المختصر المفيد
في بيان شروط كلمة التوحيد
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً ... أما بعد
هذا بيان مختصر مفيد لشروط كلمة التوحيد، وقد سبقني لهذا الخير كثير من أهل الفضل والعلم، ولم آتي بشيء جديد إلا أنني اختصرت الكلام تبياناً وتوضيحاً، والله وحده أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجه الكريم، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن، وعلى كل من سار على هديه إلى يوم الدين.
العلم المنافي للجهل:
قال تعالى: ^وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ% (1)
وهذا يدل على أن شهادة أن لا إله إلا الله التي هي شهادة الحق لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، ومعناها نفي الألوهية عن غير الله عز وجل، وإثباتها له وحده لا شريك له، ومعناها الكفر والبراءة من كل ما يعبد من دون الله عز وجل، وإفراد الله وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادة، إذ أن العبادة لا تقتصر على الصلاة والزكاة والصوم والحج بل هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقول الظاهرة والباطنة مثل: التوكل، والمحبة، والإستغاثة، والخشوع، والرهبة، والرغبة والخشية، والإنابة، والإستعانة، والذبح ، والنذر، والإتباع، والطاعة، والتحاكم، وغير من الأقول والأفعال التي يحبها الله ويرضاها.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى هذه الآية: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. (2)
__________
(1) سورة الزخرف: 86.
(2) تفسير ابن كثير: 7/243.(1/1)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان ، وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع . (1)
قال تعالى: ^فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ...%. (2)
قال البقاعي رحمه الله: فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهي حجة عليه بلا ريب . (3)
قال الوزير: أبو المظفر، في الإفصاح، قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي: أن يكون الشاهد، عالماً بأنه لا إله إلا الله؛ كما قال تعالى: ^فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ...%. (4)
وقال عبد الرحمن بن حسن: فأفرض الفرائض: معرفة معنى هذه الكلمة؛ ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها؛ فالإله، هو المعبود؛ والتأله التعبد، ومعناها: لا معبود إلا الله؛ نفت الإلهية عمن سوى الله. (5)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. (6)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً إذا شهد أن لا إله إلا الله فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحد في تألهه، ومحبنه له، وعبوديته، وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب، وبغضه ما يبغض، ويفنى بحق التوحيد عن الباطل، ويفنى من قلبه عن تأله ما سواه بتأله الله تحقيقا لوقول: لا إله إلا الله فيفني ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويبقى في قلبه تأله الله وحده.
__________
(1) فتح المجيد: 41.
(2) سورة محمد: 19.
(3) فتح المجيد: 38.
(4) الدرر السنية: 3/213.
(5) الدرر السنية" 3/307.
(6) أخرجه مسلم/ 38، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.(1/2)
قلت: دل هذا الحديث بيقين على أن من قالها ولم يعلم معناها، ولم يعمل بمقتضاها من إخلاص العبادة لله وحده لا شرك، والبراءة من الشرك، فهو جاهل للتوحيد، وفاقده بنفس الوقت، إذ أن الجنة لا يدخلها المشركون، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة كما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإخلاص المنافي للشرك:
وقد توافرت الأدلة من الكتاب والسنّة على اشتراط الإخلاص للأقوال والأعمال الدينية، وأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وحده لا شريك، وابتغي به وجه.
قال: تعالى: ^ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ %. (1)
وقال تعالى: ^وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ%. (2)
وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ. (3)
وفي الصحيحين عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ فَقَالَ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ. (4)
__________
(1) الزمر: 11.
(2) سورة البينة: 5.
(3) أخرجه البخاري/ 6201.
(4) أخرجه مسلم/93.(1/3)
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً في كل حال، وفي كل شرع، فعلى العبد أن يعبد الله مخلصاً لد الدين ويدعوه مخلصاً له لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل " لا إله إلا الله" فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (1) ...الحديث. فلا ينجو من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادتهودعاه مخلصاً له الدين، ولم لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالا من المشرك، فلا بد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد البته، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره. (2)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي روح الله روحه إلى الجنة: إن العبادة التي شرعها الله تعالى كلها، تتضمن إخلاص الدين كله لله، تحقيقاً لقوله تعالى: ^وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ% فإن دين الإسلام، هو: دين الله، الذي أمر به الأولين والآخرين، كما قال تعالى ^بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ% (3) وفسر إسلام الوجه، بما يقتضى الإخلاص؛ والإحسان: العمل الصالح، المأمور به؛ وهذان الأصلان: جماع الدين؛ لا نعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع، بل بما شرع، كما قال تعالى: ^فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا% (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري/ 7201، ومسلم/ 30.
(2) مجموع الفتاوى: 14/476.
(3) البقرة: 112.
(4) الدرر السنية: 3/54.(1/4)
وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: دين الإسلام مبني على أصلين وهما: تحقيق شهادة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلهاً آخر فلا تحب مخلوقاً كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سوى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلهاً آخر، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات... والأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسن رسله لا نعبده إلا بواجب أو مستحب والمباح إذا قصد به الطاعةدخل في ذلك والدعاء من جملة العبادات، فمن دعا المخلوقين من الموتى، والغائبين، واستغاث بهم –مع ان هذا لم يامر به الله ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب- كان مبتدعاً في الدين مشركاً برب العالمين متبعاً غير سبيل المؤمنين.أهـ (1)
قال ابن القيم رحمه الله: تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟" قال: "أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة: هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 1/310.(1/5)
ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا: أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من ولاهم والهم ولم يعلموا أن الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى: ^مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ% (1) ، ^وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى% (2) وبقي أن الله لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين كما قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟". (3)
قلت: أنظر رحمني الله وإياك أن النجاة لا تحقق إلا بهذين الأصلين، أن نعبد الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين، والكفر بكل ما عبد من دونه، والأصل الثاني: أن نعبده تعالى ذكره بما شرع على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نعبده بالبدع والأهواء التي شرعها لهم الشياطين على لسان الطواغيت وأذنابهم.
اليقين المنافي للشك:
ومعنى ذلك أن أن تستقين يقيناً جازماً لا ريب فيه بمقتضى ومعنى كلمة التوحيد، لأنها لا تقبل ظناً ولا ريباً ولا تردداً، فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين فلا بد من فهم معناها، والإخلاص لها، ولا بد من انتفاء الشك وحصول اليقين الجازم بها وبما تقتضيه.
قال تعالى: ^إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ%. (4) وهذا مدح من الله تعالى لعباده الصادقين أنهم لم يرتابوا، وذم الله المنافقين بقوله تعالى ذكره: ^وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ%. (5)
__________
(1) البقرة: 255.
(2) الأنبياء: 28.
(3) مدارج الساليكن: 1/225.
(4) الحجرات: 15.
(5) التوبة: 45.(1/6)
وقال تعالى: ^وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ% (1)
هم شكّوا بدعوة الرسل التي هي إفراد الله بالعبادة "توحيد الأولوهية"، وذلك استوجب كفرهم، مع أهم كانوا يؤمنون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت " توحيد الربوبية" ، قال تعالى: ^وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ% (2) ، فهم لم يشكوا بالله عز وجل بهل هم شكوا بدعوة رسله، فكذبوهم وكانوا بذلك كافرين.
ثبت في صحيح مسلم عليه رحمة الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه: مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فبَشَّرْهُ بِالْجَنَّةِ. (3)
وفي مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ. (4)
__________
(1) ابراهيم: 9 و 10.
(2) الزخرف: 87.
(3) أخرجه مسلم/ 46.
(4) أخرجه مسلم/ 40.(1/7)
قال الشيخ عصام البشير المراكشي: ويجدر التنبيه إلى أن الشك المذكور في هذه الأحاديث، والذي هو ناقض لركن التصديق القلبي إنما هو التردد المستقر في القلب، وهذا من سيما المنافقين، كما قال تعالى: ^إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ% (1) . أما بعض الوساوس التي يلقيها الشيطان لابن آدم ليزعزعه عن إيقانه، ويشككه في مسلمات دينه، فليست - إن شاء الله تعالى - مما يضر بالإيمان إذا تصدى لها المرء بالعلاج النبوي الناجع، وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ. « وفي رواية: » فليقل: آمنت بالله . (2)
الصدق المنافي للكذب:
ومعنى ذلك الصدق في قول لا إله الا الله صدقاً منافياً للكذب، بحيث يوافق قلبه لسانه، لأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار: ^يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ% (3) ،
قال تعالى: ^الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ%. (4)
وثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ (5) .
__________
(1) التوبة/ 45.
(2) شرح منظومة الإيمان: 34.
(3) الفتح: 11.
(4) العنكبوت1-3.
(5) أخرجه البخاري/ 125.(1/8)
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَبْشِرُوا وَبَشِّرُوا مَنْ وَرَاءَكُمْ ، أَنَّهُ مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ صَادِقًا بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. (1)
وقد اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضمام بن ثعبله بعد ان علمه الفرائض قال صلى الله عليه وسلم: دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ. (2)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن عليه رحمة الله: فالصادق: يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله، ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، فيصدق قلبه لسانه، فلا تصح هذه الكلمة، إلا إذا اجتمعت هذه الشروط. (3)
المحبة المنافية للبغض والكره:
فلا بد أن يكون قائلها محبًا لله غاية المحبة، وأن يكون الله عز وجل محبوبا لذاته وحده لا شريك له، ويحب المؤمنين الموحدين حبا له وفيه تبارك وتعالى، فمن مقتضيات محبة الله، محبة ما يحبه الله، وكره وبغض ما يبغضة الله عز وجل ويكرهه.
قال الملك تبارك وتعالى: ^وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ%. (4)
__________
(1) أخرجه أحمد/ 19826.
(2) البخاري/ 44، ومسلم/ 11.
(3) الدرر السنية: 3/252
(4) البقرة: 165.(1/9)
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته ^ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا% (1) ، فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة . (2)
قال ابن القيم عليه رحمة الله: فمن أحب من دون الله شيئاً، كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند. (3)
قلت: من أحب مخلوقاً لذاته يوالي فيه ويعادي فيه فقد اتخذه نداً من دون الله عز وجل، وعدل به الله عز وجل.
قال تعالى: ^تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ% (4) .
والمراد أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق ، والرزق ، وغيرها من مفردات الربوبية ، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة وغيرها من العبادات.
قال ابن كثير: نجعل أمركم مطاعًا كما يطاع أمر رب العالمين، وعبدناكم مع ربِ العالمين. (5)
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. (6)
__________
(1) الأنبياء: 22.
(2) مجموع الفتاوى: 10/267.
(3) انظر : مدارج السالكين 3/20 .
(4) الشعراء: 98.
(5) تفسير ابن كثير: 6/150.
(6) أخرجه البخاري/ 15، ومسلم/ 60.(1/10)
وفي الحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله تعالى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. (1)
وما رواه أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ. (2)
قلت: ومن علامات محبة الله عز وجل اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الملك تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .
قال الحسن: فكانت علامة حبه إياهم اتباعهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. (3)
قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله. (4)
القبول المنافي للرد:
والمراد القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه وعمله ، ورد ما سوى ذلك مما ينافي هذه الكلمة ، خلافا لمكذبي رسل الله الذين أخبر الله عنهم بقوله^ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ% (5) فهم عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدون من دون الله، لهذا من رد دعوة التوحيد ولم يقبل كان كافراً، سواءً كان ذلك الرد بسبب العناد أو الحسد، أو الكبر.
__________
(1) أخرجه أبو داود/4061.
(2) أخرجه أحمد/ 18523.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم/ 3450.
(4) تفسير ابن كثير: 2/32.
(5) الصافات: 36.(1/11)
قال شيخ الإسلام : قد ذكرت فيما تقدم من القواعد : أن " الإسلام " الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه ؛ وأرسل به رسله ؛ وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين ؛ فيستسلم لله وحده لا شريك له ويكون سالما له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه كما بينته أفضل الكلام ورأس الإسلام : وهو شهادة أن لا إله إلا الله . وله ضدان : الكبر والشرك، ولهذا روي : أن نوحا عليه السلام أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك . في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلما له والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركا به فلا يكون سالما له بل يكون له فيه شرك . (1)
وقال رحمه الله: فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده ؛ فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده . فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره. (2)
أما المؤمنون الذي قبلوا هذه الكلمة، وانقادوا لها ولمقتضياتها هؤلاء الذين استحقوا النجاة عند الله تعالى: ^ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ%. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى: 7/623.
(2) مجموع الفتاوى: 1/92.
(3) يونس: 103.(1/12)
فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. (1)
فالذي قبلوا هذه الكلمة وعملوا بمقتضاها هم الذين ينتفعون بما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم.
الإنقياد المنافي للترك:
ومعناه الإنقياد لمقتضيات هذه الكلمة العظيمة إنقياداً تماماً وخضوعاً كاملاً، ويكون ذلك باستسلام العبد لله عز وجل بالتوحيد والأنقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، (2) وترك كل ما يبغضه الله عز وجل ويكرهه.
قال تعالى: ^وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور%ِ. (3)
__________
(1) أخرجه البخاري/ 77.
(2) تعريف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب للإسلام.
(3) لقمان: 22.(1/13)
وقد نفى الله عز وجل الإيمان وأقسم بنفسه تعالى ذكره أنه لا يؤمن العبد حتى ينقاد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: ^فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا%. (1)
وقد نفي نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم الإيمان عن من لم يكون هواه وميوله تبعا لما جاء به فقال الصادق المصدوق بأبي هو وأمي: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به. (2)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكلام الله ورسالته يتظمن إخباره وأوامره فيصدق القلب إخباره تصديقاً يوجب حلاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو نوع من العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الإنقياد والستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين فمن ترك الإنقياد كان مستبكراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً.
ألا ترى أن نفراً من اليهود جاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعه هذا العلم وهذا التصديق، ألا ترى أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً فإنه يحتاج إلى مقام ثان هوتصديق خبر الله، وانقياده لأمر الله، فإذا قال : "أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة تتضمن تصدسق خبره والإنقياد لأمره، "وأشهد أن محمد رسول الله" تضمنت تصديق الرسول بما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار. أهـ
__________
(1) النساء: 65.
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة/ 15، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.(1/14)
قال ابن باز رحمه الله تعالى: وهذا يدل على أن العبادة تقتضي: الانقياد التام لله تعالى، أمرًا ونهيًا واعتقادًا وقولًا وعملًا، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه، ليستوي في هذا الفرد والجماعة، والرجل والمرأة، فلا يكون عابدا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى، وهذا المعنى يؤكده قول الله تعالى: ^فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا% (1) .
قال ابن كثير رحمه الله: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: ^ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا% أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". (2)
الكفر بما يعبد من دون الله:
قال الحق تعالى: ^فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ% (3) .
فالطاغوت هو الشيطان، وكل ما عبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله من أنس وجن، وحجر وشجر شيطان.
قال البغوي: ^فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ% يعني: الشيطان، وقيل كل ما يعبد من دون الله (4) .
__________
(1) النساء/ 65.
(2) ابن كثير: 2/349.
(3) البقرة / 256.
(4) تفسير البغوي للآية.(1/15)
قال ابن كثير: وقوله: ^فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ% أي من خلع الأنداد والأوثان, وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله, ووحد الله فعبده وحده, وشهد أنه لا إله إلا هو ^ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ % (1) ، أي فقد ثبت في أمره, واستقام على الطريق المثلى, والصراط المستقيم) (2) .
قال الطبري: والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له. إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء (3) .
وأخرج الإمام مسلم عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (4) . وفي رواية عند الإمام أحمد: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (5) .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب روح الله روحه إلى الجنة: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع" انتهى.
الإقامة عليها:
__________
(1) البقرة: 256.
(2) تفسير ابن كثير للآية.
(3) تفسير الطبري للآية.
(4) أخرجه مسلم/ 34.
(5) أخرجه أحمد/ 15971.(1/16)
ثم بعد تحقيق هذه الشروط مجتمعة لا بد من الإقامة عليها أولاً ثم الموت عليها، فإنما الأعمال بالخواتيم، فمن مات على ضد هذه الكلمة من الكفر والشرك لم تنفعه، فقد اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بتحقيق هذه الشروط كما بينا في الأحاديث المذكور آنفاً.
قال الملك تبارك وتعالى: ^وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ%. (1)
وقد أمرنا الملك تبارك وتعالى أن نقيم على التوحيد فقال تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (2)
وبين ذلك نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء في الصحيحين عن أبي ذر وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. (3)
فاحرص رحمني الله وإياك على إقامة على الكلمة العظيمة بشروطها، واحذر من كل ما ينافيها، ويضادها، وعض عليها بالنواجذ حتى يدرك الموت وأنت على ذلك، إن شاء الله تعالى.
ربي اغفر لي ولوالدي ولمشايخي ولأصحاب الحقوق علي، وصلي اللهم وبارك على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجميعن، وعلى أهل التوحيد الخالص إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قاسم بن محمد قاسم ضاهر
أبو محمد البقاعي الأثري
__________
(1) البقرة: 217.
(2) آل عمران/ 102.
(3) أخرجه البخاري/ 6933، ومسلم/ 1655.(1/17)