنا الجليل المرحوم على حسب الله تحت عنوان ظاهر القرآن وباطنه: " إذا سمع المرء كلاماً عربياً تبادر إلى ذهنه ما يدل عليه الكلام بحسب وضعه العربى، فإذا تدبره فقد يفهم منه مقاصد مطوية وأغراضاً خفية، فالمتبادر الأول هو ظاهر الكلام، ويكاد يدركه كل عارف باللغة. والمفهوم الثاني هو باطنه وهو لا يدرك إلا بشىء من التدبر. وللقرآن ظاهر
_________
(1) المرجع السابق ص 102: 103 وانظر كذلك للجعفرية في حجية الظواهر: فوائد الأصول 3 / 47: 48، وأصول الفقه للمظفر 1 / 24، 30: 32، جـ 3 / 129: 130، 134، 141، والمعالم الجديدة للأصول ص 139: 145.
(2) انظر الميزان 1 / 5، وانظر الكافى 1 / 374.(1/462)
وباطن بهذا المعنى، وكلاهما مراد، غير أن الثاني لا يعتد به إلا إذا لم يكن مناقضاً للأول، وكان له شاهد من مقاصد الدين ومراميه " (1) .
والإمام الغزالى من قبل أفاض في الحديث عن الظاهر والباطن، وقسم الباطن إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الشىء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه، فيختص بدركه الخواص.
القسم الثاني: من الخفيات التي يمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها، ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه، ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين.
القسم الثالث: أن يكون الشىء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز.
القسم الرابع: أن يدرك الإنسان الشىء جملة ثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق.
القسم الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يدرك السر فيه (2) .
_________
(1) أصول التشريع الإسلامى ص 25 ـ 26.
(2) راجع هذه الأقسام بالتفصيل، والحديث عن الظاهر والباطن في إحياء علوم الدين: ... 1 / 171 ـ 180، والصوفية لهم حظ معلوم من التأويل! وانظر ما كتبه أستاذنا العلامة المرحوم أبو زهرة عن ظاهر القرآن وباطنه عند الجعفرية، والموازنة بين كلامهم وكلام الغزالى " الإمام الصادق ص 305 ـ 315 ". وراجع الفرق بين قولهم وما ذهب إليه جمهور المفسرين في " التفسير والمفسرون 2 / 28 ـ 32 ". وانظر كذلك أعلام الموقعين " 4 / 310 ـ 320 " ففيه بحث قيم عن التأويل، وراجع فيه رأى ابن رشد، ومهاجمته للغزالى ولغيره من المتأولة.(1/463)
ثلث القرآن في الأئمة! ! وثلثه في عدوهم! ! :
فالجعفرية إذن لم ينفردوا بالقول بالباطن جملة، ولكن أثر عقيدتهم في الإمامة ـ إلى جانب ما سبق ـ ظهر في التوسع في القول بالباطن إلى غير حد، حتى أن بعضهم ـ كما سيأتى ـ اعتبر ثلث القرآن فيهم، وثلثه في عدوهم، وبعضهم جعل الربع لا الثلث، وهؤلاء وأولئك نسبوا هذا الضلال للأئمة الأطهار افتراء عليهم، حتى يضلوا غيرهم، وبذلك أخضعوا كتاب الله تعالى لأهوائهم، وحرفوه ليصبح أقرب ما يكون إلى كتاب من كتب الفرق، ولم يفترقوا كثيراً عن الإسماعيلية الباطنية (1) .
وعند تناولنا لكتبهم سنرى أنهم مختلفون، فمن ناشد للاعتدال نسبيا مقترب منه، إلى راغب في الضلال هابط إلى الغلو. وقبل الحديث عن هذه الكتب نتحدث عن موضوع جد خطير، حيث يتعلق بصيانة القرآن الكريم من النقص والتحريف.
_________
(1) مما رواه الإسماعيلية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال " ما نزلت على من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن " ومما رووه عن الإمام الصادق ـ وهو آخر إمام يجمعهم بالجعفرية ـ أنه قال " إنا نتكلم في الكلمة الواحدة سبعة أوجه، فقال الرجل متفكراً: سبعة يا بن رسول الله؟ فقال: نعم.. وسبعين ولو استزادنا لزدناه ". " انظر أساس التأويل ص 30، 37 " وقالوا: " من معجزات وغرائب تأليفه ـ أي القرآن الكريم ـ أنه يأتى بالشىء الواحد وله معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، فجعل عزوجل ظاهره معجزة رسوله، وباطنه معجزة الأئمة من أهل بيته، لا يوجد إلا عندهم، ولا يستطيع أحد أن يأتى بباطنه غير الأئمة من ذريته، وهو علم متوافر بينهم مستودع فيهم، يخاطبون كل قوم منه بمقدار ما يفهمون، ويعطون كل أهل حد منه ما يستحقون، ويمنعون منه ما يجب منعه، ويدفعون عنه من استحق دفعه ". " ص 31 ـ 32 أساس ... التأويل ".
وإذا كان هذا المنهاج مختصاً بالإسماعيلية الباطنية، فإنا سنرى من دراستنا لكتب الجعفرية أن منها ما لا يرتفع عن هذا الدرك الأسفل، وكل يخضع كتاب الله تعالى لهواه، هذا يجعله إسماعيلياً، وذاك يحرف مثله ولكن ليجعله جعفرياً اثنى عشرياً.(1/464)
الفصل الثالث: القرآن الكريم والتحريف
لماذا قالوا بالتحريف؟
بالرجوع إلى كتب الجعفرية نجد جدلاً حول التحريف بين معتدليهم نسبيا وغلاتهم، ونتعرض لهذا الأمر بإيجاز قدر المستطاع قبل الحديث عن كتبهم بشىء من التفصيل:
فمن المقطوع به عند جمهور المسلمين أنه {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (1) وأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظ القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ، ولذا هيأ له، وسيهيئ له من يحفظه إلى يوم القيامة. وقد كتب على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وجمع ما كتب عند الصديق ثم الفاروق، ثم كان المصحف الإمام الذي كتب في خلافة ذى النورين كما هو معلوم، فحفظ في السطور والصدور على مر القرون، وكلما أصاب المسلمون تقدماً وجهوه قدر استطاعتهم لحفظ كتاب الله تعالى، هذا ما نلمسه جميعا بغير خلاف.
والذين حاولوا هدم الإسلام وجهوا مردة شياطينهم للطعن في القرآن المجيد، لكن هيهات، فباءوا بمرارة الفشل، وبغضب ممن علم القرآن. ولا عجب في مسلك هؤلاء الكفار، ولكن العجب كل العجب أن نجد ممن ينتمى إلى الإسلام من يضل ضلال هؤلاء الكفار! فغلاة الاثنى عشرية عز عليهم أن يخلو القرآن الكريم من نصوص ظاهرة صريحة تؤيد عقيدتهم في الإمامة، فلم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة كما سنرى، بل أقدموا على جريمة مدبرة، فطعنوا في الصحابة الأكرمين،
_________
(1) 64: يونس.
(2) 9: الحجر.(1/465)
وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الذين سبقوا الإمام علياً، وأرادوا من هذا الطعن الافتراء عليهم بأنهم غير أمناء على تنفيذ الشريعة ونقلها، وحفظ كتاب الله العزيز، ولذا انتهوا من هذا الطعن إلى أنهم اغتصبوا الخلافة، وحرفوا القرآن الكريم حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يظهر حق على في الخلافة والأئمة من بعده! !
كتاب فصل الخطاب:
ومن أشهر كتب هؤلاء الغلاة كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب "، قال مؤلفه حسين بن محمد تقى النورى الطبرسي (1) في ص 2 " هذا كتاب لطيف وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضايح أهل الجور والعدوان ".
وذكر روايات كثيرة تفيدالتحريف منها: " لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دار الفناء، وفعلا صنما قريش ما فعلا من غصب الخلافة الظاهرية، جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن كله ووضعه في إزار، وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه، أمرنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أعرضه عليكم لقيام الحجة عليكم يوم العرض بين يدى الله تعالى. فقال فرعون هذه الأمة ونمرودها: لسنا محتاجين إلى قرآنك.. فنادى ابن أبى قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح وعثمان، وسعد بن أبى وقاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدرى، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين، وجمعوا هذا القرآن، أسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة!! والقرآن الذي جمعه
_________
(1) ولد سنة 1254 هـ بإحدى كور طبرستان، وتوفى بالكوفة سنة 1320 هـ، وهو صاحب كتاب مستدرك وسائل الشيعة الذي طبع بالقاهرة مع الوسائل للحر العاملى.(1/466)
أمير المؤمنين عليه السلام بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه، فيه كل شىء حتى أرش الخدش " (1) .
ومنها ما نسب للإمام الصادق " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (2) .
سورة الولاية في كتاب دبستان المذاهب:
ونقل عن صاحب كتاب دبستان المذاهب قوله: " بعضهم يقولون إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف السور التي كانت في فضل على وأهل بيته، منها هذه السورة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكر سورة كاملة مفتراة، ثم عقب عليها بقوله: " ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها، غير أن الشيخ محمد بن على بن شهر أشوب المازندرانى ذكر في كتاب المثالب، على ما حكى عنه، أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة " (3) .
هذه نماذج قليلة ذكرناها بنصها، والكتاب كله يخبط في ظلام هذا الضلال، ثم يفترى هذا على أهل البيت الأطهار، فمن أولئك الغلاة المفترون؟
من القائلون بالتحريف؟
قال مؤلف الكتاب السابق: " وقوع التغيير والنقصان فيه هو مذهب الشيخ الجليل على بن إبراهيم القمي شيخ الكلينى، في تفسيره صرح بذلك في أوله، وملأ كتابه من أخباره، مع التزامه في أوله بأن لا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته.
_________
(1) ص 9 ـ 10، ويقصد الضالون بصنمى قريش الصديق والفاروق وفرعون هذه الأمة ونمرودها الفاروق {كَبُرَتْ كَلِمَةً تخرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} " 5: الكهف " ويراد بصاحب الأمر إمامهم الثاني عشر، وفى روايات أخرى يطلق هؤلاء الضالون على الراشدين الثلاثة: عجل هذه الأمة وفرعونها وسامريها انظر ص 155، 156، 218 من الكتاب المذكور.
(2) ص 14.
(3) انظر ص 156، 157 من فصل الخطاب.(1/467)
ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكلينى رحمه الله على ما نسبه إليه جماعة لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذا المعنى في كتاب الحجة، خصوصاً كتاب النكت والنتف من التنزيل، وفى الروضة، ومن غير تعرض لردها أو تأويلها (1) .
واستظهر المحقق السيد محسن الكاظمى في شرح الوافية مذهبه من الباب الذي عقده فيه وسماه " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام "، فإن الظاهر من طريقته أنه إنما يعقد الباب لما يرتضيه. قلت: وهو كما ذكره، فإن مذاهب القدماء تعلم غالباً من عناوين أبوابهم، وبه صرح أيضاً العلامة المجلسى في مرآة العقول. وبهذا يعلم مذهب الثقة الجليل محمد بن الحسن الصفار في كتاب البصائر من الباب الذي له أيضاً فيه، وعنوانه هكذا " باب في الأئمة أن عندهم لجميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وهو أصرح في الدلالة مما في الكافى، ومن باب " أن الأئمة محدثون ".
وهذا المذهب صريح الثقة محمد بن إبراهيم النعمانى، تلميذ الكلينى صاحب كتاب الغيبة المشهور، في تفسيره الصغير الذي اقتصر فيه على ذكر الآيات وأقسامها، وهو بمنزلة الشرح لمقدمة تفسير على بن إبراهيم، وصريح الثقة الجليل سعيد بن عبد الله القمي في كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه كما في المجلد التاسع عشر من البحار، فإنه عقد فيه باباً ترجمته " باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عزوجل مما رواه مشايخنا رحمة الله عليهم من العلماء من آل محمد " (2) .
_________
(1) انظر دراستنا لكتاب الحجة من الجزء الأول لأصول الكافى، وكذلك دراستنا لروضة الكافى، في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ص 296: 355، وفى الجزء الثالث من هذه الموسوعة.
(2) فصل الخطاب ص 25 ـ 26.(1/468)
واستمر المؤلف في ذكر القائلين بالتحريف (1) إلى أن قال: " ومن جميع ما ذكرناه ونقلناه بتتبعى القاصر، يمكن دعوى الشهرة العظيمة بين المتقدمين، وانحصار المخالف فيهم بأشخاص معينين يأتى ذكرهم. قال السيد المحدث الجزائرى في الأنوار ما معناه أن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعراباً والتصديق بها " (2) .
ثم قال: " ومن جميع ذلك ظهر فساد ما ذكره المحقق الكاظمى من انحصار القائل به في على بن إبراهيم والكلينى، أو مع المفيد وبعض متأخرى ... المتأخرين " (3) .
ثم اتهم الصحابة ـ خير أمة أخرجت للناس ـ بالكفر والعناد والجبروت والغباء، ليصل إلى أنهم ليسوا أهلاً لجمعه كما أنزل (4) .
وأكثر من ذكر الروايات كرواية الكلينى عن الإمام الصادق:
" إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة عشرألف آية " (5) .
_________
(1) وممن ذكرهم محمد بن مسعود العياشى صاحب أحد تفاسيرهم المشهورة، انظر ص 26.
(2) المرجع السابق ص 30.
(3) المرجع السابق ص 31 ـ 32.
(4) انظر ص 82.
(5) الكتاب نفسة ص 211، ومعلوم أن القرآن الكريم آياته لا تصل إلى ستة آلاف وثلاثمائة، ومعنى رواية الكلينى أن أكثر من عشرة آلاف آية حذفت. " جاء في البرهان للزركشى " 1 / 251 ": عدد آياته في قول على رضي الله عنه ـ ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف ومائتان وأربع ".(1/469)
وقال: " إن الأخبار الدالة على ذلك ـ أي التحريف ـ تزيد على ألفى حديث، وادعى لاستفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق والداماد والعلامة المجلسى وغيرهم (1) .
ثم قال: " واعلم أن تلك الأخبار منقولة من الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية، والآثار النبوية، إلا كتاب القراءات لأحمد بن محمد السيارى، فقد ضعفه أئمة الرجال، فالواجب علينا ذكر بعض القرائن الدالة على جواز الاستناد لهذا الكتاب " (2) .
وقال أحد مفسرى الجعفرية (3) : " أما اعتقاد مشايخنا رحمهم الله في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلينى ـ طاب ثراه ـ أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافى، ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه على بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملو منه، وله علو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبى طالب الطبرسي قدس سره، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج ".
وقال أحد كتابهم المعاصرين في مقدمة كتبها لتفسير القمي: " هذا التفسير، كغيره من التفاسير القديمة، يشتمل على روايات مفادها أن المصحف الذي بين أيدينا لم يسلم من التحريف والتغيير، وجوابه أنه لم ينفرد المصنف بذكرها، بل وافقه فيه غيره من المحدثين المتقدمين والمتأخرين عامة وخاصة " (4) .
ثم ذكر القائلين بالتحريف فقال بأنهم " الكلينى والبرقى، والعياشى والنعمانى، وفرات بن إبراهيم، وأحمد بن أبى طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج،
_________
(1) ص: 227.
(2) ص: 228.
(3) هو محمد بن مرتضى المدعو بمحسن، انظر كتابه الصافى ج 1 الورقة 19.
(4) انظر المقدمة المذكورة ص 22.(1/470)
والمجلسى، والسيد الجزائرى، والحر العاملى، والعلامة الفتونى، والسيد البحرانى، وقد تمسكوا في إثبات مذهبهم بالآيات والروايات التي لا يمكن الإغماض عنها.
والذى يهون الخطب أن التحريف اللازم على قولهم يسير جداً مخصوص بآيات الولاية، فهو غير مغير للأحكام ولا للمفهوم الجامع الذي هو روح القرآن، فهو ليس بتحريف في الحقيقة، فلا ينال لغير الشيعة أن يشنع عليهم من هذه الجهة " (1) .
معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة:
هذه حركة من حركات التشكيك والتضليل قام بها غلاة الشيعة الاثنى عشرية، وسنعود للحديث عن بعض هؤلاء الغلاة عند تناولنا لكتبهم، ولكن المهم هنا هو أن المعتدلين – إلى حد ما - من إخواننا الجعفرية قد تصدوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً، وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبينوا أن ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت ـ تمسك بها القائلون بالتحريف ـ منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، والباقى يضرب به عرض الحائط. وأشهر من تصدى منهم لحركة التضليل في القديم محمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق صاحب كتاب " من لا يحضره الفقيه "، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية، والسيد الشريف المرتضى، وتلميذه الشيخ الطوسى: صاحب تفسير التبيان، وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة السابقة، وشيخ مفسرى الجعفرية أبى على الفضل بن الحسن الطبرسي (2) .
ومما ذكره السيد المرتضى قوله: " القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية
_________
(1) تفسير القمي ـ المقدمة نفسها ص 23 ـ 24.
(2) وفاة هؤلاء على الترتيب: 381، 436، 460، 548 هـ.(1/471)
حتى عرفوا كل شىء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد " (1) .
وقال: " إن القرآن كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأن كان يعرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبى بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته " (2) .
وقال الشيخ الطوسى: " أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من أي القرآن، ونقل شىء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه " (3) .
_________
(1) مقدمة مجمع البيان ص 15.
(2) المقدمة السابقة ص 15 وانظر رأى الطبرسي في الصفحة ذاتها.
(3) التبيان 1 / 3.(1/472)
وقال الصدوق: " اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ما بين الدفتين: وهو ما في أيدى الناس، وليس بأكثر من ذلك ... ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب " (1) .
هذا موقف المعتدلين نسبيا في القديم، أما في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقون في الظاهر مع جمهور المسلمين في أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان، ومن شذ برأيه منهم، حتى كاد يخرج عن الإسلام، فلا يعتد به، ولذا قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية " أن الكتاب الموجود في أيدى المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ أي إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ للإعجاز والتحدى، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصة أو تحريفة ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار " (2) .
وعندما خرج صاحب فصل الخطاب بكتابه تصدى له كثير من علماء الشيعة وسفهوا رأيه، وبينوا خطأ ما جاء به جملة وتفصيلاً. منهم ـ على سبيل المثال ـ السيد أبو القاسم الخوئى مرجعهم السابق بالعراق (3) والشيخ محمد جواد البلاغى
_________
(1) رسالته في الاعتقادات: ص 93.
(2) أصل الشيعة وأصولها ص 133.
(3) انظر كتابه البيان ص 215 ـ 278 وبعد بحثه قال تحت عنوان " النتيجة " ص 278: " ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمى ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته ".(1/473)
النجفى (1) والشيخ محمد تقى الحكيم (2) . فلسنا في حاجة إذن إلى ذكر شبهات الضالين، وبيان بطلانها، فقد تكفل إخواننا الجعفرية بهذا، بل إن الإخباريين الذين يرون صحة جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت، ولذا ذهبوا إلى القول بالتحريف، وجدنا منهم من ينكر هذا التحريف. قال مرجعهم السابق بالكويت: " مذهبنا ـ ومذهب كل مسلم ـ بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الذي هو الذكر المحفوظ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (3) .
هذا اتجاه طيب، وهداية مرجوة، فلعل الله عزوجل يهدى باقى إخواننا الجعفرية الصراط المستقيم، وإن كان هؤلاء الذين يمثلون جانب الاعتدال إلى حد ما في المذهب الجعفرى عز عليهم أن يكون الغلاة الضالون القائلون بالتحريف جعفريين، ولذا حاولوا إبعاد هذه التهمة عمن له مكانة عالية بينهم، وإلصاقها بجمهور المسلمين! ومن المقطوع به أن جمهور المسلمين ليس منهم من يقول بالتحريف.
فلا نعرف أحداً من جمهور المسلمين يقول بأن الصحابة الكرام أسقطوا شيئاً من القرآن الكريم كما قال غلاة الجعفرية، والجعفرية يدركون هذا تماماً ولذا حاولوا نسبة هذا الجرم الشنيع لغيرهم بقولهم بأن القول بنسخ التلاوة قول بالتحريف، ليصلوا من هذا إلى أن أكثر أهل السنة قائلون بالتحريف!
_________
(1) انظر مقدمته لتفسير شبر ص 16: 19.
(2) راجع كتابه الأصول العامة للفقه المقارن ص 107: 117.
(3) تعليق على مقال ص 13.(1/474)
ونسخ التلاوة يعنى أن آيات نزلت، ثم أمر الله تعالى برفعها، وقد أتى الله تعالى بمثلها أو بخير منها {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } " 106: البقرة " أي أن الشارع الحكيم هو الذي أمر بهذا الرفع. فهذا النسخ لو سلمنا بوجوده فإنه كما يقول أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور مصطفى زيد " لا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله ـ عزوجل ـ بحفظه من التغيير والتبديل، وهو الذي جمع بين دفتى المصحف، ولا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن كذلك في الوحى الذي تنزل به جبريل على قلب محمد، ما دام المرفوع منه قد رفع في عهد التنزيل، ولم ترفع منه كلمة واحدة بعد أن انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَـ إلى الرفيق الأعلى. " النسخ في القرآن الكريم 1 / 282: 283 ".
فما بين الدفتين هو القرآن الكريم الذي أمرنا بتلاوته وتدبره، وتنفيذ أحكامه، بغير زيادة أو نقصان، فكيف يقال بأن النسخ تحريف؟
على أن الجعفرية الذين تصدوا لحركة التضليل في الماضى قائلون بهذا النسخ، بل مدافعون عنه، فكيف غاب هذا عن شيعة اليوم وهم يخلطون بين النسخ والتحريف ليصلوا إلى مأربهم!
ولنذكر مثلاً شيخ الطائفة الطوسى، قال في تفسيره التبيان " 1 / 13 ": " لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة، أحدها: نسخ حكمه دون لفظه.. الثاني ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنه له منسوخة بلا خلاف وهى قوله (والشيخ والشيخة إذا زنيا) .. والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة أنه كان فيما أنزل الله عشر رضعات ".
وقال في موضع آخر " 1/ 394 ": " وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ".(1/475)
والنوع الثالث لأن روايته عن المخالفين ـ أي غير الجعفرية ـ قال عنه الطوسى بأنه " مجوز وإن لم يقطع بأنه كان "، أما النوع الثاني فإنه يؤيده برواية الشيخ والشيخة، ويقول بأنها رواية مشهورة، فهذه الرواية من روايات الجعفرية كذلك، ورواها أيضا على بن إبراهيم القمي الذي ينسب رواياته إلى الإمامين الباقر والصادق " انظر تفسيره 2 / 95، وانظر كذلك مجمع البيان 1 / 180 ـ 181 لترى اتفاق الطبرسي مع الطوسى في النسخ ".
ولسنا بهذا نؤيد إمكان وقوع هذا النسخ أو عدم إمكانه، ولكنا نبين لإخواننا الجعفرية أن شيخ طائفتهم الذي دافع عن القول بعدم التحريف، دافع عن القول بنسخ التلاوة، لأن النسخ من الشارع الحكيم والتحريف من البشر بعد عصر التنزيل، فالنسخ والتحريف مختلفان تماماً، فكيف إذن يغيب هذا عن مرجع الجعفرية السابق بالعراق فيقول: " غير خفى أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط " " البيان ص 244 " ثم يستمر ليقول: " وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة! لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة " ثم يقول في ص 225: " قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم! " ويشير إلى ما ذكره الطبرسي في مجمع البيان " ج 1 ص 15 " من الاستدلال على بطلان القول بالتحريف. ولو استمر مرجع الجعفرية إلى ص 180 لوجد استدلال الطبرسي كذلك على نسخ التلاوة! وما الرأى عند السيد فيمن ذكروا من الضالين القائلين بالتحريف؟ أليسوا من علماء الشيعة؟ أولا يعد أكثرهم عند الشيعة من المحققين؟ كالقمى، والعياشى، والكلينى، والنعمانى، والمجلسى وغيرهم.
أفلا يذكر السيد الخوئى ما ذهب إليه في كتابه معجم رجال الحديث ... " ج 1 ص 3 - 64 " من صحة تفسير على بن إبراهيم القمي، شيخ الكلينى، وأن روايات كتاب التفسير هذا " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة "؟ أو لم يقرأ السيد تلك(1/476)
الروايات ليرى فيها النص على القول بتحريف القرآن الكريم؟ وقد حكم هو بصحتها!
وإذا صدر هذا منه فماذا تنتظر من غيره؟! (1)
وبعد: فقد أوجزت هنا سائلاً الله تعالى ألا أكون تركت ما يجب ذكره، أو ذكرت ما يجب تركه.
_________
(1) بعد قليل يأتى الحديث عن تفسيرى القمي والعياشى الضالين، وانظر ما كتبته عن الكافى للكلينى في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله.(1/477)
الفصل الرابع: كتب التفسير الشيعي في القرن الثالث
ذكرت من قبل أن الجعفرية درجات بين الاعتدال النسبى والغلو فليسوا سواء، وإنا نرى لزاماً علينا الرجوع إلى كتبهم المختلفة لنرى إلى أي مدى أثرت عقيدة الإمامة عندهم في تناولهم لكتاب الله تعالى.
وعندما رجعت إلى الكثير من كتبهم وجدت أن القرن الثالث ظهر فيه ثلاثة كتب هي التفسير المنسوب للإمام العسكرى ـ إمامهم الحادى عشر ـ وتفسيرا العياشى، والقمى، وهذه الثلاثة تمثل جانب التطرف في المذهب الجعفرى.
ثم يأتى شيخ الطائفة الطوسى " المتوفى سنة 460 هـ " فيخرج كتابه التبيان الذي يمثل جانبا من الاعتدال، ويليه الطبرسي شيخ مفسريهم. والجعفرية بعد هذا منهم من سلك أحد المسلكين، ومنهم من جمع بينهما، أو اقترب من أحدهما.
ونتحدث في هذا الفصل عن الكتب الثلاثة التي ظهرت في القرن الثالث، ثم نتحدث عن باقى الكتب في الفصول الأخرى.
*****
الكتاب الأول
تفسير الحسن العسكرى
قصة إملاء الكتاب:
التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكرى يرويه أبو يعقوب يوسف بن محمد ابن زياد، وأبو الحسن على بن محمد بن سيار (1) ، ويقولان: إن الإمام أملى عليهما هذا التفسير، ويذكران قصة لهذا الإملاء (2) . وهو تفسير لم يكمل، وإنما يتناول الفاتحة وسورة البقرة إلى قبيل خاتمتها بأربع آيات.
_________
(1) الراويان من الثقات عند الجعفرية ـ انظر ترجمتيهما في تنقيح المقال للمامقانى.
(2) انظر الصفحة الثانية وما بعدها.(1/478)
غلو وضلال:
وهو كتاب يبين عقيدة الإمامة، وما يتصل بها عند غلاة الجعفرية، ويخضع الآيات الكريمة لهذه العقيدة الفاسدة، ذاكراً ما يأباه ديننا الحنيف، وكل عقل سليم لم يمرضه الهوى والضلال. والكتاب مملوء بالافتراء على الله تعالى، وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أهل البيت الأطهار. فالكتاب إذن ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة، ولنضرب لذلك الأمثال حتى يحكم القارىء بنفسه.
كفر من أنكر ولاية على:
جاء في تفسير قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} " 4: البقرة ".
قال الإمام: " قال الحسن بن على: من دفع فضل أمير المؤمنين على جميع من بعد النبي فقد كذب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة، فإنه ما نزل شىء منها إلا وأهم ما فيه ـ بعد الأمر بتوحيد الله تعالى والإقرار بالنبوة ـ الاعتراف بولاية على والطيبين من آله.
ولقد حضر رجل عند على بن الحسين فقال له: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل الله على محمد، وما أنزل على من قبله، ويؤمن بالآخرة، ويصلى ويزكى، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، ولكنه مع ذلك يقول ما أدرى الحق لعلى أو لفلان، فقال له على بن الحسين: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا إنه يقول: لا أدرى: النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشىء من هذه الأفعال؟ فقال: لا. فقال: وكذلك قال صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا(1/479)
يدرى: أمحمد النبي أم مسيلمة الكذاب؟ وكذلك (1) كيف يكون مؤمناً بهذه الكتب، أو منتفعا به، من لا يدرى أعلى محق أم فلان " (2) .
شهادة البساط والسوط والحمار للوصى:
وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} " 6: البقرة " قال الإمام: " فلما ذكر هؤلاء المؤمنين، ومدحهم بتوحيد الله وبنبوة محمد رسول الله، ووصيه على ولى الله، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم فقال: إن الذين كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله، وبوصيه على ولى الله، وبالأئمة الطاهرين الطيبين، خيار عباده الميامين، القوامين بمصالح خلق الله تعالى، سواء عليهم ءأنذرتهم وخوفتهم أم لم تنذرهم ولو تخوفهم فهم لا يؤمنون. قال محمد بن على الباقر: إن رسول الله لما قدم المدينة، وظهرت آثار صدقه، وآيات حقه، وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد: وقصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، وحججه ليبطلوها، وكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وحيى بن الأخطب، وأبو ياسر بن الأخطب، وأبو لبابة بن عبد المنذر، وشيبة. فقال مالك لرسول الله: يا محمد تزعم أنك رسول الله؟ قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين. قال: يا محمد لن نؤمن أنك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا، ولن نشهد لك أنك من الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبو لبابة بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله، ولا نشهد لك به، حتى يؤمن ويشهد لك به هذا السوط الذي في يدى. وقال كعب الأشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه، فقال رسول الله: إنه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى، بل عليهم التسليم لله،
_________
(1) في الأصل " كك ".
(2) ص 32: 33.(1/480)
والانقياد لأمره، والاكتفاء بما جعله كافيا.
أما كفاكم أن أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتى، ودل على صدقى، وبين فيها ذكر أخى ووصيى وخليفتى في أمتى، وخير ما أتركه على الخلايق من بعدى، على بن أبى طالب؟
فلما فرغ رسول الله من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً صمداً قيوماً أبداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يشرك في حكمه أحداً. وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركين. وأشهد أن على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيك، وخليفتك في أمتك وخير من تركته على الخلايق بعدك، إن من والاه فقد والاك، ومن عاداه فقد عاداك، ومن أطاعه فقد أطاعك، ومن عصاه فقد عصاك " (1) .
وتستمر القصة لتبين أن البساط تحرك وأوقع من عليه، وأنه نطق ثانياً ليبين أن الله تعالى أنطقه ليشهد هذه الشهادة، وأنه لا يجلس عليه إلا المؤمنون. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار: قوموا فاجلسوا عليه، فإنكم بجميع ما شهد به هذا البساط مؤمنون، فجلسوا عليه. وبمثل هذا شهد السوط، ثم الحمار، ثم قال: فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله يا محمد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ... } الآية (2) .
قصص خرافية:
وفى الحديث عن قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} ... الآية 7: البقرة " قصص خرافية عن على: كسائل طلب منه مساعدته لقضاء دينه فنادته الملائكة
_________
(1) ص 34.
(2) انظر ص 34: 36.(1/481)
من السماء ليخبر السائل بأن يضع يده على ما يشاء لتكون ذهباً، ففعل وقضى دينه، وبقى له كذا وكذا ... إلخ (1) .
يوم الغدير ومابعده:
وفى تفسير: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} "8: البقرة " يقول: قال الإمام: قال العالم موسى بن جعفر: "إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين في يوم الغدير موقفه المشهور " وذكر صاحب التفسير هنا أخذ البيعة من الصحابة وأولهم أبو بكر وبعده عمر، ثم قال: "ثم إن قوماً من متمرديهم وجبابرتهم تواطئوا بينهم لئن كانت لمحمد كائنة ليدفعن هذا الأمر من على، ولا يتركونه له، فعرف الله ذلك من قبلهم، وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمت علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا، فكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض، أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون، فأخبر الله ـ عز وجل ـ محمداً عنهم فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب على إماماً وسايساً لأمتك ومدبراً، وماهم بمؤمنين بذلك، ولكنهم تواطئوا على إهلاكك وإهلاكه، يوطنون أنفسهم على التمرد على علىّ إن كانت بك كائنة " (2) .
اتهام الشيخين والصحابة بالنفاق والكذب والكفر!!
ثم يستمر الكتاب بعد ذلك في جعل الآيات متصلة ببيعة الصحابة للإمام على، واتهام الصحابة الأكرمين ـ وفى مقدمتهم الصديق والفاروق ـ بالنفاق والكذب والكفر!! فعند الحديث عن قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
_________
(1) انظر ص 36: 41.
(2) ص: 41 ـ 42.(1/482)
يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ... } " 9: البقرة " يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: لما اتصل ذلك من مواطأتهم، وقيلهم في على، وسوء تدبيرهم عليه، برسول الله فدعاهم وعاقبهم، فاجتهدوا في الإيمان، وقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشىء كاعتدادى بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفتح الله بها لي في قصور الجنان، ويجعلنى فيها من أفضل النزال والسكان. وقال ثانيهم: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرنى أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسى ما أعطيت، وأن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش. وقال ثالثهم: يا رسول الله، لقد صرت من الفرح والسرور بهذه البيعة والفتح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها على لمحصت عنى بهذه البيعة. ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين. فقال الله عزوجل لمحمد: يخادعون الله: يعنى يخادعون رسول الله بائتمان خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضاً، الذين سيدهم وفاضلهم على بن أبى طالب. ثم قال: وما يخادعون ما يضرون من تلك الخديعة إلا أنفسهم، فإن الله غنى عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شئ من فجورهم وطغيانهم، وما يشعرون أن الأمر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم، ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين، وذلك اللعن لا يفارقهم في الدنيا، ويلعنهم خيار عباد الله، وفى الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله " (1) .
زعمه بأن الصحابة لا يؤمنون بأى دين!!
وهو يرى بأن هؤلاء الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لا يؤمنون بأى دين!! فمثلاً عند الحديث عن قوله تعالى: {وَإِذَا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
_________
(1) ص: 42.(1/483)
قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} " 11 - 12 البقرة " يقول: " قال العالم موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير، لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة بعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم، وتحيرونهم في مذاهبهم، قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد ... إلخ (1) .
دعوة موسى لولاية على!!
والكتاب كله تقريباً يدور حول الإمامة وما يتصل بها، وكأن القرآن الكريم ما نزل إلا لدعوة الناس إلى إمامة الإمام على!
ثم إن هذه الدعوة ليست قاصرة على أمة محمد ـ صلوات الله عليه ـ فعند قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ... " 53: البقرة " يقول: " لما أكرمهم الله بالكتاب والإيمان به والانقياد له، أوحى الله بعد ذلك إلى موسى ... يا موسى: تأخذ على بنى إسرائيل أن محمداً خير النبيين وسيد المرسلين، وأن أخاه ووصيه علياً خير الوصيين، لعلكم تهتدون: أي لعلكم تعلمون أن الذي شرف العبد عند الله ـ عزوجل ـ هو اعتقاد الولاية كما شرف به أسلافكم " (2) .
قصص خرافية تصلح للأطفال:
والكتاب لا يكتفى بهذا الضلال في تحريف القرآن الكريم ليتفق مع هواه وغيه، وإنما يذكر من الخرافات ما يذكرنا بالقصص الخرافية للأطفال! فمثلاً عندما يتحدث عن سبب نزول قوله تعالى: {في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً
_________
(1) ص 44.
(2) ص 100.(1/484)
وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ... } " 10: البقرة " يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: إن رسول الله لما اعتذر هؤلاء المنافقون إليه بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم، ووكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبريل أتاه فقال: يا محمد، إن العلى الأعلى يقرئك السلام ويقول: أخرج بهؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في على نكثهم لبيعته، وتوطيهم نفوسهم على مخالفتهم علياً، ليظهر من عجايب ما أكرمه الله به من طواعية الأرض والجبال والسماء له، وسائر ما خلق الله، لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولى الله علياً غنى عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه منهم إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه " (1) .
وذكر أنه خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهؤلاء وعلى، حيث استقر عند سفح بعض جبال المدينة، فسأل ربه فانقلبت ذهباً، ثم فضة، ثم انقلبت الأشجار إلى رجال شاكى السلاح، وأسود ونمور وثعابين، وكلها ناجت وصى رسول الله بأنها تحت أمره ... إلخ. فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك. مضافاً إلى ما كان من مرض حسدهم لعلى بن أبى طالب، فقال الله عند ذلك:
{فِي قلُوبِهِم مَّرَضٌ} الآية (2) .
معجزات الإمام علي:
وعند تفسير قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} " 23: البقرة " يتحدث عن المعنى ـ وهو متصل بالولاية كسائر الآيات ـ ثم يتحدث عن معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعجزات الإمام على، ومن هذه المعجزات التي ذكرها:
_________
(1) ص 42: 43.
(2) انظر ص 43: 44.(1/485)
الغمامة التي أظلت الرسول الكريم في تجارته للشام، وكان مكتوباً عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلى سيد الوصيين، وشرفته بأصحابه الموالين له ولعلى ولأوليائهما، والمعادين لأعدائهما " (1) .
ومنها: تسليم الجبال والصخور والأحجار على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبشيره بوصيه وباب مدينة علمه على بن أبى طالب (2) .
ومنها: أن شجرتين تلاصقتا ليقضى الرسول حاجته، وأن نظير هذا كان لعلى بن أبى طالب لما رجع من صفين، حيث تلاصقت شجرتان كان بينهما أكثر من فرسخ (3) .
صكوك الغفران:
وحتى يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بهذه الخرافات، ويسيروا في ظلمات هذا الضلال، يصدر صكوك الغفران! وقد بين أن جهنم اعدت للكافرين بولاية على، المنافقين في اظهار الرضا عن البيعة كما أشرنا من قبل. ثم يتعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون للصك قيمته حتى يمكن التأثير على هذا الصنف من الناس. اقرأ مثلاً ما كتب عن قوله تعالى:
{أُوْلَئِكَ الذِينَ اشْتَرُوُاْ الضلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ... } ... " 16: البقرة "، فإنك تجد الحديث عن البيعة، والافتراء على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه قال: " أما إن من شيعة على لمن يأتى يوم القيامة وقد وضع له في كفة ميزانه من الآثام ما هو أعظم من الجبال الرواسى، والبحار الثبار، يقول الخلائق: هلك هذا العبد، فلا يشكون أنه من الهالكين، وفى عذاب الله من الخالدين. فيأتيه ... النداء من قبل الله عزوجل: يأيها العبد الخاطى الخانى هذه الذنوب الموبقات، فهل
_________
(1) انظر ص 60.
(2) انظر ص 61.
(3) انظر ص 64.(1/486)
بإذائها حسنات تكافيها فتدخل جنة الله برحمة الله، أو تزيد عليها فتدخلها بوعد الله؟ يقول العبد: لا أدرى، فيقول منادى ربنا عزوجل: فإن ربى يقول ناد إلى عرضات القيامة: ألا إني فلان بن فلان، من أهل بلد كذا وكذا، وقرية كذا وكذا، قد رهنت بسيئات كأمثال الجبال والبحار، ولا حسنات لي بإزائها، فأى أهل هذا المكان لي عنده يد أو عارفة فينعتنى بمجازاتى عنها، فهذا أوان أشد حاجتى إليها. فينادى الرجل بذلك، فأول من يجيبه على بن أبى طالب: لبيك لبيك، أيها الممتحن في محبتى، المظلوم بعداوتى، ثم يأتى هو ومعه عدد كثير وجمع غفير، وإن كانوا أقل عدداً من خصمائه الذين لهم قبله الظلامات، فيقول ذلك العدد: يا أمير المؤمنين، نحن إخوانه المؤمنون، كان بنا باراً ولنا مكرماً، وفى معاشرته إيانا مع كثرة إحسانه إلينا متواضعاً، وقد بذلنا له جميع طاعاتنا، وبذلناها له.
فيقول على: فبماذا تدخلون جنة ربكم؟ فيقولون: برحمته الواسعة التي لا يعدمها من والاك يا أخا رسول الله، فيأتى النداء من قبل الله عزوجل: يا أخا رسول الله، هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له؟ فإنى أنا الحاكم ما بينى وبينه من الذنوب، قد غفرتها له بموالاته إياك، وما بينه وبين عبادى من الظلامات فلابد من فصل الحكم بينه وبينهم. فيقول على: يا رب أفعل ما تأمرنى. فيقول الله عزوجل: يا على، اضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قبله، فيضمن لهم على ذلك، ويقول لهم: اقترحوا على ما شئتم اعطيكموه عوضاً عن ظلاماتكم قبله. فيقولون: يا أخا رسول الله تجعل لنا ... ثواب نفس من أنفاسك ليلة بيوتك على فراش محمد رسول الله. فيقول على: قد وهبت ذلك لكم. فيقول الله عزوجل: فانظروا يا عبادى الآن إلى ما نلتموه من على بن أبى طالب فدى لصاحبه من ظلاماته، ويظهر لكم ثواب نفس واحد في الجنان من عجايب قصورها وخيراتها: ثم قال رسول الله: أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم المعدة لمخالفى أخى ووصيي على بن أبى طالب " (1) .
_________
(1) ص: 48 ـ 49.(1/487)
بعد هذا العرض أظن أن القارئ قد تأكد بنفسه مما قلته من أن هذا الكتاب ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة التي رزئ بها الإسلام، وأنه أثر من آثار الغلو في عقيدة الإمامة.
لمن هذا الكتاب؟
يبقى هنا أن نتساءل: لمن هذا الكتاب؟ أهو فعلاً للإمام الحسن العسكرى؟ أظن لا، بل أكاد أقطع بهذا؛ فهذا الرجل الطاهر الصالح ليس كافراً وليس ضالاً، وإنما كفر وضل أولئك الذين غالوا فيه، وفى آبائه الكرام البررة.
ومن الشيعة أنفسهم من يرى عدم صحة نسبة الكتاب للإمام، ويطعن في السند، ويرى أنه مشتمل على المناكير. وأشار إلى هذا صاحب كتاب الذريعة عند حديثه عن هذا التفسير، غير أنه أطال في محاولة إثبات أن هذا الكتاب من إملاء الإمام، وسود بهذا تسع صفحات في الجزء الرابع " ص 285: 293 "، وقال عن المناكير التي ذكرنا شيئاً منها: ليس فيه إلا بعض غرائب المعجزات مما لا يوجد في غيره!
والكتب التي اطلعت عليها لغير غلاة الشيعة لا تشير إلى هذا التفسير، ولا تنقل عنه، فلو كان عندهم كتاب إمام يرونه القرآن الناطق، لالتزموا بما جاء فيه. ولكن هذا في رأيي لا يكفى، فكان الواجب الإشارة إلى الكتاب وما به من كفر وضلال.
ويبقى أن بعض شيعة الأمس واليوم من المتطرفين الغلاة يعتقدون صحة نسبة هذا التفسير للإمام العسكرى، وبعض مفسريهم نقله كاملاً.
*****(1/488)
الكتاب الثاني
تفسير القمي
منزلة الكتاب وصاحبه عند الشيعة:
ثانى هذه الكتب الثلاثة تفسير القمي: لأبى الحسن على بن إبراهيم بن هاشم القمي، وهو يشمل القرآن الكريم كله. وصاحب الكتاب (1) كان في عصر الإمام العسكرى، وعاش إلى سنة 307، وهو ثقة عند الشيعة، يعتبر من أجل الرواة عندهم، وقد أكثر من النقل عنه تلميذه محمد بن يعقوب الكلينى في كتابه الكافى، الكتاب الأول في الحديث عند الجعفرية الاثنى عشرية.
وقال آقابزرك الطهرانى ـ صاحب الذريعة ـ عن الكتاب بأنه أثر نفيس وسفر خالد مأثور عن الإمامين أبى جعفر الباقر وأبى عبد الله الصادق (2) .
وقال السيد طيب الموسوى الجزائرى في مقدمته عنه (3) بأنه " تحفة عصرية، ونخبة أثرية لأنها مشتملة على خصائص شتى قلما تجدها في غيرها، فمنها:
1 - أن هذا التفسير أصل أصوله للتفاسير الكثيرة.
2 - أن رواياته مروية عن الصادقين عليهما السلام مع قلة الوسائط والإسناد، ولهذا قال في الذريعة: " إنه في الحقيقة تفسير الصادقين عليهما ... السلام ".
3 - مؤلفه كان في زمن الإمام العسكرى.
4 - أبوه الذي روى هذه الأخبار لابنه كان صحابياً للإمام الرضا.
5 - أن فيه علماً جماً من فضائل أهل البيت عليهم السلام التي سعى أعداؤهم
_________
(1) انظر ما كتبه الجزائرى عنه في مقدمته لهذا التفسير ص 8.
(2) انظر كلمته: ج 1 ص 5 ـ 6 من تفسير القمي، وراجع ما ذكره عن تفسير القمي في الذريعة 4 / 302: 309.
(3) راجع ص 15.(1/489)
لإخراجها من القرآن.
6 - أنه متكفل لبيان كثير من الآيات القرآنية التي لم يفهم مرادها تماماً إلا بمعونة إرشاد أهل البيت التالين للقرآن (1) .
وبادئ ذى بدء أحب أن أسجل الدهشة والعجب! فكيف يحتل الكتاب وصاحبه هذه المكانة عند إخواننا الجعفرية وهو من أوائل الغلاة الضالين الذين قادوا حركة القول بتحريف القرآن الكريم؟ !
ونقلنا هذا من قبل، ونقلنا كذلك ما ذكره الجزائرى في مقدمته للكتاب من ذهاب القمي إلى القول بتحريف القرآن الكريم ودفاع الجزائرى عنه وعن هذا التحريف (2) !!
والقمى في مقدمته لتفسيره يذكر هذا الذي يذهب إليه، ويضرب له أمثلة ببعض آيات يرى أنها محرفة (3) ، والكتاب كله بعد ذلك مملوء بالضلال المضل من ذكر التحريف، والجدل لتخطئة بعض آيات الله تعالى، أو الزعم بفساد الترتيب والنظم (4) .
_________
(1) انظر ص 20.
(2) انظر ص 23 ـ 24 من المقدمة المذكورة.
(3) راجع مقدمة تفسيره ص 10 ـ 11.
(4) انظر مثلاً: ج 1 ص 110، 118، 122، 125، 126، 272 ... . إلخ.(1/490)
مظاهر الغلو والضلال
أثر عقيدة الإمامة في الكتاب يظهر فيما يأتى:
أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم:
ما ذكرناه آنفاً من القول بالتحريف، وبينا من قبل أن عقيدة أولئك الغلاة هي التي دفعتهم إلى ما ذهبوا إليه (1) ونزيد ذلك بياناً بقليل من الأمثلة التي ما أكثرها في هذا التفسير!!
نسب للإمام ابى جعفر أنه قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ يا على فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًاً} هكذا نزلت. ... ثم قال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (2) .
وفى سورة الزخرف قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) . وواضح ان الآيات تتحدث عن المسيح
_________
(1) راجع ص 153 من هذا الفصل.
(2) 1 / 142، والآيتان من سورة النساء " 64 ـ 65 "، والخطاب فيهما للرسول الكريم، فجعله القمي للإمام على فزاد " يا على " مرتين، أي أن هذه الزيادة حذفت من القرآن الكريم، وهذا يذكرنا بالفرقة الغرابية ـ من غلاة الشيعة ـ التي قالت بأن الرسالة كانت لعلى فأخطأ جبريل ونزل على محمد!!
(3) الآيات 57 ـ 59.(1/491)
عليه السلام، ولكنه يذكر الآية الأخيرة هكذا " إن على إلا عبد ... " ثم يقول: " فمحى اسمه من هذا الموضع " (1) .
وفى سورة محمد يروى أن اسم على أسقط في موضعين ذكرهما في كتابه (2) .
ثانياً: الطعن في الصحابة:
نتيجة لما ذكرته من التلازم بين القول بالتحريف والطعن في خير أمة أخرجت للناس صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحملوا معه أعباء الرسالة ونشرها، والدفاع عنها والتضحية من أجلها بالنفس والأهل والمال والوطن، نتيجة هذا التلازم نرى القمي يقدم على هذا الجرم، فيطعن في الصحابة الأكرمين، ويتهمهم بالكفر والنفاق والإشراك ليصل إلى القول بالتحريف، وإسقاط أسماء الأئمة، واغتصاب الخلافة! ولنذكر بعض الأمثلة:
في سورة المائدة " الآية السابعة ": {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ... } يقول القمي: " لما أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الميثاق عليهم بالولايه قالوا سمعنا وأطعنا، ثم نقضوا ميثاقهم ".
ثم يقول عن قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} (3) يعنى نقض عهد أمير المؤمنين (4) .
_________
(1) 2 / 286.
(2) انظر 2 / 301 ـ 302.
(3) المائدة: الآية: 13 والآية السابقة لها هي، {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ... } فجعلها القمي لولاية الإمام على، وجعل اللعن للصحابة الأبرار بأنهم نقضوا عهد أمير المؤمنين.
(4) 1 / 163.(1/492)
وسورة القصص: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (1) وهذه الآيات الكريمة بالنص تتحدث عن موسى وفرعون {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ولكن القمي يقول عن فرعون وهامان وجنودهما: " هم الذين غصبوا آل محمد حقهم وقوله " منهم " أي من آل محمد " ما كانوا يحذرون " أي من القتل والعذاب، ولو كانت هذه الآية. نزلت في موسى وفرعون لقال: ونرى فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون أي من موسى، ولم يقل منهم " (2) .
وفى سورة الزمر: {وَقَالَ لَهمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} (3) يقول: " أي طابت مواليدكم لأنه لا يدخل الجنة إلا طيب المولد: قال أمير المؤمنين: إن فلاناً وفلاناً غصبوا حقنا واشتروا به الإماء، وتزوجوا به النساء، ألا وإن قد جعلنا شيعتنا من ذلك في حل لتطيب مواليدهم " (4) .
_________
(1) من أول السورة إلى الآية السادسة.
(2) 2 / 133، ومعلوم أن ضمير الجمع كضمائر الجمع السابقة تعود على قوم موسى لا عليه هو.
(3) الآية 73.
(4) 2 / 254، والمراد بفلان وفلان الشيخان الصديق والفاروق حيث اعتبر خلافتهما غصباً، وهذا الافتراء طعن للإمام نفسه، فقد زوج ابنته سيدنا عمر.(1/493)
وفى سورة الزخرف يقول: نزلت هاتان الآيتان هكذا قول الله تعإلى:
{حَتَّى إِذَا جَاءنَا} - يعنى فلاناً وفلاناً ـ يقول أحدهما لصاحبه حين يراه - {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} فقال الله لنبيه: قل لفلان وفلان واتباعهما {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ آل محمد حقهم أَنَّكمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ثم قال الله لنبيه: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} يعنى من فلان وفلان، ثم أوحى الله إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ في على إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعنى إنك على ولاية على، وعلى هو الصراط المستقيم (1) .
وسورة محمد كلها تقريباً تدور حول الطعن والتحريف فأولها: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعمَالَهُمْ} يقول القمي: " نزلت في الذين ارتدوا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغصبوا أهل بيته حقهم، وصدوا عن أمير
_________
(1) 2 / 286، وما ذكره هنا فيه جمع بين الطعن في الشيخين والصحابة وذكر للتحريف، ونص الآيات الكريمة هو: {حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} " 38: 43 ".(1/494)
المؤمنين وعن ولاية الأئمة، أضل أعمالهم: أي أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجهاد والنصرة " (1) .
ثم يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ في على وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} ، هكذا نزلت. " ثم يقول: نزل جبريل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية هكذا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ في على فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . (2) ... وهكذا يستمر في ضلاله.
وسورة الرحمن كلها تقريباً تسير على هذا النمط، وإن ركز فيها على اتهام الشيخين بالكفر ودخول النار (3) .
هذه نماذج كافية لبيان ما أردنا حتى لا يطول بنا الحديث، نذكره مضطرين، ونسأله تعالى أن يحفظ العقل والدين.
ثالثاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:
إلى جانب التحريف نجده يؤول كلمات بأن المراد منها الأئمة ـ كلهم أو بعضهم ـ مع أنه لا ذكر لهم ولا إشارة إليهم من قريب أو بعيد في تلك المواضع، بل إن بعضها مختص بالله تعالى:
_________
(1) 2 / 300.
(2) 2 / 302.
(3) انظر 2 / 344، 346، وهو هنا يستخدم أكثر من رمز من الرموز التي يبدو أنها كانت متداولة بين حزبه السرى في هذا الوقت، فالدولة العباسية التي حكمت عصر القمي ما كانت لتسمح للعلويين بالظهور والمجاهرة بآرائهم. ولعل ظلم الأمويين للشيعة وما لاقوه على أيدى أبناء عمومتهم العباسيين، ساعد على هذا التطرف والضلال، ولكنه لا يبرره.(1/495)
كقوله تعالى في سورة الزمر " الآية 69 ": {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي بنور الله عزوجل، ولكن الكتاب يقول: " قال أبو عبد الله: رب الأرض يعنى إمام الآرض، فقلت فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغنى الناس عن ضوء الشمس ونور القمر، ويجتزون بنور الإمام! " (1) .
وقوله تعالى في سورة الرعد " الآية 28 ": {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ... } يقول القمي: " الذين آمنوا: الشيعة، وذكر الله: أمير المؤمنين والأئمة " (1 / 365) .
وفى موضع آخر يفسر الذكر بولاية على في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي} (2 / 47، والآية هي 101: الكهف) .
ويفسر الشرك بأنه " من أشرك بولاية على " في قوله تعالى في سورة الشورى " الآية 13 ": {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ولذا يفسر " ما تدعوهم إليه " بقوله " من ولاية على " (2 / 105) .
وفى آخر الرحمن {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجلَالِ وَالْإِكْرَامِ ... } يروى عن أئمته " نحن جلال الله وكرامته " (2 / 346) .
_________
(1) 2 / 253، وهذا القول قريب من أولئك الذين قالوا بألوهية على في حياته فأحرقهم بالنار، فعلى شيعته ومحبيه ـ إن كانوا صادقين أن يحرقوا الكتاب، ويبينوا ضلال صاحبه، لا أن يرفعوه مقاماً عليا.(1/496)
وبعض الآيات تختص بالقرآن الكريم كمفتتح سورة البقرة {ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ... } ، فيقول القمي بأن المراد بالكتاب هنا على بن أبى طالب! (1 / 30) .
وفى سورة يونس (الآية 15) {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} يقول القمي: " أو بدله " يعنى أمير المؤمنين على بن أبى طالب، {قلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ... يعنى في على بن أبى طالب. (1 / 310) .
وفيها أيضاً (الآية 64) {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} فيقول: " أي لا يغير الإمامة " (1 / 314) .
وقوله تعالى في سورة الإسراء (الآية 73) : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... } قال القمي: " يعنى أمير المؤمنين " (2 / 24) .
وفى سورة الحج (الآية 55) : {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ... } أي من القرآن الكريم، فيقول القمي: " أي في شك من أمير المؤمنين ".
ويقول كذلك عن (الآية 57) {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بأن معناها ... " ولم يؤمنوا بولاية أمير المؤمنين والأئمة " (1) .
_________
(1) 2 / 86.(1/497)
وفى سورة الطور (الآية 33) : {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ... } يتحدث عنها القمي فيقول: أم يقولون ـ يا محمد تقوله: يعنى أمير المؤمنين، بل لا يؤمنون أنه لم يتقوله ولم يقمه برأيه، ثم قال: فليأتوا بحديث مثله: أي برجل مثله من عند الله (1) .
وقد رأينا من قبل أن آيات كريمة خاصة بالرسول وبالمسيح صلوات الله عليهما، حرفها القمي ليجعلها للإمام على.
وهناك كذلك ما هو متصل بيوم القيامة فجعل للإمام، جاء في تفسيره (2 / 112) ما يأتى: " إن الليل والنهار اثنتا عشرة ساعة، وإن على بن أبى طالب، أشرف ساعة من اثنتى عشرة ساعة، وهو قول الله تعالى (2) : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} .
وهو لا يكتفى بهذا، وإنما يحاول أن يجعل الإمام هو المراد من كثير من آيات الله تعالى دون نظر إلى ما هو مختص بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر كما رأينا، وما هو مختص بالحيوان أو الجماد حتى يكاد يحط من قدر الإمام وهو يحاول أن يرفعه! انظر مثلاً إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... } (3) ، فإنك تعجب وقد حاول القمي من قبل أن يرفع الإمام على إلى مرتبة الألوهية، ينزل به هنا إلى مرتبة الحشرات الضارة حيث يجعله المراد من كلمة " بعوضة " (4) .
_________
(1) 2 / 333.
(2) 11: الفرقان.
(3) سورة البقرة ـ الآية 26.
(4) ص 19.(1/498)
بعد هذا لا يستبعد منه أن يجعل الإمام المراد من أي آية يظن أنها تدل على الاهتمام والرفع من قيمة الإمام. ويوضح الجزائرى في مقدمته للكتاب سر هذا التأويل فيقول: " الله تعالى كان عالماً بأعمال أمة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأنهم يلعبون بالدين، ويهتكون بنواميس حماته في كل حين ... فحينئذ لم يؤمن منهم أن لا يبقوا أسامى الأئمة أو فضائلهم في القرآن، فلذا لم يكن بد إلا أن يبينها الله تعالى بالكناية والاستعارة كما هو دأب القرآن وأسلوبه في أكثر آياته، فإن له ظاهراً يتعلق بشىء وباطناً بشىء آخر " (1) .
ثم يقول: " ومن هنا قال أبو جعفر: إن القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفى أحبائنا، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا، وثلث سنة ومثل " (2) .
ثم عقب على هذا بقوله: " فانكشف مما ذكرنا أن كل ما ورد في القرآن من المدح كناية وصراحة فهو راجع إلى محمد وآله الطاهرين، وكل ما ورد فيه من القدح كذلك فهو لأعدائهم أجمعين، السابقين منهم واللاحقين، ويحمل عليه جميع الآيات من هذا القبيل وإن كان خلافاً للظاهر " (3) .
فهذا التأويل الفاسد إذن نتيجة للقول بالتحريف، والطعن في الصحابة الكرام.
رابعا: ما يتصل بعقيدة الإمامة
1 ـ الرجعة:
القمي يرى أشياء تتصل بعقيدته في الإمامة، ولذا يضمنها تفسيره. فهو مثلا يؤمن بالرجعة، أي رجعة الأئمة قبل يوم القيامة، ورجعة من غصبوهم حقهم ـ على حد زعمه ـ ليقتص الأئمة من أعدائهم. وعلى هذا جعل من الأمور الأساسية التي اشتمل عليها القرآن الكريم الرد على من أنكروا الرجعة.
_________
(1) انظر التفسير 1 / 34.
(2) ص 21 من المقدمة المذكورة.
(3) انظر مقدمته للتفسير ص 24، 25.(1/499)
واستدل بقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} فقال: " أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجاً ويدع الباقين "؟ ثم قال: ومثله كثير نذكره في مواضعه (1) .
ومن هذا الذي ذكره قوله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (2) . قال: يعنى الرجعة. يرجع إليكم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمير المؤمنين والأئمة (3) .
وفى سورة " ق " (الآية 41) يقول: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمنَادِ} باسم القائم واسم أبيه.. والصيحة ـ صيحة القائم من السماء..والخروج الرجعة (4) .
وفى سورة النحل (الآية 22) {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قال القمي: يعنى أنهم لا يؤمنون بالرجعة أنها حق {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} ... يعنى أنها كافرة ... {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} يعنى أنهم عن ولاية على مستكبرون (5) .
_________
(1) الموضع السابق ص 24.
والآية هي رقم 83: النمل ومعناها أنهم يحشرون فوجاً، أي زمراً، فلا يبقى أحد، ونحن مأمورون بالإيمان بيوم القيامة، لا بيومين: يوم لأئمة الجعفرية ويوم للقيامة.
(انظر مناقشة هذه العقيدة وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200: 203) .
(2) 85: القصص.
(3) 2 / 147.
(4) 2 / 327.
(5) 1 / 383.(1/500)
ويستمر في تفسيره للسورة الكريمة فيقول: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} من العذاب في الرجعة.. {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} قال القمي: الكفار كانوا لا يحلفون بالله، وإنما أنزلت في قوم من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل لهم ترجعون بعد الموت قبل القيامة فحلفوا أنهم لا يرجعون (1) .
2 ـ نزول الوحى على الأئمة:
والقمى ممن ذهب إلى أن الوحى لم ينقطع بانتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، لأن الإمام يقوم مقامه! فعند تفسيره لسورة القدر يقول: معنى ليلة القدر أن الله يقدر فيها الآجال والأرزاق، وكل ما يحدث من موت أو حياة، أو خصب أو جدب، أو خير أو شر، كما قال الله فيها {فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ... } إلى سنة.
وقال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور (2) .
ونسب للإمام أبى جعفر أنه سئل: " تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف ليلة القدر والملائكة يطوفون بنا فيها " (3) .
3 ـ
_________
(1) 1 / 385.
(2) انظر 2 / 431. والآية الكريمة التي استدل بها هي الرابعة من سورة الدخان. ونصها {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وليس فيها " إلى سنة " كما ذكرها.
(3) 2 / 432.(1/501)
الأئمة يعلمون الغيب:
وهو يرى أن الأئمة يعلمون الغيب، ولهذا نراه عند تفسير قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (1) . يقول: يعنى علياً المرتضى من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو منه (2) .
فعلم الغيب ليس خاصاً بالله تعالى والمصطفين من الرسل الكرام، وإنما هوـ حسب افترائه ـ خاص بالإمام على مع الله عز وجل!
وحتى يظهر أن علم الأئمة يحيط بكل شىء يأتى بأشياء لا سبيل إلى العلم بها في ذلك الوقت، وإن اكتشف بعضها في عصر الكشوف العلمية للكون ومظاهره.
وإذا كان كثير من الكشف العلمى يأتى بوجوه جديدة من وجوه الإعجاز القرآنى، ويستحيل التناقض بين نظرية علمية صحيحة وبين القرآن الكريم، إلا أن هذه الكشوف كشفت عن كذب القمي ومفترياته.
فهو ينسب للإمام على أنه قال: " الأرض مسيرة خمسمائة عام، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، والقمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، بطونهما يضيئان لأهل السماء، وظهورهما يضيئان لأهل الأرض، والكواكب كأعظم جبل على الأرض " (3) !
ويزعم أن الإمام على بن الحسين بين علة كسوف الشمسين بوجود بحر بين السماء والأرض، إذا كثرت ذنوب العباد، وأراد الله أن يستعتبهم بآية، أمر الملائكة الموكلين فجعلوا الشمس أو القمر في ذاك البحر (4) .
_________
(1) 26 / 27: الجن.
(2) 2 / 390.
(3) 2 / 17.
(4) انظر 2 / 14 ـ 15.(1/502)
وفى موضع آخر ينسب للأئمة أن الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور أملس، والثور على الثرى (1) .
وفى أول سورة الشورى {حم عسق} يقول: " قاف جبل محيط بالدنيا من زمرد أخضر، فخضرة السماء من ذلك الجبل " (2) .
4 ـ نفى العلم عمن اشتهروا به من غيرهم:
والقمى لا يكتفى بمثل هذه المفتريات ليبين إحاطة الأئمة بكل شىء علماً، ولكن تحدث عن غيرهم ممن لهم مكانتهم العلمية لينفى عنهم ما اشتهروا به من العلم، حتى لا يبقى في المجال العلمى إلا أئمة الجعفرية!
فمثلا ابن عباس اشتهر بأنه حبر الأمة وترجمان القرآن، انظر إلى هذا القمي وهو يتحدث عن ابن عباس، بل عن أبيه عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نسب للإمام أبى جعفر الباقر أنه قال: جاء رجل إلى أبى على بن الحسين فقال: إن ابن عباس يزعم أنه يعلم كل آية نزلت في القرآن في أي يوم نزلت، وفيمن نزلت، فقال أبى: سله فيمن نزلت، {وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
_________
(1) انظر 2 / 58 ـ 59.
(2) 2 / 268، وفى سورة " ق " قال " ق: جبل محيط بالدنيا من وراء يأجوج ومأجوج " (2 / 323) .
ومما يضحك ـ ومن شر البلية ما يضحك ـ أن نجد في عصرنا من يؤمن بهذه الخرافات والأكاذيب، بل يتخذ منها دليلاً على علم الأئمة وعصمتهم!! " انظر مثلاً ج 2 حاشية ... ص 15 ـ 16، 58 ـ 59 " والروايات لو ثبتت لأثبتت لأهل البيت وحاشاهم ـ الجهل والافتراء! ولكن ما أكثر المتظاهرين بحب آل البيت وآل البيت منهم براء!(1/503)
الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (1) وفيمن نزلت: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (2) وتستمر الرواية لتذكر بأن الرجل ذهب إلى ابن عباس فسأله، فلم يجبه، بل أورد أسئلة أخرى، فبين الإمام سبب النزول بقوله: بأن الآية الأولى نزلت في ابن عباس وفى أبيه، والثانية نزلت في أبيه (3) ! !
5 ـ أحكامهم الفقهية كالمتعة والخمس:
ثم لا ينسى القمي ما ارتبط بعقيدته من الأحكام الفقهية، فيعرضها بطريقة يأباها كتاب الله تعالى، ففى سورة مريم " الآية 83 ": {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ... } قال: نزلت في مانعى الخمس والزكاة (4) .
_________
(1) 72: الإسراء.
(2) 34: هود.
(3) انظر 2 / 23.
وأظن أن هنا كذلك سبباً دفيناً، فالتاريخ يذكر لنا تنازعاً حدث بين العباس وابن أخيه على ـ رضي الله تعالى عنهما، ويذكر لنا أيضاً أن ابن عباس تولى إمارة البصرة في خلافة ابن عمه الإمام على، ثم ترك البصرة مغاضباً، وتبادل مع ابن عمه رسائل اتهامات: فلعل القمي سمع بهذا فرأى أن يأتى بهذه الفرية ليهاجم من تجرأ على المعصوم أبى الأئمة!
] انظر متنازع العباس وابن أخيه في صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسير باب حكم الفئ. وانظر الكتب المتبادلة بين الإمام على وابن عمه في أنساب الأشراف للبلاذرى ... 1 / 192 ـ 194، وفى " على وبنوه " لطه حسين ص 125 ـ 128، وانظر أحد كتب الإمام هذه في نهج البلاغة ص 323 ـ 324 [.
(4) 2 / 53.(1/504)
وفى سورة ق " الآية 26 ": {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قال: "هو ما قالوا نحن كافرون بمن جعل لكم الإمامة والخمس " (1) .
وفى سورة النساء يحرف الآية الرابعة والعشرين فيقول {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ويعقب بقوله: فهذه الآية دليل على المتعة (2) .
خامساً: أسباب النزول:
في ذكر القمي لأسباب النزول نرى أثر الإمامة واضحاً، ولنضرب بعض الأمثلة:
1 ـ تحالف الصحابة مع إبليس:
في سورة سبأ " الآية 20 " {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ... } قال: لما أمر الله نبيه أن ينصب أمير المؤمنين للناس في قوله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ في على} (3) بغدير خم فقال: " من كنت مولاه فعلى مولاه "، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر، وحثوا التراب على رءوسهم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ فقالوا: إن هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شىء إلى يوم القيامة.
_________
(1) 2 / 326.
(2) 1 / 136، ونص الآية الكريمة {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... } .
(3) " في على " زيادة من تحريفهم، وقد ضمت الرواية إلى التحريف اتفاق الصحابة الكرام مع إبليس على نقض البيعة.(1/505)
فقال لهم إبليس: كلا، إن الذين حوله قد وعدونى فيه عدة لن يخلفونى، فأنزل الله على رسوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} الآية (1) .
2 ـ البيعة يوم الغدير:
وعن البيعة أيضاً عند قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (2) يقول: كان سبب نزولها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى بيعة علىّ يوم غدير خم، فلما بلغ الناس وأخبرهم في على ما أراد الله أن يخبره، رجعوا الناس فاتكأ معاوية على المغيرة بن شعبة وأبى موسى الأشعرى، ثم أقبل يتمطى نحو أهله ويقول: ما نقر لعلى بالولاية أبداً، ولا نصدق محمداً مقالته.. فصعد رسول الله المنبر وهو يريد البراءة منه، فأنزل الله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... } (3) فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمه (4) .
3 ـ مصير من غصبوا الولاية:
وفى قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} (5) ، قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقهم، فيعرض عليهم أعمالهم، فيحلفون به أنهم لم يعملوا فيها شيئاً كما حلفوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا
_________
(1) 2 / 201.
(2) الآية 31 من سورة القيامة، وهى وسبأ مكيتان، وموقف الغدير بلا خلاف حتى بين الشيعة أنفسهم كان بعد حجة الوداع.
(3) سورة القيامة الآية 16 وهى تتحدث عن القرآن الكريم، فالآيات التالية لها هي {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
(4) 2 / 397.
(5) 18: المجادلة.(1/506)
أن لا يردوا الولاية في بنى هاشم، وحين هموا بقتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة!! فلما أطلع الله نبيه وأخبره، حلفوا له أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يهموا به، حتى أنزل الله على رسوله (1) : {يحلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ... } (2) .
4 ـ القائم يطالب بدم الحسين:
وفى سورة الحج (الآية: 39) : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .. قال: إن العامة ـ أي جمهور المسلمين ـ يقولون نزلت في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخرجته قريش من مكة، وإنما هي للقائم إذا خرج يطلب بدم الحسين (3) .
ولا يقتصر أثر عقيدة الإمامة ـ على مثل ما سبق مما يتصل بالإمامة والأئمة، وإنما يتعداه إلى اتهام غيرهم، ومحاولة سلب فضائلهم، ولنذكر لهذا المثل التالى:
5 ـ حادث الإفك اتهام لأم المؤمنين لا تبرئة إلهية لها!!
حادث الإفك معروف مشهور، ونزل القرآن الكريم بتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة، فعز على القمي أن يبرئ الله تعالى صلحبه الجمل، وابنة أبى بكر أول من اغتصب الخلافة في رأيه! ولهذا قام القمي بإفك جديد، فجعل من الحديث عن
_________
(1) 74: التوبة.
(2) 2 / 358.
(3) 2 / 84 ـ 85.(1/507)
الإفك اتهاماً للسيدة عائشة لا تبرئة لها!! فعند قوله تعالى: ... {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ... } (1) الآية قال: فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة، وما رميت به في غزوة بنى المصطلق من خزاعة، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية، وما رمتها به بعض النساء المنافقات ".
ثم ذكر رواية عن الإمام أبى جعفر أنه قال: " لما مات إبراهيم بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت منافقة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج! فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً وأمره بقتله " (2) .
وفى سورة الحجرات ذكر قصة اتهام فلانة لمارية، وأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً بأن يقتل جريجاً، وأن هذا كان سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية (3) .
وفى سورة التحريم قال عن كلمة " أبكاراً " التي جاءت في ختام الآية الخامسة " عرض عائشة لأنه لم يتزوج ببكر غير عائشة " (4) .
وبعد هذا في نفس الصفحة ورد ما يأتى: " ثم ضرب الله مثلا فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (5) فقال: والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة،
_________
(1) سورة النور آية: 11.
(2) 2 / 99.
(3) انظر 2 / 318 ـ 319 والآية هي " 6 ".
(4) 2 / 377.
(5) 10: التحريم.(1/508)
وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق ... وكان فلان يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى ... قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجى من غير محرم، فزوجت نفسها من فلان " (1) .
وإذا كان القمي ذكر بأن الخاصة ـ أي الشيعة ـ رووا أن فلانة، وهى إحدى المنافقات، جاءت بالإفك، ولم يصرح باسمها، فإن غيره من الجعفرية قد صرح باسمها وقال بأنها عائشة (2) . وضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط يعتبره الجعفرية تعريضاً بالسيدتين عائشة وحفصة من أمهات المؤمنين (3) ، والقمى هنا يؤكد أن الخيانة المرادة هي الفاحشة، ثم مهد لإلصاقها بمن برأها الله تعالى!
سادساً: القرآن كتاب تاريخ اثنى عشرى!!
عندما آلت الخلافة إلى الإمام على كرم الله وجهه ـ لم تسلم له، وخاض عدة معارك، ولاقى الشيعة بعد ذلك ما لاقوا في ظل الحكم الأموى. وقد تحدثت كتب التاريخ عن ذلك مفصلاً، ولكن القمي يحاول أن يغير من طبيعة القرآن الكريم ليصله بكتب التاريخ عند الجعفرية، فتسمع عن البصرة والجمل وبنى أمية من وجهة النظر الجعفرى، ولنضرب لذلك الأمثال.
1 ـ أصحاب الجمل والبصرة:
في سورة الأعراف (الآية 40) : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ... } ...
_________
(1) منقول بالنص وفيه النقط.
(2) انظر تفسير شبر ص 338.
(3) بل يعتبره بعضهم تصريحاً لكفرهما، قال المجلسى: " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما! ". " بحار الأنوار 22 / 33 ".(1/509)
ولن يلج الجمل في سم الخياط، فالكفار إذن لن يدخلوا الجنة، ولكن القمي إذا به يقول " نزلت هذه الآية في طلحة والزبير والجمل جملهم " (1) !
ويقول أيضا: إن أصحاب الجمل نزلت فيهم (الآية: 12) من سورة التوبة {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ... } الآية (2) .
وفى سورة النجم يقول بأن المؤتفكة هي البصرة، وقال: ائتفكت بأهلها مرتين، وعلى الله تمام الثالثة، وتمام الثالثة في الرجعة (3) .
وفى سورة الحاقة يقول بأن البصرة أيضاً هي المؤتفكات (4) .
2 ـ بنو أمية:
أما بنو أمية فإنا نصادفهم كثيراً ونحن نقرأ هذا التفسير العجيب، وما دام ثلث القرآن في أعداء الجعفرية ـ كما زعموا ـ فلابد إذن أن يكون للأمويين نصيب كبير! انظر مثلا تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (5) .
يقول: نزلت في بنى أمية، فهم أشر خلق الله، هم الذين كفروا في باطن القرآن، فهم لا يؤمنون (6) .
_________
(1) 1 / 230.
(2) انظر 1 / 283، وتكملة الآية الكريمة {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ... .
(3) انظر 2 / 340 ـ 341.
(4) انظر 2 / 384.
(5) الأنفال: الآية 55.
(6) 1 / 279.(1/510)
ولهذا نجد كثيرا من الآيات التي تتناول الكفار يجعلها لبنى أمية (1) .
3 ـ بنو السباع:
والقمى عاش في العصر العباسى الأول، والعلويون رأوا الحكم يذهب لغيرهم، ثم لم يسلموا من ظلم ذوى القربى، فالعباسيون ـ من وجهة النظر الجعفرية ـ لا يفترقون كثيراً عن الأمويين، ولكن القمي لا يستطيع أن يصرح بهم عند الحديث عن كفرهم فيسميهم بنى السباع بدلاً من بنى العباس (2) .
4 ـ الاتفاق على قتل على!
وعندما تناول بعض الأحداث التاريخية الأخرى وضع قصصاً خيالية غريبة، فمثلا عند قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ... } (3) نراه يتحدث عن ذلك في خمس صفحات، ويأتى بقصيدة يقول بأن السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله تعالى عنها ـ احتجت بها على الصديق، وكذلك احتج الإمام على، وخاف الصديق من ضياع الحكم نتيجة هذا الموقف، فبعث إلى الفاروق الذي أشار بقتل على! وأمر خالد بن الوليد بقتله فوافق خالد، إلى آخر تلك الخرافة (4) .
5 ـ كفر أصحاب بيعة الرضوان:
وعندما تحدث عن صلح الحديبية قال " فلما. أجابهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الصلح أنكر عامة أصحابه، وأشد ما كان إنكاراً فلان، فقال يا رسول الله، ألسنا
_________
(1) انظر مثلاً: ج 1 ص 156، 196، 211، 371، وج 2 ص 68، 80، 123، 242، 243، 255، 384.
(2) انظر 2 / 242.
(3) سورة الروم الآية 38.
(4) انظر 2 / 155: 159.(1/511)
على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال: بلى! قال: فنعطى الذلة في ديننا؟ ... قال: إن الله وعدنى ولن يخلفنى. قال لو أن معى أربعين رجلاً لخالفته " (1) .
والمعروف أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صاحب الجزء الأول من هذه المناقشة، فافترى القمي هذه الزيادة المنكرة " لو أن معى أربعين رجلا لخالفته "، وقال بأن عامة أصحابه الذين أنكروا الصلح أكثروا القول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم. ويزيد فريته بأنهم حاربوا فعلاً، وهزموا هزيمة قبيحة، إلى أن قام على بسيفه فتراجعت قريش (2) .
ثم يستمر ليقول بأن عامة الصحابة هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (3) .
وهكذا يستمر هذا القمي ليجعل عامة أصحاب بيعة الرضوان من أصحاب النار، وهم الذين رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم، ويطعن في ترتيب آيات سورة الفتح ليصل إلى ضلاله (4) !
6 ـ الفرق الأخرى:
ونراه كذلك يخضع القرآن الكريم للحديث عن الفرق الأخرى، فمثلا عند قوله تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ
_________
(1) 2 / 311 ـ 312. وفى الأصل: فقال نعم!
(2) انظر 2 / 312.
(3) انظر 2 / 315، والآية الكريمة ـ هي السادسة من سورة الفتح.
(4) انظر 2 / 315.(1/512)
وُجُسْوَدَّوههُم مُّةٌ} (1) يقول: " من ادعى أنه إمام وليس بإمام يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ... . وإن كان علوياً فاطمياً " (2) .
7 ـ القائم وجيش السفيانى:
وكثير من فرق الشيعة قالت بعودة بعض الأئمة قبل يوم القيامة، ومنهم من وقف عند إمام معين، وقال بأنه لم يمت وإنما أظهر موته تقية، إلى غير ذلك مما تذكره كتب التاريخ. وكان من صدى هذا أن بعض الأمويين قالوا بعودة رجل منهم أسموه السفيانى: فزاد بعض الجعفرية خرافة أخرى وهى أن المهدى عندما يرجع سيقابل جيش السفيانى ويهزمه! وإذا بنا نجد هذا في تفسير القمي!
فعند قوله تعالى {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} (3) قال: هم والله أصحاب القائم، يجتمعون والله إليه في ساعة واحدة، فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفيانى، فيأمر الله الأرض فتأخذ أقدامهم، وهو قوله {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} (4) يعنى بالقائم (5) .
وفى قوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} ... (6) قال يعنى ما يحدث من أمر القائم والسفيانى (7) .
_________
(1) 60: الزمر.
(2) 2 / 251.
(3) 8: هود.
(4) سبأ: 51 / 52.
(5) 2 / 205.
(6) 113: طه.
(7) 2 / 65.(1/513)
وبهذا يصبح تفسير القمي مرجعاً من مراجع التاريخ لغلاة الجعفرية!
سابعا: طرق التغرير والتضليل:
والقمى قد خالف ظاهر القرآن الكريم، وحرف معانيه إلى جانب القول بتحريف نصه، وأتى بما لا يحتمله كتاب الله تعالى بل يعارضه، وخالف ما أجمعت عليه الأمة في أكثر الآيات وما يتعلق بها، وجعل أكثرها ـ مكية ومدنية ـ متعلقة ببيعة غدير خم التي قال الجعفرية أنفسهم بأنها بعد حجة الوداع. وزعم أن صفوة هذه الأمة كفار ومشركون ومنافقون، إلى غير ذلك مما يبرأ منه الإسلام والعقل السليم.
ورأينا من قبل كيف حاول صاحب التفسير المنسوب للإمام العسكرى أن يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بخرافاته، ويسيروا في ظلمات ضلاله. والقمى هو الآخر قد حاول القيام بنفس الدور فسلك لذلك عدة طرق:
1 ـ جل آرائه نسبها للأئمة وعلى الأخص الإمامان الباقر والصادق. كما أشرنا في مقدمة الحديث عن الكتاب.
2 ـ ذهب إلى أن القرآن الكريم لا يفهم معناه ولا يدرك مراده إلا عن طريق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهؤلاء الأئمة.
نسب للإمام على ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه، فلن ينطق لكم، أخبركم عنه، إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتى إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين، فلو سألتمونى عنه لأخبرتكم عنه لأنى أعلمكم " (1) ونسب للإمام الصادق أنه قال: إن الكتاب لم ينطق، ولن ينطق، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هو الناطق بالكتاب، قال الله {هَذَا بكتابنا يَنطِقُ
_________
(1) المقدمة ص 3.(1/514)
عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ... } فقال أحدهم: إنا لا نقرؤها هكذا، فقال الإمام: هكذا والله نزل بها جبريل على محمد، ولكنه فيما حرف من كتاب الله تعالى (1) .
ونسب للإمام الباقر أنه قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا " (2) .
وذهب إلى أن من لا يقبل تأويل الكتاب فهو مشرك كافر (3) .
3 - وضع أسساً غريبة للتفسير، فإلى جانب القول بأن القرآن أصابه التحريف، ولا يؤخذ تأويله إلا عن طريقهم، نراه يذهب إلى أن هناك آيات لا يعرف تأويلها إلا بعد وقت نزولها! ويتحدث عن هذا النوع فيقول: " وأما ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده من غصب آل محمد حقهم، وما وعدهم الله به من النصر على أعدائهم، وما أخبر الله به من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة والساعة " (4) .
ويذهب إلى أن هناك آيات " مما خاطب الله به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى لأمته، وهو قول الصادق: إن الله بعث نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإياك أعنى واسمعى يا جارة " (5) .
وذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فقال بأن هناك " ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين! فقوله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ أنتم يا معشر
_________
(1) انظر 2 / 95، ونص الآية الكريمة {هَذَا كتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ... } " الجاثية: 29 " فحرف الآية الكريمة لأنها تعارضت مع ما ذهب إليه.
(2) 2 / 425.
(3) انظر 2 / 260.
(4) مقدمة تفسيرة ص 14.
(5) مقدمة تفسيرة ص 14.(1/515)
أمة محمد فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ... } ، فالمخاطبة لبنى إسرائيل، والمعنى لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ".
وبهذه الأسس استطاع أن يحرف القرآن الكريم نصاً ومعنى ليصل إلى ضلاله.
4 - وقد ذهب إلى تكفير غير المعتنقين عقيدته في الإمامة، الرافضين لتحريفه، لم ينس ـ من وقت لآخر في تفسيره ـ بيان أن الشيعة سيدخلون الجنة حتى فساقهم العصاة!
فمثلاً في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} (2) الآية، يقول بأن الله سبحانه وتعالى يدفع بمن يعمل كل فريضة من الشيعة عمن لا يعملها، ولو أجمعوا على الترك لهلكوا (3) . وفى سورة طه " الآية 108 " ... { ... وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ... } يذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لعصاة الشيعة، فكلهم يدخل الجنة (4) .
وفى سورة المؤمنون " الآية: 100 ": {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يقول: البرزخ هو أمر بين أمرين، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة.. وهو قول الصادق: والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ، فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم (5) .
_________
(1) نفس المقدمة ص 16، والآية هي الرابعة من سورة الإسراء، والتحريف واضح.
(2) 40: الحج.
(3) 1 / 83.
(4) انظر 2 / 64: 65.
(5) 2 / 94.(1/516)
وفى سورة غافر " الآية الثالثة " {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} قال: ذلك خاصة لشيعة أمير المؤمنين (1) .
وفى سورة ق " الآية 24 ": {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} يقول بأن الآية الكريمة مخاطبة للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى، ويبين أنهما في منزلة خاصة دون الخلق جميعا؛ وأن رضوان يأتى بمفاتيح الجنة فيأخذها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعطيها علياً وكذلك يفعل مالك بمفاتيح جهنم، فيأخذ على المفاتيح ويقعد إلى شفير جهنم، فتنادى: ياعلى جزنى، قد أطفأ نورك لهيبى! فيقول لها على: ذرى هذا وليى، وخذى هذا عدوى! فلجهنم يومئذ أشد مطاوعة لعلى من غلام أحدكم لصاحبه (2) .
وفى سورة الرحمن " الآية 39 ": {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} قال: ... " منكم "، يعنى من الشيعة. معناه أنه من تولى أمير المؤمنين، وتبرأ من أعدائه عليهم لعائن الله، وأحل حلاله، وحرم حرامه، ثم دخل في الذنوب ولم يتب في الدنيا، عذب لها في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه يوم القيامة (3) .
وفى سورة الحاقة " الآية 19 ": {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} قال: كل أمة يحاسبها إمام زمانها، ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم، وهو قوله تعالى {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} (4) ، وهم الأئمة ... {
_________
(1) 2 / 254.
(2) انظر 2 / 324 ـ 326.
(3) 2 / 345.
(4) 46: الأعراف.(1/517)
يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} فيعطون أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمرون إلى الجنة بلا حساب، ويعطون أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمرون إلى النار بلا حساب " (1) .
*****
الكتاب الثالث
تفسير العياشى: منزلة العياشى كالقمى
تلك أهم آثار الإمامة في تفسير القمي الذي يمثل جانب الغلو والتطرف في هذه العقيدة كتفسير العسكرى.
والتفسير الثالث الذي طالعنا به القرن الثالث هو تفسير العياشى، لمحمد بن مسعود العياشى، المتوفى في حدود سنة 320 هـ، والذى يعد من الثقات عند الشيعة الاثنى عشرية (2) .
_________
(1) 2 / 384.
ذكرنا من قبل عند الحديث عن التحريف قول السيد أبى القاسم الخوئى ـ المرجع الأعلى للجعفرية بالعراق: إن الروايات التي ذكرها القمي في تفسيره صحيحه، فهى ثابتة وصادرة من الأئمة المعصومين، وانتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة! ولا ندرى كيف يمكن الجمع بين هذه الروايات الصحيحة في نظر السيد الخوئى وبين ما ذهب إليه هو من القول بعدم تحريف القرآن الكريم، وغير ذلك مما يتعارض مع هذه الروايات؟ !
(2) هو أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمى السمرقندى، المعروف بالعياشى - انظر ترجمته في تنقيح المقال، وهدية العارفين 2/32، ومعجم المؤلفين 12/20.
وفى كتاب " بهجة الآمال في شرح زبدة المقال " ذكره المؤلف ضمن علماء الجعفرية الذين يرجع إلى أقوالهم في الجرح والتعديل، وقال عنه: " جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالرواية، مطلع بها، ثقة صدوق، من عيون هذه الطائفة وكبارها ... إلخ " انظر ص 43.(1/518)
وفى صدر التفسير كتب محمد حسين الطباطبائى (1) مقدمة حول الكتاب ومؤلفه، قال فيها:
" وقد بعث الله رجالاً من أولى النهى والبصيرة، وذوى العلم والفضلة، على الاقتباس من مشكاة أنوارهم – أي الأئمة – والأخذ والضبط لعلومهم وآثارها، وإبداع ذخائرها في كتبهم، وتنظيم شتاتها في تأليفهم، ليذوق بذلك الغائب من منهل الشاهد، ويرد به اللاحق مورد السابق.
وإن من أحسن ما ورثناه من ذلك كتاب التفسير المنسوب إلى شيخنا العياشى رحمه الله، وهو الكتاب القيم الذي يقدمه الناشر اليوم إلى القراء الكرام.
فهو لعمرى أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور.
أما الكتاب فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألّف إلى يومنا هذا – ويقرب من أحد عشر قرناً – بالقبول من غير أن يذكر بقدح أو يغمض فيه بطرف.
وأما مؤلفه الشيخ الجليل أبو النضر محمد بن مسعود بن العياش التميمى الكوفى السمرقندى، من أعيان علماء الشيعة، وأساطين الحديث والتفسير بالرواية، من عاش في أواخر القرن الثالث من الهجرة النبوية.
أجمع كل من جاء بعده من أهل العلم على جلالة قدره وعلو منزلته وسعة فضله، وإطراء علماء الرجال متسالمين على أنه ثقة عين صدوق في حديثه، ومن مشايخ الرواية، يروى عنه أعيان المحدثين: كشيخنا الكشى صاحب الرجال وهو من تلامذته، وشيخنا جعفر بن محمد بن مسعود العياشى وهو ولده ... إلخ ".
منهج العياشى وأهدافه كالقمى:
من هذا نرى أن العياشى وتفسيره عند الشيعة في منزلة تشبه منزلة القمي وتفسيره.
_________
(1) صاحب كتاب الميزان في تفسير القرآن – سيأتى الحديث عن كتابه.(1/519)
بدراسة تفسير العياشى يظهر لنا أنه كان يسير مع القمي في طريق واحد، فلا فرق بينهما في المنهج والأهداف، والغلو والتطرف والضلال، وما أخذناه على تفسير القمي يتسم به أيضاً تفسير العياشى، وإليك البيان:
أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم
يشترك العياشى مع القمي في محاولة التشكيك في كتاب الله العزيز، والدعوة إلى القول بتحريفه. ولذلك وجدنا صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " يذكر العياشى مع القائلين بالتحريف، ويقول بأنه روى في أول تفسيره أخباراً عامة صريحة في التحريف، وأن نسبة القول بالتحريف إلى العياشى كنسبة القول به إلى على بن إبراهيم القمي، بل صرح بنسبته إلى العياشى جماعة كثيرة (1) .
وينقل عن العياشى بعض الأخبار التي استدل بها على التحريف.
منها ما رواه عن الإمام الصادق أنه قال: " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (2) .
ومنها ما رواه عن الإمام الباقر أنه قال: تنزل جبرائيل بهذه الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هكذا: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ في علي بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللهُ ((3)
وفى تفسير العياشى نجد كثيراً من مثل هذا الضلال:
فتحت عنوان " ما عنى به الأئمة من القرآن " (1/13) يذكر عدة أخبار، منها الخبر السابق عن الإمام الصادق، ويرويه أيضاً عن الإمام الباقر، كما يروى
_________
(1) انظر فصل الخطاب ص 26.
(2) المرجع السابق ص 14.
(3) المرجع نفسه ص 232، والآية الكريمة هي رقم 90 من سورة البقرة، وحرفها بزيادة " في علي ".(1/520)
عن الإمام الباقر أنه قال أنه قال: " لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفى حقنا على ذى حجى، ولو قد قام قائمنا فنطق صدقه القرآن ".
وعن الإمام الصادق: " إن القرآن قد طرح منه أي كثيرة، ولم يزد فيه إلاَّ حروف، وقد أخطأت بها الكتبة، وتوهمتها الرجال ".
وفى أول سورة البقرة يروى العياشى عن الصادق أنه قال: (كتاب على لا ريب فيه) .
وعن عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، فقال: كذبوا، ما هكذا هي! إذا كان ينسى وينسخها أو يأتى بمثلها لم ينسخها. قلت: هكذا قال الله. قال: ليس هكذا قال تبارك وتعالى. قلت: فكيف قال؟ قال: ليس فيها ألف ولا واو، قال: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها مثلها، يقول: ما نميت من إمام أو ننسه ذكره نأت بخير منه من صلبه مثله (1) .
وفى تفسير العياشى لسورة النساء يذكر الرواية التالية:
عن جابر قال: قلت لمحمد بن على: قول الله في كتابه {الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ (قال: هما والثالث والرابع وعبد الرحمن وطلحة، وكانوا سبعة عشر رجلاً. قال: لما وجّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه وعمّار بن ياسر رحمه الله إلى أهل مكة قالوا: بعث هذا الصبى، ولو بعث غيره يا حذيفة إلى أهل مكة؟ وفى مكة صنايدها، وكانوا يسمّون عليَّا الصبى لأنه كان اسمه في كتاب الله الصبى لقول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
_________
(1) الآية الكريمة هي رقم 106 من سورة البقرة، وحرفها ليصل إلى تأويله الذي يعد تحريفاً آخر.(1/521)
وهو صبى وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فقالوا: والله الكفر بنا أولى مما نحن فيه، فساروا فقالوا لهما، وخوَّفوهما بأهل مكة، فعرضوا لهما وغلَّظوا عليهما الأمر، فقال علىّ صلوات الله عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ومضى، فلما دخلا مكَّة أخبر الله نبيه بقولهم لعلىّ وبقول علىّ لهم، فأنزل الله بأسمائهم في كتابه، وذلك ... قول الله {ألم تر إلى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ((2) إلى قوله:
{وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وإنما نزلت ألم تر إلى فلان وفلان لقوا عليُّا وعماراً فقال إنَّ أبا سفيان وعبد الله بن عامر وأهل مكة قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وهما اللذان قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} ‘إلى آخر الآية، فهذا أول كفرهم.. والكفر الثاني قول النبي عليه وعلى آله السلام: يطلع عليكم من هذا الشعب رجل فيطلع عليكم بوجهه؛ فمثله عندالله كمثل عيسى، لم يبق منهم أحد إلاَّ تمنى أن يكون بعض أهله، فإذا بعلىّ قد خرج وطلع بوجهه وقال: هو هذا، فخرجوا غضاباً وقالوا: ما بقى إلاَّ أن يجعله نبيَّا، والله الرجوع إلى آلهتنا خير ممّا نسمع منه في ابن عمّه، وليصدّنا علىّ إن دام هذا، فأنزل الله ... {وَلَمَّا ضرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} إلى آخر الآية فهذا الكفر الثاني. وزاد الكفر بالكفر حين قال الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ
_________
(1) الآية 33 من سورة فصلت، وحرفها بزيادة " وهو صبى ".
(2) 173: آل عمران، وتبدأ بقول {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ} بدون: {ألم تر إلى} ، وقول العياشى ... " وإنما نزلت ... " فيه تحريف يذكرنا بكلام مسيلمة الكذاب.(1/522)
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ... } فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علىُّ أصبحت وأمسيت خير البريَّة، فقال له الناس: هو خير من آدم ونوح ومن إبراهيم ومن الأنبياء، فأنزل الله ... {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} إلى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قالوا: فهو خير منك يا محمد؟ قال الله: {قُلْ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ولكنَّه خير منكم وذريَّته خير من ذريتكم، ومن اتَّبعه خير ممَّن اتبعكم، فقاموا غضاباً وقالوا: زيادة الرجوع إلى الكفر أهون علينا مما يقول في ابن عمه، وذلك قول الله {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا (.
وفى تفسير سورة النحل يروى العياشى عن أبى جعفر أنه قال: نزل جبرائيل هذه الآية هكذا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ في على قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (1)
ويروى عن إسماعيل الحريرى قال: قلت لأبى عبد الله: قول الله:
((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ (قال البغى: اقرأ كما أقول لك يا إسماعيل {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى حقه ... } قلت: جعلت فداك إنَّا لا تقرأ هكذا في قراءة زيد، قال ولكنّا نقرأها هكذا في قراءة علىّ، قلت، فما يعنى بالعدل؟ : شهادة أن لا إله إلاَّ الله، قلت: والإحسان؟ قال: شهادة أن محمداً رسول الله،
_________
(1) 2/257، والآية الكريمة رقم 24 من سورة النحل، وحرفها بزيادة " في على ".(1/523)
قلت: فما يعنى بإيتاء ذى القربى حقّه، قال: أداء إمامة إلى إمام بعد إمام، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} قال: ولاية فلان وفلان (1) .
ثانياً الطعن في الصحابة الكرام:
الرواية التي ذكرتها دون اختصار من تفسير العياشى لسورة النساء لبيان موقفه من تحريف القرآن الكريم توضح أمرين آخرين، هما طعنه في خير أمة أخرجت للناس، الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وعلى الأخص من بشر منهم بالجنة غير على رضي الله عنه، كالشيخين، وذى النورين، وطلحة والزبير، والأمر الآخر موقفه من أسباب النزول، ومفتريات هذا الضال الممجوجة ليتفق سبب النزول مع ضلاله.
وإذا كانت الرواية وضعها العياشى ليقول بأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغيرهم من خيرة الصحابة، كفروا في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يرى ويروى أن الصحابة الكرام جميعاً ارتدوا عن الإسلام بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسى (2) .
وتفسيره مملوء محشو بالطعن في الصحابة وتكفيرهم، ونذكر بعض الأمثلة:
يروى عن جابر قال: سألت أبا عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} قال:
_________
(1) 2/267، والآية الكريمة هي التسعون في سورة النحل، وحرفها بزيادة " حقه "، ثم جاء التأويل الذي ذهب إليه ليكون تحريفاً آخر، وطعناً في الصديق والفاروق، والصحابة الكرام لأنهم بايعوا كلاً منهما، وهو قول هذا الضال: " ولاية فلان وفلان ".
(2) انظر تفسير الصافى ج 1 ورقة 148.(1/524)
فقال هم أولياء فلان وفلان (1) ، اتخذوهم أئمة من دون الإمام الذي جعل الله للناس، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَاب إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} قال: ثم قال أبو جعفر: والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعتهم (2) .
وفى رواية أخرى: أعداء على هم المخلدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين (3) .
وروى عن عبد الله النجاشى قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} يعنى والله فلاناً وفلاناً {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} إلى قوله ... {تَوَّابا رَّحِيمًا} يعنى والله النبي وعليًّا بما صنعوا، أي لو جاءوك بها يا علىّ فاستغفروا مما صنعوا، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ثم قال أبو عبد الله: هو والله
_________
(1) يقصد الخلفاء الراشدين الثلاثة، ومن بايعهم.
(2) تفسير العياشى 1/72، والآيات الكريمة في سورة البقرة من 165/167، ومن الواضح أنها تتحدث عن المشركين عبده الأوثان " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... . "، فجعلها العياشى: من دون الإمام.
(3) تفسير العياشى 1/72، والآيات الكريمة في سورة البقرة من 165/167، ومن الواضح أنها تتحدث عن المشركين عبده الأوثان " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... . "، فجعلها العياشى: من دون الإمام.(1/525)
على بعينه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} على لسانك يا رسول الله يعنى به ولاية علي {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} لعلى بن أبى طالب (1) .
وروى عن أبى عبد الله قال: والله لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم لم يسلموا إلينا لكانوا بذلك مشركين (2) .
وروى عن جابر عن أبى جعفر قال: سألته عن هذه الآية { ... وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} قال: اَّلذين يدعون من دون الله الأول والثاني والثالث، كذَّبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: والوا علياً واتبعوه، فعادوا علياً ولم يوالوه، ودعوا الناس إلى ولاية أنفسهم، فذلك قول الله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} ... قال: وأما قوله: (لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} فإنه يعنى: لايعبدون شئياً، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ ... } ، فإنه يعنى وهم يعبدون، وأما قوله {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} يعنى كفارغير مؤمنين، وأما قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فإنه يعنى أنهم لا يؤمنون، أنهم
_________
(1) و (2) ا /255، والآيات الكريمة من سورة النساء: من 63 إلى 65، وقبل هذه الآيات جاء قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} ، فجعل العياشى النفاق لخير الناس بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.(1/526)
يشركون، {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإنه كما قال الله، وأما قوله {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} فإنه يعنى لايؤمنون بالرجعة أنها حق، وأما قوله {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} فإنه يعنى قلوبهم كافرة، وأما قوله: {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فإنه يعنى عن ولاية على مستكبرون، قال الله لمن فعل ذلك وعيداً منه {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عن ولاية على} (1) .
ثالثاً جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:
في أصول التفسير عند العياشى نجد العنوان التالي (2) "في ما أنزل القرآن " وتحت هذا العنوان يذكر روايات منها:
عن أبى جعفر قال: نزل القرآن على أربعة أرباع. ربع فينا، وربع في عدونا، وربع فرايض وأحكام، وربع سنن وأمثال، ولنا كرائم القرآن.
وعن أمير المؤمنين قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفى عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرايض وأحكام.
ونجد عنواناً آخر، وهو: " ما عنى به الآئمة من القرآن " (3) وأشرنا إلى هذا العنوان من قبل، وذكرنا بعض رواياته لبيان التحريف.
_________
(1) 2/256: 257، والآيات الكريمة في سورة النحل: من 20إلى 23، وحرفها بزيادة " عن ولاية على " ويقصد بالأول والثاني والثالث: الخلفاء الراشدين المهديين، وبدلاً من أن يستحل دم هذا العياشى أجمعت طائفته على توثيقه وعلو منزلته!! وما وجدنا أحداً من دعاة التقريب يطعن فيه! فماذا يراد بالتقريب إذن؟!
(2) تفسير العياشى 1 / 9.
(3) 1/13.(1/527)
وأضيف بعض الروايات الأخرى:
عن أبى عبد الله قال: من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن.
وعن أبى جعفر قال: لنا حق في كتاب الله المحكم من الله، لومحوه فقالوا ليس من عندالله، أو لم يعلموا، لكان سواه.
وعنه أيضاً: إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى فهم عدونا.
وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: سموهم بأحسن أمثال القرآن، يعنى عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا.
وعن عمر بن حنظلة، عن أبى عبد الله، عن قول الله {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ؟ فلما رآنى أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب قال: حسبك، كل شئ في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو في الأئمة عنى به.
هذه بعض الأصول التي وضعها العياشى، ونسبها للأئمة الأطهار حتى يحكم فريته. وفى ظلماتها يمكن معرفة ما عليه هذا التفسير من جعل الأئمة هم المراد من كثير من كلمات القرآن الكريم، وحصر هذا يطول ذكره، ويكفى أن نذكر بعض الأمثلة:
يروى العياشى عن سلام عن أبى جعفر في قوله: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} قال: إنما عنى بذلك عليَّا والحسن والحسين وفاطمة، وجرت بعدهم في الأئمة. قال: ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: {فَإِنْ آمَنُواْ} يعنى الناس ... {(1/528)
بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ} يعنى عليَّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم {فَقَدِ اهْتدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} (1) .
وعن أبى عبد الله في قول الله {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} قال: الصبغة معرفة أمير المؤمنين بالولاية في الميثاق (2) .
وعن بريد بن معوية العجلى عن أبى جعفر قال: قلت له {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قال نحن الأمَّة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجّتْه في أرضه (3) .
وعن أبى عبد الله في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ، قال: أتمهن بمحمد وعلى والأئمة من ولد على (4) .
وعن أبى جعفر أن الولاية هي المراد من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ} (5)
_________
(1) 1 / 62، والآيتان الكريمتان في سورة البقرة: 136، 137، وقبلهما {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
(2) 1/62، والآية الكريمة هي رقم 138 من سورة البقرة، أي بعد الآيات السابقة.
(3) 1/62، والآية الكريمة هي رقم 143 من السورة نفسها.
(4) 1/57، الآية الكريمة هي رقم 124 من السورة نفسها أيضاً.
(5) 1 /330، والآية الكريمة هي رقم 66 من سورة المائدة.(1/529)
وعن أبى عبد الله، وعن أبيه، أن أصحاب القائم - أي الإمام الثاني عشر-هم الأمة المعدودة التي قال الله في كتابه: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} (1) .
وعن أبى جعفر أن علياً هو المراد من كلمة النور في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} (2) .
وعن أبى عبد الله في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ، قال: هم الأئمة (3) .
وعن أبى جعفر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : وهو محمد، {وَالإِحْسَانِ} : وهو على، {وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} : وهو قرابتنا. أمر الله العباد بمودتنا وإيتائنا، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: من بغى على أهل البيت، ودعا إلى غيرنا (4) .
والعياشى يرفع الأئمة لمرتبة الألوهية كالقمى:
فعند تفسير قوله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} يروى العياشى عن أبى عبد الله أنه قال: يعنى بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد (5) .
_________
(1) 2/140، 141، والآية الكريمة الثامنة من سورة هود.
(2) 2 / 31، والآية الكريمة هي رقم 157 من سورة الأعراف.
(3) 2 / 256، والآية الكريمة هي رقم 16 من سورة النحل.
(4) 2 / 267، وسبق من قبل ذكر رواية أخرى عن أبى عبد الله في التحريف لهذه الأية.
(5) 2 / 261، والآية الكريمة هي رقم 51 من سورة النحل.(1/530)
وعند قوله عز وجل: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (1) ، بقوله: طائعين للأئمة.
وفى قوله سبحانه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) ، يروى العياشى أن العمل الصالح: المعرفة بالأئمة، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: التسليم لعلى، ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ذلك، ولا هو من أهله (3) .
هذه نماذج كافية لبيان أن العياشى كالقمى في هذا الضلال، وكل ما قيل عن القمي يمكن أن نراه من خلال هذه النماذج، وأختمها بما ختمت به دراستى عن العياشى في كتاب " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله: ص 208، 209 ":
وفى سورة هود يتحدث عن سبب نزول آيات من 12 إلى 24 فيقول: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمير المؤمنين في آخر صلاته، رافعاً بها صوته يسمع الناس، يقول اللهم هب لعلى المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} (4) بنى أمية. فقال رمع (5)
: والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلى مما سأل محمد ربه، أفلا سأله ملكاً يعضده؟ أو كنزاً يستظهر به على فاقته؟ فأنزل الله فيه عشر آيات من هود
_________
(1) 238: البقرة.
(2) 110: سورة الكهف.
(3) انظر ما سبق في كتابى: أثر الإمامة في الفقه الحعفرى وأصوله – ص 205.
(4) 96، 97: سورة مريم.
(5) قال المجلسى: " رمع كناية عن عمر لأنه مقلوبه " بحار الأنوار 36/101 "(1/531)
أولها {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إلى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ولاية على ... {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} إلى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} في ولاية على {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} لعلى ولايته {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} يعنى فلاناً وفلاناً {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أمير المؤمنين {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} قال: كان ولاية على في كتاب موسى { ... أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} في ولاية على {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} إلى قوله: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (1) .
*****
_________
(1) بحار الأنوار 36 / 100-101، والآيات ثلاث عشرة لا عشر آيات.(1/532)
الفصل الخامس
التبيان للطوسي وتفاسير الطبرسي
أصول التفسير عند الطوسى والطبرسى:
وننتقل بعد هذا الحديث عن أولئك الذين يمثلون شيئا من الاعتدال عند مفسرى الجعفرية، وأول هؤلاء شيخ الطائفة في زمانه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى (1) . وإذا كان الصدوق والشريف المرتضى من الجعفرية الذين سبقوا للتصدى لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله تعالى، فإن الطوسى أول من تصدى لهذه الحركة بطريقة عملية، حيث ألف تفسيره الكبير" التبيان "، فبين أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بغير زيادة أو نقصان كما نقلنا من قبل، ثم وضع أسساً للتفسير، وطبقها في تفسيره، فصان كتاب الله تعالى من التحريف في المعنى إلى درجة كبيرة. وننقل هنا ما ذكره الطوسى فيما يتعلق بالتفسير. قال في كتابه التبيان " 1 / 4 - 6 ": " اعلم أن الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلاَّ بالأثر الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن الأئمة - رضي الله عنهم، الذين قولهم حجة كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن القول بالرأى فيه لا يجوز والذى نقول في ذلك: إنه لا يجوز أن يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد.
_________
(1) ولد الطوسى سنة 385 هـ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد، ثم انتقل إلى الكوفة والنجف، كان ينتمى أولاً إلى مذهب الشافعى، ثم أخذ الكلام والأصول عن الشيخ المفيد رأس الإمامية. له كثير من الكتب. توفى سنة 460.
راجع ترجمته في هدية العارفين 2 / 72 " جعل له تفسيري الطبرسي! " ومعجم المؤلفين 9/202.(1/533)
وقد قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (2) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلسَانِ قَوْمِهِ} ) (3) وقال: {وفيه تبيان كل شئ} (4) {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (5) ، فكيف يجوز أن يصفه بأنه عربى مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس، ولا يفهم بظاهره شىء. وهل ذلك إلاَّ وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلاَّ بعد تفسيره وبيانه. وذلك منزه عنه القرآن. وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (6) ، وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن ولم يتفكروا في معانيه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (7) ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بينى "، فبين أن الكتاب حجة، كما أن العترة حجة، وكيف يكون حجة ما لايفهم به شىء؟ وروى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا جاءكم عنى حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط " وروى مثل ذلك
_________
(1) الزخرف: 3.
(2) الشعراء: 195.
(3) إبراهيم: 4.
(4) نص الآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} " النحل: 89 ".
(5) الأنعام: 38.
(6) النساء: 83.
(7) محمد: 24.(1/534)
عن أئمتنا - رضي الله عنهم-، وكيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شىء؟ وكل ذلك يدل على أن ظاهر هذه الأخبار متروك.
والذى نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام:
أحدها: ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه ولا تعاطى معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} (1) ، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) إلى آخرها. فتعاطى معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ.
وثانيها: ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها، مثل قوله تعالى: " وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ " (3) ، ومثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) ، وغير ذلك.
وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ((5) ، ومثل قوله تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
_________
(1) الأعراف: 187.
(2) لقمان: 34.
(3) النعام: 151.
(4) أول سورة الإخلاص.
(5) البقرة ... : 43.(1/535)
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) ، {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) ، وقوله ... {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعلُومٌ} (3) ، وما أشبه ذلك. فإن تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلاَّ ببيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووحى من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له.
ورابعها: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً. فإنه لا ينبغى أن يقدم أحد به فيقول: إن مراد الله فيه بعض ما يحتمل لأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل، والله أعلم بما أراد.
ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين، أو ما زاد عليها، ودل الدليل على أنه لايجوز أن يريد إلاَّوجهاً واحداً، جاز أن يقال: إنه هو المراد.
ومتى قسمنا هذه الأقسام نكون قد قبلنا هذه الأخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآى جملة.
وقال في موضع آخر: " ينبغى لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ، ويراعى أسباب نزول الآية على ما روى، ولا يقول على الآراء والشهوات " (4)
_________
(1) آل عمران: 97.
(2) الأنعام ... : 141.
(3) المعارج: 24.
(4) التبيان 9 / 325 - 326.(1/536)
الفرق بينهما وبين الجمهور:
هذا ما ذكره الشيخ الطوسى، وهو يتفق مع جمهور المفسرين فيما عدا حديثه عن المشترك، حيث جعل للأئمة ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا ليس بمستغرب منه، لأنه يتفق مع عقيدته في الإمامة. ولم يجعل للصحابة الكرام دوراً في التفسير، وهم الذين تلقوه عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والقرن الذي تلاه - أي القرن السادس الهجرى - ظهر فيه إمام المفسرين عند الجعفرية أبو على الفضل بن الحسن الطبرسي (1) الذي أخرج كتاباً في التفسير هو " مجمع البيان "، ثم ألف كتاباً آخر أصغر منه أسماه " جوامع الجامع "، وله كتاب ثالث (2) .
وقد سلك مسلك الشيخ الطوسى، وتأثر به إلى حد كبير، فهما يمثلان جانب الاعتدال النسبى عند مفسرى الجعفرية في القديم كما أشرنا من قبل. ومع أنهما يمثلان شيئا من الاعتدال، إلاَّ أن تناولهما لكتاب الله تعالى لم يسلم من التأثر بعقيدتهما في الإمامة، وأهم مظاهر التأثر نراها فيما يأتى:
أولاً: اللجوء لتأويل بعض آيات الكتاب المجيد للاستدلال على عقيدة الإمامة:
فالذين ذهبوا إلى القول بنحريف القرآن المجيد لم يضطروا للاستدلال على عقيدتهم عن طريق التأويل ما دام هؤلاء الغلاة قد زعموا أن القرآن الكريم نص على الإمامة التي يعتقدونها، أما هما فقد وقفا طويلاً أمام بعض آيات الله تعالى: يؤولان ويجادلان لإثبات عقيدتهم، مثال هذا ما نقلناه عنهما في الجزء الأول، وذلك عند الحديث عن آية الولاية والتطهير وعصمة الأئمة.
_________
(1) توفى سنة 548 هـ.
(2) قال صاحب الذريعة " 4 / 310 ": تفسير الكاف الشاف من كتاب الكشاف، أو الوجيز، هو ثالث تفاسير الطبرسي. والكتاب المذكور وجدته في مكتبة لندن.(1/537)
ثانياً: ذكرهما لبعض القراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب:
مثال هذا ما جاء في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى:
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1) ، فإنهما يذكران أن قراءة أهل البيت " وآل محمد على العالمين " (2) .
وفى سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا للْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) ، يفسرها الطوسى بقوله: " بأن يجعلهم ممن يقتدى بأفعالهم الطاعات "، ولكنه يذكر أن قراءة أئمتهم {وَاجْعَلْ لنَا من الْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (4) .
والطبرسى يذكر للإمام الصادق أقوالاً في هذه الآية الكريمة يجعلها خاصة بأئمة الجعفرية. كقول الإمام فيها: " إيانا عنى " وقوله: " هذه فينا ". ولا يكتفى بهذا بل يذكر ما يتفق مع الغلاة القائلين بالتحريف، فيخطئ ما جاء بالمصحف الشريف ليصل إلى القراءة التي ذكرها الطوسى، والرواية هي: " عن أبى بصير قال: قلت: واجعلنا للمتقين إماماً، فقال: - أي الإمام الصادق: " سألت ربك عظيماً، إنما هي: واجعل لنا من المتقين إماماً " (5) .
_________
(1) الآية 33.
(2) انظر التبيان 2 / 441، ومجمع البيان 2 / 433.
(3) الآية 74.
(4) انظر التبيان 7 /512.
(5) انظر جوامع الجامع ص 326.(1/538)
وفى قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) ، يقول الطوسى: " بالريح والملائكة "، وقيل بعلى، وهى قراءة ابن مسعود، وكذلك هو في ... مصحفه " (2) .
وقال الطبرسي: " وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والجند، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: وكفى الله المؤمنين القتال بعلى " (3) .
وفى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4) ، يذكران قراءة لتأييد رأى فقهى ارتبط بالمذهب الجعفرى، وهو إباحتهم لزواج المتعة، هذه القراءة هي زيادة " إلى أجل مسمى " بعد " فما استمعتم به منهن " (5) }
_________
(1) سورة الأحزاب الآية 25.
(2) التبيان 8 / 331.
(3) جوامع الجامع ص 370.
(4) النساء: الآية 24.
(5) انظر التبيان 6 / 166، وجوامع الجامع ص 83 – 84 وراجع تحريف القمي لها الذي ذكرناه في ص 188.
وقد روى الشيعة – وغيرهم – أن حمزة أحد القراء السبعة، قرأ على الإمام جعفر الصادق " انظر مجمع البيان 1 /12 ". وفى غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزرى ذكر أن جعفر ابن محمد لم يخالف حمزة في شىء من قراءته إلاَّ في عشرة أحرف. وبمراجعة هذه الأحرف لا نجد قراءة مما ذكره معتدلو الشيعة فضلاً عن غلاتهم، ولا نجد فيها أي أثر للإمامة. ونجد بعد الأحرف قول الإمام جعفر: " هكذا قراءة على بن أبى طالب ". " انظر الكتاب المذكور ... 1 / 196 ".(1/539)
{) .
ثالثاً: أسباب النزول:
في ذكرهما لبعض أسباب النزول يبدو أثر الإمامة واضحاً، فمثلاً عند قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (1) ، يذكر الطوسى سبب النزول فيقول: روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال يوماً لعلى: " لولا إني أخاف أن يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلاَّ أخذوا التراب من تحت قدميك، أنكر ذلك جماعة من المنافقين وقالوا: لم يرض أن يضرب له مثلاً إلاَّ بالمسيح، فأنزل الله الآية " (2) .
أما الطبرسي فيذكر سبباً آخر، قال: " المروى عن أهل البيت أن أمير المؤمنين قال: جئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلى ثم قال: يا على، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسي ابن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية " (3)
وفى سورة النحل " الآية 91 ": {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قال
_________
(1) 57: الزخرف، والسورة الكريمة مكية، فكيف غاب هذا عن الطوسى وهو يذكر هذه الرواية، ويتحدث عن المنافقين! أوجدت جماعات المنافقين في العهد المكى!!
(2) التبيان 9 / 209 -210.
(3) جوامع الجامع ص 436، وانظر مجمع البيان 9 / 53.(1/540)
الطبرسي بأن الإمام الصادق قال: " نزلت هذه الآية في ولاية على والبيعة له حين قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلموا على علىّ بإمرة المؤمنين (1)
وفى سورة القلم قال الطبرسي: " لما رأت قريش تقديم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً قالوا: افتتن به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} ، وهم النفر الذين قالوا ما قالوا، {وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِين} ، على بن أبى طالب " (2)
وسورة عبس سبب نزولها معروف مشهور، ولكن الطوسى يرفض ما ذكره المفسرون (3) ، ويذهب إلى أنها " نزلت في رجل من بنى أمية كان واقفاً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أقبل ابن مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله تعالى ذلك وأنكر معاقبة على ذلك " (4)
وإذا وجدنا بين أسباب النزول ما يتصل بالإمام على وبيعته، وهو لم يصح من طريق، ويقطع برفضه كون النزول في مكة، وسياق الآيات الكريمة كذلك، إلاَّ أنا نجد الأمر يختلف بالنسبة لغير أبى الحسن، مثال هذا ما جاء في سورة الليل: فالطبرسى يورد رواية تبين أن أبا الدحداح هو المراد من قوله تعالى: ... {
_________
(1) جوامع الجامع ص 249، وسورة النحل نزلت في العهد المكى كذلك، والبيعة المزعومة قالوا إنها كانت بعد حجة الوداع!
(2) المرجع السابق ص 504، وسورة القلم ليست مكية فحسب، بل من أوائل ما نزل، فهى بعد العلق: أول سور القرآن الكريم نزولاً، وقت أن كان على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - صبياً!
(3) انظر التبيان 10 /268.
(4) المرجع السابق 10 / 269.(1/541)
فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} ثم يقول ... " وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبى بكر، لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما، وأعنقهم، والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطى حق الله من ماله " (1) أما الطوسى فإنه لا يذكر سبباً للنزول (2) .
رابعاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:
ذكرنا من قبل أن أولئك الغلاة الذين عز عليهم خلو القرآن من ذكر الأئمة ووجوب ولايتهم، ذهبوا إلى القول بالتحريف وإسقاط أسماء الأئمة وآيات الولاية. وهنا نجد الدافع نفسه يدفع الطوسى والطبرسى إلى شئ آخر هو اللجوء إلى تأويل كثير من أي القرآن الكريم حتى يكون للأئمة والولاية ذكر، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي ما أكثرها!
في سورة النساء " الآية 83 " {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، يروى الطبرسي عن أئمته أن " فضل الله ورحمته النبي وعلى عليهما السلام " (3) .
_________
(1) انظر مجمع البيان 10 / 501 - 502.
(2) انظر التبيان 10 / 363 وما بعدها، وحمل الآيات على عمومها لا ينفى سبب النزول، فكما هو معلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وشتان بين موقفهما هنا وموقفهما من الآيات التي وضع المفترون أسباباً لنزولها تتصل بأئمتهم.
(3) جوامع الجامع ص 92، ولكن الطوسى لم يشر لعلى. انظر التبيان 3 / 274.(1/542)
وفى نفس السورة " الآية 159 " {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ مَوْتِه} ، يروى الطبرسي عن الإمامين الباقر والصادق: " حرام على روح امرئ أن تفارق جسدها حتى ترى محمداً وعلياً بحيث تقر عينها أو تسخن " (1) .
وفى سورة الأعراف " الآية 44 " {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، فينقل الطبرسي عن تفسير القمي، عن الإمام الرضا أنه قال: المؤذن أمير المؤمنين على. ويذكر كذلك أن الإمام عليا قال: أنا ذلك المؤذن، وعن ابن عباس: إن لعلى في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس. ويقول الطبرسي أيضاً: فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتى واستخفوا بحقى (2) .
وعند الحديث عن أصحاب الأعراف في الآيات التالية يقول الطوسى بأن علياً قسيم الجنة والنار، ويزعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا على، كأنى بك يوم القيامة وبيدك عصا موسى، تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار " (3) .
_________
(1) نفس المرجع ص 101، وأنكر الطوسى هذا قائلاً " لم يجر لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر فيما تقدم، ولا ها هنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه، وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه " التبيان ... 3 /387.
(2) انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 8 / 63، والآية الكريمة التالية التي تحدثت عن أولئك الظالمين هي " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالأخرة كافرون ". ولا ندرى أين على وولايته هنا؟ على أن الطوسى لم يذكر علياً هنا. انظر التبيان 4 / 406.
(3) التبيان 4 / 411، ومن المعلوم – كما نص القرآن الكريم في أكثر من موضع – أن مثل هذا الأمر يكلف به الملائكة.(1/543)
ويروى الطبرسي عن أمير المؤمنين قال: " نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار " (1) .
وفى سورة النمل " الآية 82 ": {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، يذكر الطبرسي أن الإمام علياً هوهذه الدابة، وينقل عن تفسير العياشى ما يفيد هذا (2)
وفى سورة محمد " الآية 30 ": {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يروى الطبرسي أن لحن القول بغضهم على بن أبى طالب (3)
وفى سورة ق " الآية 24 ": {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، يزعم الطبرسي أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلى: " ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما ". وذلك قوله عز اسمه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (4) .
ونجد الطوسى والطبرسى لا يقتصران في التأويل على ذكر الإمام على، فقد جعلا لغيره من الأئمة نصيباً، ومن أمثلة هذا ما نقرؤه عند تأويلهما لقوله تعالى في
_________
(1) جوامع الجامع ص 146.
(2) انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 20 / 251، والطوسى أشار إلى أنها من الإنس ولكنه لم يذكر علياً ولا غيره. انظر التبيان 8 / 119 -120.
(3) انظر مجمع البيان 9 / 106 ولكن الطوسى لم يشر لهذا، انظر التبيان 9 / 305.
(4) مجمع البيان 9 / 147 ولكن الطوسى أيضاً لم يذكر هذا – انظر التبيان 9 / 366 – 367.(1/544)
سورة البقرة " الآية 37 ": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، فالطوسى بعد أن ذكر الروايات المختلفة في تأويل الكلمات يقول: " في أخبارنا توسله - أي آدم- بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته، وكل ذلك جائز " (1) .
والطبرسى بعد ذكره لتلك الروايات يقول: " قيل - وهى رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام - إن آدم رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه الأسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء: محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين، فتوسل آدم عليه السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته " (2) .
ونجد الزعم كذلك بأن الأئمة هم حبل الله (3) في قوله تعالى في سورة آل عمران " الآية 103 ": {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} .
وهم المخاطبون في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (4) فيرويان عن أئمتهما أن هذا أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى ولى الأمر بعده (5) .
_________
(1) التبيان 1 / 169.
(2) مجمع البيان 1 / 89.
(3) ذكر الطبرسي في المراد بحبل الله ثلاثة أقوال: أحدها بأنه القرآن، وثانيها أنه دين الإسلام، وثالثها أنه أئمة الجعفرية، ثم قال: والأولى حمله على الجميع، وأيد قوله بإحدى روايات الغدير التي أثبتنا عدم صحتها في أكثر من كتاب – انظر مجمع البيان 2 / 482. أما الطوسى فلم يذكر القول الثالث: انظر التبيان 2 / 545 – 546.
(4) 58: النساء.
(5) انظر التبيان 3 / 234، جوامع الجامع ص 89.(1/545)
وهم أولو الأمر في الآية التي تلتها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (1)
وفى الآية الثالثة والثمانين من نفس السورة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ} (2) .
وهم أهل الذكر (3) {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} " الأنبياء: 7 ". وهم المصطفون (4) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} " فاطر: 32 ".
وهم من أذن له الرحمن (5) {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} " النبأ: 38 ".
والأئمة الذين ورد ذكرهم كثيراً في هذين التفسيرين نجد لولايتهم حظاً من التأويل، فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية 208 ": {
_________
(1) راجع التبيان 3 / 236-237، وجوامع الجامع ص 89.
(2) راجع التبيان 3 / 273، وجوامع الجامع ص 89.
(3) انظر التبيان 7 / 232، وجوامع الجامع ص 289.
(4) انظر التبيان 8 / 243، وجوامع الجامع ص 389.
(5) انظر مجمع البيان 9 / 427، والطوسى لم يشر لهذا – انظر التبيان 10 / 249.(1/546)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، يرويان عن أصحابهما أن السلم الدخول في الولاية (1) .
وفى الآية السابعة من سورة المائدة: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . يرويان دخول الولاية في المراد بالميثاق (2) .
وفى سورة طه " الآية 82 ": {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، يرويان أن الاهتداء إلى الولاية (3) .
وسورة محمد " الآية 26 ": {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} ، روى الطبرسي أن ما نزل الله في الولاية (4) .
وإمامهم الثاني عشر - الإمام المهدى - نجد له ذكراً خاصاً.
فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية الثالثة ": {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، نراهما يدخلان في الإيمان بالغيب ما رواه أصحابهما من زمان غيبة المهدى ووقت خروجه (5) .
_________
(1) راجع التبيان 2 / 185، ومجمع البيان 2 / 302.
(2) راجع التبيان 3 / 459 – 460، وجوامع الجامع ص 106.
(3) انظر التبيان 7 / 196، وجوامع الجامع ص 284.
(4) انظر مجمع البيان 1 / 105، والطوسى لم يشر للولاية " انظر التبيان 9 / 304 – 305 ".
(5) انظر التبيان 9 / 255، ومجمع البيان 1 / 38.(1/547)
وفى سورة الأنبياء " الآية: 105 ": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، يروى الطبرسي عن الإمام الباقر، أن هؤلاء الوارثين هم أصحاب المهدى في آخر الزمان (1) .
وفى سورة النور " الآية 55 ": {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} ، يرويان عن أئمتهم " هم والله شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم على يد رجل منا، وهو مهدى هذه الأمة " (2) . وفى سورة الفتح " الآية 28 ": {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، يذكر " أنه إذا خرج المهدى صارالإسلام في جميع البشر، وتبطل الأديان كلها " (3) .
وبعد: فهذه أهم آثار الإمامة في تفسير هذين الشيخين: الطوسى والطبرسى، وإن كان الثاني (- كما يظهر (- أكثر تأثراً من شيخ الطائفة، وهما وإن لم يجنبا كتاب الله تعالى هذه الناحية الطائفية -التي ليس لها مستند من كتاب ولا سنة كما أثبتنا - إلاَّ أنهما مع هذا من أكثر الشيعة اعتدالاً، أو أقلهم غلواً.
_________
(1) جوامع الجامع ص 296، وروى الطوسى عن الإمام نفسه قال: " إن ذلك وعد للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض " " التبيان 7 / 284 ".
(2) جوامع الجامع ص 318، وانظر التبيان 7 / 457.
(3) التبيان 9 / 336، وانظر مجمع البيان 9 / 127.(1/548)
ويبدو البون شاسعاً عند المقارنة بينهما وبين من سبقهما من الغلاة. ولذلك جاء القول بالاعتدال النسبى أو إلى حد ما نتيجة المقارنة بغلاتهم الضالين، وإلا فجانب الغلو والتطرف فيهم، وفى أمثالهم، واضح بين!(1/549)
الفصل السادس
التفسير بعد الطوسي والطبرسي
أولاً: تفسير الصافى:
ذكرنا من قبل أن الشيعة بعد هذا في تناولهم لكتاب الله تعالى منهم من سلك منهجا فيه شئ من الاعتدال، أو سلك مسلك الغلو، ومنهم من جمع بين المسلكين أو اقترب من أحدهما.
ومن الكتب التي اطلعت عليها: تفسير الصافى، لمحمد بن مرتضى المدعو بمحسن. انتهى مؤلفه من كتابته سنة 1075 هـ. وقد حاول أن يأتى بكل ضلالة جاءت في الكتب الثلاثة التي رزئ بها القرن الثالث الهجرى، والتي تحدثنا عنها، وهى تفاسير الحسن العسكرى والعياشى والقمى، وزاد كذلك في النقل عن بعض الكتب الأخرى كروايات التحريف والتأويلات الفاسدة التي رواها الكلينى في كتابه الكافى. فهذا الكتاب إذن يمثل جانب الغلو والتطرف، ويعد استمراراً لحركة التضليل والتشكيك، ولذلك نقرأ فيه القول بتحريف القرآن الكريم، ومهاجمة الصحابة الأكرمين، والتأويلات التي تجعل من كتاب الله تعالى كتاباً من كتب فرق الغلاة، وغير ذلك مما ذكرناه عند تناولنا للكتب الثلاثة.
فهو يرى أن تفسير القرآن الكريم لا يصح إلاَّ عن طريق أئمة الجعفرية " فكل ما لايخرج من بيتهم فلا تعويل عليه " (1) والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره لرجل واحد هو الإمام على (2) ، ويهاجم من يأخذ التفسير المروى عن الصحابة لأن " أكثرهم كانوا يبطنون النفاق، ويجترئون على الله، ويفترون على رسول الله في عزة وشقاق " (3) .
_________
(1) تفسير الصافى ج 1 ورقة 2.
(2) انظر التفسير المذكور ج 4 ورقة 11، وانظر ج 1 ورقات 6، 7، 8 " نبذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت ".
(3) تفسير الصافى ج 1 ورقة 2.(1/550)
وهو يرى أن جل القرآن إنما نزل في أئمة الجعفرية، وفى أوليائهم، وأعدائهم (1) . ويذكر روايات كثيرة في تحريف القرآن الكريم (2) ، بل يزعم أن في القرآن الكريم من التنافر والتناكر ما يدل على التحريف.
مثال هذا ما نصه: " وأما ظهورك على تناكر قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} (3) ، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتاماً، فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن " (4) .
وصاحب الصافى يعقب على روايات التحريف بقوله: " المستفاد من مجموع هذه الأخبار، وغيرها من الروايات عن طريق أهل البيت، أن القرآن الذي بين
_________
(1) انظر ج 1 الورقة الثامنة وما بعدها.
(2) انظر ج 1 الورقة إلى 18، والتفسير كله مملوء بذكر آيات كثيرة محرفة.
(3) 3: النساء.
(4) ج 1 الورقتان 17، 18.
قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة " إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه ". وذكر سبب النزول كما رواه الإمام البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: " أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شئ، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفى ماله.
ثم ذكر عن الإمام البخاري أن عروة بن الزبير سأل عن الآية الكريمة فقالت: " يابن أختى، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلاَّ أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن " (انظر تفسيره 1 / 449 ـ 450) .(1/551)
أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها اسم علىّ في كثير من المواضع، ومنها لفظْة آل محمد غير مرة. ومنها أسماء المنافقين في مواضعها، ومنها غير ذلك. وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضى عند الله وعند رسوله " (1) .
ولا يكتفى بذكر هذه الروايات، والتعقيب عليها، ولكن يذكر آراء الطبرسي والصدوق والطوسى في عدم التحريف، ويرد عليهم بما يبين مدى غلو هذا الضال المضل (2) .
ومن أحاديثه عن الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم، أنهم كانوا أهل ردة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسى! وأن أربعة اجتمعوا على قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسم، هم: أبو بكر وعمر وابنتاهما عائشة وحفصة (3) !!
والكتاب كله يسير في ظلمات الضلال، ولنزد ذلك بياناً ببعض الأمثلة:
في أول سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ينقل عن العياشى عن الإمام الصادق أنه قال: " كتاب على لا ريب فيه "، ويعقب على هذا بقوله: " ذاك تفسيره، وهذا تأويله، وإضافته الكتاب إلى على بيانية، يعنى أن
_________
(1) ج 1 الورقة 18.
(2) انظر ج 1 الورقتين 19، 20، ومن رده يظهر اعتقاده بأن عندهم قرآناً غير القرآن الكريم الذي بأيدى المسلمين، وأن ما بين الدفتين هو المحرف، وأما قرآنهم فليس بمحرف!! والعجيب أن هذا المتظاهر بالإسلام وحب آل البيت، بدلاً من أن يستباح دمه وتحرق كتبه، نراه احتل مكاناً عالياً عند كثير من الشيعة الاثنى عشرية! . وتفسيره مطبوع ومنتشر في الوسط الشيعى!
(3) انظر هذه المفتريات العجيبة في ج 1 ورقة 148، ج 4 ورقة 133.(1/552)
ذلك إشارة إلى على. والكتاب عبارة عنه، والمعنى أن ذاك الكتاب الذي هو على لا مرية فيه ". ثم يفسر المتقين بأنهم الشيعة، ويقول: " وإنما خص المتقين بالاهتداء به لأنهم المنتفعون به " (1) .
وعند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (2) يقول: " كابن أبى وأصحابه، وكالأول والثاني وأضرابهما من المنافقين، الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق، ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين للخلافة والإمامة " (3) . ثم يذكر ما نقلناه من قبل عن تفسير الحسن العسكرى لهذه الآية الكريمة، وذكره للغدير، وخيانة خير أمة أخرجت للناس (4) .
وفى تفسيره لسورة القدر نراه يتفق مع القمي وينقل عنه ما ذكرناه من قبل، بل يزيد عنه بأن وجود القرآن متعلق بوجود الإمام!! وكلامه بالنص بعد أن ذكر رواية عن الإمام أبى عبد الله بأنه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن: " وذلك لأن في ليلة القدر ينزل كل سنة من تبيين القرآن وتفسيره ما يتعلق بأمور تلك السنة إلى صاحب الأمر، فلو لم يكن ليلة القدر لم ينزل من أحكام القرآن ما لا بد منه في القضايا المتجددة، وإنما لم ينزل ذلك إذا لم يكن من ينزل عليه، وإذا لم يكن من ينزل عليه لم يكن قرآناً، لأنهما متصاحبان لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضه كما ورد في الحديث المتفق عليه " (5) .
_________
(1) ج 1 ورقة 30.
(2) ج 1 ورقة 31 – ويريد بالأول والثاني الخليفتين – رضي الله تعالى عنهما. أفضل المسلمين بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ثبت في النص المتواتر عن الإمام على كرم الله وجهه.
(3) راجع ص 168.
(4) انظر ج 4 ورقة 177.
(5) ج 1 ورقة 23 – والحديث الذي أشار إليه هو الذي أثبتنا عدم صحته من أي طريق.(1/553)
إذن يمكن القول بأن تفسير الصافى لا يقل غلواً عن التفاسير الثلاثة بل زاد عنها.
ثانياً: البرهان في تفسير القرآن
وممن عاصر صاحب الصافى السيد هاشم البحرانى " توفى سنة 1107 أو سنة 1109 " وله كتاب " البرهان في تفسير القرآن " جمع فيه كثيراً من الروايات الجعفرية في تفسير القرآن الكريم (1) .
والكتاب لا يختلف كثيراً عن تفسير الصافى، فهو يسير في طريق الضلال نفسه، يحرف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، ويطعن في حفظة الكتاب الكريم، وحملة الشريعة من الصحابة الكرام الأطهار، ويذكر من الروايات المفتراة ما يؤيد ضلاله.
ونستطيع أن ندرك منهج هذا التفسير الضال المضل، وأثر الإمامة فيه، من الأبواب التي نراها في الجزء الأول قبيل البدء في تفسير السور الكريمة، ومن الأخبار التي أثبتها البحرانى في هذا الكتاب، فلنضرب بعض الأمثلة.
ذكر البحرانى " باب في أن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلاَّ الأئمة، وعندهم تأويله ". وتحت هذا الباب نجد ستة وعشرين خبراً (2) .
وفى " باب فيما نزل عليه القرآن من الأقسام " (3) يذكر عن أمير المؤمنين أنه قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفى عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام. وعن أبى عبد الله: إن القرآن نزل على أربعة أرباع.
_________
(1) راجع اتجاه التأليف في تلك الفترة ص 82 - 83 من كتاب المعالم الجديدة للأصول.
(2) انظر ص 15-17.
(3) انظر ص 21.(1/554)
ويذكر " باب في أن القرآن نزل بإياك أعنى واسمعى يا جارة " (1) و" باب فيما عنى به الأئمة في القرآن "، وفيه، لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين كما سمى من قبلنا (2) .
ويقول البحرانى:
وأما ما هو على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ... وأما ما هو محرف منه قوله: {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ في على} كذا نزلت (3) .
وأما ما تأويله بعد تنزيله: فالأمور التي حدثت في عصر النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعده، في غصب آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقهم، وما وعدهم الله تعالى من النصرة على أعدائهم، وما أخبر الله سبحانه به نبيه من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة (4) .
وأما ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين فقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} أنتم يا معشر أمة محمد (5) .
_________
(1) انظر ص22.
(2) انظر ص 22، 23.
(3) ص 34، والآية الكريمة التي حرفها هذا المفترى الضال نصها هو " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه " (166: سورة النساء) ".
(4) ص 35.
(5) ص 36، والآية الكريمة المذكورة هي الرابعة من سورة الإسراء.(1/555)
وأما الرد على من أنكر الرجعة فقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} (1)
ومن هذا يتضح منهج هذا البحرانى، ونزيد لك بياناً بشئ مما جاء في تفسيره للآيات الكريمة.
مما جاء في تفسيره للفاتحة: " غير المغضوب عليهم النصاب، والضالين: الشكاك الذين لا يعرفون الإمام ".
ويروى عن أبى جعفر أنه قال: " إن الله عز وجل خلق جبلاً محيطاً بالدنيا، زبرجدة خضراء، وإنما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل، وخلق خلفه خلقاً لم يفترض عليهم شيئاً مما افترض على خلقه من صلاة وزكاة، وكلهم يلعن رجلين من هذه الأمة سماهما ".
ويروى عنه أيضاً أنه قال: " من وراء شمسكم هذه أربعون عين شمس، ما بين عين شمس إلى عين شمس أربعون عاماً، فيها خلق كثير، ما يعلمون أن الله تعالى خلق آدم أو لم يخلقه. وإن من وراء قمركم هذا أربعون قرصاً، وبين القرص إلى القرص أربعون عاماً، فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله - عز وجل- خلق آدم أو لم يخلقه، قد ألهموا كما ألهمت النحلة لعنة الأول والثاني في كل الأوقات، وقد وكل بهم ملائكة متى لم يلعنوا عذبوا " (2) .
_________
(1) ص 37، والآية الكريمة في سورة النمل 83 {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُون} .
(2) انظر ص 47، ولاحظ بها أخباراً أخرى متشابهة. ويقصد هذا الضال بالأول والثاني خير الناس بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر.(1/556)
وفى أول سورة البقرة يذكر ما رأيناه من قبل في تفسير الصافى فيقول " كتاب على لا ريب فيه " (1) .
وهكذا نرى من هذه الأمثلة القليلة (2) أن هذا التفسير كسابقه يسير في طريق الضلال، ويعتبر امتداداً للحركة التي منى بها القرن الثالث، ويمثل جانب الغلو والتطرف.
ثالثاً: بحار الأنوار
وممن عاصر صاحبى الصافى والبرهان المولى محمد باقر المجلسى، المتوفى سنة 1111، وهو من أشهر علماء الجعفرية، وله مكانته عندهم. وللمجلسى موسوعته الكبرى " بحار الأنوار "، تحدث فيها عن أشياء كثيرة، يعنينا منها هنا ما يتصل بكتاب الله تعالى، وأثر الإمامة فيه والمجلسى لم يؤلف بحاره للتفسير، وإنما لخدمة المذهب الجعفرى الاثنى عشرى، فالحديث عن القرآن الكريم جاء من هذا الباب. وقد جعل كتاباً للإمام تحته مئات الأبواب، ضمتها مجموعة من أجزاء البحار. ومن هذه الأبواب " أبواب الآيات النازلة فيهم ": أي في الأئمة كما يزعم، وهى تقع في أكثر من ستمائة صفحة في جزأين (3) . ومنها كذلك " أبواب الآيات النازلة في شأنه الدالة على فضله وإمامته "، أي في شأن الإمام على، وهى تقع فيما يقرب من أربعمائة وخمسين صفحة في جزأين كذلك (4) .
ويكفى أن نذكر عناوين بعض هذه الأبواب ليظهر مدى غلو هذا الضال، فمن أبوابه:
_________
(1) انظر ص 53.
(2) راجع أيضاً الخبر، الذي نقلناه من تفسير الميزان نقلاً عن هذا التفسير ص 260.
(3) الجزءان هما: ج 23 من ص 167 إلى أخر الجزء ص 393، وج 24 كله وعدد صفحاته 402.
(4) ج 35 من ص183 إلى آخر الجزء ص 436، وج 36 من أوله إلى ص 192.(1/557)
باب أنهم - أي الأئمة - آيات الله وبيناته وكتابه (1) ، وأن الأمانة في القرآن الإمامة (2) ، وأنهم أنوار الله تعالى وتأويل آيات النور فيهم (3) ، وتأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم ... والكفار والمشركين والكفر والشرك والجبت والطاغون واللات والعزى والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم (4) ، وأنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس (5) ، وأنهم جنب الله ووجه الله ويد الله ... وأمثالها (6) ، وأنه - أي الإمام علياً - المؤمن والإيمان والدين والإسلام والبينة والسلام وخير البرية في القرآن الكريم ... وأعداؤه " الكفر والفسوق والعصيان" (7) ، وأنه أنزل فيه - صلوات الله عليه - الذكر والنور والهدى والتقى في القرآن (8) ، وأنه النبأ العظيم والآية الكبرى (9) .
والمجلسى ينقل عن التفاسير الثلاثة الضالة التي ظهرت في القرن الثالث الهجرى، وعن غيرهما من كتب غلاة الشيعة، ولكنه لا يكتفى بالنقل، وإنما كثيراً ما يذكر رأيه سواء في هذه الأجزاء أو في غيرها من كتابه البحار.
وإذا كان تأليف الأبواب على هذه الصورة يدل على فساد عقيدته التي تنزل به إلى درك الغلاة، فإن ذكر الآراء يكشف عن حقيقته بوضوح يمنع المماحكة وخلق الأعذار، وهاك بعض ما جاء في كتابه.
_________
(1) باب 11 ج 23 ص 206 - 211.
(2) باب 16 ج 23 ص 273 – 283.
(3) باب 18 ج 3 ص 204 - 205.
(4) باب 21 ج 23 ص 354 - 390.
(5) باب 46 ج 24 ص 153-158.
(6) باب 53 ج 24 ص 191- 203.
(7) باب 13 ج 35 ص 336 - 352.
(8) باب 20 ج 35 ص 394 - 407.
(9) باب 25 ج 36 ص 1-4.(1/558)
نقل عن الكافى ثلاث روايات عن الإمام أبى جعفر قال: نزل جبريل بهذه الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ} في على " بَغْيا"" ... وقال: نزل جبرائيل بهده الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هكذا: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} في على {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} وقال: نزل بهذه الآية هكذا: {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا أنَزَّلْنَا} في علىّ {نُورًا مُّبِينًا}
وبعد هذه الروايات قال المجلسى (1) :
بيان: قوله: " على عبدنا في على ع " لعله كان شكهم فيما يتلوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن على " ع "، فرد الله عليهم بأن القرآن معجزة، ولا يمكن أن تكون من عند
_________
(1) انظر الروايات وبيانه في ج 23 ص 372 – 373، ويظهر من السند المذكور أن الكلينى – صاحب الكافى – نقل هذه الروايات الثلاث عن شيخه على بن إبراهيم القمي.
والتحريف الأول في الأية 90 من سورة البقرة، والثاني في الأية 23 من السورة ذاتها.
أما الرواية الثالثة فإنها أخذت صدر الأية 47 من سورة النساء مع وضع كلمة " أنزلنا " بدلاً من " نزلنا " ثم وضع التحريف، ثم كان الختام هو عجز الآية 174 من نفس السورة! ومع هذا فالقمى والكلينى والمجلسى من علماء الشيعة الاثنى عشرية الأعلام!! المعتدلون منهم والمتطرفون على السواء، يثنون على الثلاثة كل الثناء! حتى دعاة التقريب! ما وجدنا أحداً منهم يقول في الثلاثة إلاَّ ما قاله شيعتهم! فكيف يكون التقريب؟ أنؤمن بهذا الكفر ونتبع هؤلاء الضالين؟!(1/559)
غيره. وأما الأية الثالثة فصدرها في أوائل سورة النساء هكذا: {يَا أَيهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} وآخرها في آخر تلك السورة هكذا:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} ، ولعله سقط من الخبر شئ، وكان اسمه " ع " في الموضعين، فسقط آخر الأولى وأول الثانية من البين، أو كان في مصحفهم عليهم السلام إحدى الآيتين كذلك، ولا يتوهم أن قوله {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} في الأولى ينافى ذلك، إذ يمكن أن يكون على هذا الوجه أيضاً الخطاب إلى أهل الكتاب، فإنهم كانوا مبغضين لعلى " ع " لكثرة ما قتل منهم، وكان اسمه " ع" مثبتاً عندهم في كتبهم كاسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا قوله {أُوتُواْ الْكِتَابَ} ، وإن احتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن.
وذكر المجلسى بعد هذا روايات أخرى عن الكافى أيضاً فيها آيات محرفة كذلك، وقال عن التحريف في بعضها:
" يحتمل التنزيل والتأويل "، واحتمل في موضع آخر وجود الآيات المحرفة في مصحف خاص بأئمتهم كما ذكر من قبل (1) .
ثم أورد المجلسى ثلاث روايات من الكافى عن الإمام أبى عبد الله جعفر الصادق هي (2) :
عنه في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: نزلت في فلان وفلان وفلان وفلان: آمنوا بالنبىصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول
_________
(1) انظر 23 / 374.
(2) راجعها في 23 / 375 – 376.(1/560)
الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كنت مولاه فعلى مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء.
وعنه في قول الله تعالى " 25: محمد ": {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين رضي الله عنه، قلت: قوله تعالى " 26: محمد "
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} قال: ... نزلت والله فيهما وفى أتباعهما، وهو قول الله عز وجل الذي نزل ... به جبرائيل " ع " على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} ... في على {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} قال: دعوا بنى أمية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يعطونا من الخمس شيئاً، وقالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شئ، ولا يبالوا ألاَّ يكون الأمر فيهم، فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه، وهو الخمس ألا نعطيهم منه شيئاً، وقوله " كرهوا ما نزل الله " والذى نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين، وكان معهم أبو عبيدة، وكان كاتبهم، فأنزل الله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} " 79: 80 الزخرف ".(1/561)
والرواية الثالثة أنه قال في قوله تعالى " 25: الحج ": {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ، نزلت فيهم: حيث دخلوا الكعبة، فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم، وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين رضي الله عنه، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه، فبعداً للقوم الظالمين.
وبعد هذه الرواية قال المجلسى:
بيان: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} أقول: الآية في سورة النساء (1) هكذا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ، وفى سورة آل عمران (2) هكذا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} ، ولعله - ضم جزءاً من إحدى الآيتين إلى جزء من الأخرى لبيان اتحاد مفادها، ويحتمل أن يكون في مصحفهم " ع " هكذا، والظاهر أن المراد بالإيمان في الموضعين الإقرار باللسان فقط، وبالكفر الإنكار باللسان أيضاً، كما صرح به في تفسير على بن إبراهيم.
قوله: بأخذهم من بايعه بالبيعة: لعل المراد بالموصول أمير المؤمنين رضي الله عنه، والمستتر في قوله: بايعه راجع إلى أبى بكر، والبارز إلى الموصول، ويحتمل أن يكون المستتر راجعاً إلى الموصول، والبارز إليه، أي أخذواالذين بايعوا أمير المؤمنين يوم الغدير بالبيعة لأبى بكر، ولعله أظهر.
_________
(1) الآية 137.
(2) الآية التسعين.(1/562)
قوله: فلان وفلان وفلان: هذه الكنايات يحتمل وجهين: الأول أن يكون المراد بها بعض بنى أمية كعثمان وأبى سفيان ومعاوية، فالمراد بالذين كرهوا ما نزل الله أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، إذ ظاهر السياق أن فاعل " قالوا " الضمير الراجع إلى " الذين ارتدوا " والثاني أن يكون المراد بالكنايات أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وضمير " قالوا " راجعاً إلى بنى أمية بقرينة كانت عند النزول، والمراد بالذين كرهوا الذين ارتدوا، فيكون من قبيل وضع المظهر في موضع المضمر. نزلت والله فيهما: أي في أبى بكر وعمر، وهو تفسير للذين كرهوا. وقوله: وهو قول الله: تفسير لما نزل الله، وضمير " دعوا " راجع إليهما وأتباعهما، " وقالوا " أي هما وأتباعهما.
قوله، في بعض الأمر: لعلهم لم يجترئوا أن يبايعوهم في منع الولاية فبايعوهم في منع الخمس، ثم أطاعوهم في الأمرين جميعاً، ولا يبعد أن تكون كلمة " في " على هذا التأويل تعليلية، أي نطيعكم بسبب الخمس لتعطونا منه شيئا. وقوله: " كرهوا ما نزل الله " إعادة للكلام السابق لبيان أن ما نزل الله في على هو االولاية، إذ لم يظهر ذلك مما سبق صريحاً، ولعله زيدت الواو في قوله: " والذى " من النساخ، وقيل: قوله مرفوع على قول الله من قبيل عطف التفسير، فإنه لا تصريح في المعطوف عليه، بأن النازل فيهما في أتباعهما كرهوا أم قالوا (1) .
وبعد أن انتهى المجلسى من بيانه السابق ذكر عشرات الروايات التي تحمل التحريف لكتاب الله تعالى، والتكفير لمن رضي الله عنهم ورضوا عنه من الصحابة الكرام البررة، ثم قال:
اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده " ع " وفضل عليهم غيرهم، يدل على أنهم كفار مخلدون في
_________
(1) 23 / 376 - 378.(1/563)
النار (1) . ثم أورد ما يؤيد به رأيه، فقال: " قال الشيخ المفيد قدس الله روحه - في كتاب المسائل: اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار، وقال في موضع آخر: اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم ... كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم، وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا من بدعهم، وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على ذلك فهو من أهل النار ".
ومن هذا نرى أن كتاب بحار الأنوار للمجلسى يعتبر امتداداً لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله العزيز، ويمثل جانب الغلو والتطرف عند الجعفرية الاثنى عشرية (2) .
رابعاً: تأويل الآيات الباهرة
والمجلسى ليس أول من عنى بجمع الآيات التي أجرم الضالون من طائفته بتحريفها في اللفظ أو المعنى، فمن قبله مثلاً شرف الدين بن على النجفى الذي ألف كتاباً أسماه " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة "، ونقل المجلسى عنه بعض رواياته (3) .
_________
(1) 23 / 390، وفى موضع آخر عقد المجلسى باباً كاملاً أسماه " باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم " ويعنى بالثلاثة الخلفاء الراشدين!! (انظر كتابة 8 / 208 إلى 252 طبع حجر ".
(2) الشيخ محمد جواد عالم شيعى معاصر، له مؤلفاته في فقه المذاهب الخمسة، حيث اعتبر المذهب الجعفرى مذهباً خامساً، ونرى شيئاً من الاعتدال في كثير من مؤلفاته. أشارهذا العالم إلى بعض " المؤلفات الشيعية التي بحثت التراث الإسلامي والديني والسياسي على أساس العلم، ونطقت بالصدق وكلمة " الحق " هكذا قال بالنص، ومن تلك المؤلفات بحار الأنوار للمجلسى!! ترى: أيدرى ما في البحار أم لا يدرى؟!
" انظر فضائل الإمام على ص 247 ".
(3) انظر مثلاً بحار الأنوار 23 / 168.(1/564)
والكتاب لا يجمع الآيات تحت أبواب - كما فعل المجلسى، وإنما يسير بترتيب السور الكريمة.
وفى ذكره لبعض آيات سورة البقرة يجمع أكثر ما جاء به من التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكرى. والتحريف في النص يكثر نقله عن القمي، وتلميذه الكلينى.
ولسنا في حاجة لذكر أمثلة، فالكتاب كله صورة واضحة لهذا الضلال والإضلال (1) .
وسيأتى ذكر لكثير من كتبهم مثل هذا الكتاب.
خامساً: تفسير شبر:
ويبدو أن حركة التضليل والتشكيك كانت أقوى من الحركة المضادة، ذلك أن الكتب الضالة التي ظهرت في القرن الثالث منها كتاب ينتسب إلى إمام، وآخر لمفسر يوثقونه كل توثيق، أحد تلاميذه هو الكلينى، صاحب كتاب الحديث الأول عند الجعفرية، وقد نقل عن شيخه القمي مئات الروايات في التحريف والتكفير وغير ذلك، والثالث للعياشى وهو في مكانة القمي عندهم، ولهذا ما وجدت أو قرأت من كتاب من كتب التفسير الجعفرى يصل إلى كتاب التبيان للطوسى في اعتداله النسبى أو قلة غلوه (2) . ولكن ظهر بعض التفاسير التي لم ترتفع إلى هذا المستوى، ولم تنزل إلى ذلك الدرك الأسفل. ومن هذه الكتب تفسير القرآن الكريم للسيد عبد الله شبر (3) .
ولنتبين أهم آثار الإمامة في هذا التفسير ومدى غلوه نعرض ما يأتى:
_________
(1) الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 38 مواعظ شيعة، ومصور بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم 97 تاريخ.
(2) ربما ظهر شئ في السنوات الأخيرة لا علم لي به، وسيأتى الحديث عن التفسير الكاشف لمغنيه، وتفسير البيان لمرجعهم الحالى بالعراق.
(3) توفى سنة 1242 هـ.(1/565)
أولا ً:
بالنسبة للقول بتحريف القرآن الكريم أو عدم تحريفه لم أجد لشبر نصاً صريحاً، ولكن يبدو أنه يميل إلى القول بالتحريف، ويظهر هذا الترجيح مما يكثر منه على أنه من القراءات، ومن هذه القراءات.
في سورة آل عمران الآيات 102، 104، 110، فالآية الأولى ... هي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ولكن شبراً يذكر أنها قرئت " تقية " و" مسلّمون " وواضح أن تحريف التقوى بالتقية لتأييد مبدأ من مبادئ الجعفرية، وأما الكلمة الأخرى فيقول عنها شبر " وقرئ بالتشديد أي منقادون للرسول ثم للإمام من بعده " (1) .
والآية الثانية {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يبدل كلمة " أمة " بأئمة (2) أي أئمة الجعفرية.
وكذلك فعل في الآية الثالثة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} فيقول: " هم آل محمد عليهم السلام، وقرئ كنتم خير أئمة " (3) .
_________
(1) تفسير شبر ص 96.
(2) انظر تفسيره ص 96.
(3) ص 97.(1/566)
وفى سورة الحجر " الآية 41 ": {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتقِيمٌ} يبدل الجار والمجرور باسم الإمام على فيقول " صراط عَلِىٍّ بالإضافة (1) .
وفى سورة الحج " الآية 52 ": {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} يقول شبر: " وعنهم أي أئمته أو محدث بفتح الدال، هو الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك (2) . وغير هذا كثير (3) .
ومما يرجح كذلك انضمام شبر إلى القائلين بالتحريف، موقفه من الآية التاسعة من سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حيث أولها بقوله: " وإنا له لحافظون عند أهل الذكر واحداً بعد واحد إلى القائم أو في ... اللوح ... وقيل الضمير للنبى " (4) .
ثانياً: نجد شبراً ممن يطعن في الصحابة الأبرار، وأمهات المؤمنين الطاهرات: فمثلاً آيات سورة النور التي تحدثت عن الإفك لتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها، نرى شبراً يجعل فيها اتهاماً لمن برأها الله تعالى فيقول: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} تحمل معظمه {مِنْهُمْ} من الآفكين {
_________
(1) تفسيره ص 264.
(2) ص 328، ومعنى هذا التحريف أن الإمام مرسل يوحى إليه!
(3) راجع مثلاً ص 146، 212، 353، 425.
(4) قال الأستاذ محمد حسين الذهبى رحمه الله: " نجد شبراً يعتقد بأن القرآن بدل وحرف، ولما اصطدم بقوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} نجده يتفادى هذا الاصطدام بالتأويل " ثم نقل تأويله للآية الكريمة. " انظر التفسير والمفسرون ... 2 / 191 ".(1/567)
لَهُ عذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة. أو في الدنيا بجلدهم، نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة من أنها حملت بإبراهيم من جريج القبطى، وقيل في عائشة" (1) .
وفى سورة التوية " الآية 40 ": {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ... } يعز على شبر أن ينزل من السماء تكريم لأبى بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه ولا يكتفى بنفى هذا التكريم، بل يفترى على الله تعالىمرة أخرى، ويجعل من الآية الكريمة اتهاماً لأفضل المسلمين بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك يقول: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} ولا مدح فيه إذ قد يصحب المؤمن الكافر كما: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (2) {لاَ تَحْزَنْ} : فإنه خاف على نفسه، وقبض واضطرب حتى كاد أن يدل عليهما، فنهاه عن ذلك { ... إِنَّ اللهَ مَعَنَا} عالم بنا ( {فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينة {عَلَيْه} ِ على الرسول، وفى إفراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها ههنا مع اشتراك المؤمنين معه حيث ذكرت ما لايخفى (3) .
_________
(1) ص 238، وراجع ما ذكرناه عن الإفك الذي جاء به القمي ص 190.
(2) 37: الكهف.
(3) ص 204 ومن الواضح البين أن صحبة الكافر غير صحبة الصاحب المختار، فالاتهام هنا اتهام لمن اختاره صاحباً. ومن الواضح البين كذلك أن أي مؤمن يقل إيمانه عن الصديق بدرجات ودرجات يدرك أن موته يعنى موت رجل، وأن موت الرسول الكريم يعنى موت رسالة، وما أكثر الذين ضحوا في سبيل الرسالة والرسول! فكيف يخاف الصديق على نفسه ولا يخاف على من أرسل رحمة للعالمين! وخوف أبى بكر - رضي الله عنه _ على الرسول* *الأكرم كان ظاهراً عندما سبقه إلى الغار ليستبرئه، وعندما كان يتقدمه ويتأخر عنه ... إلخ - أما ذكر إنزال السكينة عليه وليس عليهما فيكفى أن نذكر ما قاله أحد علمائهم عند قوله تعالى ... {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} " 37: البقرة
قال الطبرسي: إنما قال " فتاب عليه " ولم يقل عليهما لأنه اختصر وحذف للإيجاز والتغليب، كقوله سبحانه وتعالى: " 62 التوبة: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضوهُ} ، ومعناه أن يرضوهما، وقوله " آخر الجمعة ": {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَ ... } وكقول الشاعر:
رمانى بأمر كنت منه ووالدى بريا ومن حول الطوى رمانى
وقول الآخر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأى مختلف
فكذلك معنى الآية: فتاب عليهما. " مجمع البيان 1 / 89، وراجع نقض ابن تيمية لما ذهب إليه أمثال شبر في ص 557 من المنتقى ".(1/568)
ثالثاً: نجد شبراً يغالى في أئمته، ويخضع القرآن الكريم لهذا الغلو، فيضيف إلى التحريف في النص تحريفاً في المعنى. انظر مثلاً تأويله لسورة القدر حيث يقول: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} : جبرائيل أو خلق أعظم من الملائكة {بِإِذْنِ رَبِّهِم} يأمره كل سنة إلى النبي وبعده إلى أوصيائه، {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} : بكل أمر قدر في تلك السنة أو من أجله، {سَلَامٌ هِيَ} : قدم الخبر للحصر أي ما هي إلاَّ سلامة أو سلام؛ لكثرة سلام الملائكة فيها على ولى الأمر (1) .
وفى سورة المعارج، بعد أن ذكر أنها مكية، يقول:
_________
(1) ص 562.(1/569)
{سَأَلَ سَائِلٌ} : دعا داع، {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} : نزلت لما قال بعض المنافقين يوم الغدير: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر فقتله (1) .
وفى الآية الثامنة من سورة هود يقول:
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} : أوقات قليلة، قال الصادق: هي أصحاب المهدى عدة أصحاب أهل بدر (2) .
هذا بعض ما جاء في تفسير شبر، وأظنه يكفى لبيان أثر الإمامة فيه، وهو وإن كان في منزلة بين المنزلتين، إلاَّ أنه إلى الغلو أقرب، وعن الاعتدال أكثر بعداً.
سادساً: كنز العرفان
وبعد الانتهاء من النظر في تلك الكتب، نأتى إلى لون آخر من التفاسير، وهى تختص بآيات الأحكام فقط، رجعت إلى كتابين أحدهما يمثل جانب الاعتدال النسبى، والآخر سار في طريق الغلاة.
الكتاب الأول هو " كنز العرفان في فقه القرآن "، لمقداد بن عبد الله السيورى الحلى (3) ، والكتاب ينتصر للأحكام التي استقر عليها رأى الشيعة الجعفرية، مخالفين بها كل المذاهب أو بعضها، فمثلاً عند قوله تعالى:
_________
(1) ص 531.
(2) ص 228.
(3) عاش إلى أوائل القرن التاسع الهجرى.(1/570)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (1) ، نراه يقف طويلاً عند عجز الآية، محاولاً إثبات أن الواجب مسح الرجلين لا غسلهما (2) .
وعند قوله عز وجل {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) ، حاول أن يثبت وجوب رد السلام في أثناء الصلاة (4) .
والانتصار للفقه الشيعى الجعفرى من باحث جعفرى أمر متوقع، بل لا ينتظر غيره، ولكنه ينتهى أحياناً إلى آراء أثر الإمامة يبدو فيها واضحاً، ومن أمثلة هذه الأراء ما يأتى:
عند قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (5) ينتهى إلى أن في الآية أحكاماً هي:
أن المشركين أنجاس نجاسة عينية لا حكمية، وأن آثارهم وكل ما باشروه برطوبة نجس أيضاً، وأنه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام، وكذا باقى المساجد لنصوص الأئمة. ثم يقول: " لا فرق بينهم وبين الكفار عندنا في جميع ما تقدم للإجماع المركب، فإن كل من قال بنجاستهم عيناً قال بنجاسة كل كافر، ولأن أهل الذمة مشركون " (6) . وبالبحث عن باقى الكفار عندهم نجد أن الجعفرية توسعوا في
_________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) انظر ص 9، 10.
(3) سورة النساء: 86.
(4) انظر ص 70 - 71.
(5) التوبة: 28.
(6) انظر ص: 21 - 22.(1/571)
مفهوم الكفر فحكموا بكفر كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم اعتبر غير الجعفرى كافراً مشركاً (1) .
وفى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) : يذكر مشروعية الصلاة على الآل تبعاً للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجواز الصلاة عليهم " لا تبعاً له بل إفراداً كقولنا اللهم صلى على آل محمد، بل الواحد منهم لا غير "، وأن الصلاة عليهم واجبة في الصلاة، ومستحبة في غيرها، ثم يقول: " والذين يجب الصلاة عليهم في الصلاة، هم الأئمة المعصومون لإطباق الأصحاب على أنهم هم الآل، ولأن الأمر بذاك مشعر بغاية التعظيم المطلق الذي لا يستوجبه إلاَّ المعصومون، وأما فاطمة عليها السلام فتدخل أيضاً لأنها بضعة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ويذكر كذلك أن أئمته هم القائمون مقام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن مقام إمامتهم اغتصب (3) .
وفى قوله سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (4) .
ينتهى إلى أحكام منها قوله: " وجوب القصر، وإن كان عاماً لظاهر الآية، لكنه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة: مسجد مكة، والمدينة، وجامع
_________
(1) انظر حكم سؤر الآدمى في الجزء الرابع من هذه الموسوعة، وراجع كذلك آراء من سبق الحديث عنهم من غلاة مفسريهم، وانظر ما كتبناه عن أصول الكافى وروضته في الجزء التالي.
(2) سورة الأحزاب: الآية 56.
(3) انظر كتابه ص 58 – 61.
(4) النساء: الآية 101.(1/572)
الكوفة، والحاير الشريف، وعليه إجماع أكثر الأصحاب، لأن الإتمام فيها ... أفضل، لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها " (1) .
سابعا ً: زبدة البيان
ذلك هو الكتاب الأول، أما الكتاب الثاني فهو " زبدة البيان في أحكام القرآن"، لأحمد بن محمد الشهير بالمقدسى الأردبيلى (2) ولنتبين مدى غلوه، وأثر الإمامة فيه نعرض ما يأتى: -
في كتاب الطهارة ذكر أن الإيمان المطلق عند الجعفرية يدخل فيه التصديق والإقرار " بالولاية والإمامة والوصاية لأهل البيت (ع) بخصوص كل واحد واحد " (3) .
ثم قال: فلنشر إلى ما يدل على كون أمير المؤمنين " ع " إماماً، وهو غير محصور، ونقتصر على نبذ منه. منه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
ومما قاله في الآية الكريمة: " ظاهر أنها في أمير المؤمنين وأصحابه الذين ارتدوا بعده من الخوارج، ومحاربيه يوم الجمل وصفين وغيره ".
واستمر لبيان أنها فيه، واستدل بأحاديث لا تصلح للاستدلال هنا، وبأخرى موضوعة، إلى أن قال: وبالجملة الأوصاف كلها موجودة فيه، ويؤيد كونها فيه قوله تعالى متصلاً بالآية المذكورة:
_________
(1) ص 88، وجامع الكوفة فيه محراب أمير المؤمنين على رضي الله عنه، وفيه ضربه بالسيف الشقى اللعين عبد الرحمن بن ملجم. " راجع ما كتب عن المسجد ونظرة الشيعة في الجزء الرابع ". والمسجد الرابع هو الحاير الحسينى بكربلاء.
(2) توفى سنة 993 هـ.
(3) ص 10.
(4) سورة المائدة: الآية 54.(1/573)
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} مع إجماع المفسرين على أنها في شأنه (1) .
وفى كتاب الصلاة عاد الأردبيلى للحديث عن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ليستدل بها على إمامة أمير المؤمنين، والأئمة الأحد عشر من ولده الذين تصدقوا في حال ركوعهم كذلك (2) .
وفى كتاب الطهارة ذكر قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (3) ، واستدل بها على وجوب عصمة الأئمة (4) .
وفى كتاب النكاح: ذكر أول سورة التحريم، وتحدث عن أسباب النزول، ثم قال: " وفى السبب شئ عظيم لحفصة، ولعائشة أعظم، حيث كذبت وغدرت وفتنت، وأمرت بهذه المناكير، وحصل الأذى للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك (5) .
واستدلالاً بالآية الخامسة {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} ...
_________
(1) انظر الكتاب ص 10 – 14، وراجع ما كتبته عن آية الولاية في الجزء الأول.
(2) انظر ص 107 - 110.
(3) سورة البقرة: الآية 124.
(4) انظر 47 - 48.
(5) ص 565.(1/574)
قال: " وبالجملة هذه تدل على عدم اتصافهما بهذه الصفات، واتصاف غيرهما بها (1) .
وبعد ذلك تحدث عن ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، ثم قال: ... " ولعل فيه تسلية للنبى وغيره من المؤمنين، بأنه لا يستبعد حصول امرأة غير صالحة للنبى وغيره، ودخولها النار، مع كون جسدها مباشراً لجسده، ووجود الزوجية، وهى صريحة في ذلك، والمقصود واضح فافهم. وكذا رجاء من يتقرب بتزويجه وزوجيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كانت أم حبيبة بنت أبى سفيان أخت معاوية أيضاً عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى أحدى زوجاته، وأبوها كان أكبر رءوس الكفار، وصاحب حروبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخرى صفية بنت حيى بن أخطب بعد أن أعتقها، وقد قتل أبوها على الكفر، وأخرى سودة بنت زمعة، وكان أبوها مشركاً ومات عليه، وقيل: قد زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنتيه قبل البعثة بكافرين يعبدان الأصنام" (2) .
_________
(1) ص: 571.
(2) ص 575، وجاء في الحاشية: " قيل هما رقية وزينب كانتا بنتى هالة أخت خديجة، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى. وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما ".
وفى كتاب منهاج الشريعة، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية ... لابن تيمية، جاء الحديث عن أختى الزهراء - رضي الله عنهن - في أكثر من موضع، ومما قاله: " ما زعمه - أي ابن تيمية - من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " " 2 / 289 ".
وقال: " لم يرد شئ من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " " 2 / 290 ".
وقال: " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (2 / 291) .
ولا أدرى كيف يستطيع من يهاجم بنات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يزعم أنه محب لآل البيت؟ وكيف يقبل إخواننا الشيعة وجود أمثال هؤلاء بينهم؟(1/575)
بعد هذا لسنا في حاجة إلى ذكر المزيد لبيان أن هذا الكتاب يمثل جانب الغلو والتطرف والضلال.
ثامناً: الميزان
بعد الحديث عن كتب للجعفرية الاثنى عشرية ظهرت في القرون السابقة أرى أن ننظر فيما كتب علماؤهم المعاصرون، لنرى إلى أي مدى لا يزال التأثر بعقيدة الإمامة في تناولهم لكتاب الله العزيز.
ومن أكثر الكتب انتشاراً وشهرة، ولها مكانتها عند شيعة اليوم كتاب ... " الميزان في تفسير القرآن ": للسيد محمد حسين الطباطبائى (1) . وأهم آثار الإمامة في هذا الكتاب تبدو فيما يأتى: -
أولا ً: عندما ينتصر لعقيدته في الإمامة، أو لشئ متصل بها، يقف من التحريف موقفاً غير حميد، ففى الحديث عن آية التطهير سبق أن أوردت قوله الذي يفيد احتمال وضع الصحابة للآيات في غير موضعها حيث قال " 16 / 330 ": " الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها: إما بأمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عند التأليف بعد الرحلة " (2) .
وعند الحديث عن موقف شبر من التحريف ذكرت ما نسبه لأئمته من زيادة كلمة " أو محدث " بعد قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} ، وذكرت كذلك تفسير شبر للمحدث بأنه الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك. وصاحب الميزان نراه يقول: " الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت
_________
(1) سبق ثناؤه على تفسير العياشى - الضال المضل - بدلاً من أن يكفره، مما يبين اتجاه صاحب تفسير الميزان هذا: فلم ينكر تحريفه للقرآن الكريم، ولا تكفيره للصحابة الكرام، ولا غير ذلك من ضلاله الذي بيناه.
(2) راجع ما كتب عن آية التطهير في الجزء الأول.(1/576)
كثيرة جداً، رواها في البصائر والكافى والكنز والاختصاص وغيرها. وتوجد في روايات أهل السنة أيضاً " (1) .
وإذا كان قوله ينحصر في معنى المحدث، إلاَّ أن روايات أئمته التي أشار إليها تتناول زيادة الكلمة في الآية الكريمة ومعناها (2) .
أما روايات أهل السنة فنجدها في الصحيحن وغيرهما: ففى البخاري " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتى أحد فإنه عمر " (3) .
وفى مسلم: عن عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: " قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يك في أمتى منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم. قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون " (4) .
وفى الترمذى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " قد كان يكون الأمم محدثون، فإن يك في أمتى أحد فعمر بن الخطاب " وزاد الترمذى: " قال سفيان بن عيينة: محدثون يعنى مفهون " (5) .
فهذه الروايات إذن ليس فيها تحريف للقرآن الكريم، أو زعم استمرار الوحى وسماع صوته.
وعند قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (6) .
_________
(1) الميزان 3 / 240.
(2) انظر الكافى 1 / 176 – 177 " باب الفرق بين الرسول والنبى والمحدث ".
(3) انظر كتاب المناقب – باب مناقب عمر بن الخطاب.
(4) انظر كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل عمر.
(5) راجع أبواب المناقب – باب مناقب عمر.
(6) سورة النساء: الآية 24.(1/577)
روى عن أئمته بأنها إنما نزلت {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ثم يعقب بقول عام يبين رأيه في هذه الرواية وأمثالها حيث يقول:
" لعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظى " (1) .
فهو إذن لا يجزم بالتحريف أو عدمه، أي أنه في منزلة بين القمي والطوسى.
ثانياً: بينا لجوء الطوسى والطبرسى لتأويل بعض أي القرآن الكريم للاستدلال على عقيدة الإمامة، وهنا نجد صاحب الميزان يزيد عنهما غلواً وافتراء، فمثلاً آية الولاية التي تحدثنا عنها في الجزء الأول، نرى الطباطبائى يتناولها في أكثر من عشرين صفحة محاولاً أن يثبت بها الولاية، وضلال من لا يشاركه عقيدته، ويذكر أن علياً حاج أبا بكر بها فاعترف بأن الولاية لعلى (2) .
وعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (3) . نراه يقول: " على الناس أن يطيعوا الرسول فيما بينه بالوحى، وفيما يراه من الرأى، وأما أولو الأمر منهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحى، وإنما شأنهم
_________
(1) 4 / 308.
(2) راجع تفسيره 6 / 2: 24.
(3) سورة النساء: الآية 59.(1/578)
الرأى الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول ". (1) ثم قال: " وبالجملة لما لم يكن لأولى الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم - أعنى الكتاب والسنة - لم يذكرهم الله سبحانه وتعالى ثانيا، عند ذكر الرد. فلله تعالى إطاعة واحدة وللرسول وأولى الأمر إطاعة واحدة " (2) . ويبدو الاعتدال هنا في اختصاص الوحى بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه جعل رأى أولى الأمر كرأى الرسول سواء بسواء، وطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، لينتهى من هذا إلى وجوب عصمتهم والنص عليهم، وأنهم هم أئمة الجعفرية! وذكر روايات تؤيد ما ذهب إليه، فأحال كتاب الله تعالى إلى كتاب من كتب الإمامة عند الجعفرية.
ونكتفى هنا بذكر إحدى رواياته، وتعقيبه عليها، ليتضح مدى الغلو والافتراء، وهاك نص الرواية: " في تفسير البرهان عن ابن بابويه، بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصارى. لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ "" " قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائى ياجابر، وأئمة المسلمين من بعدى، أولهم على بن أبى طالب، ثم الحسين، ثم على بن الحسين، ثم محمد بن على المعروف في التوراة بالباقر، ستدركه ياجابر، فإذا لقيته فأقرئه منى السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم على بن موسى، ثم محمد بن على، ثم على بن محمد، ثم الحسين بن
_________
(1) 4 / 413.
(2) 4 / 414، وانظره إلى ص 439.(1/579)
على، ثم سميى محمد وكنيى، حجة الله في أرضه، وبغيته في عباده، ابن الحسن ابن على، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان.
قال جابر: فقلت له: يارسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي والذى بعثنى بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله! " ثم عقب الطباطبائى بقوله: " وعن النعمانى.. عن على ما في معنى الرواية السابقة، ورواها على بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه، وهناك روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة! ومنها ذكر إمامتهم بأسمائهم، من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة، وكتاب غاية المرام للبحرانى، وغيرهما " (1) .
ثالثاً: وهو يتحدث عن منهجه في التفسير، واستدلاله بالروايات قال: " وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية، نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، من طرق العامة والخاصة. وأما الروايات الواردة عن مفسرى الصحابة والتابعين فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم " (2) .
وبالاطلاع على هذه الأبحاث الروائية وجدنا أنه لا يفترق كثيراً عن القمي والعياشى وأضرابهما، وعنهم أخذ أكثر رواياته، ولنضرب بعض الأمثلة:
_________
(1) 4 / 435 – 436، وانظر تفسيره إلى ص 439 تجد روايات أخرى موضوعة كذلك – لتأييد ما ذهب إليه من عقيدة أثبتنا بطلانها في أكثر من كتاب.
(2) 1 / 11 -12.(1/580)
من هذه الروايات " أن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشراً أفضل منى؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه، ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً: لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله، على بن أبى طالب أمير ... المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: يا آدم، هؤلاء ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقى، ولولاهم ما خلقتك، ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، فأخرجك عن جوارى، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها، وتسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما من جواره إلى الأرض ".
ثم عقب صاحب الميزان بقوله: " وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات، بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب، وبعضها أجمل وأوجز " (1) .
وروى عن الكلينى في قوله تعالى " 37: البقرة ": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: " سأله بحق محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين ". وعقب يقوله: " وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشى والقمى وغيرهم " (2) .
_________
(1) 1 / 144- 145.
(2) 1 / 149.(1/581)
وروى عن الكلينى أيضاً: " إن الله أعز وأمنع من أن يظلم، أو ينسب نفسه إلى الظلم، ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآناً على نبيه فقال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1)
وعن الكافى كذلك: " إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (2) .
وعن العياشى أن الإمام الصادق قال: " الذين باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا على وحق الأئمة منا أهل البيت، فباءوا بسخط من الله " (3) .
وعنه كذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (4) عن الإمام الصادق: نحن نعنى بها، والله المستعان، إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلاَّ أن يبين للناس من يكون بعده (5) .
وعن العياشى أيضاً أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " لا دين لمن لا تقية له " (6) .
_________
(1) 1 / 193، والآية هي رقم 57 من سورة البقرة، 160: الأعراف.
(2) 1/ 219.
(3) 4 /73.
(4) البقرة: الآية 159.
(5) الميزان: 1 / 397.
(6) 3 / 174.(1/582)
وعن القمي والكافى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، رويا أنها نزلت في ولاية الإمام على (1) .
ومن هذا كله يتضح أثر الإمامة في هذا التفسير، وهو بلا شك أكثر غلواً من تفسير الطوسى، بل من الطبرسي، وأبحاثه الروائية نقلها من القمي والعياشى والكلينى وغيرهم، فهو في هذا لا يكاد يفترق عن باقى الضالين.
تاسعاً: التفسير الكاشف
إذا كان التبيان للطوسى - كما رأينا - هو أكثر الكتب اعتدالاً أو أقلها غلواً، فإن عصرنا شهد بعض الكتب في التفسير الشيعى لا تقل عنه اعتدالا، ولا تزيد عنه غلوا. من هذه التفاسير كتابان: أحدهما " التفسير الكاشف " للعالم الجعفرى اللبنانى المشهور: محمد جواد مغنية، ومظاهر الاعتدال نراها فيما يأتى:
أولاً: في بيانه لمنهجه في التفسير، حيث يقول:
اعتمدت - قبل كل شىء - في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفة معانيه: ... {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (2) .
فإذا لم يكن حديث من السنة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر، كما أن المخاطب بدوره يأخذ بهذا الظاهر، حتى يثبت العكس.
وإذا أوردت آية ثانية في معنى الأولى، وكانت أبين وأوضح، ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأن مصدر القرآن واحد، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض.
_________
(1) انظر 9 / 59 - 60، والآية الكريمة في سورة الأنفال: الآية 24.
(2) سورة الحشر: الآية 7.(1/583)
وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع حكم العقل وبداهته، أولت اللفظ بما يتفق مع العقل باعتباره الدليل والحجة على وجوب العمل بالنقل.
وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع إجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع، كقوله تعالى (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ((1) ، حيث دلت " فاكتبوه " على الوجوب، والإجماع قائم على استحباب كتابة الدين، فأحمل الظاهر على الاستحباب دون الوجوب.
أما أقوال المفسرين فلم أتخذ منها حجة قاطعة، ودليلاً مستقلاً، بل مؤيداً ومرجحاً لأحد الوجوه إذا احتمل اللفظ لأكثر من معنى، فلقد بذل المفسرون جهوداً كبرى للكشف عن معاني القرآن وأسراره وإبراز خصائصه وشوارده، وأولوا كتاب الله من العناية ما لم يظفر بمثلها كتاب في أمة من الأمم قديمها أو حديثها.
وإن في المفسرين أئمة كباراً في شتى علوم القرآن التي كانت الشغل الشاغل للمسلمين في تاريخهم الطويل، فإذا لم تكن أقوال هؤلاء الأقطاب حجة، كقول المعصوم، فإنها تلقى ضوءاً على المعنى المراد، وتمهد السبيل إلى ... تفهمه (2) .
ثانياً: في التزامه بهذا المنهج إلى حد كبير:
مثال هذا ما ذكره في تفسير الفاتحة عند قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} قال: " جاء في بعض الروايات أن المغضوب عليهم هم اليهود،
_________
(1) 282: سورة البقرة، والآية كتبت في التفسير الكاشف خطأ حيث سقط منها " إلى أجل مسمى ".
(2) 1 / 16.(1/584)
والضالين هم النصارى، ولكن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه، ولا استثناء، فكل مطيع تشمله نعمة الله ورحمته، وكل عاص ضال ومغضوب عليه " (1) .
وعند تفسير الآيات من " 111 إلى 113 " من سورة البقرة، أشار إلى أن اليهود والنصارى يكفر بعضهم بعضاً، ثم وضع عنواناً نصه: " أيضاً المسلمون يكفر بعضهم بعضاً "، وتحت هذا العنوان قال:
وإذا كان اليهود بحكم الطائفة الواحدة، لأن التوراة تعترف بعيسى، والإنجيل يعترف بموسى، فبالأولى أن تكون السنة والشيعة طائفة واحدة، حقيقة وواقعة: لأن كتابهم واحد، وهو القرآن، لا قرءانان، ونبيهم واحد، وهو محمد، لا محمدان، فكيف إذن يكفر بعض من الفريقين إخوانهم في الدين؟
ولو نظرنا إلى هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} (2) ، ولو نظرنا إليها بالمعنى الذي بيناه، واتفق عليه جميع المفسرين، ثم قسنا من يرمى بالكفر أخاه المسلم ـ لو نظرنا إلى الآية، وقسنا هذا بمقياسها لكان أسوأ حالاً ألف مرة من اليهود والنصارى.. (لقد كفر اليهود النصارى وكفر النصارى اليهود، {وَهُمْ يتْلُونَ الْكِتَابَ} أي التوراة والإنجيل، فكيف بالمسلم يكفر أخاه المسلم، وهو يتلو القرآن؟ فليتق الله الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقلوبهم عمى عن معانيه ... ومراميه (3) .
_________
(1) 1 / 35.
(2) سورة البقرة: الآية 113.
(3) 1 / 180.(1/585)
وفى تفسير سورة الأنفال " الآيات 72: 75 " تحدث عن المهاجرين والأنصار فقال: ما قرأت شيئاً أبلغ من وصف الإمام زين العابدين " ع " للمهاجرين والأنصار وهو يناجى ربه، ويطلب لهم الرحمة والرضوان بقوله:
" اللهم أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا، وأبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوا وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له، حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته ... فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك ... وكانوا مع رسولك لك إليك ".
وبعد أن ذكر الشيخ مغنية قول الإمام قال:
ملحوظة: هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة، وتقدس كل حرف منها، وهى رد مفحم لمن قال: إن الشيعة ينالون من مقام الصحابة (1) .
وفى تفسير سورة الرعد " الآيات 35: 38 " قال تحت عنوان " الشيعة الإمامية والصحابة ": دأب بعض المأجورين والجاهلين على إثارة الفتن والنعرات بين المسلمين لتشتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم، دأبوا على ذلك عن طريق الدس والافتراء على الشيعة الإمامية، وذلك بأن نسبوا إليهم النيل من مقام الصحابة، وتأليه على، والقول بتحريف القرآن الذي يهتز له العرش ... وما إلى ذلك من الكذب والبهتان ... (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ((2) قال الطبرسي: " يريد الله سبحانه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين آمنوا به، وصدقوه
_________
(1) 3 / 515.
(2) سورة الرعد: الآية 36.(1/586)
وأعطوا القرآن، وفرحوا بإنزاله " ... ولو كانوا ينالون من مقام الصحابة لاتجه شيخهم الطبرسي في تفسير هذه الآية إلى غير هذا الوجه (1) .
وفى تفسير سورة التحريم يقول عن الآية الرابعة: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} : أي مالت إلى الحق، ثم يقول مشيراً إلى حفصة وعائشة من أمهات المؤمنين: فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما إلى أمر الله والإخلاص لرسوله، وإن أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن الله وليه وناصره، وأيضاً يعينه ويؤازره جبريل، وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين (2) .
_________
(1) 4 / 412.
نلاحظ على إخواننا الشيعة الذين يتجهون نحو الاعتدال والابتعاد عن الغلو، أنهم يتجاهلون الواقع ويقعون في التناقض، والصحابة الكرام، رضي الله عنهم ورضوا عنه، لهم مقام معلوم عند الله تعالى، وعند جمهور المسلمين. وما نقله الشيخ مغنية مدحاً في الصحابة هو عين الحق بلا أدنى ريب، ولكننا نلاحظ أن ما ذكره في تفسير سورتى الأنفال والرعد كأنما جاء للدفاع عن الشيعة لا الصحابة! فالشيخ مغنية نفسه أثنى على كتاب بحار الأنوار للمجلسى أيما ثناء، ورأينا من قبل في دراستنا لهذا الكتاب أن صاحبه يرى تحريف القرآن الكريم، ويكفر الصحابة وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الثلاثة. وأشرت من قبل بعد دراسة ... تفسير القمي الضال المضل إلى التناقض الذي وقع فيه السيد أبو القاسم الخوئى - مرجع الشيعة السابق بالعراق - حيث ذهب إلى صحة جميع روايات هذا التفسير، والخوئى يقطع بعدم تحريف القرآن الكريم، والقمى يجزم بتحريفه، ويكفر الصحابة ويلعنهم، والكلينى صاحب كتاب الكافى أعظم كتاب عندهم - ذهب مذهب شيخه القمي في التكفير والتحريف.
فكان على الشيخ مغنية - وأمثاله ممن ينشدون الاعتدال - ألا يتجاهلوا الواقع، وألا يقعوا في التناقض، كان عليهم إذن أن يهاجموا القمي والكلينى والعياشى والمجلسى وأمثالهم، ويبينوا أن هؤلاء ليسوا من شيعة الإمام زين العابدين، وغيره من الأئمة الأطهار، فضلاً عن أن يكونوا من أعلام الشيعة الثقات، كان عليهم هذا بدلاً من أن يهاجموا من يذكر الواقع والحقيقة!!
(2) 7 / 364.(1/587)
وبعد تفسير سورة الليل يقول: قال الشيخ محمد عبده: روى المفسرون هنا أسبابأ للنزول، وأن الآيات نزلت في أبى بكر، ومتى وجد شىء من ذلك في الصحيح لم يمنعا من التصديق به مانع، ولكن معنى الآيات لا يزال عاماً (1) .
من هذا نرى أن الشيخ مغنية في تفسيره يمثل جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية في المنهج والتطبيق، وبالطبع لا يخلو تفسيره من التأثر بعقيدته في الإمامة، فعلى سبيل المثال:
نراه ينسب لأمير المؤمنين على بن أبى طالب - رضي الله عنه - أنه قال: " ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق " (2) ، وناقشنا هذا من قبل (3) .
كما نراه يتحدث عن عصمة أهل البيت (4) ، وعن الإمامة وفكرة العصمة (5) . ويتحدث عن المهدى المنتظر في أكثر من موضع (6) ، غير أنه كان يذكر بعض الأحاديث التي صحت عن طريق أهل السنة (7) .
_________
(1) 7 / 576.
(2) 1 / 10، 1 /39.
(3) راجع ص 135 وما بعدها.
(4) انظر 1 /88.
(5) 1 / 196 - 199.
(6) انظر 1 / 206، 5 / 57، 5/ 302.
(7) ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود في سننه، واعترف الشيخ مغنية بصحته، وهو: " قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو لم يبق من الدنيا إلاَّ يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتى، يواطئ اسمه اسمى، واسم أبيه اسم أبى، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً " " 5/302 "، والشيخ مغنية هنا وقع في التناقض الذي أشرنا إليه من قبل، لأن هذا الحديث الشريف يخالف عقيدته في المهدى، حيث يعتقد أنه محمد بن الحسن العسكرى، وليس محمد بن عبد الله الذي سيبعث قبيل الساعة.(1/588)
ويتحدث عن التقية ويقول: " من خص التقية بالشيعة فقط، وشنع بها عليهم، فهو إما جاهل، وإما متحامل " (1) .
ويفصل القول في الحديث عن الخمس، ويهاجم أبا سفيان وحفيده يزيد، ذاكرا قول الشاعر:
فابن حرب للمصطفى وابن هند ... لعلى وللحسين يزيد (2)
وفى تفسير سورة آل عمران " الآيات 33: 37 " يضع هذا العنوان: " فاطمة ومريم "، ويذكر تحته حقاً وباطلاً، ويشير إلى أن فاطمة كمريم، وعلى كزكريا، كان كلما دخل عليها وجد عندها رزقاً من عند الله تعالى (3) .
وفى تفسير سورة النساء " الآيتين 95، 96 " يتحدث عن تفسير الآيتين، وتحت عنوان: " على وأبو بكر "، يجادل ليصل إلى أفضلية على بحهاده وعلمه، وفى آخر جدله العقيم يقول: منزلة على من العلم لا تدانيها منزلة واحد من الصحابة على الإطلاق، وكفى شاهداً على ذلك ما تواتر عن الرسول الأعظم " أنا مدينة العلم وعلى بابها ". وقد حفظ التراث الإسلامى من علم على ما لم يحفظه لأبى بكر، ولا لغيره من الصحابة (4) .
_________
(1) وانظر بحث التقية والأسباب التي جعلتها مبدأ خاصاً بالشيعة في الفصل الخامس من الجزء السابق.
(2) انظر 3 / 482-484.
(3) انظر 2 / 50-51.
(4) انظر 2 / 414 - 416.
والحديث الذي ذكر أنه متواتر، قال عنه الدار قطنى في العلل: هذا حديث مضطرب غير ثابت، وقال الترمذى: منكر، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح، وقال يحيى بن معين: كذب لاأصل له، وذكره ابن الجوزى في الموضوعات " انظر كشف الخلفاء 1 /203 - 205 وراجع فيه الآراء المختلفة حول هذا الحديث، وانظر أيضاً: فيض القدير 3/47046، والمقاصد الحسنة 97، وذكرت تخرج الحديث من قبل. *
*وروى الإمام البخاري بسنده عن محمد بن الحنفية قال: " قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال " ثم عمر " قال ابن تيمية: قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقا، وهو متواتر عنه. " انظر جامع الرسائل1 / 261 " واذكر هذا هنا من باب التذكير، فليس هنا مجال لمناقشة مثل هذه الآراء.(1/589)
وفى سورة المائدة: وعند تفسير الآية الثالثة من السورة، تحت عنوان " إكمال الدين وإتمام النعمة "، نراه يتظاهر بأنه يعرض رأى كل من الشيعة والسنة فقط، لينتهى من هذا إلى خلافة على (ويشير إلى كتاب الغدير ككتاب قيم، وأن هذا الكتاب ذكر رواة حديث الغدير، وهم 120 صحابياً، 840 تابعاً، 360 إماماً وحافظاً للحديث، وفيهم الحنفى والشافعى وغيرهما، كل ذلك نقله عن كتب ... السنة (1) .
وعند تفسير الآية الخامسة والخمسين من السورة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} يذكر كغيره أنها نزلت في على بن أبى طالب (2) .
ثم يعود إلى الغدير عند تفسير الآية السابعة والستين من سورة المائدة أيضاً {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... } ويذكر أن الشيعة استدلوا بأحاديث رواها أهل السنة (3) .
_________
(1) انظر 3 /13-15، وراجع ما كتبته فيما سبق عن الغدير في الفصل الثالث من الجزء الأول، وفيه إشارة لكتاب الغدير المذكور، وبعض أكاذيبه وافتراءاته، وإثبات أن حديث الغدير في التمسك بالكتاب والعترة كوفى المنشأ ، ليس له طريق إلاَّ عن المجروحين من شيعة الكوفة!
(2) انظر 3 / 81 وانظر مناقشة ما ذهبوا إليه في الجزء السابق.
(3) انظر 3 / 96 - 99.(1/590)
وعند تفسير الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} يذكر ما ذهب إليه الشيعة، وبين أدلتهم، محاولاإثبات صحة ما ذهبوا إليه (1) .
وفى سورة الشورى، عند تفسير الآية الثالثة والعشرين: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، يقول عن البحر المحيط: هم على وفاطمة والحسن والحسين، ويقول أيضاً: ونقل بعض المفسرين رواية، في سندها معاوية، ومؤدى هذه الرواية أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: ناشدتكم الرحم أن لا تؤذونى. ثم أخذ يناقش ليثبت أنها في الأربعة (2) .
_________
(1) انظر 6 / 216 - 218.
(2) انظر 6 /522 -523.
وما ذكره عن البحر المحيط لا يمثل رأى أبى حيان، ولا يبين أنه يرى صحة هذا الخبر، فأبو حيان جمع أخباراً - صحيحة أو غير صحيحة - وأثبتها في تفسيره، ومنها هذا الخبر الذي لا يقبل، فالسورة مكية، أي أنها نزلت قبل أن يولد الحسن والحسين بسنوات، أما إذا أردنا أن نبحث عن الصحيح فإنا نرى الإمام البخاري يروى في صحيحه بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله {إلا المودة في القربى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلاَّ كان له فيهم قرابة، فقال: إلاَّ أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة، " كتاب التفسير سورة حم عسق باب {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
وقال ابن حجر في فتح البارى في شرحه لهذا الخبر: قال ابن عباس: عجلت: أي أسرعت في التفسير، وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعاً، فأخرج الطبري وابن أبى حاتم، من طريق قيس بن الربيع، عن الأعمش عن سعيد بن جبير، * * عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح.
أما ذكر الشيخ مغنية لمعاوية، يريد أن يلمزه، ففيه بعد عن الحق، فعلى الرغم مما حدث بينه وبين سيدنا على لم يرد عن طريقه حديث واحد فيه طعن للإمام على، وكل الأحاديث التي صحت عن طريق معاوية ليس فيها أي مطعن، وقد جمع ابن الوزير- وهو من علماء الشيعة الزيدية - ما روى عن طريق معاوية في الصحاح الستة، وأثبت صحته من طرق ليس فيها معاوية. رضي الله عنه. " انظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبى القاسم 2/114 - 119".(1/591)
هذه بعض الأمثلة التي تبين أثر الإمامة في هذا التفسير، ومع هذا كله فالشيخ مغنية يمثل جانب الاعتدال إلى حد ما في عصرنا الحديث، وتفسيره يبين منهجه الذي يمثل الحق في بعض جوانبه، غير أنه لا يخلو من الغلو والضلال.
عاشراً: البيان
والكتاب الثاني الذي يمثل جانب الاعتدال، والبعد عن الغلو إلى حد ما ظهر في عصرنا هذا، هو " البيان " في تفسير القرآن " ألفه السيد أبو القاسم الموسوى الخوئى "، المرجع السابق للجعفرية بالعراق. ومع أن الكتاب لم يظهر منه إلاَّ المجلد الأول الذي يشمل المدخل وتفسير الفاتحة، إلاَّ أننا انتهينا إلى هذا الرأى لما يأتى:
أولا ً: جاء في مقدمة الكتاب: " سيجد القارئ إني لا أحيد في تفسيرى هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته، وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة من ذرية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما استقل به العقل الفطرى الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه - صلى الله عليه وعلى آله-وأهل بيته المعصومين عليهم السلام حجة ظاهرة، وسيجد القارئ أيضاً إني كثيراً(1/592)
ما أستعين بالآية على فهم أختها، وأسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروى مرشداً إلى هذه الاستفادة (1) . ... وفى بيانه لأصول التفسير قد فصل ما أجمله هنا (2) .
ثانيا: أنه قد أسهب وأفاض في إثبات صيانة القرآن الكريم من التحريف (3) ، وهو لا يكفر المخالفين لطائفته، بل يرى ويروى أن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين (4) .
ثالثاً: أنه أفاض كذلك في الحديث عن حجية ظواهر القرآن (5) .
رابعاً: أنه التزم بمنهجه هذا في تفسيره لفاتحة الكتاب، والقارئ لتفسيره يلمس هذا بوضوح.
ومع هذا فأثر الإمامة نراه في قوله بصحة إطلاق الأسماء الحسنى على الأئمة (6) ، وبوجوب طاعتهم والخضوع لهم والتوسل بهم (7) ، وفضل السجود على التربة الحسينية (8) وجواز تقبيل قبورهم وتعظيمها (9) ، وأن عبادتهم لله تعالى لا
_________
(1) ص 22.
(2) انظر ص 421: 427.
(3) راجع ص 215: 278.
(4) راجع ص 509، 563، 564.
(5) انظر ص281 -291.
(6) انظر ص 461.
(7) راجع ص 499، 501، 502.
(8) راجع ص 505.
(9) انظر 508.(1/593)
يرقى إليها إلاَّ المعصوم (1) ، وأنهم المأذون لهم في الشفاعة فيشفعون للشيعة، فلا يردهم ربهم عز وجل (2) .
هذا ما جاء في ثنايا تفسيره تأثراً بعقيدته، وهو لا ينزله عن مرتبة الطوسى في تبيانه. وبالطبع نتمنى أن يجعلوا ما يتصل بالإمامة في كتب أخرى غير كتب التفسير، ولكن السيد الخوئى إذا أتم تفسيره على المنهج الذي بينه فإنه أفضل بكثير من الكتب المنتشرة في الوسط الجعفرى الآن.
وبعد: فهذه الكتب تمثل منهجين مختلفين في التفسير عند شيعة اليوم، يبين أحدهما أن الوسط الجعفرى لما يتطهر من أولئك الذين يخضعون كتاب الله العزيز لأهوائهم وشهواتهم تأثراً بعقيدتهم في الإمامة، ويكشف الآخر عن وجود من ينشد الاعتدال، ويحكم العقل لا الهوى إلى حد ما، وإن لم يخل من الغلو والضلال.
_________
(1) انظر ص 510.
(2) انظر ص 515.(1/594)
الفصل السابع
نظرة عامة لباقي كتب التفسير
بعد الدراسة السابقة لستة عشركتابا من كتب التفسير الشيعى ننظر في " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " لأقابزرك الطهرانى، لمزيد من التوضيح.
في كتاب الذريعة نجد الإشارة إلى عدد كبير جداً من كتب التفسير الشيعى، ونجد عنوان بعض هذه الكتب يغنى عن النظر فيها، فهى مثل ما ذكرته من قبل عند الحديث عن كتاب " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة ".
وبعض هذه الكتب لا يظهر أثر الإمامة في العنوان ولكن يظهر هذا الأثر عند الإشارة إلى موضوع الكتاب , ونذكر هنا عدداً من هذه الكتب التي حاول أصحابها إخضاع كتاب الله المجيد لأهوائهم، كما نثبت شيئاً من تعليق صاحب كتاب الذريعة. وترتيب الكتاب ألفبائى، فلا حاجة لذكر الأجزاء والصفحات.
(1) آيات الأئمة:
فارسى، في بيان الآيات المتعلقة بالإمامة، وفضائل الأئمة، لمؤلفه مير محمد على الأريجانى الطهرانى المتوفى بها سنة 1323.
(2) آيات الأئمة:
وذكر في حرف التاء بعنوان " تفسير آيات الأئمة " فارسى. قال صاحب الذريعة: في ذكر آيات تستخرج منها بالزبر والبينات أسماء الأئمة، وبعض أوصافهم وخصوصياتهم، للعالم الكامل ميرزا على نقى الهمدانى، المتوفى عام 1297.
(3) الآيات البينات:
أو: بيان الآيات بالزبر والبينات: قال: للمولى المعاصر يوسف بن أحمد بن يوسف الجيلانى النجفى، استخرج فيه بالزبر والبينة أسامى المعصومين الأربعة عشر، وبعض خصوصياتهم من ستين آية من آيات القرآن.(1/595)
قلت: مراده بالمعصومين الذين أشركهم مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأئمة الاثنا عشر، والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها. ونلاحظ ثناءه على الضالين، ورضاه وإعجابه بضلالهم، ومشاركته لهم في الغلو والتضليل، وهذا واضح بيّن ملازم لصاحب الذريعة، وسيأتى ما يؤكد هذا.
(4) آيات الحجة والرجعة:
قال: في تفسير الآيات المتعلقة بهم، مع بيان واف، والنكات الدقيقة، وذكر الروايات المروية عنهم في تفسيرها وتأويلها للعلامة الشيخ محمد على بن المولى حسن على الهمدانى الحاير، المولود سنة 1293. رأيت النسخة الأصلية عنده، استخرج فيها 313 آية من القرآن الشريف على عدد أصحاب الحجة وأنصاره وقت ظهوره.
قلت: يشير هنا إلى خرافة الإمام الثاني عشر التي ذكرتها في الجزء السابق، ومثل هذا كتاب " ما نزل من القرآن في صاحب الزمان " لأبى عبد الله الجوهرى أحمد بن محمد " انظر إيضاح المكنون 2 /421 "، وغير هذا كتب أخرى سيأتى ذكرها.
(5) الآيات النازلة في ذم الجائرين على أهل البيت:
للمولى حيدر على الشروانى.
(6) الآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة:
قال: وهى 500 آية من القرآن في فضائل أمناء الرحمن، جمعها مع تفسيرها وبيانها الشيخ تقى الدين عبد الله حاجى ... ويأتى في حرف الميم كتب كثيرة تحت عنوان ما نزل في أهل البيت، أو في على، أو في صاحب الزمان، كلها في هذا الموضوع.
(7) آيات الولاية:
فارسى، لميرزا أبى القاسم بن محمد الشيرازى.(1/596)
قال: فسر فيه إحدى وألف آية من كتاب الله العزيز النازلة: خمسمائة منها في حق أهل البيت وولايتهم باتفاق المفسرين - هكذا قال المفترون (- والباقى حسب تفاسير أهل البيت الذين نزل فيهم القرآن، وهم أعرف به، من طرق أصحابنا الإمامية خاصة.
قلت: إذن يقصد اتفاق المفسرين جميعاً لا مفسرى فرقته خاصة (قدرة عجيبة على الافتراء ((
(8) تأويل الآيات:
لأبى إسحاق بن مجير الأصفهانى.
وآخر: للسيد الأمير روح الأمين الحسينى الأصفهانى.
(9) تأويلات القرآن:
لكمال الدين أبى الغنائم عبد الرزاق الكاشانى، المتوفى سنة 730.
(10) تأويل الآيات التي تعلق بها أهل الضلال:
للمولى عبد الرشيد بن الحسينى بن محمد الإسترابادى.
قال: وله كتاب " مناقب النبي والأئمة ".
قلت: ماذا يريد بأهل الضلال؟ لعله يقصد خير أمة أخرجت للناس كما سيظهر من موقفهم من قوله تعالى في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَىالَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، حيث إنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
(11) تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة:
فارسى، لمحمد تقى بن محمد باقر الطهرانى الأصفهانى، المتوفى سنة 1322.
قلت: سبق الحديث عن كتاب بالعربية يحمل العنوان نفسه.(1/597)
(12) تأويل الآيات الظاهرة في فضل العترة الطاهرة:
للسيد شرف الدين على الحسينى الإسترابادى، المتوفى سنة 940.
قال: جمع فيه تأويل الآيات التي تتضمن مدح أهل البيت، ومدح أوليائهم، وذم أعدائهم من طرقنا، وطرق أهل السنة ـ هكذا قال ((وينقل فيه عن كنز الفوائد للشيخ الكراكجى المتوفى سنة 449، وعن كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت لابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبرى سنة 328، وعن كشف الغمة للأربلى المتوفى سنة 692، وعن كتب العلامة الحلى.
(13) تأويل الآيات النازلة:
قال: في فضل أهل البيت وأوليائهم، يقرب من عشرين ألف بيت لبعض الأصحاب ... قال الفيض في أول كتاب الصافى: إن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل آيه: إما بهم، أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن، وقد رأيت منها كتاباً يقرب من عشرين ألف بيت.
(14) تأويل ما نزل في النبي وآله.
(15) تأويل ما نزل في شيعتهم.
(16) تأويل ما نزل في أعدائهم:
قال: هذه الثلاثة كلها لأبى عبد الله محمد بن العباس المعروف بابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبرى سنة 328.
وذكر الشيخ - أي الطوسى - في رجاله ثمانية كتب أخرى له أيضاً، لكن النجاشى لم يذكر منها إلا كتاب " المقنع " و" والدواجن " و" ما نزل من القرآن في أهل البيت "، وهذا الكتاب هو الذي مر أنه ينقل عنه السيد شرف الدين على في كتابه " تأويل الآيات الظاهرة " أحاديث كثيرة.
(17) تفسير الآيات البينات النازلة في فضائل أهل بيت سيد الكائنات:(1/598)
فارسى، للسيد مصطفى بن أبى القاسم الموسوى النجفى - ولد سنة 1320.
(18) تفسير الأئمة لهداية الأمة:
لمحمد رضا بن عبد الحسين النصيرى الطوسى، عاش في القرن الحادى عشر. قال: وتفسيره هذا كبير، يقال إنه في ثلاثين مجلداً.
وديدن هذا المفسر أن يذكر عدة آيات، مع ترجمتها إلى الفارسية، ثم يشرع في تفسير الآيات على ما هو المأثور، وترجمة الأحاديث بالفارسية، ثم تفسيرها بالعربية. وينقل غالباً عن تفسيرى العياشى والبيضاوى، وينقل عن كتب الاحتجاج للطبرسى، وتمام تفسير الإمام العسكرى، وتمام تفسير القمي ... إلخ.
و" مختصر تفسير الأئمة ".
لمؤلف الأصل، وهو فارسى محض، في ست مجلدات.
(19) تفسير أبى الجارود:
قال: اسمه زياد بن منذر، المتوفى سنة 150، وتنسب إليه الزيدية الجارودية، ويروى تفسيره عن الإمام الباقر أيام استقامته.
قلت: يقصد قبل أن يصبح زيدياً، ولعل الصواب: أيام ضلاله البعيد، والإمام الباقر رضي الله عنه برىء مما في هذا التفسير؛ فالقمى أخرجه في تفسيره الذي تحدثنا عنه بالتفصيل.
(20) تفسير الحافظ محمد بن مؤمن النيسابورى:
ذكر المؤلف أنه استخرج تفسيره من اثنى عشر تفسيراً
قال صاحب الذريعة: ويأتى كتاب: " نزول القرآن في شأن على " للشيخ محمد بن مؤمن الشيرازى، والظاهر أنه هو الحافظ المذكور.
(21) تفسير المصابيح بما نزل من القرآن في أهل البيت:
لأبى العباس أحمد بن الحسن الإسفرائينى.
(22) تفسير المنشى:(1/599)
قال: لعله للأمير محمد رضا الحسينى منشى الممالك، المعاصر للشيخ الحر، والساكن بأصفهان حين تأليف " الأمل " سنة 1097، وصفه فيه بأنه كبير أكثر من ثلاثين مجلداً، عربى وفارسى، جمع فيه الأحاديث وترجمتها، ويظهر من بعض هذه الخصوصيات أنه غير تفسير الأئمة السابق ذكره، وإن شاركه في بعضها.
(23) تفسير النعمانى:
قال: هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر، تلميذ ثقة الإسلام الكلينى. جعل مقدمة تفسيره روايات رواها بإسناده إلى الإمام الصادق، وهى التي دونت مفردة مع خطبة مختصرة وتسمى بـ " المحكم والمتشابه "، طبعت في إيران، وقد أوردها بتمامها العلامة المجلسى في مجلد القرآن من البحار.
قلت: الكلينى، الذي يراه الشيعة ثقة الإسلام، بينت مدى ضلاله وافترائه في الجزء الثالث، وهو تلميذ القمي الذي سبق الحديث عن تفسيره، ويأتى النعمانى ليكمل سلسلة الضلال، وعلامتهم المجلسى تحدثنا عنه في هذه الدراسة من قبل، ويبقى تقديرنا وإجلالنا للعالم العابد المجتهد الإمام الصادق، المبرأ مما نسبه إليه هؤلاء الضالون.
(24) تفسير ميرزا هادى:
قال: ابن السيد على، من احفاد مير كلان الهروى البجستانى الخراسانى الحائرى المعاصر، وهو تكميل لتفسير على بن إبراهيم القمي بإيراد الأحاديث المروية، من طرق العامة - أي غير فرقته - المطابقة لروايات الأئمة المذكورة في تفسير القمي.
قلت: وأى روايات تطابق ما جاء في تفسير هذا الضال ما لم تكن من الروايات الموضوعة؟
(25) تفسير آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} " 124: سورة البقرة ":(1/600)
قال: للمولى محمد رفيع الكيلانى، المتوفى بها سنة 1161، وتفسيره هذا جزء لطيف في الإمامة، وإثبات عصمة الإمام.
قلت: ذكرت أقوالهم في هذه الآية الكريمة، وبينت بطلان ما ذهبوا إليه في الجزء السابق، وبينت أن العصمة التي جعلوها لأئمتهم لم يصل إليها خير البشر وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
(26) تفسير آية {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} " 69: آل عمران ":
لميرزا محمد التنكابنى، قال في قصصه إنه يقرب من ألف بيت.
قلت: قد يبدو عجيباً أن نورد هذا الكتاب في هذا الموضع، فما علاقة الإمامة بالحديث عن بيت الله الحرام بمكة المكرمة ـ زاده الله تعظيماً وتشريفاً؟!
ولكنى وجدتهم يقولون هنا: " وفيه بيان تأويله بكربلاء "!
فذكرنى هذا بقول شاعر هؤلاء القوم الذي ذكره صاحب كتاب الأرض والتربية الحسينية:
ومن حديث كربلا والكعبة ... بان لكربلا علو الرتبة
ولنا أن نسأل: أفيكون التقريب وداره بالقاهرة لنؤمن بهذا الكفر الصراح؟ أم يجب أن يكون في طهران لتنقية عقيدتهم حتى يكونوا مثلنا؟
(27) تفسير آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " 33: الأحزاب ":
ذكر صاحب الذريعة أربعة كتب بهذا العنوان، أحدها فارسى. وقولهم في هذه الآية الكريمة ناقشته بتوسع في الجزء السابق.
(28) تفسير آية ""وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى"":(1/601)
ذكر صاحب الذريعة كتابين بهذا العنوان.
قلت: الذي دفعهم للكتابة هو ما روى أن الآية الكريمة وما بعدها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كما روى البزار عن ابن الزبير، والحاكم عن الزبير، وابن أبى حاتم عن عروة. وخير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت بالتواتر عن على نفسه رضي الله عنهما - يعتبر في نظر هؤلاء القوم مغتصباً للخلافة، ولذلك جعلوه تحت الآيات التي تتحدث عن الكفار والمنافقين، والجبت والطاغوت، وأرادوا أن يبعدوا عنه هذه الآيات الكريمة من سورة الليل.
(29) تفسير آية الكرسى:
لعطاء الله بن محمود الحسينى.
قلت: لا يبدو أي نوع من الربط بين آية الكرسى التي يتحدث فيها رب العزة عن نفسه، وبين الإمامة، غير أننى وجدت في الذريعة القول بأن في هذا التفسير دلالة على تشيع المؤلف، وقوة فهمه، وكثرة علمه، وأنه لا يبعد أن يكون من علماء الدولة الصفوية. ورأينا من قبل أن بعض هؤلاء رفع الأئمة لمرتبة الألوهية، كما أننا نعرف ما أصاب الإسلام على يد الدولة الصفوية الشيعية.
(30) تفسير آية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} " 110: آل عمران ":
لحسين بن دلدار على.
قلت: مر من قبل تحريفهم لهذه الآية الكريمة، حيث ذكروا أنها نزلت هكذا " كنتم خير أئمة ... "، وجعلوها لأئمتهم.
*****(1/602)
هذه بعض كتب التفسير التي ذكرها صاحب الذريعة في الهمزة تحت كلمة " آيات "، وفى التاء تحت كلمتى " تأويل " و" تفسير ". ونجد غير هذه الكتب في مواضع أخرى، فمثلاً نراه يقول في الجزء الرابع ص 318: " تفسير نور الأنوار ومصباح الأسرار "، و" نور التوفيق "، و" نور الثقلين "، كلها تأتى - أي تأتى في النون. ويقول في الجزء نفسه " ص 268 ": " تفسير تنزيل الآيات الباهرة "، وكذا " التنزيل " متعددا، و" التنزيل في أمير المؤمنين "، و" التنزيل من القرآن "، و" التنزيل والتعبير "، يأتى الجميع بعنوان: " التنزيل ".
وقال في الجزء الثالث بعد الحديث عن " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة ":
قد ذكرنا في الجزء الأول آيات الأئمة، وآيات الفضائل، والآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة، وآيات الولاية، وغيرها. ويأتى في حرف الميم ما يقرب من عشرين كتاباً من تأليفات قدماء المحدثين، بعنوان ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين، أو في أهل البيت، أو في الحجة، أو في الخمسة وغيرها، وكل واحد من هذه الكتب يصح أن يعد من كتب الحديث، لأنه دون فيه نوع خاص من الأحاديث، أي خصوص ما روى عنهم عليهم السلام في بيان الآيات التي نزلت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم، ويصح أن يعد من كتب التفسير: لأنه يذكر فيه تفسير تلك الآيات وتأويلها، وشرحها، وبيان المراد منها، ولا سيما مع ترتيب تلك الآيات في أكثر هذه الكتب على ترتيب سور القرآن من سورة فاتحة الكتاب إلى سورة الناس كما هو الترتيب في كتب التفاسير. والداعى إلى إفراد القدماء والمتأخرين هذا النوع من الأحاديث واستقلالها بالتأليف هو تخصيص النصف أو الثلث أو الربع من الآيات الشريفة التي وردت أخبار كثيرة على اختلافها في التعبير بأنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومواليهم(1/603)
وأعدائهم، وقد أورد الفيض بعضها بالمقدمة الثالثة في أول الصافى، وذكر وجه عدم التنافى بينها، ودون كل منهم ما وصل إليه من هذا النوع من الحديث ليعرف الناس تفاصيلها.
قلت: سبق الحديث عن كتاب الصافى، وبيان ما وصل إليه من ضلال وتضليل. وما يقوله صاحب الذريعة هنا يؤكد ما قلته عن صاحب تفسير الصافى وأمثاله من غلاة الشيعة الاثنى عشرية. ومن يقرأ الذريعة يلحق مؤلفها بهؤلاء الغلاة الضالين، وقوله آنفاً خير شاهد.
وبعد كل ما سبق أعتقد أن معالم التفسير الشيعى الاثنى عشرى قد اتضحت إلى حد كبير، فدراستنا لستة عشر كتاباً من القرن الثالث إلى العصر الحديث بينت اتجاهات التفسير خلال هذه القرون. ونظرتنا إلى ثلاثين كتاباً مما جاء في كتاب الذريعة، جعلت الصورة أكثر وضوحاً، وهذه الكتب منها ما كان في النصف الأول من القرن الثاني، وهو تفسير أبى الجارود، ومنها ما هو في العصر الحديث. وتفسير أبى الجارود الذي نقله القمي يشير إلى أن حركة التشكيك والتضليل بدأت مع بداية عصر التدوين، والتفاسير الحديثة الكثيرة تشير إلى استمرار هذه الحركة الضالة، وعدم توقفها.
وإلى جانب الثلاثين كتاباً، ذكرت إشارة صاحب الذريعة لعشرين كتاباً في موضع واحد، وتعليقه على ما جاء بها، وهذا يدل على ضخامة هذه الحركة الضالة، وربما يعطى السمة الغالبة للتفسير الشيعى، نسأل الله تعالى الهداية والرشاد.(1/604)
خاتمة الجزء الثاني
الحمد لله الذي أعاننا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
وبعد أن تم بتوفيق الله - عز وجل - ما أردنا من بيان التفسير وأصوله عند أهل السنة، وعند الشيعة الاثنى عشرية، أقدم هنا موجزاً للبحث، وأشير إلى نتائجه.
قسمت هذا البحث قسمين:
القسم الأول: تحدثت فيه عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
والقسم الثاني: جعلته لبيان التفسير وأصوله عند الشيعة.
والقسم الأول يضم ثمانية فصول:
في الفصل الأول تحدثت عن علم التفسير، وبينت المراد من التفسير والتأويل.
وفى الفصل الثاني تحدثت عن تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالسنة المطهرة هي المبينة للقرآن الكريم، وجمعت أحاديث التفسير، الصحيح منها والحسن، دون الضعيف والموضوع، فبلغت خمسة وثلاثين، وذكرت بعض الملاحظات في ضوء ما جمعت، وأشرت إلى أن الشيعة أشركوا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العصمة من رأوهم أئمة لهم، فجعلوا أقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا أدنى فرق.
وفى الفصل الثالث تحدثت عن تفسير الصحابة، أعلم الناس بالقرآن، وأشرت إلى ما يأخذ حكم المرفوع من تفسيرهم، ثم جمعت بعض ما صح من تفسيرهم، وبينت خصائصه، ثم تحدثت عن التدوين، وأثبت أن كتاب تنوير المقباس ليس صحيح النسبة لابن عباس، ومن الخطأ شيوعه، وطبعه مرات على أنه تفسير(1/605)
ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وختمت الفصل بإشارة سريعة لموقف الشيعة من
ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وختمت الفصل بإشارة سريعة لموقف الشيعة من تفسير الصحابة الكرام.
وجعلت الفصل الرابع لتفسير التابعين، فبينت أنهم أكثر حاجة للتفسير من الصحابة، وأشرت إلى مدارس التفسير في عصرهم، وإلى بدء التدوين، ثم تحدثت عن تفسير مجاهد، وبينت خصائص تفسير التابعين من خلال النظر في تفسيره.
ثم رأيت أن يكون الفصل الخامس وقفه لبيان أحسن طرق التفسير عند الجمهور، وفى هذه الوقفة بيان لقيمة التفسير المأثور عن التابعين، وحديث عن الإسرائيليات، والتفسير بالرأى، وهو ما كان يلزمنا أن نبينه بعد الحديث عن تفسير التابعين، فأغنت الوقفة عن التكرار. ورأيت أن أنسب ما أثبته في هذا الفصل هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أيضاً ما قاله الحافظ ابن كثير، وحاول الالتزام به في تفسيره.
وفى الفصل السادس: تحدثت عن التفسير في القرن الثاني، وبينت منهجه، وتناولت ثلاثة كتب ظهرت في هذا القرن، وهى: تفسير مقاتل بن سليمان، ولم أقف عنده؛ حيث إن مؤلفه مجروح، وتفسير يحيى بن سلام، الذي يعتبر حلقة الاتصال بين القرنين الأول والثالث، ومعانى القرآن للفراء، الذي يعد نموذجاً للتفسير العقلى.
والفصل السابع: جعلته للقرن الثالث، وتفسير الطبري، وقد وقفت طويلاً عند شيخ المفسرين الإمام الطبري، وعند كتابه الذي يعتبر أفضل ما كتب في مجال التفسير.(1/606)
والفصل الثامن أشرت فيه إلى كتب التفسير بعد الطبري. وبينت إمكان الاستغناء عن الوقوف عندها، لا لأنه يطول جداً فقط، ولكن أيضاً لأن التفسير المأثور - بعد الطبري - الذي هو حجة يستمد أساساً من مصدرين رئيسين، هما: كتب الحديث والآثار، وكتاب تفسير الطبري. وكان هذا الفصل ختاماً للقسم الأول في التفسير وأصوله عند أهل السنة.
وانتقلت بعد هذا إلى القسم الثاني الذي جعلته للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية، وتحت هذا القسم سبعة فصول، تسبق بكلمة تمهيدية فيها إشارة إلى أننى بمراجعة التفسير عندهم، أصوله وكتبه، رأيت أن عقيدتهم في الإمامة كان لها أكبر الأثر في وضع الأصول، وفى تناولهم لكتاب الله العزيز، وأن بيان هذا الأثر يكفى في مجال التفسير المقارن؛ فحيث لا يوجد أثر لعقيدتهم في الإمامة يصبح تفسيرهم كتفسير غيرهم، وبقدر وجود هذا الأثر بقدر افتراقهم عمن سواهم.
والفصل الأول جعلت عنوانه: " القرآن الصامت والقرآن الناطق "، حيث جعلوا القرآن الكريم صامتاً لا ينطق! والإمام هو القرآن الناطق، فلا يؤخذ القرآن إلاَّ عن طريقه! والإمام كالنبى في عصمته وعلمه! وأشرت إلى مذهب الإخباريين الذين يقفون عند الأخبار دون إعمال للعقل، والأصوليين منهم الذين خالفوا الإخباريين، وذكرت قول بعضهم بالنسخ بعد عصر النبوة، وأن الحكم يمكن ألاَّ يبين في وقته من باب التقية، أو من باب التدرج في التشريع، فيمكن - بحسب زعمهم - ألاَّ يبين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الأحكام، ويتركها لأئمتهم الاثنى عشر لبيانها في وقتها المناسب!! هكذا زعموا!(1/607)
والفصل الثاني جعلته للظاهر والباطن، فأشرت إلى الخلاف عندهم حول حجية الظواهر، وإلى اللجوء للتأويل تأييداً للعقيدة، وإلى حقيقة الباطن عندهم، وقرب قولهم من الإسماعيلية الباطنية، وبعده عن قول الجمهور، ثم أشرت إلى قولهم بأن ثلث القرآن، أو ربعه، في الأئمة، وثلثه، أو ربعه، في مخالفيهم!
والفصل الثالث أو جزت فيه الحديث عن قول غلاتهم بتحريف القرآن الكريم، فبينت سبب لجوئهم لهذا القول، حيث عز عليهم أن يخلو كتاب الله المجيد من ذكر أئمتهم وعقيدتهم، وتحثدت عن أشهر كتاب عندهم في هذا المجال، وهو " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب "، وذكرت بعض أسماء القائلين بالتحريف، ويدخل فيهم - بكل أسف - أكبر علمائهم الأعلام! كالقمى، صاحب كتاب من أهم كتب التفسير عندهم، يرون صحة كل ما جاء به، وتلميذه الكلينى، صاحب الكافى، كتاب الحديث الأول عندهم كالبخارى عندنا، والعياشى، وغيرهم. وبينت أن من أنفسهم من - الشيعة تصدوا لحركة الغلاة قديماً وحديثاً، غير أن المحدثين منهم وقعوا في تناقض عجيب أشرت إليه.
وبدأت بعد هذا في دراسة كتب التفسير الشيعى، فجعلت الفصل الرابع لكتب القرن الثالث، وهى أقدم كتب وصلت إليها، وتغنى عما سبقها: مثال هذا تفسير أبى الجارود الذي يعدونه تفسير الإمام الباقر - وحاشاه، والذى كان في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني، هذا التفسير لم أعثر عليه، غير أن القمي في القرن الثالث نقله في تفسيره.
وتحدثت في هذا الفصل عن ثلاثة كتب:
الكتاب الأول: تفسير الحسن العسكرى، وهو يمثل الغلو والضلال والخرافات، فهو يكفر الصحابة الكرام، وعلى الأخص أبو بكر وعمر، ويتهمها والصحابة بالنفاق والكذب إلى جانب الكفر، ويذكر أن منكر ولاية على كافر،(1/608)
وأن موسى دعا لهذه الولاية، ويذكر أن علياً له معجزات كثيرة، ويأتى بقصص خرافية لا تصلح إلاَّ للأطفال ليبين ما زعمه من معجزات، ثم يصدر صكوك الغفران لمن آمن بخرافاته وضلاله وسار خلفه في ظلمات هذا الكفر.
ولذلك ذكرت تنزيه الإمام العسكرى - فيما أرى - من أن يكون صاحب هذا الكتاب، وأشرت إلى أن هذا الرأى يراه أيضاً بعض الشيعة، ولكن شيعة الأمس واليوم منهم من يرى صحة نسبة الكتاب للإمام!
ولو صحت النسبة لقلنا بكفره لا بإمامته.
والكتاب الثاني هو تفسير القمي، وقد أطلت الوقوف عند هذا الكتاب، فله ولصاحبه المنزلة العليا عند الشيعة، غلاتهم ومعتدليهم، الإخباريين والأصوليين، في عصرنا وما قبله، وهذا أمر نجد له ما يبرره عند الغلاة الضالين، ولكن لم نجد له تفسيراً عند المعتدلين نسبيا ودعاة التقريب.
فالكتاب محشو بتحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى، تنزيلاً وتأويلاً، والطعن في الصحابة، وجعل الأئمة هم المراد من كلمات الله البينات، وما يتصل بعقيدة الإمامة كالرجعة، ونزول الوحى على الأئمة وعلمهم للغيب.
وفى أسباب النزول يزعم تحالف الصحابة مع إبليس، ويشير إلى البيعة يوم الغدير، ومصير من غصبوا الولاية بزعمه، وأن القائم سيطالب بدم الحسين، ويجعل حادث الإفك اتهاماً لأم المؤمنين لا تبرئة إلهية لها، ونراه يحيل كتاب الله تعالى إلى كتاب في التاريخ للشيعة الاثنى عشرية، فترى أصحاب الجمل والبصرة، وتسمع عن بنى أمية وبنى السباع؛ أي العباس، والاتفاق على قتل علىّ، وكفر أصحاب بيعة الرضوان، وتجد الحديث عن الفرق الأخرى، وعن القائم وجيش السفيانى.
ثم تراه يسلك طرقاً مختلفة للتغرير بضعاف العقول، وإضلال خلق الله من جهلة القوم.(1/609)
وهذا الكتاب الذي جمع كل هذه المصائب والرزايا يعتبر من أهم مصادر التفسير المأثور عند الشيعة الاثنى عشرية، فانظر وتأمل وقارن!!
وهو الذي وقع في أيدى المستشرقين فاتخذوه سلاحاً لضرب الإسلام، والطعن في المعجزة الكبرى، ومع هذا فصاحب التفسير ينتسب للإسلام!!
والكتاب الثالث هو تفسير العياشى، وهذا الكتاب كسابقه منزلة ومنهجاً وأهدافاً، وقد بينت هذا.
وبعد الفصل الرابع جعلت الفصل الخامس لتفسير التبيان للطوسى، وتفاسير الطبرسي.
والطوسى والطبرسى يمثلان جانب الاعتدال النسبى والبعد عن الغلو إلى حد ما بينت أصول التفسير عندهما، والفرق بينهما وبين الجمهور، ومع الاعتدال النسبى، ظهر أثر الإمامة في اللجوء للتأويل استدلالاً للعقيدة، وفى ذكرهما للقراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب، وفى روايتهما لأسباب النزول، وفى جعلهما الأئمة هم المراد من كلمات الله تعالى عند تأويل بعض الآيات، ورأيت أن شيخ الطائفة الطوسى أكثر اعتدالاً وأقل غلواً من الطبرسي.
والفصل السادس جعلته للحديث عن كتب التفسير بعد الطوسى والطبرسى، تحدثت فيه عن عشرة كتب تمثل الاتجاهات المختلفة للتفسير، فبعد الطوسى والطبرسى وجدنا منهم من يسير في طريق الغلو والضلال، ويستمد التفسير من كتب القرن الثالث الثلاثة، وما شابهها ككتاب الكافى للكلينى، ومنهم من سلك طريق الاعتدال النسبى والبعد عن الغلو والتطرف إلى حد ما ومنهم من اقترب من أحد الطريقين مبتعداً عن الآخر.
والكتب العشرة تبين هذه الاتجاهات، وثلاثة منها تبين اتجاه التفسير في العصر الحديث.(1/610)
وختمت هذا القسم بالفصل السابع الذي خصصته لنظرة عامة لباقى كتب التفسير من خلال كتاب " الذريعة إلى تصانيف الشيعة "، وذلك حتى نستكمل ما أردنا بيانه. وجدت في الذريعة عشرات من كتب التفسير الشيعى يدل العنوان نفسه على غلو المؤلف وضلاله، وكتباً أخرى يظهر فيها هذا الأثر عندما يتحدث عنها صاحب كتاب الذريعة. وهذا القدر الهائل من الكتب الضالة يشير إلى ضخامة حركة الغلاة، ومدى تأثيرها في الوسط الشيعى الاثنى عشرى، بل ربما يعطى السمة الغالبة للتفسير الشيعى، وقد أشرت لهذا في ختام الفصل.
بعد هذا كله أعتقد أن الصورة أصبحت واضحة تماماً، ولسنا في حاجة إلى مزيد بيان.
ومما أمرنا بتلاوته:
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (
" 89: الأعراف "(1/611)
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله.
مقدمة
الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذى لا يؤَّدى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذى هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه.
أحمده حمداً كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لاحول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذى لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت وأخرت. استغفار من يقر بعبوديته ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله (1) .
وبعد:
فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الذى يبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث كان الجزء الأول دراسة مقارنة في عقيدة الإمامة والعقائد التابعة، وكان الجزء الثانى في التفسير المقارن وأصوله، وجاء هذا الجزء ليتناول الحديث وعلومه وكتبه، وقسمت هذا الجزء إلى قسمين:
القسم الأول: في الحديث وعلومه عند الجمهور
القسم الثانى: في الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة
والقسم الأول يضم عشرة فصول:
الفصل الأول: وضحت فيه ما جاء في القرآن الكريم بينا لا يحتاج إلى بيان، وما جعل بيانه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان الفصل تحت عنوان " بيان الكتاب والسنة ".
والفصل الثانى عنوانه " السنة وحى "، وقد أثبت هذا.
_________
(1) نقلت ما سبق من مقدمة الإمام الشافعي لكتابه " الرسالة ".(1/616)
والفصل الثالث لبيان " اعتصام السلف بالسنة "، فذكرت من الأخبار الصحيحة ما يبين هذا الاعتصام.
والفصل الرابع عن " تدوين السنة " وبينت فيه أن من السنة المشرفة ما وصلنا مدوناً في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها ما دون في عهد الصحابة رضى الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى أن بدأ التدوين الرسمى بأمر خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ـ– رضى الله تعالى عنه. ثم جاء عصر التدوين في منتصف القرن الثانى الهجرى، ووصلنا من كتب القرن الثانى بعض الكتب، ثم كان القرن الثالث العصر الذهبى لتدوين السنة المطهرة، وكثير مما دون في القرنين الأول والثانى مما لم يصلنا جاءنا عن طريق ما دون في القرن الثالث.
وفى الفصل الخامس تحدثت عن " الجرح والتعديل "، فبينت الأسس العلمية التي قام عليها الجرح والتعديل عند جمهور المسلمين، ونقلت آراء الأئمة الأعلام، وما جاء في أول كتب ألفت في هذا الموضوع، وبينت موقف الجمهور من الفرق المختلفة.
وفى الفصل السادس نقلت " حوار الإمام الشافعى لفرقة ضلت " حيث أنكرت العمل بالسنة المطهرة، والاكتفاء بالقرآن الكريم، وشككت في حجية السنة، وانتهى الحوار بإبطال شبهات هذه الفرقة، وتسليم من حاوره الإمام الشافعى بصحة ما قاله الإمام.
وفى الفصل السابع أشرت إلى ضلال الطاعنين في السنة الذين جاءوا " بعد الإمام الشافعي "، وعلى الأخص في القرنين الثالث والرابع.
ولم أرد استقصاء واستيعاب حركات التشكيك والتضليل في كل العصور، فهذا أمر يطول جداً، ويكفى فيه النماذج، ولذلك جعلت الفصل الثامن لما وجد " في عصر السيوطى "، حيث تحدث الإمام السيوطى عن الطاعنين في عصره من(1/617)
الزنادقة والرافضة، فألف كتابه " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للرد على هؤلاء الضالين المضلين.
ثم جعلت الفصل التاسع تحت عنوان " الطاعنون في العصر الحديث " فبينت أصناف هؤلاء الضالين، ومدى خطر كل طائفة.
وختمت هذا القسم بالفصل العاشر، أشرت فيه إلى راوية الإسلام، وأحفظ من روى الحديث في دهره، وهو " أبو هريرة ". رضى الله تعالى عنه، حيث وجدنا المستشرقين، وتلامذتهم من العلمانيين، وكذلك الزنادقة والرافضة، كل هؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام من أساسه أخذوا يطعنون في هذا الصحابى الجليل الذى حفظ لنا سنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركت الحديث عنه للبحث الملحق بهذا الجزء، وهو بحث: السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم انتقلت إلى القسم الثانى الذى تناول الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة، ويضم ستة فصول
في الفصل الأول تحدثت عن " التدوين عند الشيعة "، فبينت انقسام الشيعة إلى عدة فرق عند موت كل إمام، وكل فرقة كانت تضع من الأحاديث ما تؤيد به عقيدتها، وما كانت أية فرقة تستطيع أن تضع أحاديث في إمام لم يولد بعد، فإنها لا تعلم الغيب مهما زعم الزاعمون من غلاة وزنادقة هذه الفرق. وعند موت الإمام الحسن العسكرى، وهو الحادى عشر، ولم يعرف له ولد، ولم يترك عقبا، وقسمت تركته، انقسم الشيعة عندئذ إلى أكثر من عشر فرق، وكلها وضعت عقيدتها على أساس عدم وجود ولد للحسن العسكرى ما عدا فرقة واحدة مع فرقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث زعمتا أن له عقبا، وقالت الاثنا عشرية مقالتها في الإمام الثانى عشر، وهو ما بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب.(1/618)
انتهيت من هذا الفصل إلى أن جميع الأخبار التي تذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر كلها وضعت واختلقت بعد موت الإمام العسكرى، ووجدت أن الواقع العملى يؤيد ما انتهيت إليه حتى بالنسبة لما يعرف عندهم بالأصول الأربعمائة، وهى تسبق كتبهم الأربعة التي ألفت في القرنين الرابع والخامس.
وانتقلت إلى الفصل الثانى، وعنوانه " الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة "، وأردت من هذا العنوان أن نفرق بين معتدلى الشيعة وغلاة الرافضة.
فمن أوائل الكتب كتاب " علوم الحديث " للحاكم المعروف بتشيعه، وبالنظر في الكتاب وجدنا الحاكم يتفق مع جمهور المسلمين، ومثله من الشيعة النسائى صاحب السنن، وابن عبد البر، وغيرهم.
أما الرافضة، الذين رفضوا الإمام زيد بن على بن الحسين لثنائه على الشيخين أبى بكر وعمر، واعترافه بإمامتهما، هؤلاء الرافضة تأثروا بعقيدتهم الباطلة في الإمامة فربطوا الجرح والتعديل بموقف الرواة من عقيدتهم، ولذلك جرحوا وفسقوا جمهور الصحابة الكرام، بل وصل الأمر إلى تكفير خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق، وتكفير أمة الإسلام التي اعترفت بإمامتهما واقتدت بسنتهما بعد سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكرت من كتب الجرح والتعديل عند هؤلاء الرافضة ما يبين ضلالهم، بل كفرهم وزندقتهم.
والفصل الثالث تناول " مفهوم السنة عندهم "، وهو يختلف عما أجمعت عليه الأمة، حيث إنهم أشركوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره من أئمتهم، وجعلوا أقوالهم وأفعالهم كالمعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أدنى فرق، فهم يرونهم معصومين كالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء أكان من اعتبروه إماماً كبيراً أم صغيراً، أم لا يزال طفلا في الخرق(1/619)
يلهو ويعبث كما يلهو الأطفال ويعبثون، فلهوه وعبثه سنة تشريعية ملزمة لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالقرآن الكريم!! " انظر كيف يفترون على الله الكذب "!!
والفصل الرابع تحدثت فيه عن " مراتب الحديث "، وهى عندهم أربعة: الصحيح والحسن والموثق والضعيف، وكلها مبنية على آرائهم الضالة في الجرح والتعديل.
والفصل الخامس تحدثت فيه عن " التعارض والترجيح "، وهو يوضح أسباب ابتعاد هذه الفرقة الضالة عن الأمة الإسلامية، حيث يرجحون ما خالف الأمة وإن وافق الكتاب والسنة، ويعتبرون الأخذ بما خالف جمهور المسلمين رشداً، بل من علامات الإيمان! وبينت من قبل مفهوم الإيمان والكفر عند هؤلاء الرافضة أتباع عبد الله بن سبأ لعنه الله تعالى، وسيأتى لهذا مزيد بيان في هذا الجزء والجزء الذى يليه.
أما الفصل السادس، وهو الفصل الأخير في هذا القسم فتحدثت فيه عن " الكتب الأربعة "، أى المعتمدة عندهم، وهى: الكافى للكلينى، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسى.
ولما كان الكافى هو الكتاب الأول عندهم أشبه بصحيح البخارى عند المسلمين، وهو يشتمل على الأصول والفروع، ويقع في ثمانية أجزاء، أما الكتب الثلاثة الأخرى فتقتصر على الفروع فقط دون الأصول، فلذلك رأيت أن يكون الحديث أولاً عن الجزء الأول من أصول الكافى، وثانياً عن الجزء الثانى من أصول الكافى، وثالثاً عن روضة الكافى، ثم أخيراً يكون الحديث عن فروع الكافى والكتب الثلاثة الأخرى.
وهذه الكتب الأربعة كتبت بعد عصر الأئمة الاثنى عشر في ظلمات عقيدتهم الباطلة، وقد بينت الدراسة ما في هذه الكتب من باطل وزيغ وضلال وعلى الأخص كتابهم الأول حيث سلك الكلينى منهج شيخه على بن إبراهيم القمى في(1/620)
تحريف القرآن الكريم، وتكفير الصحابة الكرام، وعلىالأخص أبو بكر وعمر خير البشر بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تولاهما ورضى بخلافتهما الراشدة.
والقارئ لهذا القسم يعجب أشد العجب لوجود مثل هذا الزيغ والضلال والزندقة لفرقة تنتمى إلى الإسلام، وتبذل أقصى ما تستطيع لنشر هذا الفساد بين المسلمين.
وبقراءة هذا الجزء بقسميه يبدو واضحاً جلياً بيناً الفرق بين المنهج العلمي للجمهور في الحديث وعلومه ومنهج غلاة الرافضة وزنادقتهم، ويشترك مع الجمهور معتدلو الشيعة من غير الرافضة.
ويبقى بعد هذا أصول الفقه وهو ما نتحدث عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى.
" سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين ".(1/621)
القسم الأول
الحديث وعلومه عند الجمهور(/)
الفصل الأول: بيان الكتاب والسنة
نزل القرآن الكريم مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (1)
والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يقرأ القرآن الكريم على الناس فإنما يقرأ ويبين مراد الله تعالى. وكان منهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم كما قال ابن مسعود " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن ونعمل بهن فتعلمنا العلم والعمل جميعاً "، وكانوا يأخذون عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخفى عليهم من هذا العلم.
وفى العهد المكى الذى نزلت فيه سورة الإسراء نزل قوله تعالى في الآية التاسعة والثمانين من سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
وفى الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل أيضاً نزل قوله عز وجل: {أنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فما البيان الذى جاء به القرآن الكريم؟ وما بيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما العلاقة بين البيانين؟
أولاً: من القرآن ما جاء البيان نصا لا يحتاج إلى بيان آخر: كقوله تبارك وتعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .
_________
(1) الآية: 106.
(2) 196: سورة البقرة.(1/622)
فحرف الواو كما يأتى للجمع قد يأتى للإباحة، فيحتمل أن يكون المتمتع مخيراً بين صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فمنع هذا الاحتمال بمزيد من البيان ... " تلك عشرة كاملة " ومثل هذه الآية الكريمة ما يعرف في أصول الفقه: بالمحكم أو المفسر إذا كان التفسير من القرآن الكريم نفسه وهو كثير، وما كان قطعى الدلالة لا يحتمل التأويل وهو أكثر.
ثانياً: في الآية الكريمة السابقة الذكر ذكر العمرة والحج، ولكن كيف نؤديهما؟ وفى قوله عز وجل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} بيان أن الصلاة مفروضة، وأن الزكاة مفروضة ولكن ما عدد الصلوات المفروضة؟ وكيف تؤدى؟ وما مواقيتها؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بالصلاة، وكذلك ما يتعلق بالزكاة. كل هذا بينه الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله –ـ عز وجل ـ الذكر بإحكام الفرض وترك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ما أنزل. وهذا أمر واضح جلى لا يحتاج إلى وقفة فلا يستطيع أحد أن ينكره.
ومثل هذا بيان ما كان ظنى الدلالة محتملاً للتأويل: كمطلق يقيد وعام يخصص إلى غير ذلك مما هو معلوم مشهور.
ثالثاً: جاءت السنة المطهرة بما ليس فيه نص من كتاب الله تبارك وتعالى، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو عن الله تعالى، فقد بين القرآن الكريم وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فكل من قبل عن الله فرائضه فى كتابه: قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما " (1) .
_________
(1) الرسالة للإمام الشافعى: ص 33.(1/623)
والآيات الكريمة التي تبين وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنها من طاعة الله عز وجل، وتحذر من مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيات كثيرة نكتفى هنا بذكر بعضها.
القرآن الكريم يأمر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحذر من معصيته.
قال الله سبحانه وتعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} " الحشر: 7 "
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ... تَأْوِيلاً} " النساء: 59 "
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} " الأحزاب: 36 "
{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} " النساء: 80 "
{إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} " الفتح: 10 "
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} " النساء: 65 "(1/624)
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ... " النور: 63 "
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ... " النور: 51، 52 "
فهذه الآيات الكريمة فرضت طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مقرونة بطاعة الله عز وجل، ومذكورة وحدها، وحذرت من يعصى أمر رسول الله وحكمت عليه بالضلال المبين وبعدم الإيمان، فطاعة الرسول الكريم طاعة الله تبارك وتعالى. إذن بيان السنة من بيان كتاب الله العزيز.(1/625)
الفصل الثاني: السنة وحي
ولا يكون مثل هذا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا إذا كان معصوماً لا ينطق عن الهوى، وهو ما بينه القرآن الكريم حيث قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3 - 4:النجم) . وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (52 - 53: الشورى) .
وفى آيتين كريمتين إحداهما تخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأخرى تخاطب المؤمنين جاء البيان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب والحكمة، وسيأتى في كلام للإمام الشافعى إثبات أن الحكمة هي السنة، والآيتان هما قوله تعالى:
{وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (113: النساء) ، وقوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} (231: البقرة) . وإذا كان القرآن الكريم وحياً منزلا أمرنا باتباعه والتعبد به وتلاوته فإن السنة المطهرة من الوحى المنزل الذى أمرنا باتباعه دون التعبد والتلاوة.
وروى عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يبين وجوب طاعته ويحذر من معصيته.
فقد روى أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة والحاكم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " وفى رواية لهم أيضاً " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثى فيقول:(1/626)
بينى وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه. وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " (1) .
وفى خطبته الشريفة في حجة الوداع حث على التمسك بالكتاب والسنة حيث قال: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمرا بينا كتاب الله وسنة نبيه (2) .
وروى أبو داود في مراسيله عن حسان بن عطية قال: " كان جبريل رضي الله عنه ينزل على رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن " (3) .
وروى الدارمى عن محمد بن كثير عن الأوزاعى عن حسان قال: " كان جبريل ينزل على النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " (4) .
_________
(1) انظر الروايتين وبيان الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد في الرسالة ص 89: 91.
(2) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن اسحاق التي جمعها ابن هشام 4 / 603 – 604 والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ مرسلا ووصله ابن عبد البر (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) ورواه الحاكم عن ابن عباس وعن أبى هريرة وبين صحة الحديث ووافقه الذهبى (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) .
(3) انظر قواعد التحديث للقاسمى ما روى أن الحديث من الوحى – ص 59 وراجع حكم مراسيل أبى داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه ص 24 – 25، 32.
(4) سنن الدارمى 1 / 117.
وهذه الروية من المراسيل عن حسان أيضاً، وهو ثقة. قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعى: حسان بن عطية عن من قال؟ فقال لى: مثل حسان كنا نقول له: عن من؟ ... (انظر تهذيب التهذيب 2 / 251) .
والحديث ذكره السيوطى في كتابه مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة – ص 31 وقال: أخرجه البيهقى بسنده عن حسان بن عطية وأخرجه الدارمى. *
*وفى الحاشية أضاف المعلق: نعيم بن حماد في زوائده، وابن نصر في السنة، والخطيب في الفقيه والمتفقة، وفى الكفاية، وابن عبد البر في الجامع وغيرهم. ثم قال: وإسناده صحيح.(1/627)
ورواه الخطيب البغدادى في الكفاية (ص12) بسنده عن حسان بن عطية أيضاً.(1/628)
الفصل الثالث: اعتصام السلف بالسنة
كان السلف الصالح متمسكاً بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمسكهم بالقرآن الكريم، فالكل وحى واجب الاتباع.
ففى صحيح البخارى نجد كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومما جاء في هذا الكتاب: " وكانت الأئمة بعد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ويوضح ما سبق ما رواه الإمام الدارمى في باب التورع عن الجواب فيما ليس في كتاب ولا سنة:
من هذه الروايات أن أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.
وموقف الصديق من ميراث الجدة معلوم مشهور حيث توقف " لا أجد لك في كتاب الله شيئاً " إلى أن بلغه حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاها السدس.(1/629)
من روايات سنن الدارمى أيضاً أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى شريح: إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.
ومنها أن ابن عمر لقى جابر بن زيد فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.
ومنها أن عبد الله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضى ولسنا هناك، وأن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله ولم يقض به رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون.
ومما يبين ما جاء في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ما رواه هو ومسلم وأحمد وغيرهم أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: أذكر الله امرأ سمع من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لى –ـ يعنى ضرتين ـ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كدنا أن نقضى في مثل هذا برأينا.
وروى الإمام الشافعى بسنده عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وإلى التي تليها بعشر، وفى الوسطى بعشر، وفى التي تلى الخنصر بتسع، وفى الخنصر بست.
ثم قال الشافعى: لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبى قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس على الخبر.(1/630)
فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم، فيه: أن رسول الله قال: " وفى كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه.
ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله.
وفى الحديث دلالتان:
أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذى يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبرالذى قبلوا.
ودلالة على أنه لو مضى أيضاً عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبر عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله.
ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.
ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفه.
ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله، وتأديتة الواجب عليه، في اتباع أمر رسول الله وعلمه، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله فى اتباع رسول الله.
ثم أيد الإمام الشافعى قوله السابق فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره الضحاك ابن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته، فرجع إليه عمر (1) .
ولمكانة السنة عند الصحابة الكرام وجدنا منهم من يرحل لطلب حديث واحد:
_________
(1) انظر الرسالة ص 422: 426، واقرأ في الحاشية تعليق الشيخ أحمد شاكر وتخريجه للروايات.(1/631)
روى البخارى في الأدب المفرد بسنده عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلى شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعث إليه أن جابرا بالباب. فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقنى. قلت: حديث بلغنى لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت.. إلخ (1) .
وروى الحميدى في مسنده (1 / 189) وبسنده عن عطاء بن أبى رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبق أحد سمعه من رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره وغير عقبة. فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو أمير مصر، فأخبر به، فعجل وخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبق أحد سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرى وغير عقبة، فابعث من يدلنى على منزله. فقال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة به، فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق أحد سمعه غيرى وغيرك في ستر المؤمن.
فقال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ستر مؤمنا في الدنيا على خزيه ستره الله يوم القيامة ".
فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جايزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر.
هذان مثلان فيهما من الدلالة ما يكفى ويغنى، والرحلة في طلب الحديث معلومة مشهورة.
_________
(1) انظر الأدب المفرد 2 / 433، باب المعانقة. ورواه الحاكم في المستدرك ... (4 / 574 – 575) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى على التصحيح.(1/632)
الفصل الرابع: تدوين السنة
من المعلوم أن الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كتابة أحاديثه الشريفة، وأنه كذلك أباح، وأمر بمثل هذه الكتابة، وبالطبع لا يمكن أن يجتمع النهى والإباحة والأمر مع اتحاد الزمان والأحوال. والمتتبع لهذا يجد أن النهى صدر في أول الأمر حتى لا يختلط شىء بكتاب الله تعالى كما يبدو، أو لأية حكمة أخرى.
والصحيح في النهى ينحصر في حديث واحد رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد من صحيحه، تحت باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، ورواه بسنده، عن أبى سعيد الخدرى، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب على - قال همام: أحسبه قال متعمداً: فليتبوأ مقعده من النار ".
وقال الإمام النووى في شرح الحديث الشريف:
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه " قال القاضى: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم: فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم.
ثم أجمع المسلمون على جوازها، وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهى، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لايوثق بحفظه، كحديث " اكتبوا لأبى شاه "، وحديث صحيفة على رضى الله عنه، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذى فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة، ونصب الزكاة الذى بعث به أبو بكر رضى الله عنه أنسا رضى الله عنه حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبو هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث، وقيل: إن حديث النهى منسوخ بهذه الأحاديث، وكان(1/633)
النهى حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة والله أعلم " (1) .
والأحاديث التي أشار إليها الإمام النووى جاءت بعد حديث النهى عن الكتابة، ومن هنا قيل بالنسخ، ولذلك عندما ورد الحديث في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذرى عقب الشيخ الألبانى بقوله: " هذا منسوخ بأحاديث كثيرة فيها الأمر بكتابة الحديث النبوى " (2) . والرامهرمزى الذى ولد في النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، وتوفى سنة 360 هـ، تحدث عن التدوين في كتابه المحدث الفاصل بين الراوى والواعى (ص 363: 402) تحت عنوان " باب الكتاب " وذكر بإسناده ستة أحاديث. أولها عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وأنها لا تحل لأحد كان بعدى، لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفتدى، وإما أن يقتل فقال العباس: إلا الأذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: " إلا الأذخر ". فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبه لى يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتبوا لأبى شاه ". قال المديد: قلت للأوزاعى: ما قوله اكتبوا لأبى شاه؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
_________
(1) راجع بيان عدم صحة باقي الأحاديث التي تنهى عن كتابة العلم في كتاب دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، ص 76، وما بعدها.
(2) انظر 2 / 252 حديث رقم 1861، وتعليق الشيخ الألباني، والحافظ المنذرى ذكره في كتاب العلم لا الزهد، واختلف اسم الباب أيضاً.(1/634)
أما باقى الأحاديث فكلها عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله تعالى عنهما، وهى:
1 ـ قلت: يا رسول الله، أقيد العلم؟ قال: " نعم "، قلت: وما تقييده؟ قال: " الكتاب ".
2 ـ قلت: يا رسول الله، أكتب ما أسمعه منك؟ قال " نعم " قلت: في الغضب والرضا؟ قال: " نعم، فإنى لا أقول إلا حقا "
3 ـ قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: " بلى فاكتبوها ".
4 ـ عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قيدوا العلم بالكتاب ".
5 ـ قلت: يا رسول الله، إنى أسمع منك الشئ أفأكتبه؟ قال: " نعم فاكتبه " قلت: إنك تغضب وترضى؟ قال: " إنى لا أقول في الرضا والغضب إلا حقا" (1) .
والحديث الأول ـ حديث أبى هريرة ـ أخرجه الإمام البخارى في كتاب العلم، باب كتابة العلم، وفيه أخرج ثلاثة أحاديث أخرى، أحدها عن أبى جحفة قال: قلت لعلى: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما فى هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
وأخرج عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه قوله: ما من أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أكثر حديثاً عنه منى، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
والحديث الرابع في الباب جاء عن ابن عباس -رضى الله عنهما - قال: لما اشتد بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه قال: " ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ".
_________
(1) انظر الأحاديث من رقم 315 إلى 319، وتخريجها ص 364: 365.(1/635)
ومن المعلوم المشهور كتابة عبد الله بن عمرو التي أشار إليها أبو هريرة، وصحيفته " الصادقة " التي أخذها من في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى أحاديث عبد الله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تثبت هذه الكتابة، منها قوله: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أريد حفظه، فنهتنى قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " اكتب، فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق " (1)
وفى رواية: " ما خرج منه إلا حق " (2) .
وفى رواية ثالثة: " فإنه لا ينبغى لى أن أقول في ذلك إلا حقاً " (3) .
وفى الأخيرة من الروايات الصحيحة: ".... فإنى لا أقول فيهما إلا حقا " (4)
وعقب الشيخ أحمد شاكر على الحديث الأول ببيان صحته، وذكر ما يتصل بتخريجه، ثم انتقل للحديث عن الكتابة في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ، فاكتفى بإثبات ما قاله ابن القيم في تعليقه على اختصار المنذرى لسنن أبى داود، وهو ما يأتى: -
" قد صح عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهى عن الكتابة والإذن فيها. والإذن متأخر، فيكون ناسخا لحديث النهى، فإن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في غزاة الفتح: اكتبوا لأبى شاه، يعنى خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهى، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته وهى الصحيفة التي
_________
(1) المسند ـ بشرح الشيخ شاكر جـ 10، رواية رقم 6510، وفى الحاشية بيان صحتها.
(2) ، (3) ، (4) حـ 11، وأرقام الروايات هي: 6802، 6930، 7020، وفى الحاشية بين الشيخ شاكر صحة هذه الروايات.
(3)
(4)(1/636)
كان يسميها الصادقة. ولو كان النهى عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله، لأمر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحو ما كتب عنه غير القرآن. فلما لم يمحها وأثبتها دل أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهى عليها، هذا واضح والحمد لله.
وقد صح عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لهم في مرض موته: ائتونى باللوح والدواة والكتف، لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره، وإذنه. وكتب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو بن حزم كتابا عظيما، فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها. وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب، وكتاب أبى بكر الصديق الذى دفعه إلى أنس رضى الله عنه. وقيل لعلى: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشئ؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا ما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقول، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. وإنما نهى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام، لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما علم القرآن وتميز، وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط، أذن في الكتابة.
وقد قال بعضهم: إنما كان النهى عن كتابة مخصوصة، وهى أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، خشية الالتباس. وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقا. وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها. وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها. ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل ا. هـ.
وفى مقدمة ابن الصلاح (ص 87) جاء عنوان: " في كتاب الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده ".
وقال: " اختلف الصدر الأول - رضى الله عنهم - في كتابة الحديث، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم، وأمروا بحفظه، ومنهم من أجاز ذلك. وممن روينا عنه كراهة ذلك: عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى، وأبو سعيد الخدرى في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين ".(1/637)
وذكر حديث أبى سعيد الخدرى، وقال: " وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله: على، وابنه الحسن، وأنس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أجمعين. ومن صحيح حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدال على جواز ذلك حديث أبى شاه ... إلخ ".
ثم قال (ص 88) : " ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة والله أعلم " (1) .
وفى الباعث الحثيث (ص 132) سلك الحافظ ابن كثير منهج ابن الصلاج، وذكر قوله فيما رواه عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم، ثم قال: " وقد حكى إجماع العلماء في الأعصار المتأخرة على تسويغ كتابة الحديث وهذا مستفيض شائع ذائع، من غير نكير ".
وفى التعليق على ما ذكره الحفاظ بين الشيخ أحمد شاكر أن القول الصحيح هو ما ذهب إليه أكثر الصحابة من جواز الكتابة، وذكر حديث أبى سعيد في النهى، ثم قال: إن النهى منسوخ بأحاديث أخرى دلت على الإباحة، وذكر عددا من هذه الأحاديث، وقال:
" وهذه الأحاديث، مع استقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها: كل هذا يدل على أن حديث أبى سعيد منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حيث خيف اشتغالهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير
_________
(1) اختصر الإمام النووى كتاب ابن الصلاح فى كتابه " الإرشاد " ثم اختصره فى " التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير والنذير " وهو الذى شرحه السيوطى فى كتابه " تدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى ". وفى الجزء الثانى من كتاب السيوطى (ص 64) بدأ الحديث عن كتابة الحديث وضبطه، وفى شرحه فصل القول فى اختلاف السلف من الصحابة والتابعين، والجمع بين حديث النهى والأحاديث الأخرى. (انظر كتابه إلى ص 68) .(1/638)
القرآن بالقرآن. وحديث أبى شاه في أواخر حياة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك إخبار أبى هريرة، وهو متأخر الإسلام، أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبى هريرة، ولو كان حديث أبى سعيد في النهى متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز، لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحاً. ثم جاء إجماع الأمة القطعى يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملى، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضى الله عنهم أجمعين ". ا. هـ
مما سبق نرى أن تدوين السنة بدأ في حياة الرسول نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها ما كتب بأمره وبين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن المعلوم أن الاتجاه العام إلى جمع السنة المشرفة وتدوينها في الدولة الإسلامية إنما كان في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنهم، وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين، ووفاته فى رجب سنة إحدى ومائة، وهذا يعنى أن الجمع كان لكل من المكتوب منها والمحفوظ، مع مراعاة الإسناد الذى شرفت به وانفردت خير أمة أخرجت للناس. فالجمع إذن لم يكن للمحفوظ وحده، كما لم يكن لهذا المحفوظ قيمة علمية بغير الإسناد المتصل المرفوع إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الجزائرى في توجيه النظر إلى أصول الأثر (ص 7: 8) .
قال البخارى في صحيحه فى كتاب العلم: " وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم، وذهاب العلماء "، وابو بكر هذا كان نائب عمر بن عبد العزيز في الإمرة والقضاء على المدينة. روى عن السائب بن يزيد، وعباد بن تميم، وعمرو بن سليم الزرقى. وروى عن خالته عمرة، وعن خالدة ابنة أنس، ولها صحبة. قال مالك: لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبى بكر ابن حزم.. وكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة(1/639)
والقاسم فكتبه له. وأخذ عنه معمر، والأوزاعى، والليث، ومالك وابن أبى ذئب، وابن إسحق، وغيرهم. وكانت وفاته فيما قاله الواقدى وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومائة، وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنى، أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام. أخذ عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، ومحمود بن الربيع، وسعيد بن المسيب، وأبى أمامة ابن سهل، وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين، وأخذ عنه معمر، والأوزاعى، والليث، ومالك، وابن أبى ذئب وغيرهم. ولد سنة خمسين وتوفى سنة أربع وعشرين ومائة. قال عبد الرزاق: سمعت معمرا يقول: كنا نرى أناقد أكثرنا عن الزهرى حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهرى، ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقة الزهرى. ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا: كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشر العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
وأول من جمع ذلك ابن جريج بمكة، وابن إسحق أو مالك بالمدينة: والربيع ابن صبيح أو سعيد بن أبى عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثورى بالكوفة والأوزاعى بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالرى، وابن المبارك بخراسان. وكان هؤلاء في عصر واحد، ولا يدرى أيهم سبق. قال الحافظ ابن حجر: " إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبى، فإنه روى عنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، وساق فيه أحاديث".
وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسى الكوفى مسندا، وصنف مسدد البصرى مسندا، وصنف أسد بن موسى(1/640)
مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعى مسندا، ثم اقتفى الحفاظ آثارهم: فصنف الإمام أحمد مسندا، وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبى شيبة، وغيرهم. ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخارى وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة، فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال، فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته. وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه. فإن لم يتيسر له ذلك بقى ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر الإمام البخارى في ذلك الإمام مسلم ابن الحجاج. وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه، فألف كتابه المشهور، ولقب هذان الكتابان بالصحيحين، فمعظم انتفاع الناس بهما، ورجعوا عند الاضطراب إليهما، وألفت بعدهما كتب لا تحصى، فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها.
هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شىء غير الكتاب العزيز، وليس الأمر كذلك، فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض، وذكر البخارى في صحيحه أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث ... إلخ. ا. هـ
والتوهم الذى أشار إليه صاحب توجيه النظر أنه ليس له أساس علمى، وكان المنهج العلمي والواقع العملى يستلزمان إزالة هذا التوهم، فلم يقف الأمر عند ثبوت الكتابة عن طريق الأخبار الصحيحة، بل وصل إلينا بعض ما كتب، وطبع وانتشر: مثال هذا صحيفة همام بن منبه التي كتبها سماعا من راوية الإسلام الأول أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، نقلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد نشرها المجمع العلمي العربى بدمشق، وطبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله،(1/641)
وأخرجها من قبل الإمام أحمد في مسنده (حـ 2 ص 312: 318) ، وعندما قام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.. بتحقيق وشرح المسند طبع خمسة عشر جزءا، وتوفى قبل طبع الجزء السادس عشر، وهو الذى يبدأ بصحيفة همام.
وفى المسند أيضاً أحاديث كثيرة من صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، كما طبع تفسير مجاهد بن جبر، تلميذ ابن عباس رضى الله عنهم، وصلة التفسير بالسنة واضحة معلومة.
بل إن كتب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلنا كثيرمن نصوصها، وعثر على بعض النسخ الأصلية التي كتبت في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ففى كتاب الأموال لأبى عبيد - على سبيل المثال - يوجد " باب كتب العهود التي كتبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لأهل الصلح " (ص 244) ، ويروى أبو عبيد بإسناده تحت هذا الباب نصوص سبعة كتب، وفى كتاب الأموال لابن زنجوية يوجد " كتاب العهود التي كتبها رسول الله ... صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لأهل الصلح " (2 / 449) ، وهو قريب مما ذكره أبو عبيد.
وجمع الدكتور محمد حميد الله ما استطاع من كتب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأثبت نصوصها، وبين مصادرها، وذكر ما يوجد من أصولها وعرض صوراً لكتبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كل من: النجاشى، وهرقل، والمقوقس، وكسرى، وغيرهم (1) .
بعد هذا كله كيف يبقى أى توهم، أو أدنى شك في ثبوت الكتابة في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام من بعده؟!
_________
(1) انظر كتابه " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة " وانظر صور كتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. في الطبعة الخامسة ص 102، 108، 123، 137، 141، 147، 162، 225.
وانظر كذلك: ما جمعه من كتب في عهد الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم.(1/642)
كان الواجب إذن أن يزال هذا التوهم، ولا يبقى أى شك أو لبس، ولكن العجيب الغريب أن الأمر زاد واستشرى، طعنا في السنة المشرفة، وتشكيكا في صحتها، والذين تولوا كبره المستشرقون وتلامذتهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله، والجهلة بمكانة السنة المطهرة وحجيتها وعلومها. وقد صنفت كتب عديدة في الرد على هؤلاء الطاعنين. وحتى لا يطول بنا الحديث عن التدوين أكتفى بالإشارة إلى كتاب واحد وبعض ما جاء فيه، وذلك هو " دراسات في الحديث النبوى وتاريخ تدوينه " للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، جعل المؤلف الباب الثالث حول كتابة الأحاديث النبوية (ص 71: 83) ، وانتهى منه إلى نتيجة وهى أن المسلمين كانت قد أصبحت لديهم إمكانيات واسعة تمكنهم من كتابة الأحاديث النبوية، ولم يكن ثمة عائق خارجى يقف في وجه تقييد العلم.
وجعل عنوان الباب الرابع " تقييد الحديث من عصر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منتصف القرن الثانى الهجرى على وجه التقريب "، وهذا الباب يقع في مائتين واثنتين وأربعين صفحة (84: 325) ، وقسمه إلى أربعة فصول:
الفصل الأول لكتابة الصحابة والكتابة عنهم:
ذكر فيه اثنين وخمسين من الصحابة الذين كتبوا أو كتب عنهم الأحاديث النبوية، ورد على الشبه التي تشكك فيما انتهى إليه، وعلى سبيل المثال ذكر أسماء عشرة كتاب كتبوا عن أبى هريرة، ومنهم همام بن منبه صاحب الصحيفة التي وصلتنا كاملة، وأشرت إليها من قبل، وأربعة عشر كتبوا عن جابر بن عبد الله، وهو نفسه من المؤلفين الأوائل، وتسعة كتبوا عن ابن عباس، أما هو فكانت كتبه حمل بعير، وهكذا.
والفصل الثانى عنوانه: " تابعيو القرن الأول وكتاباتهم والكتابة عنهم "، وأثبت من هؤلاء ثلاثة وخمسين.
والفصل الثالث جعله المؤلف لكتابة صغار التابعين والكتابة عنهم، وذكر من هؤلاء التابعين تسعة وتسعين.(1/643)
أما الفصل الأخير من هذا الباب فكان لكتابة بعض صغار التابعين وأتباع التابعين والكتابة عنهم، وبلغ عدد من ذكرهم هنا اثنين وخمسين ومائتين.
وبهذا يتضح بدء الكتابة في عصر النبوة، واتصالها واتساعها دون توقف حتى ما جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى.
وقبل هذا الباب قال المؤلف (ص 76) : " في ضوء دراستنا هذه نستطيع أن نقول أن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم فقد نقل عنه عكس ذلك أيضاً، ما عدا شخصاً أو شخصين، وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم، كما يتضح ذلك بمراجعة الباب الرابع من هذا الكتاب "
وممن نقل عنهم كراهية كتابة العلم، وتحدث المؤلف عنهم في هذا الباب، ليثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم:
1 ـ أبو سعيد الخدرى (1) .
2 ـ أبو موسى الأشعرى (2) .
3 ـ زيد بن ثابت (3) .
4 ـ عبد الله بن مسعود (4) .
5 ـ عمر بن الخطاب: وقد أفاض في الحديث عنه، وذكر سبع قضايا نقلت عن عمر وأسىء فهمهما، واستدل بها على عدم أخذه بالسنة النبوية، ورد المؤلف على هذا كله، وذكر من الأدلة ما هو كاف شاف، ثم تحدث عن جهود عمر لنشر السنة، وعن كتابته للسنة (5) .
_________
(1) انظر ص 95 رقم 6.
(2) انظر ص 96 رقم 8.
(3) انظر ص 108 رقم 22.
(4) انظر ص 125 رقم 39.
(5) راجع ما كتبه بالتفصل ص 131: 139.(1/644)
الفصل الخامس: الجرح والتعديل
تكفلت كتب علوم الحديث ببيان ما يتصل بالجرح والتعديل، ولعل أول كتاب ألف في علوم الحديث هو المحدث الفاصل بين الراوى والواعى للرامهرمزى، المتوفى سنة 360 هـ. ولكن قبل هذا بكثير كان لبعض الأئمة الأعلام ما يتصل بالجرح والتعديل من أحكام عامة، وبيان لمن تقبل روايتهم ومن ترد وذكر لأسماء كثير من هؤلاء الرواة. وتوسع بعضهم في ذكر هذه الأسماء فيما يعرف بكتب الرجال، ومن أقدمها وأنفعها ما كتبه الإمام البخارى في تاريخه الكبير، وفى الضعفاء، وكان أثره واضحاً، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ.
وكتب علوم الحديث حفظت لنا آراء الأئمة من الجرح والتعديل، ولكن قبل أن ننظر في هذه الكتب أريد أن أثبت هنا بعض ما جاء في غيرها سابقا لها، وأكتفى ببعض ما كتبه ثلاثة من الأئمة:
أولهم الإمام الشافعى، صاحب كتاب الرسالة، الذى يعد أول ما صنف في أصول الفقه، وفى هذا الكتاب، تحدث الإمام عن خبر الواحد فقال:
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه. إذ شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا: يحدث عن من لقى ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبى ما يحدث الثقات خلافه عن(1/645)
النبي. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهى بالحديث موصولا إلى النبى أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت. (ص 370: 372) .
ثم قال بعد هذا: ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته. وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق، فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق. فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حنى يقول فيه " حدثنى " أو " سمعت " (ص 379: 380) .
وقال أيضاً: ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته.
وأهل الحديث متباينون:
فمنهم المعروف بعلم الحديث، بطلبه وسماعه من الأب والعم وذوى الرحم والصديق، وطول مجالسة أهل التنازع فيه. ومن كان هكذا كان مقدما في الحفظ، إن خالفه من يقصر عنه، كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه.
ويعتبر أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ، وعلى خلاف حفظه بخلاف حفظ أهل الحفظ له.
وإذا اختلفت الرواية استدللنا عن المحفوظ منها والغلط بهذا، ووجوه سواه، تدل على الصدق والحفظ والغلط. (الرسالة: ص 382: 383) .
ونأتى بعد الإمام الشافعى إلى الإمام مسلم، حيث تحدث في مقدمة صحيحه عن حال بعض الرواة وبين طبقاتهم. وبعد أن بين من تقبل أحاديثهم قال (ص 45) : " فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم ". وسمى بعضهم وقال: " وأشباههم(1/646)
ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، أمسكنا أيضا عن حديثهم.
وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها. فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا نستعمله " (ص: 46) .
ويأتى بعد هذا باب النهى عن الرواية عن الضعفاء، والاحتياط في تحملها، ثم باب بيان أن الإسناد من الدين، وبين فيه وجوب عدم الأخذ إلا عن الثقة الثبت، ونبه إلى أمر هام حيث روى عن أبى الزناد قوله: " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله " (1) .
وعن يحيى بن سعيد القطان قال: " لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث "، وفسر الإمام مسلم هذا بقوله: يجرى الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب.
وقال النووى في شرحه: معناه ما قاله مسلم أنه يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك، لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب. وقد قدمنا أن مذهب أهل الحق أن الكذب هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو: عمدا كان أو سهوا أو غلطا (2) .
وفى الكشف عن معايب رواة الحديث أورد مسلم بعض الأخبار التي تذكر أسماء بعض الكذابين والوضاعين، ومن هؤلاء جابر بن يزيد الجعفى، وروى عن غير واحد أن جابرا كان يؤمن بالرجعة، وفسرها النووى بقوله: معنى
_________
(1) صحيح مسلم 1 / 72. وقال النووى: أبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان، وكان الثورى يسميه: أمير المؤمنين في الحديث.
(2) انظر ص 79.(1/647)
إيمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ في السحاب، فلا نخرج - يعنى مع من يخرج من ولده حتى ينادى من السماء: أن اخرجوا معه، وهذا نوع من أباطيلهم، وعظيم من جهالاتهم اللائقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية (ص: 85) .
ومما رواه مسلم أيضاً أن جابرا قال: إن عندى لخمسين ألف حديث، ما حدثت منها بشئ. ثم حدث يوما بحديث فقال: هذا من الخمسين ألفا، وفى خبر زاد أنها عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى خبر أيضاً قال جابر: عندى سبعون ألف حديث عن أبى جعفر عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها.
وروى عن الإمام سفيان بن عيينه أنه قال: سمعت رجلا سأل جابرا عن قوله - عز وجل:
{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (1) ، فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب. فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: لإن الرافضة تقول أن عليا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادى مناد من السماء، يريد عليا أنه ينادى: اخرجوا مع فلان. يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى عن سفيان أيضاً قال: سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث، ما أستحل أن أذكر منها شيئا وأن لى كذا وكذا (2) .
_________
(1) سورة يوسف: الآية 80.
(2) انظر الأخبار المتصلة بجابر في صحيح مسلم 1 / 85 - 87. ووفاته كانت سنة 128 هجرية في عصر الإمام الصادق، والأخبار التي وضعها افتراء على الأئمة لا تذكر أسماء من يأتى بعده، ولذلك ذكر عليا في السحاب، ولم يذكر اسم من يخرج من ولده، أما الذين وضعوا الروايات بعد إمامهم الثانى عشر في النصف الثانى من القرن الثالث وما بعدها فإنهم ذكروا* *خروجه. وللرجعة معنى آخر أيضاً عند الشيعة كما سبق بيانه في الفصل الخامس من الجزء الأول.(1/648)
ثم ذكر الإمام مسلم عدداً غير قليل ممن لا تقبل روايتهم (1)
، ثم قال: " وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمى رواة الحديث، وأخبارهم عن معايبهم، كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا غاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن
_________
(1) ذكرت ما يتصل بجابر لنقارن بين ما قاله الأئمة الأعلام من طعن فيه وبيان لأكاذيبه، وبين ما يقوله الشيعة الاثنا عشرية:
فهم يعتبرونه من اصحاب الأصول الأربعمائة التي نتحدث عنها في القسم الثانى، وجاء في ترجمته عندهم ما يأتى:
وثقه بن الغضايرى وغيره، وروى الكشى وغيره أحاديث كثيرة تدل على مدحه وتوثيقه وروى فيه ذم يأتى ما يصلح جوابا عنه في زرارة، وضعفه بعض علمائنا، والأرجح توثيقه. وقال الشيخ: له أصل، وروى أنه روى سبعين ألف حديث عن الباقر، وروى مائة وأربعين ألف حديث، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر، فيكون عظيم المنزلة عندهم لقولهم: اعرفوا منازل الرجال منا على قدر رواياتهم عنا (وسائل الشيعة: 20 / 151) .
وترجمة زرارة بن أعين التي أشار إليها صاحب الوسائل هنا جاء فيها ما يأتى: ... وروى أحاديث في ذمه ينبغى حملها على التقية، بل يتعين، وكذا ما ورد في حق أمثاله من أجلاء الإمامية بعد تحقق المدح من الأئمة (وسائل الشيعة ك 20 / 196) . وجاء في حاشية الوسائل (19 / 338) . جابر بن يزيد الجعفى من أصحاب الإمامين الباقر والصادق، تابعى روى عنهما، مات أيام الصادق سنة 128 هجرية، له كتب وأصل، وروى أن الصادق ترحم عليه، وقال: إنه كان يصدق علينا، وكان باب الإمام الباقر، وفيه أحاديث كثيرة رواها الكشى وغيره تدل على مدحه وعظيم شأنه.(1/649)
معايب رواة الحديث وناقلى الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتى بتحليل أو تحريم ... إلخ. (1)
وللإمام مسلم في بيان علل الحديث كتاب التمييز:
بين فيه الدواعى إلى الجرح والتعديل، ثم أورد باب ما جاء في الترقى في حمل الحديث وأدائه والتحفظ من الزيادة فيه والنقصان (ص 127) . وبعد هذا أخذ يبين علل بعض الأخبار والروايات كالخطأ أو الوهم في الإسناد أو المتن، أو فيهما معا، وأشار إلى شىء من التصحيف، وما يدفعه الأخبار الصحاح، ثم قال بعد هذا كله (ص 171) :
" واعلم رحمك الله، أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذى يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقال الأخبار وحمال الآثار.
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح. وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكى ننبه من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا من أسقطوا منهم. والكلام في تفسير ذلك يكثر، وقد شرحناه في مواضع غير هذا، وبالله التوفيق، في كل ما نؤم ونقصد ".
وبعد الإمامين الشافعى ومسلم نأتى إلى الثالث وهو ابن أبى حاتم في كتابه الجرح والتعديل الذى أشرت إليه من قبل، حيث جعل لكتابه مقدمة بدأها ببيان
_________
(1) انظر مقدمة صحيح مسلم ص 105.(1/650)
مرتبة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بمعرفة السنة وأئمتها، ثم تحدث عن التمييز بين الرواة وبيان طبقاتهم، فقال (ص 5: 7)
التمييز بين الرواة: قال أبو محمد: فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شئ من معانى كتاب الله ولا من سنن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من جهة النقل والرواية، وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
ولما كان الدين هو الذى جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنقل الرواة حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات.
وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذى رووه، ويعتمد عليه، ويحكم به، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبأ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذب فكذب، وإن وهم فوهم، وإن غلط فغلط، وهؤلاء هم أهل الجرح فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يعبأ به ولا يعمل عليه، ويكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار، ومن حديث بعضهم الآداب الجميلة والمواعظ الحسنة والرقائق والترغيب والترهيب هذا أو نحوه.(1/651)
طبقات الرواة: ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقيب والبحث عن الرجال والمعرفة بهم - وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح.
ويعرف من كان منهم عدلا في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه - فهؤلاء هم أهل العدالة. ومنهم الصدوق فى روايته الورع فى دينه الثبت الذى يهم أحياناً وقد قبله الجهابذة النقاد ـ فهذا يحتج بحديثه أيضاً.
ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط – فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.
ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ـ ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته ويسقط ولا يشتغل به.
وبعد هذا تحدث ابن أبى حاتم عن الصحابة الكرام فقال (ص 7: 8)
الصحابة: فأما أصحاب رسول الله فهم الذين شهدوا الوحى والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل. وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة، فحفظوا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده - بمعاينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة فقال عز ذكره في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء(1/652)
عَلَى النَّاسِ} ففسر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله عز ذكره قوله " وسطا " قال: عدلا. فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة.
وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجرى على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية (1) .
ووجدنا النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: نضر الله امرأ سمع مقالتى فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. وقال: بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عنى ولا حرج.
ثم تفرقت الصحابة رضى الله عنهم في النواحى والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازى والإمارة والقضاء والأحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذى هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكموا بحكم الله عز وجل، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظائرها من المسائل، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله عز وجل رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين.
وبعد الصحابة قال عن التابعين (ص 8: 9) .
التابعون: فخلف بعدهم التابعون الذين اختارهم الله عز وجل لإقامة دينه وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآثاره،
_________
(1) التلاوة {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} النساء: 115.(1/653)
فحفظوا عن صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار وسائر ما وصفنا الصحابة به رضى الله عنهم، فأتقنوه وعلموه وفقهوا فيه فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله عز وجل ونهيه بحيث وضعهم الله عز وجل، ونصبهم له إذ يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} " الآية "
حدثنا عبد الرحمن محمد بن يحيى، أنا العباس بن الوليد الترسى، نايزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} التابعين.
فصاروا برضوان الله عز وجل لهم وجميل ما أثنى عليهم بالمنزلة التي نزههم الله بها عن أن يلحقهم مغمز، أو تدركهم وصمة، لتيقظهم وتحرزهم وتثبتهم، ولأنهم البررة الأتقياء الذين ندبهم الله عز وجل لإثبات دينه وإقامة سنته وسبله، فلم يكن لاشتغالنا بالتمييز بينهم معنى، إذ كنا لا نجد منهم إلا إماما مبرزا مقدما في الفضل والعلم ووعى السنن وإثباتها ولزوم الطريقة واحتبائها، رحمة الله ومغفرته عليهم أجمعين - إلا ما كان ممن ألحق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس يلحقهم، ولا هو في مثل حالهم: لا في فقه ولا علم ولا حفظ ولا إتقان، ولا ثبت ممن ذكرنا حالهم وأوصافهم ومعانيهم في مواضع من كتابنا هذا، فاكتفينا بها وبشرحها في الأبواب مستغنية عن إعادة ذكرها مجملة أو مفسرة في هذا المكان.
وفى ص 9، 10 جاء الحديث عن أتباع التابعين ومراتبهم:
أتباع التابعين: ثم خلفهم تابعو التابعين وهم خلف الأخيار وأعلام الأمصار في دين الله عز وجل، ونقل سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحفظه وإتقانه، والعلماء بالحلال والحرام، والفقهاء في أحكام الله عز وجل وفروضه وأمره ونهيه، فكانوا على مراتب أربع.(1/654)
مراتب الرواة: فمنهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث - فهذا الذى لا يختلف فيه ويعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال.
ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه المتقن فيه، فذلك العدل الذى يحتج بحديثه، ويوثق في نفسه.
ومنهم الصدوق الورع الثبت الذى يهم أحيانا وقد قبله الجهابذة النقاد - فهذا يحتج بحديثه.
ومنهم الصدوق الورع المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو - فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.
وخامس قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولى المعرفة منهم الكذب -– فهذا يترك حديثه ويطرح روايته. انتهى المنقول من كلام ابن أبى حاتم.
وننتقل بعد هذا إلى كتب علوم الحديث:
وأولها المحدث الفاصل للرامهرمزى المتوفى سنة 360هـ. ومما جاء في موضوعنا ما أثبته تحت عنوان: " القول فيمن يستحق الأخذ عنه " بدأه بما يبين رأى الإمام مالك حيث قال:
القول فيمن يستحق الأخذ عنه:
حدثنا عبد الله بن الصقر السكرى، ثنا إبراهيم بن المنذر الجزامى، ثنا ... معن - وقال مرة محمد بن صدقة الفدكى أحدهما أو كلاهما - قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على(1/655)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث. قال الحزامىّ: فذكرت ذلك لمطرف بن عبد الله فقال: ما أدرى ما تقول، غير أنى أشهد لسمعت مالكا يقول: أدركت ببلدنا هذا - يعنى المدينة - مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، فما كتبت عن أحد منهم حديثا قط. قلت: لم يا عبد الله؟
قال: لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يحدثون. قال: وقال مالك: كنا نزدحم على باب ابن شهاب (ص 403: 404) .
وانتقل المؤلف بعد هذا إلى الإمام الشافعى، حيث نقل عنه ما ذكرته من قبل، ثم قال:
قال الشافعى: وكان ابن سيرين والنخعى وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن من عرف.
قال الشافعى: وما لقيت أحدا من أهل العلم يخالف هذا المذهب (ص 405) .
وجاء بعد هذا بآراء آخرين غير مالك والشافعى.
وبعد الرامهرمزى يأتى كتاب علوم الحديث للحاكم المعروف بتشيعه، ولكنه لم يكن رافضيا، ولذلك أترك النقل منه هنا وأبقيه عند الحديث عن الجرح والتعديل عند الشيعة الاثنى عشرية ليتضح الفرق بين الشيعة والرافضة.
ومن الكتب المتقدمة فى علوم الحديث الكفاية في علم الرواية، لأبى بكر أحمد بن على بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادى، والمتوفى سنة 463 هـ.
وتحدث عن الرواية عن أهل الأهواء والبدع فقال (ص 125) :
والذى يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم(1/656)
الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع وكان عكرمة إباضياً، وابن أبى نجيح وكان معتزليا، وعبد الوارث بن سعيد وشبل بن عياد، وسيف بن سليمان، وهشام الدستوائى، وسعيد بن أبى عروبة وسلام بن مسكين، وكانوا قدرية وعلقمة بن مرثد، وعمرو بن مرة، ومسعر بن كدام، وكانوا مرجئة، وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد، وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديما وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب.
باب ذكر بعض المنقول
عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع قد اسلفنا الحكاية عن أبى عبد الله الشافعى في جواز قبول شهادة أهل الأهواء غير صنف من الرافضة خاصة، ويحكى نحو ذلك عن أبى حنيفة إمام أصحاب الرأى وأبى يوسف القاضى.
وبعد هذا ذكر عدة روايات منها:
بسنده عن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعى يقول: لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة (ص: 126) .
وعن أبى يوسف قال: أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون أن الله لا يعلم الشئ حتى يكون.
وعن ابن المبارك قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرنى أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أتى السلطان طائعا، أما إنى لا أقول إنهم يكذبونهم أو(1/657)
يأمرونهم بما لا ينبغى ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم. فهذان لا ينبغى أن يكونا من أئمة المسلمين (ص: 126) .
وعن عبد الرحمن بن مهدى قال: من رأى رأيا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيا ودعا إليه فقد استحق الترك (ص: 127) .
وقيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله سمعت من أبى قطن القدرى؟
قال: لم أره داعية، ولو كان داعية لم اسمع منه.
قلت ـ أى الخطيب البغدادى: إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة خوفا أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها كما حكينا في الباب الذى قبل هذا عن الخارجى التائب قوله: كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا (ص: 128) .
وعن أبى داود قال: ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج (ص: 130) .(1/658)
الفصل السادس: حوار الإمام الشافعي لفرقة ضلت
إذا كان السلف الصالح متمسكاً بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمسكهم بكتاب الله العزيز، فإن فرقة شذت في عصر الإمام الشافعى فردت سنة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأت أنها لا تقوم على الكتاب الذى أنزله الله تبياناً لكل شئ. وأشار الإمام الشافعى إلى هذه الفرقة، وذكر حواره مع واحد منها في كتاب جماع العلم في الجزء السابع من كتابة الأم.
وقد بدأ الإمام كتاب جماع العلم بقوله:
لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتسليم لحكمه، بأن الله عز وجل لم يجعل لمن بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن سواهما تبع لهما، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحد، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى.
ثم قال رحمه الله وجزاه خيراً:
باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها
قال الشافعى رحمه الله تعالى:
قال لى قائل يُنسب إلى العلم بمذهب أصحابه ... ..
وذكر الشافعى قوله بأن القرآن نزل تبياناً لكل شىء، بلسان عربى مبين، وأن الأحاديث تعتمد على من يجوز عليهم الكذب، والخطأ، والنسيان، والغلط.
فبين الإمام أن السنة وحى، لا يمكن الاستغناء عنها؛ فلا يستقيم أمر الدين بغيرها، ولا نعرف أحكام العبادات والمعاملات وغيرها إلا بها. وأنه يحتاط فى قبولها أكثر مما يحتاط فى قبول الأقوال التى تستباح بها الدماء والأموال(1/659)
والأعراض. واستمر الإمام فى حواره الممتع المقنع حتى اهتدى ذاك الضال. وهذا الحوار نقلته تاماً فى بحث " السنة بيان الله على لسان رسوله " وهو ملحق بهذا الجزء، ولذلك أكتفى به، وأحيل عليه.(1/660)
الفصل السابع: بعد الإمام الشافعى
هذا هو حوار الإمام الشافعى الذى هدى من حاوره بعد ضلال، ولكن هداية هذا الرجل لا تعنى عدم ضلال الطائفة. ويأتى القرن الثالث، الذى توفى الإمام الشافعى في العام الرابع من بدايته، ليكون العصر الذهبى لجمع السنة وتنقيتها وتدوينها، حيث دون مسند الإمام أحمد، والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، وغيرها من الكتب الآخرى: كسنن سعيد بن منصور، والدارمى، ومسانيد إسحاق بن راهويه، وبقى بن مخلد، والبزار، وأبى يعلى.
غير أن ذاك القرن ضم أيضاً من حاول هدم السنة المطهرة.
ننظر مثلا إلى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ. فنراه جعل كتابه في الرد على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأى. ولا يكتفى ابن قتيبة بالرد على الشبه، وبيان سوء فهم من أثاروا تلك الشبه، وإنما يتحدث عن الأشخاص أنفسهم الذين أثاروها حتى يعرف القارئ سبب عدائهم لأهل الحديث.
فيذكر منهم النظام ويقول: وجدنا النظام شاطرا من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات ... إلخ
وذكر أن النظام خرج على إجماع الأمة، وطعن في أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وأبى هريرة، ثم عقب ابن قتيبة بعد هذا بقوله: هذا هو قوله- أى ... النظام - في جلة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضى عنهم، كأنه لم يسمع بقول الله(1/661)
عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة، ولم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة، ولم يسمع بقوله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [ (1) .
وبعد حديثه عن النظام، ورده عليه يقول: ثم نصير إلى قول أبى هذيل العلاف فنجده كذابا أفاكا ... إلخ وهكذا استمر ابن قتيبة في كتابه.
وكان أسوأ وأشد خطرا من هؤلاء الذين تحدث عنهم الرافضة الذين اتخذوا لأنفسهم سنة خاصة تختلف عن مفهوم السنة عند الأمة، فأشركوا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العصمة ووجوب الاتباع أشخاصاً اعتبروهم أئمة طائفتهم، ووضعوا الأخبار في ظلمات هذا المفهوم، وفى ظلماته أيضاً كتبوا في الجرح والتعديل.
شهد القرن الثالث ثلاثة من كتب التفسيرهي تفاسير العسكرى والقمى والعياشى التي تحدثنا عنها من قبل في الجزء الثانى، وبالرجوع إليها وجدنا أنها تطعن في خير الناس: صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضى الله عنهم ورضوا عنه، وتذكر أن القرآن الكريم حرف نصا ومعنى، وجاء الطعن والقول بالتحريف في روايات مفتريات اعتبروها صحيحة بمقياسهم.
وألف كتاب رابع وهو الكافى للكلينى تلميذ القمى، واعتبر هذا الكتاب الكتاب الأول في الحديث عندهم، وعندما قرأته وجدت صاحبه قد ضل ضلالاً بعيداً، ووضع من المفتريات ما لايستطيع أن يتصوره أى مسلم، وسيأتى الحديث عنه بالتفصيل.
وعندما رجعت لكتب الجرح والتعديل عندهم وجدت آثار هذه الظلمات: فصاحب الكتاب الرابع ثقة الإسلام! وشيخه ليس ثقة فحسب، بل كل من وثقهم
_________
(1) راجع حديثه عن النظام، ومناقشته له في ص 17: 42.(1/662)
وروى عنهم فهم ثقات، ولا يعتبر الحديث صحيحا إلا إذا كان الرواة كلهم جميعا من طائفتهم، والجرح عندهم سيئ للغاية، وسيتضح هذا جليا في الفصول التالية.
*****(1/663)
الفصل الثامن: في عصر السيوطي
وفى هذه العجالة التي لاتهدف إلى الحصر والاستقصاء، ننتقل من القرن الثالث إلى القرن التاسع، فنرى الإمام السيوطى يؤلف كتابا تحت عنوان " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة "، وبين سبب تأليف كتابه فقال: اعلموا - يرحمكم الله - أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الأراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً - بحمد الله تعالى - منذ أزمان، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية - زادها الله علواً وشرفاً - لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث " وما جاءكم عنى من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلا فردوه " (1)
_________
(1) ذكر الإمام الشافعى في رسالته، تحت باب العلل في الأحاديث، قول قائل: أفتجد: حجة على من روى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله "؟
وأجاب: " فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر، فيقال لنا: قد ثبتم حديث من روى هذا فى شئ " (الرسالة: 224 ـ 225) .
وقال السخاوى في تخريج الحديث: قال الدار قطنى: إن أشعث تفرد به. انتهى.
وهو شديد الضعف، والحديث منكر جداً، استنكره العقيلى وقال: إنه ليس له إسناد يصح. (المقاصد الحسنة 1 / 36) .
وذكر العجلونى قول السخاوى، وقال: قال الصغائى: هو موضوع (انظر كشف الخفاء 1 / 86) .
وقال ابن حزم في رواية لحديث عرض السنة على القرآن: رواه الحسين بن عبد الله، وهو ساقط متهم بالزندقة (الأحكام: المجلد الأول ص 250) . وفى رواية أخرى رواها أشعث قال: أشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه (252) وتتبع الروايات المختلفة للحديث، = = وبين سبب رفضه لها، ثم قال: أول ما نعرض على القرآن الحديث الذى ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} ، وقال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيما} .
ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أى قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات؟ وأن المغرب ثلاث ركعات؟ إلخ ص (252 ـ 253) ، ثم قال ابن حزم " ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم ". (ص 253 ـ 254 من الإحكام المجلد الأول) .
وقال الشيخ شاكر في تخريج الحديث: هذا المعنى لم يرد فيه صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لايصلح شئ منها للاحتجاج أو الاستشهاد. ثم أفاض في بيانه - انظر حاشية ص 224 - 225 من الرسالة.(1/664)
هكذا سمعت الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيرى، فمنهم من لايلقى لذلك بالاً، ومنهم من لايعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك.
فاعلموا - رحمكم الله - أن من أنكر حديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولا كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول - حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من يشاء الله من فرق الكفرة.
روى الإمام الشافعى - رضى الله عنه - يوما حديثا، وقال أنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا! أرأيتنى خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطى زنارا؟ أروى حديثا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ولا أقول به؟(1/665)
وأصل هذا الرأى الفاسد أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مختلفو المقاصد، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى، وأن جبريل - رضي الله عنه - أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً، ومنهم من أقر للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة، ولكن قال: إن الخلافة كانت حقا لعلى ... إلخ.
ثم قال السيوطى بعد ذلك: وهذه آراء ما كنت استحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذى كان الناس في راحة منه من أعصار.
وقد كان أهل هذا الرأى موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله جملة من ذلك والله الموفق (1) .
والكتاب طبع في ستين ومائة صفحة، فارجع إليه.
تعقيب
قد يقال: كيف ذكر السيوطى أن الرافضة تنكر الاحتجاج بالسنة وعندها أربعة كتب معتمدة في السنة؟
والجواب أن الرافضة أرادوا هدم السنة المشرفة التي بين أيدى المسلمين حتى لا يبقى إلا كتبهم التي يتداولونها فيما بينهم والتي وضعت لتأييد عقيدتهم الباطلة كما سيتضح من دراستها، والله تعالى أعلم.
_________
(1) انظر الكتاب المذكور: ص 11 - 12.(1/666)
الفصل التاسع: الطاعنون في العصر الحديث
وننتقل بعد هذا إلى عصرنا الحديث، حيث زات الطامة، وكثر الطاعنون، وهم أصناف:
فمنهم بقايا الفرق، وأشرت إلى بعض آنفًا، وهم لا يكتفون بما فى كتب من ضلال، ولكنهم من وقت لآخر يثيرون ما يريدون به هدم السنة: كالطعن في صحابى جليل راوية، أو راو أجمعت الأمة على توثيقه، أو كتاب صحيح تلقته الأمة بالقبول ... إلخ.
والرافضة أكثرها طعنًا، وجرأة على الله تعالى، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فمنهم من يطعن لجهله ما يتصل بالسنة، فيتشكك ويشكك فى ثبوتها، وهو لا يدرى أن البشرية كلها فى تاريخها الطويل لم تعرف علما نقل من جيل إلى جيل بالدقة التي نقل بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو رجع إلى كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وشروح السنة، لاستراح وأراح.
ومنهم من دفعه هذا الجهل إلى القول بأن القرآن الكريم وحده يكفى، مستدلاًّ بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .
وهذا جهل بالكتاب والسنة معًا، ووقوع فيما حذر منه الله عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وردة إلى قول الطائفة التي ذكرها الإمام الشافعى. ولو أن هؤلاء قرءوا حوار الشافعى، وتدبروا ما ذكرنا من آيات كريمة، وأحاديث شريفة، لأدركوا مدى ضلالهم وبعدهم عن سواء السبيل، والعجيب أن هؤلاء أسموا أنفسهم بالقرآنيين، والقرآن نفسه يشهد على بطلان دعواهم.(1/667)
ومنهم من جعل عقله حكما لرفض أحاديث صحت سندا ومتنا، بل في أرقى مراتب الصحاح، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة والنار، وعلامات الساعة، والملائكة والجن. ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد، وكيف نحكم العقل في أمور لا نعرف شيئا عنها إلا بالنقل الصحيح؟ فمتى ثبت النقل لزم التسليم. أحيانا ترى جاهلا مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول: هذا مرفوض عقلا! وكان عليه أن يسأل نفسه: أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها؟
ومن أسوأ الطاعنين في عصرنا المستشرقون، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم: والمستشرقون طعنوا في القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول.
ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين، أرادوا أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير في السنة، فمثلا طعنوا في أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله عنه، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين، وهو كما قال الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره ". وطعنوا في ابن شهاب الزهرى، الإمام الحجة الثبت، أول من استجاب لعمر بن عبد العزيز في جمع السنة ... وهكذا.
ثم ظهر اتجاه آخر عندهم، اعتبره بعضهم هدما للفكر الاستشراقى، ولذلك ثاروا على القائلين به، مع أنه في النهاية يصل إلى البهتان نفسه.
ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولا بأن السنة لها أصل، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم، فيقولون: إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع(1/668)
أن تحدد ما يعتبر من أقوال محمد وما لا يعتبر من أقواله، لأن السند لم يكن معروفا عندهم، فكانت كلمة سنة تعنى الرأى المقبول لدى جمهور علماء المدرسة، ثم نسبوا هذه الأقوال المقبولة لدى المدرسة إلى الصحابة حتى تكون أكثر قبولا، ثم نسبوها بعد ذلك إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
ومعنى هذا أنهم يريدون أن يصلوا في النهاية إلى التشكيك في السنة كلها.
هؤلاء القوم لا يعرفون الإسناد، فكتبهم المقدسة ذاتها بغير إسناد، ولذلك فهى محرفة مزورة، ولكن لا شك أنهم قرءوا عن جمع السنة وتنقيتها، وشروط رجال الحديث، وعرفوا أن الأمة الإسلامية فاقت الخلق جميعا بهذا الإسناد، ولكن ماذا تنتظر من مستشرق يهودى أو صليبى حاقد على الإسلام وأهله، مريد هدمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاّ؟
فلا تنتظر من أعداء الإسلام إلا مثل هذه المحاولات. وإن كنا مطمئنين تماما إلى أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون، فالله عز وجل لم يترك حفظ القرآن الكريم كما ترك غيره للأحبار والرهبان فضيعوه، وإنما تعهد بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، كما تعهد ببيانه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة، وهى المبينة له.
_________
(1) بين هذا الاتجاه مفصلا الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا في إحدى محاضرات رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر لعام 1405 هـ.(1/669)
الفصل العاشر: أبو هريرة رضى الله تعالي عنه
في عصرنا وجدنا المستشرقين من الصليبيين والصهيونيين، ومعهم العلمانيون والرافضة، يجترءون على راوية الإسلام الأول سيدنا أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
وهؤلاء جميعا ليس بينهم وبين الصحابى الجليل عداء خاص، وإنما العداء للسنة المشرفة التى كان الصحابى الجليل أحفظ من رواها في دهره كما قال الإمام الشافعى، والعداء للإسلام نفسه، فلا يقوم بغير السنة المطهرة
وفى المؤتمر الثانى لجمعية إحياء التراث الإسلامى الذى عقد بالكويت في شوال سنة 1405، وخصص للسنة المطهرة، ألقيت محاضرة عن منزلة السنة وشبهات حول الحديث، وبعد المحاضرة ظهر أثر حملات التشكيك في أسئلة الحاضرين، وظهرت الحيرة فيما يتصل بهذا الصحابى الجليل.
ولا أستطيع هنا أن أقدم ترجمة له، فسيرته العطرة أفردها أكثر من عالم في كتاب أو أكثر، ويكفى ذكر بعض الحقائق من باب الذكرى، فإنها تنفع المؤمنين، حتى يعرف القارئ الكريم من قال فيهم الإمام ابن خزيمة " إنما يتكلم في أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار ".
وما أريد أن أثبته هنا كتبته في بحث " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وهذا البحث نشر في مجلة مركز السيرة والسنة بجامعة قطر، ثم رأيت أن ألحقه بهذا الجزء الثالث، وبذلك يمكن الرجوع إليه، ولا حاجة للتكرار.(1/670)
القسم الثاني:
الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة(/)
الفصل الأول: التدوين عند الشيعة
تحدثنا من قبل عن تدوين السنة المطهرة، وأثبتنا أن التدوين بدأ في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تتابع التدوين بعد ذلك وظل متصلا دون توقف حتى جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى.
وكتب السنة التي بين أيدينا يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجرى، ووصلنا الكثير مما دون في القرن الثانى، أما القرن الثالث فيعتبر العصر الذهبى لتدوين السنة المشرفة.
والفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ولها عقائد خاصة بها، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها، ووضوحها لدى معتنقيها. وهذا أمر بدِهى، أن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد، والدعوة لها، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب.
بل إن هناك مرحلة تلى العقائد وتسبق الكتب، وهى وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع في كتاب، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة.
فبالنسبة للشيعة مثلا وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه في تلك المرحلة، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذى تستقر عنده آراؤها، وما كانت أى فرقة لتضع أخباراً في إمام إلا بعد ولادته، لأنها لا تعلم الغيب في واقع الأمر، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم.
وللبيان أثبت بعض ما جاء في كتاب من كتب الشيعة أنفسهم، وهو كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختى، وسعد بن عبد الله القمى، والاثنان عاشا في القرن الثالث، وأدركا بداية القرن الرابع.(1/671)
يبين الكتاب تفرق الشيعة بعد موت الإمام جعفر الصادق، ومما جاء فيه: لما توفى أبو عبد الله بن محمد، افترقت بعده شيعته ست فرق وكانت وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن خمس وستين سنة، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين، ودفن في القبر الذى دفن فيه أبوه وجده في البقيع، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر بن قحافة.
ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حى لم يمت، ولا يموت حتى يظهر ويلى أمر الناس، وهو القائم المهدى، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسى قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإننى أنا صاحبكم، وأنه قال لهم: إن جاءكم من يخبركم عنى أنه مرضنى وغسلنى وكفننى ودفننى فلا تصدقوه، فإنى صاحبكم، صاحب السيف، وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس.
وفرقة زعمت: أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا: أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض، ويقوم بأمور الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبد الله ابنى جعفر بن محمد هي فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن على بن أبى طالب. وأمها أسماء بنت عقيل بن أبى طالب.
وفرقة ثالثة زعمت: أن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأمه أم ولد، وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلما توفى قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل، وكان الحق له، ولا يجوز غير ذلك لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين، ولا تكون إلا(1/672)
في الأعقاب، ولم يكن لأخوى إسماعيل عبد الله وموسى في الإمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع على بن الحسين. وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية، برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر.
فأما الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبى الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدى الأجدع. وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل، وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه، وهم الذين خرجوا في حياة أبى عبد الله جعفر بن محمد فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس، وكان عاملا على الكوفة، فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات، ودعوا إلى نبوة " أبى الخطاب "، وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة قد لزموا الأساطين يرون الناس أنهم لزموها للعبادة، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل ورجال ليأخذهم ويأتيه بهم، فامتنعوا عليه وحاربوه، وكانوا سبعين رجلاً، فقتلهم جميعاً فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى فعد فيهم، فلما جن الليل خرج من بينهم فتخلص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبى خديجة. وذكر بعد ذلك أنه قد تاب ورجع، وكان ممن يروى الحديث، فحارب عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين التي كانت مع أتباعه، وجعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لايضركم ولا يعمل فيكم، ولا يحتك في أبدانكم، فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا، قالوا له ياسيدنا، ما ترى ما يحل بنا من القوم؟ وما ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد يكسر كله، وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا؟ فذكر رواة العامة أنه قال لهم إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبى؟
وقال رواة الشيعة أنه قال لهم: يا قوم قد بليتم وامتحنتم، وأذن في قتلكم وشهادتكم، فقاتلوا على دينكم واحسابكم، ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل، فموتوا كراما أعزاء واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً(1/673)
عظيما، وأنتم الصابرون. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وأسر أبو الخطاب، فأتى به عيسى بن موسى، فأمر بقتله فضربت عنقه في دار الرزق على شاطئ الفرات وأمر بصلبه وصلب أصحابه فصلبوا، ثم أمر بعد مدة بإحراقهم فأحرقوا، وبعث برءوسهم إلى المنصور، فأمر بها فصلبت على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثم أحرقت.
فلما فعل ذلك قال بعض أصحابه: إن أبا الخطاب لم يقتل، ولا قتل أحد من أصحابه، وإنما لبس على القوم وشبه عليهم، وإنما حاربوا بأمر أبى عبد الله جعفر ابن محمد، وخرجوا متفرقين من أبواب المسجد ولم يرهم أحد، ولم يجرح منهم أحد، وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلون أصحاب أبى الخطاب، وإنما يقتلون أنفسهم، حتى جن عليهم الليل، فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوهم كلهم منهم، ولم يجدوا من أصحاب أبى طالب قتيلا ولا جريحا، ولا وجدوا منهم أحدا. وهذه الفرقة هي التي قالت: إن أبا الخطاب كان نبياً مرسلاً، أرسله جعفر بن محمد، ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة - لعن الله من يقول هذا. ثم خرج بعد ذلك من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبى الخطاب، فقالوا بإمامته وأقاموا عليها.
وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة، واختلفوا في رئاسات أصحابهم ومذاهبهم، حتى تراقى بعضهم إلى القول بربوبيته، وأن الروح التي صارت في آدم ومن بعده من أولى العزم من الرسل صارت فيه.
وقالت فرقة منهم: إن روح جعفر بن محمد تحولت عن جعفر في أبى الخطاب، ثم تحولت بعد غيبة أبى الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر، ثم ساقوا الإمامة على هذه الصفة في ولد محمد بن إسماعيل.
وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة، تسمى القرامطة، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب بقرمطويه،(1/674)
وكانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم وقالوا لا يكون بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله إلا سبعة أئمة: على بن أبى طالب وهو إمام رسول، والحسن والحسين، وعلى بن الحسين، ومحمد بن على، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدى، وهو رسول. وزعموا أن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذى أمر فيه بنصب على بن أبى طالب رضي الله عنه للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم إلى أمير المؤمنين وفيه، واعتلوا في ذلك بخبر تأولوه، وهو قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله: من كنت مولاه فعلى مولاه، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة، وتسليم منه ذلك لعلى بن أبى طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله بعد ذلك صار مأموما لعلى بن أبى طالب، محجوجا به، فلما مضى على رضي الله عنه صارت الإمامة في الحسن، ثم صارت من الحسن في الحسين، ثم صارت في على بن الحسين، ثم في محمد بن على، ثم كانت في جعفر بن محمد، ثم انقطعت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد صلى الله عليه وآله في حياته.
ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل، واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد أنه قال: ما رأيت مثل بداء لله في إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حى ... لم يمت وأنه غائب مستتر في بلاد الروم، وأنه القائم المهدى، ومعنى القائم عندهم أنه عندهم أنه يبعث بالرسالة، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وآله، وأن محمد بن إسماعيل من أولى العزم، وأولو العزم عندهم سبعة: " نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وعلى رضي الله عنه، ومحمد بن إسماعيل " على معنى أن السموات سبع، وأن الأرضين سبع، وأن الإنسان بدنه سبع: يداه ورجلاه، وظهره، وبطنه، وقلبه، وأن رأسه سبع: عيناه وأذناه، ومنخراه، وفمه وفيه لسانه وفمه بمنزلة ...(1/675)
صدره الذى فيه قلبه، والأئمة سبع كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل، واعتلوا في نسخ شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وتبديلها، بأخبار رووها عن أبى عبد الله جعفر بن محمد أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً " وأنه قال: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء "، ونحو ذلك من أخبار القائم، وزعموا أن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم، ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول الله عز وجل {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} (البقرة: 35) يعنى محمد بن إسماعيل وأباه إسماعيل، {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: 35) أى موسى بن جعفر بن محمد، وولده من بعده، ومن ادعى منهم الإمامة، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذى حكاه الله عز وجل في كتابه، وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حجة، وأن الحجج اثنا عشر، ولكل حجة داعية، ولكل داعية يد، يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها كدلائل الرسل،
ويسمون الحجة الأب، والداعية الأم، واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة، أن الله الأب والمسيح الابن، وأمه مريم، فالحجة الأكبر هو الرب، وهو الأب، والداعية هي الأم، واليد هو ... الابن –- كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً، وخسروا خسرانا مبينا. وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده، وسنها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، وأمر بها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة، أمثال مضروبة، وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل، وفيها النجاة، وأن ما ظهر منها هي التي نهى عنها، وفى استعمالها الهلاك والشقاء وهى جزء من العقاب الأدنى، عذب الله بهم قوما، وأخذهم به ليشقوا بذلك، إذ لم يعرفوا الحق، ولم يقوموا به ولم يؤمنوا.(1/676)
وهذا أيضاً مذهب عامة أصحاب أبى الخطاب - ومع ذلك استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج، في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر، واعتلوا في ذلك بقول الله تعالى عز وجل {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) قالوا: إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدى وتعظيم شعائر الله، وتأولوا في ذلك قول الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} (الحج: 32) . ورأوا سبى النساء وقتل الأطفال، واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: 26) ، وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم، وخاصة من قال بإمامة " موسى بن جعفر " وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} (التوبة: 123) ، فالواجب أن يبدأوا بهؤلاء ثم بسائر الناس، وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة، وكانوا كلهم بسواد الكوفة واليمن أكثر، ونواحى البحر واليمامة وما والاها، ودخل فيهم كثير من العرب فقووا بهم وأظهروا أمرهم، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف.
وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبى عبد الله جعفر بن محمد: إن الإمام بعد جعفر ابنه محمد، وأمه أم ولد يقال لها حميدة، وهو موسى وإسحق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة. وتأولوا في إمامته خبرا، وزعموا أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل ذات يوم على أبيه وهو صبى صغير، فدعاه أبوه فعدا إليه فكبا في قميصه، ووقع لحر وجهه، فقام إليه جعفر وقبله، ومسح التراب عن(1/677)
وجهه، ووضعه على صدره، وقال: سمعت أبى يقول: إذا ولد لك ولد يشبهنى، فسمه باسمى، فهو شبيهى وشبيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وعلى سنته، فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر، وفى ولده من بعده. وهذه الفرقة تسمى السميطية، وتنسب إلى رئيسهم يقال له " يحيى بن أبى السميط "، وقال بعضهم هم الشميطية لأن رئيسهم كان يقال له يحيى بن أبى شميط.
والفرقة الخامسة منهم قالت: الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضى جعفر أكبر ولده سنا، وجلس مجلس أبيه بعده، وادعى الإمامة بوصية أبيه، واعتلوا أى الأفطحية بحديث يروونه عن أبيه وعن جده أنهما قالا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام: فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه، غير نفر يسير عرفوا الحق وامتحنوا عبد الله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هي " الفطحية" وسموا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم كان أفطح الرجلين، وقال بعض الرواة أنهم نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد الله بن فطيح. ومال إلى هذه الفرقة عامة مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكوا في أن الإمامة في عبد الله بن جعفر وفى ولده من بعده.
فلما مات عبد الله ولم يخلف ذكراً، ارتاب القوم واضطربوا وأنكروا الروايات الكثيرة عن على بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد من أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسنين، ولا تكون إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم، إلى القول بإمامة موسى بن جعفر. وقد كانت جماعته من شيعة عبد الله قد رجعوا في حياته عن إمامته لروايات وقفوا عليها رووها عن جعفر أنه قال " إن الإمامة بعدى في ابنى موسى، وأنه دل عليه، وأشار إليه، وأعلمهم في عبد الله أمورا لا يجوز أن تكون في الإمام ولا يصلح من كانت فيه للإمامة، وروى بعضهم أن جعفر قال(1/678)
لموسى: يابنى إن أخاك سيجلس مجلسى ويدعى الإمامة بعدى فلا تنازعه ولا تتكلمن فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى.
فلما توفى عبد الله رجعت شيعته عن القول به، وثبتت طائفة على القول بإمامته ثم بإمامة موسى بن جعفر من بعده. وعاش عبد الله بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها.
وقالت الفرقة السادسة منهم: إن الإمام هو موسى بن جعفر بعد أبيه، وانكروا إمامة عبد الله، وخطأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. هذا هو التفرق الذى حدث بعد موت الإمام جعفر الصادق.
وأضيف هنا ما جاء في الكتاب عن تفرق الشيعة بعد الإمام الحادى عشر، وهو الحسن العسكرى:
قال المؤلفان في بيان هذا التفرق:
وتوفى ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، وهى أم ولد يقال لها عسفان، ثم سماها أبوه حديثا، فافترق أصحابه من بعده فرقا:
ففرقة منها قالت: إن الحسن بن على حى لم يمت، وإنما غاب، وهو القائم، ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له، ولا خلف معروف ظاهر، لأن الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبتت إمامة الحسن بن على، والرواية قائمة أن للقائم غيبتين فهذه الغيبة إحداهما، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الواقفة على موسى بن جعفر. وإذا قيل لهذه الفرقة: ما الفرق بينكم وبين الواقفة؟ قالوا إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفى عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا رضي الله عنه، ولأنه رحمه الله عليه توفى عن بضعة عشر ذكرا، كل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة، وإنما القائم المهدى الذى يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غير خلف، فيضطر شيعته إلى(1/679)
الوقوف عليه إلى أن يظهر، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف، فقد صح أنه غاب.
وقالت الفرقة الثانية: إن الحسن بن على مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهدى، واعتلوا في ذلك برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن جعفر بن محمد، أنه قال: إنما سمى القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت، فالحسن بن على قد مات ولا شك في موته، ولا خلف له، ولا وصى موجود، فلا شك أنه القائم، وأنه حى بعد الموت، لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر، فهو رضي الله عنه غائب مستتر، وسيظهر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وإنما قالوا إنه حى بعد الموت، وأنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها، عدل حى ظاهر أو خائف مغمور، للخبر الذى روى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال في بعض خطبه: " اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمور، لئلا تبطل حججك وبيناتك ". فهذا دليل على أنه عاش بعد موته. وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن على رضي الله عنه، وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حى وأنكرت موته، وهذه أيضاً شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر رضي الله عنه. وإذا قيل لهم: من أين قلتم هذا، وما دليلكم عليه، رجعوا إلى تأول الروايات.
وقالت الفرقة الثالثة: إن الحسن بن على توفى ولا عقب له، والإمام بعده أخوه، جعفر، وإليه أوصى الحسن، ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة. فلما قيل لهم إن الحسن وجعفر ما زالا متهاجرين متصارعين متعاديين طول زمانهما، وقد وقفتم على صنايع جعفر ومخلفى الحسن، وسوء معاشرته له في حياته، ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه، قالوا: إنما ذلك بينهما في الظاهر، فأما في الباطن فكانا متراضيين، متصافيين، لا خلاف بينهما، ولم يزل جعفر مطيعا له، سامعا منه، فإذا ظهر فيه شىء من خلافه فعن أمر الحسن، فجعفر وصى الحسن، وعنه أفضت إليه الإمامة. ورجعوا إلى بعض قول الفطحية(1/680)
في عبد الله وموسى وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبد الله إليه، وعن عبد الله صارت إليه الإمامة لا عن أبيه، وأقروا بإمامة عبد الله بن جعفر وثبوتها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها، وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم. وكان رئيسهم والداعى لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له على الطاحى الخزار، وكان مشهورا في الفطحية، وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه، وكان متكلما محجاجا، وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزوينى، غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن على رضي الله عنه، وقالت إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا إلى الحسن.
وقالت الفرقة الرابعة: إن الإمام بعد الحسن هو جعفر، وأن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه، لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن. ولم يكن محمد إماما، ولا الحسن أيضاً، لأن محمدا توفى في حياة أبيه، وتوفى الحسن ولا عقب له، وكان مدعيا مبطلا، والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصى ويكون له خلف، والحسن قد توفى ولا وصى له، ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضاً أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبى عبد الله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه.
أما الفرقة الخامسة: فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن على المتوفى في حياة أبيه، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما، وأن أباهما لم يشر إليهما بشىء من الوصية والإمامة. ولا روى عنه في ذلك شىء أصلا، ولا نص عليهما بشىء يوجب إمامتهما، ولا هما في موضع ذلك وخاصة جعفر: فإن فيه خصالا مذمومة، وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل. وأما الحسن فقد توفى ولا عقب له، فعلمنا أن محمدا كان الإمام، قد صحت(1/681)
الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفى ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف، ثم رأينا جعفر في حياة الحسن وبعد مضيه، ظاهر الفسق، غير صائن لنفسه، معلنا بالمعاصى، وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم، فكيف يصلح لمقام النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور، فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها. وإذ هي السبب الذى يعرف به دينه ويدرك رضوانه، فكيف تجوز في مظهر الفسق، وإظهار الفسق لا يجوز تقية، هذا ما لايليق بالحكيم عز وجل، ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى، فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر، وبطلت عمن لا خلف له، لم يبق إلا التعلل بإمامة أبى جعفر محمد بن على أخيهما، إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف، وإن له عقبا قائما معروفا، مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله، فلابد من القول بإمامته وأنه القائم المهدى، أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا، وهذا مما لايجوز.
وقالت الفرقة السادسة: إن لحسن بن على ابنا سماه محمدا، ودل ... عليه، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفى ولا خلف له، وكيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيته، وجرت أموره على ذلك، وهو مشهور عند الخاص والعام، ثم توفى ولا خلف له، ولكن خلفه قائم وولد قبل وفاته بسنين، وقطعوا على إمامته وموت الحسن، وأن اسمه محمد، وزعموا أن أباه أمر بالاستتار في حياته مخافة عليه، فهو مستتر خائف في تقية من عمه جعفر وغيره من أعدائه وأنها إحدى غيباته، وأنه هو الإمام القائم، وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه، ولا عقب لأبيه غيره، فهو الإمام لا شك فيه.
وقالت الفرقة السابعة: بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، والذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم، لأن ذلك لو كان، لم يخف كما لم يخف غيره، ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، ولا يجوز أن يكابر في مثل(1/682)
ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف. وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتا عند السلطان، وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك، فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر، وقد كان أمر أن يسمى محمداً. وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى. واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبى الحسن الرضا رضي الله عنه، أنه قال: ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع، فهذا هو.
وقالت الفرقة الثامنة: أنه لا ولد للحسن أصلاً، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه وفتشنا عنه سرا وعلانية وبحثنا عن خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن بن على وقد توفى ولا ولد له ظاهر معروف أن له ولدا مستوراً لجازت مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبى صلى الله عليه وآله، أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا، ولجاز أن تدعى الفطحية أن عبد الله بن جعفر بن محمد خلف ولدا ذكرا إماما، وأن أبا الحسن الرضا رضي الله عنه خلف ثلاثة بنين غير أبى جعفر، أحدهم الإمام، لأن مجىء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب، كمجىء الخبر بأن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبد الله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالوالد قد بطل لا محالة. ومع ذلك فهناك حبل قائم ... فإنه لا يجوز أن يمضى الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة.
واحتج أصحاب الولد على هؤلاء بالخبر الذى روى عن جعفر أن القائم يخفى على الناس حمله وولادته، وقالوا أنكرتم علينا أمرا وقلتم بمثله قلتم إن هناك حبلا قائما. فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم، واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم، فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده، فنحن في الولد لذلك أصدق منكم، لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ثم يعرف بعد ذلك ويصح نسبه.(1/683)
وقال المنكرون: الأمر الذى ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل، ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين، أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وقد مضى للحبل الذى ادعيتموه سنون، وأنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة.
وقالت الفرقة التاسعة: إن الحسن بن على قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لايجوز تكذيب مثلها، وكثرة المشاهدين لموته وتواتر ذلك عن الولى له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن ابن على، وأن الإمامة انقطعت وذلك جائز في المعقول والقياس والتعارف، كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد، فلا يكون بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله نبى، فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة لأن الرسالة والنبوة أعظم خطراً وأجل والخلق إليها أحوج، والحجة بها ألزم، والعذر بها أقطع، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة، ومع ذلك فقد انقطعت، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة. واعتلوا في ذلك بخبر يروى عن الصادق أن الأرض لا تخلو من حجة، إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت، فهذا عندنا ذلك الوقت، والله يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة.
وهذا أيضاً جائز من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله فيما بينه وبين عيسى رضي الله عنه نبى، ولا وصى، ولما رويناه من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات، ورووا ثلاثمئة سنة وروى مائتا سنة، ليس فيها نبى ولا وصى، وقد قال الصادق رضي الله عنه: إن الفترة هي الزمان الذى لا يكون فيه رسول ولا إمام، والأرض اليوم بلا حجة، إلا أن يشاء اللع فيبعث القائم من آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، فيحيى الأرض بعد موتها، كما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله على حين فترة من الرسل، فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم، فكذلك يبعث القائم إذا شاء عز وجل والحجة علينا إلى أن يبعث القائم - وظهوره: الأمر والنهى المتقدمان والعلم الذى في أيدينا(1/684)
مما خرج عنهم إلينا، والتمسك بالماضى، مع الإقرار بموته، كما كان أمر عيسى رضي الله عنه ونهيه، وما خرج من علمه واعلم أوصيائه، والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته، والإقرار بمن ظهر من أوصيائه، حجة على الناس قبل ظهور نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله.
وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم، ولا خروج مهدى، وتذهب في ذلك إلى بعض معانى البداء.
وقالت الفرقة العاشرة: إن محمد بن على، الميت في حياة أبيه، كان الإمام بوصية من أبيه، وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام، فلما حضرت الوفاة محمدا لم يجز أن يوصى ولا يقيم إماما، ولا يجوز له أن يوصى إلى أبيه، إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده ولا يجوز أيضاً أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه. وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضى أبيه، فلما لم يجز إلا أن يوصى فقد أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس، وكان عنده ثقة أمينا، ودفع إليه الكتب والوصية، وأمره إذا حدث به حدث الموت أن يؤدى ذلك كله إلى أخيه جعفر، ما فعل الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنه، لما خرج إلى الكوفة، فقد دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله واستودعها ذلك كله، وأمرها أن تدفعه إلى على بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة، فلما انصرف على بن الحسين من الشام إليها، دفعت إليه جميع ذلك، وسلمته له، فهذا بتلك المنزلة في الإمامة لجعفر بوصية " نفيس " إليه عن محمد أخيه، فإن نفيسا لما خاف على نفسه لما علم أهل الدار قصته وأحسوا بأمره وحسدوه، ونصبوا له وبغوه الغوائل، وخشى أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية دعا جعفرا وأوصى إليه، ودفع إليه جميع ما استودعه أخوه الميت في حياة أبيه، ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره، وهكذا ادعى جعفر أن الإمامة صارت إليه من قبل محمد أخيه، لا من قبل أبيه وهذه الفرقة تسمى النفيسية.(1/685)
وقالت فرقة من النفيسية أنكروا إمامة الحسن رضي الله عنه: لم يوص أبوه إليه، ولا غير وصيته إلى محمد ابنه، وهذا عندهم جائز صحيح، فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها. وهذه الفرقة تتقول على أبى محمد الحسن بن على رضي الله عنه تقولا شديداً، وتكفره وتكفر من قال بإمامته، وتغلو في القول في جعفر، وتدعى أنه القائم، وتفضله على أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه وتقدمه على الحسن والحسين وجميع الأئمة، وتعتل في ذلك: أن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله. وأخذ نفيس ليلا وألقى في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير، فغرق فيه فمات وهذه الفرقة هي النفيسية الخالصة.
وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم: لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام: أهو جعفر أم غيره؟ قالوا: لا ندرى ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته فقد اشتبه علينا الأمر ولسنا نعلم أن للحسن بن على ولدا أم لا، أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد، وقد كثر الاختلاف، إلا أنا نقول إن الحسن بن على كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة، وقد توفى رضي الله عنه وصحت وفاته، وأن الأرض لا تخلو من حجة، ونحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده إذ لم يصح عندنا أن له خلفا وخفى علينا أمره حتى يصح لنا الأمر ويتبين، ونتمسك بالأول كما أمرنا أنه إذا هلك الإمام، ولم يعرف الذى بعده فتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر، فنحن نأخذ بهذا ونلزمه، ولا ننكر إمامة أبى محمد، ولا ننكر موته، ولا نقول إنه رجع بعد موته، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ولا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء ويكشفه ويبينه لنا، وهذه الفرقة لا تثبت لجعفر بن على إمامة أحد من ولده ولا من غيره، بوجه من الوجوه ولا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه، ووصية ظاهرة، ولم تثبت لجعفر وصية ظاهرة ولا باطنة، وكل إمام اختلف المؤتمون به في مخرج إمامته ممن هي، وممن أوصى إليه، ومن أقامه فهى باطلة لا تثبت، وأصحاب جعفر يختلفون في(1/686)
إمامة جعفر ومخرجها، فبعضهم يقول إنها له بوصية أبيه إليه وإقامته، وبعضهم يدعيها له من قبل أخيه محمد الميت في حياة أبيه، وبعضهم يدعيها له عن أخيه.
وقالت الفرقة الثانية عشرة: منهم وهم الإمامية: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم، بل الله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن على بن محمد ابن على الرضا، وأمر الله بالغ، وهو وصى لأبيه قائم بالأمر بعده هاد للأمة مهدى على المنهاج الأول والسنن الماضية، ولا تكون الإمامة في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك، ولا تكون إلا في عقب الحسن بن على بن محمد إلى فناء الخلق وانقطاع أمر الله ونهيه ورفعه التكليف عن عباده متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله. ولو كان في الأرض رجلان، لكان أحدهما الحجة، ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما اتصل أمر الله، ودام نهيه في عباده وتكليفه قائما في خلقه. ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة، ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه، ولا في ولده ولا في وصى له من أخ ولا غيره، ولو جاز ذلك لصح مذهب أصحاب إسماعيل بن جعفر ابن محمد ولثبتت إمامة ابنه محمد بن إسماعيل بعد مضى جعفر بن محمد، وكان من قال بها من المباركية والقرامطة محقا مصيبا في مذهبه، وهذا الذى ذكرناه هو المأثور عن الأئمة الصادقين مما لا دفع له بين هذه العصابة من الشيعة الإمامية، ولا شك فيه عندهم ولا ارتياب لصحة مخرج الأخبار المروية فيه وقوة أسبابها، وجودة أسانيدها وثقة ناقليها.
ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة، ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها ولا يجوز شئ من مقالات هذه الفرق كلها، فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن على، مقرون بوفاته، معترفون بأن له خلفا من صلبه، وأن خلفه هو الإمام من بعده، حتى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره، كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه، إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء، ونطق وصموت، كما أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله في حال نبوته بترك إظهار أمره، والسكوت والإخفاء من(1/687)
أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوة التي هي أجل وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك، وعند الوقت الذى قدره تبارك وتعالى، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه، ثم بعد الإعلان بالرسالة، وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد أن كذبته قريش وسائر الخلق من عرب وعجم، وما لقى من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأقام هو مع قومه حتى توفى أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو، فاستتر أياما، خائفا مطلوبا، حتى أذن الله له وأمره بالخروج، وكما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك على خلقك ظاهراً معروفا، أو خافياً مغموداً كيلا تبطل حجتك وبيناتك.
وبذلك أمرنا، وبه جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمة الماضين، وليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا أثر ما لا علم لهم به، ويطلبوا إظهاره، فستره الله عليهم وغيبه عنهم وقال الله عز وجل لرسوله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ... (الإسراء: 36) ، فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستره الله، ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو رضي الله عنه مغمود خائف مستور بستر الله تعالى، وليس علينا البحث عن أمره، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم ولا يحل، لأن في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية لله والعون على سفك دمه رضي الله عنه ودماء شيعته وانتهاك حرمته، أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته وفى ستر ذلك والسكون عنه حقنها وصيانتها وسلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر وأئمتنا وطاعتهم. وفقنا الله وجميع المؤمنين بطاعته ومرضاته بمنه ورأفته، ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختار إماما برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله جل وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار(1/688)
إليهم في شىء من ذلك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ، وقال {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص: 68) ، وإنما اختيار الحجج والأئمة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم إذا شاء ويظهرهم ويعلن أمرهم إذا أراد ويسترهم إذا شاء فلا يبديهم، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم، والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منا.
وقد قال أبو عبد الله الصادق رضي الله عنه: " وهو ظاهر الأمر، معروف المكان، لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام: من سمانى باسم فعليه لعنة الله " ولقد كان الرجل من شيعته يلقاه في الطريق فيحيد عنه ولا يسلم عليه تقية، فإذا لقيه أبو عبد الله شكره على فعله وصوب له ما كان منه وحمده عليه، وذم من تعرف إليه وسلم عليه وأقدم عليه بالمكروه من الكلام. وكذلك وردت الأخبار عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر رضي الله عنه من منع تسميته مثل ذلك، وكان أبو الحسن الرضا يقول: لو علمت ما يريد القوم منى لأهلكت نفسى عندى بما لايوثق دينى، بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك، هذا كله لشدة التستر من الأعداء ولوجوب فرض استعمال التقية فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم، ومع ما لقى رضي الله عنه من " صالح بن وصيف " لعنه الله، وحبسه إياه ولأهل بيته، والأمر بقتله، وطلب الشيعة، وما نالهم منه من الأذى والتعنت، وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته. وقد رويت أخبار كثيرة: أن القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف اسمه ولا يعلم مكانه ولا يعرف إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام، ووصى ابن وصى، يؤتم به قبل أن يقوم، ومع ذلك فإنه لابد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه، وإن قالوا، لأن الإشارة بالوصية من(1/689)
إمام إلى إمام بعده لا تصح ولا تثبت إلا بشهود عدول من خاصة الأولياء أقل ذلك شاهدان فما فوقهما، إلا أن لا يكون للإمام الماضى إلا ولد واحد فيستغنى بذلك عن الإشارة إليه على ما يروى عن أبى جعفر محمد بن الرضا.
ومع هذا فإن الرضا لم يدع الإشارة إليه، والوصية والإشهاد على ذلك لأنه لابد منه، إذ السنة جارية من رسول الله بذلك، ومن الأئمة من بعده، وإذ قد فعله أمير المؤمنين بالحسن وفعله الحسن بالحسين مع وصية رسول الله وإشارته إليه أن الإمامة في عقب الحسن بن محمد ما اتصلت أمور الله ولا ترجع إلى أخ، ولا عم، ولا ابن عم، ولا ولد ولد مات أبوه في حياة جده، ولا يزول عن ولد الصلب، ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد. فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهاج الواضح والفرض الواجب اللازم الذى لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع عليه، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن على رضوان الله عليه.
وقالت الفرقة الثالثة عشرة: مثل مقالة الفطحية، والفقهاء منهم أهل الورع والعبادة، مثل عبد الله بن بكير بن أعين ونظرائه، فزعموا: أن الحسن بن على توفى، وأنه كان الإمام بعد أبيه بوصية أبيه إليه، وأن جعفر بن على هو الإمام بعده، كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبد الله بن جعفر، للخبر الذى روى: أن الإمامة فى الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وأن الخبر الذى روى عن الصادق رضي الله عنه: أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضى خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه، بل تثبت في خلفه، وإذا توفى ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة، لأن هذا معنى الحديث عندهم، وكذلك قالوا في الحديث الذى روى: أن الإمام لا يغسله إلا إمام، وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره، وأقروا أن جعفر بن محمد رضي الله عنه غسله موسى، وادعوا أن عبد الله أمره بذلك لأنه كان الإمام بعد عبد الله، فلذلك جاز أن يغسله موسى، فهذه الأخبار بأن الإمام لا يغسله إلا الإمام صحيحة جائزة(1/690)
على هذا الوجه، فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا، والإمام عندهم " جعفر بن على " على هذا التأويل ضرورة، وعلى هذه الأخبار والمعانى التي وصفناها ...
مما سبق نلاحظ ما يأتى: -
1 ـ عندما وقفت الناوسية عند الإمام الصادق، واعتبرته القائم المهدى، بدأت في وضع الأخبار التي تؤيد عقيدتها، ولم تستطع أن تقوم بهذا قبل موته.
2 ـ والإسماعيلية الخالصة قامت بمثل هذا بالنسبة لإسماعيل بن جعفر.
3 ـ والمباركية جعلت الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر، ويذكر التاريخ تفرقها بعد ذلك لعدة فرق، ومنهم القرامطة الذين زعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين، واستباحوا المحارم وجميع ما خلقه الله!! ومع وضوح كفرهم استدلوا بما يؤيد عقيدتهم.
4 ـ والفرقة الرابعة التي قالت بإمامة محمد بن جعفر، وفى ولده من بعده، وضعت من الأخبار ما يدل على إمامته، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده.
5 ـ والفرقة الخامسة وضعت أيضاً من الأخبار ما يدل على إمامة عبد الله بن جعفر، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده. فلما مات ولم يخلف ذكرا حدث التفرق المذكور، وأنكر القوم ما أنكروا من الروايات، ووضعوا روايات جديدة تتفق مع العقيدة الجديدة، وانظر مثلا إلى هذه الرواية:
قال جعفر لموسى: " يا بنى إن أخاك - يقصد عبد الله - سيجلس مجلسى، ويدعى الإمامة بعدى، فلا تنازعه ولا تتكلمن، فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى ".
فهذه الرواية التي ذكرت للاستدلال على إمامة موسى بن جعفر لم توضع قبل موت عبد الله بن جعفر، لأن الوضاعين من هؤلاء الشيعة لم يكونوا يعرفون من الذى سيموت قبل الآخر.(1/691)
6 ـ والفرقة السادسة التي قالت بإمامة موسى بن جعفر بعد أبيه صارت بعد وفاته خمس فرق.
ولعل في هذا ما يكفى لبيان ما أردت بيانه.
فالشيعة الاثنا عشرية التي نتحدث عنها كانت انبثاقا من إحدى الفرق الخمس السابقة، وخمس الفرق كلها كانت إحدى الفرق الست السابقة. وكل فرقة من الفرق الخمسة افترقت بعد ذلك عدة فرق. وإذا واصلنا المسيرة نجد أن الشيعة اتباع الحسن العسكرى - الإمام الحادى عشر عند الاثنى عشرية - انقسمت بعد موته إلى ما يقرب من عشرين فرقة، وكل فرقة تضع من الأخبار ما يؤيد عقيدتها الجديدة، ولا يمكن وضع هذه الأخبار قبل وفاة الإمام.
ونلحظ أن كل هذه الفرق أكدت أن الحسن العسكرى لا خلف له ما عدا فرقة مع فرقة الإمامية.
ومعنى هذا أن الشيعة الاثنى عشرية لم تبدأ في وضع الأخبار التي تتصل بالاثتى عشر إماما إلا بعد الحسن العسكرى، أى في النصف الثانى من القرن الثالث. وبعد هذا تبدأ مرحلة الكتب.
والواقع العملى يؤيد ما بينته هنا، فكتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم أولها ظهر في القرن الرابع، وهو الكافى، ثم جاء بعده باقى الكتب.(1/692)
الأصول الأربعمائة
قال مؤلف كتاب " دراسة حول الأصول الأربعمائة " ص 7:
بلغ الرواة عنه – أى الإمام الصادق – أربعة آلاف رجل، وانصرفت طائفة كبيرة من هؤلاء لضبط ما رووه عن الإمام سماعاً في كتاب خاص في مواضيع الفقه والتفسير والعقائد وغيرها، وقد اصطلح التاريخ الشيعى على تسمية هذه الكتب بالأصول، كما حصرها في أربعمائة أصل، وهذا ما نعنيه بالأصول الأربعمائة. ا. هـ
وتحدث المؤلف بعد هذا مباشرة عن الاختلاف حول تحديد مفهوم الأصل، ثم ذكر أسماء أصحاب الأصول، ولكن عددهم لم يبلغ الثمانين، ثم قدم دراسة حول الأصول بصفة عامة، ثم تعريفاً مقتضباً للأصول الموجودة كاملة، أو الموجود قسم منها، وبلغ العدد ثمانية وعشرين.
وانتهى بعد ذلك إلى نتيجة البحث فقال: -
" وقد توصلنا من هذا البحث إلى النتائج التالية ":
أولاً: أن الأصل مما اصطلح عليه علماء الشيعة في القرن الخامس الهجرى.
ثانياً: أن المحدثين ذكروا في تحديد مفهوم الأصل أقوالاً كانت في الغالب مجرد حدس وتخمين كما صرح بذلك السيد محسن الأمين.
وأن لكلمة الأصل معنيين:
الأول: المعنى الاصطلاحي وهو عبارة عن الحاوى للحديث المروى سماعاً من الإمام الصادق (ع) غالبا ومن تأليف رواته (ع) وقد استشهدنا لذلك بنصوص المتقدمين، وأن أغلب من ذكرهم الطوسى والنجاشى في أصحاب الأصول هم من أصحاب الإمام الصادق (ع) ودراسة الأصول الموجودة.
الثانى: المعنى اللغوى بمعنى المصدر والمرجع – كما في عصرنا – وذلك حيث تستعمل في غير كتب الحديث من العلوم المختلفة أو تستعمل قبل القرن الخامس الهجرى.(1/693)
ثالثاً: تحديد زمن التأليف بعصر الإمام الصادق (ع) أى من روى عنه (ع) وينافى ذلك أن يروى عن أبيه الباقر (ع) أو ابنه الكاظم (ع) .
رابعاً: إن أريد من الأصل مفهومه اللغوى فأصول أحاديث الشيعة عدداً ستة آلاف وستمائة – تقريباً.
وإن أريد مفهومه الاصطلاحى المذكور فلا يزيد على المائة عددا والمذكور منها في فهرستى الطوسى والنجاشى لا تزيد على نيف وسبعين أصلاً.
خامساً: أن أعيان الأصول قد أهملت نظراً لاحتواء الكتب الأربعة وجوامع الحديث لهذه الأصول وغيرها من مصادر أحاديث الشيعة، ولأجل ذلك استغنى المحدثون عن الأصول بأعيانها لوجود مضامينها ورواياتها في هذه الكتب المتأخر تأليفها زمناً عن زمن تأليف الأصول ولم أقف – حسب تتبعي – للأصول التي ذكرها الشيخ الطوسى على اكثر من ثلاثة أصول موجودة اليوم، ومن الكتب التي وصفت بأنها أصول على أكثر من سبعة وعشرين كتاباً، وعسانى أوفق للاطلاع عليها في المستقبل.
ويقول الشهيد الثانى بهذا الصدد: كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولاً فكان عليها اعتمادهم، وتداعت الحال إلى أن ذهب معظم تلك الأصول ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، وأحسن ما جمع منها الكافى والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه. انتهى كلام المؤلف.
ولو صح كلامه فإنه يعنى أن التدوين كان للآراء والاجتهادات الفقهية وغيرها، كما كان للأحاديث التي رواها الإمام الصادق، والشيعة يرون أن كل ما صدر عنه يعتبر من السنة، ولكن الإمام الصادق نفسه لا يمكن أن يرى العصمة لنفسه أو حق التشريع، ويندر أن يوجد في عصره من يرى عصمته إلا الغلاة.
فما يصح نقله عن الإمام الصادق لا يختلف عما ثبت عن الأئمة الأربعة: أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد، وغيرهم من الأئمة الأعلام إلا فيما نراه من(1/694)
الاختلاف بين هؤلاء الأئمة المجتهدين أنفسهم. أما ما يدون في عصر الإمام الصادق افتراء عليه فإن الافتراء لا يتجاوز عصره والعصور السابقة، ولا يمكن أن يتصل بمن يأتى بعده مما يعد في علم الغيب. ولسنا هنا في حاجة إلى دراسة هذه الأصول، أو البحث عن أصحابها، ولكن الذى يعنينا هو أن ما يخص الشيعة الاثنى عشرية لم يظهر في هذا العصر حتى يدون، ولذا عجبت كل العجب من عنوان أحد هذه الأصول، وقد ذكره المؤلف في ص 47، والعنوان:
" مقتضب الأثر في الأئمة الاثنى عشر "! ... ومن غير الممكن على الإطلاق أن يوضع هذا العنوان فى عصر الإمام الصادق، فما كان أحد في وقته يعرف أسماء من يأتى بعده، حيث لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن يمكن أن يوضع هذا العنوان بعد الإمام الحادى عشر، وتنسب الأقوال المفتراة إلى الصادق أو غيره، هذا هو الواقع الذى يمكن أن يكون. فلو نسب هذا العنوان إلى من عاش في عصر الصادق فإن هذا يعنى أن واضع العنوان يفتري على من عاش في عصر الإمام.
وعلى كل حال بعد قراءة العنوان جاء ما يلي:
" تأليف أحمد بن محمد بن عياش الجوهرى، المتوفى سنة 401 هـ ".
إذن عاش المؤلف بعد الإمام الحادى عشر، بل بين وفاة كل منهما قرن ونصف، فهذا هو الذى يتفق مع ما سبق بيانه.(1/695)
الفصل الثاني: الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة
رأينا من قبل الجرح والتعديل عن الجمهور، والموقف من الرواية عن أهل البدع، وما يتصل بالعدالة والضبط.
والصحابة الكرام، خير أمة أخرجت للناس، شهد لهم ربهم عز وجل وكفى بالله شهيدا، وشهد لهم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظمها من شهادة! ولذلك فهم ليسوا في حاجة إلى شهادة بعد الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدالتهم أمر معلوم مسلم به عند جمهور المسلمين. ومن طعن فيهم ممن ينتسب إلى الإسلام كاد أن يخرج عن الملة إن لم يكن قد خرج بالفعل. وتبعاً للجرح والتعديل عند الفرق يحكم على الأحاديث، وتؤلف الكتب.
وقبل أن أبين الجرح والتعديل عند سلف عبد الحسين، وأثر هذا في كتبهم التي قال إنها مقدسة، وصحاح متواترة، أردت أن أوضح موقف الحاكم ـ كما جاء في كتابه معرفة علوم الحديث، وهو شيعى لكنه غير رافضى، حتى لا نخلط بين موقف الشيعة وموقف الرافضة.
تحدث الحاكم عن أصح الأسانيد فقال (ص 55) :
إن أصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على إذا كان الراوى عن جعفر ثقة.
وأصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن أبى بكر.
وأصح أسانيد عمر: الزهرى عن سالم عن أبيه عن جده.
وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة لأبى هريرة: الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة، ولعبد الله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، ولعائشة(1/696)
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد ابن أبى بكر، عن عائشة.
سمعت أبا بكر أحمد بن سلمان الفقية يقول: سمعت جعفر بن أبى عثمان الطيالسى يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب.
ومن أصح الأسانيد أيضاً محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن زهرة القرشى عن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشى عن عائشة.
وأصح أسانيد عبد الله بن مسعود: سفيان بن سعيد الثورى عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعى عن علقمة بن قيس النخعى عن عبد الله بن مسعود.
وأصح أسانيد أنس: مالك بن أنس عن الزهرى عن أنس.
وأصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر.
وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبى هريرة.
ومما ذكره الحاكم نرى أنه لا يختلف عن جمهور المسلمين في نظرته للصحابة الكرام، وفى التوثيق بصفة عامة على خلاف ما نراه عند الرافضة.
وفى ص 56 يقول: إن أوهى أسانيد أهل البيت: عمرو بن شمر، عن جابر الجعفى، عن الحارث الأعور، عن على.
وفى ص 63 تحدث عن معرفة فقه الحديث فقال: " فأما فقهاء الإسلام، أصحاب القياس والرأى والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد. ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوع من أنواع هذا العلم.(1/697)
فمن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهرى " وذكر الحاكم بإسناده بعد هذا عن مكحول قال: " ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية من ... الزهرى ".
وفى ص 240 بدأ الحديث عن النوع التاسع والأربعين فقال: " هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة، والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب ".
وأول من ذكرهم من هؤلاء الأئمة الإمام الزهرى. وفى عصرنا وجدنا الرافضة والمستشرقين – لهدف واحد خبيث – يطعنان في هذا الإمام الجليل. ومن الأئمة الأعلام الذين ذكرهم: الإمام سفيان الثورى (ص 245) ، وسيأتى في نماذج من الجرح والتعديل ما قاله الرافضة في هذا الإمام.
ومستدرك الحاكم معروف مشهور، وسبق الإشارة إليه، غير أنه جمع الصحيح والحسن والضعيف والموضوع.
وممن عرف بالتشيع كذلك النسائى، صاحب السنن، أحد الكتب الستة المعتمدة عند جمهور المسلمين، وعبد الرزاق صاحب المصنف، وابن عبد البر، صاحب الكتب الكثيرة النافعة. (انظر منهاج السنة لابن تيمية ج 7 ص 13، 373) ، ومنهج هؤلاء في الجرح والتعديل يعتبر من منهج الجمهور.
أما أسلاف عبد الحسين فإن منهجهم تأثر بعقيدتهم في الإمامة، فكما رفضوا الخلافة الراشدة للشيخين وذى النورين، رفضوا ما ثبت عنهم من أخبار، وطعنوا فيهم وفيمن لم يقل بقول عبد الله بن سبأ في الوصى بعد النبى، ولذلك طعنوا وجرحوا من شهد لهم ربهم عز وجل والرسول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى ظلمات هذه الجهالة ألفت كتبهم.(1/698)
نماذج من الجرح والتعديل
الجرح والتعديل عند هؤلاء القوم – كما رأينا – يرتبط بعقيدتهم الباطلة في الإمامة، ووضعت كتبهم – كما سنرى – لتأييد هذه العقيدة. وكتب الرجال عندهم طعنت في خير جيل عرفته البشرية وجرحت صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضى عن الصحابة الكرام البررة. ولم يسلم من الطعن إلا من اشتهر في التاريخ بولائه لعلى ابن أبى طالب. وقولهم بعصمة الأئمة جعلهم لا ينظرون إليهم على أنهم رواة ثقات بل جعلوهم مصدرا للتشريع، فأقوالهم سنة واجبة الاتباع كسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دون أدنى فرق، وأشرت إلى هذا من قبل. وسأكتفى هنا ببيان بعض النماذج مما جاء في كتب الرجال عندهم. وأصول هذه الكتب الرجالية خمسة هي: رجال البرقى، ورجال الكشى، ورجال الشيخ الطوسى، وفهرسته، ورجال النجاشى. وقد رجع إلى هذه الأصول وغيرها عبد الله الماماقانى في كتابه " تنقيح المقال في علم الرجال ". والمؤلف يلقبونه بالعلامة الثانى آية الله، أما علامتهم الأول فهو ابن المطهر الحلى الذى رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. كما أشرت من قبل، وكتاب تنقيح المقال من أكبر الكتب حجماً ومكانة عندهم.
وإليك بعض النماذج مما جاء في هذا الكتاب.
1 ـ على بن ابى طالب:
أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، مناقبه وفضائله لا يسع البشر عدها وإحصاءها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربى. وقد ورد أنه لو كان البحر مداداً، والأشجار أقلاماً وأوراق الأشجار قرطاساً، والجن والإنس كتاباً، لما أحصوا مناقبه!! (جـ 2 ص 264) .
2 ـ محمد بن أبى بكر بن أبى قحافة:
جليل القدر عظيم المنزلة من خواص على رضي الله عنه وحوارييه. أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس لا من قبل أبيه. من أنجب النجباء، من أهل بيت(1/699)
سوء. بايع أمير المؤمنين على البراءة من أبيه، ومن الخليفة الثانى، وقال له: أشهد أنك إمام مفترض الطاعة، وأن أبى في النار ... إلخ.
(انظر ترجمته في ملحق الجزء الثانى ص 57، 58 وينسب الرافضة هذه الأقوال للإمامين الباقر والصادق، وحاشاهما - رضى الله تعالى عنهما - أن ينطقا بمثل هذا الكفر الذى لا يقوله إلا عبد الله بن سبأ وأمثاله وأتباعه)
3 ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى خليفة العامة:
بالغت العامة في مدحه، ومن لاحظ ترجمته المتفرقة وأمعن النظر فيها لم يعتمد على خبره ... إلخ (2/ 201)
4 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص:
كان كأبيه في الرأى والنفاق، والكذب على الله ورسوله، والخروج مع معاوية بصفين، وكفى بذلك جرحا ... إلخ (2 / 200، وفى ترجمته أخذ الرافضى يلعنه ويلعن أباه!) .
5 ـ عبد الرحمن بن عوف:
في ترجمته اتهام له ولذى النورين عثمان بن عفان - رضى الله تعالى عنهما، وفى نهاية الترجمة قال: لا أعتمد على روايته، لأن من خان في الأصول لا يوثق به في الفروع (2/146: 147)
6 ـ خالد بن الوليد:
تعاقد مع أبى بكر على قتل على رضي الله عنه، ثم ندم أبو بكر خوفاً من الفتنة، سماه العامة سيف الله، والأحق بتسميته سيف الشيطان ... زنديق، أشهر من كفر إبليس في العداوة لأهل البيت.. إلخ. (اقرأ ترجمته 1 / 394 تجد هذا الكفر والضلال والمفتريات وغيرها) .
7 ـ(1/700)
أنس بن مالك:
جاء في ترجمته أنه كان من المنحرفين عن على رضي الله عنه، الكاتمين لمناقبه حباً للدنيا، فدعا عليه بالعمى فكف بصره، وأنه كان يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! . (انظر أكاذيب وأباطيل هؤلاء الرافضة في ترجمته 1 /154: 155) .
8 ـ النعمان بن بشير:
كان منحرفا عن على رضي الله عنه، وعدواً له، فزندقته لا شك فيها.. إلخ (3 / 272، وفى الترجمة غير هذا من التكفير واللعن لهذا الصحابى الجليل ولغيره من الكرام البررة) .
9 ـ معاذ بن جبل:
في ترجمته أنه مالأعدو الله أبا بكر وعمر، على ولى الله على بن أبى طالب، والبشرى بالنار له ولأبى بكر وعمر وأبى عبيدة وسالم، وأن الصحابة هلكوا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أربعة.. إلى غير ذلك مما لا يصدر إلا عن الكفار والضالين. (انظر هذا الضلال في ترجمته 3 / 220: 221) .
10 ـ سفيان الثورى:
إذا كان هؤلاء القوم قد طعنوا وكفروا خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الصحابة الكرام، وخيرهم جميعا الشيخان الصديق والفاروق، رضى الله تعالى عنهم جميعاً، إذا كان الأمر قد انحط إلى هذا الدرك الأسفل، فلا نعجب بعد هذا إذا طعنوا في أئمة المسلمين بعد الصحابة.
ففى ترجمة الإمام سفيان الثورى يذكرون أكاذيب ينسبونها إلى الإمام الصادق افتراء على الله تعالى وعلى الصادق رضى الله عنه، ثم يعقبون عليها بما يأتى:
يتبين أمران: -
أحدهما: أن سفيان الثورى كذاب خبيث مدلس معاند يهودى، قد آثر دنياه على آخرته على علم منه بذلك بنص الصادق.(1/701)
والآخر: أن مذهب العامة ـ أى جمهور المسلمين ـ مبنى على الأكاذيب!! من بدايته إلى نهايته، أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولا جمع الله بيننا وبينهم في الدنيا ولا الآخرة. (انظر 2/37: 38) .
وبعد....
فلعل هذه التراجم ـ مع قلتها ـ كافية لبيان منهج الرافضة في الجرح والتعديل، واجترائهم على الله عز وجل، وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى الصحابة الكرام، وعلى أئمة المسلمين سواء أكانوا من أهل البيت الأطهار أم من غيرهم. وإذا جئنا إلى التطبيق العملى فإنا نرى هذا المنهج مطبقا في كتبهم التي قال عنها الرافضى عبد الحسين إنها مقدسة، متواترة صحيحة، وما هي إلا هدم للإسلام أصوله وفروعه، وامتداد لمآرب عبد الله بن سبأ.
وفى الجزء الرابع في خاتمة الكتاب سنجد مثل هذه التراجم عندما نتحدث عن أبى القاسم الخوئى المرجع الأعلى للشيعة في العراق، وعن كتابه معجم رجال الحديث، مما يبين استمرار غلو الرافضة وزندقتهم حتى عصرنا إلا من عصم ربى من معتدلى الشيعة غير الرافضة.(1/702)
الفصل الثالث: مفهوم السنة عندهم
قال أحد علمائهم المعاصرين: -
" السنة في اصطلاح الفقهاء: قول النبى أو فعله أو تقريره " ثم قال: " أما فقهاء الإمامية بالخصوص - فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجرى قوله مجرى قول النبى، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع - فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت - عليهم السلام - ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبى والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبى لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبى من طريق الوحى أو من طريق التلقى من المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين رضي الله عنه: علمنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف باب من العلم ينفتح لى من كل باب ألف باب. (1)
وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأى والاستنباط من مصادر التشريع بل هم أنفسهم مصدر
_________
(1) اقرأ هذا القول المنسوب لأمير المؤمنين في الفصل السادس ص 154، 155 واقرأ في الرواية ذاتها: " إن عندنا علم ما كان، وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ... وما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشىء بعد الشىء إلى يوم القيامة " ومعلوم أن الإمام علياً - رضى الله عنه - لم يختص بعلم دون سائر الأمة ولا ادعى هذا لنفسه فضلا عن أن يزعم أنه يعلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن إذا وجد من أله عليا، فليس بمستغرب أن يوجد من ينسب هذا العلم له.(1/703)
للتشريع، فقولهم (سنة) لا حكاية السنة. وأما ما يجىء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهى إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعى.
وأما إثبات إمامتهم، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو بحث يتكفل به علم الكلام " (1) .
وما أظننا بحاجة إلى بيان أثر الإمامة هنا، فهى أوضح من أن يطال فيها الحديث، فجعلوا الإمام كالنبى المرسل: العصمة لهم جميعاً، والسنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره يستوى في هذا أن يكون المعصوم هو الرسول الكريم وأن يكون أحد أئمة الجعفرية. ولذلك رأينا من قبل أنهم جعلوا للإمام ما للنبى المصطفى من بيان القرآن الكريم وتقييد مطلقة، وتخصيص عامة. ورأينا كذلك أن الإخباريين منعوا العمل بظاهر القرآن الكريم لأنهم لا يستمدون شريعتهم إلا مما ورد عن أئمتهم. وحتى يكون الإمام مصدراً للتشريع قائماً بذاته جعل له الإلهام مقابلاً للوحى بالنسبة للرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا العالم الجعفرى ـ مع شططه ـ يمثل جانب الاعتدال النسبى، فقد رأينا غيره يذهب إلى بقاء الوحى مع الأئمة وإن لم ينزل بقرآن جديد. وما ذكره هذا العالم لا يصح إلا بما أشار إليه في الفقرة الأخيرة من إثبات إمامة الأئمة، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما أثبتنا خلافه في الجزء الأول.
_________
(1) أصول الفقه لمحمد رضا المظفر 3 /51 -52. وانظر: الأصول العامة للفقه المقارن ص 122، واقرأ فيه كذلك: سنة أهل البيت ص 145 وما بعدها، وراجع تجريد الأصول ص 47، وضياء الدراية ص 14.(1/704)
الفصل الرابع: مراتب الحديث
الإخباريون من الجعفرية ـ وهم قلة قليلة ـ لا علم لهم بمصطلح الحديث، فهم يتلقون بالقبول كل ما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث المعتمدة عندهم، بل يرون تواتر " كل حديث وكلمه بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية وترتيب الكلمات والحروف " (1) وكتب الحديث هذه أربعة ظهرت في القرنين الرابع والخامس، وأصحابها يرون صحة ما أثبتوا في كتبهم.
والجعفرية الاثنا عشرية ظلوا قرابة ثلاثة قرون بعد ظهور هذه الكتب لا يفترقون كثيراً عن النزعة الإخبارية، فأول من وضع مصطلح الحديث وبين مراتبه عندهم هو الحسن بن المطهر الحلى الملقب بالعلامة الذى توفى سنة 726 هـ (2) .
والحديث عند جمهور الجعفرية ينقسم إلى متواتر وأخبار آحاد. وأثر عقيدتهم الباطلة يظهر في المتواتر باشتراطهم " أن لا يكون ذهن السامع مشوباً بشبهة أو تقليد يوجب نفى الخبر ومدلوله " (3) وندرك الأثر هنا عندما نراهم يقولون: " بهذا الشرط يندفع احتجاج مخالفينا في المذهب على انتفاء النص على أمير المؤمنين رضي الله عنه - بالإمامة " (4) فإذا ما نقل بالتواتر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينص على إمامة أحد من بعده فالاتهام يوجه إلى السامعين، وبذلك يصلون إلى هدفهم
_________
(1) تنقيح المقال في أحوال الرجال ص 183.
(2) انظر ضياء الدراية: ص23.
(3) المرجع السابق: ص 17.
(4) انظر حاشية الصفحة السابقة من نفس المرجع.(1/705)
بعدم حجية هذا النقل. وعلى العكس من هذا نراهم يذهبون إلى تواتر حديث الثقلين والغدير (1) .
فعقيدة الإمامة توجههم في رفض الأخذ بالتواتر أو رفع غيره إلى مرتبته، ما دام الخبر متعلقاً بهذه العقيدة.
وأخبار الآحاد عندهم تنقسم إلى أربع مراتب، هي أصول الأقسام وإليها يرجع كل تقسيم آخر، وهذه المراتب هي: الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف. فأما الصحيح عندهم فهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامى عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة " (2) .
وزاد بعضهم في التعريف أن يكون العدل ضابطاً، ورأى صاحب مقباس الهداية أن قيد العدل يغنى عن ذلك، فمن ليس ضابطا فليس بعدل (3) أى أنهم متفقون على أن شروط الصحة هي: -
1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع.
02 أن يكون الرواة إماميين في جميع الطبقات.
03 وأن يكونوا كذلك عدولا ضابطين.
وأثر الإمامة هنا يبدو إلى جانب تحديد المعصوم - في اشتراط إمامية الراوى، فالحديث لا يرقى لمرتبة الصحيح ما لم يكن الرواة من الجعفرية الاثنى عشرية في جميع الطبقات.
وأول واضع لأقسام الحديث عندهم يوضح سبب هذا الاشتراط بقوله: " لا تقبل رواية الكافر، وإن علم من دينه التحرز عن الكذب، لوجوب التثبت عند الفاسق، والمخالف من المسلمين، إن كفرناه فكذلك، وإن علم منه تحريم الكذب - خلافاً لأبى الحسن لاندراجه تحت الآية، وعدم علمه لا يخرجه عن الاسم، ولأن
_________
(1) انظر الأصول العامة للفقه المقارن: ص 196.
(2) مقباس الهداية في علم الدراية ص 33، وضياء الدراية ص 21.
(3) انظر الموضع السابق من مقباس الهداية.(1/706)
قبول الرواية تنفيذ الحكم على المسلمين، فلا يقبل كالكافر الذى ليس من أهل القبلة. احتج أبو الحسن بأن أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف كالحسن البصرى وقتادة وعمر بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم، وإنكارهم على من يقول بقولهم، والجواب المنع من المقدمتين، ومع التسليم فنمنع الإجماع عليه وغيره ليس بحجة. والمخالف غير الكافر لا تقبل روايته أيضاً لاندراجه تحت اسم الفاسق " (1) .
ويقول الماماقانى (2) : " الموافق للتحقيق هو أن العدالة لا تجامع فساد العقيدة وأن الإيمان شرط في الراوى ". ويقول أيضاً: " وهو الذى اختاره العلامة في كتبه الأصولية وفاقاً للأكثر لقوله تعالى: -
{إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [ (3) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان، والأخبار الصريحة في فسقهم بل كفرهم لا تحصى كثرة ".
يستفاد مما سبق: أن الإيمان شرط في الراوى، وخبر الفاسق يجب التأكد من صحته، وغير الجعفرى كافر أو فاسق، فخبره لا يمكن بحال أن يكون صحيحاً، وهنا لا يبدو أثر الإمامة فحسب بل يظهر التطرف والغلو والزندقة.
ويأتى بعد الصحيح: الحسن:، وهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامى ممدوح مدحاً مقبولا معتداً به، غير معارض بذم، من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقة، أو في بعضها. (4)
_________
(1) تهذيب الوصول إلى علم الأصول ص 77 - 78.
(2) هو صاحب كتاب تنقيح المقال في علم الرجال، وكتاب مقباس الهداية في علم الدراية وله مكانته عند الجعفرية وعلى الأخص في هذا المجال، والنقل من كتابه الأول ص 207.
(3) 6: الحجرات.
(4) مقباس الهداية: ص 34، ضياء الدراية: ص23.(1/707)
ويستفاد من هذا النص أنهم يشترطون للحسن:
1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع.
2. أن يكون جميع الرواة إماميين.
3. وأن يكون ممدوحين مدحاً مقبولاً معتداً به، دون معارضة بذم، وبالطبع الذم غير المقبول لا يعتد به.
4. ألا ينص على عدالة الراوى، فلو كان الرواة عدولاً لأصبح الحديث صحيحا كما عرفنا من دراستنا للصحيح.
5. تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه، أو في بعضها. يفهم من هذا أن جميع الرواة غير ثابتى العدالة، أو بعضهم كذلك والآخرين عدول، فالمعروف أن الحديث يحمل على أدنى مرتبة في الرواة - فلو فقد شرطا آخر غير العدالة لما أصبح حسناً.
ويقول صاحب ضياء الدراية (ص 24) :
" ألفاظ المدح على ثلاثة أقسام ":
- ما له دخل في قوة السند، مثل صالح وخير.
- ما له دخل في قوة المتن لا في السند، مثل فهيم وحافظ.
- ما ليس له دخل فيهما، مثل شاعر وقارئ.
فالأول يفيد في كون السند حسنا أو قويا، والثانى ينفع في مقام الترجيح، والثالث لا عبرة له في المقامين، بل هو من المكملات ".
ويقول عن الجمع بين القدح والمدح (الصفحة ذاتها) :
" القدح بغير فساد المذهب قد يجامع المدح لعدم المنافاة بين كونه ممدوحاً من جهة، ومقدوحاً من جهة أخرى ".
وأثر عقيدة الإمامة في هذا النوع يبدو فيما يأتى:
1. اشتراط إمامية الراوى.(1/708)
2. قبول رواية الإمامى غير ثابت العدالة، ورفض رواية غير الإمامى كائناً من كان، وبالغاً ما بلغ من العدالة والتقوى والورع.
3. قبول رواية الإمامى الممدوح المقدوح أحياناً بشرط ألا يكون القدح بفساد المذهب، وفساد المذهب يعنى الخروج عن الخط الجعفرى: فهذا قدح لا يغتفر (1) .
ويأتى بعد الحسن الموثق، وهو: " ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه، مع فساد عقيدته، بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية، وإن كان من الشيعة، مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح " (2) .
وهذا التعريف يفيد اشتراط ما يأتى:
1. اتصال السند إلى المعصوم.
2. أن يكون الرواة غير إماميين، ولكنهم موثقون من الجعفرية على وجه الخصوص.
3. أو يكون بعضهم كذلك، والآخرون من رجال الصحيح، حتى لا يدخله ضعف آخر، فيكفى أن دخل في الطريق من ليس بإمامى.
وأثر عقيدة الإمامة هنا يبدو فيما يأتى: -
1. جعل الموثق بعد الصحيح والحسن لوجود غير الجعفرية في السند.
2. التوثيق لا يكون إلا من الجعفرية أنفسهم، ولذلك قال صاحب ضياء ... الدراية: (3) " توثيق المخالف لا يكفينا، بل الموثق عندهم ضعيف عندنا، والمدار في الموثق إنما هو توثيق أصحابنا ".
_________
(1) أنظر في ألفاظ الذم والقدح، والمذاهب الفاسدة في نظر الجعفرية: ضياء الدراية: ... ص 50: 53.
(2) مقباس الهداية: ص 35، وراجع ضياء الدراية: 24 -25.
(3) حاشية 24.(1/709)
ويوضح المامقانى توثيق أصحابه بقوله:
" يمكن معرفة غير الإمامى الموثق بأن يكون الإمام قد اختاره لتحمل الشهادة أو أدائها، في وصية، أو وقف، أو طلاق، أو محاكمة، أو نحوها، أو ترحم عليه أو ترضاه، أو أرسله رسولاً إلى خصم له أو غير خصمه، أو ولاه على وقف أو على بلدة، أو اتخذه وكيلاً، أو خادماً ملازماً، أو كاتباً، أو أذن له في الفتيا والحكم أو أن يكون من مشايخ الإجازة (1) أو تشرف برؤية الإمام الثانى عشر الحجة المنتظر أو نحو هذا " (2) .
فالتوثيق إذن لا يخرج عن النطاق الجعفرى الاثنى عشرى.
3. مع هذا النوع من التوثيق لا يدخل السند مع الموثقين إلا رجال الصحيح، وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا القسم في المرتبة الثالثة.
وبعد الموثق يأتى: الضعيف، وهو " ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة، بأن اشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه، أو على مجهول الحال، أو ما دون ذلك كالوضاع " (3) .
وفى الحديث عن الصحيح رأينا كيف أنهم اعتبروا غير الجعفرى كافراً أو فاسقاً فروايته ضعيفة غير مقبولة. ولا تقبل من غير الجعفرى إلا من نال توثيق الجعفرية.
_________
(1) قد جرى على ألسنة أهل الفن وصف بعض الرجال بكونه شيخ الإجازة وآخر بأنه شيخ الرواية، وفرق صاحب التكملة بينهما بأن الأول من ليس له كتاب يروى ولا رواية تنقل، بل يجيز برواية كتاب غيره، ويذكر في السند لمجرد اتصال السند قال: فلو كان ضعيفاً لم يضر ضعفه. والثانى: هو من تؤخذ الرواية منه ويكون في الأغلب صاحب كتاب بحيث يكون هو أحد من تستند إليه الرواية وهذا تضر جهالته في الرواية وتشترط في قبولها عدالته، وانظر كذلك ضياء الدراية ص 57: 59.
(2) انظر: تنقيح المقال: ص 210 ـ 211.
(3) مقباس الهداية: 35، وراجع ضياء الدراية: ص 25.(1/710)
وعلى هذا الأساس يرفضون الأحاديث الثابتة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة وغيرهم من أجلاء الصحابة، والتابعين، وأئمة المحدثين والفقهاء، ما داموا لا يؤمنون بعقيدة الإمامية الاثنى عشرية. فالروايات التي يدخل في سندها أى من هؤلاء الصديقين الصالحين الأئمة الأعلام الأمناء، تعتبر روايات ضعيفة في نظر هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثا (1) .
_________
(1) وجدنا من شيعة اليوم من يرى النظر إلى ذوات الرواة لا إلى مذاهبهم ولكنهم لما يغيروا شيئاً. نسأل الله تعالى أن يوفقهم للعمل بما ينفع الإسلام والمسلمين.(1/711)
الفصل الخامس: التعارض والترجيح
روى الكلينى في أصول الكافى عن عمر بن حنظلة قال:
" سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} (1) قلت: فكيف يصنعان؟ قال ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنى قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما: اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال - قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
_________
(1) 60: النساء.(1/712)
قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا. ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك.
قلت: فإن كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأى الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (2) .
هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة، وفى باب الترجيح عندهم هى " العمدة في الباب، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذى هو من أصحاب الإجماع، أى الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم: كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم " (3) .
ويقول المظفر: " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين، لا بين الراويين، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من
_________
(1) يقصد الباقر والصادق.
(2) الكافى 1 / 67 - 68.
(3) أصول الفقه للمظفر: 3 / 217 ويعنى بالمشايخ الثلاثة أصحاب كتب الحديث عندهم وهم: الكلينى والصدوق والطوسى.(1/713)
الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوى، لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " (1) .
ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة: والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة: الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة. وهذا ما استفاده الشيخ الكلينى في مقدمة الكافى (2) .
وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح بصفة عامة، والدليل الوحيد على مخالفة العامة ـ–أى جمهور المسلمين ـ– بصفة خاصة، أقول: هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتى:
1. أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفرى اثنى عشرى طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم.
2. أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة.
3. أنها جعلت حكم الحكم الجعفرى الرافضى كحكم الله تعالى، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه.
4. أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة.
_________
(1) المرجع السابق: 3 / 219.
(2) نفس المرجع: 3 /223.
وقال السيد حسين الموسوى: لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ماذا يجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم؟
أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال: فنعم يجب الأخذ بخلاف قولهم، لأن الأخذ بخلاف قولهم. وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم، على افتراض وجود الحق عندهم في تلك المسألة. " كشف الأسرار ص 92 ".(1/714)
فالإمام الصادق أعمق إيماناً، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال، يفترى على الأئمة، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد.
وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتى:
1. جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة، فالمشهور الجعفرى المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة.
ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوى الغير أعدل وأصدق " (1) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه.
صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم: " الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفى حديث، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد، والعلامة المجلسى وغيرهم " (2) فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى: حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثانى، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق. ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية أبوا أن يهدم
_________
(1) فوائد الأصول: 4 / 291 وقال المظفر بعد حديث عن المفاضلة بين المرجحات: " والنتيجة أنه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجحات على الآخر، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها " (أصول الفقه 3 /227) .
(2) ص 227 من الكتاب المذكور وهو ينقل هذا عن ضال مثله ثم أخذ يؤيده، راجع ما ذكرناه عن هذا الكتاب في الجزء السابق.(1/715)
الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق. فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفرى لتقويض البناء الإسلامى.
2. جعلوا من المرجحات مخالفة العامة، أى عامة المسلمين، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهى مستندهم الوحيد، وهى التي تزعم أن الإمام الصادق قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة ـ– سحيقة عميقة ـ– فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامى الصحيح، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض " (1) .
والحمل على التقية هنا يعنى أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون: " الذى يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية، والذى يكون مرجحاً، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية " (2) .
وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام: فيقولون: " بأن الرشد في خلافهم، وأن قولهم في المسائل مبنى على مخالفة أمير المؤمنين رضي الله عنه فيما يسمعونه منه " (3) .
ثم يقولون: " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه:
_________
(1) الحاشية على الكفاية 2 / 203.
(2) فوائد الأصول 4 / 293.
(3) الحاشية على الكفاية 2 / 190.(1/716)