الأسئلة(100/7)
المقصود بولاية الفقيه وبيان وقت ظهور هذا المصطلح
السؤال
ما المقصود بولاية الفقيه عند الرافضة؟ وهل هو مصطلح قديم أو هو حادث بعدما قامت دولتهم في إيران أذلهم الله؟
الجواب
ولاية الفقيه لا شك أنها من حيث فلسفتها الحديثة تعتبر أمراً حادثاً عند الرافضة، وإن كان يوجد عند بعض فقهائهم من يشير إلى هذا، لكنها كمذهب معلن لم يجرؤ أحد على إعلانه، والقول به واعتماده عند الرافضة إلا الخميني، ويقصد به الخميني أنه لا بد من أن يكون للمهدي المزعوم الذي يسمونه المنتظر من يمهّد لهم لظهوره؛ وذلك بأن يتولى ولاية الرافضة في شئونهم العلمية والفقهية والدينية، نيابة عن المهدي، وهذا الوالي الذي يمهّد للمهدي هو الفقيه، أو ما يسمونه: الآية.
إذاً: معنى ولاية الفقيه: أن الفقيه ينبغي أن يقوم ببعض واجبات المهدي المعلقة إلى خروج المهدي، فهم مثلاً: يعتقدون أنه لا تقوم لهم دولة إلى بـ المهدي، فـ الخميني وهو سياسي داهية عبث بعقولهم، قال: إلى متى ننتظر خروج المهدي من أجل أن يقيم دولة؟ بل لا بد أن ننوب عنه في إقامة دولة؛ لكي نهيئ له السبيل ليخرج، فإذا خرج من سردابه وإذا بنا قد مهدنا له السبيل في دولة قائمة تحكم بالشرع كما يريد الرافضة، وهذه خرافة، ولكنه دجّل عليهم بها وصدقوه، ولا يزال أكثرهم يصدقونه وإن كانوا قد بدءوا يتراجعون بعض الشيء، فهناك من يبدّعون هذه الفكرة؛ لأنها ما أوصلتهم إلى ما يريدون، ولن يصلوا إلى أغراضهم التي يريدون بها ضر المسلمين.(100/8)
أسباب اختلاف الرافضة فيما بينهم في الأصول المعتمدة لديهم
السؤال
هل لك أن تحدثنا عن الأسباب العلمية، لما يحدث عند الإيرانيين الرافضة هذه الأيام من اضطرابات بين مراجعهم؟
الجواب
أكثر ما أثّر على الرافضة بعد الخميني هو أنهم تحطمت أحلامهم، واصطدموا بصخرة الواقع، ووجدوا أنهم كانوا يحلمون حينما قاموا مع الخميني، ولما مات الخميني ماتت آمالهم معه، فبدءوا يراجعون أمورهم، ومن ذلك رجوع كل منهم إلى أصوله العقدية، وأصوله الحزبية، وأصوله الأسرية إلى آخره، وهذا جعلهم يتشتتون الآن، هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من مثقفيهم صاروا يشككون في أصوله، وهم من المثقفين الذين خرجوا عن نطاق إيران إلى الدول الأخرى، وعايشوا المسلمين وقرءوا، بدءوا يعلنون التشكيك في أصول الرافضة، والآن صدر في هذا الكتب، ولهم مقالات وردود، وردود على الردود من صميم الرافضة، وهذا مما يدل على تناقضهم، فبعضهم يرد على بعض في أصول كبرى قطعية، ليست مجرد أمور خلافية، بل اختلفوا في أمور قطعية من أصولهم التي يعتمدون عليها في دينهم، بدءوا يختلفون فيها.(100/9)
حكم وصف بعض المشايخ وطلبة العلم بأنهم من أولياء الله
السؤال
نرى في وقتنا المعاصر من يبالغ في مدح المشايخ أو طلبة العلم ويصفه بأنه ولي من أولياء الله؟
الجواب
من ظهر صلاحه واستقامته من أهل العلم الراسخين في الدين، الذين لهم اعتبارهم، والذين جعل الله في قلوب عامة المسلمين الحب لهم، يُشهد لهم -إن شاء الله- بالولاية، لا حرج في ذلك، هناك من علمائنا -بحمد الله- من شهد الناس لهم بالاستقامة، ونجد حبهم في قلوب عامة المسلمين، فهؤلاء -إن شاء الله- يقال: إنهم من أولياء الله، هذه من باب الشهادة العامة لا الجزم.(100/10)
الفرق بين الشيخ محمد البهي تلميذ محمد عبده وبين البهي الخولي
السؤال
هل الشيخ محمد البهي تلميذ محمد عبده هل هو محمد البهي الخولي؟
الجواب
لا، محمد البهي هو صاحب كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وهو ليس بالمفكر الإسلامي الخولي، وكلاهما يسمى بالمفكر الإسلامي، لكن هذه مشكلة التسمية.(100/11)
شرح العقيدة الطحاوية [101]
أغلب الكرامات التي تقع للناس تكون في حال ضرورة ولجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد يكون منها ما يدفع الله به عن المسلم سوءاً، أو يجلب له خيراً، وقسم من هذه الكرامات يكون من باب إقامة الحجة، أو الاستدراج لعبد من العباد، أو طائفة من الناس، فيبتليهم الله بما يشبه الكرامات فلا يشكرونه، فتحل عليهم نتيجة ذلك العقوبة، وليس كل إنسان يحصل له شيء من هذه الكرامات، ولا يكون عدم حصولها لعبد من العباد دليلاً على نقصه عند ربه، وبعده عن جنابه.(101/1)
أقسام الناس في خوارق العادات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة.
وقسم يتعرضون بها لعذاب الله.
وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات كما تقدم].
هذه مسألة مهمة، وسبق الإشارة إليها، لكن التأكيد عليها مهم في هذا المقام؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرف ضوابط الكرامة والخوارق، ولا يميز بين الكرامة التي تكون بمثابة البشارة للإنسان برفع درجته، وبين الكرامة التي تكون من باب سد حاجة الإنسان، فهي مباحات، وبين الخارقة التي تشبه الكرامات وهي ابتلاء.
فالكرامة إذا حدثت على يد شخص من أهل الخير والاستقامة، فإنها غالباً تكون بإكرام الله له، وربما يدله الله عز وجل فيها إلى خير ينفعه في دينه ودنياه، وأحياناً تكون الكرامة للرجل الصالح ولغير الرجل الصالح من الناس، من باب النفع العاجل، يفرج الله بها كربة، أو يشفي بها مرضاً، أو يدل فيها على أمر فيه حيرة ونحو ذلك، فهذه من الأمور التي تدخل في باب المباحات، وقد يكون جزءاً منها من باب الكرامة التي ترتفع بها الدرجة.
فأغلب الكرامات التي يطلبها الناس تكون في حال ضرورة ولجوء إلى الله عز وجل، من فعل الأسباب التي شرعها الله وأباحها، كالدعاء أو الرقية أو الأدوية ونحو ذلك، فقد يكون الأمر الخارق للعادة الذي يدفع الله به عن المسلم سوءاً، أو يجلب له خيراً من باب الأمور المباحة، فإن شكر الله على ذلك وحمد الله ارتفعت بها درجته ولقي أجراً، وإن غفل ربما لا يظهر، لكن تبقى من صنف المباحات.
وقسم آخر يكون من الأمور المضرة، أو من باب إقامة الحجة، سواء كان إنساناً أو جماعة أو أمة، قد تحدث لبعض الجماعات التي عندها شيء من البدع خوارق فيظنونها كرامات، وهي تصرفهم عن السنة إلى الوقوع في البدعة أو التمادي فيها، فيظنون أن هذه الخوارق دليل على أنهم على حق، في حين أنها من إملاء الله لهم، ومن العقوبة العاجلة، والتي ربما يترتب عليها الإثم في الدنيا والآخرة، وأغلب ما يحدث لأهل البدع وأهل الفجور من هذه الخوارق هو من هذا النوع، وأحياناً تكون من الاستدراج لعبد من العباد، أو لطائفة من الناس، فيبتليهم الله عز وجل بما يشبه الكرامات والخوارق، فلا يشكرون الله عز وجل، فتحل عليهم العقوبة بسبب ذلك.(101/2)
كلمات الله نوعان: كونية، ودينية
قال رحمه الله تعالى: [وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله، وكلمات الله نوعان: كونية، ودينية.
فكلماته الكونية: هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق].
الكون بما فيه، والإنسان في أعماله أو فيما يقدره الله عز وجل له وعليه في سائر الأمور غير الشرعية، هو داخل في كلمات الله الكونية، سواء في نفس الإنسان وفي جسمه وفي أحواله، أو في جميع أمور المخلوقات، فجميع المخلوقات تسير بتدبير الله عز وجل، فالجميع داخل في آيات الله الكونية الصغير منها والكبير، ليس المقصود بالآيات الكونية فقط السنن الكونية الكبرى كجريان الشمس، ودوران الأفلاك ونحو ذلك، لا، حتى الأمور الدقيقة جداً التي يقدر فيها الله مقادير الخلق الصغير والكبير كلها داخلة في آيات الله الكونية.
أما النوع الثاني: وهو الكلمات الدينية، فهي الأوامر الشرعية، والوحي بشتى أنواعه يتمثل كلمات الله الدينية.
قال رحمه الله تعالى: [والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثير فيها، أي: بموجبها، فالأولى: تدبيرية كونية، والثانية: شرعية دينية، فكشف الأولى: العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية: العلم بالمأمورات الشرعية].
يعني: موقف العبد من الأمور الكونية بذل الأسباب، من خلال مقادير الله عز وجل التي أقدره الله عليها، وجعل له فيها الإرادة والحرية والقدرة، فالعباد لهم قدرة معينة داخلة في قدرة الله الكونية العامة، وعلى العباد أن يعملوا بما وهبه الله لهم من الأسباب، التي هي داخلة في الأسباب الكونية، وهي بذل الأسباب المادية من طلب الرزق ونحو ذلك، فهذه داخلة في الأمور الكونية العامة، وهي أيضاً مطلوبة من العباد.
أما موقف العبد من كلمات الله الشرعية فالمطلوب منه أولاً: العلم بها، ثم امتثال ما فيها من أوامر، واجتناب ما فيها من نواه.
إذاً: فالعبد مطلوب منه أن يعمل بالأمرين، وهذا هو التوازن والاعتدال والوسطية التي خالفها أهل الأهواء بشتى أصنافها، فأهل السنة والجماعة يعملون بالأسباب، ومن هنا فهم عاملون بما أمر الله به من الاستفادة من آيات الله الكونية، ثم إنهم أيضاً يمتثلون لأوامر الله وآياته الشرعية.
الملقي: [وقدرة الأولى: التأثير في الكونيات، إما في نفسه، كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره بإصحاح وإهلاك وإغناء وإفقار.
وقدرة الثانية: التأثير في الشرعيات، إما في نفسه، بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيُطاع في ذلك طاعة شرعية].
قدرة الأولى: هي التأثير في الكونيات، تشمل النوعين: الأول: تشمل عمل الخوارق بما لا يجوز شرعاً كعمل السحرة، فإن الله عز وجل قد يبتليهم بهذه الخوارق، ويكون ذلك سبباً لهلاكهم بوقوعهم في الكفر، أو في الكبائر التي تهلكهم في الدنيا والآخرة.
النوع الآخر: تشمل آيات الله الكونية المتعلقة بالكرامات، فإنها داخلة في التأثير في الكونيات، فإن الله عز وجل قد يسخّر لعباده من الآيات الكونية ما يكون كرامة.
إذاً: فالقدرة الأولى التي هي التأثير في الكونيات يدخل فيها الجائز والممنوع، يدخل فيها المشروع وغير المشروع.
أما قدرة التأثير الثانية فلا تكون إلا لمن وفقه الله عز وجل بطاعة الله عز وجل، والتمسك بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهذا لا يكون إلا على وجه الاستقامة، لا يتهيأ للإنسان أن تتوافر فيه الطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة والتقوى والتوفيق في هذا الأمر إلا على الوجه المشروع، وإن حدث لأحد من الناس ظاهره الصلاح أن حدثت له ما يظن أنها كرامات، فهو إما ابتلاء، وإما من المخارق والدجل الذي يظنه من باب الكرامة، وهو ليس من باب الكرامة، فإن صاحب البدعة قد يدعو عند الكرب، والدعاء في حد ذاته مشروع، لكن يدعو بدعاء غير مشروع، فيحصل له نفع، أو يندفع عنه ضر، فهذا بذل وسيلة، إذ هي ظاهرة شرعية، لكن ليست على الاستقامة، وربما تسخر له الآيات الكونية، لكن من باب الابتلاء والفتنة والإملاء له، وهذا ليس دليلاً على الخير، وهذا يعرف بقرائن الأحوال، لا يمكن أن يعمى على الناس الحق، وأهل الاستقامة أهل السنة يدركون الفرق واضحاً، بل عامة أهل السنة يدركون ذلك، ولذلك تجدون بعض العوام مم(101/3)
عدم نقصان العبد عند ربه إذا لم تظهر على يديه الكرامات والخوارق
قال رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه].
هذه مسألة مهمة جداً؛ لأن الناس لما كثر إعراضهم عن العقيدة السليمة، وعن التمسك بالسنة، وابتعدوا عن مناهج السلف، وتعلق بعضهم بالكرامات، وظنها من علامات الاستقامة، وأنه إذا لم تحصل له كرامة كأنه محروم من الخير، خاصة عند الأحداث الكبرى، عندما يكون هناك جهاد، أو يكون هناك نوع من المواجهة أو الفتن أو المواقف الصعبة أو نحوها، بعض الناس تتعلق نفسه بالكرامة، ظناً منه أنه إذا لم تحدث له كرامة، فإنه ليس على شيء! وهذا غلط، ووجد هذا الهاجس عند كثير من الشباب المتدين، الذين لا يلمّون بعقيدة السلف، ولا عندهم إدراك لهذه الأمور، تجد أن نفوسهم تتعلق بالكرامة من خلال الدعوة إلى الله عز وجل، أو من خلال ما تتعرض لهم من مشاكل وأحداث، تجد الواحد منهم يظن أنه إذا لم تحدث له كرامة، فإنه مقصر في حق الله عز وجل أو في دين الله، مع أن هذا ليس من الموازين الشرعية، الكرامة قد تحدث وقد لا تحدث، وإذا لم تحدث كرامة لبعض الناس، أو أمر خارق للعادة يفتن به قد يكون هذا في حد ذاته من علامات التوفيق له.
قال رحمه الله تعالى: [فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخّر له شيئاً من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه أو فساده أو نقصه].
يعني: أن الكرامات أحياناً تكون من باب الجزاء العاجل، وخير للمسلم أن يكون له الجزاء في الآخرة من أن يكون له في الدنيا.
أيضاً قد تكون الكرامة من باب النعمة التي لا يقدر على شكرها، قد يكرم الله بعض العباد بكرامة عظيمة قد لا يقدر على شكرها، فيقصر في حق الله عز وجل.
فإذاً: لا ينبغي للمسلم أن تتعلق نفسه بالكرامة، إن حدثت فهذا خير، والكرامة مبشرات، ومن منهج السلف ألا تتعلق نفس المسلم بالكرامة أو يتطلع إليها، أو يلتمسها، أو يتكلف في حصولها أو نحو ذلك.(101/4)
الخوارق النافعة تابعة للدين خادمة له
قال رحمه الله تعالى: [فالخوارق النافعة تابعة للدين خادمة له].
أي: أن الخوارق والكرامات التي تحدث للمسلمين، من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، هي جزء من تأييد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الآيات والدلائل على نبوته صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجة على الخلق؛ لأن المسلم المستقيم إنما تحصل له الكرامة باتّباعه للسنة، فهذا الأمر ينعكس على قوة الحجة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل، فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليس حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همّه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار، أو طلباً للجنة، يجعل همّه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً، فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].
وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال تعالى فيما يروي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه).
فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق.(101/5)
بطلان إنكار المعتزلة للكرامة
وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات.
وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي صلى الله عليه وسلم بالولي، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدّعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كذاباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، عند قول الشيخ: (وأن محمداً عبده المجتبى، ونبيه المصطفى)].
هذه مسألة مهمة يحسن التنبيه عليها في هذا المقام، وهي من أسباب وقوع اللبس في مسألة المعجزة والكرامة، وهي أن المعتزلة وغير المعتزلة من الفلاسفة وبعض العقلانيين قديماً وحديثاً، وأكثر المتكلمين الذين أشكل عليهم الخلط بين المعجزة والكرامة، جعل بعضهم الدلائل الوحيدة على النبوة هي المعجزات، ومن هنا أدى هذا إلى إنكار الكرامات وإنكار الخوارق وإنكار السحر إلى آخره من الأمور التي لزمتهم، وهي ليست مستقيمة، حتى مع قواعدهم العقلية، وهم استندوا على دلالات العقول، والعقول لا تدرك ما وراء عالم الشهادة.
لكن الذي يهمنا في هذا المقام أن أكثر اللبس وارد من معنى المعجزة وكونها دلالة على النبوة، فإطلاق المعجزات على آيات الأنبياء هذا يترتب عليه خطأ في المفهوم، وخطأ في اللوازم، وخطأ في النظرة إلى المعجزة والكرامة والخوارق، فالصحيح أن ما يحدث للأنبياء هو آيات، سواء كانت معجزات ظاهرة أو معجزات غير ظاهرة، سواء كانت خوارق عادية أو خوارق معنوية، أو كانت قرائن أحوال، وغالب ما يكون للأنبياء قرائن أحوال.
إذاً: فدلائل الأنبياء هي آيات، وتسميتها معجزات أوجد اللبس، وهو ظنهم أنه لا يمكن أن تكون للنبي آية إلا أن تكون بمعنى الإعجاز بالظاهر الصريح، مع أن هناك آيات إعجازها غير ظاهر ولا صريح، لكن عند بذل الهمم وعند التفكير وصرف الجهود العقلية إليها يتبين أنها آية من آيات الله عز وجل، فمثلاً: إعجاز القرآن إعجاز أكيد يعترف به جميع العقلاء، لكن العامي لا يُدرك لأول وهلة إلا عندما يُفهّم ويُبين له أن القرآن معجزة.
إذاً: الإعجاز هو جزء من آيات الأنبياء، وليس هو وصف لكل آيات الأنبياء، فدلالات النبوة هي آيات بعضها معجزات بالمعنى الاصطلاحي، وبعضها قد لا تسمى معجزات، إلا بعد بذل جهد وتبين، وقد تكون المعجزة معنوية لا تدرك إلا بجهود أجيال.
فهذه المسألة هي راجعة في نظري إلى عدم تحقيق مناط الأمر، وعدم الاتفاق على موطن الخلاف، والصحيح أن دلائل النبوة هي آيات متنوعة، منها: المعجزات الظاهرة، ومنها: المعجزات غير الظاهرة، ومنها: قرائن الأحوال، وقرائن الأحوال هي ما يحدث للناس من الأمور التي تدل على الصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة أو على العكس، فالأنبياء كلهم تميزوا بقرائن أحوال في سلوكهم، وهي تدل على أنهم لا يمكن أن يكذبوا على الله عز وجل في دعوى النبوة، وأنهم صادقون، وأنهم مشفقون، وأنهم أمناء إلى آخره.
ولذلك لا نجد النبوة تكون في إنسان مغمور يخرج من كهف أو يخرج من أدغال الغابات أو غيرها، وإنما يخرج من بين قومه يعرفونه سلفاً، فتكون قرائن الأحوال هي أعظم آيات الأنبياء، وهي ليست معجزات، بل عند التحقيق أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمن الناس كرهاً بقوة السيف، أو بالرعب الذي أوجده الله عز وجل للإسلام بقوته، حينما قام الإسلام على الأرض، أقول: إن الذين آمنوا اختياراً آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لقرائن أحواله، والذين نزلت عليهم الآيات العظمى التي تسمى معجزات ما آمنوا، الذين نزلت بناء على طلبهم، مثل: انشقاق القمر، فلما انشق وصفوا ذلك بالسحر، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء، فلما عُرج به إلى السماء وجاء بخبر الرقي كذّبوه.
إذاً: ما نفعت ما يسميه المعتزلة: معجزات وهي آيات، ما نفعت الآيات الكونية الصريحة المنظورة، إنما أقامت الحجة عليهم، لكن لم يهتد بها أولئك الذين طلبوها، وهي زادت المؤمنين إيماناً، وقد يكون هناك من أسلم بعض الأفراد، لكن أصحاب التحدي -الذين كتب الله عليهم الضلالة- لم تنفعهم هذه الأمور.(101/6)
أنواع الفراسة
قال رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي التنبيه عليه هاهنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع] تكلم المؤلف عن الفراسة؛ لأنها نوع من الكرامة، والمقصود بها فراسة المؤمن، وقد تختلط الفراسة ببعض المخارق عند من لا يدركون أو لا يفقهون.
فالمهم أن الفراسة هي التحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن في هذه الأمة محدَّثين، وذكر منهم عمر بن الخطاب، وهم أهل الفراسة الذين يلقي الله في قلوبهم الحق ويلهمهم إياه، والفراسة هي إلهام وتحبيب، وهي نوع من الكرامات والخوارق.
قال رحمه الله تعالى: [إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أَحَدُّ فراسة.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس، ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان، انتهى.
وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم].
في تسمية هذا النوع فراسة نظر؛ لأن الفراسة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن) هي فراسة شرعية، وهي نوع من الكرامة، لا تلتبس بالنوع الآخر الذي هو الكشوف، وأشبه ما يكون بالهستريا التي تحدث لمن يبالغ في الجوع والسهر والعطش، فلا تسمى هسترته فراسة على المعنى الشرعي، لكن يمكن تسمى فراسة بالمدلول اللغوي.
قال رحمه الله تعالى: [وفراسة خلقية: وهي التي صنّف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخلق على الخُلقُ؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما، وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك].
هذه أمور علمية وتسميتها فراسة تسمية مجازية؛ لأن الأمور التي تثبت بالتجارب ويعرفها أهل الاختصاص ليست فراسة على المعنى الشرعي، إنما هي أمور علمية يدركها المتخصص، ولا يدركها غير المتخصص، فربما يشعر غير المتخصص أنها نوع من الفراسة، لكن ليست فراسة، وإنما هي أمور تعرف بالقرائن وتعرف بالدراسة، وتعرف بالعلم والتجربة والاستقراء، سواء في الطب أو في سائر العلوم، أو في الممارسات العادية لأصحاب المهن وغيرها، فإن هذه الأمور تحدث لهم، لكن تسميتها فراسة حقيقة فيها نظر، وهذا التقسيم هو تقسيم لغوي لا تقسيم شرعي؛ لأن الفراسة الشرعية لا تختلط بالمعاني الأخرى، من المخرصة، أو الأمور الخُلُقية المعروفة بالعلم ونحو ذلك.(101/7)
الأسئلة(101/8)
ما جاء في تعلق الفراسة بتمييز المتخصصين في الحديث بين الصحيح وغيره
السؤال
ما يعرفه أهل الحديث المتخصصون من التمييز بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، أحياناً من خلال متنه فهل هذا من باب الفراسة؟
الجواب
إذا كان هذا مبنياً على سياق المتن، فهذا التخصص يجعلهم أعلم من غيرهم؛ مما أعطاهم الله عز وجل من العلم والفقه في دين الله عز وجل، وما أعطاهم الله من التجربة وإدراك المعاني، وهذا لا يكون من الفراسة بمعناها الخاص، لكن إذا كان العالم المتخصص تفرس في اللفظ معنى ليس هو الظاهر من السياق، فقد يكون هذا من باب الفراسة الشرعية، التي هي نوع من الكرامة.
وأهل الحديث هم صيارفة الحديث كما وصفهم الأئمة، والصيرفي إذا أعطيته عملة مزيفة قد تخفى على آلاف الناس، لكن بمجرد ما يلمسها الصيرفي حتى لو كان غير مبصر أدرك أنها مزيفة، فكذلك أهل الحديث كثرة الخبرة والمران وتعودهم على سياق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بمعرفة معانيها ومسالكها، وقوتها في اللغة والبيان، قد يدركون المعنى الذي لا يليق نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور، فهي نوع من الفراسة، لكنها فراسة علمية، ليست فراسة كشف وفراسة خوارق؛ لأن فراسة الخوارق تحدث بالإلهام الذي لا يمكن أن يكون بمجرد الوسائل والمواهب البشرية، فالفراسة الحقيقة هي نوع من الكرامة، كما حدث لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من الأمور.(101/9)
متى تحصل خوارق العادات للصالحين أفراداً وجماعات
السؤال
قوله: (ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً، فلا بد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه) هل هذا مناقض للكلام السابق: (أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه)؟
الجواب
يقصد المؤلف معنىً يبدو أنه لم يفصح عنه، يقصد رحمه الله أن أهل الاستقامة إذا ألجأتهم ضرورة شرعية كبرى، ليس مجرد أمور شخصية كالتحدي بين الإسلام والكفر، فإنهم قد تحدث لهم كرامات، وهذا صحيح، فإن أكثر ما كانت الكرامات في عهد الصحابة وعلى أيدي أئمة الهدى الكبار لا تكون في أمور شخصية، إلا في حالات نادرة لا يرغبون نشرها أو التحدث عنها، ولذلك قد تُذكر وقد لا تُذكر، لكن الكرامات المشهورة التي تشتهر غالبها تحدث للمؤمنين؛ بسبب استقامتهم في دين الله عز وجل في المقامات العظمى والكبرى، مثل ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما تجمد له النهر، ومثل ما حدث لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما أكل السم الذي يقتل الإنسان عادة، لكن كان من باب التحدي، وكان فيما يشبه المباهلة التي فيها نصر للإسلام، ليس موقفاً شخصياً بين المؤمن وبين آخرين، فإذا وصل الأمر إلى حد ما يشبه المباهلة بين أهل الحق وأهل الباطل، أو إلى ضرورة نصر الحق في أمر حاسم تتعلق فيه مصالح الأمة العظمى، فمن هنا تحدث الكرامات على الوجه الذي ذكره الشارح، أما في أحوال الأفراد والأمور العادية، فإنه قد تحدث وقد لا تحدث، قد تحدث للعبد الصالح كرامة في المقامات الصعبة، لكنها ليست قاعدة مطردة.(101/10)
شرح العقيدة الطحاوية [102]
إن أشراط الساعة تدخل في الأخبار التي جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي من الغيبيات التي يجب على كل مسلم أن يؤمن بها، وأشراط الساعة إما أن تكون أشراطاً صغرى، وقد حدث منها الشيء الكثير ولا يزال يحدث، وإما أن تكون أشراطاً كبرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه، وتقع قبيل قيام الساعة وتكون مؤذنة بقيامها، وهي أمور عظام هائلة، وخوارق للسنن الكونية.(102/1)
الإيمان بأشراط الساعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها).
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) وروي: (راية) بالراء والغين، وهما بمعنى.
رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه والطبراني.
وعن حذيفة بن أسيد قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، فقال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك: نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم) رواه مسلم.
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله لا يخفى عليكم، وإن الله ليس بأعور -وأشار بيده إلى عينه- وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك.
ف.
ر) فسّره في رواية: (أي: كافر).
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها.
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]).
وأحاديث الدجال، وعيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة، ببركة دعائه عليهم، ويضيق هذا المختصر عن بسطها.
وأما خروج الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، فقال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158].
وروى البخاري عند تفسير الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل).
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً) أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية، وقد أفرد الناس أحاديث أشراط ا(102/2)
المقصود بأشراط الساعة
يحسن الحديث عن بعض النقاط حول أشراط الساعة.
من ذلك أولاً: المقصود بالأشراط.
الأشراط لغة: العلامات والمقدمات، والأشراط جمع شرط، وهي الأحداث التي تكون علامة على الساعة وتتقدمها، وتكون مؤذنة بقيامها.
أما المقصود بأشراط الساعة شرعاً: فهي العلامات والمقدمات التي تحدث بين يدي الساعة، سواء كانت من الخوارق، أو كانت من غير الخوارق، مما جاء ذكره في كتاب الله عز وجل، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(102/3)
صلة موضوع أشراط الساعة بالعقيدة
إن أشراط الساعة تدخل في الأخبار التي جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدخل في الغيبيات التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم، والتي تميز المؤمنين عن غيرهم، فهي داخلة في أمور الإيمان بالغيب، ويدخل ذلك في الركن الخامس من أركان الإيمان: وهو الإيمان باليوم الآخر.
وأشراط الساعة لا شك أنها من الأمور الغيبية، ولا يعرفها الناس على سبيل التحقيق، إلا إذا حدثت ورأوها أو أدركوها، لكن قبل ذلك لا بد من التسليم بكل ما صح فيها في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون تحكم أو تفسير بلا دليل؛ لأن كثيراً من الذين تناولوا موضوع أشراط الساعة أحياناً يفسرونها بغرائب التفسير، وإذا كان هذا التفسير لا يوافق الحقيقة، وهو على سبيل الجزم، يكون من القول على الله بغير علم، وأحياناً يقترن بتفسير بعض المعاني قرائن، فتكون من الأمور المحتملة، يقال: ربما يكون هذا الشرط المقصود به كذا والله أعلم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه) قد يقصد به هذه الأجهزة التي أصبحت الآن مع الشُرَطِ ورجال الأمن وغيرهم، فهذه الأجهزة هي أشبه بالسوط، فأجهزة الاتصال يكون فيها الكلام، وقد يقال مثلاً: في أن الرجل في آخر الزمان يكلمه فخذه أو يكلم فخذه، قد يقصد بذلك أجهزة الجوال ونحوه؛ لأن الجوال إذا وضع في الجيب يكون موازياً للفخذ كثيراً، ومع ذلك كل هذا ظن لا نجزم به.
وهكذا فالاحتمالات ترد إذا كانت قريبة، أما إذا كانت بعيدة فيكون الكلام فيها إثماً، وإذا جزم الإنسان بتفسير هذه العلامات دون دليل يكون ذلك من باب القول على الله بغير علم، فليحذر المسلم من أن يتكلم ما لم تكن هناك قرينة، وبشرط ألا يجزم.
وعلى هذا فإن من أنكر أشراط الساعة، أو شيئاً منها مما ثبت في الكتاب والسنة يكون واقعاً في الكفر.(102/4)
أنواع أشراط الساعة
أشراط الساعة على نوعين: الصغرى، الكبرى.
أما الصغرى فهي المقدمات التي حدثت أو لا تزال تحدث منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان، وهي غير الكبرى التي يكون فيها أمر عظيم هائل، سواء كان خرقاً للسنن الكونية، أو أحداثاً كبرى عظيمة.(102/5)
أشراط الساعة الكبرى
أما الأشراط الكبرى للساعة فهي التي ورد ذكرها قبل قليل في حديث مسلم وغيره.
وقد حصرها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث بعشر، هذه هي الكبرى، وسميت كبرى؛ لأنها إما خوارق للسنن الكونية، وإما أنها تتمثل بأحداث عظيمة هائلة، وتتمثل هذه العلامات الكبرى بما يلي: أولاً: خروج الدجال، وهذا على سبيل الترتيب التقريبي.
ثانياً: نزول عيسى عليه السلام.
ثالثاً: خروج يأجوج ومأجوج.
رابعاً: الخسوف الثلاثة، مع أن الخسوف الثلاثة محتملة أن تحدث بين الأحداث السابقة أو قبلها، لكن هذا الظاهر من خلال عموم النصوص، والخسوف الثلاثة تعتبر ثلاث علامات.
خامساً: الدخان، على اعتبار أنه لم يحدث إلى الآن، ربما يكون بعد خروج الدجال ونزول عيسى، مع أن هناك من السلف من قال بأن الدخان حدث في عهد الصحابة، أو في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الخلفاء الراشدين.
سادساً: طلوع الشمس من مغربها.
سابعاً: خروج الدابة.
ثامناً: خروج النار من اليمن، أو من قعر عدن، كما ورد في بعض النصوص.
هذه الآيات العشر هي الآيات الكبرى، وترتيبها هنا ترتيب تقريبي.(102/6)
أشراط الساعة الصغرى
أما العلامات الصغرى فهي كثيرة، منها ما حدث جزماً، ومنها ما يحتمل أن يكون قد حدث ويحتمل ألا يكون قد حدث، ومنها الراجح أنه لم يحدث.
ويمكن أن نسرد عدداً من الأحداث الصغرى: أولاً: مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد حدث، وهذا قد يعد من الأحداث الكبرى أيضاً، كما ذكر بعض أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن العلامات الكبرى عشر، وعدّ منها مبعثه، وعلى هذا فالراجح أن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من الآيات الكبرى؛ لأن مبعثه قلب موازين الدنيا، فمبعث النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون من الكبرى أو من الصغرى.
ثانياً: موت النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: فتح بيت المقدس، وهذا قد حدث أيضاً.
رابعاً: الموت الذي يأخذ الناس كقعاص الغنم، قيل: إنه طاعون عمواس وأيضاً ما حدث بعده، وبعضهم يقول: لا لأن هذا يدخل في الأحداث التي تقارن العلامات الكبرى؛ لحديث عوف بن مالك عند البخاري قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة -وذكر فيه-: ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) فالمسألة فيها خلاف، هل هذه من الأمور التي حدثت أو لم تحدث بعد؟ الله أعلم.
خامساً: استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة، وهذا حدث في عهد عمر بن عبد العزيز والله أعلم.
سادساً: ظهور الفتن التي جاءت في حديث الملاحم والفتن، وهي كثيرة يصعب تعدادها هنا.
سابعاً: ظهور نار في الحجاز، وقد ظهرت قرب المدينة سنة (654هـ) هذه ظهرت ورآها الناس، ووقع فيها مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الآن في شرق الحرة الشرقية شرق المدينة، وآثار هذه النار موجود إلى الآن على شكل أحجار بركانية، جنوب مطار المدينة.
ثامناً: استتباب الأمن بين مكة والعراق، حتى يأمن الإنسان على نفسه من كل شيء، قد حدث هذا في مراحل كثيرة من التاريخ، منها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهود متفرقة، في عهد الدولة السعودية القائمة وفقها الله لكل خير، فإن الأمن مستتب منذ أن وحد الملك عبد العزيز رحمه الله هذه البلاد، ولا يزال الأمن مستتباً بحمد الله، نسأل الله أن يستمر هذا الاستتباب للأمن، وأن يوفقنا ويوفق الولاة لشكر نعمة الله عز وجل، والثبات على دينه.
تاسعاً: قتال العجم، وقد حدثت هذه الأشياء كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم.
عاشراً: ضياع الأمانة، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وهذا حدث ولا يزال يحدث.
الحادي عشر: رفع العلم، وفشو الجهل، والمقصود برفع العلم قلة الفقه في الدين، وقلة العلماء المقتدى بهم؛ لأن العلم لم يرتفع بالكلية، وهذا مما يدل على أن المقصود برفع العلم رفع الفقه في الدين والعلم النافع، العلم بشرع الله عز وجل الذي ينتج عنه العمل.
الثاني عشر: فشو الزنا، واستحلال الربا، وكثرة الفواحش، ونرى أن في شيوع وسائل الإعلان ما يدل على وقوع مثل هذا بين المسلمين، وسائل الإعلام المفسدة كالدشوش وغيرها.
الثالث عشر: ظهور المعازف والأغاني واستحلالها.
الرابع عشر: شرب الخمر، وتسمية الخمر بغير اسمه، وتسمية الربا بغير اسمه.
الخامس عشر: التباهي بعمارة المساجد وزخرفتها.
السادس عشر: تطاول الأعراب في البنيان، وهذه أمور كلها حدثت، وأن تلد الأمة ربتها.
السابع عشر: كثرة الهرج والقتل.
الثامن عشر: تقارب الزمان، والله أعلم بتقارب الزمان ربما يكون سرعة سير الأيام والساعات والدقائق، وهذا شعور مشترك بين كثير من الناس الآن، تجد الناس إذا تحدثوا في هذا الأمر يتفقون على الشعور بسرعة ذهاب الأيام؛ ولذلك تجد أن بعض كبار السن الذين مروا بفترة قبل توافر وسائل الحياة الحديثة، يقولون: نشعر أن اليوم في ذلك الوقت الذي هو 24ساعة كالأسبوع في هذا الزمن، واسألوا أي أحد من كبار السن الذين تأملوا هذه المسألة، فربما يكون هذا -والله أعلم- راجعاً إلى شعور الناس، أو إلى أمر لا نعلمه، وقد يكون المقصود انتزاع البركة، أو يجتمع الأمران.
التاسع عشر: تقارب الأسواق، وقد حدث هذا، حتى اشتبكت أسواق العالم الآن، يستطيع الآن أي تاجر أن يعقد صفقة بأسرع وقت من أقصى الدنيا، ويتسوق وهو في بلده من أي بلاد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهذا حاصل الآن، وربما يكون تقارباً مكانياً أو تقارب الوسائل.
العشرون: أن تعبد قبائل من هذه الأمة الأوثان، وهذا حدث عند غلاة المتصوفة وعند الرافضة وغيرهم، بل حدث حتى عند بعض قبائل العرب في بعض مراحل الزمان، ففي بداية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكرت بعض كتب التاريخ: أن بعض جيوش الدعوة وجدت عند ذي الخلصة من يعبدون الأصنام هناك، هنا في جنوب المملكة، وهذا ورد فيه نص مستقل أن الخلصة تعبد في الإسلام كما عُبدت في الجاهلية.
الحادي والعشرون: فشو التجارة ومشاركة النساء مع الرجال فيها، وهذا قد حدث.
الثاني والعشرون: كثرة الزلازل وهذا أيضاً بدأ يظهر في السنين الأخيرة.
الثالث والعشرون: كثرة المسخ والخسف في هذه الأمة،(102/7)
الأسئلة(102/8)
القول بأن فتح القسطنطينية سيتكرر مرة أخرى في آخر الزمان
السؤال
ذكر بعض أهل العلم كالشيخ أحمد التويجري رحمه الله في (إتحاف الجماعة): أن فتح القسطنطينية لم يحصل بفتح محمد الفاتح، وإنما هذا الفتح يكون في آخر الزمان، ودلل على ذلك، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
احتمال أن يكون هناك فتح غير الفتح السابق، والله أعلم.(102/9)
الرد على الشائعات حول ظهور الدابة أو بعض أوصافها
السؤال
قبل وقت قريب تكاثر الكلام حول الدابة، وأنها ستخرج من الصفا، وأن الصفا قد انشقت لها فما قولكم في هذا الكلام؟
الجواب
ما قيل من رؤية شعرها، هذا كلام من الشائعات التي لا أصل لها.(102/10)
شرح العقيدة الطحاوية [103]
ذكر أهل العلم أن أصول الدجل ترجع إلى أربعة أمور وهي: دعوى النبوة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأنهم دجالون، وهم أعظم الدجالين ذنباً، ثم يأتي بعدهم السحرة، ويدخل تحتهم أصحاب المؤثرات المعنوية إضافة إلى ما يعرف عنهم من تأثير حسي، ثم الكهنة الذين يدعون علم الغيبيات، ثم المنجمون، ويدخل تحت هذا الخط على الرمل، والضرب بالحصى، وقراءة الفنجان والكف، وغيرها من أعمال التنجيم.(103/1)
كذب الكاهن والعراف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرّافاً، ولا من يدّعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة).
روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد).
والمنجم يدخل في اسم العرّاف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه، فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول؟ وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ عن الكهان؟ فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدّثون أحياناً بالشيء فيكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة).
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث).
وحلوانه: الذي تسميه العامة حلاوته.
ويدخل في هذا المعنى ما يعطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها، مثل: الخشبة المكتوب عليها أ، ب، ج، د، والضارب بالحصى، والذي يخط في الرمل، وما يعطاه هؤلاء حرام، وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء، كـ البغوي، والقاضي عياض وغيرهما.
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب).
وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة).
والنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة بالنهي عن ذلك، أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الإحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، أو التمزيج بين القوى الفلكية والغوائل الأرضية، صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين، قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت السحر.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـ أبي بكر غلام يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري مم هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
والواجب على ولي الأمر، وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والفالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو أن يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك، ولا يسعى في إزالته مع قدرته على ذلك، قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق رضي الله عنه عنه، أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع: نوع منهم: أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو يدعي الحال من أهل المحال، من المشايخ النصابين، والفقراء الكاذبين، والطرقية المكارين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل، كمن يدّعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة ونحو ذلك.
ونوع يتكلم في هـ(103/2)
أصول الدجل والتنجيم والكهانة
يحسن الوقوف عند بعض الأمور مما سبق، أولاً: فيما يتعلق بأصول الدجل، وهنا الشارح رحمه الله عرض صوراً من صور الدجل والتنجيم والكهانة، وبعضها قد يشبه بعضاً، وبعضها مرادف للبعض الآخر، لكن عند الاستقراء نجد أن أصول الدجل التي ذكرها أهل العلم، ومنها ما ذكر الشارح هنا ترجع إلى أربعة أمور: الأمر الأول: دعاوى النبوة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأنهم دجالون، فأعظم الدجالين ذنباً وأكذبهم وأخطرهم وأشدهم هم الذين يدّعون النبوة، وهؤلاء يجب قتلهم بكل حال، ليس فيهم خلاف، من ادعى النبوة وهو عاقل سوي، ثم أصر على دعواه يجب قتله.
الأمر الثاني: السحر، والسحر أنماط وأصناف وأنواع، ويدخل في السحر أحياناً المؤثرات المعنوية، ليس السحر فقط هو الأمور المادية، بل المؤثرات المعنوية تدخل في معنى السحر لغة وشرعاً.
الأمر الثالث: الكهانة، والكهانة تعتمد على دعاوى الغيب.
الأمر الرابع: التنجيم.
وهذه الأمور قد تتداخل أحياناً، قد يكون المنجم ساحراً، وقد يكون المنجم كاهناً، وقد يكون الكاهن ساحراً والساحر كاهناً، لكن ومع ذلك فإن هذه الأصول إذا انفرد أحدها صار نوعاً من الدجل، وإذا اجتمعت فهي دجل مغلّظ مركب، وعلى هذا فإن الأمور التي ذكرها الشارح هي صور من صور هذه الأصناف الأربعة، فمثلاً: ذكر هنا العرّاف، العرّاف يدخل في مفهوم الكهانة، ويدخل في مفهوم التنجيم، ويدخل أحياناً في مفهوم السحر؛ لأن الساحر أحياناً يكون عرّافاً، بل المنجم يستعمل العرافة، والعرّاف أيضاً يستعين بالسحر وبالتنجيم، وسيأتي تعريف العرّاف بعد قليل، وكذلك أصحاب الأزلام، وذكر الشارح نموذجاً من صور من فعل الأزلام، التي من ضمنها وضع أشياء وكتابة حروف عليها، وربط الأفعال والتصرفات بهذه الحروف والرموز أو الألوان، كأن يلون الإناء أو الخشبة بألوان ثلاثة أو أربعة، ويقول: إن خرج عليك اللون الأخضر فامض إلى فعلك، وإذا خرج عليك الأحمر فلا تمض، أو إذا خرج عليك حرف كذا فامض، وإذا ما خرج الحرف الفلاني فاترك، أو إذا خرج عليك صورة طير أحمر فامض، وإذا ظهر عليك صورة طير أسود فلا تمض إلى آخره، كل هذه الصور تعتبر من الاستقسام بالأزلام، أو ما يستعمله أهل الجاهلية من وضع الأقداح، فإذا خرج منها نوع معين أو لون معين أو شكل معين أو طفحت أو غرقت إلى آخره، كل هذه صور من صور الاستقسام بالأزلام.
وكذلك الضرب بالحصى، واعتبار أن نوع الضرب أو صوت الضرب أو لمس الحصاة إلى آخره يختلف من دجال إلى دجال؛ لأن كثيراً من الدجاجلة يحرص على أن يعمل خلاف ما يعمله غيره؛ ليتميز بشيء، ويرجع كل ذلك إلى نوع واحد.
والخط في الرمل، وهو الخط بخطوط متعرجة ومستقيمة أو نحو ذلك، فهذا يكثر ولا يزال يمارس في التمويه على الناس والعامة.
وكذلك من صور هذه الأفعال: التنجيم، التنجيم على صور كثيرة: من اعتقاد أن النجوم لها تأثير في الأرض، أو في مقاليد الأرض، أو في الأقدار، أو أن المطالع في الجملة لها تأثير في حياة الناس وفي أفعالهم وتصرفاتهم وأعمارهم وشقاوتهم وسعادتهم إلى آخره، أو أن النجوم لها تأثير في مضي الناس أو عدم مضيهم في الأعمال والأقوال وغيره إلى آخره! والتنجيم أيضاً له صور كثيرة تبدأ من عبادة النجوم، وتنتهي باعتقاد التأثير في النجوم، وبين هذه الصور صور كثيرة.
وكذلك من الصور التي ذكرها الشيخ: القرع الذي هو ضرب شيء بشيء أو نحو ذلك، والفالات التي تسمى في بعض البلاد الحظ، ويمارس فيها الدجل علناً في الشوارع، والآن الحظ والفالات والطوالع صارت تنتشر في بعض وسائل الإعلام، في بعض الجرائد اللبنانية والمصرية وغيرها، ويضعون الآن للمنجمين صفحات تحت عناوين برّاقة وجذّابة، وهي تقوم على الفالات والحظ، ويتوارد السائلون على هؤلاء الدجالين والمنجمين في سؤالهم عن حقوقهم، وعن مقاديرهم، وعما يفعلونه أو يتركون إلى آخره، فيفتونهم بهذه الأساليب الشيطانية، ويقول: أنت صاحب حظ سعيد! أو الوقت الفلاني مشئوم فلا تذهب ولا تسافر فيه على النجم الفلاني! وأنت في الوقت الفلاني يجب أن تفعل كذا أو لا تمضي أو تمضي إلى آخره، هذا الدجل الموجود في السابق أصبح الآن يسمى بأسماء براقة خداعة، وكله يدخل في مجالات الفالات والحظ.
وهؤلاء أيضاً لا يزال كثير منهم في البلاد الأخرى الإسلامية يجلسون في الحوانيت والطرقات، ويمتحنون الناس في دينهم.
ومن هذا: دعاوى الصوفية، وهم من يدّعي الحال من أهل المحال، هذا يرجع إلى دعاوى السحرة، ودعاوى الفلاسفة، ودعاوى الصوفية، قال: (من المشائخ النصّابين، والفقراء الكذّابين، والطرقية المكّارين، فهؤلاء كلهم من أصناف أهل التصوف.
فمشايخ الطرق الصوفية وأحوالها وأورادها وأشكالها يخربون عقائد الناس بالله، ويرتزقون باسم الدين.
كذلك المدعون العبادة والتمسك يسمون الفقراء، وهو اسم من أسماء الصوفية والطرقية كذلك، كل هذه صور من صور الدجل ذكرها الشيخ.
كذلك الطلاسم، وهي كل ما كان غامضاً بذاته، أو علق بأمر غامض، كتعليق الأمور بالرموز، وتع(103/3)
حقيقة الكهانة والتنجيم والسحر وأنواعه
الكهانة: هي تعاطي الأمور الغيبية، وممارسة الأشياء الغامضة البسيطة، وادعاء كشف الأسرار، وادعاء القدرة على خرق العادات، ولهذا يدخل السحر في الكهانة، وبعض صور التنجيم تدخل في الكهانة أيضاً.
أما السحر فالمقصود به ما خفي ولطف سببه، وعلى هذا فالسحر أكثره طلاسم.
والسحر عمل غامض يبهر الناس، وغالباً يكون بمعونة الشياطين، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن.
وقيل: إن السحر هو أعمال دقيقة تؤثر في القلوب والأبدان، تتم بعزائم ورقى وحركات شيطانية، وهذا وصف من أوصافه، وإلا فالسحر: هو كل ما خفي ولطف سببه، سواء كان هذا الأمر مما ليس له تفسير شرعي، أو مما ليس له تفسير مادي وعقلي.
وما لم تستوعبه العقول، أو يفسره العلم، ولم يقر به الشرع، فهو سحر، وما أثر في مقادير الخلق وأحوالهم من الأمور التي ليس لها أصل شرعي، وليست معقولة عند العقلاء، فهي سحر، ولذلك الآن يدخل في السحر صور كثيرة مما يمارسه الدجالون الآن.
والسحر كما هو معروف نوعان، ومن عرف هذين النوعين خرج مما وقع فيه كثير من الناس من الخلاف في السحر، فالسحر منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو خيالي، وأكثر الخيال يرجع إلى حقائق، وأكثر الحقائق ترجع إلى خيالات أيضاً.
فمن هنا السحر نوعان: سحر حقيقي، وهو أن يعمل الساحر أشياء مادية ظاهرة التأثير بينة، وتكون بينه وبين أعوانه من الشياطين، فالساحر يربط أحوال الناس الذين يؤثر فيهم بفعل الشياطين بأمور غامضة، يقوم بعمل أمور مادية أو وضع نجاسات أو غيرها، ويجعلها بمثابة العقد بينه وبين الشيطان، وأنه ما دامت هذه الأشياء موجودة محفوظة في مكان معين أو على نمط معين، فإنها هي الرابط بين الشيطان وبين الساحر للتأثير في الآدمي.
وهذا التأثير يرجع إلى أمر حقيقي، ولذلك كثير من الناس إذا وفق إلى معرفة مكان السحر وإتلافه بإذن الله يشفى؛ لأنه هو العقد بين الشيطان وبين هذا الساحر، أو بين الشياطين وبين هذا الساحر.
فهذا النوع أيضاً يعتبر نمطاً من أنماط السحر، ولذلك ينبغي لمن أصيب له قريب -لا قدر الله- بسحر أن يحاول أن يتعرف على مكان السحر، ولو عن طريق ما تنطق به الجن إذا ما قصد ذلك، إنما جاءه من باب استعمال الرقية.
فإذا أخبر الجن بمكان سحر، فإن كانوا صادقين فهذا خير ونعمة وكرامة للعبد أن يشفى بسبب هذا الخبر، لكن لا ينبغي أن يتعلق القارئ بالاستعانة بالجن، فيكون هذا من باب الاستدراج والابتلاء، لكن إذا جاءه الأمر بدون اختياره أو قصده وتعمده فهذا لا حرج فيه؛ فقد وقع منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا.
فالسحر الحقيقي كثير، وأكثر ما يؤثر في العباد من قبل هؤلاء الأشرار قاتلهم الله، هو السحر الحقيقي الذي يؤثر تأثيراً حقيقياً، سواء أثر في أمر مادي جسماني، أو في أمر معنوي نفسي، فكل هذا يرجع إلى أصل واحد وهو السحر الحقيقي.
أما السحر التخييلي فهو ما يكون تأثيره تأثيراً نفسياً أو نحو ذلك، أو يكون باستعمال الشياطين مباشرة، بحيث تؤثر على تفكير الإنسان وتسيطر عليه، وهذا قد يكون بتأثير مباشر من الجني أو الشيطان.
وهذا السحر توجد منه نماذج، وهو نوع من الجنون والمس، سواء عُلِم أو لم يُعلم، وأحياناً يجتمع الأمران: السحر الحقيقي، والسحر التخييلي.
أما التنجيم فهو ادعاء تأثير النجوم في مقادير الخلق، أو مقادير الكون، أو بعضها.
والكهانة أيضاً لها أصناف: العيافة كهانة، والطرق كهانة، والعرافة كهانة، وأحياناً التنجيم والسحر يكونان من الكهانة.(103/4)
ذكر بعض الصور الداخلة في التنجيم والسحر والكهانة
هناك بعض الصور تدخل في التنجيم والسحر والكهانة، وبعض الناس قد لا يرى هذه الصور من السحر والكهانة والعرافة والدجل.
فمثلاً: من صور الدجل ما ذكره الشيخ في الشرح ولا نعيده، لكن من الصور أيضاً ما يسمى بصب الرصاص، هذا موجود إلى وقت قريب، وربما يوجد الآن في بعض البلاد يفتن به العامة، يزعمون أن بعض الناس ممن يعالج بالأدوية الشعبية أنه من الوسائل التي يتعرف بها على العائن، أو على الساحر، فيقوم الكاهن أو المشعوذ بصب الرصاص في إناء، ويجعله قريباً من المريض على شكل معين، ويدعي أن صورة العائن أو صورة الساحر تظهر في الرصاص الموجود في الإناء.
ولا شك أن إظهار صورة الساحر أو العائن في الرصاص يكون عن طريق الجن، وقد يكون حقيقة، لكن بواسطة مخلوق غيبي، فمن هنا وقع المحظور، بعض الناس يقول: هذا ليس فيه شيء، نقول: لا؛ لأنك استعملت وسائل غير مشروعة لإخراج أو إظهار الأمور الغيبية، فهذه الكهانة بعينها، فتفسيرها بالتفسيرات الموهمة أو المضللة لا يعني أنها حلال، وفي هذه الأيام كثير من العوام يعتقد أن صب الرصاص لا شيء فيه، يعني: تجد الواحد منهم يرى أن الذهاب إلى كاهن معلن بالكهانة أو ساحر معلن بالسحر حرام وكفر، لكن يستبيح الذهاب إلى الذي يصب الرصاص، وهو دجال من الدجاجلة، وما هو إلا كاهن، والكهانة من السحر.
كذلك من الصور: استعمال الرقى والعزائم غير الشرعية.
هذا نوع من الدجل؛ لأن فيها يتم استخدام الجن عمداً، لكن كما قلت إذا خدم الجن الإنسان دون أن يتعمد فهذا من فضل الله عز وجل، بشرط ألا يكون هذا عادة، لأنه ربما يكون هذا من باب الابتلاء والاستدراج، لكن أن يتعمد الإنسان استخدام الجن فهذا نوع من الاستعانة بالجن من ناحية، وهو حرام، ونوع من سيطرة الجن على الإنس، وهذا هو الاستمتاع المنهي عنه ما بين الإنس والجن، وذلك بأن يفيدك الجني بمكان السحر، أو يفيدك بمعرفة العائن أو الساحر، أو بأي نوع من أنواع الإفادة، فإذا وصل الأمر إلى حد إدمان الاستعانة بالجن، والاستمتاع بمواهبهم وقدراتهم في عقد أو عهد أو وعد، فإن هذا ممنوع.
أما ما حدث من السلف ولا يزال يحدث من كثير من الصالحين أن الجن يعينون الإنسان بدون ما يكون بينه وبينهم عقد ولا عهد فهذا أمر كما قلت أحياناً يكون من باب الكرامة، وقد يكون من باب الابتلاء، فلذلك إذا كثر عند القارئ أو الراقي الاستعانة بالجن أو معاونة الجن له وتعلقهم به، فهذا نوع من الاستخدام غير المشروع، فليتنبه.
ومن أتى عرافاً فإنه لا بد أن يصلي ويؤمر بالصلاة، لأنه أولاً ممن يجب أن يشرع بالتوبة فيتوب، فإذا تاب تاب الله عليه.
الأمر الثاني: من أحاديث الوعيد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) فهذا من أحاديث الوعيد لا يعني ضرورة تحققها؛ لأن الله عز وجل قد يغفر له، وقد يوفق لصلاته فيتوب، وأيضاً ربما يبقى له أصل سقوط الفرض عنه وبقاء الإسلام ولو لم تقبل الصلاة، فإن الصلاة قد لا تقبل، لكن يسقط بها الفرض ويكون مسلماً، فما دام على الإسلام نلزمه بالصلاة، فينبغي ألا نسقط إقامة الصلاة عليه ولو لم تقبل منه، فرق بين القبول وبين مجرد إقامة الصلاة، وكذلك قد يبقى له أصل الإسلام وإن لم تقبل منه الصلاة.
كذلك من الصور: بعض الناس عنده نوع من الهسترة، أو ما يسمونهم بعقلاء المجانين أو مجانين العقلاء، هناك فئة من الناس يكون عندها نوع من الاضطراب النفسي أو العقلي، هذا النوع يكون فيه جني، فيطلع الناس ويخبرهم بما لم يدركوه، وهذا حدث.
فأنا أعرف بعض المجانين أو أشباه المجانين، أحياناً تأتيه حالة يخبرك عن شيء بينك وبينه عدة كيلو مترات، فيكون حقيقة، فينبغي للناس ألا يستفزوه لمثل هذه الأمور، ولا يستفيدوا منه أو يستنطقوه؛ لأن هذا نوع من استخدام الجن، فهو ممسوس أو عنده خلل في عقله، فلا يجوز للناس أن يستفيدوا من هذه الخصلة فيه في اكتشاف الغائب؛ لأنه نوع من الدجل، بعض الناس يتلهى بهذا ويتلذذ.
وأنا أعرف طالب علم تعرف على نوع من هذا الفئة، فوجد عنده بعض الأخبار، ففتن به، فهو دائماً يبحث عنه ويبدأ يستشيره وكأنه من النوع الموهوب، لكن عنده اضطراب، فإذا استشاره بدأ هذا الممسوس يهذي بأمور، ويخبر بأشياء هي عن طريق الجن، بل صار هذا الطالب يدمن استشارة هذا الممسوس، حتى إنه كشف من خلاله أشياء كثيرة.
فينبغي لمثل هذا أن يخوف بالله عز وجل، ويوضح له أنه نوع من أنواع الدجل، سواء كانت بعض الأخبار مفيدة؛ لأن الجني يعلم ما لا يعلمه الإنسي، وقد تحجب عن الإنس أشياء لا تحجب عن الجن، فلا تعتبر هذا كرامة لك، أو أنه من الأمور المباحة أو الجائزة، بل العكس، فهذا من أبواب الفتنة التي تحدث عند بعض الناس، وهو نوع من الدجل.
أيضاً من أنواع الدجل والسحر ما يسمى بالزار هذا يوجد عند بعض الجهلة، الذين يكونون غالباً من أصحاب اللهو والعبث والرقص والأغاني وغيرها، فهؤلاء في الغالب تستحوذ عليهم الشياطين، وبعضهم يكون بينه وبين الشياطين عقود لدفع ضر أو جلب نفع أو نحو ذلك، فهذه(103/5)
الأسئلة(103/6)
حكم التشاؤم بأشياء معينة كطير ونحوه
السؤال
ما حكم التشاؤم بأشياء معينة كطير أو شخص أو غير ذلك؟
الجواب
لا شك أن التشاؤم بأشياء معينة لا يجوز؛ لأن التشاؤم بها مبني على الدجل أصلاً، فالتشاؤم من رقم، أو من شخص، أو من صفر، أو من طير أو نحو ذلك يدخل في العرافة، ويدخل في الدجل.(103/7)
حكم وضع علامة أو ورقة على هيئة معينة للمضي في العمل أو تركه
السؤال
ما حكم من استخار في أمر متردد فيه فلم يهتد إلى طريقة، ووضع ورقة أو علامة على كيفية معينة، فإذا جاءت على الكيفية التي فيها المضي في ذلك العمل مضى وإلا فلا؟
الجواب
هذا نوع من الطيرة والعرافة ولا يجوز؛ لأن الأصل في هذا أن الإنسان يستخير ربه، إذا كان متردداً بين أمرين أو في أمر، يستخير ويكرر الاستخارة، ويستشير، فإذا عزم فليتوكل على الله، كأن يكون له مريض فيقول: علاجه يكون باستعمال هذه الطريقة، ثم يقول: لا يكون علاجه بهذه الطريقة، فيقول: والله أنا ترددت، وربما استخرت واستشرت، فأنا الآن سأضع ورقة أو علامة، وهذه العلامة دليل على المضي على العمل أو عدمه، نقول: لا، هذا ما يجوز؛ لأنه علق قدره بما لا يجوز شرعاً، فعليه أن يرتب أمره على المشروع، وإن شاء الله سيهديه الله عز وجل، إذا صدق مع ربه.(103/8)
حكم القرعة
السؤال
هل تدخل القرعة في الدجل والعرافة؟
الجواب
لا، القرعة حق؛ لأن القرعة تكون في الحقوق بين الناس، وفي المنازعة بين طرفين، القرعة ما تدخل في الدجل.(103/9)
أنواع السحر وحكم أصحاب كل نوع منها
السؤال
ما هي أنواع السحر؟ وحكم أصحاب كل نوع منها؟
الجواب
المشهور عند أهل العلم أن السحر على نوعين: هناك سحرة يكون سحرهم بالشركيات، سواءً عملوا هم الشركيات وهو الغالب، أو أمروا به، أصحاب هذا النوع من السحر يقتلون، والأصل في عملهم الردة.
النوع الثاني من السحر: استعمال ما دون الشركيات، كالتخرص والتخبطات والعرافة والدجل، الذي هو استعمال ألغاز، مع العلم أنها لا تنفع ولا تضر، فهذا نوع من الارتزاق بالدجل أو بالعرافة ونحوهما لكن دون الدخول في الشركيات، فهذا النوع إذا كان عمله أدى إلى الإضرار بالآخرين والفساد في الأرض، وصار الناس يستعينون به من دون الله عز وجل، فإذا عم فساده يقتل، وإن لم يكن مرتداً، أما إذا ما عم فساده فيكون عمله كبيرة، ويجب ردعه بالروادع التي دون القتل.
إذاً: النوع الأول: يقتل بحال، إذا عمل الشرك وأمر بالشرك.
النوع الثاني: إن كان عمله مؤدياً إلى فساد في الأرض، والفساد في الأرض معناه: أن يفتن الناس به، ويعلقون مقاديرهم بأقواله، فيقتل لهذا السبب.
أما إذا كان فساده لم يعم، أو كان ضرره قليلاً، فهذا يجب أن يردع بالروادع والتعزيرات ما دون القتل، والله أعلم.(103/10)
حكم الخروج على الولاة الظلمة عملاً بخروج بعض السلف عليهم
السؤال
كيف نرد على من يعتقد الخروج على الولاة الظلمة، مستدلاً بخروج أصحاب الحرة، وعبد الله بن الزبير، والقراء في فتنة ابن الأشعث؟ ويقول: أليس هؤلاء من السلف، فلماذا لا نقتدي بهم؟
الجواب
ينبغي أن تحكم مثل هذه المسائل بمنهج السلف، لا بمجرد الكلام التفصيلي، هل هؤلاء مخطئون أو غير مخطئين؟ أولاً: لا يعد السلف كل ما حدث في عهدهم مشروعاً.
ثانياً: لا يعدون كل ما حدث من أفراد السلف وبعض جماعاتهم مشروعاً؛ لأنه قد يحدث من بعض أفراد السلف أو بعض جماعاتهم الذين هم دون الجماعة الكبرى، قد يحدث منهم زلة عن اجتهاد أو تأول.
ثالثاً: أنه قد يخفى على بعض المنتسبين للسلف من العلماء ومن العامة ومن القراء وغيرهم، قد يخفى عليهم أصل، فيعملون بخلافه وهم لا يدرون، أو يتأولون ذلك الأصل.
ثم إن هذه الحوادث التي حدثت، وقد سميت: حادثة الحرة، وفتنة ابن الأشعث، أما قصة عبد الله بن الزبير فتختلف عن القصتين.
لكن مثل حادثة الحرة، وفتنة ابن الأشعث حدثت عن اجتهاد من بعض المنتسبين للعلم، وحدث فيها كلام وبعدها، فقبلها حدث أن تكلم الناس في الخروج على يزيد، أو في الخروج على عبد الملك، فكان أن قرر أهل العلم الكبار أمثال الحسن البصري وغيره بأن هذا لا يجوز، فتأول آخرون وقالوا: يجوز، لكنهم خالفوا من هم أكبر وأعلم.
ففي فتنة الحرة نعرف أن كبار الصحابة الموجودين منهم نهوا عن الخروج، حتى لما رأوا عزم أولئك على الخروج خرجوا من المدينة؛ لأنهم عرفوا أنها ستكون فتنة، والذين قاموا بفتنة الحرة شباب ليس معهم شيوخ إلا واحد أو اثنان، وهؤلاء الشباب أخذتهم الغيرة والعاطفة، ولم يسمعوا للكبار الراشدين الفقهاء، لكن كانوا مجتهدين، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن كان عملهم خطأ.
كذلك فتنة ابن الأشعث حدث فيها خلاف كبير بين أهل العلم، فالعلماء الذين هم مرجع الأمة مثل: الحسن وغيره رفضوا الخروج بل أمروا الناس بأن يكفوا حتى عن جهاد هذا الظالم الجبار العاتي وهو الحجاج، وقالوا: ما هو إلا ذنب من ذنوبكم، فاستغفروا الله وتوبوا إليه، واعملوا ما تستطيعون، ولا يسعكم الخروج؛ لأن الخروج فتنته أعظم.
وفعلاً حصل ما قاله الحسن بحذافيره، لا لأنه يعلم الغيب، ولكنه يعلم لماذا نهى الشرع عن الخروج؛ لأن الخروج يؤدي فتنة عظمى، فلما خرج أولئك على الحجاج كانت الجولة للحجاج، فكان أن نكل بهم، ونكل بأقاربهم وبالأبرياء من النساء والرجال والأطفال، فهذا دليل على أن هؤلاء أخطئوا وتأولوا، ثم بعد انتهاء الفتنة، سواء فتنة الحرة أو فتنة ابن الأشعث -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - نظر السلف في عموم النصوص في قواعد الشرع فأجمعوا على أن الخروج لا يجوز، وأن ما حدث كان زلة من هؤلاء، لكن لا يقتدى بهم فيها؛ ولذلك سموه فتنة، وسموه خروجاً.
فعلى هذا لا ينبغي الاستدلال بمثل هذه الأمور، بل ينبغي الاستدلال بقول السلف فيها، أنا لا أعرف أحداً من السلف الذين يقتدى بهم في الدين، المعتد بقولهم، الذين هم مصدر أخذ الدين ومناهجه، اعتبروا فتنة ابن الأشعث حجة، ولا اعتبروا فتنة الحرة حجة، بل العكس اعتبروها زلة.
فإذاً: لم يستدلُ هذا المسكين بأدلة هي خلاف استدلال السلف؟ اعتبرها السلف من الزلات، ولا يزالون يضربون بها المثل على أنها من الغلطات التي وقعت فيها طائفة من المؤمنين.
فهل يريد هذا أن تكرر الأمة الغلطات؟ ارجعوا إلى أقوال السلف، ليس الكلام كلامي، لكن ارجعوا إلى أقوال المحققين ممن محصوا هذه الأمور.
أما عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فقد ظهر في فترة كانت الخلافة شبه مضيعة، لما بويع بعد يزيد بن معاوية ابنه حصل نوع من الانفلات، وما تولى الخلافة بشكل حقيقي، ثم توفي بعد أيام، ثم بقيت الأمة بلا إمام ولا خلافة، فـ ابن الزبير دعا ودعي له بالبيعة، فبويع له بالحجاز، ووصلت ولايته إلى العراق، ثم في هذه الأثناء استعاد بنو أمية الخلافة، واجتمعت الأمة حولهم، وصار اضطراب عن اجتهاد من الفريقين، ما نستطيع أن نخطئ هذا ولا نخطئ هذا، فـ ابن الزبير ما خرج ولا حث على يزيد بن معاوية، رغم أنه اشتهر بالظلم؛ لأنه صحابي ويعرف أحكام الخروج.
إذاً: الاحتجاج بمثل هذه الأمور غير صحيح، ومن وقعت عنده هذه الشبهة ينبغي أن يرجع إلى قول المحققين والأئمة، ولا يرجع إلى فتاوى شاذة؛ لأنه سيجد من الفقهاء من يفتي بمثل هذه الأمور، لكن العبرة بجمهور السلف، وإلا العالم يزل والمجموعة من العلماء يزلون، قد تزل جماعة من المؤمنين وطائفة من المسلمين، فالأخيار يزلون.
ففتنة الحرة، وفتنة ابن الأشعث هي زلات يغفر الله لمن وقع فيهما، ولا نقول في دي(103/11)
عدم دخول الجن كل مسحور
السؤال
هل من لازم الإنسان المسحور أن يكون هناك جني قد دخل فيه؟
الجواب
لا، لا يلزم، لكن هذا ينطبق على نوعي السحر الحقيقي، فالسحر الحقيقي قد يصاحبه الجني، وقد لا يصاحبه جني، ولا يلزم من كل سحر أن يصاحبه جني، لكن قد يكون هذا هو الغالب؛ لأن الجن يقومون بالدور الذي يريده الساحر في الغالب، لكن ليس هذا بلازم.
أما المؤثرات المعنوية فتدخل في السحر التخييلي، مثل: أن يشعر الإنسان بشيء غير حقيقي، يشعر أنه فعل شيئاً وما فعله، ويشعر أنه يرى شيئاً وهو في الحقيقة لم ير شيئاً، فهذه تسمى مؤثرات معنوية، وقد يكون عنده نوع من الوسواس، والوسواس تأثيره معنوي.
وقد يكون السحر عضوياً من الناحية الطبية، في مخ الإنسان أو جسمه، لكن هذا ما ندركه، هو بالنسبة لنا معنوي.(103/12)
حكم فك السحر بالسحر للضرورة ووجه نسبة جواز ذلك للإمام أحمد
السؤال
ما صحة ما يروى أن الإمام أحمد أجاز النشرة بالسحر للضرورة؟
الجواب
لا أدري، لكن يجب أن يفرق الناس في فك السحر بالسحر بين مسألة استباحة فك السحر بالسحر، وبين مسألة الضرورة، الضرورة أمر آخر لا خلاف فيها، لكن لم يقل عالم بأن الضرورة تبيح الشرك، أو الوقوع في الشركيات، لكن هناك أنواع من أنواع فك السحر هي أنواع مادية، أو تكون عن طريق الاستعانة بآخرين، يمكن أن يفتي بها بعض أهل العلم من باب الضرورة، بعد استنفاذ الوسائل الشرعية، وبشرط ألا يكون فيها ارتكاب لشركيات، ولا ضرر بآخرين، ولا غير ذلك، فالنشرة على المعنى الممنوع، كأن يفك السحر بالسحر من نفسه، هذا يعتمد على الجن، وهو شرك، لكن فك السحر بوسائل أخرى غير السحر جائزة.
وهناك من الناس من خلط بين إجازة بعض العلماء بعض الوسائل لفك السحر للضرورة، وبين النشرة التي هي فك السحر بسحر، وهي حرام.(103/13)
حكم سؤال المنجمين وغيرهم عن مكان السحر
السؤال
سؤال المنجمين عن مكان السحر، هل فيه محذور؟
الجواب
ليس فيه محذور، إذا عرض لك الجني بأي سبب من الأسباب فلا مانع أن تسأله، إذا كان الأمر متعلقاً بمصلحة آخر، أو بدفع ضرر عنه، فلا حرج في ذلك.(103/14)
شرح العقيدة الطحاوية [104]
لقد ذم الله عز وجل في كتابه الكريم الكافرين على استعاذتهم بالجن، وقد ظهر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يتعلق بالجن من الصوفية، ويسمونهم رجال الغيب، فيخاطبونهم ويستعينون ويلجئون إليهم، ويخاطبون المجاذيب ممن فيهم مس أو جنون، حتى صار بعضهم يعتبرون ما يسند إلى رجال الغيب ديناً لابد من قبوله وتصديقه، وحتى ابتلي بعضهم بالاستعانة بالجن في الإضرار بالمسلمين، ومعاونة المنافقين والكافرين.(104/1)
تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه، والأكثرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل].
هذه المسألة سبق الإشارة إليها، وذكرنا أن السحر منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، يؤثر تأثيراً مادياً محسوساً، ومنه ما يجمع بين الأمرين وهو الغالب، أغلب أنواع السحر يكون تخييلياً مبنياً على أشياء مادية يضعها الساحر، وأحياناً يكون مجرد تخييل، لكنه سحر، وأحياناً يكون مادياً بحتاً، بمعنى أنه مادة منظورة مشهودة مؤثرة، تحس بالحواس.
إذاً: فالتنازع في الحقيقة لا محل له هنا، وكما ذكر جمهور أهل السنة على أن السحر ينقسم إلى نوعين: منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، والتخييلي أحياناً ينبني على الحقيقي، وكذلك العكس.
قال رحمه الله تعالى: [واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة أو غيرها، أو خطابها، أو السجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك؛ فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك، فيجب غلقه، بل سده، وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه السلام، ولهذا حكى الله عنه بقوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89].
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] الآيات، إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم، أو قَسَم فيه شرك بالله، فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)].
مسألة الرقية موضوعها موضوع مستقل؛ لكن نظراً لأن المؤلف أشار إلى مسألة الرقية، وهي من الأمور التي يتحدث فيها الناس كثيراً الآن، ويكثر فيها اللغط، ويكثر فيها الكلام إلى حد شوش على عامة المسلمين.
نقول: الأصل في الرقية الجواز، والأصل في الرقية أنها تجوز بكل مباح من الألفاظ والعبارات الصحيحة السليمة، وأفضل الرقية الرقية بكتاب الله عز وجل، وأيضاً بألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، اللهم لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) ونحو هذا من العبارات التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك يجوز الرقية بأي لفظ صحيح يكون فيه الدعاء لله عز وجل، ولا يكون فيه شرك ولا غموض، ولذلك عندما كان بعض الصحابة يرقون برقىً كانوا يرقون بها في الجاهلية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم) فأعطاهم قاعدة فيها وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً).
وهناك نصوص قد تدل على تخصيص الرقية بأشياء معينة أو بأمراض معينة، كتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية مثلاً بالعين والحمى، كما ورد في أكثر من لفظ، فهذا لا يعني أن غيرهما لا يجوز الرقية فيه، لكن هذا محمول على أن أفضل الرقى وأبلغها تأثيراً في هذين الأمرين، أو أنه من باب الخبر؛ للتأكيد على أن أبلغ أنواع الرقية هو هذا النوع، وإلا فما دام قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العام، فتخصيص الرقية بشيء معين لا بد أن يحمل على معنىً آخر؛ لئلا يؤدي هذا إلى نقض الأحاديث، وهذا لا يمكن أن يكون.
فإذاً: الأصل في الرقية الجواز إذا كانت بالقرآن أو بالسنة، أو بأدعية صحيحة مشروعة، وبألفاظ بينة ذات معنى مقر شرعاً، وليس فيها ألغاز ولا طلاسم ولا إسرار، بعض الناس يسر بالرقية؛ ليوهم الحاضرين بأن عنده أشياء ليست عندهم، فهذا نوع من الدجل، ومن مكائد الشيطان على الإنسان، فيبقى جنس الرقية جائز ما دامت بالضوابط الشرعية، وما ينضاف إلى الرقية من أمور فيحكم على الرقية من خلاله، بحسب ما يرد من الناس من زيادات وإشكالات؛ لأن من مداخل الشيطان على الناس أن أغلب الرقاة يضيفون على الرقية أشياء تأتيهم أحياناً بدون ما يشعرون، من خلال عبث الجن بهم، كحركات وصور وأشكال وأنماط من المؤثرات ونحو ذلك مما تنضاف إلى الرقية، وهذا من الباطل الذي ينبغي نفيه.
أما الأمور الشرعية المعلومة التي ليس فيها لبس، سواء من الأعمال أو الألفاظ فلا حرج أن تكون من الرقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من الرقية ما كان شركاً فقط، وما كان سحراً ونحو ذلك.(104/2)
حكم الاستعاذة والاستعانة بالجن
قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح.
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يعني: الإنس للجن، باستعاذتهم بهم.
(رَهَقًا) أي: إثماً وطغياناً وجراءة وشراً، وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس، فالجن تعاظم في أنفسها، وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41].
فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم، وأنها تنزل عليهم، ضالون، وإنما تنزل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك.
واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته وخضوعه له].
هذا مما يؤكد ما سبق الإشارة إليه في درس سابق: من أن ما يقع فيه كثير من الرقاة والقراء من الاستعانة بالجن ممنوع شرعاً، وأنه من الأمور التي ينبغي الحذر منها، والتوقف عنها، وذكرت أقوال أهل العلم، ومما ذكروا: أنه إذا كان انتفاع الإنسي بالجني يأتي من باب الكرامة، التي لم يقصدها الإنسي ولم يتقصدها، ولم يكن بعهد وعقد، فهذا لا حرج فيه، وربما يكون ذلك من إكرام الله للعبد، أو من باب الفتنة، فليحذر الإنسان، وليشكر الله على ما سيق له من نعمة، وأن يوقن أن ذلك من الله عز وجل وليس من الخلق، ولكن إذا زاد الأمر إلى حد الإدمان لهذه المسألة، وكثرة الاستعانة بالجن، وكثرة المخاطبة لهم، وأخذ العهود والمواعيد منهم، بأن يأتوا عند الحاجة، ويكون هذا مصاحباً للرقية دائماً لبعض الناس الذين فيهم مس، فهذا هو الممنوع؛ لأنه الاستمتاع الذي نهى الله عنه، فينبغي التنبه لهذه المسألة؛ لأنها كثرت عند القراء، وأصبحت محل إشكالات وعلقت الناس بالجن، والواجب أن يتعلق الناس بالله عز وجل، ثم بالاعتماد على الرقى الشرعية، والأدوية المباحة ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ونوع منهم يتكلم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبة رجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين، ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين؛ لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين].
هذا من أساليب الصوفية، فكثير من الصوفية الطرقية يقع في مسألة التعلق بالجن، ويسمونهم: رجال الغيب، سواء مخاطبتهم أو الاستعانة بهم وكثرة اللجوء إليهم، أو مخاطبة الأشخاص الذين فيهم مس وجنون، ويسمونهم: مجاذيب ونحوهم ممن فيهم نوع من الجنون غير الظاهر، فهؤلاء فيهم نوع مس، قد يدخل من خلاله بعض المتصوفة، فيستفيدون منهم.
والمهم أن رجال الغيب المقصود بهم الجن الذين يستعين بهم أصحاب الطرق، ويزعمون أنهم يوجهونهم حتى في الأمور الشرعية، ولذلك كثيراً ما يستند زنادقة الصوفية، خاصة الذين يدخلون في التصوف، يستندون فيما يعملونه وما يقولونه من الباطل على أن هذا بإيحاء من هؤلاء الذين هم رجال الغيب، وعموم شيوخ الطرق الصوفية -وأغلبهم من الكذبة الدجالين- يقطعون بأن ما يسنده الشيخ إلى رجال الغيب هذا أمر لا بد أن يقال ويصدق ولا يناقش، وربوا أتباعهم الدهماء على ذلك.
وهذا من الابتلاء الذي يقع فيه هؤلاء، ولذلك وقع -كما ذكر الشارح- أن بعضهم يستعين بالجن في ضرر المسلمين، وأحياناً يعاون المشركين والمنافقين، ومنهم من تعاون مع التتار، ومنهم من تعاون مع الصليبيين، ومنهم من تعاون مع الباطنية ضد المسلمين، بدعوى أنه موجه من قبل رجال الغيب، وأن هذا توجيه رباني.
وأحياناً يتصور لهم الشيطان بصور أولياء وملائكة وصور أنبياء ونحو ذلك، وأحياناً هذه الأمور قد تلتبس على كثير من الناس، فأحياناً يزعم الشيطان أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، لكن ما يراه هؤلاء من الدجالين وأصحاب المخارق وغلاة الصوفية ليس هو الرسول صلى الله علي(104/3)
أصناف الناس في اعتقاد وجود الجن وبيان وجه الحق في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم.
وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء.
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين، فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه.
].
كل هذه الآراء باطلة، ليس فيها رأي يمثل الحق ولا أهل الحق، وإنما هي آراء موزعة بين الصوفية والفرق والأهواء والباطنية والفلاسفة وغيرهم.
أما قوله: (والناس من أهل العلم فيهم) يعني: الذين يدعون العلم من هؤلاء الضالين.
قال رحمه الله تعالى: [والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.
ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم].
الفقراء هنا هم النساك والعباد والجهلة من الصوفية ومن سلك سبيلهم، ومن أسماء الصوفية أهل البدع الفقراء، وقد ينطبق أحياناً هذا الوصف على بعض العبّاد أهل الاستقامة، لكن تسميتهم بفقراء غير صحيح، كما أن تسميتهم بالصوفية والنساك غير صحيح، قد يسمون عباداً؛ لأن العبادة من الأمور المشروعة لله عز وجل، لكن تسميتهم نساكاً، وتسميتهم صوفية، وتسميتهم فقراء متفكرة دراويش كل ذلك من التسميات البدعية، والغالب أنها تنطبق على أهل الجهل والبدع فيهم.
ويقولون عمن يسمون بالفقراء: قد يسلم إليهم حالهم، وأنهم ما يعملون إلا خيراً، وأن كل تصرفاتهم لا بد أن تفسر بتفسير يؤدي إلى إعذارهم فيها؛ ولذلك يظن كثير من المريدين والمغترين بالصوفية أن هذا الصنف لا يعمل إلا خيراً، وإن ظهر منه ما هو شر فإنه يفسر بتفسيرات أخرى لها معان باطنية، ومصطلح الفقراء جعل المنظرين للصوفية وكتاب المقالات والمترجمين لرجالات الصوفية جعلهم يفسرون ما يحدث من بعض الزنادقة الصوفية وغيرهم من معاص بتفسيرات باطنية، جعلوا جرائمهم ومعاصيهم حتى المغلظة على أنها كرامات لأنهم يقولون: يسلم إليهم حالهم.
فيقولون بأن الله عز وجل يدفعهم لهذه الأمور من غير شعور، أو فتنة للناس، لكن هم حالهم على الاستقامة، حتى تجد منهم من لا يصلي الفرائض أبداً، بل لا يصلي إطلاقاً، ثم يزعمون أن روحه تذهب إلى البيت الحرام وتصلي هناك، وقد يجلس يتناول بعض الشهوات أمام المصلين ويقولون: هذا روحه في الكعبة، وقد يتناول الخمر، وقد يفجر، ويقولون: هذا من كراماته، ويدعون له بالرحمة، كما يفعل الشعراني.
فهذا مبني على قولهم: الفقراء يسلم إليهم حالهم.
ثم تطورت المسألة إلى أن جعلوا كبار رجالهم يسلم إليهم حالهم بإطلاق، وأن ما يكون منهم إلا خير، حتى الجرائم والشرك والفساد في الأرض يفسرونه بأنه خير.
قال رحمه الله تعالى: [ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم.
وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل، وما خالفها رد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر).
فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً.
ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر، ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان؛ لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعمل المحظور، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]](104/4)
اعتقاد الولاية في بعض البله بدعة وضلال
قال رحمه الله تعالى: [فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟!.
ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البله الذي هو ضعف العقل وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقرا) ولم يقل: البله.
والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين، ردوا باطلهم بباطل آخر، والصراط المستقيم بين ذلك].
موقف الملامية يحدث من عدة أصناف من الناس، منهم طائفة من المتصوفة، فهؤلاء بنوا فكرهم هذا على منهج خاطئ، أصله جهلهم في الدين، فترى الواحد منهم يكون له عبادة وتنسك واستقامة وصلاح، لكنه يتعمد أحياناً بأن يفعل ما يذم عليه؛ خوفاً من التزكية، أو خوفاً من الوقوع في الرياء، وهذا من عبث الشيطان بهم.
كذلك يذهب الواحد منهم إلى مكان غير لائق، ويقول كلمة فيها إثم، أو ينظر نظرة معصية، ويشهد الناس على هذا؛ من أجل أن يظهر لهم أنه لا يزكي نفسه، وهذا اجتمع فيه الجهل والرياء المركب وعبث الشيطان، واجتمع فيه أيضاً البدعة، هذا الفعل بدعة إذا اعتقده ودان به.
لكن هناك صنف آخر قد يكون من غير الصوفية، لكنه يعتقد هذا الاعتقاد، وهم بعض أصحاب الوساوس، بعض الناس عنده وسواس، هذا الوسواس يدفعه إلى أن يترك بعض السنن وبعض الواجبات أحياناً؛ خوفاً من أن يقول الناس: إنه مراءٍ، أو يفعل بعض ما يلام عليه، ويظهر في بعض المظاهر غير اللائقة أحياناً، كأنه يريد أن يؤدب نفسه؛ لئلا تقع في الرياء.
وهذا كثير من الناس في كل زمان، وإن لم يكن من أصحاب الطريقة الأولى الذين يتعبدون بذلك عن جهل، فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
والفرق بين الرياء وبين التصنع واضح، التصنع: هو أن الإنسان لا يترك النافلة والسنة إلا إذا غلب على ظنه أنه لن يقهر هواه ونفسه في إظهار الرياء، فمن هنا قد يترك أحياناً، لكن ما تكون عادة له، قد يترك بعض الأعمال الظاهرة أحياناً إذا وجد نفسه تغلبه في المراءاة، أو وجد أنه يحتاج إلى أن يدافع نفسه دفاعاً شديداً، هذا قد يحدث لبعض الناس في بعض المواقف، فإذا حدث هذا مرة لا حرج، لكن أن يكون عادة ثم يكون مدخلاً للوسواس على الإنسان، فينبغي أن يترك، وليكن طبيعياً في أموره كلها، فيما يعمله من الواجبات والسنن، أو فيما يتركه من المحظورات.
أما إخفاء الأعمال المبني على تورع أو على طلب الأجر من الله عز وجل، فهذا لا حرج فيه، مثل: إخفاء الصدقة، لكن الأصل في الأعمال الظهور، مثل: الفرائض الخمس، وشعائر الحج، والذكر، والتكبير المشروع فيه رفع الصوت، كذلك التكبير في مواسم التكبير، كعشر ذي الحجة، وفي الأعياد وغيرها، ومثل: السنن الرواتب وغيرها، وإقامتها في المسجد أصلح لبعض الناس، لأنك إذا ذهبت إلى البيت ربما نسيت أو انشغلت، والبيت مليء بالمشاغل والمزعجات وهكذا، أما إذا كان الأمر طبيعياً فلا حرج أن تصلى النوافل في البيت، لكن هناك أعمال ليس الأصل فيها الظهور، مثل: الصدقات وغيرها فلا حرج في إخفائها، بل ربما يكون أولى له أن يخفيها؛ لأن هذا أبلغ في الإخلاص.
فإذاً: مسألة إخفاء العمل راجعة إلى طبيعة العمل، فإذا كان الأصل الظهور فينبغي أن يظهره الإنسان، وإن أخفاه أحياناً بشرط ألا يكون هذا دائماً فلا حرج.(104/5)
تبديع من يصعق عند سماع الأنغام الحسنة
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون، وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله، ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
وكما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين، فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم.
ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم].
يشير الشيخ إلى مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً، ورددها في كلامه على أحوال الصوفية والعباد، وهي من المسائل التي تحتاج إلى تأمل، وهي أن هناك ممن يدعون التصوف أو يدعون التعبد، فمنهم من يحدث عنده أحياناً نوع مما نسميه الهستيريا، أو نوع من الجنون، فهو يفقد عقله أحياناً، أو يكون عنده نوع من الهذيان في بعض الأمور، وإذا زالت هذه الحال صار مستقيماً على السنة.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من هؤلاء: البسطامي، وابن أبي الحواري، والتستري ونحوهم، وهؤلاء لهم شطحات كبرى، بعضها شركية وبعضها كفرية وبعضها فيها ضلال، لكن شيخ الإسلام كان يعذر هؤلاء، والدليل على هذا أنهم إذا كانوا في حالة الصحو أتوا بكلام جميل في الاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة، والدفاع عن العقيدة، وكراهة البدعة، والرد عليها، وفعلاً هؤلاء وأمثالهم لهم درر في الرد على أهل الأهواء، وعندهم حكم في تقرير الدين وتقرير السنة، حكم تكتب بماء الذهب، ومع ذلك لهم نوبات جنونية، يتكلم الواحد منهم بكلمات مقتضاها الكفر والضلال، أو شيء من المذاهب والملل والنحل الموجودة عند غير المسلمين.
لكن يبقى في أمثال هؤلاء إشكال، وهذا الإشكال يحتاج إلى تأمل، وهو أنهم حينما يتلفظون ببعض الألفاظ غير اللائقة، نجدها أنها ألفاظ راجعة إلى أصول ومناهج مقننة عند الفلاسفة والباطنية، فمن أين أتتهم؟ ربما الشياطين تتكلم على ألسنتهم، وهذا مما يعذرون به، لكن في هذه الحالات تجدهم يقررون أصولاً باطلة موجودة في المجوس، وفي الصابئة، وفي متعبدة النصارى، وموجودة في الديانات الهندية، أصولاً فلسفية بدعية تتعلق بالعقائد والسلوك والتصوف والعبادات، وهذه الأصول البدعية التي خرجت من أفواه هؤلاء صارت فيما بعد هي أصول المتصوفة المنحرفة، وهي أصول الباطنية، وهي أصول الفلاسفة.
فقوله: بأن هؤلاء يعذرون، قد يعذرون من جانب، لكن ما يتلفظون به لا بد أن يقرر بأنه باطل، ولا بد أن تؤخذ من أحوالهم العبرة؛ لأن تزكيتهم قد يفهم منها التزكية المطلقة، بل قد يتتبع الناس أقوالهم حتى في حال الهذيان والهسترة، وهذا ينبغي تأمله، وحبذا لو يتصدى له بعض طلاب العلم؛ لأن هذيان هؤلاء لا يزال هو المرتكزات للمتصوفة التي اعتمدوا عليها في نشر باطلهم، وفي تقرير أصول البدع، وزعموا أن هؤلاء من المرضيين عند السلف، ويستدلون بكلام شيخ الإسلام وغيره، وأن السلف زكوهم.
فنقول: التزكية مشروطة ومضبوطة بضوابط الشرع وليست مطلقة، والله أعلم.
أما كلامهم الجيد فلا بأس بسياقه، وقد ساقه كثير من الأئمة، حتى الإمام أحمد في كتاب (الزهد) ساق شيئاً من كلامهم الطيب والجيد الذي ينمي في الناس الإيمان والعمل الصالح، وينمي في الناس العقيدة السليمة والدفاع عنها؛ لأن هؤلاء مع وجود الشطحات فيهم حال الاضطراب، إلا أنهم حال صحوهم لهم كلام من الحكم أعجب به السلف، وجعلوه أحياناً من مناهجهم وأصولهم.
أما كلامهم حال الاضطراب وحال الفترات الجنونية، فإنه يعتبر من أصول البدع، مثل قول رابعة: لا أعبدك رجاء جنتك، ولا خوفاً من نارك.
هذا كلام خطير، فالرجاء والخوف أصل من أصول العبادة الضرورية، وهي كأنها تقول: لا أعبد الله إلا بالمحبة.
وهذا حقيقته كفر، لكن ما مقصدها؟ الله أعلم بذلك.
كذلك ابن أبي الحواري، والحكيم الترمذي، والتستري، والبسطامي كل هؤلاء أثر عنهم مثل هذه الأمور، لكن السلف رووا آثارهم التي في نصر العقيدة وفي الزهد وفي العبادة التي لها فائدة، رووها واعتمدوها وجعلوها من الأمور الت(104/6)
الأسئلة(104/7)
حكم التوسل بالصالحين الأحياء فيما يقدرون عليه
السؤال
سمعنا وقرأنا بأن الوسيلة إلى الله عز وجل تجوز بأسمائه وصفاته والعمل الصالح وبعض الصالحين الأحياء، كما ورد في حديث عمر عندما استسقى بـ العباس، ولكني سمعت بأن الوسيلة بالصالحين فيها خلاف، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من رد هذا الأمر فهل هذا صحيح؟
الجواب
الوسيلة بالصالحين بمعنى طلب الدعاء منهم يجوز، لكنه ليس بإطلاقه، بمعنى: أن الإكثار منه أحياناً يؤدي إلى ضعف التوكل، وضعف الاعتماد على الله عز وجل، والاتكال على العباد.
أما أن يكون أحياناً وبمناسبة، ولمن اشتهر صلاحه، كأن تطلب منه أن يدعو لك، فهذا جائز عند جمهور السلف، لكن من السلف من منعه مطلقاً، واعتبر قصة عمر بن الخطاب ضعيفة، أو ربما لم تبلغه، ومع ذلك يبقى الراجح أنه يجوز أن يطلب المسلم من الرجل الصالح أن يدعو له، لكن لا يكثر من هذا في كل مناسبة، إنما إذا كان لهذا الأمر موجب، كأن يكون في حال اضطرار، أو وجود كربة، وهذا الرجل يكون في مكان فاضل، أو في زمان فاضل، أو سيشرع في عمل فاضل، فيطلب الدعاء من الصالح، بشرط ألا يعتمد عليه بمعنى أن يتكل ولا يدعو هو ربه، فهذا من التوسل الجائز.
وهذه ليست من صور التوسل التي يفهم منها الناس المعنى الشرعي التعبدي، إنما التوسل: هو طلب الدعاء من الغير، فعلى هذا رأي أكثر السلف على أنه جائز بشروطه.(104/8)
الفرق بين المكره على الكفر وبين من يكفر خوفاً
السؤال
ما الفرق بين المكره على الكفر وبين من يكفر خوفاً؟
الجواب
الخوف نوع من الإكراه، لا فرق، الخوف إذا كان له مقتضى طبيعي فهو نوع من الإكراه، بل ربما يكون الإكراه نوعاً من الخوف أيضاً، فالإكراه بابه واسع، قد يكون الإكراه أحياناً غير منظور، لكن في أمر من الأمور يشعر الإنسان به شعوراً حقيقياً.
فالمهم أنه لا فرق بين المكره على الكفر وبين الخائف؛ لأن الخائف مكره، لكن هل جميع صور الخوف يصدق على صاحبها أنه مكره؟ ما أدري، لأنه قد يكون الخوف أحياناً توهماً، وقد يكون وسواساً، وقد يكون هلعاً من الهلع الذي يصيب بعض الناس، وقد يكون ضعف إيمان، وقد يكون حقيقياً، هذه مسألة راجعة إلى نوع الخوف الذي يرد، وممن خاف؟ ولماذا خاف؟.(104/9)
حكم القول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقظةً جهاراً
السؤال
ما حكم القول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم جهاراً؟
الجواب
لا يصح، ولا يجوز الدعوى، فهذه من البدع المغلظة، وربما تكون كفراً، من ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عياناً فلا يصدق في ذلك، ولكن قد يراه في رؤيا؛ لأن الرؤيا المنامية وردت في الحديث، وأنها حق، وإن كان في بعض الأحاديث وردت مطلقة، لكن جمهور أهل العلم حملوها على رؤيا المنام على الأحاديث الأخرى.
والحديث إذا كان مجملاً ثم جاء ما يفسره أو يقيده أو يبينه، فلا بد أن يحمل على المبين والمفسر، والأحاديث التي وردت في أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حق، بدون ما يشير إلى معنى الرؤيا، محمولة على أحاديث كثيرة وواضحة تدل على رؤيا المنام، ولأن دعوى الرؤية العينية إذا فتحت للناس أدت إلى فتن عظيمة في الدين.
وعلى أي حال! لا يصح أن أحداً من الناس يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه.(104/10)
وجه دخول التطير في السحر
السؤال
كيف يدخل التطير في السحر؟
الجواب
السحر بمعناه الواسع: هو كلما يؤثر تأثيراً خفياً على الإنسان، تأثيراً غير مباشر، تأثيراً غير شرعي ولا طبيعي، فإذا كان المؤثر غير طبيعي ولا شرعي فهو نوع من السحر بمعناه العام، لكن السحر بمعناه الأخص: هو التأثير عبر أمور محسوسة، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً أو تصرفات، أو أموراً مادية يتم العقد فيها بين الساحر والشيطان، فالتطير نوع من السحر بمعناه العام اللغوي لا بمعناه الخاص، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(104/11)
شرح العقيدة الطحاوية [105]
مما ابتلي به المتصوفة منذ القدم ما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان، والتكلم بعبارات وألفاظ غير معروفة، وما يقدم عليه بعضهم من الاشتغال بالرياضات والخلوات، ويتركون في مقابلها الجمع والجماعات، وهؤلاء إنما هم ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(105/1)
أثر سماع الأنغام المطربة على الصوفية وحكم ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان، والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه، فذلك شيطان يتكلم على لسانه كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية، وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم: هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل وهذا كلامُ ضالٍ، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه، لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان ولياً لله.
ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222] فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور].
في هذا إشارة إلى أن أكثر الذين يتعلق بهم الصوفية من الأشخاص، الذين عندهم شيء من التخرص، تكون مخاريقهم عن طريق الشياطين، وعن طريق الجن، سواء كان الجن فسقة وفجاراً وهو الغالب، أو حتى بعض الصالحين من الجن يستهويهم تعلق الإنسان بهم؛ لأن الجن بطبعه أضعف من الإنسي ويهابه، لا كما يظن كثير من الناس أن الجني له سلطة، وأنه أقوى إرادة من الإنسان، لا، بل العكس، الصحيح أن الإنسان أقوى على الجني إذا اعتمد على الله عز وجل، والجني بطبعه أضعف من الإنسي، فإذا وجد من الإنس نوع انجذاب إليه فرح بذلك واستهواه.
ولذلك يحدث من بعض المقصرين من صالحي الجن الاستحواذ على صالحي الإنس، فيخدمونهم ويقدمون لهم شيئاً مما يطلبون منهم، ولذلك يقع الجن في الكذب؛ من أجل استدراج الإنس، ومن أجل أن يبقوا متعلقين بهم، فلذلك ينبغي التنبه، خاصة من الرقاة والقراء الذين يقرءون على الممسوسين، ينبغي أن يتنبهوا لهذه المسألة، وهو أن بعض صالحي الجن يكذب، بل ربما يضطر للكذب؛ لأن الموقف بالنسبة له حرج، والإنسي لا يقدر هذا الموقف، فالجني لشدة ضعفه قد يضطر للكذب وإن كان صالحاً.
أما فجرة الجن والشياطين فمن باب أولى أن يكون عبثهم بالإنس مما يصل إلى حد دعاوى تكبر عند الإنس، وتجعلهم يظنون أن هذا الإنسي الممسوس إنما يتلقى عن الله عز وجل، أو يتلقى بإلهام مباشر، أو برؤى أو كرامات، كل ذلك من عبث الشياطين.(105/2)
حكم المتعبدين بالرياضات والخلوات وترك الجمع والجماعات
قال رحمه الله تعالى: [وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم.
كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه).
وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال، ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق، فهو ملحد زنديق.
فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته، ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كـ الخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم، وأهل الاستقامة، فحرك تر].
يعني: مسألة دعوى العلم اللدني دعوى يدعيها طوائف من الناس، وكل له فيه فلسفة، وخلاصة الأمر في العلم اللدني: أن هناك دعاوى من كل طائفة من طوائف الضلال، تعتمد على أنهم يستغنون عن الشرع، وأن شيوخهم أو الأئمة أو الأولياء الذين يقدسونهم يتلقون العلم الإلهي بلا واسطة، أي: بدون أن يكون ذلك عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن طريق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة.
والتلقي عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى عندهم علماً لدنياً، لكن لهم فيه فلسفات مختلفة.
فالرافضة يزعمون أن العلم اللدني علم موروث، أطلعه الله عز وجل على طوائف من بني آدم، توارثوا هذا العلم إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى ذريته من فاطمة رضي الله عنها، ثم بعد ذلك بقي يتوارث بين الأئمة، وهذا العلم عندهم محصل بالغريزة، فهؤلاء الأئمة ولدوا علماء، وانفتح لهم باب علم الغيب، بل إنهم يرون أن أئمتهم يعلمون الغيب كل الأحيان، وأن لهم تدبيراً في الكون.
ويقولون: إن الأئمة اشتملوا على العلم اشتمالاً، ولم يحصلوه تحصيلاً، وإنهم متى ما شاءوا انفتحت لهم أبواب الغيب، وأن هذا العلم متوارث منذ آدم في أشخاص من شخص إلى شخص إلى أن وصل حسب دعواهم إلى الأئمة.
والصوفية يزعمون أن العلم اللدني له عدة طرق، منها ما يحصله الشخص بالتعبد والرياضة العبادية، بحيث يتحلل من الدنيا وينقطع عنها، حتى يتصل قلبه بالله عز وجل، فينفتح له الغيب مباشرة.
وبعضهم يقول: إنه يتلقى العلم اللدني عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بدون أن يكون ذلك عن طريق الكتاب والسنة، أو عن بعض الملائكة، أو عن الخضر مباشرة، وأن الخضر يعلم هؤلاء الأئمة، ويطلعهم على أسرار التحكم في الكون وعلم الغيب، لكن هناك من الفلاسفة الذين نزعوا نزعة التصوف من لهم في ذلك مذاهب أخرى.
فمنهم من يرى أن العلم اللدني يكون بالإشراق، والإشراق: هو إشراق النور الإلهي على قلوب هؤلاء الذين يزعمون أنهم أولياء أو أئمة، فتنكشف لهم أمور الغيب.
ومنهم من يرى أن ذلك يكون عن طريق الفيض وهو اتصال الروح بالقوى العقلية، التي تتحكم في الكون، يزعمون أن المتحكم في الكون هو العقل.
ومنهم من يزعم الحلول، أي: أنه تقمص الإلهية، وأن الله عز وجل حل فيه أو حل فيه شيء من الإلهية، فمن هنا انفتح له الغيب، بناءً على أنه أصبح يحمل خصائص الألوهية.
وبين هذه المذاهب مذاهب شتى، لكن كلهم يجتمعون على دعوى أن هناك من أئمتهم وأوليائهم وشيوخهم وفلاسفتهم من يتلقى العلم الكامل، أو كثيراً من أمور الغيب، بدون الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا، فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] إلى آخر السورة].(105/3)
الجماعة حق والفرقة زيغ
قوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً).
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف.
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176].
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).
وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة.
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك.
{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك.
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال: هاتان أهون) فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية، ولهذا قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية].(105/4)
شرح العقيدة الطحاوية [106]
الجماعة مفهوم واسع، وهي تتمثل بكل زمان ومكان وبحسب الحال الذي عليه أمر المسلمين، فتكون متمثلة في الخليفة أو السلطان ومن معه من أهل الحل والعقد، وهذا هو الأغلب في صور الجماعة العامة التي تحقق المصالح العظمى للأمة، وأما الجماعة بمعناها الخاص والذي يتعلق بالمفهوم الشرعي فقد أطلقت على جمهور الصحابة، وأطلقت أيضاً على أهل العلم وأئمة الهدى، وأطلقت على المعتصمين بالحق من أهل الإسلام، وأطلقت على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة.(106/1)
المفهوم العام للجماعة
نحتاج إلى أن نتعرف على معنى الجماعة، كما ورد في الكتاب والسنة بمفهومها العام والجزئي.
المفاهيم الجزئية تحتاج إلى وقت طويل؛ نظراً لأهمية هذا الموضوع في عصرنا، ونظراً لاختلال مفاهيم كثير من المسلمين عن الجماعة في عصرنا، مما ترتب عليه الخوض في الكثير من المسائل التي تتعلق بحقوق الجماعة ومعانيها، وتتعلق بعدم إدراك المخاطر في الفرقة والشذوذ.
سنتحدث الآن عن المفهوم العام للجماعة، الجماعة المقصود بها القوم المجتمعون على أمر ما.
والجماعة في الشرع: هم جماعة المسلمين.
وتتحقق جماعة المسلمين العامة بعدة صور.
من صورها: الاجتماع على الحق، أي: على الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على الإمام أو الوالي.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على مصلحة من مصالح الأمة العظمى.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على أصول الدين الظاهرة، مثل: الاجتماع على الصلاة، والاجتماع في الجمعة، والاجتماع في العيدين، والاجتماع في الحج.
من صور الجماعة: الاجتماع على الجهاد.
ومن صور الجماعة: الاجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عنه ونحو ذلك من مصالح الأمة.
ومن صور الجماعة: اجتماع عامة المسلمين وخاصتهم على أي أمر من الأمور التي تجلب لهم مصلحة، أو تدفع عنهم مفسدة.
وتتمثل الجماعة أيضاً بكل زمن، وبكل حال، وبكل مكان، وكل وضع، بحسب الحال الذي عليه أمر المسلمين، فأحياناً تكون الجماعة متمثلة في الخليفة ومن معه من أهل الحل والعقد، أو الإمام أو الوالي أو السلطان ومن معه من أهل الحل والعقد، وهذا هو الأغلب في صور الجماعة العامة التي تحقق المصالح العظمى للأمة، فمن أعم المعاني أن كون الجماعة تتمثل بمن له ولاية المسلمين العامة، ومن تحت إمرتهم من العلماء والولاة والقواد والوجهاء ورؤساء العشائر والمسئولين والوزراء، ومن جرى مجراهم ممن رأيهم مؤثر في مصالح الأمة، وهذا من أجمع المعاني العامة للجماعة في مفهومها العملي العام.(106/2)
النقاط المتعلقة بالنصوص الواردة في الجماعة ومفهومها
هذه بعض النقاط حول النصوص الواردة في الجماعة ومفهومها:(106/3)
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم العام للجماعة
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الجماعة بعدة تفسيرات، من أهمها: التفسير العام الشامل في أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا في جميع أمور الدين وأمور الدنيا أيضاً؛ لأن بعض الناس يظن أن مفهوم الجماعة متوجه إلى الفرائض والسنن فقط، لا، بل مفهوم الجماعة يشمل كل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الاعتقادية، والعملية العلمية، والظاهرة والباطنة، ومصالح الأمة العظمى وغيرها، كل ذلك ينطبق على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(106/4)
إخراج النبي صلى الله عليه وسلم للفرق المنحرفة من مفهوم الجماعة
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الفرق بمفهوم الجماعة في حديث الافتراق، يعني: أن مفهوم الجماعة في كل مسائل الدين يخرج الفرق، لكن أحياناً في بعض مصالح الدنيا قد تدخل الفرق في مفهوم الجماعة دخولاً غير مباشر، بمعنى دخول ضرورةٍ، كأن يدهم العدو بلداً فيها من أهل السنة ومن غيرهم من أهل الأهواء، فيشترك الجميع ويجتمعون على جهاد العدو، فجائز ما دامت الراية مع أهل السنة والجماعة.
فمن هنا لا اعتبار لهم من حيث النوع، إنما الاعتبار لهم من حيث العدد ومن حيث الوجود.
فإذاً: قد يعد أحياناً أهل الأهواء فيما يتعلق بالضرورات من الجماعة، في أمور ضيقة محدودة، وهذا مما ينبغي أن يفقهه كثير من الدعاة الذين لا يفرقون بين دخول أهل الأهواء في مفهوم الجماعة عند الحالات الضرورية، وبين خروج أهل الأهواء من الجماعة، حتى أهل الذمة في البلاد الإسلامية يجب عليهم أن يشاركوا في درء الخطر عن المسلمين، الدرء الذي يلزم بالجميع، فمن هنا قد يشملهم مسمى الجماعة بالتبع لا بالأصالة.(106/5)
معنى الجماعة في اللغة
من المناسب الآن أن أشير إلى بعض الأمور، التي أصبح كثير من المسلمين يجهلها في معنى الجماعة، وعلى من ينطبق مفهوم الجماعة الذين أمر الله بالاعتصام بهم، ونهى أشد النهي عن الفرقة عنهم، وأحياناً جعل الفرقة عنهم تعادل الفرقة في الدين، وجعل الاجتماع بهم هو علامة السنة، والافتراق عنهم هو علامة البدعة، وتوافرت النصوص في آيات الله عز وجل، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أن الافتراق عن الجماعة من أشد البدع، وأنه هوى ونزاع في الدين، ليس مجرد إخلال بمصلحة الأمة، بل هو نزاع في الدين، وخروج عن سبيل المؤمنين، وأصحابه من أعظم أصحاب الوعيد، ومن شذ عن الجماعة فقد شذ الشذوذ المهلك، فلعلي الآن أوجز الحديث عن هذا الموضوع بتعريف الجماعة بمعانيها الواسعة في الشرع، التي ورد إطلاقها على الجماعة، والتي تعني أن الجماعة تطلق على عدة اعتبارات، كلها أمرنا بالاعتصام بها، ونهينا عن مخالفتها والشذوذ عنها.
أولاً: الجماعة في اللغة: هي من الاجتماع ضد الافتراق، يقال: تجمع القوم إذا اجتمعوا من هنا وهناك، أي ائتلفوا من بعد تفرق، ويقال: جمع المتفرق، أي ضم بعضه إلى بعض، ويقال: جمع فلان القلوب إليه، أي: ألفّها.
والجماعة كذلك: هي اسم لجماعة الناس، والجمع مصدر لقولك جمعت الشيء.
وكذلك الجمع قد يطلق على المجتمعين، يقال: هذا جمع من الناس، أي: جماعة مجتمعة.
والجمع قد يجمع على جموعه كذلك، والجماعة والجميع والمجمع والجمع كلها بمعنى واحد.
والجماعة في اللغة إذا أريد بها جماعة الناس، فهم القوم المجتمعون على أمر ما.
قال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق، قلت: فهم مجموعون، وكذلك قد تطلق الجماعة على الإجماع، وهو الاتفاق والإحكام، يقال: أجمع الأمر أي: أحكمه، فالجماعة قد تطلق على هذا المعنى، بمعنى أن أمورها محكمة، وأنها مجتمعة على ما يقتضي قوتها واجتماعها.
وفي الغالب أن الجماعة في ذهن السامع الفاهم للعربية تعني: العدد الكثير، والطائفة من الناس التي يجمعها غرض واحد، سواء اجتمعت في زمان ومكان واحد، أو لم تجتمع، فقد تطلق الجماعة على من تفرقوا في البلاد، لكن اجتمعوا على أمر ما، كجماعة أهل السنة والجماعة.
وقد تطلق الجماعة أيضاً على من كانوا على غرض واحد في أزمان متفرقة، وعلى هذا فإن الجماعة سميت جماعة؛ لأنها تعني الاجتماع، وضد ذلك الفرقة.(106/6)
معاني الجماعة في الاصطلاح ومجالاتها
أما معنى الجماعة في الاصطلاح الشرعي، فإن لها عدة معان في الشرع، لكن يجمع هذه المعاني إجمالاً تعريف شامل وهو: أن الجماعة هي جماعة المسلمين المجتمعين على الحق والسنة.
هذا من أجمع التعريفات لمعنى الجماعة بمعناها العام، ومع ذلك فإن إطلاق الجماعة ورد في الشرع على عدة معان، من تأمل هذه المعاني عرف فقه النصوص في الأمر بالجماعة، والنهي عن الفرقة.(106/7)
إطلاق الجماعة على جمهور الصحابة
الأول: من هذه المعاني: أن الجماعة تطلق على جمهور الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين بخاصة؛ لأنهم كانوا مجتمعين على الحق في سائر أمورهم، في العقيدة، والإمامة، والأحكام، والجهاد وسائر أمور الدنيا والدين، وتمثل معنى الجماعة في أحسن صورة وأمثل صورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة.
يقول الشاطبي في هذا المعنى: إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا كتابه، وهم الذين لم يجتمعوا على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، أي الإخلال بهذه الأصول.
ولعل الجماعة هنا هي المقصودة بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً)، وقال: (يد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)، هذا حديث صحيح ما عدا عبارة: (فاتبعوا السواد الأعظم) فالأرجح أنها ضعيفة.
والصحابة هم جماعة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، وفي عهد الخلفاء الراشدين، فهم أحسن وأمثل معنى ينطبق عليه معنى الجماعة.(106/8)
إطلاق الجماعة على أهل العلم وأئمة الدين المقتدى بهم وأتباعهم
المعنى الثاني: تطلق الجماعة على أهل العلم وأئمة الدين المقتدى بهم وعلى أتباعهم، بمعنى أنهم الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، خاصة بعد وجود الافتراق.
نحن قلنا: إن أمثل معنى وأدق إطلاق للجماعة هو عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكن هذا إطلاق قد يختلف فيمن بعدهم، حينما ظهرت الفرق، فعلى هذا يأتي تعريف أدق لحال المسلمين بعد الصحابة، يخصص الجماعة بمعنى يصف حال المسلمين بعد الافتراق، وهو أن كون الجماعة هم أهل العلم أئمة الدين والهدى المقتدى بهم، وأتباعهم الذين هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، الذين يعملون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعون إليها، ومن سلك نهجهم، واتبع سبيلهم، وهؤلاء هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه الذين هم جماعة المسلمين الأولى، فمن كان على نهج جماعة المسلمين الأولى فهم الجماعة، وهم أهل السنة والجماعة، وكل جماعة هي امتداد لجماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهي أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية التي نوه عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، في الحديث الذي رواه عوف بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتين وسبعين في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
وهذه هي الجماعة وإن قلَّت؛ لأنه لا اعتبار للكثرة بعد وجود الافتراق؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: إنما الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل وإن كنت وحدك.
وعلى هذا فإن الذي لم يكن على السنة لا يدخل في تعريف الجماعة مهما كثر عددهم.
وفي هذا المعنى أيضاً يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله لما سئل عن الجماعة، قال: أبو بكر وعمر، فقيل: قد مات أبو بكر وعمر، قال: ففلان وفلان، قيل: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة، وهو يشير بذلك إلى هذا الرجل الذي عرف بالفضل والاستقامة، وأبو حمزة السكري هو محمد بن ميمون المروزي المتوفى سنة (162هـ) فقال عنه ابن المبارك: بأنه جماعة أي: أنه رجل مستقيم على السنة، وكان على منهج السلف الصالح، من المشهورين بتتبع سبيل السنة والجماعة أهل الحق.
إذاً: فالعبرة ليست بكثرة العدد بعد الصحابة، إنما باتباع السنة، وترك الابتداع.(106/9)
إطلاق الجماعة على المعتصمين بالحق التاركين للفرقة
المعنى الثالث للجماعة: إطلاق الجماعة على المجتمعين على الحق، التاركين للفرقة، فالجماعة بهذا المفهوم هي ما عليه عامة المسلمين وسوادهم في أمورهم ومصالحهم العامة، خاصة من كان على سبيل الصدر الأول، فقد جاء في حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والجماعة رحمة، والفرقة عذاب) فإن الاعتصام بما عليه الجماعة رحمة ونجاة، والفرقة والشذوذ عنهم هلكة وضلال، يوجب العذاب.
والجماعة في هذا الحديث تعني: اجتماع أهل الحق على مصالحهم العليا، ويؤيد ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة).
وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه لما سئل عن الفتنة قال: عليك بالجماعة؛ فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ثم قال: إياك والفرقة؛ فإن الفرقة هي الضلالة.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة.
وهذه قاعدة ذهبية عظيمة يجب أن يتوخاها طالب العلم، وأن يعلمها الناس، وأن يلقنها طلاب العلم؛ لأنها من أعظم القواعد التي تفيد عند الفتن والخلاف بين المسلمين، قال: (إن الذي تكرهون في الجماعة) أي: ما يحدث مما تكرهونه مما تجتمع عليه الكلمة، خير من الذي تحبون أو تميل إليه عواطفكم أو عقولكم، ما دام يؤدي إلى الفرقة، وما أحوج الناس وطلاب العلم بخاصة في هذا الوقت إلى هذه القاعدة العظيمة.
إذاً: يجب أن تحافظوا على الجماعة، ولو حدث ما تكرهون، فاصبروا على ما تكرهون تفادياً للفرقة، ولو ظننتم أن في الفرقة وصولاً إلى ما تحبون.
ليس المقصود ما تكرهون من الأمور التي لا تشتهي أنفسكم، أو ما تحبونه مما تشتهون، لا، إنما المقصود ما تحبونه في دين الله عز وجل، وما تكرهونه من الأمور التي تروا أنها ضد الدين، فيجب أن يكون هم المسلم أن تبقى الجماعة ولو على أدنى خيط من الاجتماع، فذلك خير من التهور، أو الوقوع في أمور قد تكون فاضلة ومطلوبة، وقد تكون محبوبة للنفس، لكنها لا تضمن معها الجماعة، وربما تؤدي إلى الفرقة.
وكذلك يؤيد هذا قول علي رضي الله عنه في مسألة بيع أم الولد، يخاطب الصحابة في عهده، قال: اقضوا ما كنتم تقظون؛ فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة.
كأنه يقول: أنا أسلِّم لكم رغم أن لي رأياً أرى أنه هو الحق؛ لكن نظراً لأن الناس في فرقة، ويخشى عليهم الفتنة فقال: اقضوا ما كنتم تقضون، حتى يكون للناس جماعة.
وكذلك يؤيد هذا قول عبيدة بن عمرو السلماني رحمه الله، لـ علي رضي الله عنه، يقول: رأيك ورأي عمر في الجماعة، أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الكلام عن طريق أهل السنة والجماعة، حيث قال: وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضده الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين إلى آخر الكلام.(106/10)
إطلاق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة
المعنى الرابع من معاني الجماعة: تطلق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم، الذين اجتمعوا على إمام أو أمر من أمور الدين التي لها أصل في الشرع، أو اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى الكبرى، وهذا الإطلاق في مفهوم الجماعة ينبغي أن يقيد بقيد، وهو جمهور المسلمين المستمسكين بالسنة.
وبعض الناس يظن أن الجماعة لا تكون إلا في أمر الدين، لا، بل الدين جاء لحفظ دنيا الناس ومصالحهم، فالأمور التي تحفظ دنيا الناس، وتحفظ أعراضهم وأموالهم، وتؤمن سبلهم إذا لم يتم الاجتماع عليها أدى ذلك إلى فتنة في أعراض الناس وأموالهم ودمائهم وأنفسهم ونحو ذلك.
إذاً: فمصالح المسلمين الدنيوية والدينية كلها معتبرة في الجماعة، فإذا اجتمع عامة المسلمين أهل الحل والعقد على مصالحهم العظمى، وجب الخضوع لهذا الاجتماع وإن كان مرجوجاً، ووجب الاستمساك به، وعدم الفرقة عنهم في أي أمر من الأمور التي فيها مصالح، فإن الشذوذ عنهم ومخالفتهم هلكة وشقاق، وخروج عن الجماعة.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في الجامع الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني)، ثم ذكر شيئاً من الفتن فقال: حذيفة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) فأوصاه أولاً بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على كل حال، فإن فرض أن ليس هناك جماعة للمسلمين ولا إمام، فلا ينبغي للمسلم أن يتصدر وأن يبرز برأي تزيد به الفرقة؛ لأن الناس إذا كانوا في الفرقة، فالرأي الذي يتبناه الشخص دون أن يكون للمسلمين جماعة، يكون زيادة في الفرقة، فإذا كان للناس عشرة آراء وكان له رأي مخالف زادهم فرقة، فيكون الرأي الحادي عشر وهكذا.
فإذاً: لا بد أن يبقى ولو أدنى حد من جماعة المسلمين، والاجتماع على أئمتهم، وهنا يكونون الجماعة، وأن المخالفة في هذه الأمور تؤدي إلى الفرقة، فإن لم يكن هناك جماعة للمسلم ولا إمام، فالمسلم يسعه الاعتزال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بالاعتزال في هذه الحال.
وكذلك حديث أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله على الجماعة) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتة جاهلية).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) مثل حديث أسامة بن شريك.
وحديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فجعل ترك الجماعة ومفارقتها مقارناً لترك الدين، وجعل حكمهما واحداً، سواءً اجتمعا أو افتراقا.
والمراد به: أن من ترك جماعة المسلمين، فإنه يعاقب معاقبة التارك لدينه.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: (ثلاث خصال لا يغل عليهما قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
وقال الطبري فيما حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج من الجماعة.
فأكثر نصوص الجماعة التي وردت في السنة إنما تنصرف إلى هذه المعاني، أي: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى، كالاجتماع على أمير، أو أمر من أمور دنياهم أو من أمور دينهم، فهم ممثلون بأغلبهم، أو بعلمائهم أو بأهل الحل والعقد بمجموعهم، وأهل الحل والعقد وأهل الرأي أحياناً يكونون من عدة أصناف، قد يكون أهل الحل والعقد هم العلماء، وقد يكون أهل الرأي والمشورة من أهل العلم، وأحياناً يكون أهل الحل والعقد في الأمة من الأمراء، ورؤساء العشائر، والتجار، وأصحاب المحسوبيات وغيرهم.
فمعنى أهل الحل والعقد: هم الذين بأيديهم حل أمور الأمة وعقدها، في أمور دنياهم خاصة إذا ضعف الدين في الناس، فأهل الحل والعقد لا بد من اعتبار ما يجتمعون عليه؛ لأنه لا يمكن استقامة أمر الناس في دينهم ودنياهم إلا على ذلك؛ لأنه لا يمكن تحقيق الدين إلا بأمن واستقرار، ولا يمكن تحقيق الدين إلا بجماعة، ولا يمكن تحقيق الدين أيضاً إلا بطاعة على المنشط والمكره، على ما يحب الناس وما يكرهون.
إذاً: من أعظم معاني الج(106/11)
إطلاق الجماعة على أهل الحل والعقد خاصة
خامساً: إطلاق الجماعة على أهل الحل والعقد أحياناً، فأهل الحل والعقد أحياناً يسمون جماعة، فكما تطلق الجماعة على العلماء، وعلى أهل العلم في العهود التي يكون فيها المسلمون على استقامة تامة، كما في عهد الصحابة، ويدخل فيهم غيرهم أحياناً، إذا ضعفت أحوال المسلمين، وضعف تمسكهم بالدين، أو كثر الخبث فيهم وكثرت الأهواء، فتطلق الجماعة على أهل الحل والعقد أحياناً بخصوصهم، من العلماء، والأمراء، والقواد، والولاة، والقضاة، والأعيان، فإذا اجتمعوا، أو تحققت المصلحة من بعضهم، ففي الفتن أحياناً لا يجتمع أهل الحل والعقد الاجتماع الكافي، فقد يكون الحل والعقد بثلاثة، يسددهم الله عز وجل فيصلون إلى حل يحفظ دماء الأمة ويحفظ أمنها، فيكون حلهم وعقدهم معتبراً، فإذا انعقد الأمر للمسلمين في مصلحة من مصالحهم العظمى، بأي صورة من الصور التي تؤدي إلى تحقيق مصلحتهم، فإن ذلك يكون من الاجتماع الذي هو الجماعة على يد أهل الحل والعقد وإن قل، فإذا اجتمع أهل الحل والعقد أو بعضهم أو غالبهم على أمر من مصالح المسلمين، كتولية إمام أو بيعته وعزله ونحو ذلك، كان أمرهم نافذاً، وأجدر من يكون من أهل الحل والعقد هم أهل الفقه في الدين، لكن قد يخرج الأمر عن الأنفع والأولى والأفضل والأفقه.(106/12)
إطلاق الجماعة على الفريق والجماعة من الناس
سادساً: تطلق الجماعة أحياناً على الفريق من الناس، الذي يجتمعون على شيء ما دون الجماعة الكبرى، أحياناً تطلق الجماعة شرعاً على من هم دون الجماعة العظمى، الذين ذكرت صورهم، ويكون هذا الاعتبار مشروطاً بتحقيق نطاق الجماعة، وإن كان لا ينصرف هذا الوصف إلى الجماعة الكبرى، فمثلاً: كثيراً ما يرد في السنة وفي الأثر إطلاق كلمة الجماعة على أي مجموعة من الناس من المسلمين، فإذا اجتمعوا مثلاً على السفر، أو اجتمعوا على تجارة، أو اجتمعوا على الصلاة، فجماعة المسجد جماعة، وجماعة الحي جماعة، وجماعة البلد جماعة، وجماعة طلاب العلم جماعة، لكنهم جماعة دون الجماعة العظمى، ومع ذلك ورد تسميتهم بجماعة بالوصف المقيد في ألفاظ الشرع في الكتاب والسنة، فأي أمر من الأمور التي اجتمع عليها الناس دون مصالحهم الكبرى، من مصالحهم الجزئية في الدين والدنيا قد يسمى جماعة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة) يعني: مع الجماعة الذين يجتمعون على الأكل، وهذا ظاهر.
وفي حديث جندب بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة) يعني: إذا حزبك أمر تخاف منه فافزع إلى الجماعة من حولك، جيرانك، جماعة المسجد، جماعة الجهاد، جماعة الحسبة، أو من حولك ممن يطلق عليهم السنة والجماعة في النطاق الذي أنت فيه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة، والصبر، والسكينة، إذا قاتلنا).
وكذلك قول البخاري في الصحيح: (باب اثنان فما فوقهما جماعة) قصده في الصلاة، ويقاس عليها غيرها.
إذاً: تطلق الجماعة على مجموع تلك المعاني أو بعضها أو أكثرها بحسب أحوال الأمة، لكن كما قلت: أغلب ما تنصرف ألفاظ الأمر بالجماعة والاعتصام بها إلى الجماعة الكبرى، وأغلب ما تنصرف ألفاظ النهي عن الشذوذ عن الجماعة، وأنها فرقة من الدين إلى الجماعة الكبرى، والجماعة الصغرى لا شك أن مخالفتها أحياناً تكون مكروهة، وأحياناً تكون محرمة ومن كبائر الذنوب، لكن لا تصل إلى حد الفرقة الكبرى، فمثلاً: المسلم إذا ترك جماعة المسجد، وصلى مع جماعة أخرى، يكون قد ارتكب ذنباً، أو ترك جماعة المسجد بالكلية يكون قد ارتكب كبيرة، لكن ما يعد من الفرق الضالة إلا إذا خالف في مفهومات الجماعة الكبرى، فأي مسلم يشذ عن الجماعة في مفهوم الجماعة الكبرى يكون عمله افتراقاً، لكن إذا شذ عن الجماعة في مفهوماتها الصغرى، في المصالح الجزئية، أو افترق عن جماعة المسجد يكون عمله بحسب حاله، قد يكون كبيرة من الكبائر التي يعزر عليها، لكن لا يصل إلى حد يوصف بأنه مفارق للجماعة المفارقة العقدية، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(106/13)
الأسئلة(106/14)
حكم استدلال أصحاب الجماعات الدعوية بالأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة على وجوب لزوم جماعتهم
السؤال
استدلال أصحاب الجماعات الدعوية بالأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة على وجوب لزوم جماعتهم، هل هو صحيح؟
الجواب
إذا كانت الجماعات تقصد بالاستدلال بهذه الأحاديث التي تنهى عن الفرقة وعن الجماعة، تقصد أن من شذ عن جماعتها فهو شاذ عن جماعة المسلمين، فلا شك أن هذا خطأ وانحراف، وهو من البدع، إذا اعتبروا أنفسهم الجماعة العظمى، أو أوردوا الأحاديث الواردة في الجماعة العظمى عليهم، فهذا خطأ، ويعتبر انحرافاً عند كثير من الجماعات التي ترفع شعارات الولاء لها في العصر الحاضر.
فكونهم يأخذون نصوص التحذير من الفرقة، والتحذير من ترك الجماعة العظمى، ويطبقونها على أنفسهم فهذا خطأ، أما إذا كان المقصود إيراد النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة بمعناها الذي هو دون ذلك، إذا كان اجتماعهم مشروطاً، كاجتماعهم في سفر، أو اجتماعهم على الصلاة، أو اجتماعهم على أمر من أمور الحسبة والدعوة إلى الله عز وجل، التي ليس فيها استقلالية في مناهج الدين أو شعارات أو حزبيات فهذا قد ترد فيه بعض النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة، بمعانيها الصغرى لا بمعانيها الكبرى.
أما المعاني الكبرى للجماعة التي الشذوذ عنها بدعة، فلا يجوز صرفها إلا لجماعة المسلمين أهل السنة والجماعة، وهؤلاء ليس لهم شعارات ولا أحزاب ولا جماعات ذات مناهج، ولا أيضاً جماعات ذات رايات دعوية يستقلون بها عن مفهوم السنة والجماعة.
إذاً: فالغالب أن الجماعات التي تستدل بالأحاديث في ترك الجماعة لأنفسها أنها تخطئ بذلك، وينبغي التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه قد يكون المخالف أحياناً لهذه الجماعات الجزئية الصغيرة الحزبية هو الذي على الحق.(106/15)
شرح العقيدة الطحاوية [107]
من سنن الله عز وجل في عباده أن جعلهم مختلفين، فكانوا في كثير من المسائل متنازعين، وقد وقع النزاع في هذه الأمة المرحومة، إلا أنهم أمروا أن يردوا ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله إذا لم يتبين لهم الحق في مسألة من المسائل، فإذا كانت من مسائل الأصول فالقول فيها واحد، وعلى من خالفه الرجوع إليه وقبوله، وإن كانت من مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضاً، ولا يبغي بعضهم على بعض، كما كان فعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.(107/1)
وجوب رد المسائل المتنازع فيها إلى الله ورسوله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ترك الناس العمل بهذه الآية، يعني قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم، كما أمر الله تعالى، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية.
وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد الى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول، مثل: تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل، مثل: حبسه وضربه وقتله.
والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته.
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون وإما ظالمون، فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم: الذي يعتدي على غيره، وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل، أقر بعضهم بعضا، كالمقلدين لأئمة العلم الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلِّده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور].(107/2)
الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد].
اختلاف التنوع المقصود به الاختلاف الذي يتعدد فيه القول والرأي على وجه شرعي، الاختلاف الذي كله سائغ، الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي يسع فيها الخلاف، ويتنازع فيها في فهم الأدلة، وتكون فيها الأدلة أو الدلالة الاجتهادية غير واضحة، سواء دلالة المفهوم، أو دلالة المنطوق، أو دلالة اللغة، أو التقييد، أو النسخ إلى آخره، كل هذه الأمور تسمى اختلاف تنوع، أي: أن المسلمين عندما اختلفوا فيها، اختلفوا عن اجتهادات لها أصول في الشرع على ضوء الأدلة، بخلاف النوع الثاني الذي هو اختلاف التضاد، واختلاف التضاد: هو الاختلاف في أصول الدين، في قضايا العقيدة، في القطعيات، الاختلاف فيما يخالف الدليل القطعي، وفيما يخالف الدليل الصريح، سواء كان في الفروع فيما يتعلق بالأحكام، إذا كان الخلاف لا يوجد له مبرر، أو كان في العقائد وهو الأغلب، فأغلب صور اختلاف التنوع الاجتهادية في الأحكام، وأغلب صور اختلاف التضاد في العقائد، ومع ذلك يوجد اختلاف التضاد في الأحكام، مثل: خلاف الشيعة في مسألة المسح على الخفين، وخلافهم في غسل الرجلين، حيث قالوا: المشروع مسح الرجلين، هذا داخل في الفروع، لكن أصبح من اختلاف التضاد؛ لأنهم خالفوا النصوص الصريحة، رغم أنه في الفقه.(107/3)
أوجه اختلاف التنوع وحقيقته
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه: منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلفت فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن).
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد ونحو ذلك، مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل.
ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر والنهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر، لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصوغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك.
ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك].
أغلب صور الخلاف الحاصل الآن بين أهل السنة من هذا النوع، هو من خلاف التنوع الذي يكون فيه اختلاف في العبارة، في حين أن المضمون واحد، أو يكون الاختلاف في مفهوم المسألة، يعني: تجد أن كثيراً من المختلفين الآن في قضايا خطيرة، يرجع اختلافهم إلى أنهم لم يحددوا مناط الاختلاف، أو حقيقة ما اختلفوا عليه، كل منهم في ذهنه مفهومه عن المسألة غير ما يفهمه الآخر، وهذا نوع من الإشكال والعبث بالألفاظ، وعلى هذا نجد في مسائل خطيرة الآن وكثيرة جداً، تنازع فيها أبناء المسلمين وطلاب العلم، ونجد أن سبب التنازع أن كلاً منهم يتكلم بمفهوم، والخلاف في الحقيقة خلاف على قضيتين مختلفتين.
نأخذ أمثلة على ذلك: أولاً: كلام كثير من طلاب العلم في الآونة الأخيرة عن مسألة: هل يعذر المبتدع أو العاصي أو الفاجر أو الظالم إلى آخره بالجهل أو لا يعذر؟ أكثر الذين يتكلمون في هذه المسألة فيما يظهر لي لم يحددوا ما هو مفهوم العذر بالجهل، ولم يحددوا ضوابط العذر بالجهل، فكل منهم في ذهنه مفهوم يتكلم به، ويختلف عما في ذهن الآخر، ويظن أنه يخالفه، في حين أن هذا في واد وهذا في واد.
خذوا مثالاً آخر: مسائل الدعوة ووسائلها، الآن القضية مرفوعة وحامية: هل وسائل الدعوة توقيفية، أو هي اجتهادية، الكثير ممن تكلموا عن وسائل الدعوة، ووسائل تعليم الدعوة مختلفون في تحديد معنى الوسائل والأساليب، تجد أن كل واحد قد حدد مفهومه في ذهنه خلاف المفهوم الذي عند الآخر، ومقصد أهل العلم أولاً أن يحددوا المفهوم والمقصود بالقضية التي فيها الخلاف، فإذا حررنا المفهوم، وكل واحد فهم القضية وفهم المقصود الآخر، فمن هنا ترجع القضية إلى أصولها الثلاثة كما وردت عند السلف.
ولذلك ذكر الشيخ الفاضل حدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك، ثم قال: (ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك).
وأمثلة هذا كثيرة، منها: الكلام في المذاهب الفقهية، وهل المذاهب بدعة من البدع؟ فنجد أن الذي يذم التمذهب يذم التعصب المذموم لا يذم الابتداع والاتباع، والذي يجيز التمذهب يقصد التمذهب الذي هو الاتباع والاقتداء بأئمة الدين، فأكثر المسائل هذه سببت الفرقة وسببت عداوات وسوء ظن بين المسلمين، وردود، وردود على الردود، واستنزفت جهوداً من الأمة وطاقات يحتاجونها في تقرير السنة واجتماع الكلمة في الدفاع عنها، لكن مع الأسف أصبح الخلاف في كثير من الأمور اختلاف تنوع، وأكثر المخالفين أو المختلفين لا يدرون ولا يشعرون، فحمل بعضهم على بعض، وطغى بعضهم على بعض، وجهل كثير منهم مقالة الآخر إلى آخره.
أما مقولة: نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فهذه مقولة فضفاضة مائعة ما لها قرار، وهي من الأمثلة التي يختلف عليها الناس من غير تحديد معنى.
فإذا كان مقصود القائل لهذه الكلمة: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في الاجتهاديات، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وإن كان قصده جميع ما يختلف فيه المسلمون، بما في ذلك البدع والضلالات، والشعارات والمناهج الخاطئة، والتيارات وغيرها، فهذا لا شك أنه خطأ وتفريط، ولا شك أنه منهج أهل البدع.
والذي ينبغي الإشارة إليه أنه فيما علمت من خلال استقرائي لهذه الكلمة أن (الإخوان المسلمون) رفعوا هذه الكلمة كشعار لهم، وهم يقصدون بها مداهنة أهل البدع، فهذه مشكلة تجعل بعض الناس يسيء الظن بهم، ويحكم بأنهم قصدوا بها مداهنة أهل البدع وأهل الأهواء.
وقد يكون منهم من يقصد المعنى الشرعي الصحيح، فمن هنا أقول: هذه الكلمة أصبحت الآن من الكلمات التي لا ينبغي رفعها كشعار؛ لأن أغلب الذين رفعوها رفعوها بقصد السكوت عن أهل البدع، وهذا واضح عند كث(107/4)
حقيقة اختلاف التضاد
قال رحمه الله تعالى: [وأما اختلاف التضاد: فهو القولان المتنافيان، إما في الأصول، وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فَيَرُدُّ الحقَّ مع الباطل، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة].
هذه من القواعد الذهبية التي ينبغي أن نستفيد منها، وهي مما تجاوزها كثير من المنتسبين للسنة، فتجد بعض المنتسبين للسنة يرد الحق الذي مع المخالف؛ لأن المخالف عنده شيء من الباطل، وهذا خطأ شنيع، الحق ينبغي أن يقبل ويرد إلى أصوله، وإذا كان المخالف معه شيء من الحق وعنده شيء من الباطل، فيجب على منازعه وعلى مخالفه أن يعترف بما عنده من الحق، ويرد ما عنده من الباطل، وإلا وقعت فتنة وفساد عظيم في الأمة، حتى إن هذا يحدث بين المتنازعين من أهل السنة، فقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا يحصل بين متبعي أئمة المذاهب الفقهية، في اختلافاتهم واجتهاداتهم، فنجد أن هناك من ينتسب للسنة من قاصري العلم والتأصيل، نجد أنهم متميزون برد الحق الذي مع المخالف، حتى وإن كان من أهل السنة، بمجرد أن يكون في القضية شيء من الباطل يرد الحق الذي معه، والناس قد يكون في أقوالهم حق وباطل، فالقول الواحد قد يتضمن شيئاً من الحق وشيئاً من الباطل، فالميزان الشرعي الصحيح أن نقبل الحق ونخضع له، وإن كان مع الخصم، ونرد الباطل دون أن نجعل الأمر ملتبساً.
فأقول: إن كثيراً من الناس يرد قول المخالف جملة وتفصيلاً، دون أن ينظر ما فيه، وهذا أدى إلى سوء الظن بين الفريقين، وأدى أيضاً إلى الاعتداء، وإلى استعمال بعض الأساليب التي لا تجوز إلا مع أهل البدع المغلظة، فينبغي التنبه لهذا الأمر وتأصيله وبيانه للناس، خاصة لطلاب العلم الذين كلامهم له أثر في الناس، وله أثر في المتلقين والناشئة، ينبغي أن ترسم هذه القاعدة بوضوح وتنشر وتبين، وهو أنك إذا خالفت أحداً من أهل السنة فيجب أن تضع في بالك ونصب عينك ما معه من الحق، وتحمده عليه، وترد ما معه من الباطل، وتعتذر له؛ لأنه أخطأ، أما أن تتخذ الخطأ ذريعة للسب وذريعة للتجريح فهذا ليس هو منهج السلف، وقد يكون لبعض السلف بعض المواقف وبعض الكلمات، التي هي أشبه بنصوص الوعيد في حق المخالف، فلا تؤخذ على أنها منهج؛ لأن بعض السلف يكون قد قسا على قرين له، أو على عالم آخر، أو على طالب علم في وقته، وقال كلمات، لكن هذا ليس منهجاً، وإنما هذا من باب الوعيد والتحذير، لكن المنهج إذا رأيته وإذا تأملته فيما كتبوه وسطروه، خاصة في كتب الرجال التي كتبها السلف في التراجم، نجد أنهم منصفون فيما كتبوه، وهكذا ينبغي للناس أن ينصف بعضهم بعضاً.
والكلام في أبي حنيفة يعتبر نموذجاً، فـ أبو حنيفة رحمه الله وقع في بدعة لا يبدع بها، لكنها تعتبر زلة عالم، وزلة العالم ينبغي التنبيه عليها، والتحذير منها، وعدم الدفاع عنها، وينبغي أيضاً أن يقال: إن هذه زلة وبدعة، لكن يعتذر له؛ لإمامته في الدين، وهذا يدل على أن العالم لا يبدع بها، أما من دونه يبدع بها.
قال رحمه الله تعالى: [وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هداية ونوراً رأى من هذا ما يبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا، لكن نور على نور].(107/5)
حكم اختلاف التنوع
قال رحمه الله تعالى: [والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] قد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون، وكما في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة، وكما في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) ونظائر ذلك].
نقف على هذا المقطع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/6)
الأسئلة(107/7)
حكم وسائل الدعوة
السؤال
ما حكم وسائل الدعوة هل هي توقيفية أو اجتهادية؟
الجواب
يمكن أن نشير إلى بعض القواعد العامة في هذا الموضوع، ثم إن شاء الله تفصل هذه المسألة في الدرس القادم؛ لأنها من المسائل التي تثار الآن.
وسائل الدعوة في الحقيقة حسب ما يفهم من معناها اللغوي ومن استقراء لنهج السلف المقصود منها الأدوات التي تستخدم في تحقيق الدعوة، سواء كانت أدوات مادية، مثل: الأجهزة، أو أدوات معنوية، مثل: الأساليب الإدارية والتنظيمية وغيرها، مثل المؤسسات والجمعيات، وما يكون من الأجهزة الحكومية والدوائر الحكومية والدوائر المؤسسية التي تخدم الدعوة، فهذه تسمى وسائل، فكذلك قد يدخل في مفهوم الوسائل بعض الأساليب العلمية التي تتعلق بالدعوة، كتأليف الرسائل والكتب، والوسائل المتاحة: من أشرطة، وأجهزة منظورة ومسموعة وغيرها، هذه أيضاً تدخل في باب الوسائل.
فإذاً المقصود بالوسائل: هي أدوات الدعوة، سواءً كانت علمية، أو كانت إدارية ومعنوية، أو كانت مادية كالأجهزة.
والوسيلة: هي الطريق إلى الوصول إلى الهدف، ليست هي المناهج؛ لأن المناهج هي القواعد العامة كقواعد الحلال والحرام، ما يجوز وما لا يجوز، ما يسوغ وما لا يسوغ استخدامه في الدعوة، هذه تسمى مناهج، ففرق بين الوسائل والمناهج.
وعلى هذا فالكتاب أداة للدعوة ولنشر العلم، والشريط أداة وهكذا، فالأدوات الأصل فيها الإباحة، والأصل فيها التجديد بحسب مقتضيات العصر، ولذلك كان السلف لا يفرطون في استخدام أي وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله عز وجل، كان في عهد الصحابة يدعون إلى الله عز وجل بالكلمة، وبالوسائل العادية البسيطة المتاحة، ثم في عهد الخلفاء الراشدين تطورت بعض الوسائل العادية البسيطة المتاحة، من ذلك: الحسبة على أحوال الناس، لما نشأت مثلاً الكوفة والبصرة في عهد عمر رضي الله عنه وضع فيها الحسبة؛ لتدبير أمور الناس في دينهم ودنياهم، فكانت هذه من وسائل الدعوة، ثم اضطر عمر رضي الله عنه إلى استخدام ما يسمى بالدواوين، وهذه من وسائل الدعوة، ثم اضطر الصحابة في آخر عهدهم أيضاً لبعض أنواع من المناظرات لم تكن معهودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض أنواع من الانتقادات والكتب والرسائل الصغيرة لم تكن معهودة في عهد أوائل الصحابة، ثم في عهد التابعين بدأ التأليف والتصنيف في خدمة الدعوة والدفاع عن العقيدة.
ثم في القرن الثاني تجددت وسائل أخرى في التصنيف والتأليف، فبدأ التابعون يستخدمون وسائل الكتابة والمراسلات والردود، والردود على الردود، واستعمال المناظرات بشكل متوق، واستعمال المناظرات في مجالس الأمراء والوجهاء، وفي المساجد بشكل موسع، ثم أيضاً جدد التابعون وتابعوهم في الوسائل العلمية بنشر الدعوة، فبدءوا يؤلفون الكتب المعنصرة المبوبة، بدءوا يكتبون الآثار، بدءوا يكتبون رسائل مفردة في موضوعات، ورسائل عامة في السنة، بدءوا يكتبون الحديث، بدءوا يكتبون تفسير القرآن، بدءوا يكتبون بعض المقالات وغيرها، تجددت عندهم وسائل الدعوة بحسب أحوالهم.
وفي عهد شيخ الإسلام ابن تيمية استحدث هو وغيره من أئمة المسلمين وسائل لم تكن معهودة في القرون الثلاثة الفاضلة في أسلوب التصنيف، وفي أسلوب الدعوة، وفي أسلوب التقاضي عند الأمراء وعند السلاطين والولاة وغير ذلك من الأساليب في الدعوة، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية أحياناً كان يستخدم أساليب ما كانت معهودة حتى في عصره، جدد فيها.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أيضاً جدد وسائل في الدعوة، من ذلك: أسلوب الرسائل، وطريقة التعليم، وبعث الطلاب، واتخذت وسائل للدعوة في المسجد ما كانت معهودة في عهد السلف، من ذلك: تكليف أئمة المساجد بأن يلقنوا المسلمين في مساجدهم أصول الدين، وهذه الوسائل ما كانت معهودة بهذه الطريقة، لكنها وسيلة من الوسائل التي نفع الله بها.
فإذاً: وسائل الدعوة إلى الله عز وجل من الوسائل الاجتهادية.
أما الذين يقولون بأن الوسائل توقيفة، فيقصدون مناهج الدعوة، أي: ما يجوز وما لا يجوز في مناهج الدعوة إلى الله عز وجل، حتى القواعد الحديثية التي تحكم الأسانيد تدخل في المناهج وفي الأصول، وليست داخلة في الوسائل.
فإذاً: الخلاف إنما هو عادة في الألفاظ، وهؤلاء يتنازعون على لا شيء، وإلا فلا أظن طالب علم يخالف في مسألة استخدام الوسائل التي ذكرناها في الدعوة، أو أن هذه الوسائل والأدوات محجورة لا تجوز، ما يخالف فيها إلا جاهل، وكذلك لا يمكن أن يقول أحد: إنه يجوز الابتداع في مناهج الدعوة إلى الله عز وجل بما يخالف مناهج السلف، فهذا لا شك أنه بدعة عند الجميع.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/8)
شرح العقيدة الطحاوية [108]
وقع الاختلاف في الأمة بين من يقرون بالكتاب في أمرين: اختلاف على تنزيله، فضلت في ذلك طوائف ممن أنكروا صفة الكلام لله، فقالوا بأن الكلام معنى قائم بالنفس، وأن القرآن عبارة عن كلام الله، أو هو حكاية، واختلاف آخر وقعوا فيه وهو الاختلاف على تأويله، والمتضمن للإيمان ببعضه دون بعض، وكان الصراط القويم والسبيل المستقيم في ذلك ما انتهجه السلف الصالح في ذلك، من تأويل القرآن بالقرآن، أو تأويله بالسنة الصحيحة، ثم تأويله بفهم الصحابة الكرام، ثم تأويله بفهم الأئمة الأعلام.(108/1)
اختلاف التضاد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والاختلاف الثاني: هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وذمت الأخرى].
الاختلاف الثاني هو اختلاف التضاد واختلاف الافتراق.
قال رحمه الله تعالى: [كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253].
وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] الآيات.
وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة -من القسم الأول- وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي، في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]؛ لأن البغي مجاوزة الحق، وذكر هذا في غير موضع من القرآن؛ ليكون عبرة لهذه الأمة.
وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم).
فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية].(108/2)
الاختلاف في الكتاب
قال: [ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين: أحدهما: اختلاف في تنزيله.
والثاني: اختلاف في تأويله، وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض].(108/3)
الاختلاف في تكلم الله بالقرآن وتنزيله
قال: [فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، وطائفة قالت هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك].
هذا الكلام كله ليس بصحيح على إطلاقه، يعني: اختلافهم في تكلم الله عز وجل بالقرآن وتنزيله، قالت طوائف من المعتزلة وبعض الجهمية: إن كلام الله حصل بقدرة الله عز وجل، لكنه مخلوق في غيره فلم يقم به.
وقالت الكلابية ومن سلك سبيلهم من الأشاعرة والماتريدية: إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته، ليس بمخلوق، لكن البعض قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وهؤلاء هم الكلابية ومن سلك سبيلهم.
فالكلابية هم أول من قال هذا القول، زعموا أنهم أرادوا التوسط به بين قول المعتزلة وبين قول أهل الحديث، فهؤلاء زعموا أنهم أثبتوا كلام الله عز وجل، وأن كلامه صفة قائمة بذاته وأن الكلام ليس بمخلوق، لكنهم نفوا أن يكون كلام الله متعلقاً بقدرته ومشيئته، وهذه بدعة.
والحق أن كلام الله عز وجل صفة لله قائمة بذاته، وأنه متعلق بقدرة الله ومشيئته، ولا يحد من مشيئته للكلام شيء، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس، ولا يجوز أن يقال: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، ولا عبارة عن كلام الله، بل كلام الله عز وجل متعلق بمشيئته، فكما أنه موصوف بالكلام دائماً وأبداً، فكذلك أيضاً موصوف بأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وقد ثبت أنه كلم آدم وكلم موسى وكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكلم الناس يوم القيامة ويناديهم ويناجيهم، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء.
إذاً: كل من القولين فيه خطأ وصواب، فالصواب عندهم أنهم أثبتوا كلهم أن الله متكلم، لكن الأولين أخطئوا في قولهم بأن القرآن مخلوق في غيره لم يقم به، أي: أن الله لم يتكلم بحرف وصوت على ما يليق به سبحانه، والآخرون وهم الكلابية ومن سلك سبيلهم أيضاً أصابوا في قولهم: إن الكلام صفة لله قائمة بذاته، وأنه ليس بمخلوق، لكنهم أخطئوا حينما قالوا: بأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولذلك اضطروا بأن يقولوا: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، وهذه بدعة؛ لأن الحكاية والعبارة مثل الترجمة لا تعتبر كلاماً، بل لا بد أن تنسب إلى غير الله؛ لأنه إذا كان الحاكي بالقرآن والمعبر عن القرآن غير الله لم يصر كلامه إلا من باب المجاز، والمجاز لا يعبر عنه بالكلام الحقيقي، ولذلك يفرق بين من يتكلم حقيقة، وبين من لا يتكلم حقيقة، ولله المثل الأعلى، الإنسان القادر على الكلام يقال له: متكلم، بخلاف الأخرس لا يقال له: متكلم، مع أنه يمكن مجازاً أن يسمى تعبيره بالإشارات كلاماً، فهو حكاية وعبارة عن كلام الأخرس، لكنه لا يسمى كلاماً حقيقياً عند العقلاء، ولله المثل الأعلى، مع أن الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وليس كلامه ككلام المخلوقين، فليس كمثله شيء، لكن نقصد أصل إثبات الصفة، ولا مانع من ضرب الأمثال في أصل إثبات الصفة لله لا في كيفيتها، ولله المثل الأعلى.
فمن هنا نقول: إن كلاً من الطائفتين أخطأتا، وإن أصابتا في الأصل أو في بعض الأصل، والحق في هذا أن الله عز وجل متكلم موصوف بالكلام، وكلامه قائم بذاته سبحانه، وأيضاً كلامه متعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله، وكلامه بحرف وصوت، ويسمى نداء، ويسمى قولاً، ويسمى كلاماً إلى آخره.
أما القول بأنه أقيمت الحجة على من قال: بأن كلام الله حكاية، أو أن القرآن عبارة عن كلام الله، أو أن الكلام معنى قائم بالنفس، فيكفر، فهذا غير صحيح؛ لأن أصل نزعة القول هذه ناتجة عن تأول، وإن كان يلزم من ذلك الكفر، لكن ما دام لا يلتزم، حتى لو كان في عدم التزامه شيء من المغالطة، أو البعد عند العقلاء، وعند أهل العلم والفقه في الدين، فما دام يتأول فإنه سيبقى مبتدعاً ولا يكفر.(108/4)
الاختلاف في تأويل القرآن المتضمن للإيمان ببعضه دون بعض
قال رحمه الله تعالى: [وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).
وفي رواية: (يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به).
وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن.
وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه، إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه، وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5].
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم].
قرر الشيخ في هذا المقطع قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وهي من القواعد التي خالفت فيها جميع الفرق، وهي: أن السلف ومن تبعهم في مسألة تأويل القرآن وتفسيره يأخذون بأصول الاستدلال على وجهها الصحيح، فيستدلون في تأويل القرآن بتأويل القرآن بالقرآن، ثم تأويل القرآن بالسنة، ثم تأويل القرآن بفهم الصحابة، ثم بفهم السلف، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما ورد من نصوص القدر، أو نصوص العقيدة، أو غيبيات أو في أمر مشتبه عليهم، فما علمه المسلمون واستنبطوه عملوا به وآمنوا وقرروه، وما لم يتبين لهم معناه من أدلة العقائد والأحكام سلموا به، وهذه القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: (ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).
ومنها: (ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به)، وهذه قاعدة عظيمة، بمعنى سلموا بالمتشابه؛ لأنه حق، وإنما قصرت أفهامكم عن إدراكه.(108/5)
أنواع العقائد والأحكام المتعلقة بفهم الناس لها
إن نصوص الشرع سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأحكام على درجات وأنواع: الأول: ما يفهمه جميع الناس، مثل: آقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فهذا يفهمه جميع الناس، وطلبه سهل ما يحتاج إلى آلة العلم أو التفقه.
النوع الثاني: ما يعرفه عامة طلاب العلم والعلماء، وهو أغلب نصوص الشرع، الغالبية العظمى من نصوص الشرع مما يدركه العلماء وعامة طلاب العلم.
النوع الثالث: ما لا يدركه إلا الراسخون، وهذا مما يجب أن ترجع فيه الأمة إلى الراسخين، ويبحث عند الإشكال فيه عن أهل الرسوخ والاختصاص، وقد يدرك الراسخ شيئاً ويخفى عليه شيء، وقد يكون أهل الرسوخ في العلم لكل منهم اختصاص وجانب من الإبداع والإجادة ما لا يجيده الآخر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصحابة بأوصاف متباينة، وأسند لهم بعض الأمور فيما يتعلق بالعلم الشرعي، فمنهم من تميز بالقضاء، ومنهم من تميز بالفتوى، ومنهم من تميز بالمواريث إلى آخره، وكل من الصحابة الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أشار إلى علمهم ونحو ذلك، هؤلاء كلهم علماء، ولا يعني: أنهم لا يجيدون إلا ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند كل واحد منهم مزية في جانب معين، وإلا فلا يكون العالم عالماً ولا الراسخ راسخاً إلا إذا كان علمه موسوعياً، لا يمكن أن يكون عالماً ترجع إليه الأمة وإن لم يكن متخصصاً في كل شيء، لكن لا يمكن أن يكون جاهلاً بأصول الحديث أو بأصول التفسير، أو جاهلاً بقواعد الفقه الأساسية وقواعد الاجتهاد، أو يكون جاهلاً باللغة العربية جهلاً يخرجه عن أهل العلم، هذا لا يمكن، وهذا الصنف هو الذي يدرك كثيراً مما لا يدركه الآخرون، ومع ذلك قد تبقى بعض مسائل الدين لم يدركها حتى الراسخون في العلم، ومنها ما يسمى أو بمشكل الآثار، كما سماها كثير من أهل العلم، بمعنى أنه لم يجزم أحد بشيء منها، وعلى هذا فهذه الأمور لا يتعلق فيها تكليف، فالأمور التي بقيت محل إشكال هي ليست من أمور العبادات، ولا من أمور العقائد القطعية، ولا من الأمور التي يتعلق بها أحكام الناس، التي فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، إنما هي من الأمور التي ابتلى الله بها الأمة؛ لينظر من يسلم ويذعن ممن لا يسلم ولا يذعن، وهي مسائل معدودة قليلة، لا يصل فيها الراسخون في العلم إلى جزم ويقين، ومع ذلك تبقى أنموذج لوجوب التسليم لله عز وجل، فما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حق، لا بد من التسليم به.
ومع ذلك أيضاً قد تمر أحياناً أجيال لا يدركون شيئاً في بعض المسائل، فيخرج واحد من أهل العلم فيدرك شيئاً لم يدركه الأولون، وهذا ليس فيه مانع تصوراً وشرعاً، وإن كان هذا لا يعرف في مسائل الدين الكبرى جزماًَ، كالمسائل العظمى، ومسائل مصالح الأمة، وما يتعلق بقضايا العقيدة الأساسية، ليس هناك شيء يكتشف بعد، لكن ما يتعلق بالجزئيات، في الأحكام، قد توجد في أهل عصر دون الآخر، إما لأن الحاجة لم تحدث إلا في وقت معين، كبعض المستجدات التي انطبقت عليها النصوص في وقتنا، هذا لم تنطبق عليه النصوص قبل هذا الوقت.
إذاً: أمور الدين هي على هذه الأنواع: منها ما يدركها جميع المسلمين عامة.
ومنها ما يدركها عامة العلماء وطلاب العلم.
ومنها ما لا يدركها إلا الراسخ في العلم.
ومنها ما لا يدرك، وهذا لا يدخل في هذه الأصناف، لكن يبقى مما يجب التسليم به على أي حال، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(108/6)
الأسئلة(108/7)
وجه جعل الشارح للخلاف الذي يئول إلى الاقتتال من خلاف التنوع
السؤال
قول الشارح: (وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول) فهو جعل من القسم الأول الذي هو التنوع وقوع سفك الدماء وغير ذلك فكيف ذلك؟
الجواب
قصده أن أغلب الخلاف بين أصحاب المذاهب الفقهيه، أو بين أهل السنة وغيرهم في الخلافات التي لا تخرج عن الملة أو ليست من البدع المغلظة، أغلبها من النوع الأول من اختلاف التنوع، لكن لما دخل في اختلاف التنوع البغي والهوى والحسد اشتد فيه المتخاصمون، حتى وقع بينهم تقاتل وولاء وبراء ونحو ذلك، مع أنه من النوع الذي لا يجب أن يكون فيه تقاتل وولاء وبراء.
وأهل السنة والجماعة عموماً يتجنبون الخلاف خلاف تضاد، فهذا لا يقع فيه إلا معاند أو صاحب هوى صريح في هواه، فلذلك تجد أن أهل السنة يكرهون الجدل فيه، لكن فيما يتعلق بالخلاف السائغ فالخلاف فيه كثير جداً، حتى في عهد الصحابة وما بعدهم، وما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم كان من الخلاف السائغ، لكن أوجب ما حدث من تلك الفتنة الكبرى والعظمى، ثم بعد ذلك أيضاً بقيت أكثر الخلافات التي أثارت الفتن بين المسلمين، الفتن التي استوجبت أن بعضهم يتكلم في بعض من أهل العلم وأهل الحق والعدل.
إذاً: النوع الأول هو الخلاف الاجتهادي السائغ، لكنه انضاف إليه شيء من الهوى والبغي أو الجهل بما عند الطرف الآخر، أو سوء الظن، أو الحسد، أو التعصب إلى آخره، والله أعلم.(108/8)
نوع الاختلاف في كلام الله بين أهل السنة وغيرهم
السؤال
قول الشارح: وقريب من هذا الباب، ثم ذكر حديث أبي هريرة، ثم بعده مباشرة ذكر أنواع الاختلاف، وذكر منها الاختلاف في كلام الله، فمن أي الأنواع جعل الاختلاف في كلام الله؟
الجواب
الشيخ رحمه الله قسم خلاف أهل الأهواء مع أهل السنة جميعها إلى نوعين: خلاف تأول وهو الأغلب، كخلاف أهل السنة مع المرجئة، وخلاف أهل السنة مع الأشاعرة المتكلمين، وهم الأكثرية عدداً، ويرى أن هذا الخلاف يدخل في النوع الأول ولا يدخل في النوع الثاني، أما خلاف أهل السنة مع الجهمية ومع الرافضة ومع غلاة المتصوفة وغلاة الفلاسفة فهو داخل في خلاف التضاد، هذا ما يبدو لي، وهذا الكلام منقول عن كتاب (الاقتضاء) لـ شيخ الإسلام، وفي سياق الشيخ في الاقتضاء أنه لا يعد كل ما بين أهل السنة وبين أهل البدع من خلاف التضاد، بينما يرى الشاطبي أن جميع الخلاف مع أهل البدع خلاف تضاد، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى أن أنواعاً كثيرة من الأمور التي خالف فيها أهلُ البدع أهلَ السنة تدخل في باب التأول، وهو من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد.
هذا فيما يظهر لي، والمسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق، لعله ينظر فيها إن شاء الله.(108/9)
معنى ظل الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)
السؤال
جاء في الحديث عند البخاري: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله) فهل هذا الظل هو ظل العرش أو يقال: من ظل الله العرش؟
الجواب
لا يجوز أن يقال: إنه ظل العرش، وإنما يثبت كما جاء عن الله عز وجل.
والسؤال عن مثل هذه الأمور الأصل فيه أنه بدعة، كما ثبت عن مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن سؤال طالب العلم لا حرج فيه، لكن بشروط: أن يكون بينه وبين المسئول، وأن يوجد للسؤال مبرر، يعني: من دفع شيء في نفسه، أو يكون هذا السؤال قد أثير في مجلس أو أثير كشبهة في بعض المناسبات، فيريد أن يرد على هذه الشبهة فلا حرج.
أما ما ينقدح في الذهن فيجب على المسلم وعلى طالب العلم بخاصة أن يتورع عن مثل هذه الأسئلة ويتقي الله عز وجل، فلا يسأل إلا لحاجة، بأن يجد في نفسه ضرورة، يريد أن يدفع شيئاً في نفسه.
أما مجرد الترف العلمي، وأن يعلم لمجرد العلم فينبغي له ألا يسأل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، بل يجب على طالب العلم في الأمور الغيبية التسليم، إلا فيما يتعلق بأصل إثباتها فله أن يسأل، أو إذا كان الإنسان لم يفهم المعنى فله أن يسأل عنه، أما حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من حيث المعنى والحقيقة فهو واضح في أذن السامع، لكن تبقى الكيفية الله أعلم بها، والقول بأنه ظل العرش، أو ظل بعض خلق الله، أو ظل يحدثه الله، هذا كله من القول على الله بغير علم، ومن التأويل الذي لا أصل له، بل من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(108/10)
شرح العقيدة الطحاوية [109]
دين الإسلام واحد، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، وتعلمه ميسور، وهو دين وسط في كل شيء، وما حاد أحد عن طريقته إلا ضل وزاغت به الأهواء، وتقطعت به السبل، وأسلمته نفسه وهواه إلى إفراط أو تفريط في أي جانب من الجوانب؛ في العقيدة أو العبادة أو المعاملة أو غيرها.(109/1)
الإسلام هو دين الله وهو واحد في الأرض والسماء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً} [المائدة:3]، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس)].
سيذكر المؤلف رحمه الله بعض الأحاديث الدالة على أن دين الله هو الإسلام، ومعنى ذلك، لكن قبل أن نقرأ الشرح أحب أن أشير إلى شبهة حدثت في هذا العصر، بل أصبحت الآن ليست مجرد شبهة بقدر ما تكون أصلاً من أصول الباطل، التي يروج لها كثير من المبطلين، وهي دعوى: أن الديانات السماوية يجب ألا يكون بينها فرق في العصر الحاضر، وأن أهل الديانات يجب أن يعترف بعضهم لبعض بصحة دياناتهم جميعاً، ورفعوا دعوى وحدة الأديان، ودعوى وحدة الديانات الإبراهيمية، ودعاوى كثيرة، كلها تدور على اعتبار أن كل الديانات الكتابية اليهودية والنصرانية والإسلام تمثل ديناً واحداً صحيحاً، لا فرق بين أصوله وفروعه، وهذا باطل.
وسيأتي من خلال الشرح أن المقصود بأن دين الله واحد: أن الله بعث جميع الرسل بالتوحيد، وهذا حق، وأن الله بعث جميع الرسل بالشرائع، وهذا حق، لكن مما هو معلوم من الدين بالضرورة أن الأديان السابقة حرفت، بما فيها ديانات أهل الكتاب اليهودية والنصرانية، حرفت وبدلت، ثم نسخت من عند الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء لجميع الأمم، بما في ذلك اليهود والنصارى، ويجب أن يؤمنوا به، وأما الديانات السابقة بما فيها دين موسى وعيسى، اشتملت على وجوب الخضوع لدين النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، والديانات الكتابية اشتملت على ضرورة أن يكون الإسلام هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هذا أمر.
والأمر الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن اليهود بخصوصهم، وغيرهم من باب أولى، أنه لا يستقيم لليهود ولا للنصارى دين حتى يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، فقال في الحديث الصحيح: (والله لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار) فهو صلى الله عليه وسلم أقسم بذلك: (والله)، وفي بعض الروايات بدون القسم، لكن المهم أن الحديث صحيح ورد في مسلم وفي غيره، فعلى هذا لا يصح أن يقال أن الديانات الإبراهيمية واحدة؛ لأنها حرفت وبدلت، ثم أن الله عز وجل ألزم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء بشريعة غير الشرائع الأولى، هي أكمل وأوفى وأوفر وأصفى وأسمى وأسلم، ولم يدخلها التحريف ولا التبديل، وقد تكفل الله بحفظها إلى قيام الساعة، وأمر الله جميع الأمم، بل أمر الله الجن والإنس بأن يؤمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأشير إلى المسائل الخطيرة الواردة على الأمة، وهي دعاوى: أن من مات من أهل الكتاب فمصيره إلى الجنة، وأن من صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال بأنه رسول وإن لم يتبعه فهو مؤمن وهو مسلم إلى آخرها من الدعاوى التي بدأت تروج الآن، وقد كانت تروج في السابق، لكن في السابق كان عند المسلمين من حصانة العقيدة وقوة الإيمان والفقه في دين الله عز وجل -عامة وخاصة- ما يجعلهم لا يقبلون هذه الدعاوى، ولكن في العصر الحاضر عندما اختلفت الثقافات، وكثرت مصادر التلقي عند الناس، وتزعم المثقفون بغير فقه في دين الله الدعوة إلى الله عز وجل، وبدءوا يتكلمون باسم الدين، كثر هذا الهرج، وبدأ الخوض، ووقع كثير من المسلمين في هذه الشبهات، حتى إنها أحياناً تصدر هذه الإشكالات من طلاب العلم، كما يثار الآن مسألة الكافر واليهودي والنصراني إذا مات، وعندما مات بعض أعلام الكفار كأحد اليهود وأحد النصارى، خاض الناس خوضاً عجيباً يدل على جهلهم ببدهيات الدين، وحتى قال بعضهم: إنه يحكم على هؤلاء بالإسلام، وبعضهم يقول: نتورع بأن نقول: هم كفار وأنهم من أهل النار إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على أن مسألة العقيدة بدأت تهتز في قلوب الناس اهتزازاً عظيماً، يخشى منه أن يقع بعض الناس في ردة وهو لا يشعر، نسأل الله العافية.
قال رحمه الله تعالى: [ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد).
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] عامٌّ في كل زمان؛ ولكن الشرائع تتنوع كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً} [المائدة:48].
فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يُمْكِنُ كل مميز من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد، أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك، من إنكار كلمة، أو تكذيب، أو معارضة، أو(109/2)
ظهور دين الإسلام وسهولة تعلمه
قال رحمه الله تعالى: [فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام، وسهولة تعلمه، وأنه يتعلمه الوافد، ثم يولي في وقته].
في هذا إشارة إلى أن أصول الإسلام وقواعد الدين وأركانه وواجباته سهلة التعلم، وليس المقصود هنا تعلم شرائع الدين وأحكامه وفوائده على التفصيل، لا؛ لأنه لا يدرك ذلك أكثر الناس، بل يحتاج إلى التبحر في العلم، ولذلك كلف الله عز وجل طائفة من المؤمنين لتعلم دينه سبحانه وتعالى، لكن إدراك الإجماليات سهل على الجميع، كلف الله به الجميع، لم يعذر أحداً في أن يخل بمعرفة إجماليات الدين بحسب مداركه وبحسب فهمه.
قال رحمه الله تعالى: [واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم، فإن كان بعيد الوطن، كـ ضمام بن ثعلبة، والنجدي، ووفد عبد القيس، علمهم ما لا يسعهم جهله، مع علمه أن دينه سينتشر في الآفاق، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت، بحيث يتعلم على التدريج، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه، أجابه بحسب حاله وحاجته، على ما تدل قرينة حال السائل، كقوله: (قل: آمنت بالله، ثم استقم).
وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره من المرسلين؛ إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، كما أن لازم الحق حق].
يعني: أن كل من شرع شيئاً وزعم أنه من الدين، سواء كان في العقيدة، أو في العبادة، أو في الأحكام، أو الأعياد أو نحو ذلك من التشريعات؛ فإنها تدخل في مفهوم الدين، بعض الناس قد لا يفهم من الدين إلا العقيدة، وبعض الناس قد لا يفهم من الدين إلا العقيدة والعبادة، لكن الصحيح أن كل من شرع ديناً، حتى وإن كان في أمور الأحكام البسيطة أو في مفردات الأحكام، فإنه يدخل في مفهوم مَنْ شرع ديناً، ما دام ادعى أنه من عند الله وليس من عند الله، ولذلك سمي هؤلاء الذين خالفوا في العقيدة: أهل بدع، والذين خالفوا في العبادة: أهل بدع، والذين شرعوا أحكاماً من دون شرع الله عز وجل: أهل بدع، والذين شرعوا أعياداً من دون الأعياد الشرعية: أهل بدع وهكذا.(109/3)
دين الإسلام بين الغلو والتقصير
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (بين الغلو والتقصير) قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها).
وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].
يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل، وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فنزلت فيهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتبعنا ما أنزلت)].(109/4)
دين الإسلام بين التشبيه والتعطيل
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين التشبيه والتعطيل): تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى].
التعطيل يشمل تعطيل الجهمية ومن سلك مسلكهم، وهو إنكار أسماء الله وصفاته، وتعطيل المعتزلة وهو إنكار صفات الله عز وجل أو بعضها، ويشمل أيضاً التأويل؛ لأن التأويل هو نوع من التعطيل، التأويل لمعاني وحقائق أسماء الله وصفاته الواردة في ألفاظ الكتاب والسنة إلى معان وحقائق أخرى متوهمة، هذا التعطيل، ولكنه تعطيل بحيلة الاشتباه والمجاز ونحو ذلك، ويشمل ذلك تأويل الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، فهو نوع من التعطيل.
قال رحمه الله تعالى: [ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه).
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ردٌّ على المشبهة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ردٌّ على المعطلة].(109/5)
دين الإسلام بين الجبر والقدر
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين الجبر والقدر): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش، وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى].
هذا فيه إشارة إلى مذهبين متفاضلين كلاهما في القدر، والحقيقة كل الأمر يرجع إلى القول في القدر، فمن أصول الجهمية الكبرى القول بالجبر، ويقصدون بالجبر أن الإنسان مجبور على أفعاله، ليس له فيها أي إرادة ولا حرية ولا تكليف، حتى يسقطون التكليف عن العباد، ومذهب الجهمية انتقل بعد القرن الثالث وما بعده إلى أكثر طرق الصوفية، وهو عند بعض أهل الأهواء، وبعض النزعات العقلانية ونحوها.
ومذهب القدرية الأولى قضية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، ثم قضية المعتزلة، والكلام كله يتعلق بالقدر، لكن سمي هذا بالجبر؛ لأنه يلغي اعتبار قدرة الإنسان، ويقول بأنه مجبور على الفعل، أما قول القدرية فهم يزعمون أن الإنسان مقدر أفعاله، أو أنه خالق أفعاله أو بعض أفعاله، بعضهم قد يقول: إن الإنسان يقدِّر جميع الأفعال، وبعضهم يقول: إن الإنسان هو الذي أوجد أفعال الشر، ولم يكن لله عز وجل فيها تقدير، وهذا ما عليه متأخرة المعتزلة وليس كلهم، لكن عليه عموم المعتزلة.(109/6)
دين الإسلام بين الأمن والإياس
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين الأمن والإياس): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة].
يعني: الأمن من عقوبة الله عز وجل ومن بطشه وعذابه، أما الأمن المطلق فهو بمعنى ألا يخاف الإنسان من ذنوبه، وأنه بإمكانه أن يرتكب المعاصي ثم يطمئن على مصيره، فهذا الأمن الذي لا يجوز، وهو الذي قالت به الجبرية السابقة؛ لأن القول بالأمن نتيجة للقول بالجبر، والإرجاء الغالي نتيجة للقول بالجبر، فعلى هذا الآمنون من مكر الله عز وجل ومن بطشه وعقابه وعذابه هم غلاة الجهمية، وعلى هذا المذهب غلاة الصوفية كذلك، وأيضاً غلاة المرجئة عموماً في كل زمان، والإرجاء قد يكون مذهباً، وقد يكون مسلكاً شخصياً أو رأياً فردياً، وقد يوجد الإرجاء في أفراد لا يعرفون عقيدة المرجئة كعقيدة مفلسفة أو مقننة، لكنهم تميل طبائعهم إلى الإرجاء الغالي، فيهلكون بالأمن من مكر الله عز وجل ومن عذابه وعقابه.
إذاً: الأمن المطلق هو نتيجة للقول بالإرجاء الغالي، ومن هنا زعم هؤلاء الأمن من مكر الله مطلقاً، فزعموا أنهم من أهل الجنة مطلقاً، وأنه لا يدخل النار أحد، وكذلك الإياس عكس ذلك، فالإياس هو مذهب الخوارج؛ لأنهم متنطعة ومتشددة، ويميلون إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، ولذلك يضيقون على أنفسهم وعلى الناس، ثم قرن هذا المذهب بصنف النساك والعباد الأوائل، وأغلبهم امتداد للخوارج، الخوارج أينما واجهتهم الأمة انقسموا إلى قسمين: قسم قاتل بالسيف فهلك أو أهْلَك، وقسم مال إلى العزلة والعبادة، لكنه بقي على التنطع والتشدد، وهؤلاء غلاة العباد الذين حصل منهم الصعق عند قراءة القرآن، وحصل منهم شيء من اليأس من رحمة الله عز وجل، وتيئيس الناس من الرحمة، ثم صار مذهباً في العباد والنساك فيما بعد، ولا يزال مذهباً فردياً عند كثير من الناس، لكن الأصل فيه أنه موجود عند الخوارج والطوائف الغالية في الدين دائماً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/7)
الأسئلة(109/8)
حكم من يقول: إن العقيدة يمكن دراستها في دقائق
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: إن العقيدة يمكن دراستها في دقائق؟
الجواب
هذا كلام مجمل، إذا كان المقصود بدراسة العقيدة في دقائق، يعني: استعراض مجملات الدين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبعض الصحابة، كما مر قبل قليل في الدرس، فهذا يمكن أن يحمل على أنه صحيح في الجملة، فالعقيدة في الجملة هي مجملات الدين، وقواعد الدين العامة، ويمكن أن يقول الإنسان: إن من جماع العقيدة أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وكل هذا صحيح.
وهذه يتم إفهامها وإبلاغها للناس في أقل من دقيقتين.
إذاً: هذا الكلام مجمل، قد يصح من وجه، ولا يصح من وجه آخر.(109/9)
شرح العقيدة الطحاوية [110]
الأصل في المسلم البراءة من كل من خالف أصول العقيدة، ومن هؤلاء المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، ومنهم المعتزلة الذين قاسوا أفعال الله على أفعال العباد، وقالوا بأن الشر ليس من خلق الله ولا من تقديره، ومنهم الجهمية المعطلة الذين نفوا الصفات، ومنهم الجبرية الذين نفنوا الإرادة عن المخلوق مطلقاً، ومنهم القدرية الذين جاءوا بعكس عقيدة الجبرية فقالوا لا قدر، وأن الأمر أنف.(110/1)
البراءة من الفرق الضالة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن برآء إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه وبينّاه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة، مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق).
الإشارة بقوله: (فهذا): إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا].
أحب أن أشير إلى مسألة كثيراً ما يقولها السلف عند ذكر أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي أولاً: أنهم يعدون هذه الأصول من الأمور المجمع عليها ومتفق عليها إجمالاً.
ثانياً: أنهم يرتبون على هذا أن من خالف هذه الأصول التي أشار إليها الشارح بقوله: (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً) أن من خالف هذه الأصول فهو الخارج عن جماعة المسلمين، فيكون من أهل الأهواء والضلالة والافتراق، سواء كان فرداً أو جماعة، إن كانوا جماعة سموا فرقة، وإن كان فرداً سمي خارجاً عن الجماعة، وكذلك الفرقة سميت فرقة لمفارقتها الجماعة.
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً في هذا المقام أنهم يقصدون الأصول في مثل هذه الكتب التي قرر فيها السلف العقيدة، تجدهم أنهم يشيرون في أولها أو في ثناياها أو في آخرها إلى مثل هذه الإشارة: أن هذا اعتقادنا، ثم يذكرون أن من خالف هذه العقيدة فهو من أهل الأهواء والافتراق، ثم يشيرون إلى الولاء لمن اعتصم بهذه العقيدة، والبراء ممن خالفها، والمقصود بذلك الأصول والقواعد والإجماليات، لا ما يندرج تحت المسائل الأصولية أحياناً من خلافيات، وهذا ينبغي التنبه له من قبل طلاب العلم، وهو أن السلف حينما يحكون عقائدهم على شكل أصول ومناهج، قد يدرجون تحتها بعض الخلافيات، فيكون الواحد منهم قد أخذ بما يترجح له في المسائل الخلافية في مسائل العقيدة، فلا تدخل هذه الخلافيات في لوازم الاعتقاد، من أنه يجب، وأن التزامه فرض، وأن من حاد عنه فهو مفارق، وأيضاً البراء ممن فارق، والتبرؤ منه وعداوته، كل ذلك إنما ينصرف إلى الأصول؛ لأن كثيراً من الأصول التي ذكرها السلف يدرجون تحتها جزئيات، ويدرجون تحتها مسائل خلافية في العقيدة، فالمسائل الخلافية لا تدخل في اللوازم التي ذكرها الطحاوي هنا، وعقيدة الطحاوي -التي نحن بصدد شرحها، وإن شاء الله ننتهي منها قريباً- تعتبر من أجمع كتب السلف التي تضمنت أصول السلف بعبارات قليلة، ولذلك هي من أفضل الكتب للحفظ، ومثلها: (لمعة الاعتقاد)، ومثلها: (عقيدة السلف أصحاب الحديث) إذا جرد من الأسانيد، لو جرد من الأسانيد ربما يكون أوفى من الطحاوية، وأجود عبارة وأوضح، ولكان حفظه سهلاً جداً، فهو من أسهل المتون.(110/2)
المشبهة وأصل مذهبهم
قال رحمه الله تعالى: [والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كـ داود الجواربي وأشباهه].
داود الجواربي من الرافضة، وكذلك أشباهه البيانية أصحاب بيان بن سمعان، والمغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد، والهشامية أصحاب هشام بن الحكم، فهؤلاء كلهم مشبهة، وكلهم من فرق الرافضة.(110/3)
المعتزلة وأصولهم الخمسة
قال رحمه الله تعالى: [والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها: العدل.
والتوحيد.
وإنفاذ الوعيد.
والمنزلة بين المنزلتين.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل].
الإشارة إلى أصول المعتزلة فيها بيان لمنهج أهل الأهواء عموماً، فإن أهل الأهواء وخاصة الفرق ذات الأصول والمناهج، كلهم وضعوا لأنفسهم أصولاً تختلف عن أصول أهل السنة والجماعة، أما أهل السنة والجماعة فليس عندهم في قواعد الدين وأصوله العامة إلا ما ثبت بالكتاب والسنة، ولذلك لا يسمون للدين أصولاً بالتحديد والتعيين إلا ما يندرج تحت أركان الإيمان، وأركان الإسلام، يعني: ليس عندهم أركان للدين ولا أصول غير أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يندرج تحتها، ولذلك لا يزيدون في هذه الأركان ولا ينقصون، ومن هنا بدع السلف من ادعى أن للإيمان أركاناً غير الأركان الستة، أو أن للإسلام أركاناً غير الأركان الخمسة، بخلاف المخالفين من أهل الأهواء قديماً وحديثاً، فتجد عندهم أصولاً، الأصول الستة وغيرها من الأصول التي لا يقترن بها أصول الإيمان، أو الأصول الخمسة عند المعتزلة، أو الأصول العشرين، أو الثلاثين، أو العشرة، أو الثلاثة إلى آخره، كل ذلك من مناهج أهل الأهواء، والرافضة عندهم أصول محددة، والجهمية عندهم أصول محددة، والمعتزلة عندهم أصول محددة، وهكذا بقية أهل الأهواء.
إذاً: من سمات أهل الأهواء أنهم يضعون أصولاً ويحددونها، ويجعلونها تخالف في الغالب أصول الدين المتقررة في الكتاب والسنة وعند السلف، وأيضاً تحكي مناهجهم التي خالفوا فيها أئمة الدين، فالأصول الخمسة هي من اختراع المعتزلة، ولم يخترعوها دفعة واحدة، إنما جاءت باستقراء أبي الهذيل العلاف ومن سلك سبيله، استقرأ أقوال شيوخه السابقين، فتبين له أن عامة ما تقول به المعتزلة يرجع إلى خمسة أصول، فلما سمى هذه الأصول، تعلق بها من بعده، وجعلوها من دينهم ومن شعاراتهم وفرحوا بها؛ لأنها تجعل لهم كياناً، وكأنها بزعمهم تجمع شملهم المتشتت.
إذاً: فهذه الأصول مبتدعة، وليست مبنية على أصول الكتاب والسنة، وهي من اختراع المتأخرين منهم، ومما ينبغي التنبه له أن أهل البدع لا يتفقون على هذه الأصول، إنما قد يكون عليها الأغلب.
قال رحمه الله تعالى: [وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه! وقالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه].
يشير المؤلف هنا إلى مقولة المعتزلة -والتي هي من أصولهم-: أن الله عز وجل لم يقدِّر الشر.
ومذهب السلف أن الله عز وجل قدر كل شيء، قدر الخير والشر ابتلاءً وفتنة للعباد، وأن الله خالق كل شيء، والمعتزلة زعمت أن الشر ليس من خلق الله ولا من تقديره، زعماً منهم أن هذا من تنزيه الله، والسلف يقولون بأن الشر ليس إلى الله، بمعنى لا ينسب إليه نسبة محضة، إنما ينسب إليه تقدير الشر، وخلق ما يتعلق به من باب الابتلاء، ولحكمة يعلمها الله عز وجل، فهم زعموا أن نسبة الشر إلى الله عز وجل قدح في كماله، فمن هنا وصلوا إلى القول بأن العباد خالقون لأفعالهم، وأن الله لم يخلق أفعالهم، أو لبعض أفعالهم، فبعضهم يرون أن الله خالق أفعال الخير، وليس الشر من تقديره ولا من خلقه؛ لأن الشر لو كان من خلقه حسب زعمهم لرضي بالفساد ممن تحت ولايته.(110/4)
معاني الأصول الخمسة عند المعتزلة ولوازمها
قال رحمه الله تعالى: [فأما العدل فَسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور.
ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك.
وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة، أو التناقض! وأما الوعيد فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها].
فسر المعتزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمرين: الأمر الأول عندهم: أن المعروف هو ما يدخل تحت عقائدهم، والمنكر ما يخالف عقائدهم.
الثاني: أنهم اعتقدوا أن من أصول النهي عن المنكر، بل أول درجاته: الخروج على الأئمة، الخروج على الولاة.
أما الأول: الذي هو إلزام الناس بما هم عليه، فإنهم حينما كانت لهم وزارة في عهد المأمون رأوا أن من الأمر بالمعروف إلزام الناس بالقول بعقائدهم، ومنها: القول بخلق القرآن، وأن من النهي عن المنكر إلغاء القول بأن القرآن منزل غير مخلوق، وفعلاً وصل الأمر إلى أن فتنوا المسلمين فتنة عظيمة، ورأوا أن ذلك هو غاية إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما الثاني: الذي بزعمهم أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخروج على الولاة، فإنا نعلم أن ذلك مخالف للنصوص الصريحة الواردة في السنة، الدالة على ضرورة السمع والطاعة للولاة، وإن وقعوا في الكبائر، وإن ظلموا وإن فسقوا، كما هو معروف في الأحاديث، وربما يقول قائل: لم تجاهلت المعتزلة أحاديث الصبر على الجور، وأحاديث السمع والطاعة بالمعروف، وأحاديث وجوب التزام البيعة للولاة، وإن كانوا من الفجار والفساق والظلمة، أقول: لأنهم لا يعولون على السنة كثيراً، فالسنة عندهم ليس لها اعتبار إلا فيما يؤيد عقائدهم، ولذلك لا يستدلون بالنصوص إلا للاعتضاد، إذا وجدوا نصاً يعضد أقوالهم أخذوا به، وإذا لم يعضد أقوالهم تركوه ولا يبالون بذلك؛ لأن السنة عندهم منزلتها ليست كالقواعد الفلسفية والعقلية التي يدينون بها، وذلك راجع إلى اعتقادهم الفاسد في الصحابة، وراجع إلى اعتقادهم الفاسد في منهج الاستدلال، فهم لا يستدلون بأحاديث الآحاد، ويرون أن هذه الأمور العملية المتعلقة بالسنة ليست من الأمور الواجبة على الأمة، وأن الدين يمكن أن يكمل من خلال الاجتهاد العقلي وغير ذلك من الأمور التي صرحوا بها في كتبهم، وبعضهم اعتمدها من مناهجهم الأساسية.
أما تعطيل الصفات فداخل في مفهوم التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة يقصدون به نفي الصفات، لكن الشارح هنا أتى بنموذج فقط، وهو القول بخلق القرآن؛ لأنه هو الذي أثاروا فيه الفتنة، وألزموا المسلمين به بقوة السيف، وإلا فهم أدخلوا في مفهوم التوحيد نفي جميع الصفات التي يرون أنها تعني تعدد القديم؛ لأنهم زعموا أن إثبات الصفات لله عز وجل يعني التنوع، ونظرتهم إلى وجود الله عز وجل نظرة عجيبة، فهم يمنعون أن يكون هناك تنوع في صفات الله عز وجل، حتى إنهم يرون أن الأسماء -وهم يثبتونها- ما هي إلا تعبيرات عن أمر واحد، وسبب ذلك أن عقيدتهم في الله عز وجل راجعة إلى اعتقاد الفلاسفة، بأن وجود الله عز وجل وجود معنوي عقلي، وليس له وجود ذاتي، ومن هنا زعموا أن إثبات الصفات يعني تعدد الموصوف، ولا يقصدون بتعدد الموصوف أن يكون للموصوفين أفراد، لكن يقصدون بتعدد الموصوف تعدد أحوال الموصوف، وهم يرون أن الموصوف ليس له أحوال، ولذلك عبروا عنه بتعدد القدماء؛ لينفروا الناس من إثبات الصفات، قالوا: إذا قلنا بأن القرآن كلام الله، فهذا يعني أنه لا بد أن نقول: كلامه صفته، وإذا قلنا بأن كلامه صفته، أدى هذا إلى أن الله عز وجل له صفات متعددة، وهذا يؤدي إلى ثبوت الأحوال لله عز وجل، والأحوال لا بد أن ينتج عنها إثبات الذات وهكذا، بمعنى: أن عقيدتهم في الله تعود إلى القول بأن وجود الله وجود معنوي.(110/5)
حقيقة التوحيد والعدل عند المعتزلة
قال رحمه الله تعالى: [وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية، التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها.
والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً: أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق، وتعاقَب على ما تركته منه؛ لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين.
وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح.
وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].
ما ذكره الشارح من كلام عمر بن عبد العزيز فيه إشارة إلى فارق كبير بين منهج أهل السنة وبين مناهج أهل الأهواء، وهو أن أهل السنة يخضعون للحق أبداً ودائماً، ويدورون مع الحق حيث دار، بغض النظر عن رغباتهم وعن أهوائهم وعن ميولاتهم، هذا هو الأصل، وقد يشذ عن ذلك بعض من ينتسبون إلى السنة، والشذوذ لا عبرة به، لكن هذا هو الأصل الذي عليه عموم أهل السنة، وقد عصمهم الله عز وجل من أن يخلوا بهذا الأصل، الأصل في أهل السنة جميعاً أنهم يتبعون الحق، وأن هواهم مع الحق، بخلاف أهل الأهواء، فإن القاعدة عندهم سواء شعروا أو لم يشعروا أنهم يتبعون الحق إذا كان يوافق أهواءهم، وإذا خالف أهواءهم ردوه، إما بالإعراض المباشر كما عند غلاة الجهمية، وإما بصرفه عن معانيه حتى يلووا أعناق الأدلة بالتأويل، والقول بالمجازات، والتمحل والتلبيس، والبحث عن معاذير، ومحاولة التردد في قبول النص بالطعن فيه، أو برواته أو نحو ذلك كما عند غيرهم من أهل الأهواء.
وأهل الأهواء إذا خالف الحق والدليل ما هم عليه تركوه وأعرضوا عنه بأي نوع من أنواع الإعراض، وأغلب وسائل الإعراض عندهم تكون ملبسة، لا تجد إلا النادر من أهل الأهواء من يرد النص رداً مباشراً صريحاً، بل يتأوله لصرفه عما هو عليه، وهذه من أعظم الأمور التي نخشى أن يقع فيها كثير من الناس اليوم؛ لأن الناس جهلوا هذه القاعدة، فصاروا يتكلفون بشعور أو بغير شعور، فتجد الواحد منهم في مؤلفاته قد يستقرئ مثلاً الأدلة في موضع معين، فيحاول أن يجلب الأدلة ويلوي أعناقها لتوافق ما يريد أن يصل إليه.
وكذلك تجد كثيراً منهم يكتب في قضية شرعية معينة أو في منهج من المناهج، وفي نيته وعزمه المسبق أن يتوصل إلى نتيجة سبق أن قررها في نفسه، ومن هنا اختلط الأمر على كثير من شباب الأمة، خاصة أولئك الذين لا يسلمون من النزعات الحزبية والشعارات؛ فإنهم فتنوا الناس بمحاولة عرض ما هم عليه بالأدلة، وبدءوا يتكلمون عن مناهج الأنبياء ومناهج السلف، ومناهج الدعاة، ومناهج العلماء، وكل منهم يجر هذه المناهج إلى ما يريد، فهذا خلاف منهج السلف، وجر النصوص إلى ما يريده الشخص من أعظم سمات أهل الأهواء، التي فارقوا بها السنة، فعلى طالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر وأن ينبه عليه، وأن يحذر هذه الخصلة التي وقع فيها كثير من الناس، ولذلك أرى ضرورة التمعن والتأني فيما يكتبه ويقوله الناس اليوم، فيما يتعلق بالتنويه عن مناهج السلف، وعن أصولهم، وعن مواقفهم، والارتكاز عليها في كثير مما يذهب إليه المختلفون من طلاب العلم، ومن المتنازعين في كثير من الأمور، ينبغي أن نتنبه، وقد يحدث هذا من أهل الصلاح والاستقامة، لا يلزم أن يكون صاحب هوى وممن عرف بالهوى؛ لأنه قد يدخل بنزعة معينة من النزعات التي وقع فيها غالب المسلمين الآن، لذا لا ينبغي أن يكون الميزان فقط هو صلاح الظاهر والاستقامة الظاهرة، ولا أن يكون الميزان هو مجرد حشد النصوص، ودعاوى أقوال السلف ومناهجهم، إنما ينبغي أن يكون الميزان الرجوع إلى الأصول التي قررها السلف مسبقاً، والتي عليها العلماء الراسخون، الذين لم يعرفوا بشيء من النزعات أو الميولات التي ابتلي بها كثير من المسلمين الآن.(110/6)
حقيقة الجهمية وأصل مذهبهم
قال رحمه الله تعالى: [والجهمية: هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً! ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه، وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى].
قصة قتل الجعد مشهورة ومستفيضة عند السلف، وأنها إنما تمت بسبب قوله بأصول الجهمية؛ بسبب إنكاره لأسماء الله عز وجل وصفاته، لا كما يدعي كثير من أهل الأهواء قديماً وحديثاً من أن قتل الجعد كان قتلاً سياسياً، هذه شنشنة لا نزال نسمعها من كثير من الذين في نفوسهم هوى أو جهل بمناهج السلف؛ فإن قتل الجعد وغير الجعد ممن قتلوا في ذلك الوقت من الذين جانبوا الحق، إنما كان من باب الردع وإقامة الحد، وخالد بن عبد الله القسري الذي قتل الجعد إنما فعل ذلك بعد استفتاء علماء زمانه، كما هو معروف، بل بوصية من العلماء؛ لأن الفتنة في أقوال الجعد كانت فتنة عظيمة، تتعلق بأصول الدين وقواعده الأساسية.
قال رحمه الله تعالى: [وكان جهم بعده بخراسان، فأظهر مقالته هناك، وتبعه عليها ناس بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين يقال لهم: السُّمَنية من فلاسفة الهند، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات، قالوا له: هذا ربك الذي تعبده هل يُرَى أو يُشَم أو يُذاق أو يُلْمَس؟ فقال: لا.
فقالوا: هو معدوم! فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه نقش الشيطان اعتقاداً نَحَته فكرُه، فقال: إنه الوجود المطلق! ونفى جميع الصفات، واتصل بـ الجعد.
وقد قيل: إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بـ لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقُتل جهم بخراسان، قتله سلم بن أحوز؛ ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس، وتقلدها بعض المعتزلة؛ ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء حقيقة، وهم لا ينكرون الأسماء، بل الصفات].(110/7)
أصناف الجهمية وحكم كل صنف
قال رحمه الله تعالى: [وقد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقةً أم لا؟ ولهم في ذلك قولان، وممن قال: إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقةً: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط رحمهما الله].
الذي استقر عليه قول جمهور السلف في القرن الثالث وما بعده، بعدما ظهرت هذه الفرق وتبينت مناهجها بشكل جلي، الذي استقر قول السلف أن الجهمية على نوعين: جهمية خالصة وهم الذين تتوافر عندهم ثلاثة أصول: القول بالتعطيل المطلق، والقول بالإرجاء الغالي، والقول بالجبر الغالي، وهؤلاء الذين تتوافر عندهم هذه الأصول هم غلاة الجهمية، فهؤلاء بمقتضى أصولهم ليسوا من المسلمين.
والجهمية الذين يقولون بالإرجاء الغالي هم الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وإنه لا يضر مع المعرفة ذنب، ولا تنفع مع المعرفة طاعة، فهؤلاء من البدهي ومن الضرورة أن قولهم هذا يستلزم الجبر، بل العكس هو الصحيح، الجبرية الخالصة وهي الجهمية الخالصة قالوا بأن الإنسان مجبور على أفعاله، ومن هنا تركز على هذا الجبر الإرجاء، وأنه ما دام مجبوراً فإنه لا يؤاخذ، ثم قالوا بأن الإيمان هو المعرفة، فمن هنا اجتمعت عند غلاة الجهمية هذه الأصول الثلاثة: التعطيل الخالص، الذي هو إنكار أسماء الله وصفاته، وهذا أول سمة لهم، ثم القول بالجبر المطلق، ثم القول بالإرجاء الغالي، فهذا الصنف هم الذين قصدهم عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وجمهور السلف الذين قالوا: إنهم ليسوا من فرق المسلمين، وليسوا من الثنتين والسبعين فرقة المتوعدة بالنار، وليسوا من أهل القبلة.
الصنف الثاني من الجهمية: هم كل من أخذ بقول من أقوال الجهمية غير الأقوال المغلظة؛ لأن بعض أهل العلم يلحق القائل بخلق القرآن بالغلاة، والصحيح أن القول بخلق القرآن كان نتيجة للتعطيل، فمن هنا لا يلحق القائل بخلق القرآن بالقائل بالتعطيل؛ لأن السلف الصالح يتوسعون في مفهوم التجهم، وعلى هذا فإن الجهمية غير الغلاة تدخل فيهم المعتزلة، فمن هنا لا يكونون من الخارجين من الملة، بل هم من فرق المسلمين، وأيضاً المعتزلة أهل الجهمية غير الغلاة يدخل فيهم المتكلمون، فالكلابية فيها تجهم، والأشاعرة كذلك بعض أصولها قائمة على أصول الجهمية، خاصة في عهد أبي المعالي الجويني والغزالي والرازي ومن جاء بعدهم، والماتريدية ابتداءً قامت أصولها على شيء من التجهم، منذ أن نشأت الماتريدية وأصولها قائمة على بعض أصول الجهمية، ومصطلحات الجهمية، ومناهج الجهمية، فلهذا هذا النوع من الجهمية يعتبرون من فرق المسلمين، لكنها من الفرق الضالة الخارجة عن السنة.(110/8)
وقت اشتهار مقالة الجهمية
قال رحمه الله تعالى: [وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم بالكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبيَّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، أشار عليه مَن أشار بأن المصلحة ضربُه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرةً من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا فأطلقوه، وقصته مذكورة في كتب التاريخ].
المقصود بمقالة الجهمية هنا التعطيل بعامة، والقول بخلق القرآن بخاصة؛ لأنه نوع من التعطيل، والشهرة لا يقصد بها هنا شهرة الذيوع وكثرة الأتباع، أما شهرة المقالة فقد سبقت قبل ذلك، وعرفنا من خلال دروس سابقة أن الجهمية بدأت بذورها وظهرت مقالاتها وأصحابها الأولى في آخر القرن الأول، نجم مذهب الجهمية على يد غيلان الدمشقي، فقد كان عنده ميل إلى التعطيل، ونسبت إليه بعض مقالات التعطيل في الاستواء، وفي كلام الله عز وجل، لكن ليست صريحة كما حصل في المرحلة الثانية، المرحلة الثانية من مراحل ظهور الجهمية كانت في أول القرن الثاني الهجري، حيث بدأت مناهج الجهمية تشتهر على يد الجعد بن درهم، فقد عمم القول بالتعطيل، خاصة فيما يتعلق بالتكليم، والخلة، والاستواء، والعلو، والفوقية ونحو ذلك، وقد صرح الجهم بتعطيل صفات الله عز وجل وأسمائه في هذا الجانب بالذات، وأنكر عليه السلف أشد الإنكار، وغلظوا في تبديع مقولته، وحاوروه وأقاموا عليه الحجة، حتى حكموا بضرورة قتله؛ لأن قوله هذا من أعظم الفساد في الدين، فقتل.
ثم جاءت المرحلة الثالثة من مراحل الجهمية على يد الجهم بن صفوان، والجهم أخذ بعض مقالات الجعد وزاد عليها، والجهم أعلن التعطيل وعممه في جميع أسماء الله عز وجل وصفاته، وأيضاً قال بالجبر الغالي وبالإرجاء الغالي، واستقرت أصول الجهمية ومناهجها العامة على يد الجهم بن صفوان، ثم بقيت من ضمن الفرق، وتلاقحت هي والمعتزلة مع الشيعة أيضاً في آخر القرن الثاني، ومع الخوارج أيضاً، تلاقحت هذه الفرق حتى صارت كثير من أصول الجهمية موجودة عند المعتزلة، وعند الإباضية، وعند الرافضة، ومما جعلها تشتهر بشكل أكثر في المرحلة الرابعة في عهد المأمون، والمأمون أشرب في قلبه بعض أصول الجهمية، وأعجب بأقوال المعتزلة وتلقى عنهم، وكان ميالاً إلى الكلاميات، وعنده نزعة حب الفلسفة، فأشهر مقالة الجهمية بقوة السيف وقوة الدولة، وحصلت الفتنة والمحنة العظمى التي امتحن بها المسلمون سنين عديدة، وانتهت -بحمد الله- بالنصر المبين لإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل، وبعدها انكمشت الجهمية وانسابت وساحت بين الفرق، فلم تعد للجهمية راية مستقلة لها أصولها ورءوسها، إنما دخلت في الشيعة خاصة الرافضة، ودخولها في الإباضية وفي الزيدية من باب أولى، وكذلك دخولها في فرق أخرى، كذلك وجدت عقيدة التجهم وانتشرت في الطرق الصوفية في هذه المرحلة.
ثم بعد ذلك ظهرت المعتزلة الجهمية في العصر الحديث، على يد بعض الجماعات بشكل صريح معلن، حيث تبنت أصول الجهمية تبنياً مستقلاً، وهي لا تتبع الفرق السابقة، إنما قامت على أنقاض الجهمية والمعتزلة، كحزب التحرير، وبعض الاتجاهات العقلانية والعصرانية، التي يدعي أصحابها أنهم أصحاب الفكر الإسلامي الحديث.
ومن عوامل قوة الجهمية ترجمة العلوم، كترجمة الفلسفة اليونانية، وترجمة كتب الديانات الوثنية والفلسفية، وكتب الصابئة والمجوس، وكتب الديانات الهندية وغيرهم، وكلها ترجمت في عهد المأمون أو أكثرها، فكان لها الأثر في شيوع الجهمية، وفي امتداد أصولها إلى أصول جديدة، ومباحث جديدة كلامية وفلسفية.(110/9)
عقيدة الجهم في الجنة والنار والإيمان والكفر
قال رحمه الله تعالى: [ومما انفرد به جهم: أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكفر هو الجهل فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس.
ولقد أحسن القائل: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا!].(110/10)
حقيقة الجبرية وأصل مذهبهم
قال رحمه الله تعالى: [والجبرية: أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه! وهم عكس القدرية نفاة القدر؛ فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله؛ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمى الجبرية قدرية].
في هذا تجاوز في تعليل التسمية، أما كون القدرية سموا قدرية لنفيهم القدر فهذا واضح، أما المرجئة فسموا مرجئة لعدة أسباب بحسب حالهم، فمرجئة الفقهاء سموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، ومرجئة المشككة -الذين سيأتي الكلام عنهم بعد قليل- سموا مرجئة؛ لأنهم أرجئوا أمر الحكم على العباد، خاصة أصحاب الذنوب، والجهمية سموا مرجئة؛ لأنهم قالوا بالإرجاء المطلق، غلَّبوا جانب الرجاء مطلقاً، ولم يعد للخوف ولا للوعيد عندهم أي اعتبار، وطائفة من الناس سميت مرجئة؛ لأنهم اختلفوا في بعض قضايا الدين، كاختلافهم فيما حدث بين الصحابة، أو كاختلاف بعضهم في المفاضلة بين علي وبين عثمان، فكل من هذه الطوائف قالوا: نرجئ الأمر ولا نبت فيه، يعني: نتوقف فيه، فسموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الحكم فعلقوه بمشيئة الله عز وجل.
إذاً: كل طائفة من المرجئة صار سبب تسميتها مرجئة راجعاً إلى حالها، فهم لا يتشابهون في سبب التسمية، وما ذكره الشارح هنا لعله من أضعف الأقوال في سبب تسمية المرجئة، وإذا أطلقت بدون تقييد وبدون ما يدل عليها السياق، فإنها تعني مرجئة الفقهاء الذين يقولون بأن الإيمان تصديق، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء في الإيمان، فهؤلاء هم المرجئة عند الإطلاق.
قال رحمه الله تعالى: [وقد تسمى الجبرية: قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر، كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب، كما لا يُجزم بعقوبة من لم يتب].
هؤلاء أيضاً يسمون مرجئة، وهنا لم يأت بجواب العبارة: (كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعيد والعيد) كما يسمى المرجئة كذلك.
وقوله: (بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: الأنواع المتعلقة بالأحكام العامة البدهية، بعضهم يشكك فيها، مثل: الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي مطلقاً، يوجد من يشكك ويرجئ الأمر مطلقاً، فهذا يعتبر نوعاً من الوسواس، أو نوعاً من الزندقة أحياناً، وكذلك الوعد والوعيد لا يقرون بوعد ولا بوعيد، ولا بثواب ولا بعقاب، أو يغلون في تعليق مصائر العباد، فلا ثواب ولا عقاب، ولا وعد ولا وعيد.
إذاً: هذا معنى قوله: (في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: أنواع الأحكام العامة من الثواب والعقاب، والوعد والوعيد ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وكما لا يجزم لمعين.
وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان وعلياً ولا يشهدون بإيمان ولا كفر].
هنا أشار المؤلف رحمه الله إلى عدة أنواع من المرجئة، أولهم: المرجئة الجبرية الخالصة، المرجئة الغالية، مرجئة الجهمية، الذين يقولون: لا يضر مع المعرفة ذنب، وبعد ذلك تأتي بعدهم: مرجئة الكرامية، ولم يشر إليهم هنا، لكن يحسن ذكرها، وهم الذين يقولون بأن الإيمان قول اللسان فقط، وهم في الدرجة الثانية من حيث البدعة، أما المقولة الأولى فهي مقولة كفرية، وهي القول بأن الإيمان هو المعرفة فقط، والمقولة الثانية بدعية، وهي أن الإيمان هو قول اللسان فقط، وهم الكرامية.
والنوع الثالث من المرجئة: مرجئة الفقهاء، الذين يقولون بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والقول، فيخرجون الأعمال من مسمى الإيمان، ويمنعون زيادة الإيمان ونقصانه، ويمنعون الاستثناء في الإيمان.
والمرجئة الرابعة: مرجئة الأحكام، الذين لا يجزمون بحكم، لا يجزمون بثواب ولا بعقاب، ولا بوعد ولا بوعيد، وهم فرع عن الجهمية، لكنهم أخف، وهؤلاء يكثرون في المتصوفة.
والمرجئة الأخيرة: هم مرجئة أمر الصحابة، فهم الذين أرجئوا الأمر فيما حدث بين الصحابة، فلا يرون أن أحداً من الصحابة محق على سبيل الجزم، فيقولون: لا نجزم، وهذا خلاف رأي جمهور السلف، وتفرع عن هذه المرجئة أيضاً إرجاء أمر علي وعثمان، ترددوا في أيهما أفضل، ثم ترددوا في أيهما أحق بالخلافة، ثم نتج عن ذلك أيضاً التردد في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما وأصحابهما، ممن حدث بينهم شيء من الخلاف في صفين والجمل وغيرها، فترددوا في الأمر، وقالوا: نرجئ أمرهم إلى الله عز وجل، وهذا كله خلاف قول السلف.
إذاً: التجهم الأول: كفري، والثاني: بدعي، والثالث: بدعي، والرابع: لم يتكلم السلف في حق من قاله؛ لأنه قول انتهى، قاله قوم من السلف إبان الفتنة وبعده بقليل، قبل أن يستقر القول عند السلف في تفضيل عثمان رضي الله عنه على علي، وقبل أن يستقر عند السلف أن الفئة المحقة هي فئة(110/11)
النصوص الواردة في ذم القدرية
قال رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذم القدرية أحاديث في السنن، منها: ما روى أبو داود في سننه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة تكلم أهل الحديث في صحة رفعها، والصحيح أنها موقوفة، بخلاف الأحاديث الواردة في ذم الخوارج].
الأحاديث الواردة في المرجئة وفي القدرية لا تصح، لكن نسبة قول القدرية إلى المجوس وقول المرجئة إلى النصارى نسبة صحيحة، من حيث الأصول والمناهج؛ لأنه ثبت عند السلف بالاستقراء أن مقولة القدرية هي فرع عن مقولات الأمم الماضية، وهي أقرب إلى مقولة المجوس، وطوائف من الصابئة، وطوائف من اليهود، وطوائف من النصارى، القول بالقدر لم يكن وليد الأهواء عند المسلمين، بل كان امتداداً لما كان عليه الأمم السابقة خاصة المجوس؛ لأن المجوس جعلوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، سموه: إله الشر، وشبهتهم في ذلك أنهم زعموا أنه لا يليق أن يكون الله عز وجل خالق الشر ولا مقدراً له، فمن هنا نشأ عن قولهم اعتقادهم بأن هناك إلهاً آخر قدر الشر وخلقه، هذه هي الفكرة والشبهة الموجودة عند المعتزلة، الذين زعموا أن الإنسان يستقل بأفعاله من دون تقدير الله لها.
فمن هنا نقول: القول بالقدر أشبه ما يكون وأقرب ما يكون إلى قول المجوس، وهو امتداد لمقولة المجوس، وهذه المقولة موجودة عند كثير من الأمم أيضاً، وليست في المجوس فقط، فاليونان مثلاً: عندهم آلهة للخير وآلهة للشر، وكذلك عند كثير من الأمم الوضعية، لكن المجوس أقرب الناس تأثيراً في المسلمين، وأيضاً المجوس كانت صفتهم ظاهرة في هذا الأمر، فهم أثبت من غيرهم من الأمم في هذه المقولة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن فيهم في الصحيح وحده عشرة أحاديث: أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها، ولكن مشابهتهم للمجوس ظاهرة؛ بل قولهم أردأ من قول المجوس؛ فإن المجوس اعتقدوا وجود خالقَينِ، والقدرية اعتقدوا خالقِينَ!! وهذه البدع المتقابلة حدثت من الفتن المفرقة بين الأمة كما ذكر البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني: مقتل عثمان - فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني: الحرة- فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ.
أي: عقل وقوة.
فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى، والقدرية والمرجئة في الفتنة الثانية، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة، فصار هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوا في علي، وأولئك كفروه! وأولئك غلوا في الوعيد حتى خلدوا بعض المؤمنين، وأولئك غلوا في الوعد حتى نفوا بعض الوعيد -أعني: المرجئة-، وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه، وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويعرضون عن الأمر المشروع، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين؛ فإنهم قرءوا كتبهم، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى، فلبسوا الحق بالباطل وكتموا حقاً جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا، وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم نفياً وإثباتاً].(110/12)
سبب ضلال الفرق العدول عن الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه
قال رحمه الله تعالى: [وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم عدولهم عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه، فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فوحد لفظ صراطه وسبيله وجمع السبل المخالفة له.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]).
ومن هاهنا يعلم أن اضطرار العبد إلى سؤال هداية الصراط المستقيم فوق كل ضرورة، ولهذا شرع الله تعالى في الصلاة قراءة أم القرآن في كل ركعة، إما فرضاً أو إيجاباً على حسب اختلاف العلماء في ذلك؛ لاحتياج العبد إلى هذا الدعاء العظيم القدر، المشتمل على أشرف المطالب وأجلها، فقد أمرنا الله تعالى أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون).
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!).
قال طائفة من السلف: من انحرف من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى].
ووجه الشبه ظاهر أن من انحرف من العلماء انحرف عن علم، ومن انحرف من العباد انحرف عن جهل، وأكثر من اشتهر انحرافهم بعد علم وإقامة حجة هم اليهود، وأكثر من اشتهر انحرافهم عن جهل هم النصارى، خاصة الرهبان منهم.
قال رحمه الله تعالى: [فلهذا تجد أكثر المنحرفين من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم فيه شبه من اليهود؛ حتى إن علماء اليهود يقرءون كتب شيوخ المعتزلة، ويستحسنون طريقتهم، وكذا شيوخ المعتزلة يميلون إلى اليهود ويرجحونهم على النصارى، وأكثر المنحرفين من العباد من المتصوفة ونحوهم فيهم شبه من النصارى؛ ولهذا يميلون إلى نوع من الرهبانية والحلول والاتحاد ونحو ذلك، وشيوخ هؤلاء يذمون الكلام وأهله، وشيوخ أولئك يعيبون طريقة هؤلاء، ويصنفون في ذم السماع والوجد وكثير من الزهد والعبادة التي أحدثها هؤلاء].(110/13)
طرق فرق الضلال في الوحي
قال رحمه الله تعالى: [ولفرق الضلال في الوحي طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل.
فأهل الوهم والتخييل: هم الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله، واليوم الآخر، والجنة والنار، بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به، ويتوهمون به أن الله شيء عظيم كبير، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيماً محسوساً، وعقاباً محسوساً، وإن كان الأمر ليس كذلك؛ لأن مصلحة الجمهور في ذلك، وإن كان كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور!! وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل.
وأما أهل التحريف والتأويل: فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات.
ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ.
وأما أهل التجهيل والتضليل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء، ويقولون: يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه جبريل ولا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غيره من الأنبياء، فضلاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأن محمد صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وهو لا يعرف معاني هذه الآيات؛ بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه إلا الله تعالى، ويظنون أن هذه طريقة السلف.
ثم منهم من يقول: إن المراد بهذا خلاف مدلولها الظاهر المفهوم ولا يعرفه أحد، كما لا يعلم وقت الساعة.
ومنهم من يقول: بل تجرى على ظاهرها وتحمل على ظاهرها، وهؤلاء يشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص، التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة؛ ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلاً.
ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً.
ومنهم من يقول: عَلِمَهَا ولم يبينها، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص، فهم مشتركون في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَم أو لم يُعلِّم، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يوافق معقولنا، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السميعات.
وكل ذلك ضلال وتضليل عن سواء السبيل.
نسأل الله السلامة والعافية من هذه الأقوال الواهية المفضية بقائلها إلى الهاوية سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين].
يقرر المؤلف رحمه الله هنا مناهج أهل الأهواء ومواقفهم مما جاء به الرسل، وتقرير المؤلف هذا منقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض وفي غيره، وهذا لا يعني أن كل طائفة تمثل فرقة، أو كل منهج يمثله فرقة، هذه المناهج موزعة بين الفرق، فمثلاً: ما أشار إليه عند ذكر أهل الوهم والتخييل، الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، إنما جاءوا بهذا الخطاب من أجل إقناع الجمهور، وأغلبها خيالات وتوهمات، فالقائلون بهذا القول هم طوائف من الفلاسفة ومن الجهمية ومن الباطنية.
والقول الثاني الذي أشار إليه في قوله: (وأما أهل التحريف والتأويل) فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، فهؤلاء أهل الكلام عموماً، سواء من كان عنده نزعة صوفية، أو كانوا من متكلمة الفرق الإسلامية، ومناهج أهل الكلام تقوم على هذا الأصل، على التحريف والتأويل.
الصنف الثالث: هم أهل التجهيل والتضليل، وأغلبهم من الفلاسفة والباطنية، لكن نسب الشيخ إليهم المفوضة والواقفة، وأهل التفويض والوقف موجودون في جميع الفرق، في الفلاسفة والباطنية والجهمية وأهل الكلام، أيضاً أدخل في هذا الصنف طائفة من المتكلمين في المقطع الأخير، الذين قال فيهم: ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً، هذا ما استقر عليه منهج أهل الكلام المتأخرين من القرن السادس وما بعده، بل من القرن الخامس من أيام الشهرستاني والبغدادي والجويني والغزالي والرازي وهو أشهرهم، ثم الإيجي والآمدي ومن سلك سبيلهم، فهؤلاء هم أصحاب القول الأخير، فأدخلهم في أهل التجهيل والتضليل من باب الإلزام؛ لأن التجهيل والتضليل من لوازم قولهم، وإلا ففي الفئة الأخيرة من يقول: يعلم معان(110/14)