المحنة على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل
تأليف
الإمام الحافظ تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي
المتوفى سنة (600 هـ)
ويليه البرهان في بيان القرآن
ويليه اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرحمن
تحقيق
أحمد فريد المزيدي
دار الكتب العلمية
الطبعة الأولى
1425 هـ - 2004 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم الأوحد الورع الزاهد الثبت الناقد الثقة الحافظ، محيي السنة، وقامع البدعة تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، رحمه الله.
الحمد لله المحمود على كل حال، الدائم بلا زوال، الموصوف بصفاته القديمة من غير مثال، المنزه عن الكيف في العقل والمقال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، شهادة صادق في المقال، يرجو بها خير العاجل والمآل، وصلى الله على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، محمد وآله خير آل، صلاة دائمة من غير انقطاع ولا انفصال.
أما بعد؛ فإن الله عز وجل أكرم قوماً بطاعته، ثم امتحنهم ببليته، ليعظم لهم الحظ الجزيل من كرامته، ويبلغهم بذلك أسنى المراتب من نعمته.
وكان من أعظمهم في ذلك عطية، وأشدهم في دين الله بلية، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه، فإن الله عز وجل ابتلاه ثم صبره، وأقامه لنصرة دينه ويسره، وأعلى ذكره بذلك ونشره، وأجزل له من الثواب وبشره، فسبحان الله الذي أنعم عليه، وقربه لديه، وساق ذلك الفضل العظيم إليه. وقد ذكرنا من ذلك ما تيسر ورويناه، وأثبتناه ودوناه، طلباً للثواب ورجاء المنفعة به، نسأل الله عز وجل أن يجعله لوجهه خالصاً، ولذنوبنا ممحصاً، وأن ينفعنا به وسامعيه والناظرين فيه، إنه سميع قريب مجيب، حسبنا الله ونعم الوكيل.(1/9)
ذكر ابتداء محنة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد
أخبرنا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد البغدادي بقراءتي عليه ببغداد، أخبرنا الإمام أبو الفضل محمد بن ناصر بن علي الحافظ، أخبرنا الحسن بن أحمد البنا، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا عبد الواحد بن علي بن الحسين القاضي، حدثنا أبو الحسن علي بن موسى بن عيسى البزاز، حدثني أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي، قال: كنت يوماً قاعداً على قنطرة التبانين، فإذا أنا برجلين يقدمان رجلاً بدوياً على قعود له، إذ وقفوا علي وقالوا: هو ذا، هو جالس، فقال لي البدوي: أنت أحمد بن حنبل؟ فقلت: لا، أنا صاحبه، اذكر حاجتك، فقال: أريده، فقلت: أدلك عليه، فقال: إي والله، فمضيت بين يديه حتى أتيت باب أبي عبد الله، فدققت الباب، فقالوا: من هذا؟ فقلت: أنا المروذي، فقالوا: ادخل، قلت: أنا ومن معي؟ قالوا: أنت ومن معك، فلما رأى أبا عبد الله، قال الأعرابي: إي والله ثلاث مرات فسلم عليه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك، قال: ويحك ما تقول؟! قال: أنا رجل بدوي بين حيي وبين المدينة أربعون ميلاً، أوفدني أهلي المدينة أمتار لهم براً وتمراً، فأتيت المدينة، فابتعت لهم ما عهدوا إلي من ذلك، فجنني المساء، فصليت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، واضطجعت فبينا أنا نائم إذ أتاني محرك فحركني، وقال لي: أتمضي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة؟ فقلت: إي والله، فقبض بيده اليمنى على ساعدي اليسرى وأتى بي حائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقفني عند رأسه، فقال: يا رسول الله، فسمعت من وراء الحائط قائلاً يقول: أتمضي لنا في حاجة؟ فقلت: إي والله، إي والله، إي والله، فقال: تمضي حتى تأتي بغداد، أو الزوراء الشك من المروذي فإذا أتيت بغداد فسل عن منزل أحمد بن حنبل، فإذا لقيته فقل: النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الله مبتليك ببلية، وممتحنك بمحنة، وقد(1/10)
سألته لك الصبر عليها، فلا تجزع.
قال المروذي: وكان إذا قال له رجل: وحملك يا أبا عبد الله في السوط؟ يقول: قد تقدمت المسألة. قال أبو بكر: وكان بين منصرف الأعرابي وبين المحنة خمسة وعشرون يوماً.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا غالب بن علي، أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان، قال: سمعت أبا القاسم بن صدقة، يقول: سمعت علي بن عبد العزيز الطلحي، يقول: قال لي الربيع: قال لي الشافعي: يا ربيع، خذ كتابي وامض به وسلمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب، قال الربيع: فدخلت بغداد ومعي الكتاب، فلقيت أحمد بن حنبل صلاة الصبح، فصليت معه الفجر، فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب، فقلت له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر، فقال أحمد: نظرت فيه؟ فقلت: لا، فكسر أحمد الخاتم، وقرأ الكتاب فتغرغرت عيناه بالدموع، فقلت له: أي شيء فيه أبا عبد الله؟ فقال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام، وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن، فلا تجبهم يرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت: البشارة، فخلع قميصه الذي يلي جلده، فدفعه إلي فأخذته وخرجت إلى مصر، وأخذت جواب الكتاب وسلمته إلى الشافعي، فقال لي: يا ربيع، أي شيء الذي دفع إليك؟ قلت: القميص الذي يلي جلده. فقال لي الشافعي ((ليس نفجعك به، ولكن بله وادفع إلينا الماء حتى أشركك فيه)).
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا محمد بن ناصر، أنبأنا الحسن بن أحمد، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي (ح)، أنبأنا هبة الله بن أحمد(1/11)
الحريري، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: وجدت في كتاب أبي: حدثنا أبو بكر أحمد بن شاذان، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن سهل العكبري إجازة قال البرمكي: وكتبت من مدرجة أبي إسحاق بن شاقلا وقدم علينا فاستجزت منه قالا: حدثنا أبو القاسم حمزة بن الحسن الهاشمي وكان ثقة حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد النيسابوري، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: كتب على يدي الشافعي كتاباً إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى العراق ولا تقرأه، فأخذت الكتاب وخرجت من مصر حتى قدمت العراق، فوافيت مسجد أحمد بن حنبل، فصادفته يصلي الفجر فصليت معه، وكنت لم أركع السنة، فقمت أركع عقيب الصلاة، فجعل ينظر إلي ملياً حتى عرفني، فلما سلمت من صلاتي سلمت عليه، وأوصلت الكتاب إليه، فجعل يسألني عن الشافعي طويلاً قبل أن ينظر في الكتاب، ثم فضه وقرأه، حتى إذا بلغ موضعاً منه بكى، وقال: أرجو الله تعالى أن يحقق ما قاله الشافعي، قلت: يا أبا عبد الله، أي شيء قد كتب إليك: قال إنه ذكر في كتابه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو يقول: يا ابن إدريس، بشر هذا الفتى أبا عبد الله أحمد بن حنبل أنه سيمتحن في دين الله، ويدعى إلى أن يقول: القرآن مخلوق، فلا يفعل، وأنه سيضرب بالسياط، وأن الله عز وجل ينشر له بذلك علماً لا ينطوي إلى يوم القيامة، فقلت: بشارة فأي شيء جائزتي عليها؟ وكان عليه ثوبان، فنزع أحدهما ودفعه إلي، وكان مما يلي جلده، فأعطاني جواب الكتاب، فخرجت حتى قدمت على الشافعي فأخبرته بما جرى، قال: فأين الثوب؟ قلت: هو ذا، قال: لا نبتاعه منك ولا نستهديك، ولكن اغسله وجئنا بمائه، قال: فغسلته، وحملت ماءه إليه، فتركه في قنينة، فكنت أراه في كل يوم يسمح منه على وجهه تبركاً بأحمد بن حنبل.(1/12)
أخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة، قال: سمعت محمد بن مهران الجمال، يقول: رأيت أحمد بن حنبل في المنام كأن عليه برداً مخططاً أو معيناً، وكأنه بالري يريد المصير إلى الجامع يوم الجمعة، فاستعبرت بعض أهل التعبير، فقال: هذا يشتهر بالخير. قال: فما أتى عليه إلا قريب حتى ورد ما ورد من خبره في المحنة.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حمد بن مفرج بن غياث الأرتاحي بقراءتي عليه بفسطاط مصر، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي في كتابه، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن علي بن الحارث الأسواني، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن عمران المعروف بابن الإمام، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حامد بن محمود بن ثرثال البزار، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري في داره ببغداد وأنا حاضر اسمع حدثنا أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وذكر المحنة، فقال: رأيت في المنام علي بن عاصم فأولت: علي علو، وعاصم عصمة من الله عز وجل، فالحمد لله على ذلك.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم عبيد الله بن أبي علي الحسن بن أحمد ابن أحمد الحداد الأصبهاني بها، أخبرنا الشريف أبو القاسم حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله ابن محمد بن عمر العبدي اللنباني، حدثني نصر، حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا(1/13)
أبو خالد يزيد بن الهيثم، حدثنا عبيد الله القواريري، قال: بلغني عن رجل له حال أنه رأى هذه الرؤيا، فأحببت أن أسمعها منه فبلغه، فجاءني وعندي قوم من أهل الحديث، فسلم علي، فرأيت شيخاً له هيئة، وأشار إلي الذي بلغني عنه: هذا هو صاحب الرؤيا، ووقع الشيخ على رأسي فقبلني، وسمعت صبية لي وهي تقول للنساء: قد جاء الشيخ، ووقع على رأس أبي! وعلى وجهه النور. فأخذ الشيخ بيدي فخلا بي، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً ومعه أحمد ابن نصر، فقال: على ابن فلان لعنة الله ثلاث مرات وعلى فلان وعلى فلان لعنة الله ثلاث مرات فإنهما يكيدان الإسلام وأهله، ويكيدان أحمد بن حنبل والقواريري وليس يصلان إلى شيء منهما إن شاء الله يعني ابن أبي دؤاد ثم قال: أقرئ أحمد والقواريري السلام، وقل لهما: جزاكما الله عني خيراً وعن أمتي.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي، أخبرنا حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد ابن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثني محمد بن علي بن بحر أبو بكر، حدثني أبو نصر فتح بن نصير، قال: سمعت أبا بكر الخفاف، حدثني حسين، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا نبي الله، ما بال أحمد بن حنبل؟ قال: سيأتيك موسى عليه السلام فسله. فإذا أنا بموسى، فسألته، فقال: ابن حنبل بُلي في السراء والضراء فوجد صادقاً، فألحق بالصديقين، فقلت: فما بال بشر؟ فقال: بشر قبض من الأرض وما عبد أتقى منه، فقلت: يا نبي الله، فما بال هؤلاء الذين يتكلمون في القرآن؟ قال: فقال لي: على هؤلاء لعنة الله قال: فسمعت وجبة في الهواء: نعم على هؤلاء لعنة الله.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان البغدادي،(1/14)
المعروف بابن البطي ببغداد، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قال: قرئ على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن خالد الكاتب وأنا أسمع: أخبركم أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن سليمان النخاس، حدثني خالي محمد بن أحمد، حدثنا هارون بن موسى بن زياد إملاء، حدثني محمد بن أبي الورد، قال: سمعت يحيى الجلاء، أو علي بن الموفق قال: ناظرت قوماً من الرافضة أيام المحنة، قال: فنالوني بما أكره، فصرت إلى منزلي وأنا مغموم بذلك، فقدمت لي امرأتي عشائي فقلت لها: لست آكل، فرفعته ونمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم داخل المسجد وفي المسجد حلقتان: حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، والأخرى فيها ابن أبي دؤاد وأصحابه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بين الحلقتين وأشار بيده فقال: {فإن يكفر بها هؤلاء} وأشار بيده إلى حلقة ابن أبي دؤاد وأصحابه، {فقد وكلنا بها قوماً لسوا بها بكافرين} وأشار بيده إلى الحلقة التي فيها أحمد بن حنبل رحمه الله.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة بن العباس بن علي العلوي، حدثنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، حدثنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي المعروف باللنباني، حدثنا أبو العباس الصوفي، قال: كنا يوماً في المسجد الجامع ننتظر السري رحمه الله، وكان في المسجد خلف وأبو بكر الناقد صاحب الحبيبي وابن أخي معروف الكرخي، فقال أبو يوسف ابن أخي معروف: كنت بين النائم واليقظان، فإذا أنا برجل قد دخل علي وعليه جبة صوف بلا كمين، فقلت: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران الذي كلمني الله وما بيني وبينه ترجمان، فبينا أنا كذلك إذ هبط علينا رجل من السقف عليه حلتان، جعد الشعر،(1/15)
فقلت: من هذا؟ فقال لي: هذا عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم قال لي موسى: أنا موسى بن عمران الذي كلمني الله وما بيني وبينه ترجمان، وهذا عيسى ابن مريم، ونبيكم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وأحمد بن حنبل وحملة العرش، وجميع الملائكة يشهدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال خلف: قد قلت لأبي عبد الله هذه المقالة، فقال: أشتهي أن أسمعها من فيه. قال له ابن أخي معروف: غداً أركب حماراً وأمضي إليه.
قال أبو العباس: أنا أقول: الناس من دون أحمد كلهم في ميزان أحمد، كما أن الناس دون أبي بكر في ميزان أبي بكر.
قال: وحدثنا أبو الحسن اللنباني، حدثنا أبو عثمان سعيد بن العباس الخياط، حدثني يعقوب أبو يوسف، ابن أخي معروف الكرخي، قال: بينا أنا نائم دخل علي رجل عليه جبة صوف .. فذكر نحوه.
وحدثنا اللنباني، حدثنا أبو بكر يعني: محمد بن علي بن بحر قال: سمعت أبا عبد الرحمن بن الصباح قال: رأيت في المنام كأني على شيء مرتفع وكأن بين يدي رجلين يتكلمان، إذ سمعت أحدهما يقول لصاحبه: قد أخذ صاحب ابن عمر يمتحن، قال الآخر: لا يجترئون عليه، إذ أقبل رجل من بعيد مخضوب الرأس واللحية، فقال أحدهما لصاحبه: هذا جليس ابن عمر حتى نسأله، فلما دنا الرجل إذا هو أحمد بن حنبل، قال: فالتفت يساري في الموضع المرتفع، فإذا أنا بابن عمر واقف ينفض لحيته وهو مصفر اللحية، فسمعته يقول: أبناء الأنجاس -أو أبناء الأرجاس- ما لهم ولهذا؟ أبو عبد الرحمن يشك ما لهم ولهذا؟ كلامهم في هذا لا يقوون عليه. ثم انتبهت، وقال: رأيت هذه الرؤيا قبل أن أرى أحمد بن حنبل، ثم رأيت أحمد بعد فكان كما رأيته في المنام مستوياً.(1/16)
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الحافظ السلفي بالإسكندرية، أخبرنا أبو محمد عبد الملك بن الحسين البزوغاني، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن محمد القزويني الزاهد، أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس الزاهد، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد الأصبهاني الفزاري الواعظ كان يقص في مسجد ابن البربهاري إملاء في مسجد ابن صاعد بعد المجلس في دار حامد سنة تسع عشرة وثلاثمائة، حدثنا أحمد بن كثير بقزوين عن عبد الله بن حبيق أو قال: سمعت عبد الله بن حبيق يقول: قدم علينا رجل من أهل العراق يقال: إنه من أفاضلهم، فقال يوماً: رأيت رؤيا وقد احتجت أن تدلني على رجل حسن العبارة، قال: فقلت: قل، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنه في فضاء من الأرض وعنده نفر، فقلت لبعضهم: من هذا؟ فقال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت: ما يصنع ههنا؟ قال: ينتظر أمته أن يوافوه، فقلت في منامي: لأقعدن حتى أنظر ما يكون حاله في أمته، فبينا أنا كذلك اجتمع الناس، وإذا مع كل رجل منهم قناة، فظننت أنه يريد أن يبعث بعثاً، قال: فنظر صلى الله عليه وسلم فرأى قناة أطول من تلك القني كلها، فقال: من صاحب القناة؟ قالوا: أحمد بن حنبل، قال: ائتوني به، قال: فجيء به والقناة في يده، فأخذها فهزها ثم ناوله إياها وقال: اذهب فأنت أمير القوم، ثم قال للناس: اتبعوه فإنه أميركم واسمعوا له وأطيعوا. قال الشيخ: فقال ابن حبيق: فقلت: هذه رؤيا لا تحتاج إلى عبارة.
أخبرنا الحافظ أبو العز عبد المغيث بن زهير الحربي البغدادي بها، حدثنا الإمام أبو الحسين محمد بن محمد بن الفراء، قال: أنبأنا الوالد السعيد، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن عبد الله الجبائي بدمشق سنة خمس عشرة وأربعمائة أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل(1/17)
الطرسوسي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عيسى الطرسوسي الحنبلي، حدثني أبو الحسن علي بن السندي، حدثنا محمد بن الحسن بن معاوية، حدثنا أبو شعيب صالح بن عمران الأنصاري، حدثني يعقوب، عن محمد بن إسحاق قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، فرأيت رب العزة، أسمع الكلام وأرى النور، فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: كلامك يا رب العالمين، فقال: من أخبرك؟ فقلت: أحمد بن حنبل، فقال: أحمد ثقة، فدعي بأحمد فقيل له: ما تقول في القرآن؟ قلت: كلامك يا رب العالمين، ومن أين علمت؟ فتصفح أحمد ورقتين فإذا في إحدى الورقتين: شعبة عن المغيرة، وفي الأخرى: عطاء عن ابن عباس، فدعي شعبة، فقال الله [جل وعلا]: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلامك يا رب العالمين، فقال: ومن أين علمت؟ قال: حدثني عطاء عن ابن عباس فلم يدع عطاء ودعي ابن عباس، فقال الله تعالى: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلامك يا رب العالمين، قال: ومن أين علمت؟ قال: أخبرنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الله تعالى: ما تقول في القرآن؟ قال: كلامك يا رب العالمين، قال: ومن أخبرك؟ قال: جبريل عنك. قال الله تعالى: صدقت وصدقوا.
أخبرنا أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد بن عثمان القومساني بهمذان، أخبرنا شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عمر الأخباري، أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الصوفي، حدثنا أبو الحسن الهمذاني بمكة، حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني أبو بكر المروذي قال: حدثني رجل من أهل طرسوس، قال: فكرت ليلة في أحمد بن محمد بن حنبل وصبره على ضرب السوط، وكيف قوي على ذلك مع ضعفه، وبكيت، فرأيت في منامي كأن قائلاً يقول: فكيف لو رأيت الملائكة في السموات وهو يضرب تباهي به الملائكة، قال: قلت: وهل علمت الملائكة بضرب أحمد؟ قال: ما بقي في(1/18)
السموات ملك إلا وأشرف عليه وهو يضرب.
أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور الغساني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ابن ثابت الخطيب، أخبرني علي بن أحمد الرزاز، حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن المهدي، حدثنا أحمد بن محمد الكتاني قال: رأيت أحمد بن حنبل في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي ثم قال: يا أحمد، ضربت في؟ قال: قلت: نعم يا رب. قال: يا أحمد، هذا وجهي فانظر إليه، فقد أبحتك النظر إليه.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الفراء بدرايا، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني الحافظ، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر بن زياد الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن هارون البرذعي قال: قرئ على أبي العباس الطهراني أن سلمة بن شبيب قال: كنت عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فإذا رجل قد جاء، فقال: من منكم أحمد بن حنبل؟ قالوا: هذا، فقال له الرجل: جئتك من بلد بعيد قد قطعت برها وبحرها، ولولا أنه قيل لي: قل له شيئاً. ما جئت، إن الله قد باهى بضربك ملائكة السماء، فقال أحمد: اللهم غفراً.
أخبرنا أبو رشيد حبيب بن إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني في كتابه، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن المقدسي، أخبرنا أحمد بن عبد الله ابن أحمد الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الرازي في كتابه، قال: سمعت أبا القاسم أحمد بن محمد السائح، حدثني أبو عبد الله محمد بن خزيمة(1/19)
بالإسكندرية، قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فبت من ليلتي فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله، أي مشية هذه؟ قال: مشية الخدام في دار السلام، قال: فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي: يا أحمد، هذا بقولك: القرآن كلامي، ثم قال: يا أحمد، ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري [كنت تدعو بها في الحياة الدنيا]. قال: قلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء، لا تسألني عن شيء، اغفر لي كل شيء، فقال لي: يا أحمد، هذه الجنة، فقم ادخل إليها. فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، وهو يقول: {الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}. قال: فقلت: ما فعل عبد الوهاب الوراق؟ قال: تركته في بحر من نور في زلالة من نور، يزور به الملك الغفور. فقلت: ما فعل بشر؟ فقال لي: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الجليل، وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل جل جلاله مقبل عليه، وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم.
قلت: وقد رويت هذه الدعوات عن سفيان بصفة أخرى حسنة.
أخبرنا أبو طاهر السلفي بقراءتي عليه بالإسكندرية، أخبرنا أبو محمد عبد الملك بن الحسين البزوغاني الحربي ببغداد، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر ابن محمد الزاهد القزويني، أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس الزاهد، أخبرنا أبو الحسين عبد الله بن جعفر بن شاذان، إملاء من لفظه، حدثني أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن سهل، مولى عمر بن عبد العزيز، حدثني عبد الله بن محمد البلوي الأنصاري، قال: قال لي عبد الرحمن ابن مهدي: رأيت سفيان الثوري في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر(1/20)
لي، قلت: بالعلم؟ قال: لا، كاد العلم أن يرديني لأني ما عملت به كله، أوقفني بين يديه فقال لي عز وجل: يا سفيان، كنت تدعوني بدعاء فأعده علي، قال: كنت أقول: يا من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال: كذا أنا، قلت: هب لي كل شيء، ولا تسألني عن شيء، قال: قد فعلت، انطلقوا به إلى الجنة، فقالت الملائكة الذين معي: يا سفيان، هل رأيت في الدنيا شيئاً أنكرته لله عز وجل، قال: إي وعزة ربي، فقالوا لأهل الجنة: جاءكم سفيان فانثروا عليه الدر، فنثر أهل الجنة علي.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان، وأحمد بن محمد بن أحمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسن بن زكريا الطريثيثي، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، حدثنا محمد بن أحمد بن سهل، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزني، حدثنا أبو نصر الليث بن محمد المروزي، حدثنا علي بن محمد المديني، حدثنا عبد الله بن سعيد المروزي، قال: سمعت أحمد بن محمد يعني المروذي صاحب أحمد بن حنبل قال: رأيت أحمد بن محمد بن حنبل في يوم وعليه حلتان خضراوان، وفي رجليه نعلان شراكهما من المرجان، وعلى رأسه تاج مكلل بأنواع الجوهر، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وتوجني وكساني، وقال لي: يا أبا عبد الله، إنما أعطيتك هذا بمقالتك: القرآن غير مخلوق.
أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصفهاني، أخبرنا أبو محمد عبد الملك بن الحسين البزوغاني، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد، أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الأصبهاني المؤدب المعروف بابن صديق بعد مجلس الرزاز في جامع المدينة قراءة سمعته من لفظه، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إبراهيم، حدثنا عزرة بن عبد الله بن يعقوب،(1/21)
عن طالوت بن لقمان قال: سمعت زكريا بن يحيى يقول: رأيت أحمد بن حنبل رحمه الله في المنام وعلى رأسه تاج مرصع بالجوهر، وفي رجليه نعلان يخطر بهما، قال: فقلت: يا أبا عبد الله، ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدناني من نفسه، وتوجني بيده بهذا التاج، وقال: هذا بقولك: القرآن كلام الله غير مخلوق، قال: فقلت: ما هذه الخطرة التي لم أعرفها لك في دار الدنيا؟ قال: هذه مشية الخدام في دار السلام.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الدمشقي بداريا، حدثنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي الكتاني الحافظ بدمشق، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر ابن أحمد بن زياد الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي - سنة أربع وستين وثلاثمائة، حدثنا أبو عمرو الدقاق، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: أنا أحب بني شيبان من أجل أحمد بن حنبل.
وبه: قال البرذعي: سمعت أبا الفضل بن العباس بن عبد الله القاضي الأهوازي يقول: ذكر أحمد بن حنبل عند سهل بن عبد الله، فقال سهل: كان أحمد بن حنبل سهماً من سهام الله، أهلك الله به أهل الزيغ والضلالة.
أخبرنا الشيخ الصالح أبو محمد عبد الواحد بن الحسين بن عبد الواحد البارزي البغدادي ببغداد، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي، حدثنا القاضي أبو القاسم الحسن بن الحسن بن المنذر، حدثنا أحمد بن سلمان النجاد، قال: سمعت هلال بن العلاء يقول: من الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس، وبالشافعي تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويحيى بن معين نفى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبأبي عبيد القاسم بن سلام، فسر الغريب من(1/22)
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ.
أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور الغساني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن إبراهيم الخفاف، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الصوفي الواسطي في مجلس ابن القطيعي، قال: حدث أبو يعلى الموصلي وأنا أسمع، قال: سمعت علي بن المديني يقول: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.
أخبرنا علي بن إبراهيم بن نجا الأنصاري، أخبرنا علي بن أحمد الغساني، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، قال: حدثت عن عبد العزيز بن جعفر، قال: سمعت أبا بكر الخلال يقول: حدثني الميموني، قال: سمعت علي ابن المديني يقول: ما قام أحد بأمر الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل، قال: قلت: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق؛ لأن أبا بكر كان له أعوان وأصحاب.
أخبرنا علي بن إبراهيم، أخبرنا علي بن أحمد الغساني، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرني عبد الغفار المؤدب، حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، حدثني محمد ابن إبراهيم الحربي، حدثنا محمد بن علي بن شعيب، قال: سمعت أبي يقول: كان أحمد بن حنبل بالذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل، حتى إن المنشار ليوضع على فرق رأسه ما يصرفه ذلك عن دينه)). ولولا أحمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عاراً علينا إلى يوم(1/23)
القيامة، أن قوماً سبكوا فلم يخرج منهم أحد.
أخبرنا علي، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا علي بن محمد بن الحسن المالكي، حدثنا عمر بن أحمد بن هارون المقرئ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد، حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الحنين قال: سمعت إسماعيل بن خليل يقول: لو كان أحمد بن حنبل في بني إسرائيل لكان آية.
أخبرنا أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد بن عثمان القومساني بهمذان، أخبرنا الحافظ أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي، أخبرنا أبو العلاء محمد بن طاهر العابد، أخبرنا محمد بن الفضل، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني عمر بن إبراهيم بن يحيى، حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن القاسم، قال: سمعت أحمد بن محمد المروذي، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: خرجت مع أحمد بن حنبل في آخر حجته التي حج فيها، فلما أن صرنا على عقبة المدينة فإذا نحن بشيخ يحمل في محفة، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر قد شدها بعصابة، وإذا حوله مشيخة وشباب، وقائل يقول: أيكم أحمد بن حنبل؟ فأومأ الناس بأيديهم إلى أحمد، فأقبل الرجل حتى وقف بين يديه، فقال: أنت أحمد بن محمد بن حنبل؟ قال له: كذلك تزعم أمي، قال له: أتعرفني؟ قال: اللهم لا، قال: أنا من ولد عبيد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رأيت البارحة النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في المنام، وكانوا قد عبروا على جسر بغداد، فسقط رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شقه الأيمن، فأقبلت أنت يا أحمد فشلت الرداء حتى وضعته على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم : فالتفت إليك النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا لك: أبشر، فإنك غداً رفيقنا في(1/24)
الجنة. فقال شيخ ممن حضر في ذلك مع أحمد بن حنبل: إن الرداء الذي رده أحمد على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يردها أحمد على الناس، قال: فكان أحمد إذا ذكر هذا الحديث نكت بإصبعه الأرض، ثم قال: وددت لو أن الجبل ساخ بي أو سار بي ولم أسمع من هذا الكلام. كل ذلك لئلا يتكل أحمد على شيء من القول.
أخبرنا أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل القومساني، أخبرنا أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي، أخبرنا محمد بن الحسن الواعظ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد الجريجي بها، حدثنا محمد بن عبد الرزاق الكشميهني، أخبرنا الحسين بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان، حدثنا عبد الله بن موسى بن الحسين البغدادي، حدثنا الحسن بن إبراهيم بن عبد المجيد البغدادي، قال: سمعت أحمد بن محمد بن عبد الجبار السلمي، سمعت محمد بن سعيد الحربي، يقول: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، فبينا أنا أدور في عرصاتها فرأيت منبراً منصوباً وفوقه رجل يثني على الله عز وجل أحسن الثناء، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا منصور بن عمار أمره الله عز وجل أن يثني عليه بين أهل الجنة كما أثنى عليه بين أهل الدنيا. ثم جزت فرأيت رجلاً بين يديه مائدة، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا معروف الكرخي، جوعه الله في الدنيا فقد أُبيح له الأكل في الآخرة. قال: فرأيت رجلاً شاخصاً بعينيه إلى السماء، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا بشر بن الحارث المروزي، مات اشتياقاً إلى الله عز وجل فقد أبيح له النظر إليه. ورأيت رجلاً بيده مفاتيح، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا أحمد بن محمد بن حنبل، الساعة بايع الله عز وجل على أن يقف على باب الجنة، فيدخل أهل السنة ويمنع أهل البدعة.
أخبرنا عبد الرزاق بن إسماعيل، أخبرنا أبو شجاع شيرويه بن شهردار ابن شيرويه، أخبرنا أبو جعفر محمد بن الحسن يزدانيار السعدي بفورجرد،(1/25)
حدثني أبو بكر محمد بن سعيد التنوري، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن أحمد، قال: سمعت أحمد بن عبدوس بن صالح يقول: سمعت إبراهيم الرماني يقول: سمعت علي بن الموفق يقول: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ورأيت أني على باب الجنة، ورجل آخر يتصفح وجوه الناس فيأخذ بيد بعضهم فيدخلهم الجنة، فدنوت من رضوان خازن الجنة، وقلت له: يا رضوان، من هذا الرجل؟ فقال: هو أحمد بن حنبل، قام في عباد الله بأمر الله وبالسنة، فقد شفعه الله فيمن تابعه على الحق.
أنشدنا أبو طاهر السلفي هذه الأبيات أو غالبها، وما لم نسمعه منه إجازة لنا منه قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن أبي المظفر الأبيوردي بهمذان لنفسه.
سقى الأوطف الساري ضريح ابن حنبل ... ورف به روض من الروض أغيد
ففيه النهى والعلم والحلم والتقى ... وتحت صفيح القبر مجد وسؤدد
أعيد به الإسلام غضاً فلم يزل ... يرفع من بنيانه ويشيد
ولم يثنه عن نصرة الدين موطن ... به الدم يجريه الحسام المهند
وما الردة الأولى وقد فل غربها ... عتيق وبيض الهند في الهام تغمد
بأدهى من الأخرى التي شب نارها ... وقد كاد أنوار الشريعة تخمد
رمى أحمد الغاوي بها فرقة الهدى ... فأطفأها شيخ الأئمة أحمد
فغضبته لله أودت ببدعة ... لو انتشرت فيهم لما كان يعبد
وقوم درء الملحدين بحجة ... يقوم لها الجهمي طوراً ويقعد
هو الربعي المحض ليس يغبه ... من المضريين الثناء المخلد
ذكر أول ما دعا المأمون
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد(1/26)
ابن علي بن ثابت، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل الصيرفي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أخبرني الحسن بن شاذان، حدثني ابن عرعرة، حدثني ابن أكثم، قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يكون يُتقى؟ فقال: ويحك! إني أخاف إن أظهرته فيرد علي فيختلف الناس، فتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة. قال: فقال الرجل: فأنا أخبر ذلك منه؛ فقال: نعم، فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد فدخل عليه المسجد وجلس إليه، فقال له: يا أبا خالد، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول لك: إني أريد أن أُظهر أن القرآن مخلوق، قال: فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه، فإن كنت صادقاً فاقعد إلى المجلس، فإذا اجتمع الناس فقل. فلما كان الغد واجتمع الناس فقام، فقال: يا أبا خالد رضي الله عنك إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: إني أردت أن أُظهر أن القرآن مخلوق، فما عندك في ذلك؟ فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه، وما لم يقل به أحد.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث الأرتاحي بقراءتي عليه بفسطاط مصر، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي في كتابه، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن علي بن الحارث الأسواني، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن عمران المعروف بابن الإمام، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حامد بن محمود بن ثرثال البزار، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري في داره ببغداد وأنا حاضر أسمع حدثنا أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل،(1/27)
وذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا، فذكرهم أبو عبد الله بعد ذلك فقال: هؤلاء لو كانوا صبروا وقاموا لله لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل يعني المأمون ولكن لما أجابوا وهم عين البلد اجترأ على غيرهم. وكان أبو عبد الله إذا ذكرهم اغتم لذلك ويقول: هم أول من ثلم هذه الثلمة وأفسد هذا الأمر.
قال أبو علي حنبل: وكان أول من حمل للمحنة هؤلاء السبعة، جاء كتاب المأمون في أمرهم أن يحملوا إليه ولم يمتحنوا ههنا، وإنما أخرجهم إليه فأجابوه بالرق، وكانوا: يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد ابن إبراهيم الدورقي، وإسماعيل الجوزي، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس المستملي، وابن أبي مسعود. فحضرتهم حين أخرجوا إلى الرقة في الخان بباب الأنبار، فأخرجوا جميعاً فأجابوا وأطلقوا، قال: ثم ورد كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بإحضار أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد سجادة، ومحمد بن نوح بن ميمون، وأن يمتحنهم، فوجه إليهم إسحاق، فأخذهم وأنا بالكوفة عند أبي نعيم، فقدمت بعد ذلك فأخبرني أبي بعد قدومي أن أبا عبد الله أتاه صاحب الريع وقت غروب الشمس فذهب به، قال أبي: فذهبت معه فقال: إذا كان غداً فاحضر دار الأمير، قال أبي: فقلت لأبي عبد الله: لو تواريت، فقال: كيف أتوارى؟ إن تواريت لم آمن عليك وعلى ولدي وولدك، ويلقى الناس بسببي المكروه، ولكني أنظر ما يكون، فلما كان من الغد حضر أبو عبد الله والمسمون معه فأدخلوا إلى إسحاق فامتحنهم، فأبى أبو عبد الله والقوم أن يجيبوا جميعاً، فسمعت أبا عبد الله يقول بعد ما أخرج من الحبس: لما أدخلنا على إسحاق بن إبراهيم قرأ علينا كتاب الرجل -يعني المأمون- الكتاب الذي كتب به إلى إسحاق تسمية رجل رجل بنسبه وبلقبه، وكان فيه: أما أحمد فذاك الصبي، وأما ابن نوح فماله ولهذا؟!، عليه(1/28)
بالغيبة، وأما فلان فالآكل أموال اليتامى، وأما فلان فكذا، وفلان فكذا، يسمي رجلاً رجلاً. قال أبو عبيد الله: وكان في الكتاب: اقرأ عليهم: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} قال عبد الله: فلما قرأ: {ليس كمثله شيءٌ}، قلت: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} فقال إسحاق: ما أردت بهذا؟ فقلت: كتاب الله عز وجل، ولم أزد في كتابه شيئاً كما قال ووصف تبارك وتعالى. ثم امتحن القوم، فمن لم يجبه وامتنع عليه أمر بحبسه وتقييده، فلما كان بعد ذلك دعا بالقواريري وسجادة، فأجابا وخلى عنهما، وكان أبو عبد الله بعد ذلك يعذر القواريري وسجادة، يقول: قد أعذرا وحبسا وقيدا، وقال الله عز وجل: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ثم قال: القيد كره والحبس كره.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد بن أبي نصر الأصبهاني المعروف بآموسان الواعظ بأصبهان، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل ابن أحمد العنبري، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الحافظ، أخبرنا أبو مسلم محمد بن إسماعيل بن أحمد المديني، حدثنا صالح بن أحمد، قال: سمعت أبي رحمه الله يقول: لما أدخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة، قرئ علينا كتاب الذي كان صار إلى طرسوس، فكان فيما قرئ علينا: ليس كمثله شيء، وهو خالق كل شيء، فقلت: وهو السميع البصير، فقال بعض من حضر: سله ما أراد بقوله: وهو السميع؟ فقال أبي: فقلت: هو كما قال تبارك وتعالى.
قال أبو الفضل: ثم امتحن القوم، فوجه بمن امتنع إلى الحبس، فأجاب القوم جميعاً غير أربعة: أبي، ومحمد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري،(1/29)
والحسن بن حماد سجادة، ثم أجاب عبيد الله بن عمر، والحسن بن حماد، وبقي أبي، ومحمد بن نوح في الحبس، فمكثا أياماً في الحبس، ثم ورد الكتاب من طرسوس بحملهما، فحمل أبي ومحمد بن نوح رحمهما الله مقيدين زميلين، وأخرجا من بغداد فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحول أبي، فقال: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السيف، تجيب؟ فقال: لا، قال أبي: فانطلق بنا حتى نزلنا الرحبة، فلما رحلنا منها وذلك في جوف الليل وخرجنا من الرحبة، عرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فسلم علي ثم قال لي: يا هذا، ما عليك أن تقتل ههنا، وتدخل الجنة ههنا، ثم سلم وانصرف، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر.
فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها -وذلك في جوف الليل- فتح لنا بابها، ولقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل، فقال: البشرى! قد مات الرجل، فقال أبي: فكنت أدعو الله أن لا أراه.
فحدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا معمر بن سليمان، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين سمعك لذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، [ولا تدخل على امرأة، ولو قلت: أعلمها كتاب الله].
قال أبو الفضل: فصار أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس، وجاء نعي المأمون من البذندون، فردا في أقيادهما إلى الرقة، وأخرجا من الرقة في السفينة مع قوم محبسين، فلما صارا بعانات توفي محمد بن نوح رحمه الله فتقدم أبي(1/30)
فصلى عليه، ثم صار أبي إلى بغداد وهو مقيد، فمكث بالياسرية أياماً ثم صير إلى الحبس في دار اكتريت عند دار عمارة، ثم نقل بعد ذلك إلى حبس العامة في درب الموصلية. فمكث في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهراً.
قال أبي: فكنت أصلي بهم وأنا مقيد.
وقال أبي: إذا كان القيد لا يحجز عن تمام الصلاة فلا بأس. وكنت أرى فوران يحمل إليه في دورق ماء بارداً فيذهب به إلى السجن.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا محمد بن ناصر، أنبأنا أحمد بن أبي سعيد النيسابوري، قال: سمعت عبد الله بن يوسف، يقول: سمعت أبا العباس الأصم يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري، يقول: سمعت أبا جعفر الأنباري، يقول لما حمل أحمد بن حنبل إلى المأمون، اجتزت فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر، تعنيت. فقلت: ليس في هذا عناء وقلت له: يا هذا، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى القول بخلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا إن الرجل إن لم يقتلك فأنت تموت ولا بد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله، ثم قال لي أحمد: يا أبا جعفر، أعد علي ما قلت: فأعدت عليه، فقال: ما شاء الله، ما شاء الله.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد ببغداد، وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي ببغداد، أخبرنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر، وأبو طالب عبد القادر بن محمد، قالوا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن(1/31)
ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري عن بعض أصحابه، قال: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة كانت أوقع في قلبي من كلمة سمعتها من أعرابي في رحبة طوق، وقال لي: يا أحمد، إن قتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً؟ قال أبي. فكان كما قال، لقد رفع الله شأن أحمد بعدما أمتحن، وعظم عند الناس وارتفع أمره جداً.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف، وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي ببغداد، أخبرنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر، وأبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، قالوا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن عمر بن أحمد، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبي، قال: قال إبراهيم بن الحارث العبادي من ولد عبادة بن الصامت، وكان رافقنا في بلاد الروم: حضر أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، أبو محمد الطفاوي، فذكر له حديثاً، فقال أبو عبد الله: أخبرك بنظير هذا، لما أخرجنا جعلت أفكر فيما نحن فيه، حتى إذا صرنا إلى الرحبة أنزلنا خارجاً من البيوت مما يلي البرية، فعامة من كان معنا ناموا، فجعلت أفكر في تلك البرية وماذا أقول إذا صرت إلى ذلك، فأنا في تلك الحال إذ مددت بصري إذا بشيء لم أستبنه، فلم يزل يدنو حتى استبان، فإذا بأعرابي عليه ثياب الأعراب قد دنا، وجعل يتخطى تلك المحامل حتى صار إلي، فوقف علي فسلم ثم قال: أنت أحمد بن حنبل؟ فسكت تعجباً، ثم قال الثانية: أنت أحمد بن حنبل؟ فسكت فلم أجبه، فبرك على ركبتيه وقال: أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل؟ قلت: نعم، فقال: أبشر واصبر، فإنما هي ضربة ههنا، وتدخل الجنة هنا.
وزادني بعض أصحابنا أنه قال له الأعرابي: تحب الله؟ قال أبو عبد الله(1/32)
قلت: نعم، قال: فإنك إن أحببت الله أحببت لقاءه. ثم مضى فلم أزل أنظر إليه حتى غاب فلم أره، قال له أبو محمد الطفاوي: أحمد الله يا أبا عبد الله، فإنك محمود عند العامة، فقال أبو عبد الله: أحمد الله على ديني، إنما هذا دين، ولو قلت لهم، كفرت. فقال أبو محمد: أخبرني يا أبا عبد الله عما صنعوا بك، قال: لما ضربت بالسياط جعلت أذكر كلام الأعرابي وأنا أضرب، ثم جاء ذلك الطويل اللحية يعني عجيفاً فضربني بقائم السيف، ثم جاء ذلك يعني أبا إسحاق فقلت: قد جاء الفرج، يضرب عنقي فأستريح، فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال له ابن أبي دؤاد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك، قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إماماً وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإن مات خارجاً من منزلك شك الناس في أمره، وقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يجب، فيكون الناس في شك من أمره. قال أبو محمد الطفاوي: وما عليك لو قلت؟! قال: لو قلت لكفرت.
أخبرنا محمد بن حمد بن حامد، أخبرنا علي بن الحسين الموصلي في كتابه، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن علي بن الحارث الأسواني، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن عمران المعروف بابن الإمام، أخبرنا عبد الله بن حامد ابن محمود بن ثرثال البزار، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري ببغداد -وأنا حاضر أسمع- حدثنا أبو علي حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ما رأيت أحداً على حداثة سنه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير، قال لي ذلك يوم وأنا معه جالس: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي ولست مثلك، إن الله ابتلاني فأجبت، فلا يقاس بي، فإنك لست مثلي ولست مثلك، أنت رجل يقتدى بك، وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله أو نحو هذا من(1/33)
الكلام قال أبو عبد الله: فتعجبت من تقويته ومن موعظته إياي. ثم قال أبو عبد الله: وانظر بما ختم له؛ فلم يزل كذلك ومرض حتى صار إلى بعض الطريق فمات. قال أبو عبد الله: فصليت عليه ودفنته -أظن أبا عبد الله- قال: بعانة.
وسمعت أبا عبد الله يقول: كنت أدعو الله أن لا يريني وجهه يعني المأمون وذلك أنه بلغني عنه أنه يقول: لئن وقعت عيني عليه لأقطعنه إرباً إرباً. قال أبو عبد الله: فكنت أدعو الله أن لا يريني وجهه، فلما دخلنا طرسوس أقمنا أياماً وأنا في ذلك، إذا رجل قد دخل علينا، فقال لي: يا أبا عبد الله، قد مات الرجل، فحمدت الله تعالى، وكنت على ذلك أتوقع الفرج، إذ دخل علينا رجل فقال: إنه قد صار مع أبي إسحاق يعني المعتصم رجل يقال له: ابن أبي دؤاد، وقد أمر بإحداركم إلى بغداد، فجاءني أمر آخر وحمدت الله على ذلك، وطمعت وقلت: إنا قد استرحنا حين قيل لنا: انحدروا إلى بغداد.
قال أبو عبد الله: فصيرت في سفينة من الرقة مع أسرائهم، فكنت في أمر عظيم يعني من الأذى فقدم أبو عبد الله بغداد فجلس في دار عمارة في إصطبل لمحمد بن إبراهيم، أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبس ضيق ومرض أبو عبد الله وكان في شهر رمضان، وكان مقيداً، وكان في أمر عظيم، فحبس في ذلك الحبس قليلاً ثم حول إلى التعيين إلى سجن العامة، فمكث في السجن نحواً من ثلاثين شهراً، فكنا نأتيه في السجن أنا وأبي وأصحاب أبي عبد الله، فأكثر ذلك ندخل عليه، وربما حجبنا، فسأله أبي فقال: تحدث أبا علي وتقرأ عليه؟ فإنك فارغ، فأجابه، فقرأ علي كتاب الإرجاء وغيره في الحبس، فرأيت أبا عبد الله يصلي بأهل الحبس وهو محبوس معهم وعليه القيد، وكان قيداً واسعاً، فكان في وقت الصلاة والوضوء والنوم(1/34)
يخرج إحدى الحلقتين من إحدى رجليه ويشدها على ساقه، فإذا صلى ردها في رجليه، وذلك بغير علم من إسحاق بن إبراهيم فقلت له في الحبس: يا عم، أراك تصلي بأهل الحبس! فقال: ألا تراني وما أصنع؟! يعني في إخراج القيد من إحدى رجليه قلت: بلى. ثم ذكر أبو عبد الله حجر بن عدي وأصحابه، فقال: أليس كانوا مقيدين؟ أليس كانوا يصلون جماعة؟! على الضرورة لا بأس بذلك. قال أبو عبد الله: وإن كان فيهم مطلق ورضوه صلى بهم، قلت: فالذي في رجليه القيد لا يمكنه أن يقعد في الصلاة على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأخيرة، يمنعه القيد من ذلك، فقال أبو عبد الله: كيفما تيسر له وأطاق، إلا أني أطيق ذلك لأني أخرجه من رجلي. ثم قال: فكرت في أمرنا فرأيت مثلنا في هذا الأمر مثل حجر وأصحابه لما أخرجوا وقيدوا، فكأنا كنا في مثال أمرهم. ثم قال أبو عبد الله: أولئك أنكروا شيئاً ونحن دعينا إلى الكفر بالله، فالحمد لله على معونته وإحسانه، سبحان الله لهذا الأمر الذي ابتلى الله به العباد.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد بن أبي نصر الأصبهاني بأصبهان، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل بن أحمد العنبري، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الحافظ، أخبرنا أبو مسلم محمد بن إسماعيل بن أحمد المديني، حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد، حدثني أبو عبد الله السلال، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن نوح رحمه الله قال: قلت لأبي عبد الله: يا أبا عبد الله، إن رأيتني قد ضعفت أو خذلت فلا تضعف، فلست أنت كأنا، فقال لي: أبشر، فإنك على إحدى ثلاث: إما أن لن تراه ولم يرك، وإما رأيته فكذبته فقتلك، فكنت من أفضل الشهداء، وإما رأيته فصدقته فحال الله عز وجل بينك وبينه.(1/35)
وسمعت أبا عبد الله السلال يقول: دخلت على أبي عبد الله لما قدم من طرسوس وهو عليل شديد العلة، ومحمد بن نوح عليل، فسلمت على أبي عبد الله ففتح عينيه فنظر إلي ثم أغمضهما ثم فتحهما، فقال: صليتم الظهر؟ فقلت: لا، فغمض عينيه ثم مكث ساعة وهو مسبوت، ثم فتح عينيه فقال: أرجو أن يكون قد جاء أحد الفرجين.
وسمعت محمود بن عبد الرحمن يقول: لما حمل أبو عبد الله ومحمد بن نوح وصارا إلى حبس بطاطيا، جاءت الظهر فأنيخ له البعير، وذهب محمد بن نوح يتهيأ للصلاة، فجاء وهو يبكي، فقال أبو عبد الله: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ فقال: يا أبا عبد الله، والله ما أبكي أسى على أهل ولا مال ولا ولد، ولكنا نقدم على هذا الرجل وما ندري ما يكون حالنا. فقال له أبو عبد الله أبشر، فلست تراه ولا يراك.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الأصبهاني بها، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الهمذاني بالبصرة في مسجد الزبيري، قال: سمعت هلال بن العلاء الرقي يقول: شيئان لو لم يكونا في الدنيا لاحتاج الناس إليهما: محنة أحمد؛ لولاه لصار الناس جهمية، والشافعي؛ فتح للخلق الأقفال، وسمعت أبا إسحاق يقول: سمعت بعض أصحابنا من المحدثين يقول: لما حمل أحمد إلى المصيصة دخل عليه أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، فقال: يا هذا، إن أعين الناس ممدودة إليك، فإن كنت تعلم أنك تقوم المقام الذي فيه استنقاذك واستنقاذ الخلق فيما بينهم وبين الله تعالى، وإلا فاجعل الذي في رجلك في رجلي، وقم فاخرج، قال: فقال: يا هذا أتظن أن نفسك أعز علي من نفسي؟ لا آثرتك(1/36)
بهذا المقام أبداً. أو نحوه.
أخبرنا أبو طاهر روح بن أبي الرجاء بن أبي الفتح بن أبي طاهر الراراني الأصبهاني بها، أخبرنا أبو القاسم غانم بن أبي نصر بن عبيد الله البرجي، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الحافظ، أخبرنا عبد الله بن جعفر، وحدثني عنه الحسين بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي عبيد الله، قال: قال أحمد بن غسان: حملت أنا وأحمد بن حنبل في محمل على جمل يراد بنا المأمون، فلما صرنا قرب عانة قال لي أحمد: قلبي يحس أن رجاء الحضاري يأتي في هذه الليلة، فإن أتى وأنا نائم فأيقظني، وإن أتى وأنت نائم أيقظتك. فبينا نحن نسير إذ قرع قارع المحمل، فأشرف أحمد فإذا هو برجل فعرفه أحمد بالصفة، وكان لا يأوي المدائن والقرى وعليه عباءة قد شدها على عنقه، فقال: يا أبا عبد الله، إن الله قد رضيك له وافداً، فانظر ألا يكون وفودك على المسلمين وفوداً مشئوماً، واعلم أن الناس إنما ينتظرونك لأن تقول فيقولوا: واعلم أنما هو الموت والجنة. فلما أشرفنا على البذندون، قال لي: يا أحمد بن غسان، إني موصيك بوصية فاحفظها عني، راقب الله في السراء والضراء، واشكره على الشدة والرخاء، وإن دعانا هذا الرجل أن نقول: القرآن مخلوق، فلا تقل، وإن أنا قلت فلا تركن إلي، وتأول قول الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} فتعجبت من حداثة سنه وثبات قلبه. فلم يكن بأسرع من أن خرج علينا رجاء الحضاري فقال: هؤلاء الأشقياء. فقال أحمد: يا عدو الله، أنت تقول: القرآن مخلوق، ونكون نحن الأشقياء! قال: فأنزلنا من المحامل وصيرنا في خيمة، فلم يكن بأسرع من أن خرج خادم وهو يمسح عن وجهه بكمه، وهو يقول: عز علي يا أبا عبد الله [أن] جرد أمير المؤمنين سيفاً لم يجرده قط، وبسط نطعاً لم يبسطه قط، ثم قال: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا دفعت عن أحمد وصاحبه حتى يقولا: القرآن مخلوق. قال: فنظرت إلى أحمد وقد برك على ركبتيه(1/37)
ولحظ إلى السماء بعينيه، ثم قال: سيدي، علا عن هذا الفاجر حلمك حتى يتجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، قال: فوالله ما مضى الثلث الأول من الليل إلا ونحن بصيحة وضجة، وإذا رجاء الحضاري قد أقبل علينا، فقال: صدقت يا أبا عبد الله، القرآن كلام الله غير مخلوق، مات والله أمير المؤمنين.
أخبرنا أبو الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، أخبرنا أبو محمد جعفر ابن أحمد بن الحسين إجازة، أخبرنا أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجزي إجازة، حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرضي الثقة الرضا ببغداد، قال: أخبرني أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز إجازة، ونقلته من كتاب ابن الأبنوسي بخطه عنه، حدثنا أبو الحسن علي بن العبد، قال: سمعت عثمان بن خرزاد -وأنا سألته- قال: سمعت مسلم بن أبي مسلم الجرمي يقول: قال لي ملك الروم: أيش يقول صاحبكم في القرآن؟ يعني المأمون قال: قلت له: يقول: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور مخلوق فقال لي: كذب، هذا كله كلام الله عز وجل.
أخبرنا عبد الحق، أخبرنا جعفر إجازة، أخبرنا عبيد الله بن سعيد، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسن بن أبي سراج اليحصبي، أخبرنا أبو الطيب محمد بن جعفر غندر قراءة عليه، وحدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الرحمن القرشي. قال: سمعت عثمان بن عبد الله الأنطاكي يقول: قال مسلم الجرمي كنت أسيراً في بلاد الروم أيام المحنة، فبعث إلي ملك الروم ودعاني، فقال أيش يقول صاحبكم؟ قال: قلت: يزعم أن التوراة والإنجيل والقرآن مخلوق فقال ملك الروم: كذب، هذا كله كلام الله عز وجل غير مخلوق.
أخبرنا أبو طاهر روح بن أبي الرجاء بن أبي الفتح بن أبي طاهر(1/38)
الراراني، أخبرنا أبو القاسم غانم بن أبي نصر بن عبيد الله البرجي، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الهيثم بن خلف الدوري، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثني علي بن أبي فزارة جار لنا قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي، فصرت عليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه، فلم يفتح لي، وقال لي: من هذا؟ قلت: رجل من أهل ذاك الجانب، سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، وقال: نحن أحوج إلى أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفاً فخرجت امرأة عجوز من داره، فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم، قالت: قد تركته يدعو الله لها، قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب فخرجت على رجليها حتى فتحت الباب، فقالت: وهب الله لي العافية.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي بن حجيجة الفراء، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، حدثنا عباس بن عبد الله البغدادي، قال: كنت في مجلس الرمادي فحدثني من سمع القواريري يقول: لما حملنا إلى المأمون إلى بلاد الروم في أيام المحنة، سرنا حتى قربنا من الرقة في ليلة قمراء، فإذا أنا بشاب يدق المحمل، فأشرفت عليه وقلت: ما وراءك؟ فقال: بشر أحمد أن المأمون قد مات في هذه الساعة. قال القواريري: فنظرت إلى أحمد وهو رافع يديه يدعو، فما شككنا أنه دعا عليه فاستجيب له.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك الكروخي، أخبرنا عبد الله ابن محمد الأنصاري، حدثنا أبو يعقوب، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر المروزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي البخاري، قال: سمعت(1/39)
محمد بن إبراهيم البوشنجي، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: دعوت ربي ثلاث دعوات، فتبينت الإجابة في ثنتين، دعوته أن لا يجمع بيني وبين المأمون، ودعوته أن لا أرى المتوكل، فلم أر المأمون ومات بالبذندون وهو نهر الروم وأحمد محبوس بالرقة، حتى بويع المعتصم بالروم، ورجع فرد أحمد إلى بغداد في سنة ثمان عشرة ومائتين، والمعتصم امتحنه. وأما المتوكل فإنه لما أحضر أحمد دار الخلافة ليحدث ولده، قعد له المتوكل في خوخة، حتى نظر إلى أحمد ولم يره أحمد.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، حدثني جدي، حدثنا محمد ابن أبي جعفر المنذري وأبو أحمد بن أبي أسامة، قالا: سمعنا محمد بن إبراهيم البوشنجي، يقول: أخذ أحمد أيام المأمون ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، فبلغ أحمد الرقة، مات المأمون بالبذندون قبل أن يلقاه أحمد، وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين. فأخبرني أبو العباس الرقي -وكان من حفاظ أهل الحديث أنهم دخلوا على أحمد بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال أحمد: وكيف تصنعون بحديث خباب: ((إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، ثم لا يصده ذلك عن دينه)). قال: فيئسنا منه، فقال أحمد: لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط. وأخاف ألا أصبر. فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوط ثم لا تدري أين يقع الثاني، فكأنه سري عنه، ورد من الرقة وحبس.(1/40)
أخبرنا الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الواحد بن عبد الوهاب الصائغ الأصبهاني بها، أخبرنا أبو منصور محمد بن إسماعيل بن محمد الصيرفي، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن الحسين بن فاذشاه. وأخبرنا أبو الفتح عبد الله ابن أحمد بن أبي الفتح الخرقي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الغفار بن أشتة الكاتب إجازة، أخبرنا أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش الحافظ، قالا: حدثنا أبو القاسم بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا عبد الله ابن أحمد، حدثني أبو بكر الأعين، قال: سمعت آدم بن أبي إياس يقول: أرادوا أن يحملونا على الكفر فهزمناهم. قلت: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كفر.
وقال آدم: حبسوا أحمد بن حنبل وقالوا: قل: القرآن مخلوق. إن لله وإنا إليه راجعون، أعداء الإسلام، إذا لقيت أحمد بن حنبل فأقرئه السلام، وقل: اتق الله وتقرب إلى الله عز وجل بما أنت فيه، ولا يستفزنك أحد، فإنك مشرف على الجنة إن شاء الله. وقال: حدثنا الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ((من أرادكم على معصية الله فلا تطيعوه)). فأتيت أحمد بن حنبل وهو في السجن فأقرأته منه السلام، وأخبرته بما قال آدم، فقال: رحمه الله حياً وميتاً، فلقد نصح وأحسن النصيحة.
أخبرنا أبو المحاسن محمد بن عبد الخالق بن أبي شكر بن عبد الواحد الجوهري الأصبهاني بها، أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الله بن مندويه الشروطي، أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا الإمام أبو القاسم سليمان ابن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني(1/41)
أبو بكر محمد بن أبي عتاب الأعين، يقول: سمعت آدم بن أبي إياس العسقلاني، يقول: أرادوا أن يحملونا على الكفر، فعصمنا الله عز وجل منهم. قلت لآدم: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كفر. وقال لي آدم: حبسوا أحمد بن حنبل وقالوا قل: القرآن مخلوق. إنا لله وإنا إليه راجعون، أعداء الإسلام، إذا أتيت أحمد بن حنبل فأقرئه السلام، وقل له: اتق الله وتقرب إلى الله عز وجل بما أنت فيه، ولا يستفزنك أحد، فإنك مشرف على الجنة إن شاء الله، وقل له عني: حدثنا الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ((من أرادكم على معصية الله عز وجل فلا تطيعوه)). فأتيت أحمد بن حنبل وهو في السجن فأقرأته السلام وأخبرته بما قال آدم، فقال: رحمه الله حياً وميتاً، فلقد نصح وأحسن النصيحة.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم السرخسي، أخبرنا محمد بن عبيد الله الدلال، حدثنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا إبراهيم بن إسحاق بن الغسيل حدثنا أبو بكر محمد بن طريف الأعين، قال: أتيت آدم ابن أبي إياس فقلت له: إن عبد الله بن صالح يقرئك السلام، قال: لا، لا تقرئني منه السلام، ولا تقرئه مني السلام، فقلت: ولم؟ قال: لأنه قال: القرآن مخلوق، فقلت له: إنه قد اعتذر اليوم وأخبر الناس برجوعه عن ذلك، قال: إن كان ذلك فأقرئه مني السلام. فلما فرغت قلت له: إني أريد الخروج إلى بغداد، فهل لك من حاجة؟ قال: نعم، ائت أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام، وقل له: يا هذا، اتق الله وتقرب إلى الله بما أنت عليه، ولا يستفزنك أحد عن دينك، فإنك إن شاء الله مشرف على الجنة، وقل له: حدثنا الليث ابن سعد، عن ابن عجلان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من(1/42)
أرادكم على معصية فلا تطيعوه)). فأتيته وهو في السجن فأقرأته السلام وأخبرته بالكلام والحديث. فأطرق ملياً وقال: رحمه الله حياً وميتاً، فلقد أحسن النصيحة.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الفراء بدارياً، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني الحافظ، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن هارون البرذعي، حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: كنت في الحبس، فرأيت كأن قائلاً يقول لي: يا أحمد، {فاصبر كما صبر أولوا العزم}، فقلت: ما شاء الله.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي. وأخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد اليوسفي، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي، قال: كنا عند ابن عائشة يعني عبيد الله بن محمد وساره إنسان بخبر مقدم أحمد بن حنبل أنه قد حمل إلى الضرب وسأله إنسان حديثاً وهو على هذا الحال فقال:
رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق
((آخر الجزء الأول من محنة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمة الله عليه)).(1/43)
الجزء الثاني من كتاب المحنة على إمام أهل السنة
أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمة الله عليه.
تأليف الشيخ الإمام العالم الأوحد، الورع الزاهد، الحافظ الثبت، الناقد، محيي السنة، تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، رحمه الله.(1/45)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن منصور بن هبة الله بن الموصلي البغدادي بها، حدثنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي، أخبرنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح الحربي، أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، حدثنا أبو بكر محمد بن عبيد الله الكاتب، حدثنا الحسن بن محمد بن عثمان بالبصرة، حدثني داود بن عرفة، حدثنا ميمون بن الأصبغ، قال: كنت ببغداد فسمعت ضجة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل يمتحن في القرآن، قال: فأتيت منزلي فأخذت مالا له خطر، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس الذي يمتحن فيه أحمد، قال: فأدخلوني، فإذا بالسيوف قد نضيت، والقواد بالأعمدة قد ترجلت، وبالأسواط قد طرحت، قال: فألبسوني أقبية سوداً ومنطقة وسيفاً حتى أوقفوني عند المجلس من حيث أسمع الكلام، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه رداء عدني، حتى جلس على الكرسي، فقال: أين هذا الذي يزعم أن الله عز وجل ينطق بجارحتين؟ قال: فأتي بأحمد بن حنبل وعليه قميص أبيض، وكساء أخضر، ونعله معلقة بيده حتى أوقف بين يديه، فقال: أنت أحمد بن حنبل؟ فقال: أنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: بلغني أنك تقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال له: أصلح الله أمير المؤمنين، البلاغات تزيد وتنقص، فقال له: يا مبارك، فأيش تقول؟ قال: أقول: القرآن غير مخلوق؛ وعلى أي الحالات كان، قال: ومن أين قلت؟ قال روي في الحديث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن كلام الله الذي استخص به موسى عليه السلام، مائة ألف كلمة وثلاث عشرة كلمة فكان الكلام من الله عز وجل، والاستماع من موسى)) فقال:(1/46)
كذبت يا عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا، فقال أحمد: إن كنت تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من هذا، فإن الله عز وجل قال: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} فإن يكون القول من الله، فإن الكلام من الله، فالتفت إلى ابن أبي دؤاد. فقال: كلمه، فقال ابن أبي دؤاد: اقتله، ولطم أحمد فخر مغشياً عليه، ثم أفاق، فقال المعتصم: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنك بالسياط أو تقول كما أقول، ثم التفت إلى جلاد، فقال: خذه إليك، قال: فأخذه فخرق قميصه ثم أوقفه بين العقابين، فلما ضرب سوطاً واحداً، قال: باسم الله، فلما ضرب الثاني، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث، قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع، قال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}، فضربه تسعة وعشرين سوطاً، وكانت تكة أحمد حاشية ثوب، فانقطعت، فنزل السراويل إلى عانته، فقلت: الساعة ينهتك، فرمى أحمد بطرفه نحو السماء وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بقي السراويل لم ينزل.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة بن العباس بن علي العلوي، حدثنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت أبا معمر، يقول: كنا حضرنا في دار السلطان أيام المحنة، وكان أبو عبد الله رحمه الله قد أحضر، والناس يجيبون، وكان أبو عبد الله رجلاً ليناً، فلما رأى الناس يجيبون انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين الذي معه، وعلمت أنه رجل غضب غضباً لله. فقال أبو معمر: لما رأيت ما به قلت: يا أبا عبد الله، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي(1/47)
سلمة، قال: كان من أصحاب النبي إذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه رأيت حماليق عينيه تدور في رأسه كأنه مجنون.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة ابن العباس بن علي العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن بحر البزار، قال: سمعت صالح بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: لما أُدخلت على المعتصم قال لي: ادنه، ادنه. فمكثت قليلاً ثم قلت: تأذن لي في الكلام؟ فقال: تكلم، فقلت: إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: فمكث هنيهة، قال أبي: فلا أدري أبدأ هو أو لقنه إنسان. قال: فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. قال: فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن الإيمان، فقال: ((أتدرون ما الإيمان؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم))، قال: ويحك لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك.
قال: فجعل يقول يعني المعتصم: ويحك يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك، وأركب إليك بخيلي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، قال: فرجع فجلس، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم فيضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد، قطع الله يدك! فذهب(1/48)
عقلي، فما شعرت إلا والأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا أكببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك! وما شعرت بذلك، قال أبي: فأتي بسويق وقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: ليست أفطر، قال: فجيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ قال: فقلت: قد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً.
قال: فصار أبي إلى المنزل، ووجه إلى المطبق، فجيء برجل ممن يبصر الضرب والعلاج، فقال: قد رأيت من ضرب ألف سوط، ما رأيت ضرباً مثل هذا، ثم أخذ ميلاً فأدخله في بعض ذلك اللحم، ثم أخرجه فنظر إليه فقال: لم ينقب، وجعل يعالجه، ثم قال: إن ههنا شيئاً أريد أن أقطعه بحديدة، فجعل يعلق اللحم بها ويقطعه وهو في ذلك يحمد الله.
قال أبو الفضل: وسمعت أبي رحمه الله يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حمد بن حامد الأرتاحي، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي في كتابه، أخبرنا أبو القاسم الحسن ابن علي بن الحارث الأسواني، حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن عمران المعروف بابن الإمام، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حامد بن ثرثال البزار، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري في داره ببغداد وأنا حاضر أسمع: حدثنا أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: فلما طال حبس أبي عبد الله، قال: وكان أبي يختلف في أمره ويكلم القواد وأصحاب السلطان في أمره، رجاء أن(1/49)
يُطلق ويخلى له السبيل، فلما طال ذلك ولم يره يتم، استأذن على إسحاق بن إبراهيم فقال له: أيها الأمير، إن بيننا وبين الأمير حرماً في حرمة منها ما يرعاها الأمير: جوار بمرو، كان والدي حنبل مع جدك الحسين بن مصعب، قال: قد بلغني ذلك، قلت: فإن رأى أمير المؤمنين أن يرعى لنا ذلك ويحفظه، قال أبي: وقلت له: أيها الأمير على ما يحبس ابن أخي؟ ما جحد التنزيل، وإنما اختلفوا في التأويل، فاستحل منه أن حبس هذا الحبس الطويل.
أيها الأمير، اجمع لنا الفقهاء والعلماء قال أبي: ولم أذكر أهل الحديث فقال إسحاق: وترضى؟ قلت: نعم أيها الأمير، فمن فلجت حجته كان أغلب. فقال لي ابن أبي ربعي بعد ذلك: ما صنعت! تجمع على ابن أخيك المخالفين له، فيثبتون عليه الحجة ممن يريد ابن أبي دؤاد من أهل الكلام والخلاف، هلا شاورتني في ذلك؟ قلت له: قد كان ما كان. قال أبي: ولما ذكر لإسحاق بن إبراهيم ما بيننا وبينه من الحرمة المتقدمة، قال لحاجبه البخاري: يا بخاري، اذهب معه إلى ابن أخيه فليكلمه ولا يكلم ابن أخيه بشيء لا تفهمه إلا أخبرتني به. قال أبي: فدخلت على أبي عبد الله مع حاجب إسحاق الذي يقال له: البخاري، فقلت له: يا أبا عبد الله، قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله عز وجل، وقد أجاب القوم وبقيت أنت يعني بقيت في الحبس والضيق فقال لي: يا عم، إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق، قال أبي: فأمسكت عنه، فلما كان بعد أيام من لقائي إسحاق بن إبراهيم وكلامي إياه، لقي إسحاق المعتصم فأخبره بقول أبي وما كلمه به، غدونا إلى الحبس يوماً نريد الدخول على أبي عبد الله على ما كنا نختلف، وكان في جيراننا رجل يقال له: هارون، يختلف إلى أبي عبد الله بطعامه من المنزل، ويقضي حوائجه ويخدمه، فقيل لنا: قد حول الليلة أبو عبد الله إلى دار إسحاق، فذهبت أنا وأبي وأصحابنا إلى دار إسحاق فأردنا الدخول على أبي عبد الله والوصول إليه، فحيل بيننا وبين ذلك، وجاء(1/50)
هارون الجصاص بإفطار أبي عبد الله فدفعه إلى بعض الأعوان يوصله إلى أبي عبد الله، فبعث إسحاق فأخذ الزنبيل الذي فيه إفطاره فنظر إليه، فإذا فيه رغيفان وشيء من باقلا، فتعجب إسحاق من ذلك، ولما كان الغد من اليوم الذي حول فيه أبو عبد الله إلى دار إسحاق ونحن عند باب دار إسحاق، إذ جاء أبو شعيب الحجام ومحمد بن رباح، حتى دخلا إلى دار إسحاق، ثم دخلا إلى أبي عبد الله ومعهما صورة السموات والأرض وغير ذلك.
قال أبو عبد الله: فسألني عن شيء ما أدري ما هو، قال أبو عبد الله: فلما سألاني يعني ابن الحجام وابن رباح قلت: ما أدري، وما أعرف هذا، ثم قال لي أبو شعيب في كلام دار بيني وبينه وسألته عن علم الله ما هو؟ قال: علم الله مخلوق. فقلت له: كفرت بالله العظيم، فقال لي رسول إسحاق وكان معه هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت له: إن هذا قد كفر بالله. وقلت لصاحبه ابن رباح الذي جاء معه: إن هذا أعني أبا شعيب قد كفر، زعم أن علم الله مخلوق، فنظر وأنكر عليه مقالته، وقال: ويحك، ما قلت؟ ثم انصرفنا. قال حنبل: فبلغني عن أبي شعيب أنه لما خرج من عند أبي عبد الله، سمعه من كان قريباً منه يقول: ما رأيت لهذا نظيراً. وكان أبو عبد الله قال لأبي شعيب في وقت مناظرته: ويلك، بعد طلبك الحديث وكتابتك للعلم، ألم أرك في موضع كذا؟ ألم تحضر كذا؟ فقال أبو شعيب: ما رأيت لهذا نظيراً، عجبت من رجل في هذا الذي هو فيه وتوبيخه إياي.
قال: ولما حول أبو عبد الله من السجن إلى دار إسحاق، كان عليه قيد خفيف فزيد عليه في القيد وثقل، فمكث ثلاثة أيام في دار إسحاق، فلما كانت الليلة الرابعة بعد عشاء الآخرة في شهر رمضان، جاء بغا الكبير إلى إسحاق بن إبراهيم فأمره بحملي إلى المعتصم، قال أبو عبد الله: فأدخلت على إسحاق، فقال لي: يا أحمد، إنها والله نفسك، قد حلف أن لا يقتلك(1/51)
بالسيف، وأن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس، أليس قال الله تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟! قال أبو عبد الله: فقلت: قال الله تعالى: {فجعلهم جذاذاً}، {فجعلهم كعصف مأكولٍ} أفخلقهم؟ فسكت.
قال أبو عبد الله: ثم قال لي إسحاق: يا أحمد، لو أجبت أمير المؤمنين إلى ما دعاك إليه. قال: فكلمته بكلام، فقال إني عليك مشفق، وإن بيننا وبينك حرمة، فقلت: ما عندي في هذا إلا الأمر الأول، فقال: اذهبوا به، فأمر بي فحملت في زورق إلى دار أبي إسحاق، وكانت في سراويلي تكة، فلما حولوني وزاد في قيودي وثقلت علي القيود، لم أقدر أن أمشي فيها، أخرجت التكة من السراويل وشددت بها قيودي، ثم لففت السراويل بغير تكة ولا خيط، فمضى بي إلى دار أبي إسحاق ومعي بغا، ورسول إسحاق بن إبراهيم فلما صرت إلى الدار أخرجت من الزورق وحملت على دابة والأقياد ثقلت علي وما معي أحد يمسكني، فظننت أني أسقط إلى الأرض أو نحوه، فأدخلت فصيرت في بيت وأغلق علي الباب وأقعد عليه رجلان، وليس في البيت سراج، فقمت أصلي ولم أعرف القبلة، فصليت، فلما أصبحت نظرت فإذا أنا على القبلة.
قال أبو عبد الله: فأدخلت من الغد على أبي إسحاق، فإذا هو قاعد وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه، فلما نظر إلي أبو إسحاق فسمعته يقول لهم وقد قربت منهم: أليس زعمتم أنه حدث؟ هذا شيخ مكتهل. فما أدري ما احتج به الخبيث عليه فلم أفهم ما قال، والدار كثيرة الناس، فلما دنوت سلمت فقال لي: ادنه، فلم يزل يقول: ادنه حتى قربت منه، قال: اجلس، فجلست وقد أثقلتني الأقياد، فلما مكثت ساعة قلت له: يا أمير(1/52)
المؤمنين، تأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وقلت: إن جدك ابن عباس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم بالإيمان بالله - وذكرت له الحديث كله يا أمير المؤمنين، وإلى ما أدعى وهذه شهادتي وإخلاصي لله بالتوحيد. قال: فسكت، فقال ابن أبي دؤاد كلاماً لم أفهمه.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد بن أبي نصر الأصبهاني، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل بن أحمد العنبري، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الحافظ، أخبرنا أبو مسلم محمد بن إسماعيل بن أحمد المديني حدثنا صالح بن أحمد قال: قال أبي رحمه الله: فقال لي عند ذلك: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق، فقال له: يا عبد الرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أبي: فقلت في نفسي: الله أكبر، إن في هذا لفرجاً للمسلمين. قال: ثم قال: ناظروه كلموه، ثم قال: يا عبد الرحمن، كلمه. فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ قال: فقلت له: ما تقول في علم الله تعالى؟ فسكت. قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا، فأرد هذا وأكلم هذا، ثم أقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول به. فيقول ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: فقلت له: تأولت تأويلاً فأنت أعلم، وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه. قال: فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع! وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم. قال: فيقول لهم: ما تقولون؟ فيقولون: يا أمير(1/53)
المؤمنين هو ضال مضل مبتدع. قال: فلا يزالون يكلموني وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، وقال لي إنسان منهم: قال الله عز وجل: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ} أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟! قال: فقلت: قال الله عز وجل: {ص. والقرآن ذي الذكر} فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولا لام. قال: فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول. قال: فجعل يقول لهم: ما يقول؟ قال: فيقولون: إنه يقول: كذا وكذا، قال: وقال إنسان منهم: حديث خباب: ((ياهنتاه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه)) قال أبي: فقلت: نعم، هكذا هو.
قال: فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظاً عليه. قال أبي، وقال بعضهم: أليس قال: {قل الله خالق كل شيءٍ}؟ قال: قلت: قد قال: {تدمر كل شيءٍ} فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله عز وجل؟!. قال: فقال بعضهم فيما يقول، وذكر حديث عمران بن حصين: ((إن الله عز وجل كتب الذكر)) قال: فقال: ((إن الله عز وجل خلق الذكر)). فقلت: هذا خطأ، حدثناه غير واحد: ((إن الله عز وجل كتب الذكر)) فقال المتكلم منهم: ((خلق الذكر)). قال أبي: فقلت: هذا خطأ، حدثناه غير واحد: ((إن الله عز وجل كتب الذكر)). قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم. فلما قارب الزوال قال لهم: قوموا، ثم احتبس عبد الرحمن بن إسحاق، فخلا بي وبعبد الرحمن، فقال لي: أما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟ وكان مؤدبي، وكان في هذا الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من الدار. قال: فتكلم وذكر القرآن فخالفني، فأمرت به(1/54)
فسحب ووطئ.
قال: ثم جعل يقول لي: ما أعرفك! ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه من ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معك، وهو ملازم لمنزله. قال: فجعل يقول: والله إنه لفقيه، والله إنه لعالم، وما يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل، ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي، ولأوطئن عقبه، ولأركبن إليه بجندي. قال: ثم يلتفت إلي، فيقول: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ قال: فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما طال بنا المجلس ضجر فقام، فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه، ثم وجه إلي برجلين سماهما، وهما صاحب الشافعي وغسان، من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني ويقيمان معي، حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام، فجعلا يأكلان، وجعلت أتعلل حتى رفعت المائدة، وأقاما إلى غد، وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد يقول لي: يا أحمد، يقول لك أمير المؤمنين، ما تقول؟ فأقول له: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، فقال لي ابن أبي دؤاد: والله، لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه والله ليس السيف، إنه ضرب بعد ضرب، ثم يقول لي: ما تقول؟ فأرد عليه نحواً مما رددت، ثم يأتيني رسوله أحمد بن عمار أخو الرجل الذي أنزلت في حجرته، فيذهب ثم يعود، فيقول: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟ فأرد عليه نحواً مما رددت على ابن أبي دؤاد. فلا تزال رسله تأتي أحمد بن عمار، وهو يختلف فيما بيني وبينه، ويقول: يقول لك أمير المؤمنين: أجبني حتى(1/55)
أجيء فأطلق عنك بيدي.
قال: فلما كان اليوم الثاني أدخلت عليه، فقال: ناظروه، كلموه. قال: فجعلوا يتكلمون، هذا من ههنا وهذا من ههنا، فأرد على هذا وهذا، فإذا جاءوا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا فيه خير ولا أثر، قلت: ما أدري ما هذا؟ قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجهت له الحجة علينا وثب، وإذا كلمناه بشيء يقول: لا أدري ما هذا. قال: فيقول: ناظروه. قال: ثم يقول: يا أحمد، إني عليك شفيق.
قال: فقال رجل منهم: أراك تنتحل الحديث وتذكره. قال: فقلت له: ما تقول في قول الله عز وجل: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}؟ فقال: خص الله عز وجل بها المؤمنين، قال: فقلت له: ما تقول إن كان قاتلاً أو عبداً أو يهودياً أو نصرانياً؟ فسكت. قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن، ولقوله: أراك تنتحل الحديث.
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد، فيقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، فيعدد ما شاء من ذلك. ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام، وخلا بي وبعبد الرحمن، فيدور بيننا كلام كثير، وفي خلال ذلك يقول لي: ندعو أحمد بن أبي دؤاد؟ فأقول: ذلك إليك، فيوجه إليه فيجيء فيتكلم، فلما طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه، وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس، فجعلا يتكلمان، فدار بيننا كلام كثير، فلما كان وقت الإفطار(1/56)
جيء بطعام على نحو مما جاء به في أول ليلة، فأفطرا، وتعللت، وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه، فيأتيني برسالة على نحو مما كان يأتيني في أول ليلة، وجاء ابن أبي دؤاد، فقال: إنه قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس. فقلت له: فما أصنع؟ حتى إذا كدت أن أصبح، قلت: لخليق أن يحدث في أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليهم. فقلت لبعض من كان معي الموكل بي: أريد خيطاً فجاءني بخيط فشددت به الأقياد، وأعدت التكة في السراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى.
فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور، فجعلت أدخل من دار إلى دار، وقوم معهم السيوف، وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح، وقد حشيت الدار بالجند، ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء، حتى إذا صرت إليه، قال: ناظروه كلموه، فعادوا لمثل مناظرتهم، ودار بيننا كلام كثير، حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو فيه بي نحاني، ثم اجتمعوا فشاورهم، ثم نحاهم فخلا بي وبعبد الرحمن، فقال لي: ويحك يا أحمد، أنا والله عليك شفيق، وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني، فأجبني. فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما ضجر وطال المجلس، قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك، خذوه خلعوه واسحبوه، فأخذت فسحبت ثم خلعت، ثم قال: العقابين والسياط، فجيء بعقابين وسياط.
قال أبي رحمه الله: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه في وقت ما أقمت بين العقابين فقال لهم: لا تخرقوه، انزعوه عنه قال أبي: فظننت أنه درئ عن القميص الخرق(1/57)
بسبب الشعر الذي كان فيه ثم صيرت بين العقابين وشدت يداي، وجيء بكرسي فوضع له فجلس، وابن أبي دؤاد قائم على رأسه، والناس أجمعون قيام ممن حضر. فقال لي إنسان ممن شدني خذ ناتى الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم ما قال: فتخلعت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين. قال أبو الفضل لم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع من الرسغ إلى أن توفي.
ثم قال للجلادين: تقدموا، فنظر إلى السياط، فقال: ائتوا بغيرها. ثم قال لهم: تقدموا، فقال لأحدهم: ادنه، شد، قطع الله يدك! فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى فقال للآخر: ادنه، شد، قطع الله يدك! فتقدم فضربي سوطين ثم تنحى، فلم يزل يدنو واحد بعد واحد، فيضربني سوطين ثم ينتحى. ثم قام حتى جاءني وهم محدقون بي، فقال: ويحك يا أحمد، تقتل نفسك، ويحك، أجبني حتى أطلق عنك بيدي. قال: فجعل بعضهم يقول لي: ويلك، إمامك على رأسك قائم، قال فجعل عجيف ينخسني بقائم سيفه، ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟!. قال: وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول: ويحك، الخليفة على رأسك! قال: ثم يقول بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، قال: ثم رجع فجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: ادنه، شد قطع الله يدك! ثم قام إلي الثانية فجعل يقول: يا أحمد، أجبني، فجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول: من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت؟ هذا يحيى بن معين، وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل ..، وجعل يعدد علي من أجاب، وجعل هو يقول: أجبني. قال: فجعلت أقول نحواً مما كنت أقول لهم. قال: فرجع فجلس ثم جعل يقول للجلاد: شد قطع الله يدك. قال أبي: فذهب عقلي فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد، فقال إنسان ممن حضر: كنا أكببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك! قال أبي: فقلت:(1/58)
ما شعرت بذلك. قال فجاءوني بسويق فقالوا: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر، حتى آتي دار إسحاق بن إبراهيم. قال أبي: فنودي بصلاة الظهر فصلينا الظهر، فقال لي ابن سماعة: صليت والدم يسيل من ضربك؟ فقلت: قد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً، فسكت عنه.
ثم خلي عنه، فصار إلى المنزل، ووجه إليه برجل من السجن ممن يبصر الضرب والجراحات ويعالج منها، فنظر إليه، فقال لنا: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، ما رأيت ضرباً أشد من هذا، لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه. ثم أدخل ميلاً في بعض تلك الجراحات، فقال: لم ينقب، فجعل يأتيه ويعالجه، وقد كان أصاب وجهه غير ضربة، ثم مكث يعالجه ما شاء الله، ثم قال له: إن ههنا شيئاً أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها فيقطعه بسكين معه، وهو صابر لذلك يحمد الله في ذلك، فبرئ منه، ولم يزل يتوجع منه. وكان أثر الضرب بيناً في ظهره إلى أن توفي رحمة الله عليه.
قال أبو الفضل: سمعت أبي رحمه الله يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي.
قال أبو الفضل فحدثني أحد الرجلين اللذين كانا معه وقد كان هذا الرجل -يعني صاحب الشافعي- صاحب حديث، قد سمع ونظر ثم جال بعد، فقال لي: يا ابن أخي، رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت بعيني أحداً يشبهه، لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تقية. ولقد عطش فقال لصاحب الشراب، ناولني، فناوله قدحاً فيه ماء وثلج، فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه. قال: فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.(1/59)
قال أبو الفضل: وكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاماً أو رغيفاً أو رغيفين في هذه الأيام، فلم أقدر عليه. وأخبرني رجل حضره أنه تفقده في هذه الأيام الثلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه، فما لحن في كلمة، وما ظننت أن أحداً يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه.
قال أبو الفضل: دخلت على أبي رحمه الله يوماً، فقلت له: بلغني أن رجلاً جاء إلى فضل الأنماطي فقال: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك. فقال فضل: لا جعلت أحداً في حل فتبسم أبي وسكت، فلما كان بعد أيام قال لي: مررت بهذه الآية {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم، حدثني المبارك، حدثني من سمع الحسن، يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة، نودوا: ليقم من أجره على الله عز وجل، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. قال أبي: فجعلت الميت في حل من ضربه إياي، وجعل يقول: وما على رجل ألا يعذب الله بسببه أحداً.
أخبرنا محمد بن حمد، أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن علي بن عمران، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حامد، قال: قرئ على العباس بن المغيرة: حدثنا أبو علي حنبل، قال: قال أبو عبد الله: ولقد احتجوا علي بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالتهم، وجعل ابن عون يقول: الجسم وكذا وكذا، فقلت: لا أدري ما تقول. وقلت: هو الأحد الصمد. قال أبو عبد الله: فاحتججت عليه، فقلت: زعمتم أن الأخبار تردونها باختلاف أسانيدها وما يدخلها من الوهن والضعف، فهذا القرآن، نحن وأنتم مجمعون عليه، وليس بين أهل القبلة فيه خلاف، وهو الإجماع.(1/60)
قال الله عز وجل في كتابه تصديقاً منه لقول إبراهيم، غير دافع لمقالته ولا منكر، فحكى الله ذلك فقال: {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} فذم إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكر عندكم؟، قالوا: شبه يا أمير المؤمنين، شبه يا أمير المؤمنين قلت: أليس هذا القرآن، هذا منكر مدفوع؟! وهذه قضية موسى عليه السلام، قال الله لموسى في كتابه حكاية عن نفسه تعالى: {وكلم الله موسى} فأثبت الله تعالى الكلام لموسى كرامة منه لموسى، وقال بعد كلامه له: {تكليماً} تأكيداً للكلام. وقال الله تعالى في كتابه: يا موسى {إنني أنا الله لا إله إلا أنا}، أفتنكرون هذا؟ فتكون هذه الياء الراجعة حكاية ترد على غير الله ويكون مخلوقاً يدعي الربوبية ألا وهو عز وجل. قال الله تعالى: {يا موسى. إني أنا ربك فاخلع نعليك}، فهذا كتاب الله يا أمير المؤمنين. فأمسكوا وأداروا بينهم كلاماً لم أفهمه. قال أبو عبد الله: وكان القوم يدفعون هذا وينكرونه. قلت له: فأبو إسحاق؟ قال: لم يقل شيئاً، ولم يقدر على دفع القرآن، وأنكروا الكلام والرؤية.
أخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا أبي، قال: قال إبراهيم بن الحارث من ولد عبادة بن الصامت قال أبو محمد الطفاوي لأحمد بن حنبل: أخبرني عما صنعوا بك؟ قال: لما ضربت بالسياط جاء ذلك الطويل اللحية يعني عجيفاً فضربني بقائم السيف، فقلت: جاء الفرج، يضرب عنقي وأستريح، فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال له ابن أبي دؤاد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك قال الناس:(1/61)
صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إماماً، وبقوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإن مات خارجاً من منزلك شك الناس في الأمر، فقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يجبه، فيكون الناس في شك من أمره.
قال ابن أبي حاتم: وسمعت أبا زرعة يقول: دعا المعتصم بعم أحمد بن حنبل، ثم قال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم، هو أحمد بن حنبل، فقال: انظروا إليه، أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: بلى. ولولا أنه فعل ذلك لكنت أخاف أن يقع شر لا يقام له، فلما قال: قد سلمته إليكم صحيح البدن، هدأ الناس وسكتوا.
أخبرنا محمد بن حمد، أخبرنا علي بن الحسين في كتابه، أخبرنا الحسن ابن علي بن الحارس الأسواني، حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن عمران المعروف بابن الإمام، أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن حامد بن محمود بن ثرثال البزار، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري: حدثنا أبو علي حنبل بن إسحاق، قال: لما أمر أبو إسحاق بتخلية أبي عبد الله خلع عليه أبو إسحاق منطقة وقميصاً وطيلساناً وخفاً وقلنسوة، فبينا نحن على باب أبي إسحاق في الدهليز، والناس في ذلك الوقت مجتمعون في الميدان وفي الدروب وغيرها، وأغلقت الأسواق واجتمع الناس، فنحن على ذلك إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار أبي إسحاق وقد ألبس تلك الثياب، وابن أبي دؤاد عن يمينه وإسحاق بن إبراهيم عن يساره، فلما صار في دهليز أبي إسحاق قبل أن يخرج إلى الطريق، قال لهم ابن أبي دؤاد: اكشفوا رأسه، فكشفوه وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس، فقال لهم: خذوا به ههنا، يريد دجلة، فذهب به إلى الزورق فحمل إلى دار إسحاق ومعه غسان وصاحب الشافعي، فأتي به دار إسحاق فأقامه عنده إلى أن صلينا الظهر، وبعثت إلى أبي(1/62)
وإلى جيراننا وإلى مشايخ المحال فجمعوا، فأدخلوا عليه، فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يعرفه وإلا فليعرفه.
وجاء ابن سماعة فدخل، قال أبو عبد الله: فقال ابن سماعة حين دخل للجماعة: هذا أحمد بن حنبل، وإن أمير المؤمنين ناظره في أمر وقد خلى سبيله، وها هو ذا، فأخرج على دابة لإسحاق عند غروب الشمس، فصار إلى منزله ومعه السلطان والناس. فلما صار على الباب سمعت عياشاً صاحب الحبس لما رأى أبا عبد الله قد أقبل، فقال عياش لصاحب إسحاق والناس قيام: تازية تازية، يعني: عربي عربي. فدخل أبو عبد الله ودخلت معه من باب الزقاق وهو منحن على الضربة التي كانت قد أجافت ولم تنقب بحمد الله، وكان عليها منحنياً، فلما صار إلى باب الدار ذهب لينزل علي احتضنته ولم أعلم، فوقعت يدي على موضع الضربة فصاح وألمه ذلك ولم أعلم فنحيت يدي، ونزل متوكئاً علي ودخلنا وأغلق الباب. ورمى أبو عبد الله بنفسه على وجهه، لا يقدر يتحرك هكذا ولا هكذا إلا بجهد، وخلع ما كان عليه وأمر به فبيع، وأخذ ثمنه فتصدق به.
وكان إسحاق بن إبراهيم لا يقطع عنه خبره، وذلك أنه تركه فيما حكي لنا عند الإياس منه، وكان أبو إسحاق ندم بعد ذلك وأسقط في يده حتى صلح. وكان صاحب خبر إسحاق بن إبراهيم يأتينا في كل يوم يتعرف خبره، حتى صلح وبرئ بعد الصلاح وخرج إلى الصلاة والحمد لله رب العالمين. وبقيت يده وإبهامه متخلعتين يضربان عليه إذا أصابهما البرد حتى نسخن له الماء، وصار سوط من الضرب في خاصرته فظنوا أنها قد نقبت فسلمه الله من ذلك ورزقه العافية.
قال أبو علي: وجاء رجل من أهل السجن يقال له أبو الصبح، ممن(1/63)
يبصر الضرب والجراحات، قال: قد رأيت من ضرب الضرب العظيم، ما رأيت ضرباً مثل هذا ولا أشد منه، وهذا ضرب التلف، ولقد جر عليه الجلادون -قد الله أيديهم- من قدامه ومن خلفه، وإنما أريد قتله ثم سبره بالميل يعني قدره مخافة أن تكون نقبت فلم تكن نقبت.
ورأيت أبا عبد الله وقد أصابت أذنه ضربة فقطعت الجلد وأنتنت أذنه وأصابت وجهه غير ضربة فما كان يضطرب، قال أبو عبد الله: وقال لي بعضهم: يا أبا عبد الله لا تتحرك وانتصب.
ولما أردنا علاجه خفنا أن يدس ابن أبي دؤاد إلى المعالج فيلقي في دوائه ما يقتله، فعملنا الدواء والمرهم في منزله وكان في برنية عندنا، فكان إذا جاء المعالج ليعالجه حضرنا جميعاً معه فيعالجه منها، فإذا فرغ رفعناها، وكان في ضربه شيء من اللحم قد مات، فقطعه بالسكين، فلم يزل أثر الضرب في ظهره إذا أصابه البرد ضرب عليه، فإذا آذاه الدم بعث إلى الحجام في أي ساعة كان، فيخرج الدم حتى يسكن عنه ضربان كتفيه، وكان يسخن له الماء الحار لبدنه.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس ابن علي العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي اللنباني قال: سمعت أبا الحسين هو عمر ابن الحسن الأشناني يقول: سمعت جرير بن أحمد بن أبي داود عم أبي نصر قال: قال أبي: ما رأيت أشد قلباً من هذا الرجل أحمد بن حنبل، جعلنا نكلمه وجعل الخليفة يكلمه يسميه مرة ويكنيه، يا أحمد، يا أبا عبد الله، وهو يقول: أوجدني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبك.(1/64)
قال أبو الحسين: رأيت في كتاب ابن أبي الدنيا فيما أجازه لي، قال: حدثني أبو النضر المروزي قال: قال لي جعفر بن عبد الواحد: ذاكرت المهتدي بشيء فقلت: به كان أحمد بن حنبل يقول: ولكنه كان يخالف - كأني أومأت إلى من مضى من آبائه قال: فقال لي المهتدي: رحم الله أحمد بن حنبل، والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه. قال: ثم قال: تكلم بالحق وقل به، فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد ابن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثني أبو الحسين -هو عمر بن الحسن- الأشناني، حدثنا أبو شعيب الحراني، قال: لما أخذ أحمد بن حنبل فضرب، جعل أبو عبيد القاسم بن سلام يلوذ، ويذهب، ويجيء ويقول: أيضرب سيدنا؟ لا أصبر، أيضرب سيدنا؟ قال أبو شعيب: فقلت أنا في ذلك شعراً:
ضربوا ابن حنبل بالسياط بظلمهم ... بغياً فثبت بالثبات الأنور
قال الموفق حين مدد بينهم ... مد الأديم على الصعيد القرقر
إني أموت ولا أبوء بفجرة ... تصلي بوائقها محل المفتري
أخبرنا الحافظ الصالح أبو العز عبد المغيث بن زهير الحربي البغدادي بها، أخبرنا القاضي الإمام أبو الحسين محمد بن محمد بن الحسين بن الفراء، أخبرنا أحمد بن عبيد الله، حدثنا إسماعيل، حدثنا أبي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد السابق وكتبته من أصل سماعه، أخبرنا أبو العباس أحمد بن منصور بن بشران، حدثنا أبو علي أحمد بن عثمان بن أحمد الأبهري بأصبهان، حدثنا أبو الفضل أحمد بن جعفر بن فارس، حدثنا أحمد بن أبي عبيد الله، قال: كنت في الدار(1/65)
يوم المحنة وأنا أنظر إلى أحمد بن حنبل والسوط قد أخذ كتفيه، وعليه سراويل في خيط، فانقطع الخيط ونزل السراويل، فلحظته وقد حرك شفتيه فتراد السراويل كما كان، فلما حط من موضعه قمت إليه وسألته عن ذلك، فقال لي: لما انقطع الخيط، قلت: إلهي وسيدي، أوقفتني هذا الموقف، فلا تهتكني على رءوس الخلائق، فعاد السراويل كما كان.
أخبرنا عبد المغيث بن زهير بن زهير الحربي، أخبرنا محمد بن محمد بن الفراء، أخبرنا أحمد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أبي، حدثنا أبو مسعود أحمد بن محمد بن عبد الله الرازي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم الهمذاني بمكة، حدثنا أحمد بن سلمان النجاد ببغداد، قال: قرئ على العوام الرياحي -وأنا أسمع- قال: سمعت عباس بن مشكويه الهمذاني، قال: كنت في الدار يوم ضرب أحمد، فلما ضرب السوط الثامن اضطرب المئزر في وسطه، فرأيته قد رفع رأسه إلى السماء وحرك شفتيه، فما استتم الدعاء حتى رأيت كفاً من ذهب قد خرج من تحت المئزر، فرد المئزر إلى موضعه بقدرة الله، فضجت العامة وهموا بالهجوم إلى دار السلطان، وأمر بحمله، فدخلت عليه، فقلت: يا أبا عبد الله، أي شيء كان تحرك شفتيك عند اضطراب المئزر؟ قال: رفعت رأسي إلى السماء وناديت: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين إن كنت تعلم أني قائم لك بالحق فلا تهتك لي عورة. فاستجاب الله دعائي عند اضطراب المئزر.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الفراء بداريا، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي، حدثنا محمد بن إدريس بن محمد(1/66)
الخياط، قال: قال من حضر الضرب ومحنة أحمد: والله أنا رأيت بعد ما استرخى أحمد في الضرب، كاد أن ينحل مئزره حتى خرج يدان من خاصرته فشدت المئزر وغشي عند ذلك على المعتصم، حتى حمل بين اثنين. قال: فبلغني أن المعتصم كان يقول في منامه: يا أحمد، إني قد عفوت عنك فاعف عني، وإلا فخذ السوط فاقتص مني.
أخبرنا محمد بن حمد بن حامد، أخبرنا علي بن الحسين بن عمر إجازة، أخبرنا الحسن بن علي بن الحارث الأسواني، أخبرنا محمد بن علي بن عمران، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حامد، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري ببغداد وأنا أسمع: حدثنا أبو علي خليل بن إسحاق، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ذهب عقلي مراراً فإذا رفع عني الضرب رجعت إلى نفسي، وإذا استرخيت وسقطت رفع عني الضرب، أصابني ذلك مراراً وأنا لا أعقل.
وبه حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: وكان ابن أبي دؤاد قبل أن أضرب يختلف إلي وإذا أخذه القلق ذهب إلى أبي إسحاق، وجاء إلي بالوعيد والتهديد، وحاجبه ابن دنقش أيضاً يمشي برسالة أبي إسحاق: يقول لك كذا، يقول لك كذا. فلما لم يروا الأمر يصير إلى الذي أرادوا، عزموا على أن ينالوني بما نالوني به. فقال له أبو بكر بن عبيد الله: يا أبا عبد الله، فكيف رأيته هو يعني أبا إسحاق قال: رأيته في الشمس قاعداً بغير ظلةٍ فربما لم أعقل وربما عقلت، إذا أعيد الضرب ذهب عقلي فلا أدري، فيرفع عني الضرب. فسمعته يقول لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبت إثماً في أمر هذا الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه، فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد. وقد كان أراد تخليتي بغير ضرب، فلم يدعه، ولا إسحاق بن إبراهيم، وعزم حينئذ على ضربي.(1/67)
قال أبو علي: وبلغني عن النوفلي، قال: قال أبو إسحاق لابن أبي دؤاد بعد ما ضرب أحمد، وهو يسأله: كم ضرب؟ فقال: ابن أبي دؤاد: نيفاً وثلاثين -أو أربعة وثلاثين- سوطاً. قال أبو عبد الله: فقال لي إنسان ممن كان حضر ثم إنا ألقينا على صدرك بارية وأكببناك على وجهك ودسناك قال أبو عبد الله: وما عقلت بهذا كله، وأمر بإطلاقي فلم أعلم حتى أخرج القيد من رجلي.
وقال له ابن أبي دؤاد بعد ما ضربت وأمر بتخليتي: يا أمير المؤمنين احبسه فإنه فتنة، يا أمير المؤمنين، إنه ضال مضل مبتدع وإن خليته فتنت به الناس. فقال: يا إسحاق، أطلقه، وقام فدخل، فحينئذ عقلت بالقيد وقد نزع من رجلي. وقام أبو إسحاق فدخل من مجلسه ذلك، فلم يجد بداً من أن يخلي عني، ولولا ذلك كان حبسني.
فقال أبو بكر بن عبيد الله لأبي عبد الله: يا أبا عبد الله، فابن سماعة؟، فقال أبو عبد الله: سمعته يقول له وقد أوقفت من الضرب وأنا بين العقابين يا أمير المؤمنين، إنه رجل شريف، وهو رجل في نفسه مستور، ولعله يجيب أمير المؤمنين بما يكون له وجه عما دعاه إليه أمير المؤمنين. ثم قال لي ابن سماعة: ويحك! إن أمير المؤمنين مشفق عليك، وهو ذا بين يديك، فأجبه إلى ما يريد منك. قلت له: ما رأيت أمراً أوضح من كتاب ولا سنة. فتنحى ابن سماعة وتكلم بكلام لم أفهمه.
قال أبو علي حنبل: وبلغني أن أبا عبد الله قال: لي ولهم موقف بين يدي الله تعالى، وكتب بها إليه، فقال: تخلي سبيله الساعة.(1/68)
قال: وبلغني أن أبا العلاء الأهتمي قال: ما رأيت أحداً أشجع قلباً من أحمد بن حنبل.
وأخبرني أبي قال: قال لي بعض من حضر يومئذ: كان أحمد في دهره مثل صاحب بني إسرائيل في دهره. وكان هؤلاء يحتجون عليه وهؤلاء يحتجون عليه، فيحتج على هؤلاء ويحتج على هؤلاء بقلب ثابت وفهم، ليس ثم شيء ينكر. وقال لهم أبو إسحاق: ليس هذا كما وصفتم لي، وذلك أنهم وضعوا من قدره عنده ونالوه وصغروه عنده. فلما شاهده ورأى ما عنده عرف له فضله. قال أبو عبد الله: لولا الخبيث ابن أبي دؤاد كان أبو إسحاق قد خلاني، ولكن هو وإسحاق بن إبراهيم قالا له: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخالف خليفتين وتخلي سبيله. ولولا ذلك كان أبو إسحاق قد أراد تخليتي قبل الضرب. وقد أراد ابن أبي دؤاد أن يحبسني بعد الضرب، فقال أبو إسحاق: يخلى، فعاوده فغضب أبو إسحاق وقال: يخلى عنه. فلم أعلم إلا بالقيد وقد نزع عني.
وقال لي أبو إسحاق في اليوم الثالث حين أمر بضربي: أجبني إلى شيء يكون لك فيه بعض الفرج حتى أطلق عنك، وأطأ عقبك، وآتيك بأهلي وولدي وحشمي وأراد بذلك أن يتشبث بشيء يكون له فيه عذر فقلت له: ما أتيتموني ببيان من كتاب الله عز وجل، ولا من سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عبد الله: وكان أبو إسحاق أرق علي منهم كلهم. فأما ابن أبي دؤاد فكان فدماً لا يحسن يحتج ولا يهتدي إلى شيء، إنما كان يعتمد على أولئك البصريين المعتزلة، برغوث وأصحابه.(1/69)
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الفراء الدمشقي بداريا، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي الكتاني الحافظ بدمشق، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر بن أحمد بن زياد الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي سنة أربع وستين وثلاثمائة، سمعت أبا بكر بن يزدانيار يعني الأرموي يقول في حديث طويل: بلغني أن المعتصم لما ضرب أحمد بن حنبل لم ينتفع بنفسه، وأخذته الرعدة وضيق النفس، وكانت ترتعد فرائصه ولا تكاد تستقيم له قدم على الأرض، فإذا قيل له: الأطباء، قال: أنا أعرف علتي، علتي محنة العبد الصالح أحمد بن حنبل حين ابتليت به. حتى مات على ذلك.
وقال الشيخ -يعني ابن يزدانيار-: وبلغني أن الجلاد الذي ضرب أحمد وقعت في يده الأكلة في وقته ذلك، وبعد ثلاث مات، واسود وجهه كله.
وبالإسناد قال أبو العباس البرذعي: سمعت محمد بن إدريس الخياط يقول: قال أبي -إدريس بن محمد وكان من أصحاب أحمد-: قال لي أحمد: ألا أحدثك بأعجب ما رأيت في محنتي يا إدريس؟ قلت: بلى، جعلت فداك. قال: لما ضربت وتركت جاءني شاب ومعه قارورة وفيها ماء فرشه على وجهي، فما وجدت للضرب وجعاً، ثم غاب عني فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول لي: إن القارورة والماء من الجنة، والشاب هو رضوان خازن الجنان، بعثناه إليك حين أقمت الدين واستقمت فشكر الله ذلك لك.
أخبرنا أحمد بن محمد في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز ابن أحمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد، حدثنا أبو الفضل البغدادي، قال: قال لي حنبل: لما ضرب ابن عمي انكسرت له قطعة من عظام ضلعه، وكنا لا نجسر أن نداويه مخافة أن يكون في الدواء شيء من السموم، حتى وصف لنا بالبصرة متطبب صالح، فجئنا به، فلما نظر إلى الكسر وإذا العظم متعلق بلحم مفسود، فجذبه الطبيب بأسنانه فانجذب،(1/70)
وغشي عليه، فلما أفاق سمعته يقول بلسان ضعيف: اللهم لا تؤاخذهم، فلما برئ قلت: سمعتك تقول -وذكر ما قال- فقال: نعم، أحببت أن ألقى الله عز وجل وليس بيني وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وقد جعلته في حل، إلا ابن أبي دؤاد ومن كان مثله، فإني لا أجعلهم في حل.
أخبرنا أحمد بن محمد في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي، سمعت أحمد بن طاهر الحافظ يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: كان لي جلادان: يضرب ذا سوطاً ويتأخر، ويضرب ذا سوطاً، فإذا وقع الضرب على الضرب أقول: يا نفس مالك راحة دون الموت.
وبه حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد البرذعي، قال: أخبرني هارون بن أبي العباس، قال: قال لي صالح بن أحمد: قال لي أبي: كان عقلي معي إلى ثمانية وثلاثين سوطاً، ثم لم أدر أين كنت، ذهب عقلي.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الفراء بداريا، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر بن زياد الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي، حدثنا أحمد بن طاهر الحافظ، قال: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: جاء رجل إلى أبي رحمه الله، فذكر أنه كان عند بشر فذكروه، فأثنى عليه بشر، وقال: لا نسي الله لأحمد صنيعه، ثبت وثبتنا ولولاه لهلكنا. قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل، فقلت: أي أليس أبي يكره المدح في الوجه؟ فقال لي: يا بني، إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين وما كان مني، فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المؤمن مرآة المؤمن)).(1/71)
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا عبد الله ابن محمد بن فضل الأسدي الصيداوي، قال: لما حمل أحمد بن حنبل ليضرب، جاءوا إلى بشر بن الحارث، فقالوا له: قد حمل أحمد بن حنبل وحملت السياط، وقد وجب عليك أن تتكلم، فقال: تريدون مني مقام الأنبياء؟ حفظ الله أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي الدمشقي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، حدثنا أحمد، حدثنا عبد الله، قال: لقيني بشر في بعض الطريق فبدأني بالسلام، ثم قال: كيف أبو عبد الله؟ قلت: بخير، فقال بشر: أنا أخصه بالدعاء في كل وقت، وأبتدئ به ثم بنفسي، ولولاه واستقامته في هذا الأمر هلكنا آخر الأبد.
وبه حدثنا البرذعي، حدثني العباس بن عبد الله البغدادي، قال: سمعت أبا حفص الجلاء يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول وقد قيد رجليه في أيام المحنة: ما كان أحسن هاتين الرجلين، لو كان فيهما القيد مثل هذا الرجل يعني أحمد بن حنبل لولا هذا الرجل لكان علينا العار إلى يوم القيامة.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا(1/72)
أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثني عبد الله يعني ابن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، أخبرني إبراهيم بن الحارث العبادي من ولد عبادة بن الصامت قال: قيل لبشر حين ضرب أحمد: لو قمت وتكلمت كما تكلم أحمد بن حنبل. فقال بشر بن الحارث: لا أقوى عليه، إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء.
أخبرنا أحمد بن محمد في كتابه، أخبرنا محمد بن علي الدمشقي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، أخبرنا أحمد بن محمد بن علي البرذعي، قال: سمعت أبا الفضل العباس بن عبد الله البغدادي يقول: سمعت أبا حفص الجلاء يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: محنة أحمد في وحدته، وغربته في وقته، مثل محنة أبي بكر الصديق في وحدته وغربته ووقته.
وبه قال البرذعي: سمعت أحمد بن طاهر يقول: سمعت ابن الصلت يقول: قال بشر بن الحارث: ما أظن حياة أحمد بن حنبل إلا أماناً لأهل الأرض، وخاصة أهل بغداد، فإذا مر أحمد استوت الأقدام.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد ابن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت أبا موسى الطوسي، قال: سمعت علي بن خشرم يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: أدخل أحمد بن حنبل الكير فخرج ذهبة حمراء. قال علي: فبلغ أحمد قول بشر، فقال: الحمد لله الذي رضى بشراً بما صنعنا.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم، أخبرنا أحمد بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن(1/73)
محمد بن أحمد، أخبر أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثني عبد الله، حدثني عبد الله بن شبوية، أخبرني إبراهيم بن الحارث العبادي من ولد عبادة بن الصامت قال: قيل لبشر بن الحارث حيث ضرب أحمد بن حنبل، لو قمت وتكلمت كما تكلم أحمد بن حنبل، فقال بشر: لا أقوى عليه، إن أحمد قام مقام الأنبياء.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الأصبهاني بها، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي قال: سمعت أبا الحسين، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: كنت مع صالح بن أحمد وولده يوم الثالث من موت أحمد، قال: وجاء المروذي ومعه سيار الضرير، قال: وفي المسجد ابن زنجويه ومحمد ابن سهل بن عسكر وجماعة من المحدثين، فقال سيار، لقد قام هذا الرجل يعني أحمد بن حنبل مقام النبيين والصديقين.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي بن حجيجة الفراء، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الصوفي، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، حدثنا محمد بن إسحاق العقيلي الأصبهاني، قال: سمعت أحمد بن راشد يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: حدثني يحيى الجلاء قال: كنا بعبادان فأصابتنا زلزلة، فقال بعض من كان بعبادان يعني من الزهاد: انظروا ما أحدث أهل بغداد، فكان اليوم الذي ضرب فيه أحمد بن حنبل.
وبه قال سمعت أحمد بن طاهر الحافظ يقول: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: والله لو علمت أني أتخلص منهم بهذا المقدار كان الأمر غير ذا، ولكن قدرت أن لحمي يقرض بالمقاريض حبة حبة.(1/74)
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف، وأخبرنا المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد، وأبو طالب عبد القادر بن محمد، قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أحمد بن سيار، أنه بلغه أن المعتصم نظر عند ضربه إياه يعني أحمد بن حنبل إلى شيء مصرور في كمه فقال: أي شيء هذا؟ قال: شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذها منه. قال أحمد بن سيار: كان ينبغي أن يرحمه عندما رأى شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم معه في تلك الحال.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نعيم بن أبي علي الأصبهاني، أخبرنا الشريف أبو محمد حمزة بن العباس بن علي العلوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسين المروزي قال: سمعت سلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن سنة خمس وأربعين في مسجد الخيف بمنى يقول: كنا عند أحمد ابن حنبل جلوساً، إذ جاء رجل فقال: من منكم أحمد بن حنبل؟ فسكتنا ولم نقل شيئاً، فقال أحمد: أنا أحمد، ما حاجتك؟ قال: ضربت إليك من أربعمائة فرسخ برها وبحرها، جاءني الخضر ليلة الجمعة، فقال: ألا تخرج إلى أحمد بن حنبل؟ فقلت: لا أعرفه. قال: تأتي بغداد وتسأل عنه، وقل له: إن ساكن السماء الذي على عرشه راض عنك، والملائكة راضون عنك بما صبرت نفسك لله عز وجل. قال أبو عبد الله المروزي: كتب عني هذه الحكاية محمد بن عوف الحمصي وهو إمام في الحديث، والميموني بالرقة.(1/75)
قال أبو عبد الله: سمعت إبراهيم بن مته السمرقندي يقول: سألت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن عن أحمد بن حنبل، قلت: هو إمام؟ قال: إي والله كما يكون الإمام. إن أحمد أخذ بقلوب الناس، إن أحمد صبر على الفقر سبعين سنة.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي ببغداد، أخبرنا عبد القادر بن محمد، قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم ابن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا سلمة بن شبيب، قال: كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل عليه رجل في يده عكازة عليه أثر السفر، فقال: فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إلى أحمد، فقال: إني ضربت البر والبحر أربعمائة فرسخ، أتاني الخضر، فقال: ائت أحمد بن حنبل فقل له: إن ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر.
أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الأنصاري الدمشقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور الغساني، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس إملاء، حدثنا محمد ابن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن حفص أبو عبد الله الخطيب، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن داود بن سيار بن أبي عتاب المؤدب، حدثنا سلمة بن شبيب، قال: كنا عند أحمد بن حنبل، فجاءه رجل فدق الباب، وكنا دخلنا إليه خفية فظننا أنه غمز بنا. فدق ثانية وثالثة، فقال أحمد: ادخل، قال: فدخل فسلم، وقال: أيكم أحمد؟ فأشار بعضنا إليه، قال: جئت من البحر من مسيرة أربعمائة فرسخ، أتاني آت في منامي، فقال: ائت أحمد بن حنبل وسل عنه، فإنك تدل عليه، وقل له: إن الله عز وجل عنك راض، وملائكة سمواته(1/76)
عنك راضون، وملائكة أرضه عنك راضون. قال: ثم خرج فيما سأله عن حديث ولا مسألة.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي بن حجيجة، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، حدثنا أبو هاشم عبد الجبار بن عبد الصمد السلمي الإمام، حدثنا محمد بن يوسف الهروي، حدثني محمد بن أحمد المروزي قال: سمعت سلمة بن شبيب يقول: كنا مع أحمد بن حنبل جلوساً إذ جاء رجل فقال: من منكم أحمد بن حنبل؟ فسكتنا ولم نقل شيئاً. فقال أحمد: أنا أحمد بن حنبل، ما حاجتك؟ قال: ضربت إليك من أربعمائة فرسخ برها وبحرها، أتاني الخضر ليلة الجمعة، فقال لي: لم لا تخرج إلى أحمد بن حنبل؟ قلت: لا أعرفه. قال: تأتي بغداد وتسأل عنه وتقول له: إن ساكن السماء الذي على عرشه راض عنك، والملائكة راضون عنك بما صبرت نفسك لله تبارك وتعالى.
أخبرنا أبو طاهر السلفي بالإسكندرية، ومحمد بن عبد الباقي ببغداد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين بن زكريا الصوفي، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري، أخبرنا عبد الله بن أحمد، أخبرنا محمد ابن عمرويه الصفار، قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: لما حضرت أبي الوفاة كنت عنده وكان يغرق فيما هو فيه، وبيدي خرقة أمسح بها عينيه ساعة ساعة، ففتح أبي عينيه وحدق بهما وأومأ بيده، وقال: لا بعد، لا بعد، دفعات. فقلت: يا أبت، لمن تخاطب؟ قال: هذا إبليس قائماً بحضرتي عاضداً على أنامله، يقول: يا أحمد، فتني، فأقول: لا، حتى أموت.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف ببغداد. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن(1/77)
خضير الصيرفي، أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد، قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز ابن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن الواعظ، قال: سمعت أحمد بن يونس يقص في الحديث: ((في الجنة قصور لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو محكم في نفسه)). فقلت لأحمد بن يونس: يا أبا عبد الله، من المحكم في نفسه؟ قال: أحمد بن حنبل المحكم في نفسه.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف، وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر، وأبو طالب عبد القادر بن محمد، قالوا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذغي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثني أحمد بن سنان، قال: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل في يوم فتح عاصمة بابك وظفر به، أو في فتح عمورية، فقال: هو في حل من ضربي.
قال أبو محمد عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: أتيت أحمد بن حنبل بعد ما ضرب بثلاث سنين أو نحوها، فجرى بيني وبينه ذكر شيء من أسباب الذي ناله من الضرب حين امتحن به، فقلت له: ذهب عنك ألم الضرب؟ فأخرج يده فجعل يده اليمنى على كوعه اليسرى، وجعل يده اليسرى على كوعه اليمنى، وقال: هذا، كأنه يقول: خلع، وأنه يجد منها ألم ذلك.(1/78)
الجزء الثالث من كتاب المحنة عن إمام أهل السنة وقائدهم إلى الجنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. رضي الله عنه وأرضاه
تأليف الشيخ الإمام، العالم، الأوحد، الورع، الزاهد، الثبت، النقاد، الحافظ، الثقة، الصدوق، محيي السنة، وقامع البدعة، تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي قدس الله روحه، ونور ضريحه آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حجيجة الفراء بداريا، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكتاني، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن هارون البرذعي، حدثني أبو العباس اللكاف، حدثني ملاح ببغداد اسمه عبد الله بن موسى وكان رجلاً صالحاً من أهل السنة قال: كنت أنا وأبي وأهلي من الحنبلية الخلص، وكان أحمد محبوساً مع المعتصم، فقيل لنا: أحمد قد ضرب وخلي، وكان بيتنا عند دار الخليفة، وبيت أحمد في الحربية، بينهما أميال شتى. فقمنا عند المساء نبصر أحمد قد تخلص أم لا، وكانت ليلة ظلماء شديدة الظلمة، وكان أبي شيخاً كبير السن يعثر إذا مشى. فلما بلغنا طاق الحراني أظلم أكثر مما كان، فقال لي أبي، يا بني تعال نتوسل إلى الله بهذا العبد الصالح حتى تضيء لنا الطريق، فإني منذ ثلاثين سنة ما توسلت به إلا قضيت حاجتي، قال: فدعا أبي وأمنت أنا، قال: فأضاءت السماء كأنها ليلة(1/79)
مُقمرة حتى وصلنا إليه، فإذا هو في بيته.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي بن حجيجة، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني حدثنا أبو الفضل العباس بن عبد الله القاضي، قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: قال لي رجل من تجار البصرة، كنت في بحر الهند أريد البصرة، فهاج بنا البحر حتى خشينا التلف، فلما أيسنا رأيت لوحاً على وجه الماء وعليه رجلان عليهما ثياب بيض، فسلما علي وقالا: أتحب أن تنجو ومن معك؟ قلت: نعم. قالا: إذا دخلت بغداد فاقرأ على أحمد بن حنبل السلام. قال: فضرب بنا الموج فإذا نحن في الشط مع السلامة. قال: فلما جئت بغداد أقرأت أحمد بن حنبل السلام وقلت له: من كانا؟ فقال أحمد: ملكا البحر.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثني محمد بن عبد الكريم الطرسوسي، حدثنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي من أهل أذربيجان قال: سمعت محمد بن موسى الحلواني الشيخ الصالح الثقة المأمون يقول: سمعت أبا بكر الأثرم يقول: كان أصحابنا يرون مقام أبي عبد الله أحمد بن حنبل في المحنة، كمقام أبي بكر الصديق في الردة.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو القاسم أحمد بن محمد بن علي البرذعي، قال: سمعت أبا بكر يحيى بن عبد الحي بن سويد الجوني يقول: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: قدمت بغداد أريد الحج بعد المحنة، وأكبر حاجتي لقاء أحمد، فلما دخلت بغداد جئت أسلم على أبي عبد الله وقد احتجب عن الناس فما يدخل عليه غير أهله، فرأيت صالحاً وعبد الله وحنبلاً والجماعة، فقلت لهم: أريد الشيخ أسلم عليه، فقال لي(1/80)
صالح: نحن نقرئه منك السلام. قال أبو زرعة: فأخذنا نتذاكر حتى أكثرنا المذاكرة، وعلا صوتي أصواتهم. فلما فرغنا قلت: ترى سمع أبو عبد الله كلامنا؟ فلما ودعتهم وخرجت لحقني عبد الله في الطريق، وقال لي: يا أبا زرعة، دخلت بعدك على أبي وكان يصلي وقد ترك الصلاة حين سمع كلامك، فقلت: وقد سمع؟ لو علمت أنه يسمع ما نطقت. قال: وقال لي: يا عبد الله، الحق أبا زرعة وأقرئه مني السلام وقل له: ما أظن لآدم ولد ولد هو أحفظ منك.
وبه سمعت أبا بكر يحيى بن عبد الحي بن سويد الجوني يقول: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: إني لأجد لدعاء أحمد في نفسي بركة وخيراً، وإن كنت منه بعيداً.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد، قال: سمعت شيخاً في مجلس المحاملي يكنى أبا بكر في شهر رمضان يقول: قال أبي وكان من أصحاب بشر وكان من المجتهدين: رأيت كأن قائلاً يقول في جوف الليل: ألا لعنة الله على بشر المريسي، وغيلان، وابن أبي دؤاد، هؤلاء حصب جهنم هم لها واردون. وأحمد بن حنبل وأصحابه أهل الجنة هم لها عاملون، ثم انتبهت.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان ببغداد، وأحمد بن محمد بالإسكندرية، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين بن زكريا الطريثيثي، حدثنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، أخبرنا محمد هو ابن الحسن بن يعقوب حدثنا دعلج، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا الحسن الصباح، قال: رأيت في المنام قائلاً يقول: مسخ ابن أبي دؤاد، ومسخ شعيب، وأصاب ابن سماعة فالج، وأصاب آخر الريحة، ولم يسمه.
أخبرنا الحافظ أبو العز عبد المغيث بن زهير بن زهير الحربي البغدادي بها، أخبرنا القاضي الإمام أبو الحسين محمد بن محمد بن الفراء، قال: أنبأنا(1/81)
عبد الرحمن بن منده، أخبرنا محمد بن عبد العزيز الشيرازي بها، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث الصفار الشيرازي، حدثنا علي بن أحمد بن جعفر، قال: حضر رجل مجلس أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، فذكر أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله. فقال أبو خليفة: على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضوان الله، فهو إمامنا ومن نقتدي به، ونقول بقوله: الداعي للعلم، المتقن لروايته، الصادق في حكايته، القيم بدين الله عز وجل، المبين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إمام المسلمين، والناصح لإخوانه من المؤمنين. فقال له الرجل: يا أبا خليفة، ما تقول في قوله: القرآن كلام الله غير مخلوق؟ فقال: صدق والله في مقالته، وقمع كل بدعي بمعرفته، قوله الصواب، ومذهبه السداد، هو المأمون على كل الأحوال، والمقتدى به في جميع الأفعال. فقال له الرجل: يا أبا خليفة، فمن قال: القرآن مخلوق؟، قال: ذلك رجل مبتدع، العنه ديانة، واهجره تقرباً إلى الله عز وجل، بذلك قام أبو عبد الله أحمد بن حنبل صلى الله عليه وسلم مقاماً لم يقمه أحد من المتقدمين ولا المتأخرين، فجزاه الله عن الإسلام وعن أهله أفضل الجزاء.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم، أخبرنا الشريف أبو محمد بن حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد ابن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، قال: سمعت مقاتل بن صالح الأنماطي صاحب الأثرم يقول: سمعت محمد بن مصعب العابد يقول: لسوط ضربه أحمد في الله أكثر من أيام بشر بن الحارث.
أخبرنا عبد المغيث بن زهير بن زهير الحربي البغدادي، أخبرنا محمد ابن محمد بن الفراء، قال: وأنبأنا أبو الحسين بن المهتدي بالله عن أبي الحسين ابن أخي ميمي قال: حدثنا علي بن محمد الموصلي حدثنا موسى بن محمد الغساني، حدثنا المروذي، قال: قال لي عباس العنبري: والله لمخالفتي ليونس(1/82)
وابن عون، أسهل علي من خلافي أحمد بن حنبل. ثم قال: إن عبد الرحمن ابن عوف قال: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر، وأبو عبد الله بلي بالفتنتين جميعاً فصبر.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي الفراء، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد الصوفي، حدثنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، حدثني معمر بن عبد الله البزار، قال: سمعت أبا بكر القسطاني يقول: كنت بالبصرة وقد أصبح الناس والسماء صاحبية، وإذا بغبرة وعجاج، وريح وظلمة، وسواد الشمس، وكأنه يسفى علينا التراب سفياً، فدخلنا إلى الفسوي وقلنا: ما ترى هذا اليوم؟ قال: ترى ما أحدث ببغداد أو أمير المؤمنين؟! فما لبثنا إلا يعني قليلاً، حتى جاءنا أن أحمد بن حنبل ضرب سبعة عشر سوطاً على أن يقول: القرآن مخلوق. فأبى ذلك.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك الكروخي، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم السرخسي، أخبرنا أحمد بن أبي عمران، أخبرنا أبو علي الحسين بن جعفر الخطيب، قال: سمعت هارون بن عبد الرحمن يقول: سمعت تميم بن بهلول الرازي، قال: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جرح لبرأ.
أخبرنا أحمد بن أبي نعيم، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد بن أحمد ابن عبد الوهاب، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا نصر، حدثني محمد بن مخلد، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: سمعت إبراهيم بن خرزاذ، قال: رأى جار لنا رؤيا: كأن ملكاً نزل من السماء ومعه(1/83)
سبعة تيجان، فأول من توج من الدنيا أحمد بن حنبل قال: ثم بدأ بصدقة فتوجه. قال لي أحمد بن محمد: فحدثت بالرؤيا صدقة بن إبراهيم فقص علي رؤيا، قال: رئي لصاحب الرؤيا رؤيا: كأن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عند الجسر الثاني، وأول من صافحه وعانقه أحمد بن حنبل.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا الحافظ أبو علي أحمد بن محمد بن أحمد البرداني، حدثنا أبي غير مرة، قال: سمعت الشيخ أبا الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث التميمي، قال: سمعت عمي أبا الأزهر يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: يا رسول الله، علمني شيئاً أرد هؤلاء المخالفين. فقال لي: اقبل ما يقول لك هذا، فمددت عيني فإذا أنا بأحمد بن حنبل قائماً بين يديه.
سألت رزق الله بن عبد الوهاب عن اسم أبي الأزهر فقال: كان اسمه حماداً.
أخبرنا أحمد بن عبيد الله، أخبرنا حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد ابن الفضل الباطرقاني، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثنا أبو بكر بن بحر، حدثني جعفر بن حميد الطوابيقي من الدور حدثني حسين بن مهرويه الخلال، قال: سمعت يعقوب ابن أخي معروف، يقول: رأيت في المنام كأن بشر بن الحارث ومعروفاً جالسان على قارعة الطريق، فسلمت عليهما وقلت لهما: ما أقعدكما في هذا الموضع؟ فقالا: ننتظر أمير المؤمنين. فقلت في نفسي: هذان زاهدا هذه المدينة، ما لهما ولأمير المؤمنين؟! فبينما أنا كذلك إذ نظرت إلى أعلام قد بدت وأحمد بن حنبل أمام القوم، فوثب إليه بشر فانكب عليه ليقبله، فقال أحمد: مه، لا يا(1/84)
أبا نصر، هذا من فعل الأعاجم. فقالا له: بما نلت هذا يا أبا عبد الله؟ قال: بصبري على هؤلاء، بصبري على هؤلاء القوم.
أخبرنا أبو طاهر السلفي بالإسكندرية، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد ابن خضير الصيرفي ببغداد، أخبرنا عبد القادر بن محمد، قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، وأخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو عبد الله الطهراني، عن الحسن بن عيسى، عن أخي أبي عقيل يعني القزويني ثم سمعته من الحسن بن عيسى، ثم لقيت أخا أبي عقيل فسمعت منه، قال: رأيت شاباً توفي بقزوين في النوم، فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، قلت: غفر لك؟! قال: نعم، تعجب! ولفلان ولفلان، فقلت: مالي أراك مستعجلاً؟ قال: لأن أهل السموات من السماء السابعة إلى سماء الدنيا اشتغلوا بعقد الألوية لاستقبال أحمد بن حنبل، وأنا أريد استقباله، وكان توفي أحمد بن حنبل تلك الأيام.
أخبرنا عبد المغيث بن زهير بن زهير الحربي البغدادي بها، أخبرنا القاضي الإمام أبو الحسين محمد بن محمد الفراء، أنبأنا الوالد السعيد، أخبرنا إبراهيم، قال: وجدت بخط أبي: أخبرنا عبد العزيز الحربي، قال: سمعت أبا الفرج الهندباني، سمعت أبا بكر المروذي يقول: جاء يحيى بن معين فدخل على أحمد بن حنبل وهو مريض فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلم أحداً ممن أجاب حتى يلقى الله عز وجل، فما زال يعتذر ويقول: حديث عمار، وقال الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان}، وقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال(1/85)
يحيى: لا يقبل عذراً. فخرجت بعده وهو جالس على الباب، فقال: أيش قال أحمد بعدي؟ قلت: قال يحتج بحديث عمار، وحديث عمار: ((مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني))، وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم فسمعت يحيى بن معين يقول: مر يا أحمد، غفر الله لك، فما رأيت والله تحت أديم سماء الله أفقه في دين الله منك.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، قال: سمعت إبراهيم بن إسماعيل الخلال، يقول: سمعت أحمد بن الحسن بن عبدويه يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل، يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبت: من أبو الهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبو الهيثم الحداد، اليوم الذي خرجت فيه للسياط ومدت يداي للعاقبين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين. قال: فضربت ثمانية عشر سوطاً بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفاً، وخرج الخادم فقال: عفا عنه أمير المؤمنين.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرني أبو يعقوب إجازة حدثني أبو علي منصور بن عبد الله، أخبرنا بكر بن محمد بن حمدان، حدثنا جعفر بن كزال، قال: سمعت محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة، قال: سمعت شاباص التائب يقول: لقد ضربت أحمد بن(1/86)
حنبل ثمانين سوطاً، لو ضربت فيلاً لهدته.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا محمد بن المنتصر، أخبرنا أبو بكر بن أبي الفضل، حدثنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الأنصاري، قال: سمعت بعض الجلادين يقول: لقد بطل أحمد بن حنبل الشطار، والله لقد ضربته ضرباً لو أبرك لي بعير فضربته ذلك الضرب لنقبت عن جوفه.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو عبد الله بن البنا، عن القاضي أبي يعلى، أخبرني جعفر بن محمد الراشدي، حدثني بعض أصحابنا، قال: لما أخذت أبا عبد الله السياط، قال: بك استعنت يا جبار السماء ويا جبار الأرض.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا أبو علي الحسن ابن أحمد، حدثنا القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين، حدثنا أبو الحسن علي ابن محمد الحنائي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الطرسوسي، حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى، حدثنا أحمد بن طاهر، حدثنا العباس عن عبد الله، قال: سمعت جعفر الرازي يقول: كان إسحاق بن إبراهيم يقول: أنا والله! رأيت يوم ضرب أحمد سراويله وقد ارتفع من بعد انخفاضه، وانعقد من بعد انحلاله، ولم يفطن بذلك لذهول عقل من حضر، وما رأيت يوماً كان أعظم على المعتصم من ذلك اليوم، والله لو لم يرفع عنه الضرب لم يبرح من مكانه إلا ميتاً.(1/87)
أخبرنا الحافظ الإمام أبو موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى المديني الأصبهاني وغيره، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا الأزهري، أخبرنا علي بن محمد بن لولو، حدثنا هيثم الدوري، حدثنا محمد بن سويد الطحان، قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن أبي الليث وذكر جماعة وأحمد بن حنبل يضرب ذلك اليوم، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه. قال: فما يجيبه أحد. فقال إبراهيم بن أبي الليث: يا أبا الحسين، أنا أقوم معك. فصاح: يا غلام، خفي، فقال له إبراهيم: يا أبا الحسين، أبلغ إلى بناتي فأوصيهن وأجدد بهن عهداً. قال: فظننا أنه ذهب يتحنط ويتكفن، ثم جاء وقال عاصم: يا غلام، خفي. فقال: يا أبا الحسين، إني ذهبت إلى بناتي فبكين. قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه بالسوط على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه إن سألك، فوالله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك قلت.
أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد بن أبي الفتح الخرقي الأصبهاني في كتابه وجماعة، قالوا: أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي في كتابه، أخبرنا أبو محمد الخلال، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت أبي يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد بن حنبل يقول: قال لي أبي: يا بني، لقد أعطيت المجهود من نفسي في المحنة. قال: وكتب أهل المطامير إلى أحمد بن حنبل: إن رجعت عن مقالتك ارتددنا عن الإسلام.
أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد بن أبي الفتح الخرقي في كتابه(1/88)
وجماعة قالوا: أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي في كتابه أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، حدثنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، قال: قرأت في كتابي: قال المروذي في محنة أحمد بن حنبل وهو بين الهنبازين، يا أستاذ، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فقال أحمد: يا مروذي، اخرج، انظر أي شيء ترى. قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقاً من الناس لا يحصي عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟ قالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه. فقال المروذي: مكانكم، فدخل إلى أحمد بن حنبل وهو قائم بين الهنبازين، قال: لقد رأيت قوماً بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه. فقال: يا مروذي، أضل هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، أخبرني جدي، أخبرنا محمد ابن أبي جعفر المنذري، وأبو أحمد بن أبي أسامة، قالا: سمعنا محمد بن إبراهيم البوشنجي، قال: قدم المعتصم من بلاد الروم بغداد في شهر رمضان سنة ثمان عشرة، فامتحن فيها أحمد وضرب بين يديه. فحدثني من أثق به من أصحابنا، عن محمد بن إبراهيم بن مصعب وهو يومئذ على الشرط للمعتصم، خليفة إسحاق بن إبراهيم أنه قال: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، قال: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت أبا داود يقول: أشبه عطف أحمد بن حنبل وسمته وحسن خلقه وحفظه(1/89)
جوارحه بالأنبياء عليهم السلام، وما رأت عيني مثل أحمد بالعراق ولا بالشام ولا في الحجاز ولا في غيرها. وكان يخيل إلي أن أحمد بن حنبل من أوتاد الأرض في أفعاله، ومقامه في وقته مقام الأنبياء في زمانهم.
أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الأنصاري الدمشقي، حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور الغساني، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرمسيني، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر ابن مسرور القواس، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المطيري، قال: سمعت أبا الحسن الطرخاباذي الهمذاني يقول: أحمد بن حنبل محنة، به يعرف المسلم من الزنديق.
أخبرنا علي بن إبراهيم، أخبرنا علي بن أحمد الغساني، أخبرنا أحمد بن علي، حدثني الحسن بن أبي طالب، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا محمد بن علي المقرئ بالدالية قال: أنشدنا أبو جعفر محمد بن بدينا الموصلي، قال: أنشدني ابن أعين في أحمد بن حنبل:
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة ... وبحب أحمد يعرف المتنسك
فإذا رأيت لأحمد منتقصاً ... فاعلم بأن ستوره ستهتك
أخبرنا علي بن إبراهيم، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن يوسف النيسابوري، أخبرنا محمد بن حمزة الدمشقي، أخبرنا يوسف القاضي، قال: سمعت أبا يعلى التميمي يقول: سمعت أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام.
أخبرنا علي بن إبراهيم، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا الحسين بن شجاع الصوفي، أخبرنا عمر بن جعفر بن مسلم الأبار، حدثنا أحمد بن علي الأبار، قال: سمعت سفيان بن وكيع يقول: أحمد عندنا(1/90)
محنة، من عاب أحمد عندنا فهو فاسق.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصوفي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن خفيف بن عبد الله الدقاق، قال: قال أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري رحمه الله: وأنا أتبع في هذا قول أبي عبد الله رحمه الله في جميع ما تكلم فيه الناس من هذه المعاني وخاضوا فيه، وهو الرضا عندنا والإمام في كل ما قال، ومن حاد عنه فهو مبتدع رديء، ومن قصده بعيب أو ذكره بسوء أو ببغض أو واحداً من أوليائه وأتباعه ومن كان على مذهبه فهو رديء خبيث؛ لأنه الشيخ الإمام الذي ارتضاه أهل الإسلام وأهل الدين والسنة والجماعة. ولقد حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: كنت عند أبي رجاء قتيبة بن سعيد، فذكروا أبا عبد الله أحمد بن حنبل، فذكره وأطنب في مدحه، فقلنا: يا أبا رجاء، ما محله منك؟ أتراه تعدله بالتابعين؟ قال: نعم بكبار التابعين، فكذلك هو عندنا. ولقد بلغ من فضله أن من كان من القدماء من أئمة العلماء كانوا يتزينون بذكره بالجملة، ويتحسنون بذكره عند الناس لفضله ودينه في حداثته قبل أن تتناهى به السن نهايتها، حتى حدث عنه عبد الرزاق بن همام، ويحيى بن عبد الحميد الحماني وأشكالهما. ثم قبضه الله يوم قبضه على أفضل أحواله عندنا وعند المسلمين، فجزاه الله عن الإسلام والسنة خيراً، فلقد كان للإسلام والسنة كهفاً ولأهل الحق معقلاً، أضاء الله به كثيراً مما كان أهل البدع أظلموه، وأنار به كثيراً مما كانوا أظلموه من الحق.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا ابن ناصر، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، أخبرنا أبو القاسم الأزهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثني جعفر بن أبي عمران، حدثنا صدقة، حدثني أبو عمرو المخزومي، قال: كنت بمكة أطوف بالبيت مع سعيد بن منصور، فإذا صوت من ورائي، ضرب أحمد(1/91)
ابن حنبل اليوم، قال: فجاء الخبر أنه ضرب في ذلك اليوم. وفي رواية أخرى: فقال لي سعيد بن منصور تسمع ما أسمع؟ فقلت: نعم. قال: فاعرف هذا اليوم قال: فجاء الخبر أنه ضرب في ذلك اليوم.
أخبرنا محمد بن حمد بن حامد الأرتاحي، أنبأنا علي بن الحسين، أخبرنا الحسن بن علي الأسواني، أخبرنا محمد بن علي بن عمران، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حامد بن محمود، قال: قرئ على العباس بن المغيرة الجوهري: حدثنا أبو علي حنبل، قال: حضرت أبا عبد الله وأتاه رجل في مسجدنا، وكان الرجل حسن الهيئة، كأنه كان مع السلطان، فجلس حتى انصرف من كان عند أبي عبد الله، ثم دنا منه فرفعه أبو عبد الله لما رأى من هيئته، فقال له: يا أبا عبد الله، اجعلني في حل، قال: من ماذا؟ قال: كنت حاضراً يوم ضربت، وما أعنت ولا تكلمت، إلا أني حضرت ذلك، فأطرق أبو عبد الله ثم رفع رأسه إليه، فقال: أحدث لله توبة، ولا تعد إلى مثل ذلك الموقف. فقال له: يا أبا عبد الله، أنا تائب إلى الله تعالى من السلطان، قال له أبو عبد الله: فأنت في حل وكل من ذكرني إلا مبتدع. قال أبو عبد الله: وقد جعلت أبا إسحاق في حل ورأيت الله عز وجل يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح، ثم قال أبو عبد الله: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ولكن تعفو وتصفح عنه، فيغفر الله لك كما وعدك.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، حدثنا محمد بن أحمد الجارودي، حدثنا الحسين ابن علي بن جعفر، حدثنا أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقي وقد رأى أحمد ابن حنبل قال: بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن(1/92)
أصبح فقلت: يا أبا عبد الله، كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟ قال: ذكرت ضرب المعتصم إياي، ومر بي في الدرس: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، فسجدت له وأحللته من ضربي في السجود.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصبهاني، أخبرنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا أبو عمر عبد الله بن محمد ابن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، قال: سمعت محموداً يقول: سمعت محمد بن العباس يقول: سمعت علي بن المديني يقول: أحمد حجة الله على خلقه.
أخبرنا أحمد بن عبيد الله، أخبرنا حمزة بن العباس، أخبرنا أحمد بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر العبدي، حدثني نصر، حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا محمد بن أحمد بن داود بن سيار أبو بكر، حدثني عثمان بن شعبان، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، قال: سمعت الهيثم بن جميل الأنطاكي، يقول: إن لكل زمان رجلاً يكون حجة على الخلق، وإن الفضيل بن عياض حجة على أهل زمانه، وأظن إن عاش هذا الفتى يعني أحمد بن حنبل يكون حجة على أهل زمانه.
أخبرنا أحمد بن عبيد الله الأصبهاني، أخبرنا حمزة بن العباس العلوي، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أخبرنا عبد الله بن محمد بن أحمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر اللنباني، حدثني أبو عبد الرحمن، حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسماعيل بن حماد، حدثني نصر بن علي، قال: قال عبد الله بن(1/93)
داود: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه، وكان بعده أبو إسحاق الفزاري أفضل أهل زمانه. قال نصر بن علي: وأنا أقول: أحمد بن حنبل كان أفضل أهل زمانه.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد بن أبي نصر بن عبد الواحد الأصبهاني، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل بن أحمد العنبري، أخبرنا أبو مسلم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن إسحاق بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو مسلم محمد بن إسماعيل بن أحمد، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قدم ابن رباح يريد البصرة، فبلغه أن عبيد الله القواريري شيعه أو سلم عليه، فصار القواريري إلى أبي، فلما نظر إليه، قال: ألم يكف ما كان من الإجابة حتى سلمت على ابن رباح؟ ورد الباب في وجهه.
وجاء الحزامي وقد ذهب إلى ابن أبي داود، فدق الباب فلما خرج ورآه أغلق الباب ودخل. قال أبي: لا يشهد رجل عند قاض جهمي.
وسئل أبي عن الرجل يكون قد أشهد رجلاً على شهادة يدعوه إلى قاض ليشهد له والقاضي جهمي؟ قال: لا يذهب إليه. قيل له: فإن استعدى عليه فذهب فامتحن؟ قال: لا يجيب ولا كرامة، ويأخذ كفاً من تراب يضرب به وجهه.
أخبرنا محمد بن أبي محمد بن أبي نصر الأصبهاني، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل العنبري، أخبرنا أبو مسلم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد الحافظ، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا صالح بن أحمد، قال: سمعت أبي رحمه الله يقول: افترقت(1/94)
الجهمية على ثلاث فرق: فرقة قالوا: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: القرآن كلام الله، وسكتت، وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق. وقال الله عز وجل في كتابه: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}. فجبريل عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسمعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من النبي صلى الله عليه وسلم . فالقرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق. قلت لأبي: ولا يكلم من وقف؟ قال: لا يكلم. قلت: فإن كلمه رجل؟ قال: تأمره، فإن ترك كلامه كلمته، وإن لم يترك كلامه فلا تكلمه.
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه أخبرنا محمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر الميداني، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن علي البرذعي، سمعت الحسين بن إسماعيل هو المحاملي يقول: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمس مائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت.
أخبرنا أبو طاهر السلفي بالإسكندرية، وأبو الفتح محمد بن عبد الباقي ببغداد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين بن زكريا الطريثيثي، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي، أخبرنا محمد بن الحسين ابن يعقوب، حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا الحسن ابن الصباح، قال: سمعت خالد بن خداش يقول: رأيت في المنام كأن آتيا أتاني بطبق قطن، فقال: اقرأ، فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم، ابن أبي دؤاد يريد أن يمتحن الناس، فمن قال القرآن كلام الله، كسي خاتماً من ذهب، فصه ياقوتة حمراء، وأدخله الله الجنة وغفر له أو قال: غفر له. ومن قال: القرآن مخلوق، جعلت عينه عين قرد، فعاش بعد ذلك يوماً أو يومين ثم يصير إلى النار.(1/95)
ذكر محنة الواثق لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى
ولي الواثق أبو جعفر هارون بن المعتصم في ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائتين، وحسن له ابن أبي دؤاد امتحان الناس بخلق القرآن ففعل ذلك، ولم يعرض لأحمد لما علم من صبره، أو لما خاف من تأثير عقوبته، لكنه أرسل إلى أحمد بن حنبل: لا تساكني بأرض، فاختفى بقية حياة الواثق، فما زال يتتقل في الأماكن ثم عاد إلى منزله بعد أشهر، فاختفى فيه إلى أن مات الواثق.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أقام أحمد مدة اختفائه عند إسحاق بن إبراهيم بن هانئ. قال عبد الرحمن: وقد روى: عند إبراهيم بن هانئ، وبيت الوالد والولد واحد.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن أحمد البراداني الحافظ، حدثنا محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا عبد الله أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست العلاف، حدثنا جعفر بن محمد بن نصر الصوفي، حدثنا أبو حامد الحذاء أحمد بن محمد بن ماهان، حدثنا فتح بن شخرف قال: قال إبراهيم بن هانئ النيسابوري: اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال، ثم قال لي: اطلب لي موضعاً حتى أدور. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله. فقال لي: النبي صلى الله عليه وسلم اختفى في الغار ثلاثة أيام ودار، وليس ينبغي أن تُتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الرخاء وتُترك في الشدة. قال فتح: فحدثت به صالحاً وعبد الله، فقالا: لم نسمع هذه الحكاية إلا منك. وحدثت بها إسحاق بن إبراهيم(1/96)
ابن هانئ، فقال: ما حدثني أبي بها.
أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن البغدادي وغيره، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزاز، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثني إبراهيم بن متة، قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي كان يقال له: المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأتي بشيخ مخضوب مقيد. فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه يعني ابن أبي دؤاد قال: فأدخل الشيخ، فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلم الله عليك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها} والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم، فقال له: كلمه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم تنصفني ولي السؤال، فقال له: سل. فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟! قال: فخجل. فقال: أقلني، فقال: المسألة بحالها، قال: نعم. قال: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق. قال: فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم لم يعلموه؟ قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على(1/97)
قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت! سبحان الله! شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، ولم يدعو الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عماراً الحاجب، وأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار، ويأذن له في الرجوع. وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعده أحداً.
أخبرنا زيد بن الحسن وغيره، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أحمد بن سندي الحداد، قال: قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا أسمع قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب الهاشمي، قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وجلس للنظر في أمور المظلومين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، وتحرر، وتختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك فاستحسنت ما رأيت. فجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه، حتى كان ذلك مني ومنه مراراً ثلاثاً، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت. فقال لي: يا صالح، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائماً. فقال: في نفسك منا شيء تريد أو قال: تحب أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيدي، فقال: عد إلى موضعك فعدت حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح.
فانصرف الناس، ثم أذن لي فدخلت فدعوت له، فقال لي: اجلس، فجلست، فقال لي: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه وتأمر به. فقال: أقول أنا: إنه دار في نفسك أنك استحسنت ما رأيت منا؛ فقلت في نفسك: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق! فورد على قلبي(1/98)
أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين قبل أجلك! وهل تموتين إلا مرة؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما دار في نفسي إلا ما قلت، فأطرق ملياً ثم قال: ويحك، اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق؛ فسري عني فقلت: يا سيدي، ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، فقال: ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدراً من أيام الواثق، حتى أقدم ابن أبي دؤاد علينا شيخاً من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيداً، وهو جميل الوجه تام القامة حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له؛ فمازال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فأبلغ.
فقال له الواثق: اجلس، فجلس. فقال: يا شيخ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة. فغضب الواثق وعاد مكان الرقة غضباً عليه. قال: أبو عبد الله ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟! فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن لي في مناظرته. فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول، قال: أفعل، قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، ولا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه بما قلت؟ قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده، هل ستر شيئاً مما أمره الله به في أمر دينه؟ قال: لا. قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: تكلم! فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، واحدة. فقال الواثق: واحدة. قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي(1/99)
ورضيت لكم الإسلام ديناً} هل كان الله الصادق في إكمال دينه، أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجب.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان. فقال الواثق: اثنتان. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث، فقال الواثق: ثلاث. فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم، قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت القول أن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة. يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لنا منك الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع الله على من لم يتسع ما اتسع لهم.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحداد عليه. فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في حجره، فقال له الواثق: يا شيخ، لم جاذبت الحداد عليه؟ قال: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني، وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي.
وبكى الشيخ، وبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما قاله، فقال له الشيخ: والله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل(1/100)
وسعة من أول يوم إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كنت رجلاً من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة، فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت، فقال له الواثق: تقيم قبلنا وننتفع بك وتنتفع بنا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك؛ أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تحل لي، أنا عنها غني وذو مروة سوي، فقال: سل حاجة، فقال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تأذن أن يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر، قال: قد أذنت لك، فسلم وخرج.
قال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن أن الواثق رجع عنها من ذلك الوقت.
أخبرنا زيد بن الحسن وغيره، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن علي بن حمويه، قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن الشيرازي، أخبرنا بحديث الشيخ الأذني ومناظرته، فقال: الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي.
أخبرنا زيد بن الحسن وغيره، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس، عن رجل عن المهتدي، أن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.(1/101)
ذكر ما جرى لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله مع أمير المؤمنين المتوكل
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد بن أبي نصر الأصبهاني، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل بن أحمد العنبري، أخبرنا أبو مسلم علي ابن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد الحافظ، حدثنا محمد بن إسماعيل المديني، حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل، قال: لما أن توفي إسحاق بن إبراهيم ومحمد ابنه وولي عبد الله بن إسحاق، كتب المتوكل إليه: أن وجه إلى أحمد بن حنبل: إن عندك طلبة أمير المؤمنين، فوجه بحاجبه مظفر، وحضر صاحب البريد وكان يعرف بابن الكلبي وكتب إليه أيضاً، فقال له مظفر: يقول لك أمير المؤمنين: إن عندك طلبته. وقال له ابن الكلبي مثل ذلك، وكان قد نام الناس فدفع الباب، وكان على أبي -رحمه الله- إزار، ففتح لهم الباب وقعدوا على بارية ومعهم نساء، فلما قرئ عليه الكتاب قال لهم أبي: ما أعرف هذا، وإني لأرى طاعته في العسر واليسر، والمنشط والمكره والأثرة. وإني لآسف على تخلفي عن الصلاة جماعة، وعن حضور الجمعة ودعوة المسلمين.
قال أبو الفضل: وكان إسحاق بن إبراهيم وجه إلى أبي: الزم بيتك ولا تخرج إلى جمعة ولا إلى جماعة، وإلا نزل بك ما نزل بك في أيام أبي إسحاق.
ثم قال ابن الكلبي: قد أمرني أن أحلفك ما عندك طلبة أمير المؤمنين، قال: استحلفتني حلفت بالله وبالطلاق ما عندي طلبة أمير المؤمنين وكأنهم أومئوا إلى أن عنده علوياً، ثم قال: أريد أن أفتش منزلك قال أبو الفضل: وكنت حاضراً، فقال: ومنزل ابنك فقام مظفر والكلبي وامرأتان معهما، فدخلا ففتشا البيت، ثم فتشت الامرأتان النساء. قال أبو الفضل: ثم دخلوا إلى منزلي ففتشوه، ودلوا شمعة في البئر فنظروا، ووجهوا بالنسوة ففتشوا الحريم ثم خرجوا.(1/102)
فلما كان بعد يومين ورد كتاب علي بن الجهم: إن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك مما قرفت به، وقد كان أهل البدع قد مدوا أعناقهم فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك، وقد وجه إليك أمير المؤمنين يعقوب المعروف بقوصرة، ومعه جائزة ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال.
قال أبو الفضل: ثم ورد من الغد يعقوب قوصرة، فدخل إلى أبي، فقال: يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد صح عندنا لقاء ساحتك، وقد أحببت أن آنس بقربك، وأتبرك بدعائك، وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك، وأخرج بدرة فيها صرة فيها نحو مائتي دينار، والباقي دراهم صحاح، فلم ينظر إليها، ثم شدها يعقوب، وقال: أعود غداً حتى أنظر ما تعزم عليه. وقال له: يا أبا عبد الله، الحمد لله الذي لم يشمت بك أهل البدع، فانصرف، فجئت بإجانة خضراء أكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذه صيرها عندك فتصيرتها عند رأسي فوق البيت فلما كان السحر إذ هو ينادي: يا صالح فقمت فصعدت إليه، فقال: يا صالح، ما نمت ليلتي هذه. فقلت: لم يا أبت؟ فجعل يبكي، وقال: سلمت من هؤلاء، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قال: قد عزمت على أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت، فقلت: ذاك إليك، فلما أصبح جاءه الحسن بن البزار والمشايخ، فقال: يا صالح، جئني بميزان، فقال: وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار، ثم قال: وجه إلى فلان حتى يفرق في ناحيته، وإلى فلان، فلم يزل حتى فرقها كلها، ونفضت الكيس ونحن في حالة الله جل وعز بها عليم. فجاء بُني لي فقال له: يا أبت، أعطني درهماً، فنظر إلي فأخرجت له قطعة أعطيته. وكتب صاحب البريد: إنه تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس.(1/103)
فقال علي بن الجهم: فقلت له: يا أمير المؤمنين، قد تصدق بها، وقد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال؟ وإنما قوته رغيف، قال: فقال لي: صدقت يا علي.
قال أبو الفضل: وجه المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بحمل أبي رحمة الله عليه إلى العسكر. قال: فوجه إسحاق إلى أبي فقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه، فتأهب لذلك. قال أبي: فقال لي إسحاق بن إبراهيم: اجعلني في حل، فقلت: قد جعلت كل من حضر في حل. قال أبي: فقال لي إسحاق: أسألك عن القرآن مسألة مسترشد، لا مسألة امتحان، وليكن ذلك عندك مستوراً؛ ما تقول في القرآن؟ قال أبي: فقلت: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال: فقال لي: من أين قلت غير مخلوق؟ قال أبي: فقلت: قال الله عز وجل {ألا له الخلق والأمر} ففرق بين الخلق والأمر. فقال إسحاق: الأمر مخلوق؟ فقلت: سبحان الله أيخلق بخلق خلقاً!. قال أبي: قال لي: وعمن تحكي أنه ليس بمخلوق؟ قال: فقلت له: جعفر بن محمد قال: ليس بخالق ولا مخلوق. قال: فسكت.
فلما كانت الليلة الثانية، وجه إلي فقال: ما تقول في الخروج؟ فقلت: ذاك إليكم. فقال: الذي حكيت عن محمد بن الحنفية؟ فقلت: لا، حكيت عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسكت.
أخبرنا الإمام أبو الحسن علي بن عساكر بن المرحب البطائحي المقرئ، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد، أخبرنا الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن موسى الخياط المقرئ الحنبلي، أخبرنا الحافظ الثقة أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم الختلي، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج(1/104)
المروذي رحمه الله قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قد جاءني أبو علي يحيى بن حاقان فقال لي: إن كتاباً جاءه فيه: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: لو سلم أحد من الناس سلمت أنت. ههنا رجل قد رفع عليك وهو في أيدينا محبوس، ورفع عليك أن علوياً قد توجه من قبل خراسان وقد بعثت برجل من أصحابك تتلقاه، وهو ذا محبوس، فإن شئت بعثت به إليك. قال: فقلت له: ما أعرف مما قال شيئاً، أرى أن تطلقوه ولا تعرضوا له، فقلت لأبي عبد الله: سفك الله دمه قد أشاط بدمائكم قال: ما أراد إلا استئصالنا، ولكن قلت: لعل له والدة أو أخوات أو بنات. أرى أن تخلوا سبيله ولا تعرضوا له.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبي محمد الأصبهاني، أخبرنا أبو نهشل عبد الصمد بن أحمد بن الفضل العنبري، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن مهران، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الحافظ، حدثنا أبو مسلم محمد بن إسماعيل بن أحمد، حدثنا أبو الفضل صالح ابن أحمد، قال: ثم أخرج أبي رحمه الله ليلاً، ومعنا حراس معهم النفاطات، فلما أضاء الفجر قال لي: يا صالح، معك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم، فأعطيتهم درهماً درهماً. فلما أصبحنا جعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أبا عبد الله، ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك، فقال له: يا أبا يوسف، نسأل الله العافية. فقال له: يا أبا عبد الله، أريد أن أؤدي عنك فيه رسالة إلى أمير المؤمنين، فسكت. فقال له: إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابصي قال له: إني أشهد عليه أنه قال: إن أحمد يعبد ماني! فقال له: يا أبا يوسف، يكفي الله، فغضب يعقوب فالتفت إلي، فقال: ما رأيت أعجب مما نحن فيه، أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر أمير المؤمنين فلا يفعل!!(1/105)
قال أبو الفضل: وقصر أبي الصلاة في خروجه إلى العسكر. وقال: تقصر الصلاة في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً.
وصليت يوماً به العصر، فقال: طولت بنا العصر، تقرأ في الركعة مقدار خمس عشرة آية. وكنت أصلي به في العسكر.
قال أبو الفضل: فلما صرنا بين الحائطين قال لنا يعقوب: أقيموا. ثم وجه إلى المتوكل بما عمل، فدخلنا العسكر وأبي منكس الرأس ورأسه مغطى. فقال يعقوب: اكشف رأسك يا أبا عبد الله، فكشفه، ثم جاء وصيف يريد الدار، فلما نظر إلى الناس وجمعهم، قال: ما هؤلاء؟! قالوا: أحمد بن حنبل، فوجه إليه بعد ما جاز بيحيى بن هرثمة، فقال: يقرئك الأمير السلام ويقول: الحمد لله الذي لم يشمت بك أهل البدع، قد علمت ما كان من حال ابن أبي دؤاد، فينبغي أن تتكلم بما يحب الله جل وعز، ومضى يحيى.
قال أبو الفضل: أنزل أبي رحمه الله دار إيتاخ، فجاء علي بن الجهم، فقال: قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرقها، وأمر أن لا يعلم بذلك فيغتم.
ثم جاء محمد بن معاوية فقال: إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك، ويقول: يقيم ههنا يحدث، فقال: أنا ضعيف، ثم وضع إصبعه على بعض أسنانه، فقال: إن بعض أسناني يتحرك، وما أخبرت بذلك ولدي.
ثم وجه إليه، فقال: ما تقول في بهيمتين انتطحتا فقتلت إحداهما الأخرى فسقط فذبح؟ فقال: إن كان أطرف بعينه أو مصع بذنبه وسال دمه يؤكل.(1/106)
قال أبو الفضل: ثم صار إليه يحيى بن خاقان، فقال: يا أبا عبد الله، قد أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك لتركب إلى أبي عبد الله، ثم قال لي: قد أمرني أن أقطع سواداً وطيلساناً وقلنسوة، فأي قلنسوة يلبس؟ فقلت له: ما رأيته يلبس قلنسوة قط. فقال له: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أصير لك مرتبة في أعلى المراتب، ويصير أبو عبد الله في حجرك. ثم قال لي: قد أمر أمير المؤمنين: يجرى عليكم وعلى قراباته أربعة آلاف درهم، ففرقها عليهم.
ثم عاد يحيى من الغد، فقال: يا أبا عبد الله، تركب؟ فقال: ذلك إليكم. فقال: استخر الله، فلبس إزاره وخفيه، وقد كان خفه قد أتى له عنده نحو من خمس عشرة سنة مرقوع برقاع عدة، فأشار يحيى إلي: يلبس قلنسوة. قلت: ما له قلنسوة. قال: كيف يدخل إليه حاسراً؟! ويحيى قائم، فطلبنا له دابة يركبها فقال يحيى: معلى! فجلس على التراب وقال: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم}. ثم ركب مثل ركب بعض التجار، فمضينا معه حتى دخل دار المعتز، فأجلس في بيت في الدهليز، ثم جاء يحيى فأخذ بيده حتى أدخله، ورفع لنا الستر ونحن ننظر. وكان المعتز قاعداً على دكان في الدار، وقد تقدم يحيى إليه، فقال: لا تمد يدك إليه، فلما صعد الدكان قعد، فقال له يحيى: يا أبا عبد الله، إن أمير المؤمنين جاء بك ليسر بقربك، ويصير أبو عبد الله في حجرك.
فأخبرني بعض الخدم أن المتوكل كان قاعداً وراء الستر، فلما دخل أبي الدار قال لأمه: يا أمه، قد نارت الدار، ثم جاء خادم بمنديل، فأخذ يحيى المنديل، وأخرج منه مبطنة فيها قميص، فأدخل يده في جيب القميص والمبطنة، ثم أخذ بيد أبي فأقامه، ثم أدخل جيب القميص والمبطنة، في رأسه، ثم أدخل يده وأخرج يده اليمنى وكذلك اليسرى، وهو لا يحرك يده، ثم أخذ قلنسوة فوضعها على رأسه وألبسه طيلساناً ولحفه به. ولم يجيئوا بخف فبقي(1/107)
الخف عليه، ثم انصرف. وقد كانوا تحدثوا أن يخلعوا عليه سواداً.
فلما صار إلى الدار نزع الثياب عنه، ثم جعل يبكي، ثم قال: سلمت من هؤلاء ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم.
ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام، فكيف بمن يجب علي نصحه من وقت تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟! ثم قال: يا صالح، وجه بهذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصدق بثمنها، ولا يشتري أحد منكم منها شيئاً.
قال أبو الفضل: فوجهت بها إلى يعقوب بن بختان فباعها وفرق ثمنها، وبقيت عندي القلنسوة.
ثم أخبرناه أن الدار التي هو فيها كانت لإيتاخ، فقال: اكتب رقعة إلى محمد بن الجراح استعف لي من هذه الدار، فكتبنا رقعة، فأمر المتوكل أن يعفى منها، ووجه إلى قوم ليخرجوا عن منازلهم، فسأله أن يعفى من ذلك، فاكتريت له داراً بمائتي درهم، فصار إليها. وأجري لنا مائدة وثلج، وضرب الخيش وفرش الطبري، فلما رأى الخيش والطبري نحى نفسه عن ذلك الموضع، وألقى نفسه على مضربة له. واشتكت عينه ثم برئت، فقال لي: لا تعجب، كانت عيني تشتكي تمكث حيناً حتى تبرأ، ثم برئت في سرعة.
وجعل يواصل، يفطر في كل ثلاث على سويق، فمكث خمس عشرة يفطر في كل ثلاث، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة، لا يفطر إلا على رغيف. وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز، لكيلا يراها، فيأكل من حضر. وكان إذا أجهده الحر تبل له خرقة فيضعها على صدره. وفي كل يوم يوجه إليه بابن ماسويه، فينظر إليه ويقول: يا أبا عبد الله، أنا أميل إليك وإلى أصحابك، وما بك علة إلا الضعف وقلة الرز. فقال له ابن ماسويه: إنا ربما(1/108)
أمرنا عبادنا بأكل دهن الخل، فإنه يلين، وجعل يجيئه بالشيء ليشربه فيصبه. وقطع له ذراعة وطيلساناً سوداً.
وجعل يعقوب وغياث يصيران، فيقولون له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دؤاد وفي ماله؟ فلا يجيب في ذلك بشيء وجعل يعقوب وغياث يخبرانه بما يحدث من أمر ابن أبي دؤاد في كل يوم. ثم أحدر ابن أبي داؤد إلى بغداد بعد ما أشهد عليه ببيع ضياعه. وكان ربما صار إليه يحيى وهو يصلي، فيجلس في الدهليز حتى يفرغ. ويجيء علي بن الجهم فينتزع سيفه وقلنسوته ويدخل عليه.
وأمر المتوكل أن يشترى لنا دار، قال: يا صالح، قلت: لبيك، قال لئن أقررت لهم بشراء دار لتكونن القطيعة بيني وبينكم، إنما يريدون أن يصيروا هذا البلد لي مأوى ومسكناً. فلم يزل يدفع شراء الدار حتى اندفع، وصار إلى صاحب المنزل فقال: أعطيك في كل شهر ثلاثة آلاف درهم مكان المائدة، فقلت: لا أفعل.
وجعلت رسل المتوكل يأتونه يسألونه عن خبره، فيصيرون إليه فيقولون: هو ضعيف، وفي خلال ذلك يقولون: يا أبا عبد الله، لا بد له من أن يراك، فيسكت. فإذا خرجوا يقول: إني لأتعجب من قولهم: لا بد له من أن يراك، وما علمهم أنه لابد له من أن يراني؟!
وكان في هذه الدار حجرة صغيرة فيها بيتان، فقال: أدخلوني تلك الحجرة، ولا تسرجوا لي سراجاً، فأدخلناه، فجاء يعقوب، فقال: يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين مشتاق إليك، ويقول: انظر اليوم الذي تصير إليّ فيه أي يوم هو حتى أعرفه. فقال: ذلك إليكم، فقال: يوم الأربعاء يوم خال. ثم خرج(1/109)
يعقوب، فلما كان من الغد جاء، فقال: البشرى يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد أعفيتك عن لبس السواد والركوب إلي وإلى ولاة العهود وإلى الدار، فإن شئت فالبس القطن، وإن شئت فالبس الصوف. فجعل يحمد الله على ذلك.
ثم قال له يعقوب: إن لي ابناً وأنا به معجب، وله من قلبي موضع، فأحب أن تحدثه. فسكت، فلما خرج قال: أتراه لا يرى ما أنا فيه!
وكان يختم من جمعة إلى جمعة، فإذا ختم دعانا، فيدعو ونؤمن على دعائه، فلما كان غداة الجمعة وجه إلي وإلى عبد الله أخي، فلما أن ختم جعل يدعو ونحن نؤمن عليه، فلما فرغ جعل يقول: أستخير الله، مراراً. فجعلت أقول: ما تريد. ثم قال: إني أعطي الله عهداً إن عهده كان مسئولاً، وقد قال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} إني لا أحدث حديثاً تماماً أبداً حتى ألقى الله عز وجل، ولا أستثنى منكم أحداً. فخرجنا وجاء علي بن الجهم فقلنا له، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأخبر المتوكل بذلك. وقال: إنما تريدون أن أحدث فيكون هذا البلد حبسي، وإنما كان سبب الذين أقاموا بهذا البلد لما أعطوا فقبلوا، وأمروا فحدثوا. وكانوا يدخلون عليه فيتكلمون وهو مغمض العينين يتعال، وضعف ضعفاً شديداً، فكانوا يخبرونه فيستوجع لذلك. وجعل يقول: والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان، وإني لأتمنى الموت في هذا، وذاك أن هذا فتنة الدنيا، وكان ذاك فتنة الدين. ثم جعل يضم أصابع يده ويقول: لو كانت نفسي في يدي لأرسلتها، ثم يفتح أصابعه.
وكان المتوكل يوجه إليه في كل وقت يسأله عن حاله.
قال أبو الفضل: وكان في خلال ذلك يأمر لنا بالمال، فيقول: يوصل(1/110)
إليهم ولا يعلم شيخهم فيغتم، ما يريد منهم؟ إن كان هو لا يريد الدنيا، فلم يمنعهم؟!
وقالوا للمتوكل: إنه كان لا يأكل من طعامك، ولا يجلس على فراشك، ويحرم الذي تشرب! فقال لهم: لو نشر المعتصم وقال فيه شيئاً لم أقبل منه.
قال أبو الفضل: ثم إني انحدرت إلى بغداد، وخلفت عبد الله عنده، فإذا عبد الله قد قدم وجاء بثيابي التي كانت عنده، فقلت له: ما جاء بك؟ فقال: قال لي انحدر، وقل لصالح: لا تخرج، فأنتم كنتم آفتى، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أخرجت واحداً منكم معي، لولا مكانكم لمن كانت توضع هذه المائدة؟ ولمن كانت تفرش هذه الفرش، وتجرى الأجزاء؟ قال أبو الفضل: فكتبت إليه أعلمه بما قال لي عبد الله، فكتب إلي بخطه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي حملني على الكتاب إليك والذي قلت لعبد الله: لا يأتيني منكم أحد رجاء أن ينقطع ذكري ويخمل، فإذا كنتم ههنا فشا ذكري، وكان يجتمع إليكم قوم ينقلون أخبارنا، ولم يكن إلا خير، واعلم يا بني أنك إن أقمت فلم تأتني أنت ولا أخوك فهو رضائي، فلا تجعل في نفسك إلا خيراً. والسلام عليك ورحمة الله)).
قال أبو الفضل: ثم ورد كتاب آخر بخطه إلي يذكر فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك السوء برحمته، كتابي إليك وأنا في نعم من الله جل وعز متظاهرة، أسأله تمامها والعون على أداء شكرها، فقد انفكت عنا عقد، إنما كان حبس من كان ههنا، بما أعطوا فقبلوا، وأجري عليهم فصاروا في الحد الذي صاروا إليه، وحدثوا ودخلوا عليهم، فهذه كانت قيودهم، فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من شرهم ويخلصنا، فقد كان(1/111)
ينبغي لكم لو فديتموني بأموالكم وأهاليكم لهان ذلك عليكم للذي أنا فيه، فلا يكبر عليكم ما أكتب به إليكم. فالزموا بيوتكم، لعل الله أن يخلصني والسلام عليكم ورحمة الله)).
قال أبو الفضل: ثم ورد غير كتاب إلي بخطه بنحو من هذا، فلما خرجنا من العسكر رفعت المائدة والفرش، وكل ما أقيم لنا.
قال أبو الفضل: وأوصى وصية: ((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين، وأوصي أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأوصى أن لعبد الله بن محمد المعروف بفوران نحواً من خمسين ديناراً، وهو مصدق فيما قال: فيقضى ما له علي من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطي ولد صالح وعبد الله ابني أحمد بن محمد بن حنبل كل ذكر وأنثى، عشرة دراهم، عشرة دراهم، بعد وفاء ما لأبي محمد. شهد أبو يوسف، وصالح وعبد الله ابنا أحمد بن محمد بن حنبل)).
قال أبو الفضل: ثم سأل أبي رحمة الله عليه أن يحول من الدار التي اكتريت، فاكترى هو داراً وتوحل إليها. فسأل المتوكل عنه فقيل له: إنه عليل، فقال: قد كنت أحب أن يكون في قربي، وقد أذنت له. يا عبيد الله، احمل إليه ألف دينار يقسمها. وقال لسعيد: تهيئ له حراقة ينحدر فيها. فجاءه علي بن الجهم في جوف الليل فأخبره. ثم جاء عبيد الله ومعه ألف دينار، فقال: إن أمير المؤمنين قد أذن لك، وقد أمر لك بهذه الألف دينار،(1/112)
فقال: قد أعفاني أمير المؤمنين مما أكره، فردها، وقال: أنا رقيق على البرد، والظهر أرفق بي، فكتب له جوازاً، وكتب إلى محمد بن عبيد الله في بره وتعاهده، فقدم علينا فيما بين الظهر والعصر.
أخبرنا أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد بن عثمان القومساني بهمذان، أخبرنا الحافظ أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحافظ إجازة، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن الحسين بن محمد، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عبد الله بن خلف ابن نجيب، وأخبرنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أخبرنا أحمد بن هلال القاضي، قال: رئي المتوكل في النوم أو قال رأيت المتوكل بعد موته في النوم فإذا عليه ثياب بيض وبوجهه اصفرار، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بثلاث: بإظهاري السنة وبنياني مسجد الجامع، وقتلت مظلوماً. قلت: فما لي أرى هذا الاصفرار في وجهك؟ قال: إنه إذا عذب محمد يعني ابنه ساءني، فهذا الاصفرار منه.
أخبرنا عبد الرزاق بن إسماعيل، أخبرنا شيرويه بن شهردار، أخبرنا أبو الحسن الميداني إذناً، أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، حدثنا أحمد بن محمد بن عمران الجندي، حدثنا محمد بن يحيى النديم، حدثنا الحسين بن إسحاق، قال سمعت صالح بن أحمد بن حنبل يقول: سهرت ليلة ثم غفوت، فرأيت في نومي كأن رجلاً يعرج به إلى السماء، وقائلاً يقول:
ملك يقاد على مليك قادر ... متفضل في العفو ليس بجائر
ثم أصبحنا فما أمسينا حتى جاء نعي المتوكل من (سر من رأى) إلى بغداد.(1/113)
أخبرنا عبد الرزاق بن إسماعيل، أخبرنا شيرويه بن شهردار بن شيرويه، حدثنا أبو بكر أحمد بن عمر الفقيه، حدثنا أبو غانم حميد بن مأمون، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الحافظ، حدثنا أبو الفضل أحمد بن هارون النسوي، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أبو محمد بن أبي سعيد، حدثنا المؤمل بن حماد بن المؤمل الكلبي، حدثنا عمرو بن شيبان، قال: رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل وأنا نائم في منزلي بصفين وليس عندي من خبر قتلته شيء قائلاً يقول:
يا نائم الليل في جثمان أقطان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
قال: فانتبهت فرقاً ثم راجعت النوم، فعاودني فخاطبني بهذا البيت، فانتبهت فزعاً، فدعوت بدواة وبياض ثم نمت، فجاءني يقول:
يا نائم الليل في جثمان أقطان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى العصبة الأنجاس ما فعلوا ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
ولى إلى الله مظلوماً فضج له ... أهل السموات من مثنى وأحدان
فالطير ساهمة والغيث محتبس ... والبيت منتقض في كل إبان
والسعر ينقص والأثمار ذاهبة ... والأرض هامدة في كل أوطان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة ... ترقعوها لها شأن من الشأن
فابكوا على جعفر وابكوا خلفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال: فلما أصبحنا سمعت من يقول: قتل المتوكل.
قال أبو بكر: الجثمان: الجسم. والأقطان: جمع قطن، وإنما يعني: في قميص.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد بن علي بن إسحاق الخازن،(1/114)
أخبرنا أحمد بن بشر بن سعيد الخرقي، حدثنا أبو روق الهزاني، قال: سمعت محمد بن خلف يقول: كان إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز صلى الله عليه وسلم رد مظالم بني أمية، والمتوكل رحمة الله عليه محا البدع وأظهر السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرني الأزهري، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: في سنة أربع وثلاثين ومائتين أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، وكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة، فقسمت بينهم الجوائز، وأجريت عليهم الأرزاق. وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور، ووضع له منبر، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس. وجلس أبو بكر ابن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا ابن ناصر، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، أخبرنا محمد بن الحسين بن خلف، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحنائي، أخبرنا أبو محمد عبد الله الطرسوسي، حدثنا أبو العباس البرذعي، قال: سمعت أبا الفضل يقول: بلغني أنه ذكر عند المتوكل بعد موت أحمد أن أصحاب أحمد يكون بينهم وبين أهل البدع الشر. فقال المتوكل لصاحب الخبر: لا ترفع إلي من أخبارهم شيئاً، وشد على أيديهم، فإن صاحبهم من سادة أمة محمد(1/115)
صلى الله عليه وسلم . وقد عرف الله لأحمد صبره وبلاءه، ورفع علمه أيام حياته وبعد موته، أصحابه أجل الأصحاب فأنا أظن أن الله يعطي أحمد ثواب الصديقين.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف. وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد، وأبو طالب عبد القادر بن محمد، قالوا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال: سمعت أبي يقول: لقد تمنيت الموت وهذا أمر أشد علي من ذلك، ذاك فتنة الدين بالضرب والحبس كنت أحتمله في نفسي. وهذا فتنة الدنيا. أو كما قال.
أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي نصر بن محمد القاشاني الأصبهاني بها، أخبرنا الحافظ أبو نصر أحمد بن عمر بن محمد الغازي.
وأخبرنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، قالا: أخبرنا عبد الله بن محمد بن إبراهيم الصرام، أخبرنا إبراهيم بن إسحاق الغسيل قال: أخذت هذه القصيدة من أبي بكر المروذي، وذكر أن إسماعيل ابن فلان الترمذي قالها، وأنشدها في أحمد بن حنبل وهو في سجن المحنة، قال:
تبارك من لا يعلم الغيب غيره ... ومن لم يزل يثنى عليه ويذكر
علا في السماوات العلى فوق عرشه ... إلى خلقه في البر والبحر ينظر
سميع بصير لا تشك مدبر ... ومن دونه عبد ذليل مدبر
يدا ربنا مبسوطتان كلاهما ... تسحان والأيدي من الخلق تقتر
إذا فيه فكرنا استحالت عقولنا ... وأبنا حيارى واضمحل التفكر
وإن نقر المخلوق عن علم ذاته ... وعن كيف كان الأمر ضل التدبر(1/116)
فلو وصف الناس البعوضة وحدها ... بعلمهم لم يحكموها وقصروا
فكيف بمن لم يقدر الخلق قدره ... ومن هو لا يبلى ولا يتغير
نهينا عن التفتيش والبحث رحمة ... لنا وطريق البحث تردي وتخسر
وقالوا لنا: قولوا ولا تتعمقوا ... بذلك أوصانا النبي المعزر
فقلنا وقلدنا ولم نأت بدعة ... وفي البدعة الخسران والحق أنور
ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلاً ... لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر
شهدنا بأن الله لا رب غيره ... وأحمد مبعوث إلى الخلق منذر
وأن كتاب الله فينا كلامه ... وإن شك فيه الملحدون وأنكروا
شهدنا بأن الله كلم عبده ... ولم يك غير الله عنه يعبر
غداة رأى ناراً فقال لأهله ... سآتي بنار أو عن النار أخبر
فناداه يا موسى أنا الله لا تخف ... وأرسله بالحق يدعو وينذر
فقال انطلق إني سميع لكل ما ... يجيء به فرعون ذو الكفر مبصر
وكلمه أيضاً على الطور ربه ... وقرب والتوراة في اللوح تسطر
كذلك قال الله في محكم الهدى ... وإسناده الروح الأمين المطهر
وإن ولي الله في دار خلده ... إلى ربه ذي الكبرياء سينظر
ولم أر في أهل الخصومات كلها ... زكينا ولا ذا خشية يتوقر
ولم يحمد الله الجدال وأهله ... وكان رسول الله عن ذاك يزجر
وسنتنا ترك الكلام وأهله ... ومن دينه تشديقه والتقعر
تفرغ قوم للجدال وأغفلوا ... طريق التقى حتى غلا المتهور
وقاسوا بآراء ضعاف وفرطوا ... ورأي الذي لا يتبع الحق أبتر
جزى الله رب الناس عنا ابن حنبل ... وصاحبه خيراً إذا الناس أحضروا
سمي نبي الله أعني محمداً ... فقل في ابن نوح والمقالة تقصر
سقى الله قبراً حله ما ثوى به ... من الغيث وسميا يروح ويبكر(1/117)
هما صبرا للحق عند امتحانهم ... وقاما بنصر الله والسيف يقطر
وأربعة جاءوا من الشام سادة ... عليهم كبول بالحديد تسمر
دعوا فأبوا إلا اعتصاماً بدينهم ... وأجلوا عن الأهلين طراً وسيروا
إلى البلد المشحون من كل فتنة ... وفي السجن كالسراق ألقوا وصيروا
فما زادهم إلا رضا وتمسكاً ... بدينهم والله بالحق أبصر
إذا ميز الأشياخ يوماً وحصلوا ... فأحمد من بين المشايخ جوهر
رقيق أديم الوجه حلو مهذب ... إلى كل ذي تقوى وقور موقر
أبي إذا ما حاف ضيم مؤمر ... ومر إذا ما خاشنوه مذكر
لعمرك ما يهوى لأحمد نكبة ... من الناس إلا ناقص العقل مغور
هو المحنة اليوم الذي يبتلى به ... فيعتبر السنى فينا ويسبر
شجى في حلوق الملحدين وقرة ... لأعين أهل النسك عف مشمر
فقا أعين المراق فعل ابن حنبل ... وأخرس من يبغي العيوب ويحقر
جرى سابقاً في حلبة الصدق والتقى ... كما سبق الطرف الجواد المضمر
وبلد عن إدراكه كل كودن ... قطوف إذا ما حاول السبق يعثر
إذا افتخر الأقوام يوماً بسنة ... ففيه لنا والحمد لله مفخر
فقل للألى يشنونه لصلاحه ... وصحته والله بالعذر يعذر
جعلتم فداء أجمعين لنعله ... فإنكم منها أذل وأحقر
أريحانة القراء تبغون عثرة ... وكلكم من جيفة الكلب أقذر
فيا أيها الساعي لتدرك شأوه ... رويدك عن إدراكه ستقصر
تمسك بالعلم الذي كان قد وعى ... ولم يلهه عنه الخبيص المزعفر
ولا بغلة هملاجة مغربية ... ولا حلة تطوى مراراً وتنشر
ولا منزل بالساج والكلس متقن ... ينقش فيه جصة ويصور
ولا أمة براقة الجيد بضة ... بمنطقها يصبى الحليم ويسحر(1/118)
حمى نفسه الدنيا وقد سنحت له ... فمنزله إلا من القوت مقفر
فإن يك في الدنيا مقلا فإنه ... من الأدب المحمود والعلم مكثر
فقل للألى حادوا معاً عن طريقه ... ولم يمكثوا حتى أجابوا وغيروا
فلا تأمنوا عقبى الذي قد أتيتم ... فإن الذي جئتم ضلال مزور
فيا علماء السوء أين عقولكم ... وأين الحديث المسند المتخير
تأسى بكم قوم كثير فأصبحوا ... لكم ولهم في كل مصر معير
كتبتم بأيديكم حتوف نفوسكم ... فيا سوءتا مما يخط المقدر
وأشمتم أعداء دين محمد ... ولم تضرب الأعناق منكم وتنشر
فسبحان من يعصى فيعفو ويغفر ... ويظهر إحسان المسيء ويستر
أخبرنا أبو طاهر السلفي في كتابه، قال: أنشدنا أبو محمد بن جعفر بن أحمد السراج الشافعي ببغداد يرثي الإمام أبا عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، من محنة، لنفسه:
سقى الله قبراً حل فيه ابن حنبل ... من الغيث وسميا على إثره ولي
على أن دمعي فيه ري عظامه ... إذا فاض، ما لم يبل منها وما بلي
فلله رب الناس مذهب أحمد ... فإن عليه ما حييت معولي
دعوه إلى خلق القرآن كما دعوا ... سواه فلم يسمع ولم يتأول
ولا رده ضرب السياط وسجنه ... عن السنة الغراء والمذهب الجلي
ولما يزدهم والسياط تنوشه ... فشلت يمين الضارب المتبتل
على قوله: القرآن وليشهد الورى ... كلامك يا رب الورى كيفما تلي
فمن مبلغ أصحابه أنني به ... أباهي أهل العلم في كل محفل
وألقى به الزهاد كل مطلق ... من الخوف دنياه طلاق التبتل(1/119)
مناقبه إن لم تكن عالماً بها ... فكشف طروس القوم عنهن واسأل
لقد عاش في الدنيا حميداً موفقاً ... وصار إلى الأخرى إلى خير منزل
وإني لراج أن يكون شفيع من ... تولاه من شيخ ومن متكهل
ومن حدث قد نور الله قلبه ... إذا سألوه عقده قال حنبلي
أخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي البغدادي بها، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: لما كان في أول يوم من شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، حم أبي ليلة الأربعاء فدخلت عليه يوم الأربعاء وهو محموم يتنفس تنفساً شديداً، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرضه إذا اعتل، فقلت: يا أبت، علام أفطرت البارحة؟ قال: على باقلا، ثم أراد القيام، فقال: خذ بيدي، فأخذت بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتى توكأ علي، وكان يختلف إليه غير متطبب، كلهم مسلمون، فوصف لي متطبب يقال له: عبد الرحمن قرعةٌ تشوى ويسقى ماءها وهذا يوم الثلاثاء، فتوفي يوم الجمعة فقال لي: يا صالح، قلت: لبيك، قال: لا تشوى في منزلك ولا في منزل عبد الله أخيك.
وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته. وجاء علي بن الجعد فحجبته، وكثر الناس، فقال: فأي شيء ترى؟ قلت: تأذن لهم فيدعون لك، قال: أستخير الله، فجعلوا يدخلون عليه أفواجاً حتى تمتلئ الدار، فيسألونه ويدعون له، ثم يخرجون ويدخل فوج آخر، وكثر الناس، وامتلأ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق.(1/120)
وجاء رجل من جيراننا قد خضب فدخل عليه فقال: إني لا أرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح فدعا له فجعل يقول له ولجميع المسلمين.
وجاء رجل فقال: تلطف بي في الإذن عليه، فإني قد حضرت ضربه يوم الدار، وأريد أن أستحله، فقلت له: فأمسك، فلم أزل به حتى قال: أدخله، فأدخلته، فقام بين يديه وجعل يبكي وقال: يا أبا عبد الله، أنا كنت ممن حضر ضربك يوم الدار، وقد أتيتك فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك وإن أردت أن تحلني فعلت. فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك؟ قال: نعم قال: قد جعلتك في حل، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس.
وكان له في خرقة قطيعات، فإذا أراد الشيء أعطيا من يشتري له فقال لي يوم الثلاثاء وأنا عنده: انظر، في خريقتي شيء؟ فنظرت فإذا فيها درهم، قال: وجه واقتض بعض السكان، فوجهت فأعطيت شيئاً، فقال وجه واشتر تمراً وكفر عني كفارة يمين، فوجهت فاشتريت وكفرت عنه كفارة يمين، وبقي ثلاثة دراهم، أو نحو ذلك فأخبرته، فقال: الحمد لله، وقال: اقرأ علي الوصية، فقرأتها عليه، فأقرها.
أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف، وأخبرنا أبو طالب المبارك بن علي بن محمد بن خضير الصيرفي، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، وأبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف، قالوا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثني أبو بكر محمد بن عباس المكي، قال: سمعت الوركاني جار أحمد بن حنبل يقول: أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس.(1/121)
وبه حدثنا عبد الرحمن، حدثني أبو بكر، قال: وسمعت الوركاني يقول: يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى والمجوس.
آخر الكتاب
والحمد للملك الوهاب، على يد أفقر عباد الله وأحوجهم إلى مغفرة مولاه علي بن عبد الرحمن الحنبلي، حامداً لربه، سائلاً منه مغفرة ذنبه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.(1/122)