وجوب الإيمان بالقدر
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين): أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه)].(51/4)
أقوال الفرق ومذاهبها في القدر(51/5)
مذهب أهل السنة في القدر وإرادة الله تعالى ومشيئته
قال رحمه الله تعالى: [والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً].
مثل هذه العبارة قد توهم أحياناً، أو يفهم منها شيء من بعض اللوازم التي لا تصح.
فقوله: [وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] بمعنى أن الله أراده كوناً، فالكفر فعل من الأفعال، وهو داخل في تقدير الله عز وجل وعلمه ومشيئته، بمعنى أن الكافر حينما كفر ما خرج عن إرادة الله، أو فعل شيئاً لا يريده الله؛ لأن الإرادة نوعان: إرادة بمعنى المشيئة العامة المطلقة الكونية، فكل شيء حدث في هذا الكون يحدث وهو في مشيئة الله، ومن ذلك الكفر والعصيان، بمعنى أن الله علمه وشاءه وقدره.
والنوع الآخر من الإرادة هي الإرادة الشرعية، وهي الرضا والمحبة، فلا شك أن الله عز وجل ما أراد شرعاً الكفر من الكافر ولا العصيان من العاصي، بل الله عز وجل في شرعه نهى عن الكفر والمعاصي، وعلى هذا فإن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي، ولا يرضى الكفر ولا المعاصي، فالإرادة بهذا المعنى هي المنفية، بمعنى أن الله لم يرد الكفر، أي: لا يحبه ولم يشرعه، ولكنه أراده كوناً وقدره؛ لأنه لا يحدث شيء في الكون بغير إرادة الله وتقديره.
فإذا فهمنا نوع الإرادتين عرفنا كيف نصرف اللفظ إلى المعنى الذي يناسبه، فإذا قلنا: إن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، فالمعنى: أراده وشاءه كوناً وقدراً، وإذا قلنا: إن الله لا يريد الكفر ولا يشاؤه؛ فهذا يعني أن الله لا يحبه ولا يرضاه؛ لأن هذا هو معنى ابتلاء العباد، وإلا فلا يكون للابتلاء معنى.(51/6)
مذهب القدرية والمعتزلة في أفعال الشر الكائنة من العباد
قال رحمه الله تعالى: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه، ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي: حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات.
وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده! لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر).
قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده).
وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم.
قال المجوسي: حتى يريد الله.
فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما! ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت، فادعوا الله أن يردها عليّ.
فقال عمرو بن عبيد: اللهم! إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟! قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد!].
هذا الأعرابي كان أفقه من عمرو بن عبيد في الدين، وهذه القصة لو قدر أنها لم تصح، فلسنا في حاجة إلى أن نتأكد من سندها، فهي تحكي واقعاً صحيحاً في مسألة استقامة أكثر العوام على الفطرة في المسائل الغيبية؛ لأنهم لم يرد عليهم ما يفسد الفطرة، فهذا الأعرابي على الفطرة، كالعجوز التي ردت على الرازي، وككثير من العوام الذين يلهمون الحق في فطرتهم.
فيبدو لي أن القصة -حتى لو لم تصح- مستقيمة في رد قواعد القدرية بأصول الفطرة، فإن عمرو بن عبيد حينما دعا بهذا الدعاء الذي هو فرع عن عقيدته الباطلة -وهو قوله: إنك لم ترد أن تسرق ناقته- كأنه بذلك أخرج هذا الفعل الذي حصل من إرادة الله وعلمه ومشيئته، وكأن السرق لم يكن في سابق علم الله، ولا بإرادته ولا مشيئته، فهذا يعني أنه جعل هناك مشيئة دون مشيئة الله، فجعل مع الله مدبراً وجعل مع الله رباً آخر وهو يشعر أو لا يشعر.
فالأعرابي بفطرته خشي من هذه العقيدة الباطلة أن تكون سبباً في عدم رد ناقته أيضاً، فرد عليه بهذا الرد الفطري السليم الموجز الخالي من التعقيد ومن الفسلفة، لكن من يرد الله له الضلال لا يمكن أن يهتدي حتى بأوضح الأدلة، والمشركون قامت عليهم الأدلة بأوضح من هذا الدليل في القرآن، وفي آيات الله المنظورة والبينة، ومع ذلك لم يهتدوا، فقد رأوا انشقاق القمر حينما طلبوا، ومع ذلك قالوا: هذا سحر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء].
هذا أيضاً رد فطري شرعي، فالله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء، ويفعل في عباده وخلقه ما يشاء، فلا يجوز مثل ذلك الافتراض الذي افترض.(51/7)
التحذير من الإصغاء للقدرية وغيرهم من أهل الأهواء
والإنسان الذي ليس عنده فطرة قوية أو علم يعصمه من هذه الشبهات إن لم يجد الرد عليها فمن الممكن أن تقع في نفسه، فلذلك نجد السلف يحذرون من سماع أهل الأهواء؛ لأنهم يخشون على المجتمع من مثل هذه الشبهات التي تقع في الخلق، إذا لم تجد إيماناً راسخاً وعلماً وفقهاً في الدين، فإن الإنسان قد يزل ويضل بمثل هذه الشبهة ولا يدري أنها شبهة، قد يتلقفها قلبه ولا يشعر أنها خطأ، فلذلك القدرية الأوائل حينما رد عليهم السلف رجع كثير منهم، والذي لم يرجع صار أشبه بالمريض، فأصبح هذا الأمر وسواساً عنده؛ لأنه عرف الحق ثم رجع عنه؛ لأنه استقرت في قلبه الشبهة، نسأل الله العافية.
ولذلك أقول: إن السلف فعلاً شددوا في مسألة عدم السماع من أهل الأهواء، وعدم قراءة كتب أهل الأهواء وإن اشتملت على الحق، فقد يوجد فيها شيء من الحق، لكن الحق الذي في الكتاب والسنة وكتب السلف النقية يغني عن الحق الذي يلتبس بالباطل، فلذلك ينبغي أن تبقى هذه القاعدة إلى يومنا هذا، بل نحن أحوج إليها، وهو أن لا نسمع الشبهات ولا نقرأها، ولا نقرأ كتب أهل الأهواء والبدع مهما زخرفت، وأن لا نعرض أجيال المسلمين لها، سواء كانت أهواء قديمة أم جديدة، والغالب أن شبهات الأهواء تفتن وتستهوي الناس؛ لأنها إن كانت فلسفية ففيها من التشدق ما يستهوي الفكر ويستهوي عقل الإنسان، وإن كانت مادية فهي تدغدغ عواطف الناس واهتماماتهم، فمن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة، وإلا فلو لم يكن التلبيس لما كان لأهل الأهواء صولة، ولما كانوا في جملتهم أكثر من أهل السنة والجماعة، فالباطل المحض قليل من يرتكبه، فمن هنا تجد إشكالات التلبيس، بمعنى أنها موهمة، وإذا جردت عن الرد عليها فربما تؤثر فيمن ليس لديه فقه في الدين أو معرفة بأمثال هؤلاء، فلذلك يجب أن يحذر طلاب العلم من التعرض للشبهات، لا بقراءة ولا بسماع ولا باختلاط بأهلها.(51/8)
الأدلة على إثبات مشيئة الله تعالى وتقديره الهداية والضلال
قال رحمه الله تعالى: [وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه].(51/9)
سبب ضلال القدرية هو عدم التفريق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية
القصد من ذلك أن منشأ الضلال -بمعنى انقداح الشبهة في أذهان كثير من القدرية النفاة، والقدرية الجبرية- ناتج عن أنهم لم يوفقوا للتفريق بين المشيئة والإرادة العامة، وبين الرضا والمحبة، فظنوا أن المشيئة والإرادة تعني المحبة والرضا، وظنوا أن الله لا يشاء شيئاً ولا يريده إلا وهو يحبه، فمن هنا اختلط عليهم الأمر، فلذلك يجب التفريق -وهذا أمر ضروري في التسليم للقدر- بين المشيئة والإرادة العامة، وبين المحبة والرضا التي هي الإرادة الخاصة والإرادة الشرعية.
فكل من الطائفتين نحت منحى في هذا الفهم الخاطئ، فمنهم من تصور المشيئة والإرادة تعني المحبة، فأعفى العباد من كل تكليف، وقال: إن الله قسرهم على ذلك، إذاً: لا يعذبهم، فمن آمن بالله يكفيه ذلك، ولا داعي لأن نحاسبه على أعماله وعلى ما يرتكبه من آثام، لأن كل ذلك بمشيئة الله، بمعنى أن الله راض عنه، وهذا غلط، نعم ذلك بمشيئة الله، لكن لم يرضه تعالى، وفرق بين المشيئة العامة وبين الرضا والمحبة.
والفريق الآخر لما انخدع بمثل هذه الشبهة ما استوعبوا في أذهانهم أن الله عز وجل شاء الضلال ثم عذب عليه؛ وهم بعض الجهمية والمعتزلة وبعض الجبرية، والقدرية الأولى هم الذين أولوا الصفات وأنكروا الصفات الفعلية، بل أنكروا بعض الصفات الفعلية، فأنكروا المحبة، وأنكروا الرضا لله عز وجل، فلما أنكروا ذلك زعموا أن الله لا يرضى بالمعنى الذي ورد في الشرع الذي آمن به السلف، ولا يحب بالمعنى الذي هو حقيقة المحبة، فمن هنا ألغوا من أذهانهم مفهوم المحبة والرضا، فلما نظروا في واقع البشر وجدوا أن البشر يعملون شروراً ويعملون آثاماً، والله شاء كل شيء، فما استطاعوا أن يوفقوا بين المشيئة العامة وبين أن يشاء الله الشر أو يقدره، فزعموا أنه لا يليق بالله أن يشاء ويقدر الشر، ثم بعد ذلك يحاسب عليه، وما تصوروا المحبة والرضا والإرادة الشرعية، بل وقفوا عند المشيئة العامة والإرادة العامة، فلما وقفوا وأشكل عليهم زعموا أن المخرج من ذلك أن تنسب أفعال الشرور والمعاصي إلى العباد أنفسهم، وأن الله لم يقدرها أصلاً، فلما فعلوا ذلك جعلوا خالقاً مع الله، وطعنوا في علم الله عز وجل، وطعنوا في مشيئة الله، وجعلوا لله نداً ومدبراً في الكون غير الله، فوقعوا في شيء مما فروا منه كما ذكر الشارح.
المهم أن منشأ الخطأ هو عدم التفريق بين الأمرين في القدر: بين المشيئة والإرادة العامة من ناحية، وبين الرضا من ناحية أخرى، فيجب أن يفهم المسلم أنه ليس كل ما يشاء الله ويقدره يرضاه، إنما قد يكون شاءه وقدره ابتلاءً كما هو معروف في أساس التكليف للعباد.(51/10)
الأسئلة(51/11)
معنى كون القدر سر الله تعالى في خلقه
السؤال
ما معنى قول الإمام علي رضي الله عنه: القدر سر الله؟
الجواب
معنى ذلك أن القدر لا يمكن أن تكتشف الألغاز فيه والتساؤلات التي تحدث عند البشر إلا بموجب النصوص الشرعية، أما بمحض عقل الإنسان فلا تمكن الإجابة عنه إلا على ضوء أصل شرعي، بمعنى أن هناك تساؤلات ترد من باب الشكوك أو الشبهات لا جواب عليها إلا بالنص الشرعي، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن القدر غيب، والغيب سر، فمن معاني أنه سر الله في خلقه أو في عباده أنه يتعلق به مصائر العباد، ومصائر العباد غيبية، فأصل القدر سر، يعني أنه مجهول.(51/12)
معنى: تيسير العامل لما خلق له
السؤال
ما الرابط بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) وقوله: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة)؟
الجواب
هذا هو معنى التيسير، فقوله: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة) هو تفسير لمعنى قوله: (ميسر لما خلق له)، بمعنى أن من أراد الله له السعادة -ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً كذلك- فسييسر له العمل بعمل أهل الجنة، وكونه ينسب إليه أنه هو الذي يعمل راجع إلى ما أعطاه الله للعقلاء من القدرة على الفعل والترك، فقوله: (منكم من يعمل) بمعنى أن الله عز وجل حينما أقدره على العمل فإنه بإرادته التي أعطاه الله إياها يستطيع أن يعمل، فإذا عمل بعمل أهل الخير فذلك من تيسير الله له، وإذا عمل بعمل أهل الشر فذلك أيضاً من تقدير الله له، وهذا كله راجع إلى أصل القدر، أي أن الله علم ذلك وشاءه وقدره، لكن الله أراد من العباد الخير ويسر طائفة منهم لذلك، وأحب منهم ذلك ورضيه، وكره منهم فعل الشر ونهاهم عنه، لكنه أقدرهم عليه، بمعنى أنه إذا عمل عبد من العباد بعمل الشر فإنما عمل بحريته وإرادته، وعمله داخل في مشيئة الله العامة، لكن هذا العمل لا يحبه الله شرعاً ولا يرضاه.(51/13)
حكم الخوف من ركوب الطائرة ونحوها
السؤال
أنا رجل أخاف من ركوب الطائرة ويصيبني ذعر منها، وأحرص على السفر دائماً بالسيارة، وقد أخبرني كثير من الإخوان بأن هذا عدم إيمان بالقدر، فهل هذا صحيح؟
الجواب
أما أن يكون الخوف من ركوب الطائرة ونحوها عدم إيمان فليس بصحيح، وأصل الخوف غريزة عند الإنسان، تزيد عند البعض وتقل عند الآخرين، لكن قوة الإيمان تقلل من الخوف وتكثر من الاعتماد على الله عز وجل وتوكيل الأمر إليه، فالإنسان الذي يجد في نفسه شيئاً من الخوف الشديد إذا أكثر من الأدعية والأذكار والأسباب المعينة التي شرعت ثم قوي اعتماده على الله وتوكله؛ فإن هذا الخوف يقل في نفسه، وليس من لوازم الخوف قلة الإيمان، بل الخوف غريزة، لكن إذا زاد عن الحد الطبيعي فربما يكون دليلاً على ضعف الإيمان، فالإنسان عليه دائماً أن يستعين بالله عز وجل ويتوكل عليه، ويتعود استحضار الأذكار دائماً، ولعله بذلك يخف ما عنده من خوف، أما إذا بقي الخوف مع بذل هذه الأسباب؛ فلا يدل ذلك -إن شاء الله- على عدم الإيمان بالقدر.(51/14)
حقيقة الإشهاد
السؤال
هل القول الثاني في مسألة الميثاق قول شاذ، مع أن بعض العلماء الأجلاء قال به، كـ شيخ الإسلام وابن القيم؟
الجواب
القول الثاني يقصد به أن الميثاق هو الفطرة، وأنه ليس هناك شيء يسمى إشهاداً فعلياً، وأن الله عز وجل لم يأخذ ذرية آدم من ظهره أو من ظهورهم بشكل حقيقي، وأن ما ورد في الحديث إنما هو تعبير عن الفطرة، وتمثيل تخييلي، وهذا القول هو قول المتكلمين، وعلى هذا فلا يمكن أن يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم، فالذي يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -فيما أذكر- هو أن الميثاق باق بالفطرة، وهذا حق، فالميثاق بقيت آثاره بالفطرة، وأن الناس في الحياة الدنيا لا يذكرون قصة الميثاق إلا من خلال ما ذكره الله عز وجل في كتابه، وخبره صدق، لكنهم لا يتذكرون أنهم حدث لهم ذلك المشهد الذي ورد في الحديث، وهذا لا يعني أنه لم يحدث، وتفسير هذا بالفطرة لا يعني إنكار حدوث مشهد الإشهاد والميثاق، وليس بينهما اختلاف كما ذكرت.
فعلى هذا فإن القول الثاني الذي أشرت إليه وأشار إليه الشارح لا يقول به إلا عدد قليل من السلف، والقائلون بحصول الإشهاد الفعلي والميثاق منهم من يثبتون الميثاق كما ورد في الحديث، ويفسرون الآية بمعنى من المعاني، وهو الفطرة والدلائل الكونية، وليس بين القولين تناقض.
إنما القول الذي يعد قليلاً هو القول بأنه لم يحدث الميثاق على النحو الذي ورد في الحديث؛ نظراً لضعف الحديث، وأن المقصود بالميثاق هو الفطرة ودلائل وجود الله عز وجل، وإقامة البراهين الكونية والشرعية على الخلق.
وعلى هذا فيمكن أن تكون الأقوال على النحو الآتي: الأول: قول أغلب السلف، وهو أن الإشهاد حصل فعلاً، وأنه بقيت دلائله بالفطرة والدلائل الكونية والشرعية، وأنه لا تناقض بين هذا وذاك، لكنهم اختلفوا في الدليل، فبعضهم قال: إن مسألة الإشهاد الواردة في الحديث غير مسألة الإشهاد الواردة في الآية.
وبعضهم قال: إن الإشهاد المقصود بالآية والحديث هو القصة الحادثة فعلاً، وأنه ذلك المشهد الذي قد حصل، فهذان قولان.
والقول الثالث: إنكار أن يكون هناك شيء من الإشهاد الذي وردت قصته في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته، ومن بني آدم ذريتهم، وأشهدهم فعلاً واستنطقهم، وقصر الإشهاد على مسألة الدلائل التي ذكرتها، وهذا قول قليل، وما قال به إلا بعض المتكلمين وبعض العلماء الذين ما ثبت عندهم الحديث.(51/15)
حكم إطلاق لفظ (شيء) على الله جل جلاله
السؤال
هل يجوز إطلاق كلمة (شيء) على الله صفة أو اسماً؟
الجواب
إطلاق كلمة (شيء) على الله عز وجل ورد في القرآن على سبيل الإخبار والوصف لا على سبيل الاسم، فليس من أسماء الله عز وجل هذا اللفظ، لكن يعبر عن الله عز وجل بـ (شيء) بمعنى أنه موجود، وهذا ورد في القرآن وورد في السنة وورد على ألسنة السلف، وليس في ذلك تحديد الاسم واستقلاله، لكن على سبيل الإخبار والوصف نعم، ومن هذا كثير، فهناك كثير من الألفاظ لا تصح أن تطلق أسماء لله عز وجل مفردة، لكنها تكون على سبيل الخبر لا على سبيل الوصف.
ومنها ما يصح أن يطلق على سبيل الوصف، لكن لا يكون اسماً.
فالله عز وجل يخبر عنه بـ (شيء) على سبيل الإخبار، لا على سبيل الاسم ولا الصفة.(51/16)
حكم الحكم على الكافر المعين الميت بالنار
السؤال
هل يجوز أن نقول عن كافر معين بعد موته بأنه في النار؟
الجواب
على الإطلاق يجوز، يعني: من مات على غير الإسلام مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإخبار والحكم العام، لكن لا يجوز القطع بذلك على سبيل الاعتقاد اليقيني الذي تقسم عليه؛ لأن مصائر العباد بيد الله عز وجل، أما على سبيل الحكم فنعم، فنحكم من خلال ما حكم الله به، لا من عندنا، فالله عز وجل ذكر أن اليهود والنصارى من أهل النار، وأن المشركين من أهل النار، وأن المنافقين الخلص في الدرك الأسفل من النار، ولا نشك في ذلك، وذلك يعم أفرادهم وجماعتهم، وعلى هذا فمن مات كافراً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإطلاق والحكم العام، لكن الجزم اليقيني الذي نقسم عليه أو نتألى به على الله لا يجوز، ويتوقف عنه المسلم، والأولى عدم الخوض في هذه الأمور؛ لأن الإنسان في مثل هذه الأمور قد يلجأ إلى أمر يخالف الاعتقاد أو يستفز إلى قول لا يتنبه له، فالأولى أن نقف عند الأحكام العامة ولا ندخل في التفاصيل.(51/17)
شرح العقيدة الطحاوية [52]
مما يتعلق بباب القضاء والقدر أن الله تعالى قد يحب الشيء ويرضاه شرعاً، لكنه لا يريده ولا يشاؤه كوناً وقدراً، وذلك كإيمان الكافر وطاعة العاصي، وقد يبغض الشيء ولا يرضاه، لكنه يريده ويشاء وقوعه كوناً وقدراً، وذلك كالكفر وسائر المعاصي والشرور، فإنها غير محبوبة لله تعالى ولا يرضاها شرعاً، لكنه أراد وقوعها كوناً وقدراً، لحكم عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذا باب عظيم ضلت فيه فرق كثيرة، وتباينت طرقها وأقوالها؛ لأنهم لم يفقهوا هذا الأصل العظيم وهو التفريق بين الإرادة الشرعية والكونية القدرية.(52/1)
الأدلة على المحبة والرضا والفرق بينهما وبين المشيئة
قال رحمه الله تعالى: [وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها.
وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)].
في هذه الآيات والأحاديث تفريق بين المشيئة العامة وبين المحبة والرضا وما يتفرع عنها.
فكون الله عز وجل لا يحب الفساد -كما في الآية الأولى- لا يعني ذلك أن الله لم يقدره ولم يشأه كوناً، فإن الله عز وجل قدر كل شيء كوناً وشاءه كوناً، لكنه لا يحب الفساد شرعاً، فقوله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] بمعنى: لا يحبه شرعاً، أما كونه قدره فهذا أمر ضروري؛ لأنه لا يحصل شيء في الكون إلا بقدر الله عز وجل وبعلمه.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] بمعنى: لا يرضاه شرعاً ولا يحبه، لكن لا يعني ذلك أنه لم يقدره كوناً ولم يشأه ولم يعلمه، بل علمه وكتبه وقدره وشاءه سبحانه، والابتلاء لا يتحقق إلا بمثل هذه الأمور.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله كره لكم ثلاثاً) بمعنى: كره ذلك شرعاً، لكنه علمه وقدره وشاءه، إنما قدره على العباد ابتلاءً، وكذلك محبة الله عز وجل للرخص، وكراهية المعاصي؛ فإن الله عز وجل يحب ذلك شرعاً، وقدره وشاءه، وكذلك يكره المعاصي شرعاً ولا يريدها من العباد، ونهاهم عنها، لكنه علمها وشاءها وقدرها كوناً.
إذاً: الخلاصة أنه لا تلازم بين المشيئة والمحبة، ولا بين المشيئة والرضا، ولا بين المشيئة ومرادف هذه الكلمات من الأمور التي تدل على أن الله عز وجل قد يحب من عباده شيئاً ويرضاه لهم لكن لا يفعلونه، أو لا يفعله فريق منهم، وإن كان قدره وشاءه.
أقول: لا تلازم بين المشيئة والتقدير العام وبين الرضا والمحبة.
قال رحمه الله تعالى: [وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك).
فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.
فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته].(52/2)
المعنى الجامع لوجه إرادة الفعل المحرم ومشيئته ووجه بغضه وعدم محبته
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره].
المراد لنفسه كالشفاء من المرض على سبيل المثال، والمراد لغيره كالعلاج الذي هو وسيلة إلى الشفاء، فالشفاء من المرض مراد لنفسه.
والدواء قد لا يكون مقصوداً لذاته، إنما المقصود به الوصول إلى غاية أخرى وهي الشفاء.
قال رحمه الله تعالى: [فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده؛ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.
بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية؟!](52/3)
الحكمة من خلق إبليس
قال رحمه الله تعالى: [فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها، منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا! كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر.
وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل؛ فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء].
يعني بذلك أنه لا تتحقق هذه المعاني إلا بوجود ابتلاء الخلق بالخير والشر، فهذا لحكمة، والله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، فهو فعال لما يريد، وما فعله الله عز وجل كله خير وحكمة.
فخلق الله عز وجل الشر وخلق إبليس لحكم، منها: أنه لا تظهر آثار أسماء الله عز وجل القهرية إلا بمثل هذا الابتلاء، وبمثل هذه الفتنة التي فتن الله بها العباد، ولذلك جعل الله الشر والخير فتنة وابتلاء للخلق.
قال رحمه الله تعالى: [ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم).
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر].
الخير المحض لا تحصل به حقيقة الابتلاء ولا التكليف ولا معنى الجزاء ولا معنى الوعد والوعيد ولا تظهر فيه للعباد معاني الحكمة ومعاني الرحمة ومعاني القوة والجبروت وغير ذلك، فكان من خلقه تعالى المتضادات، ومن ذلك الخير والشر، وفيما يترتب عليهما من الجزاء للعباد في الدنيا والآخرة ظهور معاني الحكمة وحقيقة الابتلاء ونحو ذلك مما هو معلوم لدى العقلاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها].
فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال فاسد، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.(52/4)
مواد الفساد شر من حيث ما تفضي إليه لا من حيث وجودها
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه.
وحركتها -من حيث هي حركة- خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية].
يعني: أن الشر شر بآثاره، وبنتائجه والعقوبة عليه، فهو من حيث كون الله عز وجل قدره ليس شراً محضاً، لكن لما انبنى الشر على فعل المكلفين فصار ناتجاً عن تصرفاتهم، أو كان ناتجاً عن أسباب بذلوها فوقع الشر منهم أو عليهم أو على غيرهم؛ صار شر بهذا المعنى.
أما مجرد خلقه وكونه وجد فليس شراً محضاً، فإبليس -مثلاً- ليس هو شراً لذاته، وإنما هو شر حينما عصى الله عز وجل، أما خلقه ووجوده وذاته فهو خلق من خلق الله ما جاء إلا لحكمة، لكنه لما عصى الله عز وجل وقع الشر من فعله، فصار خبيثاً بذاته وبأفعاله.
وكذا الكافر، فالكافر لذاته خلق من خلق الله، فليس وجود الكافر شراً محضاً بذاته، إنما صار شراً بما عمله حينما كلف وأمر فلم يأتمر ولم يعمل بمقتضى التكليف، فصار الشر مضافاً إليه بأذاه، وصار بذاته وبأفعاله وتصرفاته شراً بعد أن نتج عنه الشر، ولذا فالإنسان غير المكلف -حتى أبناء الكفار الذين يعيشون بين ظهرانيهم- ليس هو شراً لذاته، وليس شره كشر الكافر المكلف، فالمجنون وغير المميز لا يكون شره إلا عندما يكلف، فعندما يكلف يكون منه الشر ويحاسب على ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به؛ لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه].
هذا مثل الحدود، فالحدود إقامتها خير، والذي يقيم الحدود يفعل خيراً، لكنها بالنسبة لمن حدثت له قد تكون شراً، بمعنى أنها أذى، فالذي تقطع يده يحدث له شيء من الأذى، والأذى شر، لكن قد تكون العاقبة خيراً له من حيث إنه بذلك تكفر عنه ذنوبه، والفعل الذي فعله الذي أقام الحد هو خير.
إذاً: فالشر والخير نسبيان.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه سبحانه لم يخلق شرا محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير].
يعني: لا ينسب الشر إلى الله مباشرة، ولا يضاف إليه الشر، بل يقال: إن الله خلق هذه الأمور وقدرها، لكن لا ينسب إليه من باب الإضافة.
قال رحمه الله تعالى: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً، فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].(52/5)
الأسئلة(52/6)
الجمع بين ثبوت مشيئة العبد واختياره وبين ما ورد في تقليب الرحمن قلوب عباده
السؤال
هل يتنافى ما ذكرت من أمر القدر وأن العبد له مشيئة واختيار مع حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)؟
الجواب
ليس هناك تناف، فالله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، وتقليب قلوب العباد قد يكون من باب الجزاء على عمل، فقد يجعل الله ذلك من باب الجزاء على العمل، ومع ذلك فالله يفعل في عباده ما يشاء، لكن هذا لا يتنافى مع أن الله جعل كل مكلف ميسراً لما خلق له، فمن عمل صالحاً فسيجرى به، ومن عمل غير صالح فسيجزى به، فكون القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء لا يتعارض مع كون العباد أمروا بأن يفعلوا الإسلام، فقد يكون تقليب قلوب العباد إلى الخير والشر مبنياً على ما قدره الله وما يسره للعبد من ذلك، فلا تنافي.
ولذلك ينبغي للعبد دائماً أن يدعو الله عز وجل بأن يهديه وأن يثبته على الحق والاستقامة ويميته على الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وهذا فيه أشار أن الأمور كلها راجعة إلى الله عز وجل، وأنه يفعل بعباده ما يشاء، وأنه لا أحد يتألى على الله عز وجل في ملكه.
المهم أنه لا تعارض بين هذا وذاك، إنما هذا فيه أمر للعباد بأن يلجئوا إلى الله عز وجل، ويدعوه، ويسألوه بالتثبيت والعصمة من الزلل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/7)
شرح العقيدة الطحاوية [53]
قدر الله تعالى الشر والمعاصي لحكم عظيمة منها الابتلاء والامتحان، فهي من حيث خلقها وتقديرها ليست شراً، إنما الشر هو فعلها الذي هو من جهة العبد، وكذلك الله تعالى قدر الخير والطاعة وخلقها، وأراد من العبد فعلها لأنه يحبها ويرضاها، وقد لا يعين العبد أحياناً على فعل بعض الطاعات لحكم عظيمة يعلمها سبحانه، هذا كله لابد من التسليم به كما وردت به النصوص، ومن نسب إلى الله تعالى غير ذلك فلم يقدره حق قدره.(53/1)
حصول الشر في المادة بقطع الإعداد والإمداد وظهور حكمة الله تعالى في تفاوت المخلوقات في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].
يعني: بذلك أن الشر والمعاصي من حيث خلقها وإيجادها ليست شراً؛ لأنها لحكمة وابتلاء للعباد، إنما الشر هو فعل المعاصي وفعل الممنوعات، أما خلقها فهو لحكمة، والحكمة ليست شراً، إنما هي خير.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد].
الإيجاد: هو التقدير والخلق، والإعداد: إقدار العباد وإقدار الفاعلين على الفعل، والإمداد التيسير والإعانة والتوفيق.
قال رحمه الله تعالى: [فإيجاد هذا خير، وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة!].
هذا مذهب الفلاسفة، فالفلاسفة يرون أن التسوية ضرورية وأنها من اللوازم التي تلزم الله عز وجل، وانتقلت هذه الفلسفة إلى المعتزلة، وإلى كثير من أهل الكلام، ولذلك أنكروا حكمة الله عز وجل، وأنكروا الرحمة عن الرب سبحانه؛ لأنهم يرون أن الأفعال في الكون كلها لابد من أن تكون متساوية، ويرون أن مقتضى العدل فيها ألا يكون فيها خير وشر مطلقاً، وإن وجد الشر فمن أفعال العباد بذاتهم، فهم خالقون لها، فمن هنا ضلوا من حيث أرادوا أن ينزهوا الله، لكنهم وقعوا في شر مما هربوا منه.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء].
مبدأ التسوية -كما قلت- هو الذي جعل كثيراً من أهل الأهواء يغلطون في مسألة الحكم على الناس، ولعلي أكتفي بالإشارة بهذه المناسبة إلى ما وجد من أحكام باطلة من خلال هذه العقيدة الباطلة عبر نظرة سادت في الآونة الأخيرة عند كثير ممن يسمون بالمثقفين والمفكرين من المسلمين -مع الأسف- تبعاً لغيرهم من الفلاسفة ونحوهم من الذين الأصل عندهم هو الخلل في توحيد الله عز وجل.
أقول: هذا الفكر السائد المبني على هذه الفكرة الفلسفية يرى أنه لا فرق بين المسلم وغيره، وأنه لا يليق بالله عز وجل أن يعذب البشر، فمن هنا ظهرت مقولة في الآونة الأخيرة تقول: لا فرق بين المسلم واليهودي والنصراني، فكلهم يؤمنون بالله، إنما الفرق في عملهم، فمن كان طيباً متخلقاً محسناً إلى الناس فهو من أهل الجنة وإن كان يهودياً أو نصرانياً! فهذا ناتج عن مبدأ التسوية وعدم الإيمان بحكمة الله عز وجل وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه هدى من شاء ووفقه ووعده الجنة فضلاً منه سبحانه، وتوعد الكفار بالنار عدلاً منه عز وجل، وأن ذلك كله راجع إلى حكمته.
إذاً: فمبدأ الحكمة لا يعترف به هؤلاء، بل ربما يعبرون عن الحكمة بالعدل فقط، فيقولون: ليس من الحكمة كذا، ويقصدون بذلك أنه: ليس من العدل؛ لأنهم يضعون مقاييس من عند أنفسهم فيفرضونها على الله عز وجل.
فلذلك قالت المعتزلة ونحوهم: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا! بدون تورع وبلا خوف من الله عز وجل، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا، تعالى الله عما يزعمون.
فالمهم أن هذا الأصل كله ناتج عن عقيدة التسوية، والنظرة الخاطئة إلى مفهوم العدل المطلق.(53/2)
استواء المخلوقات في الإيجاد وتفاوتها فيما تعدمه من الخير
قال رحمه الله تعالى: [وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا، ولم تفهمه حق الفهم؛ فراجع قول القائل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع].
هذه حكمة مفيدة في الحقيقة، وليس على المسلم غضاضة في أنه إذا وجد في أمر من الأمور غموضاً وحاول أن يفهم ولم يفهم انصرف عنه عملاً بهذه الحكمة، ولا يضره ذلك، ذلك أن كثيراً من الأمور الفلسفية تكون من باب الأحاجي والألغاز والمعضلات والمحارات التي تحار فيها عقول العقلاء، ولا يضر المسلم ألا يفهم هذه الألغاز وهذه الإشكالات في القدر وفي الغيب وفي غيرهما، لا يضره ذلك لا في إيمانه ولا في ذكائه ولا في عقله، ولا يظن أن ذلك عجز فيه، ولا يتطلع إلى أن يصل إلى حل لمثل هذه الألغاز المشكلة، بل إذا وجد فيها صعوبة فليسلم لله عز وجل وليؤمن بما جاء عن الله، وليرجع إلى نصوص الكتاب والسنة فلن يجد فيها ما يحار فيه، إنما المحارات والألغاز والمعضلات في مثل هذا الكلام المشقق في الحكمة والعدل والتسوية والإقدار وضرب أقدار الله بعضها ببعض ونحو ذلك.
فلا يضر المسلم إذا وجد في ذلك شيئاً من الإشكال أن ينصرف ويصرف ذهنه ويسلم لله عز وجل ويأخذ بمقتضى النصوص.(53/3)
وجه عدم إعانة الله تعالى للعبد على بعض ما هو مرضي له من الطاعات
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] أي: فساداً وشراً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه، فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه].(53/4)
جهة السخط وجهة الرضا في فعل العبد المعصية
[وأما الوجه الثاني: -وهو الذي من جهة العبد- فهو أيضاً ممكن، بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه].
قوله: (ما هو منه) أي: من الإنسان نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً].
أي: كرهت المعاصي مطلقاً من كل وجه، لكنهم لا يقصدون كراهية كونها من الله عز وجل، إنما كرهوها فقالوا: إن المعاصي شر محض.
وسبب ذلك أنهم يرون أنها ما سميت معصية إلا من حيث فعلها من قبل العبد، وليست معصية بذاتها، بل لما فعلها صارت معصية، فمن هنا كرهوا المعصية مطلقاً.
والذين فرقوا رجعوا إلى أصل الفعل، أي: أصل الإقدار على المعصية، فقالوا: إن الإقدار على المعصية من الله عز وجل، وهذا فيه حكمة وهو خير، لكن فعل المعصية من العبد شر.
إذاً: الفريقان يلتقون على حكم واحد، وهو أن المعصية بذاتها من حيث فعلها من قبل العبد مكروهة كلها ومن حيث تقديرها من الله عز وجل ليست معصية، إنما صارت معصية بفعل العبد لها.
فالمعصية من حيث هي تبقى مجردة في الذهن حتى تقع، فإذا وقعت لا تكون إلا ممن يفعلها وهو العاصي، فلا تكون معصية فعلية واقعة إلا من فاعل، والفاعل هو العبد، أما قبل أن يفعلها فما هي إلا مجرد تصور في الذهن، والتصور في الذهن لا يبنى عليه حكم.
قال رحمه الله تعالى: [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته].
بمعنى أنهم لا يكرهون صدورها عن الله عز وجل من حيث إنه علمها وقدرها وشاءها، إنما يكرهونها لذاتها من حيث كونها معصية، وما صارت معصية إلا حينما فعلها العبد.(53/5)
حصول الجبر الباطل بمنع اعتبار كراهة فعل العبد المعصية واعتبارها تقديراً من الله مرضياً محبوباً
قال رحمه الله تعالى: [وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين].
الجبرية هم الجهمية، وهم الذين يقولون: إن العبد مسير لا خيار له أبداً، فهو كالريشة في مهب الريح، وعلى هذا فإنه يكفيه في مسألة الحساب والجزاء أن يؤمن بالله بقلبه مهما فعل من الكفر والمعاصي حتى الشرك، تعالى الله عما يقولون! فمن أشرك بالله عندهم ما دام عارفاً بالله فهو مؤمن! فهؤلاء هم الجبرية الغلاة؛ لأنهم يرون أن الإنسان ليس له أي فعل وأن الفعل كله لله، فهؤلاء يقولون: ما دام الفعل كله لله فلا حساب على العباد إلا بما يتعلق بالمعرفة في القلب، فمن عرف الله نجا ومن أنكر الله هلك، وليس دون ذلك أي تفصيل.
فهؤلاء هم الجهمية، والجهمية ليست هي الجماعة المعهودة التي ظهرت في عهد جهم فحسب، بل بعد ذلك دخل التجهم في الفلاسفة والمتصوفة، خاصة ابن عربي ومن سلك طريقه قبله وبعده من غلاة الصوفية، هؤلاء جهمية خلص، وقد ذكر المحققون أن الجهمية فيما بعد دخلت في الصوفية فصار غلاة الصوفية جهمية، وكذلك دخل التجهم بعض فرق المسلمين.
والقدرية هم المعتزلة، فالمعتزلة بعكس الجهمية تماماً، يقولون: إن الإنسان مخير كل التخيير، وإنه مسئول عن أفعاله كل المسئولية، وإن الله عز وجل لم يقدرها، فأغلبهم أثبتوا العلم لكنهم نفوا التقدير، فالقدرية هم المعتزلة الذين يقولون: إن العبد مسئول عن أفعاله مسئولية كاملة، وهو خالقها، وإن الله لم يقدرها، ومن هنا رتبوا المسئولية الكاملة على العبد، فكفروا بالمعاصي، وجعلوا أصحاب الكبائر مخلدين في النار بناء على هذه الفلسفة.
وقد أثرت القدرية بعض التأثير في الفرق الكلامية التي ورثت المعتزلة فيما بعد، وإن كانت قامت ضدها أصلاً، لكنها ورثت بعض أصولها، كالرافضة ومتأخرة الخوارج، هؤلاء صاروا ورثة المعتزلة في القول بالقدر، أما الزيدية فأصلهم معتزلة.
والجبرية وجد شيء منها في الفرق الكلامية، وهي الأشاعرة والماتريدية، وليس المراد الجبر الغالي، لكنه نوع من الجبر.(53/6)
جواب الاعتراض بامتناع التوبة من المعصية مع شهود الحكمة في تقديرها
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة].
أي: كيف يطلب من العبد التوبة من المعاصي مع أنها حدثت بتقدير الله وحكمته؟! هذا منشأ السؤال.
قال رحمه الله تعالى: [قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته].
هذا القول هو قول أغلب الصوفية، والعجيب أن هذا القول وجد في العباد الأوائل قبل أن تظهر الطرق الصوفية، فالعباد الأوائل النساك في أول القرن الثاني وما بعده هذا أصل كثير منهم، خاصة الجهلة؛ لأن العباد المشاهير منهم عندهم شيء من العلم، لكن الجهلة منهم -وهم كثير- هذا مبدؤهم، ولذلك دخلت من خلالهم هذه العقائد إلى الصوفية المتأخرة؛ لأنهم يرونهم قدوة لهم، والمتأمل لأحوال العباد الأوائل يجد أنهم تقمصوا عقائد كثير من الفرق التي وجدت في البلاد المفتوحة، خاصة العراق، فأغلب هذه الأقوال موجود أصلاً في عباد النصارى وفي عباد الهنود وموجودة عند طوائف من المجوس، فانتقلت إلى المسلمين عبر وراثة هذه العقائد عن أولئك القوم الذين، دخلوا في الإسلام ولم يتفقهوا في الدين، أو عن طريق الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا تلك العقائد ثم دعوا إليها.
قال رحمه الله تعالى: [وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين، وهذا غاية الجهل].
قد يظن بعض الناس أن هذا من باب الإلزام، لكنه في الحقيقة واقع، فهناك طوائف من هؤلاء القوم من المتصوفة الفلاسفة الزنادقة الباطنية، والذين يجمعهم كلهم ابن عربي الطائي الاتحادي صاحب وحدة الوجود الحلولي الجهمي، صرحوا بأن خصوم الأنبياء هم أصحاب الحقيقة والتوحيد، وصرح به ابن عربي أكثر من مرة في كتبه صراحة لا التواء فيها ولا غموض، وكرر ذلك تكراراً بيناً، وألف في ذلك كتباً ورسائل، حتى إنه صرح بأن خصوم الأنبياء من الأمم المشركة التي كفرت بالنبوة وبأنبياء الله ورسله أعرف بالتوحيد من الأنبياء وأتباع الأنبياء، وأنهم حينما دعا بعضهم إلى عبادة نفسه أو عبادة الأوثان ما قال إلا الحقيقة وما فعل إلا الحقيقة.
فهذا ليس من باب الإلزام فقط، وإن كان فعلاً يلزم من ألغى الحكمة والمشيئة ولم يفرق بين الأمر الشرعي وبين الأمر الكوني والقدري أن ينتج عنده أنه لا فرق بين التوحيد والشرك، فهذا إلزام فعلي عقلي وشرعي، لكنه حدث فعلاً، فتوصلوا إليه، وانتهى مذهبهم الباطل بقول ابن عربي، وصار مذهباً يحتذى إلى الآن في الفرق الباطنية في أكثر العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي الآن تنتشر فيه الفرق الباطنية، وأغلبها تتبنى هذا الرأي.
قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي؛ فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه].
هذا الكلام فيه إيهام، وإن كان قاله ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، وابن القيم لاشك في أنه أراد بمثل هذا الكلام أن يجر جهلة الصوفية إلى التوحيد بعباراتهم، وأن يفسر لهم أقوال أئمتهم بتفسير أقرب إلى الحق والسنة، وأن يعبر عن الحق بتعبيراتهم من أجل أن يكمل الحق الذي أراد بيانه، لكن مع ذلك ينبغي ألا نجيز هذا بإطلاق؛ لأن المسلم الذي عوفي من هذه الأمور وهذه المصطلحات وهذه المفاهيم الأولى له ألا يخوض فيها وألا يتعلق قلبه ولا خاطره بمثل هذه الأمور، ولا يقرأ الكتب المتعلقة بتقرير هذه القضايا إلا للحاجة، أو أن يكون طالب علم متمكناً، فمدارج السالكين كتاب جيد، وقد أفاد فيه في تقريب جهلة الصوفية وغير المعاندين منهم إلى الحق، وشرح مصطلحات بمعنى أقرب إلى الحق، فسلم من الولوغ في الكفريات، لكنه لا يصلح لأهل السنة الذين سلموا أصلاً من هذه المصطلحات ولم يعرفوها ولم يسمعوا بها ولا توجد عندهم.
ولذلك فمثل هذا الكتاب يوصى بأن ينتشر في البلاد التي يكثر فيها التصوف أو تسود فيهم مصطلحات الصوفية، أما في البلاد التي سلمت فلا حاج(53/7)
الرضا بالقضاء لا يستلزم امتناع إنكار الكفر وكراهته
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟! فالجواب أن يقال: أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم].
يقصد أن القضاء له وجهان: فمن حيث علمه وتقديره من الله عز وجل يجب أن يرضى به، ومن حيث هو من أفعال العباد ومن حيث كونه معصية فلا شك أنه ينبغي أن يسخط، ولا يسخط على الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك، لكن يسخط العيب نفسه، بمعنى أن يكره.
وكذلك القضاء، فالقضاء له وجهان: فمن حيث تقديره ومن حيث إرادته يجب أن يرضى به من الله عز وجل وألا يسخط، ومن حيث جانب المعصية فيه يعاب.
فقوله: [بل من القضاء ما يسخط] يقصد به المعايب والمعاصي والذنوب، ولا يقصد المصائب، وهذا أمر يجب أن يفهم؛ لأن العبارة مجملة، فهو لا يقصد قضاء الله وتقديره العام، إنما يقصد جانب العيب وجانب الذنوب وجانب المعاصي التي هي من أفعال العباد، فهي من وجه قضاء من الله عز وجل، وهي من وجه آخر فعل من العبد، ففعل العبد مذموم ومسخوط، وفعل الله وتقديره مرضي لحكمة منه عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه.
فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به.
مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به].(53/8)
الأسئلة(53/9)
حكم القول باشتراك الخالق مع المخلوق في أصل الصفة
السؤال
هل يصلح أن يقال: إن الله عز وجل يشترك مع المخلوق في أصل الصفة؟
الجواب
الله موجود والمخلوق موجود، إلا أن وجود الله واجب ووجود المخلوق ممكن، وهكذا في باب الصفات، فأصل المبدأ صحيح، لكن التعبير يجب أن يتأدب فيه مع الله عز وجل عندما يقرر هذا في باب الرد على المعطلة الذين زعموا أن سبب تعطيلهم التشبيه، فيقال لهم هذا الكلام، لكن لا يقرر عقيدة؛ لأنه لا يقرر إلا لنفي شبهة ولنفي باطل؛ لأن هذا الأصل بدهي عند أصحاب الفطر السليمة والعقول السليمة، فلا داعي إلى تقريره، لكن من حيث تصوره نعم، فتصوره صحيح، وهو أن أصل الصفة من حيث إنها موجودة في الأذهان ممكن أن تطلق على الله عز وجل وتطلق على المخلوق إذا كان ممن يستحق الصفة، لكنها في حق الله كاملة وتليق بالله عز وجل، وفي حق المخلوق ناقصة وتليق بنقص المخلوق، مثل العلم، فالله عز وجل عليم وعالم، لكن علمه العلم الكامل، ومن البشر من يسمى عالماً، لكنَّه علم ناقص.
فأقول: تقرير هذه الأمور على سبيل الرد والبيان صحيح، لكن أن تقرر استقلالاً -بمعنى: أن نقررها وكأنها من ثوابت العقيدة- لا يصح؛ لأننا في غنى عن ذلك، والعقل السليم والفطرة تدرك هذا بالبديهة.(53/10)
الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله: (كل من عند الله)
السؤال
يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، حينما ذكر الحسنة والسيئة، فكيف نجمع بينهما؟
الجواب
لا تعارض في ذلك، فالسيئة والحسنة من حيث القضاء كلتاهما مقضيتان من الله ومقدرتان، لكن من حيث الفعل تنسب السيئة التي هي المعايب أو الأخطاء أو المعاصي إلى العباد؛ لأنهم فعلوها بمحض إرادتهم التي أقدرهم الله عليها، وهذا من رد معاني هذه الآية إلى ما سبق تقريره، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/11)
شرح العقيدة الطحاوية [54]
الأصل الواجب على العبد أن يؤمن بقضاء الله تعالى وقدره كما جاء في الكتاب والسنة، ولا يرد شيئاً مما دلت عليه النصوص في هذا الباب، ويجب الحذر من الوسوسة وكثرة التفكير والخوض في هذا الأمر؛ فإن هذا فتح لباب الضلال والانحراف فيه، فالواجب هو الإيمان والتسليم بما ورد، ولا يجوز الاعتراض أو السؤال عن شيء قدره الله تعالى لم قدره؟ فإن هذا ضلال مبين؛ لأن القدر مما اختص الله تعالى بعلمه، ولم نعلم منه إلا ما ورد في النصوص فالواجب هو التسليم بذلك تسليماً مطلقاً.(54/1)
ضرر التعمق والبحث في القدر بأكثر مما ورد في النصوص
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان) إلى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء.
والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان، والذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى.
وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة].
يقصد بذلك أن الكلام في القدر بأكثر مما ورد في النص والتمادي في إثارة الشكوك وإثارة الأسئلة والإشكالات في القدر لا يزيد الإنسان علماً ولا يقيناً ولا إيماناً، فالقدر سر الله في خلقه، ولابد من الوقوف على ما جاء فيه من النصوص في الكتاب والسنة، ثم إن القدر لا يمكن لأحد من الخلق أن يأتي فيه بجواب بأكثر مما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتطاول العقول وتعمق الأفكار والوساوس في القدر لا يزيد الإنسان إلا خذلاناً، ولا يزيده إلا غواية وضلالة وبدعة وشكوكاً، وربما يصاب بشيء من الوساوس التي تبقى في نفسه فلا تمحى إلا بصعوبة، وربما تهلكه، فعلى أي حال: يجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، وإذا ثارت الأسئلة في أمر عارض فإن على الإنسان أولاً أن يعود إلى مبدأ التسليم، ويحاول أن يصرف ذهنه عما يرد إليه من شكوك وإشكالات، فإن استطاع وإلا فليحاول تلاوة آيات القدر وأحاديث القدر لعله بذلك يشفى قلبه، فإن لم يستطع فليسأل أهل العلم، فإن لم يصل إلى نتيجة فليضرع إلى الله عز وجل بأن يشفيه ويعافيه.(54/2)
وجوب الحذر من الوساوس والخواطر المتعلقة بأمور الغيب
[وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان).
رواه مسلم.
الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولـ مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، وهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان].
يقصد بالوسوسة هنا الخواطر العابرة العارضة، فالوسوسة العارضة والأفكار العارضة والخواطر الطارئة قد لا يسلم منها الإنسان، لكنها ما لم تستقر في النفس لا تضر، وهي من محاولة الشيطان إغواء كل إنسان، فإن وجد الإنسان في نفسه يقيناً ودفعها فليعلم أنه بذلك حقق معنى الإيمان، وصريح الإيمان، بمعنى: أن مجرد الوسواس العارض لا يضره، والفارق بين الوسواس العارض والثابت أن الوسواس العارض يجد فيه الإنسان من نفسه نوعاً من الغرابة والإنكار، وشيئاً من النفرة، حيث تنفر منه النفس بالفطرة لاسيما الوساوس المقصودة هنا، وهي الوساوس التي تتعلق بأمور الغيب، بالقدر، أو بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ونحو ذلك، فإن هذه الخواطر ترد إلى الإنسان، فالمؤمن لابد من أن يجد في نفسه كراهية لهذه الخواطر ويحاول دفعها بما عنده من مبدأ التسليم لله عز وجل واليقين بالله واليقين بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد ذلك فليعلم بذلك أنه -إن شاء الله- حقق معنى الإيمان.
إذاً: ليس المقصود بالوسوسة هنا الوسواس المستقر الذي هو بمثابة الشكوك، بل الوسوسة العارضة التي يسميها الناس أفكاراً وخواطر وخطرات تعرض، إما بسبب يرد إلى الإنسان من الأسباب المنظورة والمشاهدة والمحسوسة أو مما يسمعه من الناس، وإما من وسوسة الشيطان المحضة، لكنه إذا وجد في نفسه إنكاراً لهذه الوساوس فليعلم أن أصل الإيمان موجود عنده، وليحمد الله على ذلك.
إذاً: هناك نوع من الوسواس غير ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو الشكوك، سواء كان منشؤها الأمور العارضة الخارجة عن إرادة الإنسان أو الخارجة عن تفكير الإنسان بذاته، كما يحدث مما يقرؤه بعض الناس أو يسمعونه، أو ما يحدث من شبهات الفلاسفة والمتكلمين والدهريين وغيرهم، فهذا النوع إذا ورد على الإنسان فإن كان عنده شيء من الإيمان وقوة اليقين بالله عز وجل والفقه في دين الله؛ فإن ذلك لا يضر، وإن ضعف إيمانه وقل فقهه فربما تؤثر فيه الشبهات الواردة التي ترد من الناس أو ترد مما يسمعه أو يراه.
كما أن من الشكوك ما يثيره أهل الشكوك أنفسهم من الفلاسفة والدهريين والعقلانيين والكفار والمشركين والمنافقين، فهذه شكوك ثابتة في أنفسهم وليست عارضة، وتكون من أسباب تماديهم في الضلالة، وقد تؤثر هذه الشكوك على بعض مرضى القلوب من المسلمين إذا ضعف إيمانهم وقل علمهم.
ولذلك يجب على المسلم أن يحذر من قراءة الكتب التي تثار فيها هذه الإشكالات، ويجب ألا يتمادى في سماع ما يرد إلى سمعه من هذه الشكوك من الناس أو عبر الوسائل التي ترد فيها هذه الشكوك، كما أنه ينبغي أن يحصن نفسه ابتداء بمعرفة أصول الإيمان بالقدر؛ لأن الإنسان ضعيف، والواردات إلى ذهنه من خارج ذهنه أو من وساوس الشيطان في داخله كثيرة، فإذا وافقت ضعفاً في الإيمان وقلة في الفقه والعلم وعدم رسوخ في العقيدة فربما تؤثر على الإنسان، بل ربما يعتقد عقيدة باطلة من خلال هذه الوسوسة أو من خلال هذه الشكوك وهو لا يشعر.(54/3)
نشأة الوساوس في القدر ونحوه من أمور الغيب
قال رحمه الله تعالى: [هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل؛ ليدحضوا به الحق].
أول من فعل ذلك صنفان من الناس: أناس كانت عندهم هذه الوساوس بمثابة النزعات الفردية، وقد لا ترجع إلى أصول عقدية ذات قواعد أو إلى فرق أو نحل، وهذه كانت مصيبتها أسهل، وكان السلف الأوائل لهم منها مواقف قضت على هذه النزعات، كما حدث من بعض المشككين من أمثال صبيغ بن عسل التميمي، وذلك الشاب الذي جاء إلى ابن عباس وكان قد تمادى في الوسوسة في القدر، فجاء به أبوه إلى ابن عباس فأعطاه ابن عباس رضي الله عنهما درساً في ذلك حتى رجع واستقام، ومثلما حدث من بعض أهل الذمة، كـ قسطنطين بطريرك النصارى في الشام الذي سلم مفاتيح بيت المقدس لـ عمر، فقد حدثت منه تلك الحادثة بينما كان عمر يخطب بالجابية، فاعترض على القدر وهدده عمر بن الخطاب، وما حدث من بعض الخوارج كذلك، وما حدث من ابن الكوى وأمثاله.
فإن هذه الأمور كانت نزعات فردية لم تكن أصولاً فلسفية، ولا ترجع إلى فرق، فهذه النزعات كانت بمجرد أن تبدو وتظهر يقضى عليها بسرعة وبقوة وبحزم، وتنتهي إما بالقوة وإما بإقناع أصحابها بالدليل والبرهان.
الصنف الثاني: فرق سودت الكتب وظهر كلامها على شكل أصول، وأول ما ظهرت بعد سنة ستين للهجرة، وظهر كلامها على شكل اعتراض مقنن في مسائل القدر، يعني: كان كلامهم في القدر يحمل أصولاً وقواعد مستمدة من أهل الكتاب ومن الصابئة ومن المجوس، وكلهم تتشابه أقوالهم في القدر، وكان أصحاب هذا القول -أي: الفرق القدرية الأولى- عندهم نوع من التقعيد لمقولتهم، وهو تقعيد عقلاني وفلسفي، ولذلك لما ظهروا فتن بهم طوائف من أبناء المسلمين الذين قل فقههم في الدين ثم لما واجههم السلف كانوا مستعدين بالحجج العقلية والفلسفية، وأولهم معبد الجهني، ثم غيلان الدمشقي، ثم بعد ذلك تلقف هذا الاتجاه المعتزلة وصار أصلاً من أصولهم، وسموا بالقدرية فيما بعد.
ثم انتقلت هذه الأصول إلى كثير من الفرق فيما بعد، فدخل القول في القدر إلى الرافضة، ودخل إلى الجهمية، ثم قالت به الفرق الكلامية المتأخرة من الأشاعرة والماتريدية، أي: أنها قالت في بعض مسائل القدر بقول يخالف أصول أهل السنة والجماعة، وإن كانت في الأصول الكبرى في القدر تقول بقول أهل السنة، لكن عندها بعض المسائل التي تخالف فيها أهل السنة، مثل مسألة الاستطاعة ومسألة الحكمة والتعليل لأفعال الله عز وجل ونحو ذلك، وبعد ذلك صار القول بالقدر أصلاً من أصول كثير من الفرق إلى يومنا هذا.(54/4)
نصوص في ذم الخوض في القدر والبحث فيه
قال رحمه الله تعالى: [ولذلك أطنب الشيخ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم.
قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده).
ورواه ابن ماجة أيضاً.
وقال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69]، الخلاق: النصيب، قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أي كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا].
معنى (الذي خاضوا) أي: الذين خاضوا في الكلام في دين الله عز وجل بغير علم، وأول ذلك القدر، فكل الأمم -سواء الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية- ضلت في القدر، أما الأمم الكتابية فقد ضلت بعد الهدى اليهود والنصارى، وأما الأمم غير الكتابية فمن الطبيعي أنها لم تهتد إلى الحق أصلاً، فقد قررت مسائل القدر بعقولها، فكل الأمم المنحرفة والضالة خاضت في القدر على نحو يختلف ويتناقض، وأخذوا في مسألة القدر مسالك شتى متناقضة ينقض بعضها بعضاً.
فالله عز وجل في هذه الآية ينهانا وينهى الأمة كلها عن أن تخوض كما خاض الذين سبقوا؛ لأن الخوض في مسائل القدر هو مفتاح الخوض في جميع مسائل الاعتقاد، وما خاض أحد في القدر إلا ضل؛ لأن القدر مبناه على التسليم.
وكذلك سائر أمور الغيب، لكن القدر هو أكثر أمور الغيب إعضالاً، والقدر يستهوي الحديث فيه النفوس، وأكثر الناس يجيد الخصام في القدر؛ لأن إثارة الشكوك فيه تقوم على الألغاز، فمن هنا يستهوي كثيراً من الناس الذين يصابون بمرض الثرثرة والكلام، فالمهم أن الأمم التي ضلت كان من أعظم من أسباب ضلالها الخوض في القدر، وقد نهينا أن نخوض في القدر، وكذلك غير القدر من أمور الغيب الأخرى.
قال رحمه الله تعالى: [وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات].(54/5)
مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب في الافتراق وبيان نصيب القدر من ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذن أمتي مآخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).
وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: مسألة القدر، وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع].
لذلك كانت كل الفرق التي انحرفت عن السنة والجماعة عندها مخالفة في القدر، بمعنى أنها تتفق على الخروج عن السنة في مسألة القدر إما خروجاً جزئياً وإما خروجاً كلياً، فأولها القدرية الخالصة، وآخرها: أهل الكلام المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية، فقد خالفوا السنة في بعض مسائل القدر.
إذاً: الخروج عن السنة والخروج عن الحق في مسألة القدر قاسم مشترك بين جميع أهل الأهواء، فهو من المسائل التي تتفق عليها فرق الضلال وإن تفاوتت أقوالهم، مع أنها قد تختلف في المسائل الأخرى من مسائل الاعتقاد، أي أن بعضها قد يكون له قول صحيح في بعض مسائل الاعتقاد.(54/6)
دلالات في أحاديث الافتراق(54/7)
الجزم بحصول الافتراق في الأمة
ثم إن في هذه الأحاديث دلالة على أمور سبق التنويه عليها متفرقة، ولكن تحسن الإشارة إليها الآن، وأقول: إن أحاديث الافتراق دليل قاطع على إن الافتراق لابد واقع في هذه الأمة، وأن وقوعه أمر كتبه الله عز وجل، لكن وقوع الافتراق لا يعني ضياع الحق، فقد صح في الأحاديث المتواترة أنه تبقى في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرة ومنصورة إلى قيام الساعة، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن وقوع الافتراق لا يعني الرضا به، إذ هو في كتاب الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جاء على نوعين: جاء على طريق الإخبار وجاء على طريق التحذير من الوقوع في الأهواء، وذلك من باب تنبيه الأمة حتى لا تقع في الأهواء؛ لأن الأهواء لابد واقعة، ولذا فإن وقوع الافتراق يعني أن المسلم لابد له من أن يحذر في كل أموره من أن يقع في الهوى أو أن يزل أو أن يضل أو أن يتبع أحداً في الدين غير أهل السنة والجماعة.(54/8)
بقاء الافتراق والاختلاف إلى قيام الساعة
ثم إن في هذه الأحاديث أيضاً دلالة على أن الافتراق باق إلى قيام الساعة، وبهذا نرد على الذين يزعمون -وهم كثيرون- من المفكرين والعصرانيين والعقلانيين في هذا العصر الذين ينتسبون إلى الإسلام أن دعوى الافتراق دعوى ليست صحيحة، وأن الأمة كلها على الحق، وأن ما يحدث بينها هو أمور خلافية مما يسع فيه الاجتهاد، وأنه لا يجوز أن ندعي أن الأمة مفترقة أو أنها جماعات ينابذ بعضها بعضاً إلى آخره.
وهذه دعوى -وإن كانت بينة العوار والخطأ- قد أثرت في طائفة من شباب الأمة ومفكريها ومثقفيها، فكان لابد من التنبيه على ذلك، لاسيما أن الذين قالوا بهذه المقولة وزعموا أن هذه الافتراقات ما هي إلا اختلاف في وجهات النظر، وما هي إلا نزاع في أمور اجتهادية بعضهم من المتبوعين الذين يحملون رايات تنتمي إليها جماعات من شباب الأمة، لذا يلزم التنويه بهذه المسألة والتنبيه عليها والتحذير منها.(54/9)
الفرق المخالفة المتوعدة غير خارجة من الملة
ثم إن هناك أمراً آخر يتعلق بمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من المفارقين من الثنتين والسبعين الذين فارقوا السنة والجماعة، فهم أولاً متوعدون بالنار، وهذا صريح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن توعدهم بالنار لا يعني بالضرورة أنهم من الخالدين فيها، بل اتفق جمهور السلف على أن الفرق المفترقة التي لا تزال في ضمن المسلمين الأصل فيها أنها من أهل الوعيد، وليست من الكفار الخلص أو من المرتدين، ولذلك كان السلف إذا حكموا على أحد من أهل الأهواء بالردة أو الكفر الصريح أخرجوه من الثنتين والسبعين وقالوا: لا يعد هذا من فرق المسلمين، وهذا يكاد يكون محل اتفاق بينهم، فمثلاً: أغلب السلف لا يعدون غلاة الجهمية من فرق المسلمين، ولا يعدونهم من الثنتين والسبعين، ولا يعدون غلاة الرافضة من الثنتين والسبعين، ولا يعدون الباطنية من الثنتين والسبعين، بل يعدونها من ملل الكفر التي لا تنسب إلى الإسلام وإن انتسبت.
إذاً: ففرق المسلمين الثنتان والسبعون التي خرجت عن السنة والجماعة لاشك في أنها ضالة وأنها مبتدعة، ويجب على المسلم أن يتبرأ من مناهجها ومن أهلها، لكنها ليست داخلة في صنف الكفار الخلص ولا في أهل الخلود في النار، إنما تدخل في أهل الوعيد من هذه الأمة.
أقول هذا؛ لأنه اشتهر عند بعض الباحثين المتأخرين القول بأن الفرق الثنتين والسبعين خارجة من الملة، وأنها مخلدة في النار، وأنها تترتب عليها أحكام الكفار الخلص، وهذا خطأ، ورأيت في هذا الأمر بعض المؤلفات التي ظهرت أخيراً، كما أنه بالعكس ظهرت مؤلفات أخرى تزعم أن الفرق الثنتين والسبعين ليست من الفرق الضالة كلها، إنما هي من الفرق المختلفة في أمور اجتهادية، كالمذاهب الأربعة في الفقه، وهذا كله ضلال، لا هذا ولا ذاك، فالقول الوسط قول أهل السنة والجماعة أن الافتراق واقع، وأن الفرق المفارقة للسنة والجماعة ضالة ومبتدعة وخارجة عن السنة، ويجب على المسلم أن يتبرأ منها ومن عقائدها، لكنها غير خارجة من الملة إلا من خرج منها من الملة، وهي متوعدة بالنار، وحكمها حكم أهل الكبائر، والله أعلم.(54/10)
قيام مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأمر والنهي والشرع
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين): اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا.
ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً به بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال.
قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا بأس به؛ فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره.
قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، قال: فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها.
انتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، رواه الترمذي وغيره، ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بين له الصواب؛ ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله): قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود): الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة، وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها؟! ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم].(54/11)
أنواع العلم المفقود الذي لا يسع المكلف طلبه
هنا قسم العلم إلى مفقود وموجود، فالمفقود -كما أشار الشارح- يمكن أن يلخص في ثلاثة أمور: أولاً: القدر، فالقدر كله علم لا صلة للبشر به، ولم يتعبدوا بالبحث عنه أبداً، إنما تعبدوا بالتسليم به مطلقاً، ونصوصه محكمة، بمعنى أنه لا سبيل إلى الزيادة عليها ولا النقصان.
الأمر الثاني: الغيبيات عموماً، سواء ما يتعلق بالله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى، وهي التي تسمى بالسمعيات، كأحوال الآخرة وأحوال المستقبل، وعالم الشهادة الذي لا نراه ولا تتناوله حواسنا ومداركنا، فإن هذا كله داخل في العلم المفقود الذي يجب على الإنسان ألا يتطلع إليه، ولا يبحث عنه، وبحثه من التكلف والإثم.
الأمر الثالث: بعض حكم التشريع، فحكم التشريع نوعان: نوع قد يدركه عامة الناس أو يدركه طلاب العلم أو يدركه الراسخون، وبعضه قد لا يدرك إلا بذكاء وفطنة، وبعضه يدرك بالبديهة.
النوع الثاني من حكم التشريع: ما لا يدرك أبداً، فيبقى سراً من أسرار الله عز وجل وحكمه الخفية.
إذاً: فحكم التشريع ليست كلها خفية، فما يدرك عند الناس هو درجات، وما لا يدرك داخل في العلم المفقود، فليس للإنسان أن يكلف نفسه في البحث عن علل التشريع لا في جزئياتها ولا في كلياتها، نعم يلتمس العلل من باب قوة اليقين ومن باب الاستزادة من الحكمة ومن معرفة نعم الله عز وجل على عباده، فهذا أمر طيب، لكن لم نتعبد بمعرفة حكم التشريع كلها، بل ليس أصل البحث عن الحكمة مطلوباً شرعاً، لكن الإنسان قد يجد في البحث عن الحكمة أحياناً نوع استزادة من الإيمان أو من تعظيم الله عز وجل.
النوع الثاني: العلم الموجود، وهو ما كان في متناول الإنسان، كاستنباط الأحكام من الأدلة، فهذا في متناول الإنسان، وقد تعبدنا به شرعاً، ومن الواجبات التي يجب أن تقوم به الأمة، وكذلك سائر الأمور الاجتهادية، سواء في علوم الدين أو في علوم الدنيا، فهذا علم موجود وقد تعبدنا بالبحث عنه، ولا تقوم مصالح العباد إلا به، بل لا تؤدى عبادة الله عز وجل على الوجه الشرعي السليم إلا به، فهذا العلم الموجود هو الذي أمرنا بطلبه وتعبدنا به، وهو الذي وردت النصوص بفضله وفضل طالبه، خاصة العلم الشرعي.
وأما قول الشارح: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] ففيه اضطراب في الحقيقة، فالمحقق حينما نصب (جهلنا) ربما اجتهد، وقد أخطأ في نظري؛ لأن العبارة مضطربة، ولا نجزم بأن الجهل هو المنفي هنا، ومع ذلك يمكن أن نلتمس للعبارة معاني: المعنى الأول: أن قوله: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] مرادف لقوله: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها]؛ أي: أن خفاء الحكمة علينا لا يلزم أنها غير موجودة، فحكمة الله موجودة فعلاً، ومعلومة بالضرورة، سواء علمت أو خفيت، وأظن العبارة الثانية مرادفة لها، فالعبارة الثانية: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] معناها أننا إذا جهلنا فلا يلزم من جهلنا عدم الحكمة، وهذا مرادف في المعنى للأول.
المعنى الثاني: أن انتفاء قدرتنا على الحكمة لا يعني أننا لا نقدر على شيء منها أبداً، بمعنى أنا قد نقدر على بعضها، إنما لا ندرك كل الحكمة، بل قد ندرك بعض الحكم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/12)
الأسئلة(54/13)
ثمرة الخلاف في كيفية حصول الميثاق
السؤال
ما هي ثمرة الخلاف في مسألة الميثاق؟ وهل يترتب عليها أحكام عقدية؟
الجواب
الخلاف في العقائد على نوعين: نوع له ثمرة عملية وعلمية، أي: اعتقادية، ونوع ليس له ثمرة عملية، لكن لابد أن يكون له ثمرة اعتقادية، فكل خلاف في العقائد لابد أن يكون له ثمرة عقدية علمية، وقد يكون له ثمرة عملية، فمسألة الميثاق ليس وراءها ثمرة تتعلق بسلوك الناس وأعمالهم في الدنيا، لكنها من أمور العقيدة؛ لأنها تتعلق بالخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الإشارة إلى الميثاق في القرآن وجاء ذكره صراحة في السنة.
إذاً: فهو من أمور الاعتقاد كما صح؛ لأنه من أمور الغيب، ومن هنا نقول: ثمرة الخلاف في مسألة الميثاق هي العلم والاعتقاد.(54/14)
صور الميثاق عند الشيخ حافظ الحكمي
السؤال
ذكر الشيخ الحكمي في معارج القبول نوعاً ثالثاً من صور الميثاق، وهو إرسال الرسل، فهل هذا يدخل في أنواع الميثاق؟ أم هو مسألة أخرى منفصلة؟
الجواب
الشيخ الحكمي رحمه الله ذكر في معارج القبول أنواعاً كثيرة جداً من صور الميثاق في الدنيا، وأشار إلى أن الميثاق له صورتان: صورة تتعلق بوقوعه في الأزل قبل أن تظهر للخلق علامات ودلائل وجود الله عز وجل ودلائل حكمته وتوحيده، وصورة تكون في الدنيا، وصورة ثالثة تكون في الآخرة.
فالشيخ الحكمي عندما ذكر صور الميثاق في الدنيا ذكر منها أشياء كثيرة، ذكر منها الآيات الكونية كالسموات والأرضين وغيرها، وذكر منها الآيات في الأنفس، وذكر منها آيات الفطرة والدلائل العقلية، وذكر منها الدلائل السمعية، وذكر منها إرسال الرسل والحجة التي قامت بهم على الخلق، وذكر صوراً كثيرة لا تكاد تحصى، بمعنى أن الشيخ رحمه الله عدد أنواع الدلائل والبراهين السمعية والعقلية المرئية والمشهودة والمسموعة والمدركة بسائر الحواس، واعتبرها كلها دلائل على الميثاق.(54/15)
معنى الإيمان بالقدر خيره وشره
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، فهل التسليم بالشر كالتسليم بالخير؟
الجواب
التسليم بالشر بمعنى أن الله عز وجل قدره، وأنه كتبه على العباد، وأنه من ضمن المصائب اللي تحدث على العباد حق، ولابد للمؤمن من أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الله عز وجل قدر الخير والشر، بمعنى: علمه وكتبه وشاءه.
لكن للشر جانبان: جانب من حيث تقديره، وآخر من حيث وقوعه، فالمعاصي والمعايب التي تحدث من العباد يحاسب عليها الإنسان، ومع ذلك يؤمن بها إذا وقعت، والإيمان بها لا يعني إقرارها ولا التسليم بها، ولا يعني أيضاً عدم الإنكار، ولا أن تكون حجة للعبد على ربه، ولا على ترك شرع الله، إنما وقوعها من العبد عيب يلام عليه، وتقديرها من الله عز وجل حكمة، فالمهم أن المؤمن يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الله عز وجل قدر الخير والشر.(54/16)
معنى الاستحسان في الأحكام الفرعية وحكمه
السؤال
عارض الفلاسفة شرع الله بعقولهم، فهل سن الأحكام والاستحسان الذي فعله بعض الأئمة يدخل في ذلك؟
الجواب
إذا كان يقصد بالأئمة أئمة الهدى فقهاء الإسلام المقتدى بهم في الدين فلا، فهؤلاء ما وقعوا في شيء من ذلك، وما قالوه في الاستحسان في الفقه ما خرجوا به عن مقتضى النصوص، ولهم في ذلك أدلة، والاستحسان لا يعني معارضة الشرع بالعقل، وإنما يدخل في الأحكام الاجتهادية المستمدة من النصوص الشرعية.
أما في العقيدة فليس هناك شيء اسمه استحسان في العقائد والأصول والقواعد القطعية، إنما الاستحسان الذي قرره أهل الفقه يدخل في الأحكام الاجتهادية، وينبني على الاستنباط من النصوص، فهم لا يستحسنون شيئاً بدون أن يرتبط بنص، إنما الاستحسان يدخل في الترجيح، ويدخل في الاستنباط من النصوص والتفريع على القواعد الشرعية المبنية على النصوص.
فالعلماء يقررون الأحكام الاجتهادية بأصولها كما ذكرت، والاستحسان لا يعنون به ترك الشرع، إنما الاستحسان وجه من وجوه الترجيح، ولا يعد تقديماً للعقل على الشرع، إنما العقل وسيلة لفهم الشرع ووسيلة لفهم النصوص، ولا يمكن أن يستغنى عن العقل في فهم النصوص الشرعية المتعلقة بالأحكام، بل لا يستغنى عن العقل في فهم نصوص العقيدة، لكن نصوص العقيدة يسلم بها تسليماً وتقر على حقائقها التي تفهما العقول السليمة، أما نصوص الأحكام فيجتهد فيها لاستنباط الأحكام الجزئية المتعددة منها، وعلى هذا فالاستحسان لا يعد تقديماً للعقل، إنما هو وسيلة من وسائل الاجتهاد المبنية على النصوص، ولا يعد ذماً، ولا وجه للمقارنة بين الفلاسفة في تفضيلهم العقل على الشرع وبين الفقهاء الذين جعلوا الاستحسان من وسائل الاستنباط وبيان الأحكام.(54/17)
توجيه احتجاج علي وفاطمة بكون أنفسهما بيد الله في نومهما عن الصلاة
السؤال
في الحديث الصحيح: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على علي وفاطمة وهما نائمان فقال: ألا تصليان؟! فقالا: إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أمسكها وإن شاء أطلقها، فتولى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول -يعني: كالغاضب-: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54])، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أليس هذا منهما احتجاجاً بالقدر؟ وكيف توجه الحديث؟
الجواب
بالنسبة لـ علي وفاطمة لم يكن قصدهما الاحتجاج بالقدر، لكن قصدا أن هذا الأمر لم يكن عندهما فيه تفكير سابق، بمعنى أنهما ما عزما على القيام، ولو استيقظا لقاما، لكن ما استيقظا، فذلك الأمر بيد الله.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهما ذلك واعتبره خصومة وجدلاً، لأن علياً وفاطمة في ذلك الوقت ما كانا يجهلان أن ذلك ليس بحجة، وأن المسلم عليه أن يبذل الأسباب ليقوم، فالجواب على الإشكال موجود في الحديث نفسه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ما رضي بهذا الجواب، ولا اعتبر التسليم بالقدر حجة على عدم فعل الخيرات والمسابقة إليها.(54/18)
الموقف من اجتهادات المعتزلة ونحوهم في المسائل الفرعية
السؤال
بعض الطلاب في بعض الكليات ينقلون عن بعض الأساتذة أنه يقول: نحن نأخذ بآراء المعتزلة في الفقه ونوافقهم على ذلك إذا كان ذلك صحيحاً، ولكن لا نوافقهم في العقائد؟
الجواب
هناك قاعدة عامة عند السلف، وهي أن الحق يؤخذ من مصادره من الكتاب والسنة ومن آثار السلف الصالح، وأن هذا الحق قد يوافقه أهل الباطل فيأخذون به، فيؤخذ الحق لا لأنه منهم، لكن لأنه جاء من مصدره الصحيح وهو الكتاب والسنة، فعلى هذا قد يوافق قول أهل السنة قول المعتزلة أو بعض المعتزلة في الأحكام الاجتهادية، ولا يضر ذلك بقول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي أن يؤدي بهم إلى أن يعدلوا عن القول الحق بمجرد أن قاله المعتزلي، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه قد يكون اجتهاد كثير من المعتزلة في الأحكام موافقاً لاجتهاد السلف في مسائل الأحكام في الفقه وأصول الفقه واللغة وغيرها، وموافقتهم لهم لأنهم أخذوا بمصدر صحيح، وهو التلقي عن الكتاب والسنة، وقد يوافقون الحق قدراً، ومع ذلك لا يرد الحق لكونه جاء عن المعتزلة.
إذاً: الصحيح من هذا أنا قد نأخذ بالآراء الصائبة التي جاءت بأدلة صحيحة وإن قال بها المعتزلة، لكن لا نأخذها على أنها عنهم، بل نأخذها على أنها جاءت في الكتاب والسنة.
ثم إن هناك أمراً آخر يجب التنبه له، وهو أنه ما من حق قال به أهل الأهواء إلا وقد سبقهم إليه أهل السنة، وهذه قاعدة، فلا يمكن أن ينفردوا بقول حق، فأهل الأهواء قد يقولون الحق في كثير من الأمور الاجتهادية ويوافقون الحق، فإذا قالوا بالحق ووافقوه فلا يعني أنهم انفردوا به، بل لابد أن يكون موجوداً عند أهل السنة مثله وزيادة.
وهذه قاعدة من تصورها يسلم من مثل هذه الإشكالات، فعلى هذا أظن أن قول هذا الأستاذ صحيح إذا أحسنَّا الظن وأخذنا بالسلامة الأصلية في مشايخنا ومعلمينا، فصحيح أنا قد نوافق القول الحق عند المعتزلة إذا كان قولهم مبنياً على دليل صحيح يوافق ما كان عليه السلف في أمور الأحكام، أما في أمور العقائد فالمعتزلة الأصل فيهم الانحراف والابتداع، ولا تصح موافقة ما هم فيه؛ لأنه مخالفة للحق، إلا في بعض الجزئيات، فإنهم قد يوافقون الحق، وهذا لا يعد اكتشافاً منهم وانفراداً منهم بالحق، إنما هو اتباع اتبعوا به الحق عن قصد أو غير قصد.(54/19)
ذكر بعض ما يطيب به خاطر المصاب من القول
السؤال
ما هو الذي يصح أن يطيب به خاطر من أصيب ببلاء في بدنه أو ماله ونحو ذلك؟
الجواب
قد نقول لمن أصابه كسر: قد يكون هذا الكسر الذي أصابك مانعاً لك من الموت فيما لو لم تصب به، ولكن لا داعي لهذا التفصيل، بل يمكن أن يطيب خاطر من أصيب ببعض المصائب فيقال له: احمد الله على أنه لم تكن المصيبة أعظم من ذلك، وهذا أمر طيب لا بأس به.
فالإنسان يذكر بنعمة الله عز وجل أنه لم تكن المصيبة في دينه أولاً، وهذا من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين، ألا تكون المصائب في دينهم.
فالإنسان يعزى بأنه مهما بلغت المصائب في بدنه فإن ذلك له فيه أجر، وعليه أن يصبر، وأن ذلك لا يساوي شيئاً لو كانت المصيبة في دينه لا قدر الله.
ثم إن المصائب في البدن تتفاوت، وأعظم مصيبة هي الموت، فما كان دون الموت لا مانع من أن يقال لمن أصيب به: يجب أن تحمد الله عز وجل على أنك لم تصب بما هو أعظم من ذلك، وهذا مشروع.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/20)
شرح العقيدة الطحاوية [55]
اللوح والقلم حق ثابت بالكتاب والسنة، فيجب الإيمان بأن الله تعالى كتب بالقلم في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق إلى قيام الساعة، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا يعني هذا التوكل على المكتوب سابقاً وترك العمل، بل لابد من العمل والتقوى والخشية لله تعالى، وليعلم العبد بعد ذلك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف.(55/1)
الإيمان باللوح والقلم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم): قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق لوحاً محفوظاً، من درة بيضاء، صفحاتها ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لفظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل، ويفعل ما يشاؤه)].
هنا قبل أن نبدأ بالشرح أحب أن أنبه إلى أن الكلام عن اللوح والقلم امتداد للحديث عن القدر، وهو يمثل المرتبة الثانية من مراتب القدر؛ فالمرتبة الأولى هي العلم الكامل المطلق لله عز وجل، والمرتبة الثانية هي الكتابة التي وسيلتها القلم، وهناك قلم عام وهو القلم الذي يكتب به في اللوح المحفوظ، وهناك أقلام تعددت تلازم الكتابات، فكل كتابة كتابة فيها أقلام، فالكرام الكاتبون يكتبون بأقلام، والذين يكلفون بالصحف الخاصة لكل إنسان عند نفخ الروح فيه يكتبون بأقلام، والتقدير السنوي الذي يكون ليلة القدر يكتب بأقلام، وهكذا، فهذه الأقلام -والله أعلم- ليست هي القلم الأول الذي يكتب به في اللوح المحفوظ.
فالمهم أن الكتابة هي المرحلة الثانية من مراحل القدر.
قال رحمه الله تعالى: [اللوح المذكور هو الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه، والقلم المذكور هو الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المذكور المقادير، كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)].(55/2)
ذكر الخلاف في القلم والعرش أيهما خلق أولاً
قال رحمه الله تعالى: [واختلف العلماء: هل القلم أول المخلوقات أو العرش؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمذاني، أصحهما: أن العرش قبل القلم؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء).
فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم؛ لحديث عبادة هذا.
ولا يخلو قوله: (أول ما خلق الله القلم) إما أن يكون جملة أو جملتين، فإن كان جملة -وهو الصحيح- كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: (اكتب)، كما في اللفظ: (أولَّ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب) بنصب (أول) و (القلم)، وإن كان جملتين، وهو مروي برفع (أول) و (القلم) فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم، وفي اللفظ الآخر: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب)].(55/3)
أنواع الأقلام
قال رحمه الله تعالى: [فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذي أقسم الله به في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
والقلم الثاني: قلم الوحي: وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم].
هذه العبارة فيها نظر، وأظن أن التعبير فيه نوع من التجوز، فكون أصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم بهذا التعبير فيه نوع من القرب من مصطلحات الصوفية والباطنية الذين يزعمون أن هناك من يدبر الكون مع الله، وكذلك الفلاسفة الذين ينسبون تدبير الكون إلى بعض الأجرام السماوية أو الأرواح أو الملائكة، أو غير ذلك من القوى أو العقول، فجملة (أصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم) ينبغي أن تحرر بأحسن من هذه العبارة.
قال رحمه الله تعالى: [والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي].
هذا المقطع يتعلق بالقدر بعد الحديث عن اللوح والقلم، واللوح والقلم هما من وسائل الكتابة، والكتابة هي المرحلة الثانية من مراحل القدر.
وبعد الحديث عن اللوح والقلم ذكر الطحاوي رحمه الله بعض أمور القدر، وهي عموم الخلق وعموم مشيئة الله عز وجل، وأن الخلق لا يستطيعون أمراً قدره الله عز وجل إلا ما أقدرهم عليه ومكنهم منه.(55/4)
العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير وذكر أنواع الأقلام ومراحل الكتابة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)].
من المعلوم أنه يقصد بذلك ما لم يقدرهم الله عليه، فإن العباد جعل الله لهم شيئاً من القدرة في حدود معينة لا يتعدونها، وما يقدرون عليه لا يخرج عن تقدير الله عز وجل، وما يفعلونه لا يخرج عما كتبه الله عز وجل وسطره في اللوح والقلم.
فقصده: أنه لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله أنه كائن ليخالفوا ما قدره الله ما استطاعوا، لكن ما قدر الله أن يفعلوه فعلوه، وما قدر الله لهم أن يختاروه يكون اختيارهم على ضوء ما اختاره الله لهم، بمعنى: أن لهم إرادة ولهم قدرة، لكنها محدودة ولا تخرج عما قدره الله وأراده.
قال رحمه الله تعالى: [تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما استقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.
والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره: القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.
القلم الثاني: حين خلق آدم عليه السلام، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق أبيهم.
القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة].
ويتصل بالحديث عن الأقلام الحديث عن الكتابة، فكما أن الأقلام أربعة، فكذلك مراحل الكتابة أربع: الأولى: الكتابة العامة، وهي الكتابة بالقلم العام في اللوح المحفوظ.
والكتابة الثانية: الكتابة التي قدرها الله عز وجل وكتبها حين خلق آدم بالقلم الثاني.
والكتابة الثالثة: هي التي يكتب بها الملك ما يقدره الله عز وجل على كل إنسان حينما تنفخ روحه.
والكتابة الرابعة: الكتابة التي تلازم المكلف منذ بلوغه إلى أن يتوفاه الله عز وجل، فعلى هذا تصحب مراحل الكتابة الأقلام، وهناك أمور وسيطة بين هذه المراحل لا شك أنها داخلة في المقادير الأربعة، وداخلة في الأقلام الأربعة وفي مراحل الكتابة الأربع، مثل التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر.(55/5)
ما تقتضيه معرفة العبد أن كل شيء بيد الله من إفراد ربه بالخشية والتقوى
قال رحمه الله تعالى: [وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]، ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة، ولابد لكل عبد أن يتقي أشياء؛ فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً فلابد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته، فحينئذ فلابد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم].
يعني: لا تتفق رغباتهم، فلو أراد إنسان مثلاً أن يرضي الخلق لم يستطع لكنه أمر أن يرضي الله سبحانه، أما الخلق فإنه لا يستطيع أحد أن يرضيهم؛ لأن رغباتهم تتفاوت، بل تتعارض، فإرضاء الناس كلهم لا يمكن، فالناس لا يتفقون على حب شيء ولا على بغض شيء.
قال رحمه الله تعالى: [بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه.
فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور].
هذه قاعدة عظيمة، فإرضاء الخلق لا يقدر عليه ولم يأمر الله به، وكونه لا يقدر عليه، بمعنى: لا يمكن لأحد أن يرضي جميع الناس، فهذا يستحيل، كما أن الله عز وجل لم يأمر بذلك، ومع ذلك فإن هناك من العباد من يسعى إلى إرضاء المخلوقين ولن يستطيع، ولا يسعى إلى إرضاء الله عز وجل ولا يمتثل أمر الله، في حين أن العكس هو الصحيح؛ وهو أن رضى الله عز وجل ممكن بطاعته سبحانه وبتقواه، كما أنه مأمور به، فالعاقل من أدرك هذا وعمل به، نسأل الله التوفيق والسداد للجميع.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مئونة الناس، كما كتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنهما مرفوعاً -وروي موقوفاً عليها-: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً).
فمن أرضى الله كفاه مئونة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون؛ إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وقال في البغض مثل ذلك.
فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل للتقوى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، أي: فهو كافيه لا محوجه إلى غيره].(55/6)
التوكل على مقدر الأمور لا ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب
قال رحمه الله تعالى: [وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب].
يشير بهذا إلى طوائف من العباد والنساك الأوائل، ثم إلى أكثر الصوفية الطرقية في العصور المتأخرة، فإن منهم من يزعم -بل أكثرهم يزعم- أن التوكل ينافي فعل الأسباب، بمعنى: أن الإنسان إذا سعى وحرص على فعل الأسباب نقص توكله، وأن مقتضى التوكل أن يستسلم الإنسان للكسل والخمول ويقعد، وأنه سيأتيه رزقه، نعم قد يأتيه رزقه، لكن بمنة الناس، فالله عز وجل قد كفل الرزق، لكن لا يعني ذلك أن الله عز وجل تعبدنا بترك الأسباب، بل العكس هو الصحيح في كل شيء، ليس فقط فيما يتعلق بتحصيل الرزق وبتحصيل العيش، بل في كل الأسباب التي تهم الناس في دينهم ودنياهم، فالعلم لا يمكن تحصيله إلا بالجهد وبالصبر وببذل الأسباب، والعيش لا يمكن تحصيله على وجه تقوم به أحوال الأمة وشئونها إلا ببذل الأسباب، بل تحقيق ما أمر الله به من إقامة الفرائض والسنن والنوافل وغيرها لا يمكن أن يتأتى للإنسان إلا بالجهد وبذل الأسباب.
إذاً: لابد للعبد أن يجمع بين التوكل على الله عز وجل وبذل الأسباب، وأن يعلم أن من مقتضى التوكل -بل من لوازم التوكل- أن يبذل الإنسان الأسباب المأمور بها شرعاً، لكن لا يجعل الأسباب هي المراد عنده وهي الغاية، ولا يتعلق قلبه بالأسباب، إنما يتعلق قلبه بالله عز وجل الذي أمر بفعل الأسباب، من هنا يكتمل إيمانه ويسدد ويوفق.
قال رحمه الله تعالى: [وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عرف في موضعه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين؛ يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكاس، أو والي شرطة أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر.
وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
وأما قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] قال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء].(55/7)
لزوم التسليم بما يقع من الأقدار لا ينافي الأخذ بأسباب طلب النافع منها وتفادي ما سواه
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه).
هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل: ما قضى الله كائن لا محالة والشقي الجهول من لام حاله والقائل الآخر: اقنع بما ترزق يا ذا الفتى فليس ينسى ربنا نملة إن أقبل الدهر فقم قائماً وإن تولى مدبراً نم له].
يقصد بقوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه) التسليم لأقدار الله بعد وقوعها، لكن لا يعني ذلك عدم الأخذ بأسباب تفادي الأقدار، فإن الأقدار منها ما هو سار ونافع، فيجب على العباد أن يبذلوا الأسباب للحصول على السار النافع وعلى أقدار الخير، ومنها ما هو ضار وشر، فيجب على العباد أن يسعوا إلى بذل الأسباب التي تمنع من الضرر والشر قبل وقوعه، بمعنى أنه لا يشرع للإنسان أن يسلم للأمر قبل وقوعه فيترك بذل الأسباب، بل لابد من بذل الأسباب، فإذا وقعت المقادير بعد بذل الأسباب فلابد من التسليم، فإذا وقعت المقادير على ما يحب العبد؛ فليحمد الله على ذلك وليشكره، وإذا وقعت على غير ما يحب العبد؛ فليعلم أن ذلك من حكمة الله عز وجل وتقديره وخيرته التي اختارها للعبد، وليسلم بهذا، وأن ما أصابه من هذه المقادير لم يكن ليخطئه ما دام قد حصل، فلا يقول: لو أني فعلت كذا لتفاديت هذا السبب أو هذه المصيبة أو هذا الحدث، أو لو أني لم أفعل كذا لحصل كذا، فلا داعي للتحسر على أمر مضى، فإذا وقع المقدور فلا يجوز للإنسان ولا ينبغي له أن يتحسر وأن يندم على أمر لم يفرط فيه، أما إن فرط فليندم على التفريط فقط، وليستأنف تفادي ما حصل في الماضي في الأمور المستقبلة، أما الأمور الماضية فإن ما أخطأ العبد فيها لم يكن ليصيبه ما دام قد أخطأه، وكذلك ما أصابه لم يكن ليخطئه مهما بذل من الأسباب ما دام قد حدث.
إذاً: على العبد أن يسلم بالماضي وأن يسعى في المستقبل إلى ما يصلح أموره في دينه ودنياه على أمر الله وشرعه وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فيبذل الأسباب ولا يقعد عنها، وبعد ذلك يعتمد على الله ويتوكل عليه.(55/8)
شرح العقيدة الطحاوية [56]
من مراتب القدر الإيمان بعلم الله تعالى الأزلي السابق لجميع المخلوقات، فهو سبحانه قد علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة علماً دقيقاً تفصيلياً، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ثم شاء وقدر مقادير الخلائق، ثم خلقهم على ما علم وقدر سبحانه، فتقديره سبحانه مطابق لعلمه الأزلي بكل شيء، ولم ينكر العلم الأزلي إلا غلاة المعتزلة والقدرية، وقالوا بأن الله لم يخلق أفعال العباد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(56/1)
علم الله تعالى وتقديره سابقان لكل المخلوقات
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه)].
في هذه الفقرة أراد الشارح والمؤلف رحمهما الله تعالى أن يقررا أن علم الله سابق لكل شيء، وأن علم الله سابق يشمل جميع أفعال العباد، وكذلك التقدير، فالعلم والتقدير في كل ما يحدث في هذا الكون سابقان من الله عز وجل، فلا يحدث إلا ما علمه الله عز وجل، ولا يحدث إلا ما قدره الله عز وجل.
وأراد بهذه الفقرة أن يرد على شبهة القائلين بأن أفعال البشر كلها أو بعضها ليست مقدورة لله عز وجل ولا معلومة له إلا بعد حدوثها.
وقال: [وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل] فالإشارة إلى غلاة المعتزلة، يعني: أنه ليس كل المعتزلة يقولون ذلك، وهذا صحيح، فغلاتهم ينكرون علم الله في الأزل، يعني: علم الله السابق مطلقاً، ويقولون: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوها، وبعضهم يقول بأن الله لا يعلم أفعال الشر من العباد حتى يفعلوها، إنما يعلم أفعال الخير ويقدرها، وبعضهم يثبت العلم، لكنه ينكر التقدير، يقول بأن الله علم ما سيفعله العباد، لكنه لم يقدره، وكذلك اختلافهم في التقدير كاختلافهم في العلم؛ فمنهم من ينفي تقدير أفعال العباد مطلقاً من قبل الله عز وجل، ومنهم من ينفي تقدير أفعال الشر فقط.
وهؤلاء كلهم الرد عليهم واحد، ويتلخص في قول الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، يعني: خذوهم في مسألة الإقرار بالعلم، يعني: سلوهم عن العلم، أي: علم الله عز وجل، فإن أقروا به، أي: أقروا بأن الله عالم بكل شيء خصموا، بمعنى: انقطعت حجتهم، فلا يعقل أن الله عز وجل يعلم شيئاً ولا يقدره، وإن أنكروا العلم كفروا؛ لأن من أنكر العلم ادعى أنه يقع في ملك الله ما لا يعلمه الله، وهذا لا يعقل ولا يليق ولا يمكن، بل يستحيل أن يقع في ملك الله عز وجل -وهو المدبر الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية- ما لا يعلمه.
إذاً: فهم بهذا يخصمون على الوجهين.(56/2)
الرد على شبهة قدرة العبد على تغيير علم الله بفعله ما لا يريده الله شرعاً
ثم عرض الشارح لشبهة قالها بعض المتحذلقة، وهو قولهم: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان يمكن أن يفعل ما لا يريده الله شرعاً فهذا يعني أن العبد قادر على تغيير علم الله، فكأنهم يزعمون أن الله لا يدري هل يفعل هذا أو ذاك، فإذا فعل ما لا يريده الله -أي: لم يشرعه الله- تجدد لله علم بأن هذا العبد فعل الشر الذي لا يريده الله منه! وذلك كله ناتج عن قصور فهمهم للقدر.
فيقال لهم: هذه مغالطة؛ لأن مجرد قدرة العبد على الفعل لا تستلزم تغير العلم وتغييره بالنسبة لله عز وجل، فكون الله عز وجل أقدر العباد على الفعل والترك لا يعني أنه بفعلهم أو تركهم يتجدد له شيء، فالله سبحانه كما أنه أقدر العبد على أن يفعل وأقدره على أن يترك هو عز وجل عالم بأنه سيفعل أو سيترك، فإن فعل العبد ما يأمر الله به فإن الله عالم سلفاً بأن العبد سيفعله، وإذا لم يفعل العبد ما يأمره الله به؛ فإن الله عالم سلفاً بأن العبد لن يفعل ذلك، ومن هنا كان التقدير السابق في الشقاوة والسعادة مبنياً على علم الله السابق وحكمته ومشيئته.
إذاً: مجرد قدرة العباد على الفعل أو على الترك لا يلزم منها أن يتغير لله علم.(56/3)
الإيمان بالقدر من عقد الإيمان وأن القدرية مجوس هذه الأمة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]): الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يا عمر! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم.
وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته)، أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن.
روى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال).
وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم).
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية).
لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوف منها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابه مقادير الخلق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر].
أحاديث القدرية لا تصح، وقد ترقى بمجموعها إلى درجة الحسن، ومع ذلك فإن الحكم بأن القدرية هم مجوس هذه الأمة حكم قاطع، بصرف النظر عن ثبوت الأحاديث؛ لأن السلف أجمعوا على أن القدرية مجوس هذه الأمة، وذلك لأنهم عرفوا أن قول القدرية هو قول المجوس، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح المتفق عليه بأن هناك طوائف من هذه الأمة تتبع سنن السابقين: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، في بعض الروايات في البخاري: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وفي بعض الروايات أيضاً وصف هذه المشابهة بوصف يدل على الاحتذاء، فقوله: (حذو القذة بالقذة)، أي: السهم الذي يخرج من القوس أو غيره يحذو السهم الذي سبقه مباشرة، بمعنى: لا يزيد عنه ولا ينقص، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، دل على أن المشابهة حرفية، وأن المشابهة مشابهة مطابقة، وعلى هذا فإن القدرية قالوا بقول المجوس، وقول المجوس مبني على أن الشر لم يكن من خلق الله عز وجل ولا من تقديره، وأن الشر ليس بعلم الله، فمن هنا أثبتوا خالقاً مع الله عز وجل زعموا أنه إله الشر، وقد اختلفوا في خالق الشر هل هو مخلوق لله أو هو أزلي؛ فمنهم من قال: إنه مخلوق لله، لكنه خالق للشر، ومنهم من قال: هو أزلي، فزعموا أن للخلق خالقين.
وهذه المقولة انتشرت بين كثير من الأمم عن المجوسية؛ لأن المجوسية من أقدم الديانات، فانتقل قولها إلى النصارى وإلى طوائف من اليهود وإلى غيرهم، ثم عن المجوس وعن النصارى وعن اليهود انتقلت هذه المقولة إلى طوائف من هذه الأمة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طوائف من هذه الأمة ستتبع سنن السابقين، فالقدرية اتبعوا سنن من سبقهم، وقولهم في القدر هو قول المجوس.
إذاً: فالنتيجة أن القدرية هم مجوس هذه الأمة، سواء ثبتت هذه الأحاديث أو لم تثبت، والسلف اتفقوا على ذلك.(56/4)
تكذيب القدرية بقدرة الله تعالى على كل شيء
قال رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة؛ حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.
والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر لما قيل له: يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء].
يعني: أنهم جعلوا من أفعال العباد ما لا يقدره عليه الله عز وجل وتعالى عما يقولون، أو أنهم أيضاً عمموا ذلك حتى في العلم، فقالوا بأنه لم يعلمه ولم يقدره.
فالمهم أن جملة القدرية يكذبون بتقدير الله تعالى لكل شيء، ويزعمون أن الله لا يقدر بعض أفعال العباد على درجات بينهم.(56/5)
ما يتضمنه التقدير المطابق للعلم
قال رحمه الله تعالى: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فالخلق يتضمن التقدير؛ تقدير الشيء في نفسه بأن يُجعَل له قدرٌ، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات].
الإشارة إلى العلم هنا ينبغي التنبيه على أنها ليس لها مفهوم، وأعني بذلك أن السلف حينما عبروا بوصف القديم في علم الله وفي سائر صفاته لا يقصدون بذلك أن هناك قديماً وجديداً في علم الله، فعلم الله عز وجل كله أزلي ولا يتجدد لله علم، إنما قصدهم بالقديم: أن علم الله أزلي لا بداية له، أي: لم يحدث لله علم، ولم يتجدد لله علم، فعلم الله كامل قبل وجود المعلومات.
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلِم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً؛ فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلِم عباده بذلك فكيف لا يعلمُه هو؟! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.
الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه].
هنا تنبيه مهم أشار إليه الشارح، وهو مسألة الدليل على أن الله عز وجل عليم بكل شيء، ومن جملة ذلك أفعال الشر من العباد، لا كما تزعم القدرية والمعتزلة وغيرهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء من أفعال الشر من العباد تقع في المستقبل أعلمه الله بها، وهم يقرون بهذه الأخبار، فإقرارهم بها حجة عليهم، فالله عز وجل أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من الأخبار المغيبة التي هي من أفعال الشر من العباد، كإخباره صلى الله عليه وسلم في قصة ذي الخويصرة: أنه سيخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يفعلون كذا وكذا من أمور الشر والبدع، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الدجال وما يحدث منه وما يحدث له، والشرور التي تحدث على يديه والمصائب، وأخباره صلى الله عليه وسلم بالفتن والشرور التي تحدث من أفراد العباد أو من مجموعاتهم، فهذه شرور يفعلها العباد، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئاً من الغيب إلا ما أعلمه الله به.
فالله عز وجل أعلم وأخبر بعض عباده بأشياء من أفعال الشر التي يفعلها العباد، والمعتزلة وغيرهم ممن ينكرون علم الله بأفعال الشر وتقديره لها يقرون بصحة هذه الأخبار، ففي ذلك رد عليهم.(56/6)
شرح العقيدة الطحاوية [57]
باب القدر باب عظيم، يجب التسليم فيه بما ورد في النصوص، وترك التعرض له بهوى أو شبهة؛ فإن هذا مزلق كبير ومرض خطير يصيب القلوب، فمن طعن في القدر بشبهة أو نحوها فإن ذلك يعد طعناً في ربوبية الله وإلهيته وحكمته؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وأفعاله، والطعن والقدح فيه قدح في المقدِّر وهو الله سبحانه، ولذا كان الواجب هو التسليم وعدم الخوض أو المجادلة أو معارضة ذلك بشيء من الهوى والشبهات.(57/1)
مرض القلوب وميزان معرفته
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فويل لمن ضاع له في قدر قلباً سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً): القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان؛ فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت؛ فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر.
وكذلك القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك، بحسب قوة المرض وضعفه].
هذا ميزان صحيح، وينبغي لكل مسلم أن يعرض حاله على هذا الميزان دائماً وفي كل وقت، بمعنى: أن يستعرض قوة إيمانه ويحاسب نفسه بمثل هذا الميزان لينظر مدى ما في قلبه من حب الخير وأهل الخير؛ ومدى ما في قلبه من حب الإسلام والمسلمين ونصرة الحق والمعروف وبذله، ومدى ما في قلبه من غيرة على الحق، وولاء للمؤمنين، ونحو ذلك، فقد يقوى الدافع ويقوى القلب بهذا الأمر وقد يضعف، وقد ينعدم الإحساس نسأل الله السلامة، أما معدوم الإحساس فإنه -إن شاء الله- لا يكون في أهل العلم وأهل الخير والمنتسبين للحق وأهله، لكن الكلام على ضعف الإحساس؛ فإن ضعف الإحساس دليل على ضعف الإيمان، ويجب على كل مسلم أن يختبر نفسه بين وقت وآخر بهذا الميزان، ليعلم مدى شعور قلبه بالأمور الإيمانية، وبحب الحق وأهل الحق وبالولاء للحق وأهله، ومدى ما في قلبه من غيرة ومن شعور بما يجري للإسلام والمسلمين، وليعلم ما يجد في قلبه مما يجري من أمور تعارض الحق والإسلام، ومن أمور المنكرات وأمور الشرور والمصائب التي تجلب الفتن، فإن كان القلب يتحرك بذلك ففيه إيمان، وإن كان تحركه أقوى؛ فهذا دليل على قوة الإيمان، وإن كان القلب يتمعر ويتأثر ويعظم إحساسه بهذه الأمور فهذا -إن شاء الله- دليل على الاستقامة.
فالمهم أن هذا الميزان ميزان حق، ويجب على المسلم أن يستعرض أحواله ويستعرض أعماله وإحساسه وخواطره وعواطفه بهذا الميزان.(57/2)
مرض القلوب بالشبهات والشهوات
قال رحمه الله تعالى: [ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأردؤهما مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، و: ما لجرح بميت إيلام.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى؛ وذلك أصعب شيء على النفس، وليس له أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولاسيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم.
فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة؛ فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعتهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا].(57/3)
العدول عن الأغذية النافعة إلى الضارة علامة مرض القلب
قال رحمه الله تعالى: [وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة له إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار.
فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك].
قصده هنا بالغذاء النافع الهدى والإيمان، والدواء الشافي: هو الوحي والقرآن، والغذاء الضار والدواء الضار ضد هذين الأمرين.
إذاً: فأعظم غذاء للقلوب هو الهدى والإيمان الذي يستقر في القلوب، واليقين والتقوى، وأعظم الدواء الذي يستشفي به الناس هو كتاب الله عز وجل وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والمتمثل في الوحي، خاصة القرآن، فهو شفاء لما في الصدور، شفاء للقلوب في أمراضها القلبية، وشفاء للأبدان في أمراضها الحسية.
قال رحمه الله تعالى: [فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، و (من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سراً مكتوماً؛ إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] إلى آخر السورة.
وقوله: (وعاد بما قال فيه)، أي: في القدر: (أفاكاً): كذاباً، (أثيماً): أي مأثوماً].(57/4)
أعظم الشبهات في القدر
أحب أن أشير إلى مسألة سبقت قريباً، وهي إشارة الشارح إلى أن القدر هو أعظم ما يرد من إشكالات على الناس، يقول: إن أعظم الشبه الشبه في القدر، ومرض الشبهة في القدر هو أعظم هذه الأمراض، ويقصد بذلك أن الشبهة في القدر طعن في ربوبية الله عز وجل وإلهيته وحكمته؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وتقديره وحكمته في عباده أو في خلقه، فمن شك في القدر أو نازع فيه أو أثار فيه المشكلات أو اعترض على شيء منه؛ فلابد أن ينعكس ذلك بالضرورة بالشك في المقدر وهو الله سبحانه، فمن شك في القدر أو خاض فيه أو أثار حوله الشبهات فلابد أن يطعن في علم الله عز وجل وفي تقديره وفي حكمته سبحانه، ومن ثم في أفعاله وفي صفاته وأسمائه؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وأفعاله، فمن هنا كان أعظم أمراض القلوب هو القول في القدر، وهو المدخل إلى كثير من الأهواء، فلذا يجب أن يتجنب المسلم -خاصة طالب العلم- الخوض في القدر، وألا يعدو النصوص، حتى وإن وردت أسئلة في القدر يجب أن يتحاشاها طالب العلم، ويتحاشى الكلام فيها إلا بالقدر الضروري، كأن يأتي إنسان مريض بالشبهة فعلاً ويخشى عليه، فهذا يجاب بما ورد في آيات الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأعتقد أنه لن يجد طالب العلم جواباً في القدر أكثر مما جاء في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يرد سؤال أو إشكال في القدر إلا وجوابه في النصوص، فلذلك يجب على طالب العلم أن يتعود على أن يلتزم النصوص في الكلام في القدر، فإن في القدر محارات تتورط فيها العقول، وربما تسرح فيها الأوهام إلى ما لا نهاية.
إذاً: ينبغي لطلاب العلم أن يعودوا الناس التزام القواعد في القدر، وأن يعلموهم القواعد العامة الإجمالية التي تثبت الإيمان بالقدر دون الدخول في التفاصيل، وأن يعودوهم على ألا يسألوا في القدر، وأن يعودوهم الطريقة الشرعية فيما إذا وردت على حواسهم وعلى خواطرهم إشكالات في القدر، وهي أن يعودوا إلى أصل التسليم وتعظيم الله عز وجل، واستحضار معاني أسمائه وصفاته وحكمته؛ فإن من فعل ذلك لابد أن يشفى -بإذن الله- مما يجد من إشكالات في القدر، فمن وجد إشكالاً في القدر فعليه أن يعود إلى تعظيم الله عز وجل وتقدريه حق قدره، وأن يعلم بعض معاني أفعال الله وأسمائه وصفاته؛ فإنه بذلك -إن شاء الله- يستقر إيمانه ولا يحتاج إلى شيء من المغالطات والحجج العقلية، فإن من لجأ إلى ذلك قد لا يوفق ولا يسدد.
فالجواب عن القدر مقتصر على مسائل لا تخرج عن مجالس أهل العلم، وقد يضطر طالب العلم لكشف شبهة أمام الناس، فيضطر في حالات نادرة جداً أن يفصل أموراً عقلية تؤكد معاني ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الاستثناء أظنه نادر الوقوع، فلا ينبغي أن يؤثر على الأصل.(57/5)
شرح العقيدة الطحاوية [58]
العرش والكرسي ثابتان لله تعالى بالكتاب والسنة، فيجب إثباتهما والإيمان بهما كما ورد في النصوص، ولا يجوز تأويلهما بأي شيء آخر، بل هما حقيقيان، معناهما معلوم غير مجهول، فالعرش هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو سقف المخلوقات، والكرسي قيل: هو موضع القدمين، وقيل: هو بين يدي العرش كالمرقاة إليه، وقيل غير ذلك، فيجب الإيمان بذلك على حقيقته كما يليق بالله جل جلاله.(58/1)
إثبات العرش والكرسي
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والعرش والكرسي حق).
كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في غير ما آية من القرآن، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75].
وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم)، وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء) ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه، مثل القبة) الحديث.
وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن).
يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟)].(58/2)
بيان معنى العرش
قال رحمه الله تعالى: [والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريراً شرجعاً لا يناله بصر الع ين ترى حوله الملائك صوراً الصور هنا: جمع أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع: هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة.
وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ورواه ابن أبي حاتم، ولفظه: (مخفق الطير سبعمائة عام).
وأما من حرف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]؟! أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء؟! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!].(58/3)
بيان معنى الكرسي
قال رحمه الله تعالى: [وأما الكرسي فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه -وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى.
وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش.
وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض).
وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش.
وإنما هو -كما قال غير واحد من السلف-: بين يدي العرش كالمرقاة إليه].
ما روي عن ابن عباس من تأويل الكرسي بالعلم يتعارض مع ما ثبت عن ابن عباس أيضاً من تفسير الكرسي بموضع القدمين، وإذا أخذنا بقواعد التعارض عند السلف فإن هذا القول الأخير لا يحمل عليه تفسير معنى الكرسي، وإنما يكون -إن ثبت- إما تفسيراً باللوازم، وإما تفسيراً بالظن، والنصوص قد تضافرت على أن الكرسي مفسر بأن له حقيقة، وتأويله بالعلم لا يستقيم؛ لأنه وردت في ذلك النصوص متضافرة على أن الكرسي له وجود حقيقي، فإذا ثبتت الرواية عن ابن عباس بهذا وذاك، فالتعارض بين التفسيرين محمول على أن تفسير الكرسي بالعلم من باب التفسير باللوازم أو نحو ذلك من وجوه الجمع التي قال بها السلف.(58/4)
بيان أن للعرش والكرسي حقيقة
وجملة ما سبق فيما يتعلق بإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الكرسي أمر ثابت بالنصوص المتواترة، والشارح رحمه الله أورد حشداً من النصوص وأورد الأشعار والأدلة الأخرى وبعض أقوال أهل العلم كذلك؛ لرد أقوال أهل الكلام الذين تبعوا الفلاسفة فأنكروا الكرسي والعرش أو أولوهما، ولا شك أن المؤول ليس معه أي دليل على التأويل، والنصوص -سواء الآيات والأحاديث الثابتة- كلها تجتمع على ضرورة القول بأن الكرسي والعرش لهما حقيقة، وتأويلهما بأمور معنوية -سواء بالملك أو العلم أو غير ذلك مما ذكره المؤولون- لا يصح، إلا إذا كان من باب التفسير باللوازم، يعني: التفسير ببعض المقتضيات، وأعني بذلك أنه قد يصح أن نقول: من لوازم الإيمان بالعرش أو الإيمان بالكرسي الإيمان بعلم الله عز وجل، وبفوقيته، وبأنه بكل شيء محيط، وبعلوه سبحانه، فهذا من اللوازم الضرورية، وكذلك الإيمان بالملك وأن الله مالك كل شيء إلى غير ذلك من المعاني التي تلزم من إثبات العرش والكرسي.
إذاً: فما قد يرد عن بعض السلف من كلمات تفهم التأويل -كما ورد عن ابن عباس - هو من باب التفسير باللوازم، لا تأويل الحقيقة؛ فإن السلف يؤمنون بحقائق أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وسائر الأمور الغيبية التي منها العرش والكرسي.
إذاً: فهذه النصوص -كما ترون- متواترة على أن العرش والكرسي لهما وجود حقيقي، وتفسيرهما بأمور معنوية لا يصح أبداً وليس عليه أي دليل.(58/5)
الأسئلة(58/6)
إثبات الصفات بأحاديث الآحاد
السؤال
هل نثبت صفة لله وردت في حديث آحاد؟
الجواب
إذا ثبت الحديث بسند صحيح فإنه يثبت مضمونه حتى وإن تضمن صفة، فلا يلزم في إثبات صفات الله التواتر، مع أن أكثر الصفات التي ثبتت لم ترد في حديث آحاد، والقليل جداً الذي ثبت في حديث آحاد يستقيم مع قواعد وأصول إثبات الصفات لله عز وجل.(58/7)
شرح العقيدة الطحاوية [59]
من صفات الله تعالى أنه مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله، لا عن حاجة إلى العرش أو غيره، فهو سبحانه غني عن العرش وما دونه، ويلزم من ذلك إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى، فهو سبحانه فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.(59/1)
الرد على مؤولي الاستواء بإثبات غنى الله عز وجل عن مخلوقاته
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه).
أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه)؛ فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته].
هذا من البدهيات، لكن السلف لما ظهرت الأهواء وظهر التأويل والتعطيل صاروا يقررون البدهيات ويحشدون لها الأدلة؛ لدفع شبه أهل الأهواء؛ ذلك أن أهل التعطيل وأهل التأويل الذين أنكروا استواء الله على عرشه وأولوا الاستواء وأولوا العرش وأولوا الكرسي؛ مستندهم في ذلك توهم يزعمون أنه شبهة، وهو زعمهم بأن الله عز وجل إذا كان مستوياً على عرشه فهذا يعني أنه محتاج له، فبين المؤلف -كما هو معلوم عقلاً وشرعاً- أن الله عز وجل لا يلزم من كونه مستوياً على عرشه أنه محتاج إلى العرش، بل هو سبحانه غني عن العالمين، وغني عن العرش، وكونه له كرسي لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون للكرسي كيفية كالمعهود عند البشر، ولا يعني أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فأثبت الغنى ليبين أن إثبات هذه الأمور على حقيقتها واجب شرعاً مع الجزم بأن الله عز وجل مستغن عنها، وأنه لا يلزم من إثبات هذه الأمور الحاجة إليها، لا سيما أنا نجد أن من أول ما ورد على المسلمين في تأويل أفعال الله وصفاته مسألة الاستواء، بل يذكر أن أول من أول الاستواء هو غيلان الدمشقي، فعلى هذا يكون قبل ظهور المؤولة الجهمية والمعتزلة، ومن هنا انفتح باب التأويل في جميع أفعال الله وصفاته، ثم شمل الأسماء.
إذاً: فإثبات الكرسي وإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الاستواء لله سبحانه لا يعني ذلك أبداً أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فهو سبحانه الغني، ولا حاجة به إلى أحد من خلقه، وهذه الأمور التي ذكرها الله عز وجل من مخلوقاته لابد من إثباتها كما جاءت من غير تأويل، وما ينقدح في الذهن من شبهات أخرى تتعلق بالحاجة ونحوها؛ كل ذلك منفي قطعاً بدلالة العقل السليم والفطرة، وقبل ذلك بدلالة الشرع.
قال رحمه الله تعالى: [وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً محيطا به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل].(59/2)
معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم
قال رحمه الله تعالى: [والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: (معلوم) من الأمور التي تشتبه على بعض الناس، فكثيراً ما ترد فيه الأسئلة: ما معنى كونه معلوماً؟ وهذه قاعدة في كل أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وفي كل أمور الغيب، فهذه القاعدة تشمل حتى أمور الغيب التي لا تتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته، كأمور الغيب التي تتعلق بالمخلوقات في أحوال القيامة، وفي أحوال الملائكة والجن، وأحوال السماوات والأرض، وغيرها من الأمور الغيبة التي لا تدركها حواس البشر، فإنها كلها تحكمها هذه القاعدة، فلو أن أحداً سأل عن الصراط: كيف الصراط؟ فإنا نقول له: الصراط معلوم، والكيف مجهول، وخبر الله عز وجل حق وصدق.
وأما قولنا: (معلوم) فيعني: أن حقيقته مدركة في الأذهان عند الإطلاق، أما الكيفية التي تتعلق بالشكل واللون والحجم والعدد ونحو ذلك؛ فهذه أمور لا تدركها العقول؛ لأنها لا تعرف إلا بالحواس، وكل الأمور الغيبية لا يمكن أن تدرك بالحواس، فأي أمر من الأمور الغيبية نقول: إنه معلوم، سواء في أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو في سائر أمور الغيب، فكلما جاءنا أمر من الأمور الغيبية نقول عنه: الأمر الفلاني الذي ذكره الله عز وجل معلوم، يعني: له حقيقة تليق به على ما خلقه الله عز وجل عليه، أو على ما أراد الله له، أو على ما كان في تقدير الله عز وجل إذا كان من الأمور الخبرية الغيبية، أما إذا كان في أسماء الله وصفاته؛ فنقول: الأمر الفلاني معلوم على الحقيقة على ما يليق بجلال الله.
إذاً: فكلمة معلوم معناها أن اللفظ له وجود فعلي يليق به، أما الكيف فهو يتعلق بالحجم والشكل واللون والخصائص التي تدرك بالأبصار وتدرك بسائر الحواس، فهذه أمور لا شك في أنها مجهولة، وهي المقصودة بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، بمعنى: أنه لا يمكن أن نتخيل له مثلاً، وما نتخيله أوهام يجب أن ننفيها عن الله، وإلا فلابد لكل من سمع شيئاً من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن يتخيل، فإذا تخيل فليعلم أن هذا الخيال إنما هو أمثال تضرب، لكنها ليست هي الكيفية.
إذاً: فالحقيقة تثبت في كل أمر غيبي، وكل ما أخبر الله به له حقيقة؛ نقول هذا لأن أغلب المؤولة قالوا: الألفاظ التي وردت في أخبار الله تعالى أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم إنما تنطبق على معانٍ مجردة ليس لها وجود فعلي، أي: إنما هي أمور معنوية، فالاستواء المقصود به: الهيمنة والملك، وهذا عدول عن مراد الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالهيمنة والملك بألفاظ أخرى، فيأتي هذا الوصف وله معنى أخص، لاسيما أن هذا الوصف قد قيد بمعان تدل على أن المقصود به حقيقة وجودية لا ذهنية معنوية.
فلابد إذاً أن تقال هذه القاعدة في كل شيء، فكل غيب معلوم، أي: له حقيقة وجودية، وله كيفية لا نعلمها، فنؤمن بالحقيقة ونتوقف في الخوض في الكيفية.(59/3)
إثبات إحاطة الله تعالى بكل شيء وفوقيته تعالى على كل شيء
قال رحمه الله تعالى: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه)، وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه)، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش.
وهذا-والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: (محيط بكل شيء فوق العرش) -والحالة هذه- معنى؛ إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو، ويكون المعنى أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.
أما كونه محيطاً بكل شيء فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20]، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54]، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126]، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).
ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته، أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟! فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى: (فقال له أبو رزين: كيف يسعنا -يا رسول الله- وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء؛ فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال].
هذا في جميع أفعال الله وصفاته يستصحب، بمعنى أنَّ عظمة الله عز وجل أكبر من أن يتصورها المتصورون، فلذلك إذا تكلم الناس عن أفعال الله وصفاته يجب أن يتورعوا عن التحديد أو عن استبعاد بعض المعاني؛ لأن المخلوقات أكبر شيء منها لا يساوي شيئاً أمام ذات الله عز وجل، فلذلك لا ينبغي أن يتحكم الناس فيما يتعلق بأفعال الله وصفاته.
وضرب الشيخ رحمه الله مثلاً لذلك يتعلق باللزوم والقرب، فكثير من الذين أولوا النزول يستبعدونه؛ لأنهم تصوروا النزول على نحو ما يعرفونه في الخلق، في حين أنهم لو قدروا الله حق قدره في أذهانهم وفي قلوبهم ما استبعدوا شيئاً من ذلك في أفعال الله عز وجل، فإن دنو الله من خلقه ونزوله إلى سماء الدنيا أمر يعقل في العقول السلمية؛ لأنه أخبر به الله عز وجل، والله سبحانه لا يعجزه شيء، وهو فعال لما يريد، وفعله ليس كفعل خلقه، وكل ذلك أمر متعلق بعظمته سبحانه، فمن التعظيم لله عز وجل أن نؤمن بما ذكره عن نفسه من أفعاله، كالنزول والدنو والقبض والبطش ونحو ذلك من الأمور التي هي دليل الكمال؛ لأن من نفاها لابد له من أن يصف الله بشيء من العجز، لاسيما أن الله أثبت لنفسه هذا الكمال، وإن كان لا يعلم على جهة التفصيل إلا بالخبر، لكن على جهة الإجمال تدرك العقول أنه العظيم سبحانه، وأنه بكل شيء محيط، ولا يعجزه شيء، ولا تساوي المخلوقات أمامه شيئاً، وأنه يفعل هذه الأمور بقدرته، وما دام أخبر بها عن نفسه فهي حقيقة على ما يليق بجلال الله، فلهذه الأفعال وجود حقيقي، لكن لا ندرك الكيفية.(59/4)
أدلة إثبات فوقية الله تعالى على خلقه
قال رحمه الله تعالى: [وأما كونه فوق المخلوقات فقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18].
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله).
وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك وضحك منه، وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهمو يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره.
وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم.
ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه).
وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).
والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي: يعلوه].
من معاني الظهور العلو، أما حصر الظهور في العلو فلا أظنه مقصود الشارح، إنما قصد أنَّ من معاني الظهور هنا العلو، وإلا فالظهور أشمل من العلو، فالعلو من لوازم الظهور.
قال رحمه الله تعالى: [فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه.
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس ونهكت الأموال -أو هلكت- فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته -وقال بأصابعه مثل القبة- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب).
وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات)، وهو حديث صحيح أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين.
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وعن عمر رضي الله عنه: أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟! فقال: ويلك! أتدري من هذه؟! هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] أخرجه الدارمي.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال: ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم.
ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.
ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك؛ فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات -مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم- لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو(59/5)
وجه إنكار أهل الكلام علو الله تعالى وفوقيته على خلقه
سيفصل الشارح في إثبات العلو والفوقية لله عز وجل، وكل ذلك رد على المؤولة، لاسيما أن إنكار الفوقية الذاتية لله عز وجل والعلو مما وقع فيه طوائف من أهل العلم من المنتسبين للحديث والفقه وغيرهم، خاصة من الأشاعرة والماتريدية، فإن من أعظم ما تابعوا فيه الجهمية موضوع العلو والفوقية، وهذا أمر جعل السلف يحشدون له كثيراً من المؤلفات والأقوال والمناظرات؛ لأنه مما عمت به البلوى وانخدع به كثير من عامة المسلمين؛ لأنه قال به بعض المنتسبين للعلم والمنتسبين للسنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وإنما أنكر أهل الكلام العلو قياساً على عموم المخلوقات، فقالوا: لا يمكن أن تكون الفوقية إلا في جهة، والذي في جهة لا بد أن يكون مقابلاً، والمقابل يلزم من مقابلته حدود ومسافة إلى آخره.
فهو يلزمهم بإلزامهم، يقول: على قولكم: إنه لا يمكن أن يكون فوق فلابد من أن يكون في ضد الفوق، وإذا نفيتم ضد الفوق فإن الذي لا يوجد فوق ولا في غير فوق يكون معدوماً.
فهو أراد أن يلزمهم بلوازم عقلية، وإلا فإن أهل السنة لا يحتاجون إلى هذا الرأي ولا يقولون به؛ لأن مسألة الفوق والسفل لا تحكم غير المخلوقات ولا شك، لكن نظراً لأنهم أخضعوا أفعال الخالق سبحانه عز وجل وقاسوها بأفعال المخلوقين، وقاسوا صفات الخالق بصفات المخلوقين فقالوا بإنكار العلو والفوقية؛ لأنه يلزم منها بزعمهم وجود الذات، ووجود الذات حقيقة لكنهم لا يريدون إثبات وجود الذات، وأما إذا لزم إثبات وجود الذات لزم إثبات لوازم الذات من الكم والكيف والحدود والمسافة إلى آخره، فكل هذا أخذوه من باب قياس المخلوقات، فهو أراد أن يلزمهم بكل شيء، وأكثر المسائل التي ستأتي في الرد التفصيلي في الدرس اللاحق -إن شاء الله- كلها من هذا الباب، من باب الإلزام العقلي على قواعدهم العقلية، وإلا فالناس الذين هم على الفطرة تكفيهم براهين القرآن، وهي براهين عقلية قاطعة، إضافة إلى أنها خبر عن الله عز وجل لا يقبل الجدل.(59/6)
الأسئلة(59/7)
نظرة في تضعيف محقق الطحاوية لبعض الأحاديث
السؤال
ما صحة تضعيف المحقق لما ضعفه من الأحاديث؟
الجواب
ليس كل ما ذكر المحقق أنه ضعيف وافق فيه الصواب، فبعض الأحاديث التي قال فيها المحقق: إنها ضعيفة لا أدري هل أهمل بعض الطرق التي قال بعض الأئمة: إنها صحيحة، أم أنه حكم على السند الموجود؟ فبعض الأحاديث التي ذكر أنها ضعيفة ليست ضعيفة، ولها طرق أخرى صحيحة، ولها شواهد، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب صحيح التوحيد وصفة الرب لـ ابن خزيمة، فحديث الأطيط وحديث الأوعال ونحوهما ذكرها ابن خزيمة تفصيلاً وذكر طرقها والروايات فيها.(59/8)
حكم قول الداعي: (يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون)
السؤال
في دعاء القنوت يقول بعض الأئمة: يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون، فما صحة هذه العبارة؟
الجواب
هذه العبارة لا ينبغي أن تتلى، فإذا كان المقصود ما ذكره أهل العلم، وهو امتناع الرؤية في الدنيا؛ فهذا صحيح، لكن العوام قد يفهمون إنكار الرؤية مطلقاً، في حين أن الله عز وجل تراه عيون المؤمنين يوم القيامة بالأبصار، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
وكذلك قوله: (لا يصفه الواصفون) ليس بحق على الإطلاق، فالواصفون يصفونه بما وصف به نفسه، والعقول السليمة والفطر السليمة تصف الله عز وجل بالكمال، وتصفه إجمالاً، وتصفه تفصيلاً بكل ما ورد في الكتاب والسنة، فهذه العبارات قد تكون من أدعية المتكلمين أو شبيهة بأدعية المتكلمين، فالأولى اجتنابها.(59/9)
شرح العقيدة الطحاوية [60]
علو الله تعالى على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وما يدعيه نفاة العلو من أدلة عقلية أو نظرية تناقض أدلة الإثبات هي في حقيقتها أدلة في خيالاتهم لا أثر لها في الواقع والحس، مع أن شهادة النصوص المتضافرة على إثبات العلو مما يدعم الأدلة العقلية الواقعية التي لا يدفعها إلا مكابر أو جاهل.(60/1)
الردود على منكري الفوقية(60/2)
الردود العقلية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب].
قولهم: (لا نسلم أنه قابل للفوقية) هذا قول أهل الكلام الفلاسفة والجهمية وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين الذين سايروا الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، كـ الرازي والجويني في أول أمره، فهؤلاء ينكرون الفوقية لله عز وجل، ويؤولون ما ورد في النصوص من الفوقية والعلو لله سبحانه بأمور معنوية، وبعضهم ينكرها بالكلية كغلاة الجهمية، ثم اتسعوا بذلك على أوهام ليس لها أصل، ذلك أن مسألة الفوقية والعلو في حق الله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يتفلسف فيها؛ لأن القول بأنه قابل للفوقية أو غير قابل مسألة لا ينبغي أن ترد مع النص أبداً، فنحن نقول بأن الله عز وجل من صفاته أنه علي على خلقه، وكذلك من أسمائه العلي، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه في السماء، كل هذه معانٍ جاءت بلسان عربي مبين أراد الله بها حقيقة معناها، وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى، فنقف عند هذه النصوص ونعلم أنها حقيقة، ولا نأتي بأمور تشكل وتلبس، ككلمة قابل أو غير قابل، فمن الذي يفرض القبول أو لا يفرضه؟ فالله عز وجل هو القاهر فوق عباده، ولا تحكم لأحد فيه.
فالشارح جاء بعبارات أطلقها المتكلمون والفلاسفة قد تنطلي على كثير ممن ليس عنده علم بعقيدة السلف، فقولهم مثلاً: القيام بالنفس أو عدم القيام بالنفس، يقصدون به أن الله عز وجل له وجود غير وجود المخلوقات، وأنه غني عن مخلوقاته لا يحتاج إليها، وهذا أمر بدهي فطري، فهو سبحانه الغني، وقد أكد الله عز وجل ذلك وأكده رسوله صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نعمل العقول الضعيفة في مثل هذه الحقائق الكبرى التي تقتضيها الفطرة ضرورة وورد النص بها قطعاً.
إذاً: فقول الفلاسفة بأنه قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه هذا كله خبط وخلط لا يجوز الاعتماد عليه، وإنما اضطر السلف للرد على هذه المسائل من أجل أن يقرروا الحق بمسالك القوم أنفسهم، فيقيموا الحجة عليهم بأدلتهم وبراهينهم.
وكذلك قولهم: (غير مخالط للعالم) هذا أيضاً أمر بدهي، وكذلك كونه موجوداً في الخارج، أي: خارج المخلوقات، أي: أن وجوده غير جنس وجود المخلوقات، وأحياناً يعبر الفلاسفة عن الوجود في الخارج أنه في خارج الأذهان، وهذا أيضاً افتراض فلسفي لا يعقل، فما في الأذهان لا يقبل التحقيق إلا إذا كان له وجود فعلي، والوجود الفعلي إن كان في عالم الشهادة فقد ندركه بحواسنا أو يأتي به خبر الغيب، وإن كان في عالم الغيب فلا ندركه إلا بخبر الغيب.
فإن كان الوجود الذي تتصوره الأذهان يتعلق بأمر وجودي فعلاً وفي عالم الشهادة تدركه الحواس فهذا أمر يصدق ما يرد في الأذهان من تصورات.
وإن كان ما يرد في الأذهان يتعلق بأمر غيبي فإن الأمر الغيبي يقر بما جاء في الخبر لا بما في الأذهان، نعم الأذهان تتصور أشياء قد يكون لها وجود وقد لا يكون لها وجود، فلا سبيل إلى تحقيق وجود الموجودات التي ستتصورها الأذهان إلا بالحواس أو بخبر الغيب، وما تدركه الحواس لا جدال فيه، وما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يثبت أبداً إلا بخبر الغيب، وما تتوهمه الأذهان في الموجودات التي لا تدركها الحواس لا يمكن أن تفهم كيفيته أبداً، فقولهم: (إنه موجود في الخارج) يقصدون به أن الله عز وجل موجود خالج المخلوقات، وهذا -كما قلت- أمر فطري بدهي؛ لأن الله ليس بحال في مخلوقاته، وهو عز وجل الأحد الصمد، فلا يمكن أن تتصور الأذهان المجبولة على الفطرة ولا العقول السليمة إلا أن الله عز وجل ليس في مخلوقاته، فكلمة خارج وداخل كلمة فلسفية يجب أن نتفاداها؛ لأن معناها مفهوم بالفطرة والضرورة والنص، لكن اللفظ فيه لبس، فالله عز وجل وجوده وجود فعلي بأسمائه وصفاته، وليس وجوداً ذهنياً كما يتصور الفلاسفة والجهمية.
وقوله: [بل وجوده خارج الأذهان قطعاً] يعني: أنه لا يكون وجوده فيما تتخيله الأذهان.
يقول: [وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارجه]، هذا أيضاً افتراض تكلم به المتكلمون، فقالوا: هو إما داخل العالم وإما خارجه، فلما قالوا هذه الكلمة وردت عليهم معضلات كثيرة؛ لأنهم لما قالوا بافتراض أنه خارج العالم اضطروا إلى أن يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً وأسماء وصفات وأفعالاً، فلما اضطروا إلى ذلك نفوا ذلك، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله عما يزعمون! مع أن هذه مسألة لا تتصور عقلاً، مع أنا نقول: إن هذه الأمور يجب أن لا نخوض(60/3)
الردود النقلية
قال رحمه الله تعالى: [فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً: أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50].
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].
الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55].
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:1 - 5].
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء:19]، ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من مماليكه وعبيده خصوصاً].
يعني بذلك أن الله عز وجل له الملك كله، لكن فيما يتعلق بالعندية -أي: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عنده- فإن هذا خص به بعض المخلوقات، الأمر الذي يدل على أنها أكثر رفعة وأعلى من غيرها.
قال رحمه الله تعالى: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش).
التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة.
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).
والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى.
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟)].
هنا يقصد كلام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي هو عرفة، في ذلك اليوم العظيم الذي جمع شرف الزمانين: يوم عرفة ويوم الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [(قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: (اللهم اشهد) فكأنا نشاهد الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين.
ال(60/4)
إثبات الفوقية والعلو في كلام السلف رحمهم الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده إلى أبي مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.
وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل.
انتهى.
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره].
الملاحظ في التاريخ أن أصحاب مذاهب الكلام كان كثير منهم على مذهب أبي حنيفة في الفروع، كمشاهير الجهمية المنتسبين ومشاهير المعتزلة، كما أن كثيراً من المتكلمين كانوا بين شافعية وأحناف، وهذا لا يضر بأصول المذاهب نفسها، لكن هذا من باب العلم بالواقع، وإلا فالأئمة الأربعة كلهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وأوائل تلاميذهم كذلك، لكن إذا أرادنا أن نؤرخ لدخول المذاهب الكلامية على المذاهب فسنجد أن الأحناف هم أول من تأثر بمذاهب الجهمية، وأن الشافعية وجد في أوائلهم من دخل في مذاهب الكلابية الذي هو أصل مذهب الأشاعرة والماتريدية، ثم بعد ذلك انتشرت المذاهب الكلامية في جميع المذاهب في بعض المالكية ثم في بعض الحنابلة.(60/5)
الرد على متأول الفوقية
قال رحمه الله تعالى: [ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم؛ فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله خير من عباده، وخير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض، وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟! بل في ذلك تنقص، كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [يوسف:39]، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].
وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان! فالمكانة تأنيث المكان، والمنزلة تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية].
يعني أن المكانة تقال في الأمور المعنوية، والمكان يقال في الأمور الحسية.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه.
فقوله: منزلة الله في قلبه: هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً.
فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء؛ قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى].
الخلاصة: أن الشارح رحمه الله سلك في الرد على الذين أنكروا العلو الذاتي لله سبحانه وتعالى مسلك التفصيل واستقصاء الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، وهذا مذهب السلف في الأمور التي تلجّ فيها القضايا بينهم وبين المخالفين، ذلك أن من عادة السلف إذا كانت الشبهات خفيفة أن يردوا عليها بإجمال، وإذا كانت كبيرة ومعضلة ويكثر فيها الكلام وتعم بها البلوى زادوا في التفصيل فيها إلى حد حشر الأدلة العقلية والنقلية بتوسع، كما فعل الشارح تبعاً لمن سبقه, خاصة ابن القيم.(60/6)
الأسئلة(60/7)
مدى صحة القول بعلم فرعون بفوقية الله جل جلاله
السؤال
هل كان فرعون يعلم بفوقية الله عز وجل؟
الجواب
قال بعض السلف: إنه فهم بفطرته أن الله عز وجل فوق، وإنه بذلك أراد أن يغالط في مسألة الوصول إلى الله عز وجل، وبعضهم فهم العكس، وقال: إنه أراد بذلك أن ينكر دعوى موسى بأن الله فوق السماوات، وهذا بعيد، وفي نظري أن القول الأول أصح، وهو أن فرعون كان يعرف أن الله فوق السماوات، لكنه أراد أن يوهم الناس من حوله بمثل هذا الإيهام ليقول: إنه ليس هناك رب لكم غيري.
وعلى أي حال أقول: إن قصة موسى تحتمل معنيين، وفي كلا المعنيين دليل على إثبات العلو لله عز وجل.(60/8)
وجه الدلالة على العلو من استفهامه صلى الله عليه وسلم الجارية بلفظ (أين)
السؤال
يقول في الدليل الرابع عشر في أدلة العلو: التعبير بلفظ (الأين)، فما المقصود بالاستدلال به؟
الجواب
يقصد به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عند الحاجة بلفظ (أين الله)، كما سأل الجارية: أين الله؟ هذا معنى الأين، ولا يمكن أن يسأل بلفظ (أين الله) إلا إذا كان الله عز وجل موصوفاً بشيء مما يقتضي السؤال، وهو العلو، فلو كان كما يقولون: إن الله وجوده معنوي؛ لما جاز السؤال بـ (أين)؛ لأن الشيء المعنوي الذي يوجد في الأذهان فقط لا يسأل عنه بلفظ: أين هو؟ ثم إنه يقصد بالسؤال بـ (الأين) أن السؤال ترتب عليه جواب أقره النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل: (أين الله) ثم جاء الجواب بأنه في السماء مع رفع الأصبع بالإشارة إلى العلو، فهذا معنى قوله: (التصريح بلفظ الأين)، أي: السؤال عن الجهة، وهي جهة الفوق والعلو.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/9)
شرح العقيدة الطحاوية [61]
أدلة إثبات علو الله على خلقه متواترة نصاً وعقلاً وحساً، وكل من أراد أن يشكك في الأدلة أو يعارضها بزعمه وعقله وحدسه فإنها لا تثبت ولا تستقيم، بل سرعان ما تتلاشى وتتهاوى تجاه قوة الأدلة وكثرتها التي تفيد بوضوح إثبات العلو لله تعالى.(61/1)
ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل العقل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر].
كلمة (قائم به) كثير ما يعبر بها أهل الكلام فيما يتعلق بالصفات وكثير من الأمور الغيبية، ويقصدون لزوم الشيء للشيء، يعني: الصفات الملازمة لله سبحانه.
وأحياناً يقصدون أن القائم بالشيء هو الذي يعد جزءاً منه، أو أنه غير منفصل عنه، فأبرز تعبيراتهم هي القائم بالشيء، أي: اللازم له الحاصل منه أو الحاصل فيه الذي لا ينفصل عنه، وهو تعبير فلسفي ينبغي أن يتفاداه المسلم إلا عند الضرورة عندما يضطر للرد.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل، أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة].
وهذه الأمور بدهية، وتكرير البدهيات كثيراً ما يشكل، ولولا أن المؤلف ساق هذا هنا في الرد على أناس ممن ينتسبون للعلم، ويفتن بهم كثير من المسلمين، خاصة في تلك العصور التي كانوا فيها أعلاماً، ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، كحال أبي المعالي الجويني قبل رجوعه، والرازي قبل رجوعه، والغزالي والشهرستاني والبغدادي وغيرهم من الذين كان كثير من الناس ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، فوجد منهم هذا التلبيس، فاضطر السلف إلى أن يردوا على هذه المقولة دفعاً للبس، وإلا فالمفروض ألا يتكلم المسلم بهذه الأمور لغير ضرورة قصوى خاصة في الأماكن العامة والدروس العامة.
لذا نجد أن الذين تصدوا لهذه الردود أحياناً يقولون أشياء غير لائقة، وبإمكانهم أن يعبروا عنها بتعبيرات أخرى سليمة، لكن الحرص على الرد والإمعان في رد هذه الشبهات جعلهم يقعون في مصطلحات وتعبيرات استعملها الخصوم.
فمثلاً: استعمال الشارح عبارة لا ينبغي لطالب العلم أن يستعملها أبداً، وهي قوله: أما ثانياً: فلأنه يلزم أن الله عز وجل يكون محلاً لكذا وكذا، والمفروض أن يعبر بتعبير يدل على المراد مجملاً، كأن يقول: يلزم منه أن يكون محلاً لما لا يليق، وهذا كاف؛ لأن أي إنسان مطبوع على الفطرة السليمة ينفر من أن يعبر عن الله بما لا يليق دون ذكر العبارات التي توقع في حرج، فالمسلم يجد حرجاً شديداً في أن يحكيها حتى وإن قالها هؤلاء الملبسون.
ولذا فإن ذكر هذه الأمور أحياناً يوجد أحياناً شيئاً من الإشكال عند الناس الذين هم على الفطرة، فلا يلجأ المسلم إلى هذا التعبير إلا عند الضرورة القصوى، أو في دروس خاصة من دروس العقيدة ونحوها، وأن يؤمن فيها عدم وجود الأحداث الصغار وعدم وجود العوام الجهال، وعدم وجود قليلي العلم الشرعي من المثقفين المغرورين ونحوهم.(61/2)
ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل الفطرة
قال رحمه الله تعالى: [وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا -يا أستاذ- عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: (يا الله) إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو].
هذه الضرورة يدركها كل إنسان، وليس المسلم فقط، فكل إنسان يعرف الله عز وجل ويدرك هذه الضرورة، وهي اللجوء إلى الله عز وجل والتوجه إلى العلو، سواء كان توجهاً فعلياً أو توجهاً قلبياً.
والناس في هذا درجات، فالمسلم الموقن الصادق المتقي لله عز وجل يستصحب في كل أموره دائماً هذه الحقيقة، فيتوجه إلى العلو حينما يدعو الله عز وجل، يتوجه قلبه وجوارحه، أما توجه قلبه فهذا أمر دائم، أما توجه جوارحه فعندما يدعو أو يعبر عن شيء من كمالات الله عز وجل يجد أنه يشير إلى العلو، دون أن يقصد أحياناً، أي: يشير بفطرته.
أما العاصي والكافر ونحوهما فإنهم عند الضرورة -أي: عند الأمور الملحة وعندما يمسهم الضر- تجدهم بفطرتهم تتوجه قلوبهم وجوارحهم إلى الله عز وجل، حتى عند المفاجئة التي ليس من طبع الإنسان أن يفكر فيها بسرعة، فعندما يدهمه أمر يجد أنه متوجه إلى الله عز وجل إلى جهة العلو بجوارحه وبقلبه، بل الحيوانات كذلك، فالحيوانات عندما يمسها شيء من الضر -خاصة عند النزع- أو عندما تفقد شيئاً من الأمور الغالية عليها -كأن تفقد الدابة ولدها- تجدها تشخص ببصرها إلى الله عز وجل إلى جهة السماء، فهذا أمر فطري يدرك في الحيوان وفي الإنسان، لكن الفلسفة أحياناً تضيع الحقائق الفطرية وتضيع الأمور التي يقتضيها العقل السليم، ودليل ذلك أن الناس إذا تمادوا في الفلسفات أنكروا البدهيات المشاهدة أمامهم فضلاً عن البدهيات العقلية؛ لأنه يوجد من الفلاسفة من يذهب إلى الشك في وجود نفسه، فالناس ليس في أوهامهم وظنونهم دلالة، والعقول لا تنضبط بشيء، فمن أضل الله عقله فلن يهتدي بالحق، فليس فيما يوجد من شذوذات عند المتكلمين والفلاسفة دليل على ما في الفطر والعقول السليمة، إنما الدليل ما عليه جمهور العقلاء وما تقتضيه النصوص الشرعية والفطرة السلمية التي يعبر عنها السذج من الناس، فإذا اختلف المتجادلون فليلجئوا إلى ما عليه أهل الفطرة السليمة الذين لم تدخلهم الفلسفة، فسيجدون عندهم حقيقة الأمور الفطرية، نعم ليس عندهم فقه شرعي، لكن الحقيقة في الأمور الفطرية تجدها عند السذج السالمين من الأهواء، السالمين من البدع، السالمين من الفلسفات الدخيلة، تجد عندهم كثيراً من الحقائق التي يماري فيها أهل الأهواء، سواء ما يتعلق بوجود الله عز وجل، وبعلوه سبحانه وفوقيته، وما يتعلق بأسمائه وصفاته وأفعاله.(61/3)
الاعتراض على الدليل العقلي على علو الله والرد عليه
قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية.
والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً؛ فإن كان قولنا باطلاً في العقل فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل؛ فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل؛ فإن دعوى الضرورة مشتركة.
فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؛ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا].
هذا ما أشرت إليه سابقاً، وهو أن عامة الناس الذين هم على الاستقامة في الأصل ولم تدخلهم الفلسفات هم الذين يعتد بفطرهم السليمة، وقد لا يدركون الأمور العقلية العميقة، لكن هذه ليست محل خلاف، فأغلب الخلاف في الأمور البدهية، والأمور التي يتعمق فيها الفلاسفة ناتجة عن الخلاف في البدهيات.
فأغلب الأمور التي تفلسف فيها المتفلسفون وتكلم فيها المتكلمون، ودوخوا فيها أنفسهم ودوخوا فيها المسلمين راجعة إلى البدهيات، فإذا أسقطنا أصولهم بالبدهيات سقطت جميع الفرعيات التي فرعوا عنها.
فمثلاً: كثير من الأمور التي أولوا فيها الصفات راجعة إلى مسألة العلو ومسألة الاستواء، ومسألة كلام الله عز وجل.
فهذه الأمور هي التي يدور عليها أكثر تأويل المؤولة من الجهمية والمعتزلة، وأهل الكلام وغيرهم تبع لهم، ثم هذه الثلاث كلها تدور على مسألة واحدة، وهي مسألة العلو، فإذا قررنا العلو بالفطرة تقرر الوجود الذاتي لله عز وجل، وإذا تقرر الوجود الذاتي تقرر إثبات الأسماء والصفات والأفعال لله على ما يليق بجلاله، وتقرر الاستواء ثم الكلام ثم سائر الصفات.
ومسألة العلو بدهية، فإذا قررناها بالبداهة بعيداً عن السفسطة وبعيداً عن التكلف الذي تكلف به المتكلفون انتهى وانهدم أصل الخصم الذي بنى عليه التأويل أو بنى عليه التعطيل.
وقول الهمذاني مثال فقط لما يجري بين أهل السنة وبين غيرهم في تقرير العقيدة، فـ الهمذاني ما ذهب يتفلسف، بل ألجأ الجويني إلى الاعتراف بحقيقة الفطرة الساذجة، فقال: دعنا من كلامك هذا كله، لكن فسر لي الضرورة التي يجدها قلب كل إنسان ما تفلسف ولا درس على الجويني ولا على غيره، يجد في قلبه أنه إذا دعا الله عز وجل توجه قلبه إلى فوق، فهذه الضرورة من أين جاءت؟! مع أنه ما قرأ ولا تعلم على يد معلم ولا سمع الجويني ولا غير الجويني، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟! فـ الجويني تأمل وقال: هذه فطرة، فالله عز وجل هو الذي خلق هؤلاء العباد وفطرهم، فمن أين جاءتهم هذه الضرورة التي يتفقون عليها؟! ولماذا أنا وعدد من الناس يعدون على الأصابع على الحق وهذه الأمة التي هي على الفطرة السليمة يضيع إيمانها كلها، حيث لم تؤمن بما قاله الجويني وحينما آمنت بصيغة العلو؟! تأمل ذلك قليلاً ثم ضرب على رأسه وبكى، وبعد ذلك رجع رجعة عبر عنها بتعبير لا يستطيع أحد أن يعبر بمثل تعبيره؛ لأنه جرب.
قال رحمه الله تعالى: [فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية؛ فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم.
فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم].
كان اللازم أن يعبر بـ (خالق العالم)، لكن هذا التعبير من تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يرد على أهل الكلام، فكثيراً ما يستعمل مصطلحاتهم؛ لأنها أقرب إلى مفاهيمهم وأقرب إلى إقامة الحجة عليهم، وعلى هذا ينبغي أن يكون بدلها (خالق العالم).
قال رحمه الله تعالى: [فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم وليس فوق العالم شيء موجود، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم؛ طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه].(61/4)
الاعتراض على الدليل الفطري على علو الله تعالى والرد عليه
قال رحمه الله تعالى: [واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة].
الذين اعترضوا على الدليل الفطري في إثبات العلو لله عز وجل هم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، والذين ورثوهم في هذه المسألة هم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فهؤلاء قالوا: إن الدليل الفطري ينقضه أن توجه الناس إلى السماء يعني أن السماء قبلة الدعاء، لا أنه غريزة، كما أن الكعبة بزعمهم هي قبلة الصلاة، يقولون: كما أن الكعبة هي قبلة الصلاة كذلك السماء أو العلو قبلة الدعاء، وهذا سينقضه المؤلف بكلام بين واضح.
قال رحمه الله تعالى: [واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض.
وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه: أحدها: أن قولكم: (إن السماء قبلة للدعاء) لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة؛ فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو: إن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء؛ فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة.
والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازاً؛ ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة.
وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.
وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد، لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية].(61/5)
الأسئلة(61/6)
وجه دلالة مباينة الله تعالى لخلقه على علوه جل جلاله
السؤال
الوجوه التي ذكرها المؤلف في إثبات علو الله سبحانه بالعقل فهمت منها إثبات المباينة، فهل يلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؟
الجواب
نعم، فيلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؛ لأنَّ الله عز وجل غير خلقه، فوجوده غير وجود المخلوقات، والله عز وجل منزه عن النقص، ولا بد أن يوصف بالكمال، وأكمل وأحسن الجهات هي العلو؛ لأن العلو هو الدليل على التمكن والدليل على الهيمنة والدليل على الإحاطة، والله عز وجل موصوف بأنه العلي العظيم، وهو بكل شيء محيط، فأي الجهات تناسب صفات الله وأسماءه الحسنى؟! فكونه عز وجل غير خلقه لا بد أن يكون مبايناً لها، أي: منفصلاً عنها، فليس هو المخلوقات، ووجوده وجود ذاتي، بمعنى أنه له وجود فعلي حقيقي، ليس كما يتوهم أولئك أنه وجود ذهني أو معنوي؛ لأن الوجود المعنوي ليس بشيء، فالمعدوم له وجود معنوي في التصور والأذهان والأوهام، بمعنى أن النفس تتخيله وهو عدم.(61/7)
بيان معنى قول أهل الكلام: (لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها)
السؤال
ما معنى قول الشارح في الطحاوية: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها؟
الجواب
هذه عبارة الجهمية والمعتزلة وطوائف من أهل الكلام، قالوا: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، ذلك أن السلف قالوا: يلزم من نفي الفوقية ثبوت ضد الفوقية وهو السفل، ذلك أنه لا يعقل أن يكون موجود بلا جهة على الإطلاق؛ إذ الجهة أمر نسبي لكل موجود، فالموجودات التي هي المخلوقات تحكمها الجهات الأربع والجهات الست.
أما بالنسبة لوجود الله عز وجل فإنه لا بد أن يوصف بالكمال، والكمال بالنسبة للجهات هو الفوق والعلو، وما دام المنازعون -وهم أكثر أهل الكلام- يقرون بوجود الله عز وجل، وأن الوجود صفة ثبوتية حقيقية عند كثير منهم؛ فإنه يلزمهم بناءً على إقرارهم أن يكون هذا الوجود إلى جهة، والجهة اللائقة بالله عز وجل هي العلو، لا سيما أنها ثبتت في النصوص الشرعية، فهي مقتضى النص والفطرة والعقل السليم، فمن لم يصف الله عز وجل بالفوقية والعلو والاستواء على العرش وغير ذلك مما ورد في النصوص فإنه يلزمه بناءً على ذلك أن يصف الله عز وجل بضد العلو؛ لأنه أقر بوجود الله الوجود الثبوتي، ويلزم من الوجود الجهة.
فقال المنازع: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
وهذا من العبث بالألفاظ ومعارضة العقول السلمية والفطر فضلاً عن رد الشرع.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته شخص ببصره إلى السماء وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أليس هذا من أدلة العلو؟!
و
الجواب
بلى، بل هو دليل صريح على العلو.(61/8)
شرح العقيدة الطحاوية [62]
لقد دلت النصوص الكثيرة على إثبات صفات الله تعالى على وجه لا تشابه فيه صفات المخلوقين ولا تماثلهم، ومن تلك الصفات صفتا المحبة والخلة، وقد حاول بعض المبتدعة كما هي عادتهم إنكار الصفات وجحدها أو تأويلها أو تفويضها، ولكن أئمة الإسلام وعلماؤه الأعلام تصدوا لهم وردوا عليهم وأقاموا عليهم الحجج البينات، كما فعل خالد القسري وسلم بن أحوز وغيرهم من الأمراء الذين تصدوا للمارقين بناءً على فتاوى علماء المسلمين.(62/1)
إثبات المحبة والخلة لله تعالى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاًَ، وكلم موسى تكليما، إيماناً وتصديقاً وتسليماً): قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].
الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين، زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة.
وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما.
ثم نزل فذبحه وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا.
وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان].
قبل هذا المقطع هناك ثلاثة أسطر سقطت عن غير قصد، وهي: [قوله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية ولا غير ذلك من وجود الإحاطة، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء].
فالله عز وجل لا يمكن أن تحيط به مدارك الناس ولا قواهم ولا حواسهم، فهو أعز وأجل من أن تحيط به حواس البشر وقواهم وأفكارهم وعقولهم، بمعنى أن تدرك كيفية ما هو عليه عز وجل، أو أن تنتهي إلى منتهى الكمال لله عز وجل، ولا بمجرد التصور؛ لأن الله عز وجل أعظم وأجل من أن تدركه العقول القاصرة والأفهام المحدودة والقوى الفانية.
وذلك يشمل قدرات البشر في الدنيا والآخرة، ومع أن الناس في الآخرة يرون ربهم، وأن المؤمنين في الجنة يرون ربهم كما يليق بجلال الله عز وجل فضلاً منه وإحساناً -نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء- مع ذلك لا يحيطون بالله عز وجل، أي: بذاته، كما لا يحيطون بعلمه ولا يحيطون بكماله، فجميع كمالاته لا يحيطون بها، وجميع صفاته لا يحيطون بها، وجميع أسمائه لا يحيطون بها.
فعجز الخلق عن الإحاطة بالله عز وجل يشمل أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، ويشمل قوى البشر المعنوية والحسية كلها، فلا يمكن لها أن تحيط بالله سبحانه.(62/2)
ما أنكره الجهمية من جانبي المحبة وما أنكروه من التكليم
وأما قوله: [وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين]؛ فإن الجهمية الغلاة منهم أنكروا المحبة من الله عز وجل لعباده الصالحين، وأنكروا محبة العباد لله عز وجل، هذا معنى قوله: (من الجانبين)، أي: أنكروا أن تتوجه المحبة من العباد لله عز وجل على وجه الحقيقة، وأنكروا أن تكون المحبة من الله عز وجل لعباده.
ثم قال: [وكذلك أنكروا حقيقة التكليم]، أي: أنكروا أن الله عز وجل يكلم عباده أو أنه يتكلم على الحقيقة، وزعموا أن الكلام عبارة عما يخلقه الله عز وجل أو يوجده مما يسمعه العباد أو مما يكتب، أو مما يلقى في أذهان البشر أو في عقولهم.
ويزعمون أنه حروف وأصوات خلقها الله عز وجل فسميت كلاماً، ومن هنا زعموا أن القرآن مخلوق.
وأحياناً يعبرون عن القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها بأنها مما يفيض على العباد، أو أنها معانٍ نفسية ثم يترجمها إما الملك وهو جبريل، وإما الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل، فإذا ترجمت سميت بحسبها، فإذا كانت هذه المعاني باللغة العبرية سميت توراة، وإذا كانت هذه المعاني باللغة العربية سميت قرآناً، وهكذا، فزعموا أن الله عز وجل لا يتكلم على الحقيقة.
والمقصود بالحقيقة هنا: أنهم أنكروا الكلام لله عز وجل بما يليق بجلاله، والسلف يقولون: إن الله متكلم حقيقة؛ لأن الله لا يتكلم إلا بحق، فالله عز وجل حينما قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فلابد أن يكون هذا حقيقة، والحقيقة على ما يليق بجلال الله، ومن توهم المعنى الذي يتوهمه الناس في أذهانهم من كلام البشر أو كلام المخلوقات؛ فذلك لا يمكن في حق الله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
فمعنى أنهم أنكروا حقيقة الكلام أنهم أنكروا أن الله يتكلم على الحقيقة، وفسروا كلام الله عز وجل بتفسير يؤدي إلى القول بأنه مخلوق.(62/3)
نظرة في الكلام على خالد القسري وسلم بن أحوز
أما الكلام عن خالد بن عبد الله القسري فهو مما خالف فيه أهل الأهواء أهل السنة في كل العصور، وإلى يومنا هذا، لكن في العصر الحاضر نجد بعض المثقفين من أبناء المسلمين الذين قد لا يتهمون بهوى أو نزعة افتراق وإنما لجهلهم وقلة اطلاعهم على أقوال السلف خاضوا فيما خاض فيه الأولون في اتهام خالد بن عبد الله القسري وأمثاله بأن قتله رءوس البدع والأهواء كان لغرض سياسي، وهذا نوع من تفسير ما في القلوب والنيات لا يجوز، وهذا قول قال به معاصرون من الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، والرافضة، ثم صار سمة لأهل الأهواء دائماً، ما أن يقع فيه طوائف من أبناء السنة فهذا مما لا ينبغي السكوت عليه، وينبغي التنبيه عليه، والتحذير من الوقوع في المجاراة للمبطلين وأهل الأهواء.
وخالد بن عبد الله القسري رحمه الله من أمراء العراق، كان عنده شيء من القسوة والظلم وليس ممدوحاً في جميع خصاله، وإن كان جواداً كريماً، وله غيرة على دين الله عز وجل، لكن له خصال مذمومة، وقد يكون عنده شيء من النصب، أي: القول في علي بما لا يجوز، فهذا نسب إليه، وقد لا يثبت، ومع ذلك لا يلزم من كونه غيوراً على دين الله عز وجل أن يكون سوياً في جميع جوانب حياته وخصاله، وهذه قاعدة في جميع الولاة في تاريخ الإسلام، أنه لا يلزم من كون الوالي قوياً في الدين، ومجاهداً في سبيل الله أن يكون على سمت أهل الورع والتقوى والصلاح من كل وجه.
وأظن عدم إدراك هذه المسألة هو الذي أوقع بعض شبابنا في الخلط، فظنوا أنه ما دام قد اتهم بشيء من الظلم والمعاصي فلا يمكن أن يكون قتله هؤلاء الزنادقة إلا لسياسة، أقول: هذا لا يجوز، وما قاله أحد السلف الذين عاصروه ومن بعدهم من أئمة الدين إلى يومنا؛ لأنه حكم على القلوب والنيات، ولأنه أيضاً يعد من مجاراة أهل الأهواء والقول بقولهم.
فقتله لمثل الجعد كان بناءً على فتوى أهل العلم، وإذا كان مثل هذا القتل يخدم الوالي فهذا أمر آخر لا صلة له بهذه المسألة، وهو أمر مظنون لا ينبغي أن نبني عليه أحكاماً، وهذا يشمل خالد بن عبد الله القسري وغيره ممن تصدوا لأهل الأهواء وعندهم بعض الفساد، فإنهم يحمدون على ما فعلوا، وقد تكون قوتهم في نصر الحق من التأييد لدين الله عز وجل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
قال رحمه الله تعالى: [وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها].
هنا أيضاً مسألة مهمة، وهي أيضاً تشمل ما سبق، وهي الحكم على سلم بن أحوز في قتله كثيراً من الزنادقة، فقد قتل الجهم وغيره، ولاشك في أن الجهم حينما قتل كان قتله على إثر خروجه على الأئمة، ولهذا فرح بعض أهل الأهواء قديماً وحديثاً وبعض الذين تأثروا بهم بهذه المناسبة، فجعلوا مثل هذه الظواهر -أي: قتل هؤلاء من رءوس البدع- لأسباب سياسية.
وأنا أقول: الجهم خرج، ومن أسباب قتله خروجه، ومن أسباب قتله قوله بالتجهم أيضاً، فاجتمع الأمران في قتله: أنه خرج على الأئمة، وأنه أيضاً كان جعدياً على مذهب الجعد، وسمت الفرقة باسمه فيما بعد.
فيصح أن يكون الجهم قتل لخروجه، لكن هذا أمر أيضاً لا يتنافى مع كونه قتل للتعطيل، وهذا يشمل أيضاً جميع أهل الأهواء.
ومن سمات أهل الأهواء أنهم يرون الخروج، فلذلك أكثرهم قتل لخروجه، وقتل أيضاً لاعتقاده الخروج ولو لم يخرج فعلاً، وقد يكون قتل أيضاً لآرائه وعقائده.
ومن هؤلاء غيلان الدمشقي، فـ غيلان الدمشقي قتل لقوله في القدر وغلوه في ذلك وتعطيله، وقتل أيضاً لأنه كان يرى الخروج، وهذه سمة أهل الأهواء جميعاً، أنهم يجمعون مع أهوائهم القول بالخروج، ولذلك ذكر كثير من السلف أن من السمات الجامعة لأهل الأهواء أنهم يرون السيف على تفاوت بينهم.
فإذاً: لا يستبعد أن يكون الشخص الواحد يجتمع فيه أمران لقتله: فيكون ذا عقائد باطلة تستوجب قتله، ويكون أيضاً ممن يرى الخروج، أو ينتهز الفرصة مع كل خارج، ومع كل ناعق.
وهنا أنبه على أن القاسمي في (تاريخ الجهمية والمعتزلة) تعاطف مع الجهمية ومع بعض الفرق، واعتبرها مظلومة في بعض جوانب آرائها.
فعلى هذا لا يصح أن نعتمد عليه في مثل هذه الأمور التي فيها حكم على الأشخاص، وحكم على أمور العقيدة.
قال رحمه الله تعالى: [ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.
وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل:(62/4)
أدلة إثبات الخلة لنبينا صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [ولكن محبة الله وخلته -كما يليق به تعالى- كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) يعني نفسه.
وفي رواية: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وفي رواية: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).
فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـ معاذ: (والله إني لأحبك)، وكذلك قوله للأنصار رضي الله عنهم، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة رضي الله عنه حبه، وأمثال ذلك، وقال له عمرو بن العاص: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة.
قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها).
فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته، لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة؛ لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه؛ ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده].
هذا التعبير فيه نوع تساهل، ونسبة الغيرة إلى الله عز وجل لاشك أن المقصود بها اللائق بالله عز وجل، لا الجانب السلبي في مفهوم الغيرة.
لكن مع ذلك ينبغي تفادي هذا الأسلوب في نسبة الغيرة على هذا السياق وعلى هذا النحو إلى الله عز وجل بغير نص مأثور، وإن كان المعنى صحيحاً والمقصود صحيحاً.
قال رحمه الله تعالى: [فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح ولده إيثاراً لمحبة خليله على محبته نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة.
وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في حديث الإسراء].(62/5)
جواب إشكال حول طلب الصلاة على نبينا كما حصل لإبراهيم عليه السلام
قال رحمه الله تعالى: [وهنا سؤال مشهور، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة يضيق هذا المكان عن بسطها، وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله - وفيهم الأنبياء - حصل لآل محمد ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره.
وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم متناولا الصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول إبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:49]، وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها كما صليت على آل إبراهيم، وفي كثير منها: كما صليت على إبراهيم، ولم يرد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلا في قليل من الروايات، وما ذلك -والله أعلم- إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً، وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم، وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقته إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).
فعلى رواية من روى: (كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم) لا يدخل فيهم لإفراده بالذكر.
ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصهم الله بخصائص، منها: أنه جعل فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته، ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره، ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين، ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل هذا البيت، إلى غير ذلك من الخصائص].(62/6)
الأسئلة(62/7)
المراد بلفظ (سذَّج)
السؤال
ما المراد بالسذج؟
الجواب
المقصود بالسذج: هم الذين على الفطرة ولم يطرأ على عقولهم علوم فلسفية، ولا ثقافات صحف وتشويشات تدخل في أذهان الناس ما ليس من الحق.
فالساذج: هو الباقي -كما خلقه الله عز وجل- على الفطرة، وليس المقصود بالسذج المغفلين كما يفهم بعض الناس، ولا أقصد هذا، بل أقصد بالسذاجة الفطرة النقية الصالحة التي جعلها الله أصل الخلق في العباد.(62/8)
شرح العقيدة الطحاوية [63]
للإيمان أصول وأركان معلومة بالضرورة عند المسلمين أجمعين، ولكن من انتكست فطرهم وغيم الجهل عليهم أصبحوا لا يعرفون للدين أصلاً ولا ركناً ولا واجباً ولا مستحباً، كالفلاسفة وبعض أصناف المبتدعة، الذين حاولوا الطعن في الإسلام من داخله، وإلقاء الشبهات حوله، والتشكيك في المسلمات والأصول، وبضاعة هؤلاء وأمثالهم مزجاة، وأفكارهم ضحلة وعقيمة، وضلالهم وسوء صنيعهم تجاه الشريعة والإسلام واضح لكل أحد.(63/1)
أصول الإيمان التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين): هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] الآيات، وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177].
فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل].(63/2)
موقف الفلاسفة المبتدعة من أصول الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع؛ فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء؛ فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله، ولا كتبه ولا ملائكته، ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم أن الله سبحانه وجوده مجرد لا ماهية له، ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها].(63/3)
بيان المراد بالفلاسفة وما يهتمون به من العلوم
يقصد بذلك الفلاسفة ومن نحا نحوهم، والمقصود بالفلاسفة: طائفة من البشر الذين يحكمون عقولهم في أمور الغيب، ويفترضون أوهاماً، ويبنون على افتراضاتهم أحكاماً.
ولذلك فإن الفلسفة تتعلق بالغيبيات، أما ما يتعلق بعالم الشهادة فليس فلسفة، إنما يدخل في العلوم التطبيقية، أو العلوم الطبيعية، أو عالم الشهادة، فلذلك تميز الفلاسفة كلهم ومن سلك طريقهم بأنهم يميلون إلى الأفكار الخيالية وإلى الأوهام.
وليس عند الفلاسفة إلا أوهام، مع أنه قد يوجد من يتعلق عقدياً بالفلسفة والفلاسفة، ويظن أن عندهم شيئاً من الحق أو الحقيقة، وهذا لا يمكن؛ لأن ما عند الفلاسفة نوعان: نوع يتعلق ببعض الأصول والقواعد المنطقية التي تستقرأ من عالم الشهادة، أو التي تعرف بالبداهة في الفطرة، مثل بعض الأمور الرياضية والحسابية وغيرها، فهذه أمور ليس للفلاسفة فيها ميزة، ولم يسموا من أجلها فلاسفة، وإن تعلقت بفلستهم واهتماماتهم.
والأمر الثاني من اهتمامات الفلاسفة هو ما يتعلق بالخوض في الغيبيات، سواء الغيبيات التي جاء ذكر أصنافها في الكتب المنزلة، كاليوم الآخر، والملائكة، والجن، وما يتعلق بالإلهيات، أو غيرها من الغيبيات الأخرى التي افترضها الفلاسفة مجرد افتراض وتوهم، وسموا بعضها بالعقل الفعال، والعلة الأولى، والعلة الثانية، والمدبرات السبعة، وغير ذلك مما يختلفون في الكلام فيه وفي الاصطلاحات.
وقد يعلقون بعض أوهامهم بأمور موجودة، أو بأمور ورد ذكرها في الكتاب والسنة.
فالأمور الموجودة: كالنجوم، فقد يربطون ما يعتقدون من أوهام وفلسفات بالنجوم، أو بنحوها مما في الكون، وقد يربطونها أيضاً بأمور لها وجود في الكتاب والسنة، لكنها غيبية، وقد يتكلم الفلاسفة في الملائكة، لكن على نحو يخالف الإقرار بالملائكة في الكتاب والسنة، وقد يتكلمون أيضاً عن بعض أحوال الروح، أو عن المعاد أحياناً، لكن على خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة.
إذاً: فالفلاسفة ليس عندهم علم، ومن ادعى ذلك فعليه البرهان.
وقد يتكلمون عن بعض العلوم الطبيعية، لكن لا علاقة لها بالفلسفة، وربطها بالفلسفة إنما هو من باب التجوز.
كما أن الفلاسفة قد يهتمون ببعض العلوم المتعلقة بالإنسان كالطب، أو علوم النفس أو غيرها، فهذه علوم إنسانية أو طبيعية لا صلة لها بالفلسفة.
وقد سلك سبيل الفلاسفة من يسمون بالعقلانيين، وهم الذين زعموا أن لعقولهم حكماً في الغيبيات، وهذا المنحى ظهر في الإسلام على أيدي فئات، أولها: أهل الكلام، فهم يحكمون عقولهم في أمور الغيب، وتلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة الخلص إلحادهم واضح، لكن أهل الكلام -وأعني بهم الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، كالكرامية والسالمية والرافضة ومتأخرة الخوارج- كلهم ينزعون نزعة الكلام، وقد أخذوا كثيراً من أصولهم الكلامية عن الفلاسفة، لكن تلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأنهم صاغوا أوهام الفلاسفة باصطلاحات إسلامية، وأخضعوا أصول العقيدة -خاصة في الأسماء والصفات، وفيما يتعلق باليوم الآخر- لصياغة فلسفية ملبسة، فلذلك دخلوا على المسلمين باستعمالهم المصطلحات الإسلامية، وعرض مذاهب الفلاسفة بقوالب ومصطلحات شرعية.(63/4)
أتباع الفلاسفة في العصر الحديث
أما في العصر الحديث فإن أصحاب هذه النزعة يتمثلون باتجاهات كثيرة تتفاوت كتفاوت المتكلمين السابقين ما بين الغلو والإفراط في تفسير الأصول الإسلامية والعقائد والغيبيات تفسيرات إلحادية، وبين التأويل وبين نزعة التردد والتشكيك، أو عدم التسليم بحقائق الغيب.
وهؤلاء على رأسهم أصحاب الاتجاهات العقلانية الذين يفسرون كثيراً من أمور العقيدة -بل كثيراً من أحكام الإسلام وشرائعه- بتفسيرات عقلانية، ويخضعون بزعمهم الإسلام لمقررات ومقدرات العقل.
ومنهم من تسمى بغير هذه الأسماء، أي: بغير العقلانية، كالحداثيين، وإن كان منهم فئات ملحدة خالصة، لكن هناك فئة منهم عقلانية، ومنهم من سموا أنفسهم بأصحاب الاتجاهات العصرانية، ومنهم من لم يسم نفسه لا بهذا ولا بذاك، وإنما قد يدعي السنة، وقد يدعي أنه يسلك مسالك أهل الحق، لكنه أقرب إلى العقلانيين، وقد يكون منهم من يحمل لواءات في الاتجاهات الإسلامية الحديثة.
وربما يكون من المشاهير الذين تتبعهم حركات كبرى، فهؤلاء على مختلف نزعاتهم كلهم يريدون تجريد المعاني الغيبية، والأصول الإسلامية عن حقائقها، وإعطاءها تصورات وتفسيرات عقلية أغلبها وهمية.(63/5)
تصورات الفلاسفة لوجود الله تعالى
أما قوله عن الفلاسفة بأن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يقصد بذلك أنهم لا يعتقدون أن لله وجوداً ذاتياً مستقلاً عن وجود المخلوقات.
ولذلك فهم ذهبوا إلى تفسير وجود الله عز وجل بأنه وجود مجرد، وفسروه بتفسيرات تؤدي إلى إنكار أسماء الله وصفاته وذاته وأفعاله، بل إلى إنكار الوجود الحقيقي الذي يتصوره العقلاء.
إذاً: فتصورهم لوجود الله تصور تجريدي يجردونه من الوجود الحقيقي، فمنهم من فسره بالوجود العقلي، والعقل ليس له وجود حقيقي عندهم، إنما هو قوة فعالة، وبعضهم فسره بالروح، أي: فسروا وجود الله عز وجل بأنه روح، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بأنه قوة، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بالحلول في الخلق، وبعضهم فسره بالاتحاد بالخلق، وبعضهم فسره بوحدة الوجود، وقال: إن هذا الوجود كله هو الله، تعالى الله عما يزعمون.
وكل هذه المذاهب هي مذاهب الفلاسفة، لكنها ظهرت في المسلمين تحت شعارات وتحت ألوية الفرق بمسميات إسلامية، إما على أيدي الفلاسفة أو الباطنية، أو الصوفية، أو على أيدي من جمعوا هذه المذاهب كلها، كمتأخرة الزنادقة أمثال: ابن عربي والسهروردي، وابن سبعين، وابن الفارض وأمثالهم.
ولذلك لما فسروا النبوات وفسروا الوحي فسروه بما يتفق مع هذه المعاني.
فمنهم من قال: إن الوحي والنبوة إنما هي إشراق من نور الوجود بالمثال إلى عالم المادة، ومنهم من قال: إنها فيض، ومنهم من قال: إنها تأتي عن طريق العقل الفعال كما ستأتي الإشارة إليه.
ومن هنا جردوا الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، وإن أقروا له بالصفات، أو أقر بعضهم بالأسماء والصفات، فإنما أقروا بمعانٍ لا تنطبق على موصوف ولا مسمى، إنما هي مجرد معاني دل عليها ظواهر المخلوقات، ولا ترجع إلى موصوف موجود.
قال رحمه الله تعالى: [فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله].(63/6)
تصورات الفلاسفة لكتب الله تعالى ووحيه
قال رحمه الله تعالى: [وأما كتبه عندهم؛ فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم].
المؤلف هنا اختصر الكلام، وكأنه اعتمد على ما هو أصل عند جميع المسلمين، وهو: أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل هي كلامه.
فبنى على ذلك أن كلامهم في كلام الله عز وجل ينطبق على الكلام في الكتب، فإنهم إذا أنكروا الكلام الذي هو صفة الله عز وجل فإنهم سينكرون أن تكون الكتب من عنده، أو يفسرونها بتفسير لا يطابق الواقع، ولا يدل عليه الوحي، بل يفسرونها بأمور سيأتي ذكرها.
قال رحمه الله تعالى: [فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر].
العقل الفعال عندهم مجرد افتراض، فلو أردنا أن نعرف معنى العقل عندهم لوجدناه مجرد وهم وتصور ليس له حقيقة في الواقع.
وهم لا يعتقدون أن لمثل هذه المعاني حقيقة في الواقع، وإن كان بعضهم قد يقول بأن مثل هذه الأمور -كالعقل الفعال- تتلبس بمخلوقات أخرى، وقد ينسبونها إلى النجوم والكواكب، فبعضهم قد ينسب مثل هذا الاختلاف إلى أكبر الكواكب، أو إلى أصل الكواكب أو أصل النجوم كالقطبين، وكل هذه تفسيرات وهمية، والمهم: أنهم يجردون ذات الله عز وجل عن الوجود الفعلي، وينسبون ما يحدث من أمور خارقة لا يقدر عليها البشر إلى أمور غيبية، أو وهمية كالعقل الفعال، والعقل الفعال يقصدون به: القوة الخفية المدبرة للكون، وقد يقول بعضهم بأن العقل أيضاً يصدر أوامره وتوجيهاته إلى عقول أخرى تحت أمرة هذا العقل، وهذه العقول أيضاً تتجزأ مسئولياتها ثم تتفرع إلى عقول أخرى وهكذا، وقد يجعلون هذا عن طريق النجوم، أو عن طريق الملائكة بأسمائها، أو نحوها.
فالمهم: أن العقل الفعال يقصدون به وجوداً ذهنياً ليس له واقع، إنما هو قوة متوهمة -عندهم- تدبر الكون، وقد يعتقدون أن هذا العقل الفعال له وجود، وليس لهم على ذلك أدلة ولا براهين.
ومن هنا يبقى هذا الأمر مجرد وهم؛ لأن الشيء الغيبي الذي ليس عليه برهان من الله عز وجل من ادعاه بدون دليل فلابد أن يكون قد توهم.
فالأمر الغيبي لابد له من أحد أمرين: إما أن يكون هذا الغيب جاء عن طريق صحيح، وهو: الوحي المنزل من الله عز وجل، وهذا نؤمن به ونسلم.
وإما أن يكون مجرد توهم، والتوهم لا حقيقة له؛ لأنا نجزم قطعاً بأن الذين قالوا بوجود العقل الفعال لا يمكن أن يأتوا لنا بدليل على وجوده، إنما اضطرهم إليه إنكار وجود الله عز وجل الوجود الذاتي، فاضطروا إلى أن يؤمنوا بمدبر لهذا الكون، سواء أكان عقلاً أم قوة، أم روحاً أو نحو ذلك مما عبروا به، فقالوا بمدبر للكون وهم لا يؤمنون بالله، وإنما يؤمنون به تعالى إيماناً تجريدياً كما ذكرت، فلجئوا بعد ذلك إلى افتراض قوة تدبر الكون سموها العقل الفعال.
قال رحمه الله تعالى: [والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس؛ ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة! وقوة التخييل؛ ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم!].
الهيولى عادة يقصدون بها أموراً، منها: أصل الشيء، أصل الخلقة، أو -بتعبير المحدثين- مادة الخلق، أي: المادة الأساسية قبل أن يتجزأ الخلق إلى عناصر، فالأساس للخلق -سواء كان مادياً، أو قوة أخرى لها تأثير في حركة الكون- قد يعبرون عنه بالهيولى.
قال رحمه الله تعالى: [وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له].
وهذا يعني أنهم ينكرون أن يكون هناك ملك اسمه: جبريل ينزل بالوحي، وأن تكون هناك ملائكة تنزل وتصعد بأمر الله عز وجل، ينكرون ذلك كله، ويفسرونه بتفسيرات تجريدية وهمية ذهنية تخييلية، ويقولون: هذه تخييلات يعبر بها عن القوى المعنوية المدبرة للكون.(63/7)
تصورات الفلاسفة لأحداث الآخرة
قال رحمه الله تعالى: [وعندهم أن هذا العالم لا يخرب، ولا تنشق السماوات ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار! كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل، فهذا إيمان هذه الطائفة الذليلة الحقيرة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه هي أصول الدين الخمسة].(63/8)
سلوك المعتزلة والرافضة مسلك الفلاسفة في إحداث أصول هادمة للدين
قال رحمه الله تعالى: [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين؛ فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة، تشبيها بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك العدل، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي مسائل الأسماء والأحكام، التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال، فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول].
الأصول الخمسة وغيرها مما تكلم به أهل الأهواء قديماً، ومما بدأت تظهر بعض مظاهره عند الفرق الحديثة، وأعني بذلك وضع أصول أو أركان للدين غير ما ورد في الشرع؛ فإن هذا من البدع، ولذلك يجب أن يحذر طالب العلم ويحذر غيره من تسمية ما يعتقده الناس أو يجتهدون فيه من مناهج أصولاً في الدين، بمعنى: أنه لا يصح أن نسمي في الإسلام أركاناً غير الأركان الخمسة، ولا أن نسمي للإيمان أركاناً غير الأركان الستة، ولا أن نضع أصولاً للدين غير ما تقرر في الكتاب والسنة، وإذا أقررنا بمجمل الأصول فلا نعدها عداً على سبيل الحصر، فلا يجوز -مثلاً- لقائل أن يقول: أصول الدين تنحصر في عشرين مسألة أو في عشرين أصلاً؛ لأن الحصر في أصول الدين لا يجوز، وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية، فإذا كان العالم أو طالب العلم يتكلم عن أمور اجتهادية تتعلق بالتفريعات على العقيدة، أو بالأحكام؛ فلا مانع من أن يضع ضوابط للتقسيم، فيقول مثلاً: هذا فيه عشر مسائل، هذا فيه عشرة أصول، هذا فيه عشر قواعد إلى آخر ذلك من الأمور الاجتهادية.
أما فيما يتعلق بأصول الدين -كأركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، ونحو ذلك من المصطلحات الشرعية التي حددت أصولها- فلا يجوز لأحد أن يحدث شيئاً فيها.
ولذلك ينبغي أن نتنبه لما أحدثه الناس من مناهج يضعونها أصولاً لهم، فهذا يضع أصولاً عشرين، وهذا يضع خمسة، وهذا يضع ستة، وغير ذلك مما تفعله الجماعات الآن.
وهذا -وإن كان لا يقصد به مضاهاة أصول الدين، ولا يقصد به وضع أصول غير ما جاء في الشرع- لكنه مع مرور الزمن إذا بقي بدون تنبيه عليه -وهذا في الغالب مما لا يضبط- وإذا أصر أصحابه على التحديد فإنه ستأتي أجيال تجعل هذه الأصول من أصول الدين، كما فعلت المعتزلة في أصولها الخمسة، وكما فعلت الرافضة في أصولها، والخوارج في أصولها، والقدرية في أصولها، وأهل الكلام في أصولهم، حيث وضعوا قواعد جعلوها هي الأصل في تكميل الدين واعتقاده.
فينبغي أن نتنبه لهذه المسألة، فلا يجوز أن نضع مناهج ونسميها أصولاً، أو أن ننسبها إلى الدين، ما عدا الأمور الاجتهادية التي تتعلق بالأحكام أو بالفرعيات، بشرط أن تكون أصولاً أو تفريعات علمية لا أموراً يجتمع عليها وينتمي إليها الناس، وتكون بمثابة الشعارات، بمعنى أنه لو اجتهد أحد في أمور من المسائل الاجتهادية ووضع لها أصولاً حددها أو لم يحددها؛ فإنه لا ينبغي أن يدعو الناس لاعتناقها أو للاجتماع عليها، أو أن تكون شعاراً لجماعة أو منهجاً لطريقة من الطرق أو حركة من الحركات أو نحو ذلك؛ فإن هذا في الغالب -ولابد- يؤدي مع مرور الزمن إلى التعصب لهذه الأصول وجعلها بديلاً عن أصول الدين.
والجماعات التي وضعت هذه الأصول قديماً وحديثاً نجد بوضوح أنها بدأت تحتكم إليها وتوالي وتعادي عليها على تفاوت بينهم، وبدأت تقرر أصول الدين ومناهج الدين على هذه الأسس التي وضعتها، وقد تنسى في غمرة الحماس لهذه الأصول أركان الإسلام وأركان الإيمان، بل إن كثيراً من الجماعات نسيت الحديث عن أركان الإيمان وأركان الإسلام إلا عرضاً، وجعلت الحديث مع الناس وفي الدعوة إلى مبادئها على هذه الأصول التي وضعتها أو قررتها، فينبغي التنبه لذلك والتنبيه عليه.(63/9)
اتباع أهل السنة في أصولهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الدين
قال رحمه الله تعالى: [وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول، وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيان ذلك، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة -لما تضمنتا هذا الأصل- لهما شأن عظيم ليس لغيرهما؛ ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه).
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته).
وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة.
يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق].
بناءً على ما قرره السلف من أنه لا يجوز إحداث أركان أو أصول في الدين غير ما ذكره الله في القرآن، وشرعه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، بناءً على هذا يجب أن نتوقف في كلام أبي طالب وأمثاله في جعل أركان الإيمان سبعة؛ لأن أركانه الستة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل مشتملة على لوازمها الأخرى التي هي بمثابة أصول الدين، والإيمان بالله عز وجل يشمل جميع ما يتعلق بالإيمان بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة كذلك، والإيمان بالكتب كذلك، والإيمان بالرسل كذلك، وهكذا بقية أركان الإيمان، فلا داعي لأن نحدث ركناً نسميه سابعاً.
وعلى هذا فإن موافقة المؤلف هنا لـ أبي طالب المكي فيها نظر، إلا إن كان يقصد أنه ما قال إلا حقاً من حيث تفصيل الأركان، أما إذا قصد أننا نسمي الأركان على هذا النحو سبعة ونعد هذه السبعة فلا يجوز؛ لأن الإيمان بالجنة والنار داخل في الإيمان باليوم والآخر، والإيمان بالقدر منصوص عليه في الحديث.
فينبغي اجتناب مثل هذه الألفاظ والتنبيه عليها.
قال رحمه الله تعالى: [وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة.
يعني هذه الخمسة والإيمان بالقدر والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة].(63/10)
الإيمان بالملائكة وحقيقتهم عند أتباع الرسل
قال رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة].
هذه الكلمة مجملة، أعني قوله: [فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة] ففيها نوع تجوز، ولاشك أن الله عز وجل جعل للملائكة وظائف في الكون، وكل ذلك بإذن الله ومشيئته، ولا يخرج عن تدبيره وعن أمره وربوبيته سبحانه، لكن القول بأن كل حركة في العالم ناشئة عن ملائكته قد يكون فيه نظر؛ لأنه قد ورد في بعض النصوص أن هناك أموراً تحدث بهذه الأسباب، أي: بما جعله الله عز وجل من أعمال الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، وأموراً تكون بقدرة الله المحضة، كما ورد من أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وخلق عيسى بن مريم بيده، وتولى كثيراً من أمر خلقه بيده سبحانه.
كما أن هناك من الأمور ما يحدث بأسباب مباشرة، أي: يكون وجوده وخلقه بأسباب جعلها الله عز وجل، وهناك ما يكون بمجرد قول الله عز وجل: (كن).
فتدبير الله للعالم يكون بفعله وبقوله، ويكون بيده سبحانه، ويكون أيضاً بتسخيره للملائكة، وبأمره لهم.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4].
وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم].
هناك من فسر بعض هذه الآيات -المقسمات، والمدبرات، وكذلك المرسلات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات- فسرها بالملائكة، ومنهم من فسرها بأمور أخرى لكنها ترجع أيضاً إلى أن الملائكة هي أسباب في هذه التفسيرات، ومنهم من فسر بعض هذه الأمور بالسحاب، وبعضها بالرياح المرسلة من الله عز وجل، وبعضها بأمور أخرى هي من خلق الله عز وجل، ومن الأسباب التي جعلها الله عز وجل أسباباً في هذا الكون، لكن هذا لا يمنع من تفسيرها بالملائكة؛ لأنه معلوم أنا إذا فسرنا بعض هذه الألفاظ بالرياح فالرياح أيضاً وكل الله بها الملائكة، وإذا فسرنا بعضها بالسحاب والمطر فإن الله عز وجل وكل بالسحاب والمطر طائفة من الملائكة، فتفسيرها ببعض المخلوقات راجع إلى أمر الله للملائكة.(63/11)
دلالة الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأعمالهم
قال رحمه الله تعالى: [وقد دل الكتاب والسنة على أصناف ملائكته، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلاتها ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً.
ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالسابقات سبقاً، ومنهم: الصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً.
ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة].
أراد بهذا الاحتراز من وصف الملائكة بالأنوثية، وهذا من سمات المشركين والفلاسفة والعقلانيين وغيرهم من أهل الضلالة والبدع؛ فإنهم قد يصفون الملائكة بأنهم إناث.
فنظراً لأن مثل هذه الألفاظ قد تشير إلى معنى التأنيث في الإشارة إلى الملائكة، أراد أن يبين أن التأنيث هنا راجع إلى الجنس لا إلى الملائكة بأفرادهم.
فالملائكة فرق، والفرقة من حيث المعنى اللغوي توصف بالتأنيث، وكذلك الطوائف، فالطائفة لفظها اللغوي مؤنث، والجماعات لفظها اللغوي مؤنث، فلا يعني ذلك تأنيث الملائكة؛ لأن الملائكة لا يوصفون بذلك، إنما هذه الألفاظ تنصرف إلى جنس جماعة الملائكة وفرقها وطوائفها ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله.
ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:27 - 28]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20] ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل الموكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم.
فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده].
الملائكة منهم السفراء الخاصة، كجبريل عليه السلام الذي جاء بالوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى سائر الأنبياء.
ومنهم سفراء سفارة عامة، وهم الملائكة الذين يحيطون بعباد الله عز وجل بالرعاية والتدبير العام، وبالرعاية الخاصة بالمؤمنين، فالله عز وجل أوكل هذا الأمر إلى طوائف من الملائكة، وهذا من معنى السفارة العامة، أما السفارة الخاصة فهي الوحي الذي هو عن طريق جبريل.
قال رحمه الله تعالى: [فهم رسل الله في خلقه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر].
من السفراء الكرام الكاتبون، والملائكة الموكلون بالعباد الذين يتناوبون صباح مساء.
قال رحمه الله تعالى: [قد أطت السماوات بهم وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم].(63/12)
تنوع حالات ذكر الملائكة في القرآن الكريم
قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص، قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75]، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11]، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:16]، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21]، {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم، فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان].(63/13)
شرح العقيدة الطحاوية [64]
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فيجب الإيمان بهم، وبأنهم موكلون بأمور وقضايا وكلهم الله بها، وهم أعظم جنود الله ومخلوقاته، وقد اختلف في تفضيلهم على جنس البشر بناءً على اختلاف الأدلة في ذلك، وهذه المسألة في جملتها من المسائل التي لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ولا خير ولا شر، ولكن بحثها في علم العقيدة جاء عرضاً ضمن باب الملائكة.(64/1)
الخلاف في المفاضلة بين الملائكة وجنس البشر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً، وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، ومن الناس من فصل تفصيلاً آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها، وأنها قريب مما لا يعني، (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصداً، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب، وعد منها: التفضيل بين الملائكة والأنبياء، وهذا هو الحق، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وفي الصحيح: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً والحالة هذه أولى، ولا يقال: إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة هنا متكافئة على ما أشير إليه إن شاء الله تعالى، وحملني على بسط الكلام هنا: أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن بعض الملائكة خدام بني آدم! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع، المجانبة للأدب.
والتفضيل: إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس لا شك في رده، وليس هذه المسألة نظير المفاضلة بين الأنبياء، فإن تلك قد وجد فيها نص، وهو قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ: (وسيد المرسلين) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة.
وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر، ثم قال بعكسه، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله.
والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك].
قصده فضل بعض الأفراد أو بعض الأجناس، لا الأفضلية المطلقة، يعني: ما ورد من بعض النصوص التي تدل على فضل الملائكة يعني فضلاً مقيداً بأشخاص، والنصوص التي وردت في تفضيل بعض البشر ورد في سياقها على أنها تدل على تفضيل بعض الأشخاص -كالنبي صلى الله عليه وسلم- على الملائكة، أو تفضيل جنس من البشر، لا تفضيل عموم البشر.
إذاً: الأدلة التي وردت في المسألة -سواء في تفضيل الملائكة أو في تفضيل البشر، أو في تفضيل بعض الملائكة، أو في تفضيل بعض البشر- أغلبها يدل على خصوصية الفضل لا على الأفضلية المطلقة من كل وجه، ويقصد بذلك: أنه ليس عندنا من النصوص التي وردت ما يدل على أن الملائكة كلهم أفضل من جميع البشر، ولا ما يدل على أن البشر كلهم أفضل من جميع الملائكة، بل ليس هناك دليل يدل على أن الملائكة أفضل من طائفة من البشر، ولا على أن البشر أفضل من طائفة من الملائكة، إنما قد يرد في بعض الأفراد أو في بعض الحالات ما يدل على التفضيل، وليس من كل وجه.
قال رحمه الله تعالى: [وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه: الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب.
انتهى].(64/2)
أدلة القائلين بتفضيل الأنبياء على الملائكة وردود مخالفيهم عليها
قال رحمه الله تعالى: [فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، وذلك دليل على تفضيله عليهم، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62].
قال الآخرون: إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم، وعبادة وانقياداً وطاعة له، وتكريماً لآدم وتعظيماً، ولا يلزم من ذلك الأفضلية، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام تفضيل ابنه عليه، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم.
وأما امتناع إبليس فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه، وهذه المقدمة الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول، وكلتا المقدمتين فاسدة.
أما الأولى فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه، ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار.
وأما المقدمة الثانية -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة؛ فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62] بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به.
ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع؛ كانوا بذلك أفضل.
وقال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم، مع طول مدة عبادة الملائكة.
ومنه: أن الله تعالى جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم.
وهذا الكلام قد اعتل به من قال: إن الملائكة أفضل، واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم، فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري.
ومنه: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] الآيات.
قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله، وليس الخضر أفضل من موسى بكونه علم ما لم يعلمه موسى، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً، وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله إلى آخر كلامه، ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علماً.
ومنه: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: ابعث من ذريتك بعثا إلى النار، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى الجنة.
فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط.
ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم الحديث.
فالشأن في ثبوته، وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه؛ فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.
ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة.
قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان).
أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا) الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا).
والشأن في ثبوتهما، فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله تعالى مرات عديدة وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؟! وهل يظن بهم أنهم بأحوالهم متشوقون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟! والنوم أخو الموت،(64/3)
أدلة القائلين بتفضيل الملائكة وردود مخالفيهم عليها
قوله: [ومما استدل به على تفضيل الملائكة] بدأ يقلب به المسألة في الاستدلال، حيث بدأ يستدل للفريق الآخر الذي يقول بتفضيل الملائكة على البشر، ومن هنا يكون قوله: (أجاب الآخرون) مراداً به الأولون الذين قالوا بتفضيل بعض البشر على الملائكة، خاصة الأنبياء.
قال رحمه الله تعالى: [أجاب الآخرون بأجوبة، أحسنها -أو من أحسنها-: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه.
ومنه قوله].
أي: من أدلة الذين قالوا بأفضلية الملائكة.
قال رحمه الله تعالى: [ومنه قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31]، ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك.
أجاب الآخرون: بأن الكفار كانوا قد قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة.
ومنه ما روى مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها.
قال الآخرون: الظاهر أن المراد المؤمن من البشر- والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم.
ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) الحديث، وهذا نص في الأفضلية.
قال الآخرون: يحتمل أن يكون المراد (خيراً منه) للمذكور لا الخيرية المطلقة.
ومنه ما رواه ابن خزيمة بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير، فقعد في إحداهما وقعدت في الأخرى، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب بصري، ولو شئت أن أمس السماء مسيت، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطئ، فعرفت فضل علمه بالله علي).
قال الآخرون: في سنده مقال؛ فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته.
وحاصل الكلام: أن هذه المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها كما تقدم، والله أعلم بالصواب].
هذه المسألة: تكلم عنها بعض أهل العلم، وممن أفاض فيها شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، ومن المواضع التي فصلت فيها في المجلد الرابع من الفتاوى، ومع ذلك لم يجزم شيخ الإسلام بقول، ولم يجزم برأي، وإن كان بين بعض الآراء الغريبة والشاذة، وبين بعض الآراء التي قد تقتضيها ظواهر الأدلة، لكنه لم يجزم بشيء.
إذاً: فالخلاصة في هذا الكلام أنه لا طائل تحته وليس من أمور الاعتقاد، لا سيما أنه لم يرد فيه نص قاطع من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ما ورد من نصوص إنما تتعلق بأفراد من الفريقين من البشر أو من الملائكة، أما جملتهم فلم يرد فيها نصوص قاطعة، والله أعلم.(64/4)
الإيمان بالأنبياء والمرسلين
قال رحمه الله تعالى: [وأما الأنبياء والمرسلون فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم.
فعلينا الإيمان بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص، وقد قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]].
الإيمان الإجمالي معناه أنه لابد لكل مسلم من أن يؤمن بأن الله عز وجل أرسل أنبياء ورسلاً، وأن عددهم كثير، وأن الله أرسل في كل أمة رسولاً، وأقام الحجة إما برسول، وإما بدين جاء به هذا الرسول حتى لو لم يكن حياً بين ظهراني أمته، بمعنى أن إرسال الرسول لا يعني: أن يكون حياً بين أمته، بل قد تبقى رسالته وتبقى شريعته ويكون هذا بمثابة إقامة حجة، وقوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] قال بعض أهل العلم: إن المقصود به: النبي والرسول، وبعضهم قال: المقصود به النبي والرسول أو من يحمل الرسالة الباقية التي لم تغير ولم تحرف من المنذرين والمصلحين، وهذا الاستدلال الثاني لا ينافي الأول، وهو الذي يدل عليه واقع الأمم والبشر؛ فإن هناك من الأمم من بقيت فيهم شرائع الأنبياء حتى بعد موتهم، فإن شريعة موسى بقيت بعده حجة على قومه وعلى البشر الذين سمعوا برسالته.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت رسالته لا تخضع للقاعدة؛ لأن الله جعل له عموم الرسالة من ناحية؛ ولأن الله أبقى دينه محفوظاً إلى قيام الساعة، لكن مع ذلك فإنه بعد موته بقيت رسالته حجة، وما جاء به حجة.
إذاً: لابد من الإيمان بأن الله عز وجل أقام الحجة بالرسل على جميع البشر وجميع الأمم، وبأنه ذكر طائفة من هؤلاء الأنبياء والرسل ولم يذكر غيرهم وهو تعالى أعلم بهم، وقد ورد في ذلك حديث حسنه كثير من أهل العلم، وقال بعضهم بأنه يصل إلى درجة الصحيح لغيره، وهو حديث أبي ذر وأبي أمامة الذي فيه ذكر عدد الأنبياء وعدد الرسل، فهذا الحديث إن صح وجب اعتقاد ما ورد فيه من عدد النبيين وعدد المرسلين، ففيه أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد النبيين فذكر أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وسأله عن عدد المرسلين فقال له بأنهم ثلاثمائة وبضعة عشر، وفي بعض الروايات: ثلاثة عشر، وبعضها: خمسة عشر، وإذا ثبت هذا الحديث فإنه نص على عدد النبيين والمرسلين، فيدخل في باب الإيمان بالأنبياء والرسل على جهة الإجمال، أما على جهة التفصيل فالمقصود: أنه لابد لكل مسلم من أن يؤمن ويجزم ويصدق بكل نبي ورد ذكره في كتاب الله عز وجل أو صح ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ورد وصفه ولو لم يرد ذكره، فلابد من الإيمان به من خلال وصفه.(64/5)
بيان معنى الإيمان بالرسل عامة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه خاصة
قال رحمه الله تعالى: [وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه، قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:81 - 82]، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12].
وأما أولو العزم من الرسل فقد قيل فيهم أقوال، أحسنها: ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، وفي قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلا.
وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى].
ويضاف إلى ما ذكر في القرآن الكريم صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
قال رحمه لله تعالى: [وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] إلى قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136]، وقال: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:4]، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها وأنها نزلت من عنده، وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:213]، وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، وقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8]، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن].(64/6)
الأسئلة(64/7)
توجيه لمن يسأل عن المفاضلة بين الملائكة والبشر
السؤال
قد نسأل عن مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر، فهل نجيب بما هو موجود في كتاب شرح العقيدة الطحاوية كما قرأنا، أم نصرف الناس عن الجواب في هذه المسألة؟
الجواب
الأولى صرف الناس عن هذه المسألة بإقناع، بأن يقال: هذه المسألة ما تعبدنا بها، وهي أمور غيبية وليس فيها نص قاطع، وينبغي للمسلم أن لا يسأل عن أمور لا يحاسب عليها يوم القيامة، ولا يحتاج في ذلك إلى كثير كلام.(64/8)
الدليل على إنزال الله تعالى الكتب على رسله
السؤال
ما الدليل على أن الله تعالى أنزل كتباً؟
الجواب
لله تعالى كتب أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى كما قال الشارح، وهذا يفهم من عموم النصوص، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/9)
شرح العقيدة الطحاوية [65]
من الأصول المقررة في باب الأسماء والصفات أن لا يخوض الإنسان في الله ولا يماري في دين الله ولا يجادل في القرآن بأن يلقي الشبهات حوله أو يشكك فيه؛ لأنها تؤدي إلى الطعن في القرآن وبالتالي الكلام فيمن أنزل القرآن وتكلم به، والواجب في هذا كله هو الوقوف عند النصوص والامتثال التام لكل أمر ونهي، والابتعاد عن المجادلة والمخاصمة والمراء.(65/1)
الحكم بإسلام أهل القبلة المصدقين بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا).
ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله، والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)، وعند قوله: (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء)].
هذا على قول مرجئة الفقهاء، وهو أن الإيمان هو التصديق والقول فقط.(65/2)
منهج السلف في ترك الخوض في الله بغير ما ورد في النصوص
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله).
يشير الشيخ رحمه الله تعالى إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]].
وهنا يؤكد قاعدة معلومة عند السلف، وهي أنه لا يجوز الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، لكن قد يكون من القول الجائز رد بعض مفردات النصوص إلى قواعد الأسماء والصفات، فهذا أمر جائز؛ لأنه يحتاج إليه الناس بعد وجود الأهواء وعدم وجود التعطيل والتشبيه والتمثيل، فإن السلف قد يتكلمون أحياناً ببعض الفروع التي ترجع إلى أصول تقررت في الكتاب والسنة، فمثلاً: قد يرجعون إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة التي خاض فيها الخائضون إلى مثل قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فهذا أمر طبيعي لا يعد من الخوض، فرد آيات الله بعضها إلى بعض، وتفسير آيات الله بعضها ببعض، وتفسير الآيات بالأحاديث والأحاديث بالآيات أمر لا يعد من الخوض، إلا إذا وصل إلى درجة المراء والتكلف.
فالكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته سبحانه بأكثر مما ورد في النصوص لا يجوز، بل هو من أشد المحرمات وأعظمها ومن أعظم الآثام، وما يضطر إليه بعض السلف من الكلام عن شبهات القوم من أهل الكلام أمر لا يعد قاعدة، إنما هو شذوذ عن القاعدة باستثناء اقتضته بالضرورة، وبعض طلاب العلم قد يستبيح لنفسه أن يقرأ كتب أهل الكلام ويتكلم أو يخوض في بعض ما خاض فيه أهل الكلام، بدعوى أنه يريد الاطلاع، فنقول: هذا لا يجوز، بل هو إثم بحد ذاته، حتى وإن اعتقد أنه يضمن سلامة عقيدته.
فمجرد الاطلاع على كتب أهل الكلام لغير ضرورة يقدرها أهل العلم ولغير حاجة يعد من أعظم الآثام وأعظم الكبائر؛ لأنها تؤدي إلى الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وإلى القول على الله بغير علم، وقد يقول قائل: أنا أقرأ ولا أعتقد ما أقرأ، فنقول: حتى مجرد قراءتك لما خاض به الخائضون هي بحد ذاتها إثم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة نهاه أشد النهي وغضب واحمر وجهه، مع أنه يعلم أن عمر -وقد هداه الله- لا يزيغ لمثل هذه الورقة، لكنه أراد أن يسد باب الاطلاع على كتب أهل الباطل، إلا لضرورة يقدرها أهل العلم للدفاع عن الإسلام أو الرد على أهل الأهواء أو حماية عقيدة المسلمين إذا انتشرت الأهواء، وهذا يجب أن يكون بحدود ضيقة، وأن يتولاه أشخاص تتوافر فيهم شروط يقدرها أهل العلم.
أما أن ينبري لهذا كل طالب علم وكل من قدر على القراءة ممن هب ودب فهذا لا يصح، وأقول هذا؛ لأني أرى بوادر تساهل كثير من طلاب العلم في قراءة مثل هذه الكتب، وهذا تفريط، فيجب أن نتناصح فيه.(65/3)
عظمة الله تعالى وتعقب ما أثر من ألفاظ محتملة في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه.
وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب].
هذه العبارات فيها نظر، فلها معنى صحيح ولها معنى فاسد، أما المعنى الصحيح فإنه إن قصد بقول: (من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي) الوقوف عندها بالإقرار والتصديق والإيمان وعدم الخوض فصحيح، وإن قصد بالقيام مع أسمائه وصفاته بعض مفاهيم الصوفية في تمثل الأسماء والصفات الإلهية في أخلاقهم وسلوكهم، كقول بعضهم بأنه يتكلم على لسان الرب أو نحو ذلك؛ فهذا أمر لا يصح، فالعبارة موهمة.
وعلى أي حال فالسلف قد ينقلون مثل هذه العبارات لأنها تحمل معنى صحيحاً، والمعنى الفاسد يستبعد، لكن في زماننا هذا نجد أن مثل هذه العبارات لابد من التنبيه عليها؛ لأن الناس لم يعد عندهم الالتزام بالعقيدة، بمعنى: أنهم لم يتشربوا العقيدة كما تشربها الأولون، فمن هنا كان لابد من التنبيه على أن مثل هذه العبارات قد تحتمل معنى فاسداً.
قال رحمه الله تعالى: [ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات، وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب].
هذه العبارة مجملة موهمة قد تحمل معنى صحيحاً بتكلف لا يفهمه الناس إلا بعد جهد جهيد، وقد تحمل معنى فاسد أيضاً، وقد اتكأ على مثل هذه العبارة كثير من ضلال الصوفية وضلال الفلاسفة وضلال الباطنية وأهل البدع والأهواء الذين أرادوا أن يطعنوا في أصول الإسلام من خلال مثل هذه العبارات التي تخرج من هؤلاء الذين قد يزكيهم بعض أهل العلم، مثل الشبلي رحمه الله، ويكون في مثل هذا الكلام فتنة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) هذه العبارة لا تفهم إلا بتكلف شديد، والمعنى الصحيح إذا أردنا أن نفسرها به نحتاج إلى أن نجلب كثيراً من العبارات والمصطلحات والمفاهيم من أجل أن نصححها، وظاهرها عدم الصحة، لكن نظراً لأن الشبلي -كما قال أهل العلم-: قد يتكلم أحياناً بعبارات فيها اضطراب، فلعل هذه من عباراته المضطربة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) كأنه يريد أن يقول: إن التمادي في التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته على جهة التكييف خلاف الأدب.(65/4)
منهج السلف في ترك المراء في الدين والجدال في القرآن الكريم
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نماري في دين الله) معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم التماساً لامترائهم وميلهم؛ لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل وتلبيس الحق وإفساد دين الإسلام.
قوله: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين): فقوله: (ولا نجادل في القرآن) يحتمل أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين إلى آخر كلامه، ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءات الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد بصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم.
نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لـ عثمان رضي الله عنه: أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم.
فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور؛ إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ورخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه.
كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره، وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية، بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه، هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء، قاله ابن جرير وغيره.
ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة، وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة؛ لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني وترك ما سواه، وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب، وهو: أن ذلك كان جائزاً لا واجباً، أو أنه صار منسوخاً، وأما من قال عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: هلم وأقبل وتعال، فاقرءوا كما علمتم.
أو كما قال.
والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟! فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها، والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء وذكروا أن آخر أمرهم السيف، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً).
قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين): تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً).(65/5)
القرآن الكريم نزل به الروح الأمين
قوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) هو جبريل عليه السلام، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أمين حق أمين صلوات الله عليه، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40 - 41]، فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فعلمه سيد المرسلين) تصريح بتعليم جبريل إياه إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً.
وقوله: (ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين) تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين؛ فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق، بل قوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) مجرى على إطلاقه: أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه؛ فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة.(65/6)
الموقف من تكفير أهل القبلة
قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)].
هذه العبارة تحتها كثير من القواعد وكثير من الفرعيات والأصول أيضاً التي تحتاج إلى توجيهها، لاسيما أن مسألة التكفير في عصرنا من المسائل التي عمت بها البلوى، وابتلي بها بعض المنتسبين إلى الإسلام، وسأعرض هنا بعض القواعد الهامة وأترك البقية والتفصيل إلى درس لاحق، لكن نظراً لأهمية الموضوع أحب أن أهيئ الأذهان ببعض المسائل حول التكفير، فأقول: أولاً: إن أغلب الذين يخوضون الآن في التكفير يخوضون بغير علم، فلا يحيطون بالنصوص ولا بقواعد الشرع ولا بأقوال السلف ولا بأحوال الأمة وتنزيل الأحكام عليها، وأكثرهم من المتعالمين المغرورين الذين ليس عندهم إلا التعالم.
ثانياً: أن مسألة التكفير من المسائل التي تعد أول ما افترقت فيه الأمة؛ لأنها نوع من التنطع في الدين، والتنطع في الدين قد لا ينتبه له الناس؛ لأن صاحبه في الظاهر ينشر الصلاح والاستقامة، والناس بفطرتهم وبحبهم للإسلام يحبون الصلاح والاستقامة، فقد يغفلون عن نزاعات التشدد ونزاعات التنطع في الدين التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن التكفير لا يصح أبداً أن يتناوله كل الناس ولا طلاب العلم، فتكفير الأعيان لا يتناوله إلا العلماء الراسخون.
وأحكام التكفير من حيث هي مذكورة في الكتب، وليس لأحد فيها فضل، لكن تنزيل الأحكام على الأشخاص أمر لا يمكن أن يتأتى إلا بجهود متضافرة من أهل العلم، والتكفير له شروط وضوابط، وله محاذير، وله أصول لابد من أن يطبقها أهل العلم، وقد تنطبق في عصر ولا تنطبق في عصر آخر، وتقال في ظرف ولا تقال في ظرف آخر؛ لأحوال الناس، فقد يكون في ظرف من الظروف أحوال المسلمين كلها استثنائية، كأن يكون عند المسلمين شيء من الإعراض والجهل والبدع والتخلف والبعد عن فقه دين الله عز وجل، وقد يكون الأمر ليس كذلك، كما في عهد السلف، حيث كان الأمر بيناً والحجة ظاهرة، ولا يزيغ أو يخرج إلى التكفير إلا إنسان تعمد خرق القواعد، إذاً: هذه المسائل يجب ألا يتناولها إلا الراسخون في العلم.
الأمر الرابع: وهو مهم جداً، وبه افتتن كثير من الشباب، وهو ما يظنه بعض الناس من أن تكفير الناس أمر في ذمته، وأنه ما لم يخرج هذه العهدة من ذمته فلن يعيش سعيداً بين الناس، وهذا غير صحيح، وكأنه لا يمكن أن يتم دينه حتى يكفر من يكفر، وهذه مزلة خطيرة جداً تجعله لا يرجع إلى العلماء ويستعجل ويتهور.
خامساً: أن التكفير أغلبه يبدأ بلوازم قبل أن يكون تكفيراً صريحاً وهذا هو بيت القصيد، فالتكفير أحياناً يبدأ على شكل نوازع وانطباعات وآراء ووجهات نظر يتساهل فيها العلماء وطلاب العلم، ثم تنمو حتى توصل إلى التكفير الضيق، ثم يتوسع التكفير، وأقصد بذلك أنه من بذور التكفير الحكم على القلوب والنيات، والاستعجال في إطلاق الأحكام قبل إقامة الحجة والأخذ بأصول العذر ونحو ذلك، ثم بعد ذلك الأخذ باللوازم.
ولذلك تجد أن التكفير أول ما يبدأ بمثل هذه الظنون، ثم بعد الظنون يبدأ بتكفير جزئي، فيكفر شخص أو هيئة، ومع مرور الزمن يكفر بلوازم تتعلق بالشخص أو الهيئة، فيقال -مثلاً-: من والى هذا الشخص أو والى هذا الهيئة فهو كافر، ومن لم يعلن كفر الكافر فهو كافر، وهكذا، وهذه نتائج طبيعية مع الزمن لابد أن تكون، والسعيد من وعظ بغيره.
ولنا في الأحداث القريبة والبعيدة شيء من العبرة، فقد حصلت قبل سنين أحداث التكفير والهجرة في مصر، ثم تفرقت الأمة، واحتوى كثير من شباب الأمة سفهاء الأحلام الذين يتعلموا عند العلماء، ثم جاءت الفتنة التي استهدف أصحابها بيت الله عز وجل، وكان أساسها التكفير، ثم الأحداث الأخيرة وما حدث من تفجيرات وغيرها من أمور شنيعة ضيعت الأمة وأوقعت ما أوقعت مما نعلم، فهذا كله نتيجة التكفير من أناس ليس لهم علم ولا فكر، مع عدم رعاية مثل هذه الظواهر وعلاجها من قبل طلاب العلم والمشايخ والولاة بشكل كافٍ.
فلذا يجب أن يتنبه طلاب العلم لمثل هذه المسائل؛ لأنها أصبحت ظواهر موجودة، وما دامت ظواهر موجودة فلابد أن تعالج، ولا تبرأ الذمة بالسكوت عنها، وكان بعض طلاب العلم الناصحون يقولون ذلك قبل أن تحدث الأحداث الأخيرة، فكان بعض الناس يقول: ربما يكون ذلك نزعات فردية، وليست مشكلة خطيرة، ولما وقع الفأس في الرأس تبين الناصح من الغافل.
فلذا يجب أن نتنبه وألا تتكرر العبرة مرة أخرى، وأنا أقول: بإمكان طلاب العلم أن يسهموا إسهاماً كبيراً في علاج ظواهر التشدد والتنطع في الدين والتكفير؛ لأن هذا يحمي الأمة ويجمع كلمتها على مشايخها وولاتها، وبإذن الله -إذا تضافرت الجهود- يضمن عدم تكرار مثل هذه الأعمال الشنيعة التي روعت الأمة وأوقعت الأمة في حرج، وكان مصدرها وأساسها هو الغلو في الدين، نسأل الله السلامة، والله أعلم.(65/7)
الأسئلة(65/8)
معنى قول الطحاوي: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)
السؤال
ما معنى قول الطحاوي: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)؟
الجواب
قول الطحاوي: (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) قد يقصد به معنى صحيحاً، وهو أن الإسلام والإيمان ينطبقان على الدين نفسه، فأصلهما واحد، أما إذا أخذنا كل عبارة بمفردها فلاشك في أن معناهما مختلفان، فهما يجتمعان في أمور ويختلفان في أمور، وهذا سيأتي ذكره على التفصيل فيما بعد.
وكل ما جاء في المتن ليس بصحيح على الإطلاق، فالشيخ الطحاوي رحمه الله من السلف، وقرر عقيدة السلف، إلا أنه فيما يتعلق بمسائل الإيمان رأى أن الخلاف بين المرجئة الذين ينتمي إليهم في مذهبه الفقهي -وهم الأحناف- وبين أهل السنة خلاف لفظي؛ فكأنه أراد أن يتوسط في استعمال الألفاظ المحتملة لتحتمل معنى صحيحاً يجمع بين قولي السلف ومرجئة فقهاء الأحناف، هذا ما أفسر به اضطراب عبارات الطحاوي رحمه الله في مسائل الإيمان، فقد اضطرب اضطراباً كثيراً، أما ما عدا ذلك فقد وافق السلف في كل شيء.(65/9)
شرح العقيدة الطحاوية [66]
أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في أبواب الأسماء والأحكام، فهم لا يكفرون أحداً بالكبائر، ولا يحكمون عليهم بالخلود في الآخرة كما تقول الخوارج، كما أنهم لا يقولون بقول المرجئة الذين يبرئون الإنسان من النار مهما ارتكب من ذنوب وسيئات ما لم يصل إلى الكفر، بل يجرون نصوص الوعد والوعيد ويفهمونها بفهم السلف الصالح، ويحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه مسلم عاصٍ متوعد في الآخرة بالعقوبة والنار، وهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله وجوده وإحسانه، كما أن التكفير حكم شرعي يثبت على من يستحقه بشروط معروفة ومقررة عند أهل العلم.(66/1)
عظم باب التكفير وموقف الناس منه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)].
هذه العبارة فيها نظر، وسيأتي استدراك الشارح عليها، فقول الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) ليس على إطلاقه كما قد يفهم منه، فظاهر العبارة يفهم منه أن أي ذنب من الذنوب دون ما يخرج من الملة لا يكفر به المرء، وهذا فيه نظر؛ لأن مسألة الاستحلال ليست شرطاً دائماً لتكفير من ارتكب بعض الذنوب، فالمسألة فيها نظر، وسيأتي الكلام عنها عند استدراك المؤلف.
قال رحمه الله تعالى: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب، واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
يقصد: أن مسألة التكفير من المسائل التي تميز فيها أهل الأهواء عن أهل السنة على اختلاف درجات أهل الأهواء، وأهل الأهواء أغلبهم مكفرة، ومنهم من لا يكفر بأي ذنب، أي: لا يكفرون بالذنوب مطلقاً، وربما لا يكفرون بأي عمل من الأعمال، كالمرجئة، فعلى هذا يكون من السمات التي تشترك فيها الأهواء جميعاً مخالفة أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير، وغالب أهل الأهواء يقولون بالتكفير ولوازمه، أو بلوازم التكفير فقط كما سيأتي، وبعض الأهواء لا يكفر، لكنه يشارك المكفرة كالخوارج والمعتزلة في كثير من الأصول، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموقف من الولاة، والسمع والطاعة لهم، والموقف من أهل السنة ونحو ذلك، حتى المرجئة الجهمية الذين لا يكفرون أبداً، ويرون أن كل من عرف الله فقد آمن ولو ارتكب أي ذنب، فإن مواقفهم فيها ما يدخل في لوازم التكفير، أعني مواقفهم التاريخية مع أهل السنة والجماعة.
فقول الشيخ: إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة، يشير به إلى أن جميع أهل الأهواء يتسمون بمخالفة أهل السنة في مسألة التكفير، وأول الأهواء خروجاً في تاريخ الأمة كان مبدؤها مسألة التكفير.(66/2)
ذكر القائلين بامتناع تكفير أحد من أهل القبلة مطلقاً
قال رحمه الله تعالى: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك بحيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين].
الذين لا يكفرون من أهل القبلة أحداً صنفان: أولهم: غلاة المرجئة الذين هم الجهمية ومن سلك سبيلهم، وعلى طريقهم الفلاسفة الجهمية، وعلى طريقهم الزنادقة وبعض أهل الكلام، وكثير من غلاة الصوفية.
والصنف الثاني: من يترددون في إطلاق الكفر على من حكم الشرع بكفره من الذين يتسمون بالإسلام، كالجهمية وغيرهم، فهؤلاء بعضهم من مرجئة الفقهاء وبعضهم من الفقهاء الذين لا يتبعون المرجئة لكن لهم بعض الاجتهادات، خاصة فقهاء أهل الكلام الذين عندهم نزعة كلامية، فأغلبهم يتردد في إطلاق الكفر حتى على من حكم بكفره شرعاً ممن يتسمى بالإسلام.(66/3)
تكفير اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين
أما الذين ليسوا بمسلمين فلم ينطقوا بالشهادتين أصلاً -كاليهود والنصارى والمشركين وعامة الكفار غير المسلمين- فهؤلاء ليسوا محل الحديث هنا؛ ولذلك ينبغي التنبه ما دمنا في أول الكلام عن مسألة التكفير في الطحاوية، ينبغي التنبه إلى أن كل الكلام الذي سيرد إلا القليل يرد في أهل القبلة من يكفر منهم ومن لا يكفر، ومتى يخرج مدعي الإسلام الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله من الملة، أو متى يكفر كفراً دون كفر أو كفراً مغلظاً؟ هذا هو موضوع الحديث.
فلذلك بعض الناس يفهم خطأ أن هذا الحديث كله ينطبق على جميع الكفار، وأن هناك خلافاً بين المسلمين في مسألة تكفير الكفار، وهذا غير وارد، فلم يرد البحث هنا عن مسألة تكفير الكفار الخلص؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة تكفير اليهودي وتكفير النصراني وتكفير المشرك وتكفير من لم يسلم ولا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا تكفيره ليس محل البحث، وهذا الخلط الذي ذكرته هو الذي أوقع كثيراً من المثقفين وبعض المفكرين وبعض أدعياء العلم وبعض قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي في أن يترددوا في الحكم بكفر الكافرين الخلص؛ لأنهم ظنوا أن هذه الأحكام في إطلاق الكفر تنسحب على اليهود والنصارى.
وهذا جهل مطبق، بل رأيت وسمعت وقرأت عن بعض المنتسبين للعلم أنه يشكل عليهم هذا الأمر، وأتعجب حقيقة: لماذا يشكل عليهم هذا الأمر؟! حيث ظنوا أن قواعد التكفير تنسحب على اليهود والنصارى! وهذا أمر غير وارد، بل أمر مفروغ منه، فما بعد حكم الله حكم ولا بعد قول الله قول، إنما نتردد في الأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها؛ والأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها هي رد بعض أفراد العمل والاعتقادات التي تصدر من الناس إلى قواعد الشرع ونصوص الشرع الصادرة ممن يتسمون بأهل القبلة، أما الكفار الخلص فليسوا محل حديث، ولا يجوز لأحد أن يتردد في كفرهم؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المجمع عليه عند المسلمين جميعاً، حتى الفرق الضالة تقول بكفر الكفار الخلص من اليهود والنصارى والمشركين.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً].
لو أن إنساناً يدعي الإسلام أنكر أو تردد في إثبات وجوب الزكاة أو في إثبات وجوب الصيام أو في ثبوت وجوب الحج أو في ثبوت وجوب الجهاد أو في ثبوت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما تواترت به النصوص، بمعنى: أنه اعتقد أن هذا لا يجب شرعاً، ونفى ما تواترت به النصوص من الواجبات؛ فإنه بذلك يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا محل اتفاق، وكذلك من أنكر المحرمات القطعية أو تردد في ذلك أو شك تديناً لا شك جهل؛ إذ قد يوجد جاهل لا يدري، لكن الذي يدين بعدم تحريم الربا أو بعدم تحريم الزنا أو بعدم تحريم الخيانة والغدر أو بعدم تحريم دم المسلم ونحو ذلك، أو يشك في ذلك؛ فإنه بذلك يكفر، وإذا أنكره فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
إذاً: الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة -أو القطعية على تعبير كثير من أهل العلم- من أنكرها يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان جاهلاً يعلم.(66/4)
التكفير بالذنوب بين النفي العام ونفي العموم
قال رحمه الله تعالى: [والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء].
يقصد بذلك أن الذين تكثر عندهم البدع بحيث تكون هي الأصل عندهم يكثر عندهم الفجور بحيث يكون هو الأصل؛ فإن هؤلاء مظنتهم النفاق والردة، وليس جزماً؛ لأننا لابد من أن نقيم عليهم الحجة، لكنه يقصد بذلك أننا نعرف ظواهر النفاق والردة بالبدع والفجور، فالناس الذين تكثر عندهم البدع إلى حد أنهم لا يعملون بالسنة ويكثر عندهم الفجور إلى حد أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ولا يحلون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله؛ فهؤلاء يظن بهم أنهم أهل نفاق وأهل ردة، لكن مع ذلك لا نحكم بنفاق الواحد منهم وردته إلا بعد استنفاذ الأصول الشرعية من إقامة الحجة والتأكد من توافر شروط الكفر وانتفاء موانعه.
قال رحمه الله تعالى: [وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب].
يقصد بهذا: أن العبارة التي أوردها الطحاوي رحمه الله قد تفهم أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا قول المرجئة، والشيخ رحمه الله قد يميل إلى قول مرجئة الفقهاء في بعض الألفاظ وإن كان يوافق أهل السنة عملياً، فهذه اللفظة محتملة، فقد يقصد بها الانتصار لقول مرجئة الفقهاء من الأحناف، وهو حنفي، وقد يقصد التعبير عن مذهب أهل السنة والجماعة بتعبير يقرب الأحناف إلى أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية.
وقول الشارح: [وفرق بين النفي العام ونفي العموم] يقصد به أن هناك فرقاً بين أن نقول: إن المسلم لا يكفر بأي ذنب مطلقاً، وبين أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً، فالنفي العام: هو أن يقال بأنا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، هذا نفي عام، وهذا لا يجوز، فليس بصحيح أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، بدليل أن الذنوب تتفاوت، فالشرك هو أعظم الذنوب، ولاشك في أنه مكفر.
بل هناك ما هو دون الشرك من المكفرات، فالنفي العام هو الممنوع الذي لا يقره أهل السنة، وهو أن نقول بأنه لا يكفر أهل القبلة بأي ذنب مطلقاً.
لكن نفي العموم هو أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً إلا إذا استحل الذنب ولو كان صغيراً وقامت الحجة، وهذا قول صحيح؛ لأن الخوارج والمعتزلة وكثير من الأهواء يكفرون بكل ذنب، وأهل السنة لا يكفرون بكل ذنب، كما أن المرجئة لا تكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا هو النفي العام الذي لا يجوز، والصحيح هو نفي العموم، أي: ليس كل ذنب يكفر به صاحبه.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)، وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يضمن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك].(66/5)
موقف الخوارج والمعتزلة من تكفير أهل القبلة
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر! وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار].
الفرق بين المعتزلة والخوارج فرق فلسفي، وليس فرقاً علمياً، فكلهم يكفرون بالكبيرة، لكن الخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر خالص، والمعتزلة ينفون عنه الإيمان، ونحن نقول: يلزم من نفي الإيمان الكفر، لكن المعتزلة جاءت بأسلوب فلسفي كعادة أهل البدع، حيث يأتون من عندهم باختراعات في الدين، فنظراً لأنهم ما توافر عندهم النص القطعي على كفر من ارتكب الذنب قالوا بأنه لا مؤمن ولا كافر، وهذه المنزلة بين المنزلتين التي ما استطاعوا أن يفسروها إلى الآن؛ لأن نصوص الشرع كلها ليس فيها أن هناك حالة ثالثة، بل إما أن يكون المرء مؤمناً، ودرجات الإيمان تتفاوت تفاوتاً عظيماً، أو يكون كافراً، ودرجات الكفر تتفاوت.
فهم يقولون: لا نسميه مؤمناً، فأخرجوه من الإيمان، ونلزمهم شرعاً بأن يدخلوه في الكفر، لكنهم فروا مما قالت الخوارج؛ لأنهم قاموا بردة فعل ضد الخوارج، ومسألة الحوار بينهم وبين الخوارج هي التي جعلتهم يتكلفون مذهباً وسيطاً بزعمهم، وهو أنه -أي: مرتكب الكبيرة- إذا لم يتب في الدنيا فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، وفي الآخرة بينهم تشابه، لكن عند التفصيل نجد أن بينهم شيئاً من الفروق الفلسفية، فالخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وعذابه عذاب الكافرين والمشركين، وليس بينه وبينهم فرق، والمعتزلة تقول بأنه مخلد في النار أيضاً، وتقول بمنع الشفاعة كما تقول الخوارج، لكنها تقول بأن عذاب مرتكبي الذنوب في الآخرة -وإن كانوا مخلدين في النار ولا تشملهم الشفاعة- غير عذاب المشركين، وهذه من عندهم جاءوا بها تخلصاً من موافقة الخوارج.(66/6)
ذكر القائلين بحصر التكفير في الاعتقاد دون العمل
قال رحمه الله تعالى: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال].
يعني: لا يكفرون بالأعمال، إنما يحصرون التكفير في الاعتقادات البدعية.
قال رحمه الله تعالى: [لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً].
هذه النزعة ظهرت الآن على ألسنة بعض المنتسبين للعلم، وكتبوا فيها مؤلفات، وأثيرت القضية بين المشايخ وطلاب العلم بشكل فيه لبس وفيه غموض، وأنا أشم في رائحة إثارة هذه القضية تأثراً بجماعة التبين والتوقف، حيث تثار الآن قضية العذر بالجهل وعدم العذر بالجهل، وقضية أن الكفر هو الكفر الاعتقادي فقط، فهذه مسألة -في الحقيقة- تحتاج إلى تفصيل.
فهناك من يتبنون أن الكفر لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، وألفت في هذا مؤلفات، والمسألة فيها لبس، حتى إن بعضهم انتزع من بعض المشايخ والعلماء موافقة على مثل هذا القول مع أن الأمر يتضمن مذهباً آخر هو أشبه بمذاهب الواقفة ومذاهب بعض أهل الكلام القديمة؛ بل بمذاهب بعض معتدلة الخوارج إن صح التعبير أو غيرهم، بل أحياناً قد يوافقون مذاهب بعض المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء، فالمسألة فيها لبس.
فلذلك أقول: لا ينبغي أن نسلم بهذا المبدأ، وهو القول بأنه لا يكون الكفر كفراً إلا إذا كان اعتقادياً، فهذا غير صحيح ولا تدل عليه النصوص، بل هناك نصوص تدل على أن بعض الأعمال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، وبعض الأقوال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، ثم إن ترك الأعمال إذا كثر، وفعل الموبقات إذا كثر، بحيث صار الإنسان يفعل كل الموبقات مما يقدر عليه ويترك جميع الواجبات فإنه بذلك يكفر ولو لم نعرف اعتقاده.
إذاً: المسألة فيها تفصيل، فالكلام ليس على إطلاقه، وأقول: إن المسألة أثيرت الآن وتأثر بها كثير من طلاب العلم غير المتخصصين في العقيدة، فصار فيها لبس، وأرجو التنبه لذلك، والحذر من إطلاق مثل هذه الأحكام، كالقول بأنه لا يكون الكفر إلا بالاستحلال أو لا يكون الكفر إلا إذا كان اعتقادياً، أو القول بمسألة عدم العذر بالجهل مطلقاً، فهذه مسائل تحتاج إلى تحرير؛ لأن الناس يتلاعبون فيها بالألفاظ، ولكل إنسان فيها مفهوم، فينبغي أن تحرر أولاً، ويحرر المقصود ثانياً، ويفصل فيها ثالثاً، من ادعى أن هذه قواعد لازمة وأنها هي التي عليها السلف فأظنه ما صدق، السلف يفصلون، فقد تختلف أحوال الناس في مسألة العذر بالجهل أو الاستحلال أو الكفر الاعتقادي والعملي، تختلف أحوال الناس من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة.
قال رحمه الله تعالى: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة؛ فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون)].(66/7)
ضرر التكفير وعظيم خطره
هنا بعض التعليقات التي يقتضيها المقام، وهي متعلقة بالتكفير، وموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة، وهو من أعظم بواعث الفتنة قديماً وحديثاً -كما ذكر الشارح- بين المسلمين، وكما قرر أهل العلم، ومعروف سلفاً أن أول خروج عن أهل السنة والجماعة وأئمة المسلمين ظهر في التاريخ كان بسبب التكفير، وهو خروج الخوارج، وأول فتنة ظهرت في التاريخ -وهي الفتنة السبئية- كان من سماتها التكفير ونزعات التكفير، فموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة التي يجب التحذير منها في كل وقت ويبصر بها المسلمون على جهة العموم، وعندما تأتي مناسباتها على جهة الخصوص أرى أنه يتعين الكلام عنها، كمثل ظروفنا الراهنة الآن.
والحديث عن التكفير كان يجب أن يكون قبل هذا الوقت من قبل طلاب العلم وأهل العلم المعنيين بأمر الأمة، وأظن أن المشايخ وكثيراً من طلاب العلم قد أدوا بعض الواجب في ذلك، لكن ليس بالقدر الكافي في نظري.(66/8)
السبب الداعي إلى الحديث عن التكفير في هذا الزمن
وربما يقول قائل: لماذا الكلام عن التكفير الآن؟ فأقول: أولاً: لأنه كثرت الحاجة إلى الحديث عن التكفير؛ حيث ظهر في طوائف من أبناء المسلمين -وإن كانوا قلة- نزعات التكفير، وهذا أمر خطير على الإسلام والمسلمين عموماً، ثم على أهل الخير وطلاب العلم والدعاة والمتدينين على وجه الخصوص، ثم إنه من بواعث الفتنة في أي مجتمع تحدث فيه هذه النزعات، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه ليس صحيحاً أن الكلام لم يكن إلا في هذه المناسبة أو في هذه الظروف، بل قد مرت مناسبات كثيرة من المناسبات التي تستدعي الحديث عن التكفير والتحذير من بواعثه ومن نزعاته وضرورة نصح المسلمين فيه وشباب المسلمين خاصة، وهذا أمر ضروري تقتضيه نصوص الشرع.
ثم إنا نجد من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمواجهتهم للبدع والمشكلات أنهم واجهوا قضية الخوارج -التي هي قضية التكفير- بقوة لم يواجهوا بها غيرها من البدع.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء جملة، وذكر الخوارج الذين هم أصل التكفير تفصيلاً، وحينما ذكر أهل الأهواء حذر منهم وأمر بجهادهم بالرد عليهم ونحو ذلك، لكنه خص الخوارج بوجوب قتالهم، وقد يقول قائل: لماذا الخوارج؟ وهل الخوارج أخطر عقيدة؟!
و
الجواب
لا، بل هناك ما هو أخطر من عقائد الخوارج، كالرافضة والباطنية والجهمية وغيرهم، لكن -كما ذكر أهل العلم، واستقرأ هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه- لكون الخوارج أكثر فساداً في الأرض؛ لأنهم أناس يواجهون المسلمين بالقوة والسيف؛ ولأنهم من طبائعهم أنهم لابد من أن يهلكوا أو يهلكوا، فمن ينزع نزعة الخوارج أو ينزع نزعة التكفير لا يعيش بين الناس مستريحاً، بل إما أن يؤذي الناس ويقاتلهم ويفعل كل ما يخل ويفسد، وإما أن يقضى عليه، فلذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب قتال الخوارج ووعد من قتلهم.
ولذلك فرح الصحابة لما تحققوا أن الخوارج الذين قتلوهم في النهروان هم الذين وعد النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم بأن له الجنة، وفرح الإمام علي رضي الله تعالى عنه بذلك فرحاً شديداً، وكان الصحابة إذا سمعوا بالخوارج هبوا لقتالهم، ولما سمعوا بالقدرية حذروا منهم، مع أن القدرية أكفر من الخوارج، فالخوارج ما كفروا كلهم، ولا قيل بكفرهم، لكنهم مع ذلك أمر بقتالهم، والصحابة قاتلوهم واستبشروا بقتالهم وفرحوا بذلك، وكانوا كلما ذكر لهم فئة خارجية يهبون لقتالها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ظهر الشيعة جادلوهم بالكلمة وأقاموا عليهم الحجة، ثم لما سمعوا بالقدرية كذلك جادلوهم بالكلمة وأمروا بهجرهم حتى أصر بعض رءوسهم من أهل البدع، فكانوا يأمرون بقتل الرءوس فقط، هذا أمر.
الأمر الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في نصوص أخرى خوارج يأتون بعد الخوارج الأولين، من ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنه (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية) إلى أن قال: (فإذا لقيتموه فاقتلوهم فإن لم قتلهم الجنة).
ولا أعرف أن هناك فئة ظهرت من الخوارج الآن ما عدا التكفير والهجرة، وقد انقرضت، لكن سمات الخوارج بدأت تظهر، وأول سمات الخوارج التكفير، والتكفير وجد عند فئات من أبناء المسلمين وإن كانت قليلة والحمد الله.
فأغلب أبناء المسلمين على الرشد -إن شاء الله- وعلى الاستقامة، ولاشك أن سائر شبابنا -والحمد الله- فيهم تعقل وفيهم علم وفيهم فقه، لكن يوجد شذوذ في طوائف من الشباب، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يجر الشذوذ على الأمة في دينها ودنياها إذا أهمل من وبال على أهل الخير خاصة وسائر المسلمين عامة، وشواهد ذلك بدأت، إذاً: لماذا ينزعج بعض الناس من الحديث عن نزعات التكفير ونحن نراها ونسمعها فعلاً؟! فأنا أعلم أن نزعات التكفير موجودة فعلاً، وتزداد الآن، وأن بعض طلاب العلم والمشايخ الذين يعرفونها يحاولون علاجها، وبعضهم ربما يتردد في العلاج ظناً منه أنها لن تصل إلى حد الخطورة، وأقول: إنها وصلت إلى حد الخطورة، وحوادث التفجير ونحوها دليل ذلك.
فكل حوادث العنف والقوة تنتج عن هذه النزعات، سواء أكانت تكفيراً خالصاً أم استعداداً للتكفير أم براءة من المخالفين، أم استباحة لوسائل العنف، كلها ترجع عاجلاً أو آجلاً إلى التكفير، فمن هنا أقول: إن سمات التكفير ظهرت، وسمات الخوارج ظهرت بنزعات في أفراد وفي جماعات وفي اتجاهات، فإذا ظهرت فلابد من الحديث عنها، وأرى أنه لا يسع طلاب العلم السكوت، بل لابد من التحذير حتى لا يقع كثير من شبابنا الذين لم ينهلوا من العلم الشرعي بقدر كاف، والذين تحكمهم العواطف وقلة التجربة وعدم الرجوع إلى الراسخين في العلم في التكفير من حيث يشعرون أو لا يشعرون.(66/9)
قواعد ومسائل مهمة في مسألة التكفير(66/10)
التكفير المتناول حكمه عند أهل العلم يخص أهل القبلة دون الكفار
أما قواعد التكفير: فالقاعدة الأولى قد أشرت إليها، وهي أنا عندما نتكلم عن التكفير وعدمه أو نحو ذلك، وأن كل ما يتكلم به أهل العلم في التكفير ليس المقصود بذلك تكفير الكفار الخلص؛ لأن هذا أمر مفروغ منه، كتكفير اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين وغيرهم ممن حكم الله بكفرهم، فهؤلاء ليسوا محل الحديث.
إذاً: محل الحديث في التكفير هم الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الذين يسمون أهل القبلة، فهؤلاء هم الذين يتكلم عن التكفير فيهم.(66/11)
التكفير من سمات أهل الأهواء
القاعدة الثانية: أن التكفير يعد من سمات أهل الأهواء دائماً، إلا إذا صدر التكفير عن علماء راسخين توافرت فيهم شروط الاجتهاد وعرفوا شروط التكفير وموانع التكفير، وكانوا ممن يستطيع أن يحكم بالكفر على جماعة أو أفراد بعد استفراغ جميع وسائل الاجتهاد.
إذاً: من سمات أهل التكفير إعلان التكفير وإشهاره، ولا يعني ذلك أن أهل السنة لا يكفرون من يكفر، لكن ليس من سمتهم التكفير، وليس من طبعهم التكفير، وليس همهم التكفير أصلاً إلا بمقتضى النصوص الشرعية وبتوافر أمور الاجتهاد.(66/12)
تكفير أهل القبلة أمر غير متعبد به
القاعدة الثالثة: أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، فبعض الناس -خاصة الجهلة وقليلي العلم- يظنون أنهم إذا ما كفروا من يظن أنهم كفار؛ فإنه لا تبرأ ذممهم، فلذلك تجد عند الواحد منهم شيئاً من التوتر، وتجده حريصاً على نبش الأمور وبحثها: هل يكفر من فعل كذا أو من قال كذا أو لا يكفر؟ وهل الجماعة الفلانية التي قالت أو ابتدعت تكفر أو لا تكفر؟ إلى آخره، وينبش عن أقوال الأشخاص وأفعال الأشخاص والهيئات والمؤسسات والجماعات ظناً منه أنه إذا لم يكفر فقد أثم، وهذا غلط، فالمسلم لم يتعبد بالتكفير أصلاً، وليس مسئولاً عن نبش أحوال الناس والبحث عن أمور المسلمين حتى أهل البدع منهم، فلا ينبغي أن تنصرف الهمم إلى مسألة الحكم بكفرهم أو عدمه ممن ليس من أهل الاجتهاد الراسخين في العلم.
وهذه المسألة خفيت على كثير من أبنائنا من بعض المثقفين وبعض قليلي العلم، يظنون أنهم يجب عليهم أن يكفروا، وأنهم تعبدوا بإعلان التكفير، وأن من لم يكفر منهم فقد داهن، وأن مقتضيات الولاء والبراء أن ينبش عن أحوال الناس ويحكم على الجماعات والأفراد والهيئات والمؤسسات والدول، وهذا ما هو بصحيح، بل هذه فتنة، ومن تتبع هذه الأمور حري أن يقع في الفتنة ما لم يتداركه الله عز وجل فيترك هذه الأمور.
فالمسلم عليه أن يسير كما أمره الله عز وجل، فيطلب العلم الشرعي، ويؤهل نفسه إذا كان عنده استعداد للتبحر في العلم الشرعي، فإذا وصل إلى مستوى المجتهدين عمل بقواعد الاجتهاد، وسيجد بالضرورة أنه ليس من شروط إسلام المسلم أو تدين المتدين أو صلاح الصالح أن ينبش عن أحوال الناس.(66/13)
الأصل امتناع التكفير
القاعدة الرابعة: أن الذي ورد في النصوص الشرعية هو الوعيد في تكفير أهل القبلة، كما ورد في الحديث الصحيح: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، نسأل الله السلامة.
فهذا يفهم أنه يجب أن تحترز من إطلاق الكفر على غيرك؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولست من أهل الاجتهاد الذين يملكون الحكم بالكفر، بل أهل الاجتهاد أكثرهم يتورع عن الحكم بالكفر، إذاً: يجب أن يتوقف المسلم في إطلاق الكفر على الأشخاص والهيئات والجماعات وغيرها حتى على أهل البدع؛ لأن أهل البدع يتفاوتون، فمنهم من يكفر ومنهم من لا يكفر، ثم إن للتكفير شروطاً وله موانع لا يتحقق استجلاؤها والاجتهاد فيها إلا على أيدي العلماء الراسخين.
إذاً: الصحيح هو أنه ورد الوعيد في التكفير، فإذا كان كذلك وجب أن يحذر المسلم من أن يكفر غيره أو أن يقول بكفر أحد، وهذه مسألة خطيرة جداً على ذمة المسلم ودينه ومصيره.
القاعدة الخامسة: من يتناول التكفير؟ هل لكل مسلم أن يبحث في مسألة التكفير ليكفر من يشاء ويترك من يشاء؟ أو لكل من استطاع أن يقرأ النصوص أن يكفر أو لا يكفر؟ أقول: مسائل التكفير ينبغي ألا يبحث فيها إلا من قبل المتخصصين الذين تتوافر عندهم شروط الاجتهاد، وتتوافر فيهم صيغة الرسوخ في العلم مع الرأي والتجربة وإدراك قواعد الشرع وإدراك أحوال الأمة بالتفصيل.
فلا ينبغي لكل مسلم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي لكل طالب علم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي للعالم بمفرده أن يستقل في مسألة إطلاق الأحكام على المسلمين، لاسيما في هذا الوقت الذي خفي فيه كثير من الأمور، وغمض فيه كثير من أحوال المسلمين، فلابد من التأني في إطلاق الأحكام، ولا يتم ذلك إلا من قبل أهل العلم الراسخين في العلم.(66/14)
التفريق بين الحكم بكفر العمل وتكفير المعين
القاعدة السادسة: أنه يجب أن نفرق -كما كان السلف- بين الحكم بالكفر وبين تكفير الأعيان والأشخاص والهيئات وغيرها، فطريقة السلف أنهم يقررون الأحكام، فيقولون: الأمر الفلاني كفري، والقول الفلاني كفري، والاعتقاد الفلاني كفري، فهذا يكفر به من قاله، وهذا يكفر به من اعتقده، وهذا يكفر به من فعله، وذاك ليس كذلك، إلى آخره.
هذه بالنسبة إلى الأحكام، لكن تطبيق الأحكام على الهيئات والأشخاص والمؤسسات والجماعات ونحوها له أسلوب آخر لا يلجأ إليه إلا في الحالات النادرة وعند الضرورة، ولذلك تجد كلام السلف في أحكام التكفير كثيراً جداً جملة وتفصيلاً، لكن كلامهم في الأعيان تجده قليلاً جداً، حتى إن بعضهم كان يتردد في تكفير من تبين كفره عند عموم الأمة، وقليل من أهل العلم من كان يطلق التكفير، خاصة أهل العلم الكبار، ككبار الصحابة، بل كل الصحابة، فالصحابة واجهوا أهل البدع وما كفروهم، حتى أولئك الذين قاتلوا الخوارج، وأول خصم وأشد خصم على الخوارج هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لما قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
وكذلك سائر الصحابة لما واجهوا القدرية، ولما واجهوا أقوال كثير من الشيعة وغيرهم، فإنهم كانوا يترددون في تكفير الأعيان والأشخاص، أما التكفير بالأحكام فأمره واضح وسهل، بأن يقال: من فعل كذا فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من اعتقد كذا فهو كافر، فهذه مسألة سهلة؛ لأنها حررت علمياً عند السلف، لكن السلف يفرقون بين هذا وبين إطلاق الأحكام على الأشخاص، ولذلك -كما قلت- تجد كبار أهل العلم من الصحابة إلى يومنا هذا يندر عندهم التكفير، بل بعضهم لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً مع أنه لا تنقصه عقيدة الولاء والبراء، ولا تنقصه الغيرة على دين الله عز وجل، كالإمام أحمد رحمه الله، فما كفر إلا في حالات نادرة جداً أقام الحجة فيها بنفسه، كتكفيره من قال بخلق القرآن؛ لأنه علم يقيناً أن الحجة قامت، وأن شروط الكفر توافرت، وأن موانع التكفير منتفية، فأطلق الكفر بعد ذلك، أما فيما عدا ذلك فإنك تجد الإمام أحمد تورع كثيراً عن إطلاق الكفر حتى فيمن كفرهم السلف قبله.
وأقول: الخلل الحاصل الآن عند كثير ممن يدعون العلم هو سرعة تطبيق الأحكام على الأعيان، فينزل الدليل على القضية مباشرة، فيكفر الشخص، مع أنا نعلم يقيناً أنه ما توافرت عنده شروط التكفير، ولا اجتهد في معرفة ما يعارض إطلاق التكفير من الموانع الشرعية المعروفة، مثل: الإكراه، ومثل: التأول، ومثل: الجهل، وغير ذلك مما هو معروف ويحدث عند كثير من المسلمين في بعض العصور والأمكنة والأزمان.
وعلى هذا فإن تكفير الأشخاص وتكفير الأعيان وتكفير الهيئات وتكفير الجماعات وتكفير الدول أمر خطير يجب ألا يسود بين الناس، ويجب أن يترك لأهل العلم الراسخين، وإذا أدرك بعض طلاب العلم أن هذا الأمر بدأ يظهر بكثرة الثرثرة في هذه الأمور وجب عليهم أن يناصحوا الناس وأن يعظوهم في ذلك وأن يذكروهم بتقوى الله عز وجل، فلا يتحدث في هذه الأمور بغير علم، وأغلب ما يتكلم فيه الناس الآن عواطف بناء على الشائعات بدون تثبت وبدون معرفة لهذه الأحكام التي أشرت إليها.(66/15)
شروط التكفير وموانعه أمر يلزم استحضاره
ومن الأمور المهمة ما يتعلق بضرورة التذكير دائماً بأن التكفير له شروط، والشروط تزداد وتنقص من شخص إلى شخص، ومن عهد إلى عهد، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، وكذلك للتكفير موانع لابد من اعتبارها، وهذه الموانع تختلف من عصر إلى عصر، ومن شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، فأوضاع الضرورات غير أوضاع الحالات العادية، وأوضاع الإكراه تختلف عن أوضاع الاختيار.
لذا ينبغي أن نفرق في مسألة الأشخاص بين من يعلم ومن لا يعلم، ومن أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، ومن يشترط أنه علم وسمع وتواتر عنده الأمر ومن لا يشترط فيه ذلك، ومن يمكن أن يكره أو يمكن أن يجهل أو يقع في الأمر المحظور ضرورة ونحو ذلك، ومن ليس كذلك، لاسيما في أحوال المسلمين اليوم، ففي أحوال المسلمين اليوم نجد كثيراً من الأمور انقلب من الحال العادية إلى أحوال الضرورات، وأضرب لهذا مثالاً واحداً وكثيراً ما أضربه؛ لأنه من أوضح الأمثلة، حيث يدل على أن أحوال المسلمين يجب أن نتأنى فيها في إطلاق الأحكام بالكفر أو نحوه عليهم.
ففي البلاد التي يحكم فيها بالقانون الوضعي -نسأل الله العافية- قد يضطر مسلم إلى أن يحمي عرضه باللجوء إلى القانون الوضعي، فلا يحمي عرضه إلا باللجوء إلى القانون الوضعي، أليس هذا الوضع محرجاً؟! إنه إذا ما لجأ إلى المحكمة القانونية سينتهك عرضه غداً، فيمكن أن تؤخذ ابنته أو زوجته؟ أليست هذه معضلة؟ وهناك مسألة أخرى جاءت فيها أسئلة فعلاً واجهتها وواجهها غيري، والمشايخ يواجهونها أكثر منا، حيث يقول السائل: أنا في بلد مسلم من بلاد الإسلام، لكن يلزمني أن أحلق لحيتي، وأن أترك الصلاة جماعة، ولا أصلي إلا خفية، ويلزمني أحياناً أن أتساهل في عرضي، فبنتي تختلط بالشباب في الجامعة، وتسبح معهم في المسابح رغم أنفي، وتختار صديقاً، وإذا عارضت أسجن إلى آخر ذلك من المآسي التي لا نحب أن نجرح بها أفئدة المؤمنين، يقول: أنا مضطر لأن أسافر إلى بلد الشرك؛ لأني سأصلي وأحمي عرضي وأدعو إلى الله عز وجل وأعمل بشعائر الدين تحت ظل قانون كافر خالص في فرنسا أو أمريكا أو ألمانيا أو أي مكان، فما رأيكم؟! أليس السفر من بلد الإسلام إلى بلد الشرك محرماً في الأصل؟! وإذا كان اختياراً وتفضيلاً لبلد الكفار ألا يكون كفراً؟! فما رأيكم في هذه الحالة؟ فمن يتتبع أحوال المسلمين يجد أن مفردات الضرورات كثيرة جداً، وهناك ما هو أعظم من ذلك، فهناك ما يمس جماعات المسلمين ومجتمعاتهم لا أفرادهم.
إذاً: فالمفتي الذي لا يعتبر هذه الأحوال لا أظنه يصيب الحق، ولذا لما نظر في الأمر بعض الذين عندهم تدين بغير بصيرة كفروا المجتمعات المسلمة على هذا الأساس، فإذا سئلوا عن السبب ذكروا هذه الأحوال على أنها موجبة لتكفير المجتمع المسلم، فمن هنا قالوا بأقوال الخوارج.
وقد يقال: ألا يجب الدفاع عن العرض ومدافعة المنكر ومدافعة الشر قبل وقوعه؟ فنقول: بل يجب على المسلمين ذلك، ولكننا نتكلم عن الحكم على أمور ليست بإمكان كثير من المسلمين الآن، وفرق بين ما يجب وبين علاج الواقع، فأنا أتكلم عمن لا يستطيع، فالإنسان إذا لم يستطع حماية نفسه إلا بالأساليب التي ليست مشروعة هل يلجأ إلى الأساليب التي ليست مشروعة؟ وهل الغاية هنا تبرر الوسيلة؟! الأمر الثاني: أن المسلمين الذين هذه أحوالهم في البلاد الأخرى لا يستطيعون أن يعملوا إلا أشياء تضر بهم وتضر بالأمة وتضر بالمجتمع، بل أحياناً قد يتصرف الإنسان تصرف متشنج يحمي فيه نفسه وعرضه، لكن بعد ذلك تتضاعف المشكلة أكثر، فينتهك عرضه وينهب ماله ويؤذى أقاربه ويؤذى أصدقاؤه، وتصير المشكلة جماعية بعد أن كانت فردية.
فكثير من المسلمين اليوم جهلة، وأحوال المسلمين الآن أكثرها واضحة ليست خفية، فلا نبن الأمور على أحكام وهمية، نعم يجب على المسلمين أن يكونوا متمسكين بدينهم، وألا يقع هذا الذي حصل، يجب ألا تكون البدع موجودة في المسلمين؛ لأنها هي التي أدت إلى ضعف اليقين وضعف الإيمان في الناس حتى صار ما صار، ويجب ألا يهيمن التصوف والخزعبلات على عقول المسلمين التي أدت إلى هذا الوهم والسلبية، والأمر لله من قبل ومن بعد، فالتقصير حصل والمآسي حصلت، فنحن لا نفترض وقوع أشياء نخشى أن تقع ونقول: يجب أن نتفاداها قبل أن تقع؛ بل نحن نتكلم في أمور وقعت في المسلمين.
فهذا كله جرنا إليه مسألة أنه ينبغي للمسلم ألا يتعجل في التكفير؛ لأنه ليس كل من وقع في مثل هذه المحظورات، أو وقع في البدع، أو وقع في الأمور التي ورد النص بالتكفير فيها خاصة نحكم بكفره؛ إذ الأحوال تنقلب أحياناً إلى العكس، فأغلب الأحكام يعذر المسلمون فيها على الأقل في التكفير، ولا نقول: ليس فيهم فسق ولا فجور! فلا شك أن أكثر المسلمين فيهم بدع وفيهم فجور وفيهم فسق وفيهم إعراض عن شرع الله عز وجل، ولولا ذلك ما صاروا إلى ما صاروا إليه؛ لأن الله عز وجل ضمن لهم إن تمسكوا بدينه أن ينصرهم ويمكن لهم في الأرض، لكن التقصير حصل، وما دام قد حصل فما العلاج؟ هل العلاج أن يكفر الناس ب(66/16)
التوقف في الحكم بإسلام المسلمين قبل التبين بدعة عصرية ضالة
المسألة التي تتبع هذا الأمر: مسألة التوقف والتبين، وهي من البدع التي انتشرت بين أبناء المسلمين في بعض البلاد التي يكثر فيها الجهل، ومسألة التبين والتوقف هي من آثار الهجرة والتكفير، وهي تابعة لمسألة التكفير، لكنها لم تصل إلى حد التكفير.
فهناك مجموعات أو جماعات أو أفراد -خاصة الذين ما أخذوا العلم على أصوله الصحيحة، ولا تعلموا على أيدي العلماء، وما عرفوا كيف يتناولون أصول الولاء والبراء ويرجعونها إلى قواعد الشرع، ولا عرفوا أقوال أهل العلم الراسخين في العلم- أخذوا نصوص الولاء والبراء ونصوص الوعد والوعيد فنظروا فيها ففهموا أنها تستدعي التوقف في إسلام جميع المسلمين أو أكثر المسلمين، وأنه لا بد من التبين قبل الحكم بالإسلام، وهذه النزعة هي من جنس التكفير، والغالب أنها تؤدي إلى التكفير، وقد كثرت في بعض المنتسبين للعلم الشرعي ممن لم يتعلموا على العلماء ولم يعرفوا قواعد الشرع.
فبعض هؤلاء يقول: إن المسلمين الأصل فيهم الإعراض عن الإسلام، وبعضهم يقول: الأصل فيهم الردة، وبعضهم يقول: الأصل فيهم عدم تحقق الإسلام، ولا يحكم بالردة ولا الكفر، إذاً: نتوقف في إسلام أهل القبلة إلا من عرفته وأقمت عليه الحجة وتبين لي أنه مسلم، فمن هنا قد لا يصلون وراء كل أحد من عامة المسلمين، وقد لا يتعاملون التعامل الشرعي مع كل أحد، فقد لا يردون السلام، فبعضهم إذا سلم عليه مسلم آخر ما تبين له حاله يقول: صباح الفل، صباح الخير، أو: أهلاً وسهلاً، ولا يقول: وعليكم السلام، يقول: أخشى أنه غير مسلم، فأكون قد وقعت في الإثم.
وقد يستغرب من هذه الظواهر، وقد يقول قائل: أين هي؟ وأقول: إنها موجودة، وإن كانت -والحمد الله- قليلة، ولكن ليس عندنا عصمة من الله عز وجل، فهذه الظواهر وصلت إلينا كما وصل التكفير إلى بعض من كانوا شذاذاً لتساهلنا وعدم عنايتنا بهذه الأمور، فالتبين موجود الآن وظهرت له مؤلفات وكتب وله زخم كبير بين طائفة من المنتسبين للعلم، وتثار قضاياه، خاصة في مصر وفي أفغانستان وفي بعض البلاد الإسلامية.(66/17)
عظيم خطر نزعات التكفير
المسألة الأخرى: خطورة نزعات التكفير قبل التكفير، ولذلك أرى أن طلاب العلم يجب عليهم أن يهتموا بالأشياء الممهدة للتكفير ويعالجوها قبل أن توصل إلى التكفير؛ لأن الغالب أن ظواهر ونزعات التكفير إذا لم تعالج قبل وصول أهلها للتكفير فإنه يصعب علاجهم بعد ذلك بحسب التجربة قديماً وحديثاً، فمن وصل إلى التكفير الخالص فإنه في الغالب يصعب علاجه، لا يمكن إقناعه إلا في حالات نادرة جداً، أما الذين يمر عليهم الكلام بدون اقتناع، وربما يتأثرون بعض التأثر، فمسألتهم مسألة ظواهر تعالج.
فلذلك أقول: إنه ينبغي أن نحذر ونُحذِّر ونتنبه للنزعات الأولى الممهدة للتكفير، ومن هذه النزعات التشدد والشدة في الكلام في الولاء والبراء إلى حد يوقع الناس في الحرج مع آبائهم وأقاربهم، ومع شيوخهم وزملائهم، ومع المسئولين وأهل الرأي والمشورة فيهم، ومع كبار القوم وذوي الهيئات إلى آخره، فإذا وجدت الشدة إلى حد يخرج عن الحد الشرعي المعروف عند أهل العلم؛ فاعرف أن هذه نزعة يخشى منها أن تصل إلى التكفير، فيجب أن تعالج، فالبراء والولاء أمر شرعي، لكن له ضوابطه وموازينه، فينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الفقه الراسخين، خاصة إذا انبثق عنه مواقف وتعامل، فقد تجد بعض الناس قد هجر عمه أو خاله أو قريبه، فتسأله: لماذا؟ فيقول: في بيته كذا من المعاصي، وعنده كذا من التقصير، وليست تلك مكفرات، ولكن تجده أنه عامله معاملة الكافر، أو قريباً من معاملة الكافر، فلا يأكل ذبائحه، ولا يجيب دعوته الواجبة، وقد لا يشارك في الأمور الواجبة له شرعاً، وهذا ناتج عن شدة القول بالبراءة.
وبعض الناس تجده يعد أصدقاءه على الأصابع، والبقية يتبرأ منهم، ويقول: ما أجد على الدين الصحيح إلا فلاناً وفلاناً! وهذا ليس صحيحاً، فإن الصالحين كثيرون، فإذا وجد تشدد في الولاء تضيق دائرة الولاء إلى حد غريب لا يعرفه أهل العلم وأهل الاستقامة.(66/18)
استحلال المحرم من حقوق الآخرين نتيجة حتمية للتكفير
ومن آثار التكفير الاستحلال، كاستحلال الغيبة أحياناً، واستحلال القدح في المخالف وإن كان من المسلمين إلى حد التبديع والتكفير والإخراج من الملة أو دون ذلك، واستحلال الوسائل غير المشروعة، واستعمال المكائد التي فيها غدر وخيانة، أو استحلال الأساليب التي فيها سوء أدب، فقد تجد وإن كان -بحمد الله- ليس كثيراً، وقد وجد في بعض البلاد، ومثاله: أن يأتي طالب علم له رأيه في قضية من القضايا فيصعد على المنبر أو في قاعة من القاعات أو في مكان من الأمكنة ليقرر أمراً من أمور الدين، فتجد أصحاب هذا التوجه الذين عندهم شدة يعملون عملاً ليس من الأدب تجاه هذا المخالف، فإما أن يخرجوا كلهم من المسجد، أو يغيروا جلستهم بحيث يجعلون اتجاههم عكس اتجاهه فيعطونه ظهورهم، وهذا نوع من الاستفزاز والنكاية بهذا المخالف لأنه يخالفهم، وهذه العلامات من سمات الخوارج.
أقول: مثل هذه الأساليب لا يفعلها إلا أحد اثنين: إما جاهل، وهذا يجب أن يعلم، وإما صاحب هوى، فإذا لم يصحح عمله ولم يوجد من طلاب العلم من يبين له أن هذا غلط فستتجارى به الأهواء وربما يصل إلى التكفير، والله أعلم.
وأعظم من ذلك استباحة الأعمال التي تعد من الفساد في الأرض، كاستباحة التفجيرات، والإحراق، والنسف، والنكاية بالآخرين إلى حد يتلف النفوس، أو إلى حد يخل بالأمن، أو إلى حد يوقع المؤمنين ويوقع أهل الخير في فرقة، أو إلى حد يستعدي الأشرار على الأخيار؛ لأن الأشرار لا يميزون، فمن كان متديناً وفعل شيئاً حسب أن فعله من الدين.
إذاً: ألا يجب الأخذ على يد السفيه ممن ينتسب للتدين؟! لا سيما أن مثل هذه الأفعال خطير على الدين وعلى المسلمين أعظم من خطر الكثير من أفعال الكفار أنفسهم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل أحد من أهل الأهواء غير الخوارج؛ لأن عملهم يؤدي إلى الفساد في الأرض، ويؤدي إلى الإخلال بالأمن؛ ولأنهم يستحلون دماء المسلمين، ويستحلون النكاية بالمخالف بكل وسيلة، ونزعات التكفير تؤدي إلى هذا حتى لو لم تصل إلى التكفير، فبعض الناس يقول: هذه مجرد عواطف، أو مجرد وجهة نظر أو اجتهادات خاطئة أو جهل، ونقول: هذه مصيبة أن نترك هذه العواطف وهذا الجهل وهذه الاجتهادات الخاطئة ولا نعالجها بكل وسيلة، ولو بإعلان مثل هذه الأمور، إذا عسر العلاج بالستر بين المسلمين، فإذا عسر العلاج بالستر فلابد من إعلانها لا سيما أن الأمر قد وقع فيه الفأس على الرأس، فلا بد لطلاب العلم من أن يعالجوا مسألة نزعات التكفير، وسمات التكفير والظواهر والآراء والمواقف التي تؤدي إلى التكفير في النهاية، ومن ضمنها هذه الأساليب التي ذكرتها.
وقد يقول قائل: إن من علاج التكفير أو من تفادي وقوع التكفير إنكار المنكرات، وهذا حق يجب أن يقال؛ لأن من أسباب ظهور التكفير كثرة المنكرات، فنجد شباباً حدثاء الأسنان ما عندهم فقه، وما عندهم تجربة، وليس لهم صلة بالمشايخ الذين يرشدونهم يرون منكرات كثيرة في المجتمعات الإسلامية، ويرون الضيم على المسلمين في كل مكان، فلا يعرفون كيف يعالجون هذه الأمور على القواعد الشرعية، فيقعون في الأحكام الشديدة والتكفير، فيجب إنكار المنكرات، ويجب النصح للمسلمين، لكن لا يعني هذا عدم الأخذ بأسباب العلاج الأخرى من التحذير من التكفير، وتعليم الناس قواعد الشرع، وإرجاع الأمور إلى أصولها الشرعية، وكشف من يصر على التكفير إذا كان ممن يتصف بالخير، خاصة إذا صرح، فهذا كله من الأسباب.(66/19)
الأسباب الممهدة لظهور نزعات التكفير(66/20)
الخوض في أمور الأمة الكبرى
من الأسباب التي ربما تؤدي إلى ظهور نزعات التكفير أو التمهيد للوقوع في التكفير الثرثرة في الأمور الكبرى التي ليست في مقدور الشباب ولا في مقدور العوام، فالثرثرة في هذه الأمور تشحنها، ثم تؤدي إلى سرعة الحكم بالأشياء، مثلاً: الكلام في مصالح الأمة العظمى التي ليست من شأن العوام ولا من شأن الصغار ولا من شأن النساء، فالثرثرة في هذه الأمور تؤدي في النهاية إلى التكفير.
ولا شك أن أعظم سبب لوجود التكفير وجود المنكرات والإعراض عن دين الله عز وجل في أكثر البلاد الإسلامية، ولا يشك في هذا ولا يجحده إلا جاهل، لكن هناك بواعث أخرى نعرفها ونستطيع علاجها، وربما يسهم بعضنا فيها وهو لا يشعر، فأنا الآن أتكلم مع طائفة من طلاب العلم، ولست أتكلم للناس جميعاً، فأنا أكلم هذا الصنف لأنهم يدركون هذه الظواهر ويستطيعون علاجها ويرونها في المجتمع، أعني الثرثرة وكثرة الكلام وشحن القلوب، كما تفعل بعض النشرات وغيرها بغير بصيرة وهدى، كالكلام في العلماء، والكلام في الولاة، والكلام في المظالم، فهذه قضايا عامة كبيرة لا تستوعبها عواطف الصغار ولا عواطف النساء ولا عواطف العوام ولا عواطف كثير من أبناء الأمة، فالثرثرة فيها مصائب من ورائها، إلا أنها سمة من سمات كثير من حركات المسلمين المعاصرة، أو سمة من سمات العصر الحديث، فالأسلوب الصحفي ليس مبرر لطالب العلم أن يجاري وينشر بين أهل الخير هذه القضايا، فهي الممهدة للتكفير، وهي الممهدة للعنف.
وكذلك الثرثرة في مسائل علمية كبيرة لا يستطيع الناس الحكم فيها، كمسألة الكبائر وحكم أهلها، ومسألة الكفريات وحكم أهلها، والبدع بأشكالها وحكم أهلها، وما يقع في قضايا الحكم بغير ما أنزل الله ونحوها، فهذه قضايا كبيرة لا يستطيعها الصغار ولا الكثير من الناس، فهذه تناقش عند أهل العلم، نعم تبين للناس في الكتب وتبين للناس في المحاضرات، ولكن ببيان يناسب الناس، تبين القواعد والأحكام والأصول، وتبين القضايا الرئيسة التي تناسب عقول الناس، لكن إصدار الأحكام على الأشخاص، وتطبيق الأحكام على الهيئات، وتطبيق الأحكام على الدول، وتطبيق الأحكام على الجماعات في المجالس عند من هب ودب من أسباب ظهور نزعات التشدد والتشنج والتكفير.
وكذلك الكلام في مثل البيعة والخروج وإلزام الناس بما لا يلزم، كأن يقال: من فعل كذا فهو مبتدع، ومن فعل كذا فهو فاجر، فتوضع قواعد على غير أصولها، فلذلك كانت سمة أهل العلم أنهم إذا جلسوا في المجالس العامة يقرءون كتباً تناسب العامة، ويطرحون قضايا تناسبهم، ويطرحون أحكاماً تتعلق بأعمالهم اليومية التي يدركونها، أما القضايا العامة الخطيرة -كقضايا التكفير- فلا يتعرضون لها في مثل هذه المجالس.
ومن الظواهر المزعجة التي بدأت تكثر في مجتمعاتنا الآن كثرة الثرثرة في القضايا الخطيرة في الأشخاص والهيئات والجماعات وفي مصالح الأمة العظمى مع وجود من ينتسب للعلم، وربما يشارك الناس ويؤيدهم أو يسكت ويصمت في مثل هذه المجالس، ولا يبين ولا يعظ، فيظن الناس أن هذا مشروع، بل ربما يدعي بعض القاصرين ممن ينتسبون للعلم أن هذا مشروع.(66/21)
الحكم على نيات الناس وما في قلوبهم
ومن النزعات التي توصل إلى التكفير: الكلام في نيات الناس، الكلام عن النيات والقلوب، والاستجابة للشائعات، والحكم على أشخاص في أمور لم تثبت أو لم تقم عليهم الحجة فيها، والحكم على المخالف قبل نقاشه، واستعداء الآخرين على المخالف في الرأي، وأرى أن هذه ظاهرة خطيرة، وأظنها من سمات الخوارج، كطالب علم أو إنسان له خلاف مع طالب علم أو مع أحد المشايخ، فيذهب يستعدي المشايخ الآخرين، ويستعدي المجتمع عليه بحجة أن هذا له رأي خطير، فهذه المسألة تؤدي إلى فتنة بين المؤمنين، وهي من سمات الخوارج، فالاستعداء مسألة خطيرة جداً، لا سيما أن أكثر ما يدور بين طلاب العلم والمشايخ من الأمور الخلافية، حتى ما يقال عنه: إنه بدعة، فالاستعداء أرى أنه من الوسائل التي تؤدي إلى التشدد والتشنج وتفريق ذات البين، وشحن قلوب المسلمين بعضها على بعض مما يؤدي في النهاية إلى تكفير بعضهم لبعض، وهذه هي نزعة التكفير عند الخوارج.(66/22)
السلوك التديني المخالف لما عليه أهل العلم
ومن النزعات: سلوك مسالك تخالف أهل العلم في التدين، وهذه -وإن كانت أحياناً تحدث عن تورع- تؤدي في كثير من الأحيان إلى غرس مذاهب واتجاهات ربما تصل إلى مذاهب الخوارج أو تصل إلى التكفير، وأعني بذلك الشذوذ عن العلماء وعن جمهور طلاب العلم في قضايا وإن كانت اجتهادية، مثل تحريم بعض الأشياء المباحة أو التي ما حرمها العلماء، كتحريم الدراسة في المدارس، فهذه نزعة قد تجدها عند شخص تورعاً، فهي مسألة تخصه، لكن أن نقول: إنه مبتدع، ويدعو إلى ترك الدراسة، ويصد أبناء المسلمين عنها بدعوى أنها بدعة؛ فهذا يؤدي في النهاية -إذا لم يعالج- إلى مذاهب الخوارج.
وكذلك تحريم حمل البطاقات، وتحريم حمل العملة، نعم هناك ناس يتورعون عن هذه الأمور تورعاً، وهذا شيء راجع إليهم وأمرهم إلى الله عز وجل، ونحسبهم -إن شاء الله- من الصالحين، لكن أن يجعلوا هذا ديناً، ويتهموا من خالفهم، وإذا قيل: إن المشايخ أفتوا بضرورة حمل البطاقة التي فيها صورة اتهموا المشايخ؛ فهذا ما أردت أن أنهى عنه.
وهذه مجرد أمثلة، وأعود إلى ما بدأت به، وهو أن الكلام بالتكفير أمر ينبغي أن يتفاداه الناس إلا عند الضرورة، وأرى أنه في مثل الأحوال التي نعيشها الآن من الضروري لطلاب العلم أن يبينوا للناس القواعد الصحيحة في التكفير، وأن يجلى الأمر وإن أدى هذا إلى الكتابة في الصحف وإلى استعمال وسائل الإعلام المشروعة وإلى محاضرات وندوات ودورات، فأدعو طلاب العلم إلى مثل ذلك في هذه الظروف؛ لأن الأمر وصل إلى حد الإضرار بالمسلمين، والإضرار بأهل الخير، ووصل إلى حد أن ظهرت ظواهر نخشى أن تكون اتباعاً لما عليه الخوارج، ونحن حديثي عهد بقصص التكفير والهجرة، وبجماعة التبين والتوقف، والسعيد من وعظ بغيره.
وهذا اجتهادي، وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والسداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/23)
الأسئلة(66/24)
نظرة في واقع صلة الشباب بالمشايخ والعلماء
السؤال
ألا يكون من أسباب التكفير الجوهرية حجب العلماء بأي صورة كانت عن الشباب وعامة المسلمين؟
الجواب
هذا الكلام -في الحقيقة- كلام عاطفي، فمن حجب العلماء عن الشباب؟! فهذا الكلام فيه نظر، فالعلماء أبوابهم مفتوحة، ودروسهم وقلوبهم مفتوحة للشباب، نعم هناك بعض الأمور لظروف اقتضتها، حيث أصبح الناس تحكم حياتهم الأساليب الحديثة والعمل الرسمي، فالعمل الرسمي والمواعيد أمور تحكم حياة الناس كلهم، ولكن من حجب الشباب عن المشايخ؟! لا سيما أن الوسائل ممكنة، فالشباب الذين لا يمكنهم الحضور إلى المشايخ يستطيعون أن يسمعوا أشرطتهم، ويقرءوا كتبهم، ويتصلون بهم بالهواتف، ويتصلون بهم عبر تلاميذهم الوسطاء، فالمسألة ليست صحيحة إلى هذا الحد، نعم قد يكون في التفاف الشباب على مشايخهم وعلمائهم صعوبة؛ لأن الظروف اختلفت منذ زمن، ولكن لا نسمي ذلك حجباً؛ لأننا نعرف أن المشايخ ما أوصدوا أبوابهم، والوصول إليهم متاح.(66/25)
ضابط الولاء والبراء
السؤال
ما الضابط في الشدة في الولاء والبراء؟
الجواب
الضابط هو قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فأنا أردك إلى أمر واقعي جداً، فالمقياس هو تطبيق أهل العلم الراسخين في العلم، فالمعتدلون من أهل التدين هم المقياس.(66/26)
التحذير من الخوض في القضايا الكبرى
السؤال
ألا ترى أن كلام بعض الناس في قضايا الأمة العظمى وكبار مسائل العلم نشأ من عدم وجود من يتكلم فيها ومن يوضحها للناس إلى آخره؟
الجواب
نعم.
هذا السؤال وجيه لكنه غير صحيح، أنا لا أقول: إن طلاب العلم يستطيعون أن يحجروا على الناس ألا يتكلموا، الناس الآن عودهم الإعلام وعودهم الواقع وعودهم اختلاطهم بالأمم بأن يثرثروا فيما يشاءون، لا، الذي أنا أتكلم فيه هو الثرثرة باسم الدين وباسم الشرع، وباسم طلاب العلم، وأن يتصدر ذلك ناس من المربين للشباب، من الدعاة، من طلاب العلم، أن يجعلوا ذلك منهجاً لهم، أما أن نكمم أفواه الناس أو نستطيع أن نتحكم في ألفاظ الناس هذا أمر لا نستطيعه، لكن أن يكون ذلك حسبة، وأن يكون هذا منهجاً لبعض طلاب العلم يربون عليه العوام ويربون عليه الشباب هذا هو الذي أنا أنكره، فيجب على طلاب العلم أن يبينوا، وإلا فمن الأصل حتى في تاريخ الإسلام القديم والعوام إذا تحدثوا بحديث يتكلمون في كل شيء، وقد يعزلون وينصبون ما لنا ولهم؟! العوام يجروننا إلى أن نتبنى مناهج خاطئة! حتى كثير من المثقفين وكثير من الأدباء وغيرهم ممن لم يلتزموا الشرع قد يثرثرون في هذه الأمور، ما لنا وما لهم؟! الواقع لا يفرض نفسه علينا، ولا يجعلنا نتخطى المنهج السليم، أنا أقول: يجب على طلاب العلم أن يبينوا للناس أن هذه الأمور يجب ألا يتكلم فيها إلا أهلها وأن لا يجاروهم، وإذا اجتمعوا في المجالس يذكروهم بهذا الأمر، ويناصحونهم بأنه لا يجوز، وأنتم اشتغلوا فيما يسعكم وفي ذكر الله وما والاه، إلى غيره من الأمور التي تهم الناس.
إذاً: أنا أقول: فرق بين الواقع وبين مجاراة الواقع، أما أن يكون نشأ من عدم وجود من يتكلم فيها ويوضحها فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، وكنت أتمنى أن أكثر طلاب العلم إذا حضروا مثل هذه المجالس -كما قلت- أن يقرروا الأصول، لكن الحاصل أحياناً غير ذلك، وهذا ما أقصده، أنه أحياناً يحصل غير ذلك، أن طالب العلم يجاري مثل هذا الحديث ويشارك فيه ويكون له رأي يثرثر مع المثرثرين، هذا هو الذي أنا أخطئه وأرى أنها سمة ظاهرة، أنا لا أتكلم عن ظواهر أو أمور قد تحدث من شخص أو شخصين، أقول: إنها ظواهر كثيرة يعلمها الكثير من طلاب العلم فيجب علاجها، أما أن نتحكم في الناس أو نضبطهم هذا أمر قد لا ندركه، فالأمر لله من قبل ومن بعد، قد لا نستطيع، لكن نعمل ما يسعنا ولا نقع في الخطأ مجاراة للناس والله أعلم.(66/27)
الموقف من نشر قواعد التكفير في أوساط الشباب
السؤال
إيضاحك لقواعد التكفير مهمة يحتاج إليها كثير من الشباب المسلم، ما رأيك لو تم تعميمها بأي وسيلة؟
الجواب
سبق أن تكلمت في هذا الموضوع بقريب من هذا الكلام منذ خمس سنوات ومنذ سنتين ومنذ ثلاث سنوات، وبعض الكلام نشر لكن على غير هذا التصعيد أو على غير هذا السياق، وبعض هذا الشيء يوجد ضمن كتاب الخوارج الذي صدر أخيراً في (سلسلة الأهواء) الحلقة الرابعة، كما يوجد ضمن كتاب جديد اسمه (من قضايا الصحراء)، الفقرة الأخيرة منه في هذا الموضوع، طبعاً السلسلة مناسبة للعامة، أنا أتكلم الآن في مجلس أنا أقول: إنه من المجالس الخاصة، كلامي هذا لا أرى أنه ينشر إلا بتقعيد وتفصيل وعرض على المشايخ وأهل العلم، بتقعيد وتفصيل وببيان وبأسلوب يناسب عامة المخاطبين، لا يعني هذا أن ما أقوله لكم لا أرى أن يثار، لا، أرى أن يثار لكن يثار بما يناسب الناس، ما هو بكلام خاص، لكن التعبير والتقعيد الذي ذكرته أنا أظنه لا يناسب إلا أمثالكم من طلاب العلم.
وأما بالنسبة لصياغة مثل هذه الأمور بالأسلوب الذي يناسب عامة الناس فكما قلت، أنا بدأت به على شكل معالجات مناسبة في كتاب الخوارج وفي الكتاب الآخر، وربما إن شاء الله إذا تهيأ وقت، وإذا رأيت أن هذا مناسب بعد استشارة أهل العلم ومشايخنا الكبار أن مثل هذا الأمر ممكن أن ينشر؛ فلا حرج عندي(66/28)
بيان معنى قول الشاطبي: (الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال)
السؤال
يقول الشاطبي في (الاعتصام): إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال، كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به، ولو تبين له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال.
فما معنى ذلك؟
الجواب
الذي فهمته أن قصد الشاطبي رحمه الله أن التكفير باللوازم أو التكفير بما يئول إليه القول لا يعني بالضرورة أن يكون كفراً من كل الوجوه، أو يكفر به صاحبه، لا سيما وأنه ينكر ذلك، ومثال ذلك أن تعطيل أسماء الله كفر، فلو فرعنا على هذه المسألة لقلنا: إن المؤول الذي أول صفات الله عز وجل يئول قوله إلى التعطيل، فهل يكون قوله كفراً لمجرد أن قوله يئول إلى التعطيل وهو قد لا يلتزم ذلك أو لا يعتقده؟!
و
الجواب
أنه لا يلزم كل من قال بالتأويل -مع أن قوله يئول إلى التعطيل- أن يكون قوله كفراً ولا أن يكون كافراً، هذا ما فهمته من العبارة.(66/29)
نظرة في كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي
السؤال
هل على كتاب الاعتصام ملاحظات؟
الجواب
كتاب الاعتصام في الجملة من أجود الكتب التي رسمت المنهج في كثير من مسائل العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالأهواء والافتراق ونحو ذلك، وأغلب ما فيه يوافق منهج السلف، وصاحبه حريص على التزام منهج السلف الصالح، وقد وفق في كثير من الأمور في استقراء منهج السلف وتقعيده ووضعه على شكل مناهج وقواعد وأصول يمكن أن تكون مرجعاً لطلاب العلم، ومع ذلك فيه بعض المسائل التي خالف فيها السلف، لكنها مسائل معدودة هي أشبه بالزلات، ولا تدخل في المخالفات المنهجية، مثل مخالفته للسلف في مسألة التحسين والتقبيح، ومثل موافقته لبعض المتكلمين في بعض المسائل في الصفات وغيرها، فعنده بعض الأشياء التي هي أشبه بالاجتهادات التي لا تصل إلى حد أن نقول: إنه فارق أهل السنة في هذه الأمور أو في بعضها، فعنده زلات أشبه بزلات بعض الأئمة الذين خالفوا السنة ويعدون من أهل السنة ووافقوا المتكلمين في بعض المسائل أمثال النووي والبيهقي ونحوهما.(66/30)
بيان مدى صحة القول بكفر من لم يكفر الكافر
السؤال
ما رأيك في قول القائل: من لم يكفر الكافر فهو كافر؟
الجواب
هذه مقولة ليست صحيحة، بل لا يقول بها إلا صاحب هوى أو جاهل؛ لأن هذه الكلمة مطلقة تحتاج إلى قيود كثيرة، وإطلاقها بهذه الصورة لا يستقيم مع القواعد الشرعية؛ لأن جملة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) فيها حكم على الناس بالمجازفة، نعم هناك أمور لا شك أنها قد تنطبق على هذه القاعدة، لكن يجب أن يعبر عنها بغير هذا التعبير، فالكفار من اليهود والنصارى والمشركين لا شك أنهم كفار، ولا أظن مسلماً يجادل في ذلك، ومن تردد في هذا فهو إما جاهل وإما صاحب هوى ربما يكفر بذلك.
فهذه العبارة بهذا الحال مطلقة لم تقيد؛ مع أن هناك من يكون كفره كفراً عملياً، أو كفراً أصغر، أو كفراً في الخصال وليس كفراً في الاعتقاد، يعني: فيه خصلة كفر، فلا يصح أن نقول: من لم يكفره فهو كافر، فكل أصحاب المكفرات الذين لا يخرجون من الملة لا يصح في حقهم إطلاق أن من لم يكفرهم فهو كافر، وأكثر أنواع الكفر بين أهل القبلة من النوع الذي لا يخرج من الملة، مثل قتال المسلمين حيث سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا كفر عملي غير مخرج من الملة، وكذلك تصديق الكاهن، وكذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في مسائل كثيرة هي كفر دون كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في أحوال الكفر، والذي يطلق عليه الكفر منها لا يعني أن فاعلها كافر خارج من الملة، ولا أنه ليس من المسلمين، إنما هي من كبائر الذنوب التي تسمى كفراً من باب التغليظ أو من باب الكفر المجازي كما يقول بعض أهل العلم، أو من باب الكفر العملي غير الاعتقادي، أو الكفر بمعنى المعصية، وكل هذه ألفاظ صحيحة.
فهذه الكلمة على إطلاقها لا تصح، لا سيما في هذه الظروف وهذه الأيام التي كثر القول فيها، ووجد من الجهلة من يقول بمثل هذه اللوازم الخاطئة، أنه من لم يكفر الكافر فهو كافر، فالمهم أن القاعدة فيها نظر، وتحتاج إلى تفصيل، وأكثر من يطلقونها يطلقونها على معنى غير صحيح.(66/31)
حكم تارك الصلاة
السؤال
هل تارك الصلاة يكفر وإن كان يعتقد وجوبها؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، فهل تارك الصلاة إذا كان يعتقد وجوبها وتركها كسلاً وتهاوناً يكفر كفراً يخرج من الملة أم لا؟ فالصلاة خصت بنصوص كثيرة في مسألة تاركها؛ لأنه وردت أحاديث كثيرة في كفر تارك الصلاة والتغليظ في ذلك، فلذلك اختلف أهل العلم، فمنهم من يقول: إن من تركها وداوم على تركها كافر، وكفره يخرج من الملة، وتترتب عليه أحكام الكافرين حتى وإن لم نتبين اعتقاده، ومنهم من قال: لا شك أن تركها من أعظم الذنوب، وأن من تركها متهاوناً يرتكب ذنباً عظيماً، لكن ما دام يعتقد أنها واجبة فلا يخرج من الملة، والذي عليه أغلب المحققين أن من ترك الصلاة بالكلية فلم يصلها أبداً؛ فإن هذا قرينة على أنه معرض عن شرع الله عز وجل وعن دينه؛ لأن الصلاة أعظم شعائر الدين، وأنه بذلك تجري عليه أحكام الكافر الخالص، والله أعلم.(66/32)
شرح العقيدة الطحاوية [67]
إطلاق التكفير في المسائل والأحكام الغامضة يحتاج إلى مراعاة الأحوال والزمان والمكان، كما أن التكفير العام يختلف عن تكفير المعين، فالمعين لابد من توافر الشروط وانتفاء الموانع في حقه حتى يكفَّر، كما أن الأحكام على الفرق والطوائف تحتاج إلى معرفة تامة بأصولها وأدلتها، ومراعاة مآلات الأحكام الناتجة عن ذلك.(67/1)
البدع من جنس الذنوب في التكفير ببعضها وامتناعه ببعضها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس].
يعني: من جنس الذنوب والكبائر، وإن كانت البدع أغلظ ولا شك، لكن عند التفصيل لا تخرج عن جنس الذنوب، فالبدع منها صغائر ومنها كبائر ومنها مكفرات ومنها مخرجات عن الملة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً].
ولذلك ما كفر السلف أهل البدع المؤولة، مثل أكثر المعتزلة وبعض الجهمية والخوارج وأصحاب البدع العملية الذين لا يرتكبون الشركيات، هؤلاء لم يكفرهم السلف مع أنهم بدعوهم وهجروهم وتكلموا فيهم وقبحوا أعمالهم، وأمروا بتعزيرهم أحياناً، ومع ذلك لم يكفروهم.
قال رحمه الله تعالى: [فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة، ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفوس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها].(67/2)
أثر اختلاف الأحوال على التكفير في المسائل الواضحة
مسألة التكفير في المسائل الواضحة غير التكفير في مسائل غامضة، وفرق بين من تعمد اعتقاداً مخالفاً في المسائل الواضحة، مثل مسألة القول بخلق القرآن أو نفي الرؤية، وبين الأمور التي ليست واضحة، ولذلك فإن مما ينبغي أن يراعى في مسألة إطلاق الأحكام على الناس اختلاف الظروف واختلاف الزمان والمكان.
فعلى سبيل المثال: مسألة القول بخلق القرآن، ففي القرن الأول ما كانت تثار هذه المسألة، لكن في القرن الثاني والثالث اتفق السلف أو كانوا على ما يشبه الإجماع على أن القول بخلق القرآن كفر، وأن إنكار الرؤية كفر؛ لأن هذا من قطعيات الدين، وصار من المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الحجة قامت فيه على الناس في ذلك الوقت، لكثرة الكلام فيه، فالكلام فيه دخل كل بيت وكل حجر ومدر، وأصبح قضية القضايا، خاصة في القرن الثالث، لا سيما في عهد المأمون ومن بعده، حتى امتحن العامة فيها، فتكلم السلف في ذلك فوق المنابر وفي كل مجال وفي كل مناسبة، فكانت الحجة فيها قائمة، فتقرر هذا الأصل وبقي أصلاً واضحاً إلى اليوم؛ فصارت قضية القول بخلق القرآن من القضايا الخطيرة التي يعلمها أهل العلم جميعاً.
لكن لو افترضنا -وهذا ما أردت أن أقوله، وأرجو أن يفهم على وجهه الصحيح- أن إنساناً عامياً لم يسمع بهذه المسألة أبداً، ثم جاءه متحذلق من بعض المفتونين يختبره ويمتحنه، يقول: ما تقول في القرآن؟ فأجاب عن جهل بمثل قول الجهمية، فهل نكفِّره لأول وهلة؟
الجواب
لا، بل يعلم، ولا شك أنه إذا كان مسلماً مؤمناً أخذ الحق بدليله.
وكذلك الرؤية، فهي من الأمور الواضحة عند أهل العلم، وكانت في أصل إثارتها من القضايا البدهية؛ لأنها تثار عند العوام وعلى المنابر وفي كل مكان.
على أي حال فقد أردت بهذا التنظير لأمر مهم، وهو قضية التكفير، ليس كل أمر يستفاض التكفير فيه يكفر فيه الناس، وهذا ما أردت أن أقوله أن الناس بحسب الزمان والمكان وبحسب الظروف والملابسات، فقد يأتي يوم من الأيام ينسى فيه الكلام في بعض قضايا العقيدة، فلا يتكلم فيها إلا خاصة العلماء، فالناس يعذرون إذا جهلوها، ولا يكفرون إذا خالفوها؛ لأنه ليس قصدهم المخالفة في قلوبهم، لا سيما إذا كانت من الأمور العلمية وليست من الأمور البدهية الفطرية، ولا شك أن مثل مسألة الرؤية والكلام ليست من الأمور البدهية الظاهرية، إنما هي من الأمور العلمية، وإن كان اتضح فيها القول بحمد الله، وأصبح الناس كلهم يعرفون القول فيها أو أغلبهم، لكنها مع ذلك تعتبر من الأمور التي تحتاج إلى تعلم؛ لأنها غيبية توقيفية، وليست فطرية عقلية.(67/3)
التضييق في تكفير المعين
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة].
هذا الكلام مبهم مجمل، فقوله: [إلا بأمر تجوز معه الشهادة] كلام مبهم، يقصد به أنك لا تشهد على المعين إلا بأمر تستطيع أن تشهد به، كما تشهد عند القاضي في أمر من الأمور الثبوتية، بمعنى أنك لو استشهدت على شخص لم تره ولم تسمعه لكن سمعت عنه ما قيل فيه، فهل تشهد عليه بمجرد قول الناس عند القاضي؟
الجواب
لا تشهد، وكذا مسألة تكفير المعين، فمهما قال الناس فيه ومهما نقل عنه يجب ألا تشهد إلا بعلم، والعلم لا يتم إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، أن تقيم الحجة على الشخص، وتسمع منه، أو ترى منه، ثم تتأكد من أنه ليس متأولاً، وأنه ليس بمكره، وأنه ليس بجاهل في أمور تستوضحها بنفسك، وما لم تستوضح بنفسك فلا تأخذ بأحكام الناس وأقوال الناس في المعين، إلا ما كان عن طريق الاستفاضة عند أهل العلم الموثوقين الراسخين الذين يقيمون الحجة، فهذا أمر يمكن أن تتبع فيه غيرك، بمعنى أن تقول: أقول ما يقوله العلماء، وتسند الأمر إلى العلماء، لكن أن تشهد بشهادة غيرك فلا، فالأمر المستفيض في الحكم على المعين إذا كنت لا تعرفه تقول فيه: أنا لا أخرج قولي عن قول أهل العلم، ومع ذلك لا أشهد بنفسي؛ لأنه ما توافرت عندي شروط الشهادة، أما من لم يستفض خبره -وأغلب أحكام الناس على ما لم يستفض- فهذا أمر لا يجوز الكلام فيه بتكفير المعين أبداً.
وقد ذكرت في قواعد سابقة أن تكفير المعين ليس في مقدورنا، بل ليس من حق كل شخص أو كل طالب علم، ولا يتم ذلك إلا ممن يملكون الاجتهاد وإقامة الحجة والقدرة العلمية ثم الرسوخ والاستعداد وتوافر الشروط في الحكم على المعين، فالحكم على المعين لا يأتي بمجرد اجتهاد فرد أو فردين أو ثلاثة في مسائل معينة إلا في أمور محدودة يعرفها أهل العلم، أما فيما يتعلق بما يحدث بين الناس الآن وقبل الآن فأكثره مما لا تتوافر فيه الشروط، وأكثره من القول بالظن والرجم بالغيب.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
هذه لوازم التكفير، وهي لوازم شرعية وليست لوازم عقلية، فهي لوازم شرعية صحيحة، بمعنى أنه من أعظم البغي أن تكفر الشخص بغير علم؛ لأنك إذا كفرته فكأنك قلت بأن الله لا يغفر له إذا مات على ذنبه، ولا يرحمه؛ لأن الكافر لا تشمله رحمة الله عز وجل إلا إذا تاب، وكذلك إذا حكمت بالكفر على الشخص ومات على ذلك فقد حكمت بتخليده في النار، فهذه أمور كلها خطيرة جداً، تدل على خطر الكلام في التكفير.
قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا حكم الكافر بعد الموت؛ ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي) وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر.
فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علي رقيباً؟! فقال: والله لا يغفر الله لك.
أو: لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟! أوكنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) وهو حديث حسن].
هذا الحديث لا شك أن فيه مواطن عبرة، وفيه أيضاً قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يجب أن يلتزمها المسلمون وطلاب العلم بالخصوص، وهي أن مسألة الحكم على الناس مسألة غيبية، لا سيما أن أغلب الأحكام تتعلق بالقلوب، والظواهر ليست دليلاً على البواطن دائماً، هذا أمر.
الأمر الآخر أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعدى حدود ما كلفه الله به في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على إقامة الحجة وعلى العمل بما يجب شرعاً من تعزير وغيره للوالي أو من ينوبه، لكن لا يصل إلى حد القول على الله فيما يتعلق بمصائر العباد، وأن المذنب مهما أذنب فإنه ما دام له في الله تعلق وله في الله رجاء يرجى له الخير ويرجى له أن يرحمه الله تعالى مهما بلغت ذنوبه، ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتألى على الله عز وجل، وقد يكون هذا الذي على العبادة قال هذا الكلام غاضباً، لكن ينبغي ألا يؤدي الغضب بالإنسان إلى أن يتجاوز الحدود الشرعية، فلا شك أن مثل هذا قد يقال: إنه موقف استفزاز؛ لأن هذا المذنب استفز هذا الناصح فجعله يقول هذا القول حينما أصر على الذنب، نقول ومع ذلك فالمسلم يجب عليه أن يضبط نفسه في هذه ا(67/4)
إقامة الحد في الدنيا مبني على الظاهر دون الحكم على مصائر العباد
يجب على المسلمين تجاه إقامة حدود الله عز وجل وإقامة شرعه أن يعملوا بالظواهر، لكن لا ينسحب هذا الحكم على القلوب أو على مصائر العباد، فالقلوب ومصائر العباد أمور غيبية ولن تقوم القرائن عندنا إلا باستنفاذ جهد كبير، ولا يمكن أن يكون بمجرد التعامل العادي، فالسلف كانوا يفرقون بين إجراء الحكم على الظاهر وما يترتب على ذلك من أمور في تعامل الناس بعضهم مع بعض، وبين الجزم بما في قلب الشخص، فالجزم أمر لا يستطيع الناس أن يتناولوه، اللهم إلا إذا توافرت أمور مثل التصريح بالردة عن الإسلام أو نحو ذلك، هذا أمر مفروغ منه، لكن الكلام فيما يتعلق بالظواهر فقط، يعني: قد يظهر لبعض الناس أن أحد المذنبين كثير الفجور كثير الأعمال الخبيثة، وكثيراً ما يعرض عن بعض الخيرات، فيعتبر هذه قرائن على أنه خبيث النية، ومع ذلك لا يجزم بخبث هويته، ولذلك كان المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تجرى الأحكام عليهم بحسب ظواهرهم، وكان المسلمون يعاملونهم بأحكام المسلمين، ومع ذلك هم منافقون في الحقيقة، ولكن لا يعلم نفاقهم إلا الله عز وجل ومن أطلعه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلعه ربه على بعض المنافقين، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أطلع حذيفة على بعض المنافقين.
وهذا أمر انقطع الآن، فلا يقل أحد من الناس: إنه يعلم الباطن، إذاً يجب أن نفرق بين الحكم بالظاهر وبين الحكم على القلوب، فالحكم على القلوب صعب، ولا يصح إلا بأمور علمية شرعية لا بد من أن تتوافر فيها شروط، وأن تنتفي فيها موانع، وهذا من أكثر الأمور التي يخلط فيه الناس اليوم ويجهلونها.(67/5)
التفريق بين كفر العمل وتكفير فاعله
قال رحمه الله تعالى: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع].
يقصد بذلك أنه يفرق بين كون العمل أو القول كفراً، وبين الحكم على من يفعل، فمسألة أن القول أو العمل كفر سهلة؛ لأن النصوص واضحة فيها، أما أن من فعل أو قال الكفر يكفر لأول وهلة فلا، إذ الغالب أن المسلمين الذين يقعون في الأمور الكفرية لا يكفرون؛ لأنه يكثر فيه من الجهل، ويكثر فيه التأول، وقد يحصل فيه الإكراه، ويكثر فيهم التقليد، فالحكم بأن شيئاً من الأشياء كفر بمقتضى النص الشرعي سهل، وتأويله سهل في النصوص الشرعية، لكن ليس كل من فعله أو قاله يكفر إلا بشروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط لا توكل إلى كل من ادعى العلم وهو ليس من أهله الراسخين، بل لا بد من توافر القدرة وتوافر الحجج والعلم الراسخ.(67/6)
أصناف الخلق في الإيمان والكفر
قال رحمه الله تعالى: [ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين].
وهؤلاء كفرهم ليس محل نقاش، وهذه المسألة يجب أن تكون واضحة ويجب أن توضح للناس، لأن هناك من بدأ يخلط في هذه المسائل ويلبس على الناس بدعوى أنه لا يجوز أن يكفر المعين، فيفتن الناس بكافر يهودي أو نصراني أو مشرك ويقول: لا نستطيع أن نكفره! فمن كان يهودياً أو نصرانياً مشركاً لا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، وهذه مسألة مفروغ منها وليست محل نقاش، وليست هي التي قررها أهل العلم في كتبهم، فكل ما قاله أهل العلم في تكفير المعين يخص تكفير أهل القبلة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، ولا ينطبق على الكفار الخُلّص، فهؤلاء مفروغ منهم.
قال رحمه الله تعالى: [وصنف: مؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً].
الصنف الأول معلوم، وليس محل جدال، والصنف الثاني أيضاً معلوم، وهم المسلمون الذين يظهرون شعائر الإسلام، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون شعائر الدين، ويظهرون الإسلام ويحبون الله ورسوله، هؤلاء لا شك أنهم مسلمون، ولا نستطيع أن نخرجهم من الملة إلا بمخرج قطعي، حتى وإن ارتكبوا آثاماً وارتكبوا مظالم وارتكبوا معاصي وارتكبوا بدعاً، إلا البدع الشركية.
أما الصنف الثالث فهو الذي يخفى أمره، وهم المنافقون، فالمنافق حكمه الظاهر هو الإسلام إذا ادعى الإسلام، وحكمه الباطن إلى الله عز وجل، ولا نستطيع أن نقول فيما في قلبه شيئاً، فهؤلاء يعلمهم الله عز وجل، ونحن لا نعلمهم، لكن قد تتوافر عندنا قرائن على أن الإنسان فيه نفاق تكثر أو تقل، قد تظهر عليه علامات النفاق والزندقة، ولكن مع ذلك لا نقيم عليه الحكم والحجة إلا بقرينة، كإقرار أو نحو ذلك مما يعرفه أهل العلم.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
من العلامات التي يمكن نعرف بها الزندقة والنفاق مثل من يسب الله عز وجل أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يهين المصحف، أو نحو ذلك من الأعمال الشنيعة التي ليس فيها احتمالات، فهذه لا شك أنها تدل على الزندقة والكفر القطعي، وتدل على النفاق.
وأما الساحر فيقتل لسحره وفتنته وفساده في الأرض، قد يكون كافراً، وقد لا يكون كافراً في مسألة ما منه، وأغلب السحرة وقعوا في الكفر، وبعض السحرة يمارس الدجل ويفتن الناس طمعاً في الدنيا أو الشهرة، فإذا عمت فتنته فإنه يقتل لفساده في الأرض، وقد يقتل أكثر السحرة لكفرهم؛ لأن أغلب السحرة يقعون في الكفر؛ لأنه لا يمكن أن ينالوا السحر -في الغالب- إلا بالوقوع في الكفريات من الشركيات وغيرها، ومع ذلك يكف شره عن المسلمين ولو بالقتل؛ لفساده في الأرض، ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه لا يستتاب، بل مجرد الفساد في الأرض يكفي، وقد لا يكفر، وأمره إلى الله عز وجل، فليست الحدود دائماً تبنى على ضرورة الوقوع في الكفر، لذلك فالبغاة إذا بغوا على المسلمين أو أثاروا فتنة في الأرض يقتلون لمجرد أنهم أثاروا الفساد في الأرض والفتنة، وكذلك قطاع الطريق، فقطاع الطريق قد يكونون من المسلمين، لكن غلبتهم شهواتهم وشقوتهم فقطعوا السبيل، فإذا قدر عليهم قبل أن يتوبوا فإنهم يقتلون.(67/7)
لازم القول بتكفير قائل البدعة
قال رحمه الله تعالى: [وهنا يظهر غلط الطرفين؛ فإنه من كفّر كل من قال القول المبتدع في الباطن يلزمه أن يكفّر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)].
هذا من النصوص التي لا يطيقها الخوارج وأمثالهم، ويضيقون بها ذرعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم شهد لهذا الرجل مع أنه حد في كبيرة من الكبائر بأنه يحب الله ورسوله، فينبغي للمسلمين أن يقتدوا بمثل هذه النصوص الجامعة الحاكمة، فهذا من النصوص الحاكمة التي تعطي التوازن، ويجب أن يرجع إليها الناس في مسألة الوعد والوعيد، فإن هذا الرجل اجتمع فيه تحقيق الوعيد والوعد له من النبي صلى الله عليه وسلم، فنفذ في هذا الرجل الحد في الدنيا بأن جلد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بجلده، وفي نفس الوقت شهد له بالإيمان، إذاً: مثل هذا النص يمثل القاعدة التي يجب أن يحتذيها المسلمون جميعاً في الحكم على أهل القبلة، حتى في مسألة الولاء والبراء، فالقاعدة الشرعية أنك تحب المسلم بقدر ما فيه من الخير والفضيلة، وبقدر ما يظهر منه من الطاعات، وفي الوقت نفسه تكرهه بقدر ما يظهر منه من المعاصي، فإذا كان هناك من المسلمين من فيه معاص وفيه بعض مظاهر الخير تحبه بقدر ما فيه من الخيرات وتكرهه بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع الحب والبغض والولاء والبراء في الشخص الواحد، وهذا أمر بدهي ضروري، فإذا أخذنا الأمور كلها بحزم فمن الذي نزكي؟! ولو أن طائفة زكت فلاناً وأخرى لم تزكه فإن الفتنة تقع في الأرض.(67/8)
الموقف من زلات العلماء وبيان انتحال الفرق المخالفة لأئمة الدين
قال رحمه الله تعالى: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير].
يقصد بذلك أن بعض العلماء قد تكون منه زلة يوافق فيها بعض أهل البدع أو أهل الأهواء عن اجتهاد أو عن تأويل، أو لعدم بلوغ الدليل أو نحو ذلك، فهذه الزلة يجب ألا تقلل من قيمة العالم، ويجب ألا نتبعه فيها، ثم إن هذه الزلات صارت من أسباب الفتنة عند أهل الأهواء؛ لأن أهل الأهواء كل منهم الآن يزعم أن له سلفاً من خيار هذه الأمة، ذلك أنهم يلتقطون الزلات من العلماء فيجعلونها مرتكزاً لأهوائهم، وهذا ما عليه كثير من أهل الأهواء في كل زمان، فكل من كان له هوى تجده يلتقط من زلات العلماء في التاريخ ما يوافق هواه فيفتن به الناس، وهذا كثير جداً، وليس في أهل البدع فقط، بل في بعض أهل السنة، فحينما تحدث بينهم بعض الخلافات والفتن في بعض الظروف تجد منهم من يبحث عن بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الزلات للعلماء لتأييد هواهم، وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر.
فأقول: إن كثيراً من أهل البدع وأهل الأهواء قد يحتجون بزلات العلماء من المعاصرين والأولين، الأموات والأحياء، وهذه مسألة يجب أن يقعد لها طلاب العلم ويتبصروا فيها، لا سيما أنها تحصل الآن من كثير ممن سببوا وقوع الكثير من الناس في الأهواء والفتن لعدم معرفتهم بالأصول الشرعية.
ويكفينا أن نضرب مثلاً لما وقع من أهل الأهواء بالفرق الكبرى في اتكائها على بعض الزلات التي وقعت من بعض العلماء، فمثلاً: المعتزلة يزعمون أن لهم سلفاً من الصحابة، وهم أولئك الذين اعتزلوا الفتنة، لمجرد الاشتباه في اللفظ فقط، أخذوا اللفظ وجعلوه موطن فتنة للمسلمين، فزعموا أن الاعتزال هو مذهب أولئك الذين ما شاركوا في الفتنة بين الصحابة، ففهموا أن هؤلاء هم أصل المعتزلة، وأنهم أقرب إلى الحق لأنهم ما وقعت ألسنتهم ولا أيديهم في الفتنة، وصاروا هم أزكى الأمة، فزعمت المعتزلة أنها أزكى الأمة، ثم جاء الشيعة المتأخرون فزعموا أن لهم سلفاً من الأمة، فقالوا: كانوا على التشيع سفيان الثوري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني، قالوا: إن هؤلاء فيهم تشيع، إذاً: التشيع موجود في السلف، وهكذا تجد أن كل مبطل يدعي أن له من هذه الأمة سلفاً، والآن كثرت البلوى بهذه الأمور، الأمر الذي يوجب على طلاب العلم أن يحرروا هذه المسائل ويبينوها للناس ويعطوا الناس المفاهيم والموازين، وكيف توزن أعمال السلف أنفسهم على ضوء قواعدهم؛ لأن السلف وضعوا قواعد بعضهم قد يخالفها لا عن قصد، لكن عن اجتهاد، فالعبرة بالمناهج والقواعد والأصول وليست بمفردات التصرفات، فالعبرة في أخذ منهجهم هي بما قالوه وما قرروه في جملتهم من مناهج وأصول، وليست العبرة بمفردات سلوكهم، وإن كان سلوكهم في الجملة لا شك أنه على هذه الأصول، لكن أقصد أنه قد تحدث بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الكلمات التي تخالف الأصل، فيأتي من هو مفتون أو جاهل فيأخذ هذه الكلمات فيقررها أصلاً خلاف الأصل الأول الذي اعتمد عليه السلف، وأنا أدعي أن أكثر السلف الذين وقعوا في بعض المواقف أو خرجت منهم بعض الكلمات التي هي خلاف منهج السلف حينما ألفوا التزموا منهج السلف في المسألة التي خالفوا فيها عن اجتهاد، وهذا يجعل في مجموع الأمة العصمة، وليس في مفردات تصرفاتهم.
قال رحمه الله تعالى: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفِّرون].(67/9)
ما وصف بالكفر من الذنوب التي لا تخرج من الملة
قال رحمه الله تعالى: [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله تعالى، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)].
هذه الفقرة يمكن أن نضع لها عنواناً فنقول: المسائل التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الأمور التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الكبائر التي سميت كفراً، أو: نماذج من الكفر الأصغر، أو: نماذج من الكفر العملي، أو: المعاصي المكفرة التي لا تخرج من الملة.
وكل النماذج التي جاء بها الشيخ من النصوص أكثر أهل العلم على أنها لا تخرج من الملة، وقد يكون منها صور مخرجة، لكن ليست هي الأصل، فالأصل في هذه الأمور أنها ليست مخرجة من الملة، وهذا ما عمله سلف الأمة؛ لأن أكثر السلف كانوا يضربون هذه الأمور أمثلة على أنه ليس كل كفر مخرجاً من الملة.
فالصحابة والتابعون وأئمة السلف ثم الأئمة الذين كتبوا وصنفوا في العقائد فيما بعد كلهم عندما يتناولون هذه المسألة يقررون أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، وهو بمثابة الكبائر أو عظائم الذنوب، ثم يضربون أمثلة عليه بهذه النصوص، وهي نصوص ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جداً، فكثير مما وصفه القرآن بأنه كفر أو وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كفر من أعمال المسلمين أهل القبلة ليس من الكفر المخرج من الملة.
فأغلب ما ورد في القرآن الكريم وما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وألسنة الصحابة وأئمة التابعين من إطلاق الكفر على أهل القبلة في تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم مما لا يخرج من الملة.
وأغلب الكفر الذي وصف الله به المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو من الكفر المخرج من الملة، فالقاعدة تنعكس في الكفار الخلص.
قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه].
واضح في الحديث أنه اعتبر قتال المسلم كفراً، ولا شك أنه كفر غير مخرج من الملة؛ لأن الله عز وجل وصف المقتتلين في كتابه بأنهم إخوة.
قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
هذا الحديث قد تأتي فيه صور تعني الكفر المخرج من الملة، لكن هذا قليل، فظاهر الحديث أن من قال لأخيه المسلم الذي من أهل القبلة: يا كافر.
فقد باء بها أحدهما، بمعنى: أنه حينما أطلق عليه الكفر وهو لا يستحقه رجع الكفر إلى القائل، لكن هل قال: خرج من الملة؟
و
الجواب
لا؛ لأنه سماهما أخوان فقال: (من قال لأخيه)، فلا يزالان في إخوة الإيمان.
حتى القائل الذي ارتكب إثماً بالتكفير حينما كفر أخاه لا يرتد إليه الكفر المخرج من الملة، إلا في بعض الحالات والله أعلم، كما لو اعتقد أن أخاه خارج من الملة، فقد يرتد إليه نفس الحكم، وقد لا يرتد أيضاً.
وهذه مسألة تحتاج إلى تحقيق، وتحتاج إلى بحث، لكنها على أي حال من ألفاظ الوعيد، وألفاظ الوعيد لا تجرى على ظاهرها؛ لأنها لا بد أن تقيد بالنصوص الأخرى وبقواعد الشرع بالضرورة، وإلا فلو أخذنا هذه النصوص على ظواهرها لأخرج كثير من المسلمين من الإسلام بمجرد الحكم، ويترتب على ذلك ما يترتب في الزواج والطلاق والمواريث والصلاة إلى آخره.
وهذا الذي جعل المكفرة يسمون الخوارج ويخرجون عن أهل السنة والجماعة، ذلك أنهم حينما حكموا بمثل هذه النصوص والكفر المخرج من الملة أخرجوا أكثر المسلمين وما بقي غيرهم، فمن هنا وقعوا في الفرقة، ووقعوا في مذهب الخوارج.
قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)].
هذا الحديث لا بد أيضاً من أن يرد إلى الحديث الآخر، حديث أبي ذر في إثبات الإيمان للزاني والسارق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنى وإن سرق) هذا شيء.
الشيء الآخر: أن حديث النفاق فيه دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفاق إلى نوعين: إلى نفاق خالص، وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وإلى نفاق جزئي، يعني: خصلة من خصال النفاق، والكفر كالنفاق، فقد يقال عن إنسان بأنه كافر خالص، وهذا الكافر الخالص م(67/10)
حمل نصوص التكفير بما ليس بمكفر على واقع عهد النبوة يزيل شبهة الخوارج
ما نفهمه من هذه الخلاصة مما هو معلوم ويجب أن يعلم: أن كل النصوص التي أوردها المؤلف إنما هي في كبائر الذنوب التي لا تخرج من الملة، ولذلك نجد أن مشكلة الخوارج أنهم كفروا بالذنوب بناء على النصوص السابقة، بناء على اشتباه الأمر عندهم في النصوص السابقة، حيث ظنوا أن الكفر الذي أطلق في القرآن أو أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل الآيات والأحاديث السابقة يعني الكفر المخرج من الملة؛ لأنهم ما ردوا النصوص بعضها إلى بعض، ولا فقهوا معاني الكفر وإطلاقاته في الشرع، ذلك أن الكفر في الشرع أطلق على عدة معان، وأن ذلك معلوم بالضرورة؛ لأنه حدثت هذه الأمور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأمور التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها كفر حدث منها أشياء كثيرة في وقته، فهل كفر النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها وأخرجه من الملة وحكم بردته؟!
و
الجواب
أن العكس هو الذي حصل؛ إذ لما رأى من يلعن شارب الخمر زجره وشهد للشارب بالإيمان.
ثم إن الصحابة تعلموا ذلك، فلذلك لما كثرت مظاهر هذه الأفعال في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة ما كفروا أصحابها.
ثم إن الخوارج ظهروا في عهد الصحابة فكفروا بهذه النصوص، فخالفهم الصحابة وقاتلوهم على ذلك.
إذاً: المسألة واضحة، وأنا أعجب من تلبيس بعض الناس على بعض طلاب العلم في هذه المسألة، أعجب لأني رأيت العجب فعلاً من بعض الذين يأتون ليناقشونا ويسألوا عن بعض المسائل، حيث تجد الواحد منهم يقول: قال فلان كذا، وأورد الحديث، فما جوابي على الحديث؟! فأقول: كيف تقول: ما جوابي؟! وكأن الحديث نزل تواً، أما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، وسمع الصحابة ثم التابعون مثل هذا النص؟! أما أعرفت أن هذه القضية هي القضية الكبرى بين الخوارج وبين أهل السنة؟! فينسى لأنه قد لا يقرأ، أو لقلة تمعنه في هذه الأمور، فيأتيه من صغار المتحذلقين من يورد الإشكال على ذهنه.
وأقول: لا ينبغي لطلاب العلم أن تفوتهم هذه الأمور، فينبغي أن يؤسسوا علمهم على أصول، خاصة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي بدأت تثار الآن، وأصبحت من الأمور التي تشكل خطراً على عقائد أهل السنة والجماعة وعلى مناهجهم وعلى أبنائهم، فيجب على الناس أن يتبصروا في مثل هذه الأمور.(67/11)
الجواب عن نصوص التكفير بالذنوب التي لا تخرج من الملة
قال رحمه الله تعالى: [
و
الجواب
أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً؛ إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب.
وقال تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين.
فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال قد شتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو سيئاته.
وهذا مبسوط في موضعه.
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً، وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً، فالخلاف بينهم لفظي فقط].(67/12)
الأسئلة(67/13)
مذهب الخوارج في الصغائر
السؤال
ما قول الخوارج في الصغائر؟
الجواب
الخوارج لم يكن لهم قاعدة ولا منهج يتفقون عليه في الصغائر، بل قولهم في ذلك مضطرب أشد الاضطراب، ومنهم من لا يفرق بين الذنوب كلها، فيعتبر كل الذنوب كبائر، ومنهم من يضع ضوابط للصغائر تشبه ضوابط أهل السنة والجماعة، ويجعل صغائر الذنوب لا تدخل في أحكام الكبائر، ومنهم من لا يعرج على هذه المسألة أصلاً، ومنهم من يفرق بتفريقات عجيبة لا ترجع إلى ضوابط شرعية، إنما ترجع إلى موازين أغلبها مبني على الأهواء.
فعلى أي حال: لا أعرف أن للخوارج قولاً يتفقون عليه أو يمكن أن ينسب إليهم؛ لكثرة اضطرابهم في مسألة الصغائر.(67/14)
الفرق بين تكفير من لم يكفر الكافر وتكفير من لم يكفر المشرك
السؤال
هل هناك فرق بين قول: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وقول: (من لم يكفر المشركين فهو كافر)؟
الجواب
لا شك أن هناك فرقاً؛ لأن أغلب الذين يقولون: من لم يكفر الكافر يقصدون الكافر بحكمهم هم، والناس قد يخالفونهم في حكمهم.
أما من لم يكفر المشرك فهذه مسألة لا شك أنها واضحة، فالمشركون لا شك في كفرهم، وكذلك المنافقون الذين علم الله نفاقهم، وإلا فلا نستطيع أن نعرف المنافق بعينه، وكذلك اليهود والنصارى، وكل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، ومن لم يكفره فالأصل فيه الكفر، لكن تحتاج المسألة إلى إجراء المعروف في التثبت في ماذا يقول وماذا يعرف؟ وهل يجهل أو لا يجهل؟ إلى آخره.(67/15)
انتفاء وجود من لا يؤمن بوجود الله ظاهراً وباطناً
السؤال
هل هناك من لا يؤمن بالله ظاهراً ولا باطناً؟ أم أن هذا لا يتصور أبداً؟
الجواب
فرق في مسألة الإيمان بالله بين الإقرار بوجوده، وبين الإيمان بالله الذي يلزم منه الإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله ولوازم ذلك مما يجب إثباته لله عز وجل، فقد يوجد من الناس من لا يؤمن بالله الإيمان الواجب ظاهراً وباطناً، وكثيرون ممن يؤمنون بالله لا يؤمنون بالله الإيمان الشرعي ظاهراً وباطناً، أقصد أن كثيراً من أهل الشرك والنفاق والكفار الخلص الذين يقرون بوجود الله لا يؤمنون بالله الإيمان الحقيقي الذي تكون به النجاة.
فمسألة نفي الإيمان أحياناً تنصرف إلى مجرد الإقرار بالوجود، وأحياناً تنصرف إلى ما هو أهم من ذلك من ناحية المعنى الشرعي، ثم إن النفي والإثبات لا يتعلق بالإيمان بالله فقط، بل كذلك بالإيمان بالرسل وسائر أركان الإيمان، وأصول الدين الضرورية.(67/16)
موقف المستفتي وطالب العلم من أقوال العلماء وفتاويهم
السؤال
هل يلزم إذا أخذت بقول أحد العلماء أن أمشي على قوله في كل الأمور أم لا؟ وهل هناك فرق بين طالب العلم والعامي؟
الجواب
أما مسألة التلقي أو الاتباع فتتبع الحق مع من كان، لكن ينبغي لغير طالب العلم المتمكن أن يقتدي بالعلماء من حوله، ولا يلزمه أن يقتدي بعالم في كل شيء، وهذا الذي عليه المسلمون الآن، يعني: تجد أي مسلم يسأل أقرب عالم إليه، لكن لا يلزم الإنسان ألا يتبع إلا فلاناً؛ لأنه قد لا تتمكن من أن تسأل فلاناً من المشايخ في كل شيء أو أن تعرف أقواله في كل شيء، ومع ذلك إذا كان هناك من أهل العلم من تعتبره قدوة أكبر من غيره فلا مانع أن تجعل أكثر الأمور التي تأخذ بها مأخوذة عن قوله، ولا حرج في هذا، لكن لا أتصور أن أحداً لا يمكنه أن يأخذ الحق إلا عن واحد من العلماء، فأي إنسان يستطيع أن يأخذ العلم عمن يسهل الوصول إليه أو الاتصال به أو عمن يعرفه من طلاب العلم الذين يدرسون على المشايخ.
أما الفرق بين طالب العلم والعامي فهذا أمر بدهي ولا شك، فطالب العلم هو الذي يعرف (قال الله) و (قال رسوله) ويعرف الأدلة، ويعرف كيف يستدل، وعنده من الأدب والسمت والتزام الحق والأخذ بالسنن ما ليس عند كثير من الناس، والعامي لا يعرف ذلك، فالفرق بينهما أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا شك أن من عنده علم شرعي أفضل من العامي من وجوه كثيرة، ويجب أن يكون الأمر كذلك.(67/17)
حكم رمي الناس بما يقرب من التكفير
السؤال
ألا ترى أن ما قلتموه عن التكفير ينسحب على الكلام عن بعض الناس بأنه علماني مثلاً أو نحو ذلك، خاصة أن كثيراً من الدعاة يتساهل في هذا الباب، فهل من توجيه بخصوص ذلك؟
الجواب
لا شك أن الكلام في الناس بغير علم وبدون تثبت لا يجوز، وهو من الكبائر، وهذه قاعدة عامة، فكل كلام في المسلمين -سواء أفرادهم وجماعاتهم- بالغيبة والنميمة أو البهتان فإنه من الكبائر، ثم يتفرع عن هذه القاعدة أن رمي الناس بالألقاب -سواء الكفر أو الفسق أو النفاق أو الأمور التي تدل على ذلك، مثل المصطلحات الحديثة الجديدة، كعلماني أو حداثي أو نحو ذلك- رميهم بذلك بدون تثبت يعد من كبائر الذنوب.
ولا شك أن مما يجري على ألسنة الناس أحياناً منه ما هو من هذا النوع، أي: رمي بعض الناس بشيء من هذه الألقاب بغير تثبت، بل بمجرد الشائعة، أو بقرائن قد لا تكفي في إطلاق الحكم، أو بالظنون أو نحو ذلك.
فلا يجوز ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يستبيح الكلام في إخوانه أو في أحد من المسلمين حتى وإن ظهرت منه بعض القرائن، ما لم يثبت ذلك بطرق التثبت الشرعي.
ولا ينبغي للإنسان أن يطلق قولاً على أحد إلا بما يشهد به عند القاضي، اللهم إلا الأمور المستفيضة عند الثقات مما لا يمكن دفعه؛ لأنه بلغ حد التواتر، فهذا أمر يستثنى، وأظن أني لا أبالغ إذا قلت: أكثر كلام بعض الناس في بعض مما لا يثبت شرعاً.
فعلى هذا ينبغي أن نتواصى بتقوى الله عز وجل، وأن نؤكد على هذا الأصل الشرعي دائماً، وأن نحذر المسلمين من كلام بعضهم في بعض، وأن نبين للناس هذه الأصول الشرعية التي قد ينسونها ويحكمون العواطف أو يقلد بعضهم بعضاً.(67/18)
حكم إجبار الابن أمه على طلب فسخ عقد زواجها بأبيه قاطع الصلاة
السؤال
ما رأيك في ابن أجبر والدته على فسخ العقد من أبيه لأن الأب لا يصلي، فهل هذا الفعل يعتبر من الغلو في البر والذي هو من نزعات التكفير؟
الجواب
هذه حالة لا يلزم أن تكون من باب الغلو، قد تكون اجتهاداً خاطئاً أو وسواساً، وعلى أي حال فمثل هذا ينبغي أن يحدث باستشارة أهل العلم، وأن يتم بإجراءات شرعية لا باجتهاد فردي، فإذا كان أب لا يصلي، والابن أخذته الغيرة، فاعتبر أنه لا يجوز أن تبقى المرأة في ولايته، فهذه مسألة لا يتم الاجتهاد فيها من الفرد، بل لا بد أن يرجع إلى العلماء، والعلماء -بحمد الله- موجودون، وليرجع فيها أيضاً للمحكمة إذا استلزم الأمر ذلك، أما مجرد تصرف فردي فلا أراه؛ لأن المسألة خلافية، ولا بد فيها من اتخاذ إجراءات شرعية يعرفها أهل العلم.
فإذا كان هذا التصرف حدث منه ولم يرجع إلى أهل العلم فعليه أن يراجع تصرفاته، وإذا كان استند على فتوى صحيحة ممن لهم اعتبار فهذا أمر أرجو أن تبرأ به الذمة.(67/19)
حكم الاطلاع على كتب أهل الكتاب
السؤال
الباحثون في التاريخ القديم يعتمدون فيما يعتمدون عليه على التوراة والإنجيل، والباحثون المسلمون منهم يعتبرونهما مجرد مصادر تاريخية فيها الخطأ وهو كثير، وفيها شيء من الصواب، هل فعلهم هذا داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر رضي الله عنه؟ أم أنه جائز باعتبار التحديث عن بني إسرائيل وتلاوة التوراة حال الاختلاف، كما في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران:93]؟
الجواب
الاطلاع على كتب أهل الكتاب -سواء التوراة والإنجيل وغيرهما- فيه تفصيل: فإن كان الاطلاع بقصد التلقي بمعناه الشرعي فلا يجوز هذا أبداً، وعموم المسلمين يجب عليهم ألا يطلعوا وألا يقرءوا كتب التوراة والإنجيل أو غيرهما من الكتب الدينية للأمم الأخرى، سواء في الديانات الوثنية أو الكتابية؛ لأن الله عز وجل أغناهم بكتابه سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان المطلع من أهل العلم، واطلاعه جاء لسبب شرعي معتبر وبشروط وضوابط عرفها أهل العلم فلا مانع، لكن هل تعتبر هذه المصادر مصادر يقينية، أم مجرد مصادر تاريخية قابلة للنقاش؟ الصحيح أنها ليست مصادر يقينية، إلا ما وافق الكتاب والسنة، فما كان فيها موافقاً الكتاب والسنة فإنه يكون يقينياً، ومصدر يقينيته هو اعتماده على الكتاب والسنة، لا لأنه في التوراة والإنجيل؛ إذ إنهما تعرضا للتحريف، وما كان دون ذلك فإنه بحسب حاله، وبحسب حال المتلقي أو المتناول من أهل العلم بالشروط، فلا يجوز الاعتماد على كتب بني إسرائيل فيما لم يرد في الكتاب والسنة اعتماداً كلياً، ولا اعتبارها مصادر موثوقة، إنما من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
إذاً: فالاطلاع على هذه الكتب من بعض المتخصصين ممن تحصنوا بالعقيدة السليمة إذا كان لفائدة شرعية معتبرة شرعاً -كالرد على هذه الأمور، أو الاستشهاد بما يرد به على أهل الكتاب أو نحو ذلك مما هو معتبر- لا حرج فيه، لكن هذه ضوابط يجهلها كثير من الناس، فلذلك من الخير أن نعود المسلمين على ألا يطلعوا على ما يسمى بالكتب الدينية للأمم الأخرى؛ لأنه يشملها النهي الجازم من النبي صلى الله عليه وسلم.(67/20)
شرح العقيدة الطحاوية [68]
الإيمان عند أهل السنة والجماعة حقيقة مركبة من القول والعمل، وهو على مراتب، كما أن الكفر على مراتب، وما حصل من اختلاف في مسمى الإيمان أو الكفر فإن النصوص الواضحة تحكم الخلاف إذا جمع بينها وأحسن فهمها، وعند ذلك تتبين حقيقة الأسماء وما تدل عليه من أوصاف وأحكام وكذا ما يترتب عليها من مآلات وعواقب، كما أن الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل التي حصل فيها سوء فهم وخلط من بعض المعاصرين وإهمال لأقوال أهل العلم السابقين في هذه المسألة.(68/1)
وسطية أهل السنة في مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة].
يقصد هنا المرجئة الغلاة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو المعرفة، ومن هنا لا يضعون للشرع في النهي والأمر أي اعتبار.
قال رحمه الله تعالى: [وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى].(68/2)
الاختلاف في كون الكفر والإيمان على مراتب وبيان مدار النزاع
قال رحمه الله تعالى: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً لا يترتب عليه فساد، وهو: أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا: هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً ولا نطلق عليهما اسم الكفر، ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال: هو كفر عملي لا اعتقادي].
والكفر العملي سبق أن المقصود به كفر المعصية، وكفر الكبائر، فهو كفر لا يخرج من الملة، فيبقى صاحبه مسلماً له أحكام المسلمين، لكنه يكفر كفراً جزئياً بالمعصية الكبيرة، وهي الذنب المغلظ الذي لا يخرج من الملة.
قال رحمه الله تعالى: [والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده].
يقصد بهذا أهل السنة والجماعة أهل الحديث، فإنهم يقولون بأن الكفر على نوعين: كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو الكفر العملي، وهو من أكبر الكبائر، وهو كفر دون كفر.
والثاني: الكفر المخرج من الملة، وأغلبه من الكفر الاعتقادي، وقد يدخل فيه بعض أنواع الكفر العملي، مثل الإعراض عن الدين بالكلية، فإنه قد يدخل في الكفر المغلظ، وهو الكفر الأعظم المخرج من الملة، وقد يسمى ردة، وأيضاً يسمى كفراً بإطلاق، ويدخل فيه النفاق الكلي والنفاق الكامل، وغير ذلك من الألفاظ التي تعني الخروج من الملة.
وأغلب أنواع الكفر التي يقع فيها كثير من أفراد أهل القبلة وجماعاتهم من الكفر الذي لا يخرج من الملة، وهذا أمر ينبغي أن يفهم؛ لأن الناس بدءوا يخوضون في هذه المسألة بغير علم، فإن أغلب ما يقع فيه المسلمون قديماً وحديثاً من أنواع الكفر هو كفر لا يخرج من الملة، ولا يخرج الإنسان من الإسلام، ومن ذلك ما وصفت به بعض الفرق من الكفر، كالفرق الثنتين والسبعين الخارجة عن الجماعة التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه لا تخرج من الملة، ولذلك فإن الفرق التي خرجت من الملة لا تسمى من فرق المسلمين، ولا تدخل في الثنتين والسبعين التي ورد فيها الوعيد.
وما أطلقه بعض السلف من ألفاظ الكفر على الفرق كالمعتزلة وأوائل الشيعة والمرجئة وأكثر أهل الكلام وكذلك بعض الأشاعرة الماتريدية إنما هو كفر لا يخرج من الملة.
وهذا أمر معلوم عند أئمة المحققين، وإنما جهله الناس في الآونة الأخيرة حينما ابتعدوا عن تلقي مناهج السلف وتأصيلها ومعرفتها.
وذلك بخلاف القول بخلق القرآن، فقد اتفق السلف على أنه كفر؛ لأن الأمر فيه تبين، وبحثت هذه المسألة بحثاً مستفيضاً قامت به الحجة واستبان به الدليل وظهر فيه البرهان وأزيلت فيه الشبهات.
فالقول بخلق القرآن كفر عند جميع السلف، لم يخرج عن هذا الإجماع أحد بعد اشتهار المسألة في آخر القرن الثاني والقرن الثالث، لكن: هل كل من قال بخلق القرآن يكفر بعينه؟ هذه مسألة لا بد فيها من تفصيل: ففي بعض العصور -مثل عصر الإمام أحمد - كانت الحجة قائمة؛ لأن القضية استفاضت عند عموم الناس العوام وغير العوام، المتعلم وغير المتعلم، فجميع الناس اشتهرت عندهم قضية القول بخلق القرآن، فعرفوا أنها كفر، فمن هنا قد يجوز لبعض أهل العلم أن يطلق الكفر على كل من قال بخلق القرآن، ومع ذلك لا نعرف أن السلف كانوا يجرءون على تكفير الأعيان في هذه المسألة، إلا في حالات قليلة جداً يجزمون بأنها قامت فيها الحجة وانتفت فيها الشبهة.
وفي بعض العصور وبعض الأوقات تكون المسألة غامضة ليست واضحة عند عموم الناس وإن اتضحت عند أهل العلم، فمن هنا لا نستطيع أن نجزم بأن كل من قال شيئاً من ذلك يكفر، بل لا بد من بيان الحجة واجتماع الشروط وانتفاء الموانع في هذه المسألة.
والدليل على ذلك: أنا لو أتينا إلى عامي لا يعرف هذه المسألة أبداً وسألناه ربما يجيب بغير الحق، فمن الخطأ أننا نقول بأنه يكفر لأول وهلة قبل أن نبين له الحق.
إذاً: فالقاعدة سليمة، لكن التطبيق يختلف من عصر إلى عصر ومن حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فليس كل من قال بالكلام الكفري يكفر، وأنا أرى أنه في عصرنا هذا من الصعب أن نمتحن الناس في هذه المسائل ونكفر كل من قال بهذا القول الكفري إلا بعد البيان وإقامة الحجة.
قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال: هو كفر مجازي غير حقيقي].
هذا قول مرجئة الفقهاء أو طائفة منهم، وهؤلاء غير المرجئة الأوائل الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ولا ينفع مع الإيمان طاعة ولا يضر مع الإيمان معصية، فهؤلاء الغلاة الجهمية سبق ذكرهم آنفاً، والكلام هنا عن مرجئة الفقهاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال(68/3)
بيان حقيقة المنازعين في كون الإيمان والكفر على مراتب
يتلخص عندنا الآن قولان نسبهما المؤلف لأهل السنة، وهذا فيه شيء من النظر، فهو من باب التجوز؛ إذ إن قول المرجئة قد يقول به بعض من ينتسبون للسنة وينسبون إليها، ولكنه يبقى قول المرجئة لا قول أهل السنة، فقوله: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً] فيه نظر، لكن لعل هذا من باب التأثر بمذهب الأحناف مذهب الشارح والماتن.
ولا شك أن كثيراً ممن قالوا بالإرجاء، وقالوا بأن الإيمان هو التصديق والكفر هو الجحود، وقالوا بأن الكفر كفران: كفر مجازي وكفر حقيقي، لا شك أنهم لا يخرجون من عموم أهل السنة عند الإطلاق، كـ أبي حنيفة وشيخه وبعض تلاميذه وكبار الأحناف أهل الحديث منهم، لا نستطيع أن نخرجهم من أهل السنة بإطلاق، لكن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ ليست قول أهل السنة، بل هي قول المرجئة.
فالمسألة تحتاج إلى تنبيه، فأهل العلم لا يوافقون الشارح على أن قول المرجئة قول لأهل السنة، سواء في مسألة تعريف الإيمان، أو في مسألة تقسيم الكفر.
أهل السنة يقولون: إن الكفر نوعان: كفر دون كفر، وكفر أكبر، والمرجئة يقولون: كفر حقيقي، وكفر مجازي.
صحيح أن الخلاف لا ثمرة له، بمعنى أن مؤدى الكلام واحد، فالكفر العملي هو الكفر المجازي، ونتائجه عند الفريقين سواء، بمعنى: أنه لا يخرج من الملة، وصاحبه يبقى من أهل القبلة وإن بدع وإن فسق.
والكفر الأعظم والكفر الحقيقي هو واحد عند الفريقين، في معنى ما يترتب عليه من أحكام، لكن مع ذلك فإن هذه التسمية ناشئة عن الاختلاف بينهما، فليس القول الثاني هو قول أهل السنة وإن وافقه في النهاية والثمرة، لكنه لم يقل به أحد من أهل السنة والحديث، اللهم إلا بعض أهل العلم الذين قد لا يوافقون المرجئة في أصل تعريف الإيمان.
إذاً: فملخص القول أن أهل العلم لهم في هذا قولان: قول بأن الكفر على نوعين: كفر أكبر اعتقادي، وهو يخرج من الملة، وكفر أصغر عملي لا يخرج من الملة، وهذا قول أهل السنة.
والقول الثاني: أن الكفر ينقسم إلى كفر حقيقي وهو المخرج من الملة، وهو الاعتقادي، وكفر مجازي، وهو الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة.
فالقولان في النهاية ثمرتهما واحدة، ومؤداهما واحد، لكن منشأ التعبير يختلف، ولا يترتب عليهما فساد في النهاية في ثمرة الاعتقاد، أو انحراف في المفهوم، فالثمرة عند الفريقين واحدة، فهم لا يختلفون في الأحكام التفصيلية لنوعي الكفر، وإنما يختلفون في التسمية، والتسمية أيضاً مأخوذة من أصل الاعتقاد في الإيمان.
وهذا كمسألة القول في الذنوب، وفي مسألة العمل بالإسلام، فقد يقال: إن أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم في النهاية يقرون بأنه لا بد من عمل الخيرات وترك الآثام، وإن الخلاف لفظي.
ونقول: الخلاف ليس لفظياً، نعم من الناحية العملية لا يختلفون، خاصة مرجئة الفقهاء الأوائل، فـ أبو حنيفة رحمه الله يقول: إن الإيمان هو التصديق، وقد يخرج الأعمال من مسمى الإيمان على قول من أقواله التي نسبت إليه، لكنه يعظم جوانب الأوامر وينكر المنكرات ويعظم ارتكابها، بل إنه من أشد أئمة الدين في ذلك، ففي النهاية ليس للخلاف ثمرة عملية في اعتقاد أولئك الأئمة.
لكن هناك اختلاف علمي تنبني عليه أحكام، والاختلاف العلمي له اعتباره في العقيدة، حتى وإن كانت الثمرة العملية لا تختلف، فمن الناحية الاعتقادية، ومن ناحية التقرير العلمي نجد أن المرجئة خالفوا أهل السنة والجماعة.(68/4)
اتفاق فقهاء الملة على كون أصحاب الذنوب من أهل الوعيد في حال إقرارهم الظاهر والباطن بالشرع
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس: إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان، أو لدلالتها على الإيمان؛ إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً، ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا.
فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب من بعضهم وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه والتشنيع عليه، وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين وأن يجادلوا بالتي هي أحسن؛ فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهو عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ؛ فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور].(68/5)
نظرة في واقع التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله
هذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها الناس الآن كثيراً، والذي يظهر لي أن أغلب ما يتكلم فيه الناس من ذلك يتكلمون فيه بالمجازفة التي ليس فيها تثبت ولا تقرير علمي، ثم إن الناس يخلطون بين الأحكام العامة وبين إنزال الأحكام على الأشخاص والهيئات والجماعات، وهذا أمر عمت به البلوى ويحتاج إلى شيء من التفصيل والتقرير من قبل العلماء الراسخين، وإن كان علماؤنا كثيراً ما يبينون هذه المسائل، لكن كثرة من يتعالم ويسبق إلى الناس ويحول بينهم وبين العلماء ربما تحجب الكثير من أبناء المسلمين ومن عوام المسلمين عن معرفة أقوال أهل العلم المعاصرين، إلى حد ادعاء طائفة من الناس أن العلماء ليس لهم رأي، وأنهم لم يحسموا هذه المسألة.
وهذا جهل، فالعلماء قالوا ولا يزالوا يقولون، وقد يتورعون أحياناً عن بعض التفصيلات أو يتأنون ولا يستعجلون في بعض الأحكام التفصيلية، خاصة على المعين؛ نظراً لأنهم يعلمون أصول الاجتهاد الشرعية الصحيحة التي تنبني على التثبت أولاً، ومعرفة الواقعة تفصيلاً ثانياً، ومعرفة الشخص وما عنده وما يقوله، وتطبيق الشروط الشرعية والتأكد من انتفاء الموانع في حقه، ونحو ذلك مما يتكلم به الناس.
أقول: إن الأحكام العامة سهلة، وهذا التقعيد الذي ذكره تقعيد جيد لا يختلف عليه، لكن المشكلة في تطبيق هذه القواعد، فلذا أرى أن طلاب العلم ينبغي عليهم أن يفهموا عوام المسلمين والشباب خاصة أنه لا يجوز لكل من طلب العلم أو كان من العلماء أن يحكم في المسائل الكبرى التي تتعلق بالأشخاص والهيئات بالطريقة الفردية؛ لأن هذه المسائل خطيرة تنبني عليها أحكام خطيرة ومواقف خطيرة، فلا بد من اجتماع أهل العلم على كثير منها، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله أكثره يتم بمجرد أخذ القرائن ووصف الأحوال، وكثير من الذين يكفرون الهيئات ونحوها يكفرون دون أن يأخذوا بالأصول الشرعية في التكفير من التثبت، ومعرفة عدم وجود الجهل، ومعرفة عدم وجود الاشتباه، ومعرفة العدول عن الاعتقاد الذي في القلب؛ لأنه قد يحكم إنسان بغير ما أنزل الله وقلبه كاره لذلك لعوارض أخرى لا نعلمها، فهو بذلك ارتكب كبيرة، لكن لا يخرج من الملة.
فأكثر ما يحدث من الحكم بغير ما أنزل الله مما لا يخرج عن الملة، فمن هنا يجب أن يتأنى طلاب العلم في إطلاق الأحكام، وألا يجاروا بعض المتعجلين أو المتعالمين أو بعض الذين يتكلمون بغير علم في مسألة إطلاق الأحكام جزافاً.
وأضرب مثلاً لمسألة جزئية ينطبق عليها الحكم العام والأحكام الخاصة: فلو أن إنساناً مسلماً بنى عقاراً من العقارات ثم أجره لأناس يعملون الفساد -كالخمارين، أو أصحاب العهر- وهو يعرف أن هذا حرام، لكنه طماع يحب الدنيا مع أنه يصلي ويصوم، بل ما أجر هذه العمارة لأصحاب الكبائر فقط، وإنما حماها لهم وضمن لهم ألا يعتدي عليهم أحد، أيكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة؟ إنه يوصف بالفسق، وبالظلم، وبالفجور، وبأكل الحرام، وبكل الأوصاف الشنيعة؛ لأنه ارتكب أشنع الأعمال، لكنه ما خرج من الملة، فلا تبين منه زوجته، ولا تترتب عليه أحكام الكفر.
إذاً: فالمسألة خطيرة، خاصة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، والكلام فيها أكثره من الخوض بغير علم والقول على الله بغير علم، والتقاط الفتاوى القديمة والحديثة وتطبيقها على الوقائع المعاصرة خلل في الاجتهاد وخلل في تطبيق النصوص وخلل في تشخيص القضايا وتحقيق المناط فيها.
فليتق الله طلاب العلم، وليعرفوا أن الأمور لا بد من أن تؤخذ على بينة، ولا تؤخذ بالعواطف.(68/6)
مخالفة المرجئة في دعوى عدم ضرر الذنوب مع الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] الآية، فلما ذكر ذلك لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر.
وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر -وكان تحريمها بعد وقعة أحد- قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس.
ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا، وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1 - 3]، ما أدري أي ذنبيك أعظم: استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟! وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام].(68/7)
صعوبة معرفة الاستحلال القلبي عند ارتكاب المحرم
في هذا الكلام إشارة إلى أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال القلبي الاعتقادي، والاستحلال القلبي الاعتقادي من الصعب أن يعرف بالقرائن، بل لا يمكن أن يعرف بالقرائن، وسبق أن ضربت مثلاً، فلو أن إنساناً عمل فجوراً كثيراً وعمل أشياء كثيرة من الموبقات والمحرمات، وربما يكون بالغ في هذا العمل إلى حد أن نشر هذه الأمور، ولم ينكر تحريمها في الكتاب والسنة، فإنه مع ذلك يبقى مسلماً لا يخرج من الملة.
ومسألة الاستحلال القلبي أو الفساد الاعتقادي لا يمكن أن تعرف - كما قلت - إلا بالإقرار اليقيني الذي نعرف به أن هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام أنكر شيئاً صريحاً في القرآن، وما تأول كما تأول هؤلاء الذين استحلوا الخمر في عهد عمر، فإنهم ما أنكروا الآية، إنما ظنوا أن شربها له وجه من وجوه الإباحة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر مع أنه يحب الله ورسوله ويعتقد اعتقاداً سليماً ويعمل الصالحات ويصلي ويصوم لا يضره ذلك، فهذا تأول؛ إذ ما أنكروا الآية ولا أنكروا أصل التحريم فيها، إنما تأولوا فاستحلوا بالتأول شربها، وهذا هو أكثر ما يحدث من المسلمين حتى في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
إذاً: الحكم بكفر فلان لمجرد أنه ارتكب ذنباً لا يمكن إلا بأن يقر إقراراً يبين به عما في قلبه، وإلا فلا سبيل إلى معرفة القلوب.
وأما الأمور الشركية البحتة فليس فيها مجال للتأول ولا مجال للتردد، إنما نتكلم عن المعاصي.
وبعض الناس يخلط بين مفهوم المعاصي وبين مفهوم الشركيات، وهذا الخلط ربما كان سبب وقوع كثير من الناس الآن في عدم التثبيت.
أقول: كثير من الأمور التي ورد فيها أنها كفر تدخل في الكبائر، أما الشركيات فهي الشركيات الواضحة، كالسجود لغير الله عز وجل تعظيماً له، وكالطواف بغير الكعبة، وكدعاء غير الله صراحة، فهذه أمور شركية صريحة ظاهرة لا تحتاج إلى أن نعرف ما في القلوب، لكن الأعمال الأخرى التي ليست شركية صريحة تبقى من الذنوب أو الكبائر، ولا يمكن أن نحكم بكفر صاحبها إلا أن يعبر عما في قلبه، اللهم إلا إذا كثر الإعراض عن دين الله كثرة يجزم معها أهل العلم الراسخون الذين يعرفون أصول الاجتهاد بأن هذا تنصل من الدين بالكلية، وهذا لا يتم إلا بشروط لا تتوافر لكل الذين يتكلمون ما عدا العلماء الكبار الراسخين.
إذاً: فالأصل في الكفريات العملية -ومنها الحكم بغير ما أنزل الله- أن الكفر فيها كفر غير مخرج من الملة، وقد يكون ظلماً وقد يكون فسقاً، ولذلك جعل أهل العلم المسألة موزعة على ما ورد من ألفاظ النصوص، فجعلوا الحكم بغير ما أنزل الله على ثلاثة أصناف: الأول: كفر، ومنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، والثاني والثالث: فسق وظلم.
فالكفر المخرج من الملة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله واحد من أربعة، كما أنه من الأمور التي لا يمكن أن يعلمها الناس؛ لأنها أمور قلبية لا بد فيها من اجتهاد أهل العلم بمجموعهم، فيحكمون بأن هذا كفر صراح من هذا الشخص، وقد يكون العمل كفراً، ومع ذلك قد لا يكفر فاعله، فقد يكون من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ما هو كفر جزماً، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه وفاعله كافراً، هذا أمر.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج كلاماً إذا رجعنا فيه إلى كلام المحققين من أهل العلم لعرفنا أن المسألة فعلاً لا يحكم فيها على الشخص إلا بعد استنفاذ أمور كثيرة جداً لا يملكها الفرد ولا العالم لوحده، خاصة إذا انبنى عليها عمل، أما مجرد التفلسف فأمر سهل، لكن إذا انبنى عليها عمل يكون الأمر خطيراً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) أي: جلياً كالشمس، ثم قال بعد ذلك: (عندكم) وما قال: عندك (عليه) أي: على هذا الكفر، لا على قرائنه وشواهده (من الله برهان)، فالمسألة خطيرة، فمن يجرؤ في تطبيق هذا الحديث على أن يدعي أنه عمل بهذه الضوابط الشرعية في الحكم.
السؤال
بعض العلماء يقول: إن الذي يكفر هو من حكم بغير ما أنزل الله مع الاعتقاد، فما هو الدليل على وجوب الاعتقاد؟ ولو قلنا بذلك لما كفرنا معيناً أبداً، ولم نستطع أن نكفر أحداً حتى ولو نفى وجود الله؟
الجواب
الذي يقر بالإلحاد لا شك أنه يكفر، ومن أقر باستحلال الحرام فهو كافر، ومن أقر بأنه يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يقر بحكم الله، ويعلم ذلك فهو كافر، فما وجه اللبس؟! أما كوننا لا نكفر أحداً فمن الخير ألا نكفر أحداً ما دمنا لا نجد دليلاً على كفره، فمن الخير لنا في ديننا ودنيانا وللإسلام والمسلمين ألا نكفر أحداً ما دام أنه ليس عندنا دليل على كفره في قلبه، ومن قال: لابد من أن نكفر؟!(68/8)
الأسئلة(68/9)
حكم التأويل
السؤال
هل التأول سائغ لكل أحد من الناس؟
الجواب
التأول ليس سائغاً لكل الناس، بل له شروطه، لكن قد يتأول الجاهل فنعذره وإن كان من غير أهل التأويل، بمعنى أنه قد يستبيح محرماً ظناً منه أنه حلال لشبهة في ذهنه أو لفهم خاطئ في الدليل، كما فعل أولئك الذين شربوا الخمر في عهد عمر، فهؤلاء الصحابة فهموا الآية على غير معناها، فتأولهم غير سائغ ولا صحيح.(68/10)
حكم تأويل النصوص بحسب الرغبة والهوى
السؤال
هل للمرء أن يتأول النص حسب رغبته وهواه مع وجود العلم؟
الجواب
ليس له ذلك، لكن إذا فعله عن جهل نعذره بجهله.(68/11)
بيان معنى أن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال
السؤال
قلت: إن قول الماتن: إن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال فيه نظر، فكيف ذلك؟
الجواب
الكفر المخرج من الملة أغلبه لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، فإذا كان من باب عمل الكبائر فإنه غالباً لا يكون كفراً إلا باستحلال؛ لأن الاستحلال هو استحلال الحرام، فإذا استحل الحرام اعتقاداً مع معرفة أنه حرام، وأنكر الآية، أو أنكر الحديث الصحيح فهو بهذا يكفر، وقد يظهر لنا أنه استحلال وهو ليس باستحلال، فالمسألة فيها غموض.(68/12)
بيان ما حكم به الصحابة على قدامة بن مظعون حال شربه المسكر
السؤال
كيف يحكم الصحابة بقتل قدامة مع أنه متأول؟
الجواب
ما حكموا عليه بالقتل، بل قالوا: إن استحل بعد قيام الدليل عليه قتل، فلما قامت عليه الحجة وبينوا له الدليل واستتابوه رجع.
فالصحابة قالوا: يعرض عليه الأمر ويبين له الدليل وتكشف عنه الشبهة، فإن أصر على الاستحلال بعد قيام الدليل كفر، لكنه ما أصر.(68/13)
شرح العقيدة الطحاوية [69]
من مسائل الأسماء والأحكام أننا نرجو للمحسنين أن يعفو الله تعالى عنهم ويسامحهم ويدخلهم الجنة، ولكننا لا نأمن عليهم، ولا نشهد للمعين منهم بالجنة؛ لأننا لا نعلم حاله ومآله وما أقدم عليه، كما أننا نستغفر للمسيء من هذه الأمة ونخاف عليه ونرجو أن يغفر الله له، ولا نقنطه في أن لا يتوب ولا يستغفر، ونحكم عليه جزافاً بدون علم ولا بينة؛ بل هناك مكفرات كثيرة للذنوب قد يدخل العبد تحت واحد منها فيغفر الله له.(69/1)
استلزام رجاء عفو الله الإتيان بالعمل الصالح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم)].
هذا الموضوع داخل في باب الأسماء والأحكام، أي: أنه تفصيل في أحكام المسلمين، سواء منهم المتقون والمقصرون الذين وقعوا في بعض التقصير أو وقعوا في بعض العظائم؛ فهؤلاء وأولئك يدخل موضوعهم في العقيدة في باب الأسماء والأحكام، أي: تسميتهم مسلمين ومؤمنين، وأحكامهم في الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: [وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44].
ومدح أهل الخوف، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:58 - 61].
وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه).
قال الحسن رضي الله عنه: عملوا - والله - بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً.
انتهى].
في المقطع التالي سيذكر أن الخوف والرجاء يستلزمان العمل، وليس الخوف والرجاء مجرد أمانٍ، وإنما لا بد أن يكون الخوف وراءه عمل، والرجاء وراءه عمل.
قال رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات؟! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، شرعه وقدره وثوابه وكرامته.
ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام، وأمثال ذلك، فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً: أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان].
الشيخ: لذلك قرر أهل العلم أهل السنة والجماعة أن العبادة لا بد أن تقوم على ثلاثة أركان، وإذا اختل ركن اختلت العبادة: الركن الأول: المحبة لله عز وجل.
والركن الثاني: رجاء رحمة الله عز وجل ورجاء ثوابه.
والركن الثالث: هو الخوف، أي: الخشية من الله عز وجل والخشية من عقابه وعذابه.
وهذه الأمور كلها لا بد أن تترجم إلى عمل.
قال رحمه الله تعالى: [وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه.
وفي معجم الطبراني: (عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه)].(69/2)
خطر احتقار المعاصي وقلة الحياء من ارتكابها
قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون).
ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره].
ومن الأشياء التي تلحق الصغيرة بالكبيرة إدمان الصغيرة والإصرار عليها، فالصغائر إذا أدمن عليها صاحبها وأصر عليها دخلت عند كثير من أهل العلم في الكبائر.
أما التفريق بين الصغائر والكبائر فسيأتي في مقام آخر فيما بقي إن شاء الله من الكتاب.(69/3)
ذكر موانع إنفاذ الوعيد(69/4)
التوبة النصوح
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:60]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5].
والتوبة النصوح -وهي الخالصة- لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل، وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر -مثلاً- هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة].
الذي ورد في النصوص أن الإسلام يجب ما قبله، وإذا كان يجب ما قبله -كما هو ظاهر الحديث- فإن ذلك يتضمن التوبة من الذنوب ويستلزمها أيضاً، أي: الإسلام بعد الكفر، فالدخول في الإسلام بعد كفر وشرك يعد توبة مطلقة يدخل فيها -والله أعلم- الذنوب التي يرتكبها الإنسان حال كفره، اللهم إلا إذا أصر على ذنب، فإذا أصر على ذنب واستمر عليه -بمعنى أنه صار عليه حال كفره وحال إسلامه- فإنه يبقى عليه ذنبه، لكنه يدخل في الإسلام.
إذاً: فالكافر إذا أسلم فالظاهر أن إسلامه يجب كل ما سبق من ذنوبه، ولا ذنب أعظم من الشرك والكفر، ولا شك أن من أسلم فقد استسلم وسلم لله عز وجل، ومن سلم فإنه بدأ أعماله من جديد، والإسلام يمحو كل ما سبق، هذا الظاهر والله أعلم، اللهم إلا إن بقي ذنب من الكبائر أصر عليه حال إسلامه؛ فإنه يستمر عليه الإثم، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا.
قال رحمه الله تعالى: [وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وهذا لمن تاب، ولهذا قال: {لا تَقْنَطُوا} [الزمر:53] وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]].(69/5)
الاستغفار
قال رحمه الله تعالى: [السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى؛ فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله].
وهناك أيضاً من الفروق الرئيسة بين الاستغفار والتوبة أن التوبة أعم، بمعنى أن التوبة تكون من الشرك والكفر وما دون ذلك، والاستغفار لا يقع إلا من مسلم، بمعنى أنه لا ينفع الكافر استغفاره إذا كان باقياً على كفره، لكنه لو تاب من جميع ما هو عليه قبلت توبته.
إذاً: الاستغفار أخص من هذا الوجه، فالاستغفار لا ينفع الكافر، لكنه من خصائص المسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: {فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ} [المائدة:89]، وقال: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4]، وقال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271].
لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.
وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى.
وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى].(69/6)
الحسنات
قال رحمه الله تعالى: [السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)].(69/7)
المصائب الدنيوية
قال رحمه الله تعالى: [السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه).
وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به).
فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم.
وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه].
هناك فرق بين الثواب وبين التكفير، بمعنى أن الثواب أو الإثم على شيء أمر زائد عن مجرد تكفير الذنوب، فمثلاً: المصائب الدنيوية التي تصيب المسلم تكون تكفيراً عن ذنوبه، لكنه قد لا يؤجر إذا لم يصبر، فإذا جزع فليس له في ذلك أجر، لكن لا يعني ذلك أنه لا تكفر ذنوبه، وهذا هو وجه الجمع بين النصوص؛ لأنه ورد في النصوص أن الذي يجزع ولا يصبر ليس له في ذلك أجر، كما أنه ورد النصوص المطلقة كحديث البخاري السابق وحديث مسلم أن المصائب تكفر الذنوب.
إذاً: فتكفير الذنوب أمر، والأجر الحاصل أمر زائد، فالمسلم إذا أصابته اللأواء وأصابته المصائب في دنياه، فإن صبر أجر على ذلك أجراً عظيماً، وإن لم يصبر فإنه -إن شاء الله- قد يكفر عنه من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذلك من فضل الله ورحمته بعباده.(69/8)
عذاب القبر
قال رحمه الله تعالى: [السبب الخامس: عذاب القبر.
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى].
يقصد بعذاب القبر أن طوائف من المؤمنين الذين يعذبون في قبورهم بعد الموت يكون هذا العذاب تطهيراً لهم من بعض ما ارتكبوه من ذنوب، وعلى هذا فإن هذا العذاب الذي يلقاه بعض من يستحقه في القبر من المؤمنين لا يعذب به يوم القيامة بعد البعث، هذا ظاهر كلام المؤلف.(69/9)
ذكر سائر موانع إنفاذ الوعيد
قال رحمه الله تعالى: [السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات.
السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.
السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).
السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلابد من دخوله إلى الكير؛ ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه.
وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم].
ما يتعلق بعذاب القبر سيأتي الكلام عنه تفصيلاً كما ذكر الشارح، لكن أحب أن أشير إلى أن كلام كثير من أهل العلم أن عذاب القبر ثلاثة أقسام: منه ما يكون على ذنوب يستمر معها العذاب في القبر وبعد البعث، كذنوب المنافقين والمشركين.
ونوع آخر يكون فيه تكفير كامل، وهو عذاب المسلمين الذين يعذبون ببعض الذنوب في قبورهم، فإن هناك صنفاً من المؤمنين يكون تعذيبهم في القبر من التكفير الكامل لذنوبهم.
ونوع ثالث يكون تعذيب أهله في القبر تخفيفاً للجزاء وليس تكفيراً بالكلية.
فالمعذبون ثلاثة أصناف: صنف يستمر عذابهم في القبر وبعد البعث، وهم العتاة من المشركين والكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة.
وصنف يكفر الله عنهم بعذاب القبر وهم طوائف من المؤمنين.
وصنف يخفف الله عنهم بعذاب القبر، وهم أيضاً طوائف من المؤمنين.(69/10)
خطر الأمن والإياس ووجوب اجتماع الخوف والرجاء في العبد
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة)].
يقصد الأمن من عذاب الله ومكره، واليأس من رحمة الله وعفوه، فالأمن الكامل من عذاب الله ومكره كفر، نسأل الله السلامة، واليأس الكامل من رحمة الله وعفوه أيضاً كفر، وأغلب ما يقع فيه العباد الأمن الكامل، واليأس يوجد عند أهل التنطع والتشدد، كغلاة الخوارج وبعض غلاة العباد، لكن الأمن كثير جداً في الأمم وفي بعض الطوائف كغلاة المرجئة ومن سلك سبيلهم.
قال رحمه الله تعالى: [يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً؛ فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218].
أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد.
وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه].(69/11)
بيان لزوم عبادة الله تعالى بالحب والخوف والرجاء وخطر العبادة ببعض ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد].
هذه الكلمة سارت واشتهرت عند الأئمة، لكنهم ما أسندوها إلى أحد بعينه، وهي قاعدة عظيمة: فقولهم: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق) يعني أنه يقع في الإعراض عن دين الله عز وجل، فمن غالى في الإرجاء وقع في الزندقة التي هي ترك الدين والإعراض عنه.
وقولهم: (ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري) الحروري هو الخارجي؛ لأن الخوارج يميلون إلى التشدد، والخوارج سموا حرورية نسبة إلى حروراء ذلك الموضع الذي انحازوا إليه لما افترقوا عن جماعة المسلمين في عهد علي رضي الله عنه، فسمي كل من نزع هذه النزعة حرورياً، يعني أنه غلب جانب الخوف وغلب نصوص الوعيد وترك نصوص الوعد فشدد على نفسه وعلى غيره.
وقولهم: (ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) هذا يدخل في الأول لكنه أخف من الأول؛ لأن من عبد الله بالحب هو الذي لا يبالي بالشرع أبداً، يعرض عن الشرع بالكلية، وأغلب الذين يسلكون هذا المسلك نجدهم من زنادقة الفلاسفة وغلاة الصوفية، وأما الإرجاء -ما عدا إرجاء الجهمية- فهو في الغالب نوع من الإخلال بالشرع فقط، فلا يعد الإرجاء كله زندقة أو إعراضاً عن دين الله، فإرجاء الفقهاء المشهور هذا قد يقصر صاحبه في بعض الأعمال وليس في كلها.
قال رحمه الله تعالى: [ولقد أحسن محمود الوراق في قوله: لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخير ثواباً عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الشر جزاءً أشفقت من حذره].(69/12)
الأسئلة(69/13)
الرد على المصر على الذنوب رجاء تكفيرها بمسقطات عقوبة جهنم
السؤال
ما الرد على أصحاب المعاصي الذين يستمرون على معاصيهم بحجة أن هذه الأسباب المذكورة تكفر ذنوبهم؟
الجواب
ليس لهم حجة؛ لأن الله عز وجل أمرهم بالتوبة وأمرهم بالاستغفار، وجعل تكفير الذنوب مرتبطاً بالسعي إلى ذلك بترك المنهيات، وبفعل المأمورات، وكثرة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشارح رحمه الله أشار إلى أنه لا توبة ولا رجاء إلا بأسباب، وإلا فتعليق الأمل على الله عز وجل مجرد أمان، والأماني لا تنفع أصحابها.(69/14)
مدى صحة القول بأن الأمن واليأس ينقلان من ملة الإسلام
السؤال
يقول سماحة الشيخ ابن باز: الصواب أن الأمن واليأس لا ينقلان من ملة الإسلام وإنما هما من كبائر الذنوب؟
الجواب
الأمن واليأس في الجملة لا ينقلان من الإسلام إلا إذا كان الأمن أمناً كاملاً أدى إلى ترك الدين بالكلية، أما من هو مسلم لله وقائم بالحد الأدنى من الدين، فلا شك أن أمنه -بمعنى: تفريطه في حق الله- لا يخرجه من الملة، وكذلك المسلم إذا يئس من الرحمة، بمعنى أنه غلب جانب اليأس، ومع ذلك يعمل ويرجو الله عز وجل، فإن هذا أيضاً لا يخرج من الملة وإن غلب عليه اليأس، لكن قصد الشارح وقصد بعض الأئمة بأن الأمن واليأس كفر الأمن الكامل، فإذا أمن الإنسان من عقوبة الله عز وجل وأدى ذلك إلى أن ترك الدين بالكلية، وأعرض عن الإسلام وعن جميع الأعمال، هذا معرض عن دين الله عز وجل، فأمنه يوقعه في الكفر، وهكذا من يئس من رحمة الله يأساً كاملاً بأن اعتقد أن الله لا يرحم عباده، فهذا أيضاً يكون كفراً.(69/15)
بيان أن الفرد ليس من أسماء الله تعالى
السؤال
هل من أسماء الله الفرد؟
الجواب
لم يرد أن من أسماء الله الفرد، فالفرد وصف للأحد، والأحد من أسماء الله، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فالفرد بمعنى الأحد.(69/16)
ضابط العموم والخصوص في الألفاظ المختلفة دلالاتها بحسب الإطلاق والتقييد
السؤال
ما الحد الفاصل بين اللفظ الأخص والأعم في التقسيمات التي مرت معنا في الطحاوية؟
الجواب
الخصوص والعموم في الألفاظ التي مرت أمر نسبي، لا يعد من وجه واحد، مثل التوبة والاستغفار، فالاستغفار قد يكون أعم من وجه، والتوبة أعم من وجه آخر، وهذا راجع للسياق، فلا نستطيع أن نحدد ما تختص به التوبة عن الاستغفار من وجه واحد، وكذلك لا نستطيع أن نعرف خصائص الاستغفار دون التوبة من وجه واحد، لكن مع ذلك فالظاهر أن التوبة أعم من الاستغفار، لأن الاستغفار من وسائل التوبة، والتوبة أعم من ذلك، فهذا على وجه العموم، وهكذا بقية الألفاظ.(69/17)
شرح العقيدة الطحاوية [70]
من عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الإيمان والكفر أن الأصل في المسلم أنه لا يخرج من إسلامه إلا إذا أتى بناقض قولي أو عملي أو جحودي، أما الكبائر وما دونها فإنها لا تخرجه من إسلامه، خلافاً لما تدعيه الخوارج الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بالكفر والخلود في النار، وكل هذا نتج عن لبس وخلط في منزلة العمل من الإيمان، وما هو العمل الذي يكون تركه كفراً أو يكون تركه معصية.(70/1)
ما يخرج به العبد من الإيمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه).
يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة، وفيه تقرير لما قال أولاً: إنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وتقدم الكلام على هذا المعنى].
كلامه هنا فيه نوع من الإجمال، وبعض الألفاظ فيها اشتباه، وفي الجملة إذا جعلنا هذا الأصل جارياً على أصول أهل السنة والجماعة -وهو -إن شاء الله- مقصود الإمام الطحاوي - فإنه يعني أنه لا يخرج العبد من مسمى الإيمان إلا إذا ترك شيئاً من أصول الدين، بمعنى أنه أنكر شيئاً من أصول الإيمان ولوازم أصول الإيمان التي لا بد منها والتي ثبتت في النصوص، مثل الشفاعة، والرؤية، وكلام الله عز وجل وأنه منزل غير مخلوق؛ فهذه من لوازم الإيمان، وتدخل في أصول الإيمان بالنصوص الشرعية، وليس باللزوم العقلي أو التفريع على القواعد فقط، بل بمقتضى النصوص الشرعية؛ لأن أركان الإيمان وأركان الإسلام لها لوازم.
وفي الأركان العملية خلاف، فهل من أعرض عن الصلاة والصيام والحج والزكاة إعراضاً كلياً يخرج من الإيمان أو لا يخرج؟ هذه مسألة خلافية، إلا أن الصلاة ورد فيها نصوص مستقلة على أنه يخرج تاركها من الإيمان ومن الإسلام، وما عدا ذلك فإن المسألة فيها خلاف، فبعض أهل العلم قال: إن من أعرض عن أركان الإسلام إعراضاً كلياً؛ فلا بد أن يلزم من إعراضه الجحود أو الشك الذي يؤدي إلى الجحود، أو عدم التسليم الذي يخرج به عن مسمى الإيمان.
إذاً: فقوله: (لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يقصد به جحود أصول الدين التي أدخلته في مسمى الإيمان، وهي أركان الإيمان ولوازمها وأركان الإسلام بجملتها ولوازمها.(70/2)
تعريف الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى].
هذه العبارات في الحقيقة جارى فيها الشيخ الطحاوي رحمه الله مذهبه وشيوخه الأحناف، وإن كان حاول أن يقرب بعض الألفاظ إلى المعاني التي يقول بها أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي في بعض عباراته شيء من الإشكال.
فقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ليس هو التعريف الكامل للإيمان، فقد بقي العمل بالجوارح، أي أنه مال إلى قول المرجئة.
وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) هذا فيه تلميح إلى قول أبي حنيفة ومرجئة الفقهاء رحمهم الله، فإنهم يقولون: إن الأعمال تخرج من مسمى الإيمان، لكنها تلزم العبد؛ لأنها أوامر ونواه، ويترتب على فعلها الثواب وعلى تركها الوعيد والعقاب.
وقوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فيه تعبير عن مذهب المرجئة، وكأنه يشير إلى أن الإيمان هو التصديق والقول.
والسلف في الحقيقة يرون أن الإيمان متعدد؛ لأن الإيمان هو معانٍ وحقائق تتفاوت، كالتصديق والإذعان والخشية والتقوى والخوف والرجاء ونحو ذلك من المعاني القلبية، وكذلك يتعدد في الأمور العملية، فأعمال الجوارح كلها تدخل في مسمى الإيمان، وهي متعددة وتتفاوت زيادة ونقصاً، وتتفاضل بحسب النية وما يقر في القلب، وتتفاضل أيضاً بنوعها وكمها، وهذا التفاضل في أعمال القلب وفي أعمال الجوارح لا يتماشى مع التعبير بأن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء.
كما أن قوله: (وأهله في أصله سواء) متابعة للمرجئة في أن المؤمنين على درجة واحدة من الإيمان، إنما يتفاوتون في الأعمال على اعتبار أن الأعمال عند هؤلاء لا تدخل في مسمى الإيمان، وكذلك قوله: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يقصد بذلك أن التفاضل معنوي ولا يكون حسياً، وهو بهذا أيضاً يميل إلى قول المرجئة بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان على الأقل في ظاهر اللفظ، وإن كان الشارح ابن أبي العز رحمه الله حاول أن يجر هذه العبارات إلى مذهب أهل السنة والجماعة بشيء من التكلف، والله أعلم، وسيتضح هذا من خلال ما سيذكره.(70/3)
ذكر الخلاف في حقيقة الإيمان(70/4)
ذكر مذهب السلف في حقيقة الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان].
هنا زاد على كلام الشيخ الطحاوي الإشارة إلى العمل بالأركان، هذا أمر، الأمر الآخر أن العبارة فيها قصور في الحقيقة، وإن كان ابن أبي العز ربما لم يقصد ذلك، لكنه ما أراد أن يبين وجه الخطأ في كلام الطحاوي رحمه الله، وما أراد أن يشهر وجه الخطأ؛ لأنه حمله على أحسن المحامل.
وقوله: [اختلف الناس] ثم قوله: [ذهب مالك]، كان الأولى منه أن يقول: فذهب السلف؛ فهذا مذهب السلف إطلاقاً: الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، ولم يخالفهم من الأئمة المشاهير إلا أبو حنيفة وشيخه حماد وعدد قليل من أتباعهما ممن يعدون من أئمة السلف، أما البقية فهم من أهل الأهواء، فعلى أي حال ينبغي أن يقال: فهذا مذهب السلف، ثم يذكر أفراداً منهم، فيقال: فمذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي كذا، كما فصل، أو أن يقال: فمذهب السلف -كـ مالك والشافعي - إلى آخره.
وقد تبع بعض المتكلمين السلف، أما أهل المدينة فهم أصل السلف، وأهل الظاهر أيضاً يوافقون السلف في كثير من الأصول في العقيدة، وقوله: [وجماعة من المتكلمين] يقصد جماعة من الأشاعرة والماتريدية.
والمعتزلة يوافقون أهل السنة بإجمال في هذا القول، فيدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك أكثر الخوارج يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لكنهم لا يجزئون الإيمان، حيث يرون أن الإيمان إذا اختل منه شيء اختل كله، فعند الإجمال يوافق المعتزلة والخوارج أهل السنة، لكن عند التطبيق والتفصيل يخالفون مخالفة كبيرة، فأهل السنة يرون أن الإيمان يتفاضل، ومع تفاضله إذا اختل منه عمل بقي الآخر، والخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان يشمل القول والعمل، لكن إذا اختل منه جزء اختل كله، ولا يزال مذهب أكثر الإباضية إلى اليوم.(70/5)
ذكر مذهب الحنفية في حقيقة الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان].
قوله: (من أصحابنا) يعني: الأحناف، وهم المرجئة؛ ولا يلزم التلازم بين الأحناف والمرجئة، نعم هناك مرجئة غير الأحناف، لكنهم هم الأغلبية، فهناك من الأحناف من مال إلى مذهب أهل الحديث مذهب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، وهناك منهم من يخالفهم في بعض الجزئيات، لكن في الجملة الكلام أن غالب الأحناف هم المرجئة، كما أن أغلب المرجئة أحناف، والماتريدية كذلك مرجئة.
فقوله: (أصحابنا) يعني: الأحناف، أصحابه في المذهب الفقهي.
قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه].
الراجح عن أبي حنيفة أنه قال: إن الإيمان تصديق وقول، وهو مذهب شيخه، وقد فرق الشارح الأقوال، فلذلك يحسن أن نجمعها الآن بإيجاز، وإن كانت ستأتي تفصيلاً، فمحصلة الأقوال في الإيمان أنها خمسة: أولها: قول السلف بأنه قول وعمل، هذا على الإجمال، وأحياناً يفصلون فيقولون: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان.
والقول الثاني: أنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذا مذهب أبي حنيفة وشيخه وكثير من أوائل المرجئة.
والقول الثالث: أنه قول اللسان فقط، وهذا قول الكرامية.
والقول الرابع: أنه التصديق فقط، وهذا قول طائفة من الأحناف، وهو قول أبي منصور الماتريدي وكثير من أتباعه، ولا يزال هو قول كثير من المرجئة، سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو غيرهم، بمعنى أن المرجئة لهم قولان: منهم من قال: الإيمان هو التصديق فقط، وأثر هذا عن أبي حنيفة، وهو أيضاً قول الماتريدي وقول كثير من المرجئة الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال: إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو الأرجح عن أبي حنيفة، وقال به بعض المرجئة أيضاً.
والقول الخامس: أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، أي: أن من عرف الله فهو مؤمن، سواء صدق أو لم يصدق، فالذي يعرف ويجحد كفرعون مؤمن كامل الإيمان، وهذا قول الجهم وقول بعض الفلاسفة وغلاة الصوفية، ويقول به كثير من الباطنية.(70/6)
ذكر مذهب الكرامية ومذهب الجهمية
قال رحمه الله تعالى: [وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد.
وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]].
وجه الاستدلال هنا أنه قال: (لَقَدْ عَلِمْتَ) وهذا مما حكاه الله عز وجل عن موسى وفرعون، وفرعون لم ينكر هذه الدعوى؛ لأنه ما أنكر قول موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ)، ثم إن الله عز وجل حكى بذلك وجه الحق في القصة، فلو كان فيها استدراك فيما لا يعلمه إلا الله عز وجل -وهو ما في قلب فرعون - لتبين هذا في القرآن، أو لبينه الله عز وجل، ثم إن موسى لا ينطق إلا بالحق في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على فرعون، والله عز وجل يسدده ويعصمه من أن يقول الباطل، لا سيما أنه يشير إلى ما في قلب فرعون.
وقوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ) فيه نوع من إطلاع موسى على شيء من الغيب مما في قلب فرعون، فلو لو يكن هذا حقاً -أي: أن فرعون علم لكنه جحد- لما جاءت بهذا السياق في كتاب الله، فلو كان كلام موسى عليه السلام عن فرعون مجرد ظن؛ لما جاء بها هكذا دون أن يسدده الله عز وجل ويبين له وجه الحق في ذلك، لا سيما أنه يشير إلى معنى قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أطلع الله عليه نبيه موسى، وهو أن فرعون علم في قرارة قلبه أنه ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر.
قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]].
دلالة هذه الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الله عز وجل يحكي حالهم، والله لا يقول إلا الحق، فالله يحكي حال فرعون وآله؛ لأنهم استيقنتها أنفسهم، بمعنى أنهم عندهم يقين قلبي، لكن الجحود جحود مكابرة وجحود تعالي وغطرسة وغرور، وهذه من صفات الإنسان إذا طغى واستحوذ عليه الشيطان، نسأل الله العافية.
قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه!].
هذا من باب الإلزام، والشاهد أنه يلزم من قول الجهم -وهو قول خبيث غال في الخبث- أنه إذا كان الإيمان هو معرفة الله فقط، وأن من عرف الله استحق الثواب على الإيمان، يلزم منه أن يكون فرعون وقومه من المؤمنين والذين يستحقون الثواب، وأنهم لا يكونون كافرين على هذا المفهوم، وكذلك أبو طالب وقريش، والكفرة الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، كل هؤلاء على قاعدة الجهم يعدون من المؤمنين وليسوا من الكافرين، وكذلك إبليس، وهذه مغالطة وقلب للحقائق، وهذا أسلوب الباطنية في كل زمان.(70/7)
حاصل الأقوال في حقيقة الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره.
وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم].
هذا كلام ليته عبر به في السابق، فهذا تعبير سليم عن قول السلف بأسلوب واضح صريح ليس فيه مجاملة للأحناف ولا للمرجئة.
قال رحمه الله تعالى: [أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر].(70/8)
نظرة في حكم الشارح على الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة بأنه خلاف صوري
قال رحمه الله تعالى: [والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد].
وهذا الكلام أيضاً مما تساهل فيه الشارح وأراد أن يتوسط حسب رأيه ووجهة نظره بين الطحاوي والأحناف من جهة وبين أهل السنة من جهة أخرى، فتصوير الخلاف بأنه صوري مطلقاً غير صحيح، وكذلك تصوير الخلاف بأنه لفظي مطلقاً غير صحيح، فهو صوري ولفظي من جهة، لكنه اعتقادي وعلمي من جهة أخرى، أما كونه صورياً ولفظياً فهذا من جهة الأعمال وثمرة الأعمال، أي: جزاء الأعمال، بمعنى أن أبا حنيفة وأتباعه -سواء الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، والذين قالوا: هو التصديق والقول- عندهم للأعمال اعتبار كبير، فلا يتساهلون في الأعمال، ويرون أنها من لوازم الإيمان، وأن الإخلال بالأعمال يترتب عليه الوعيد، وأن الزيادة في الأعمال عليها الثواب العظيم، فمن ناحية العمل يكون الغالب أن النزاع لفظي، وهذا عند الكبار الأوائل منهم الذين في عصر السلف في القرن الأول والثاني تقريباً، أما المتأخرون منهم فصار عندهم نوع تساهل في فروع هذه المسألة، وانعكس هذا المفهوم عندهم في التساهل في الأحكام والأسماء والأعمال وثمرات الأعمال انعكاساً مباشراً وغير مباشر، وأقصد بذلك أن متأخري المرجئة تساهلوا في مسألة لوازم الأعمال من الولاء والبراء، ومن تحقيق الوعيد، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، بخلاف الأولين، فـ أبو حنيفة رحمه الله ومن كان في زمنه وقبله كانوا لا يتساهلون في مسألة الأعمال، وعندهم من الورع ومن التزام السنة ما يجعلهم لا يخلون بمنهج الولاء والبراء، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بلوازم العمل من حيث الوعيد ونحو ذلك.
إذاً: الخلاف عند الأوائل في الجانب العملي صوري في نهايته وثمرته، لكن في الجانب الآخر -وهو الجانب الاعتقادي- لا شك أن هناك فرقاً كبيراً، ولذلك جعل أهل السنة بإجماع المسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قولهم بأن الإيمان قول وعمل، وإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وصار ذلك من أصول العقيدة يقررونه في كتبهم، ويدرسونه ويحشدون له الأدلة، وكتبوا في ذلك مجلدات تقريراً للحق، فالسلف لا يتكلمون بالفضول، وهم أكثر الناس تورعاً عن الكلام والتأليف في فضول الأمور، فقد عنوا بمسألة الإيمان عناية باهرة وكبيرة وعظيمة جداً، أي: إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال جزء من الإيمان.
وترتب عليها من الجانب الاعتقادي القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولذا فالمرجئة يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فصارت هذه المسألة من الناحية الاعتقادية والعلمية من أكبر المسائل عند أهل السنة والجماعة، وربطوها بالتي قبلها، ثم جاءت مسألة الاستثناء في الإيمان، وصارت من أساسيات العقيدة؛ لأنها فرع عن القول بأن الإيمان تصديق أو أنه تصديق وعمل، فالذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق والقول؛ قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنك إذا صدقت لا تستثني، والسلف حينما قالوا بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، أجازوا استثناء في الإيمان؛ لأن العمل مرتبط بالعبد، فإذا كان موقناً بالله عز وجل عاملاً بمقتضى الشرع؛ فليقل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد التصديق اللغوي، ومجرد الإقرار.
فعلى هذا فالخلاف من الناحية العملية عند الأوائل لفظي فعلاً، لكنه عند المتأخرين من الناحية العملية لم يعد لفظياً، أما من الناحية الاعتقادية والناحية العلمية فإن الخلاف ليس بلفظي، بل ترتب عليه أمور خالفت مقتضى النصوص الصريحة عند السلف، والسلف حينما قرروا أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، حينما قرروا ذلك قرروه لأن النصوص وردت بذلك، فلا بد من حماية النصوص وقواعد الشرع وأصول الدين من أن تنتهك وتختل مفاهيمها عند الناس لمجرد مجاراة إمام غلط أو زل.(70/9)
تكفير تارك الصلاة بدليل مستقل لا يلزم منه امتناع دخول سائر الأعمال في الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً].
اعترض الشيخ هنا اعتراضاً قاله بعض أهل العلم، لكنه اختصر فجعل الاعتراض غير واضح، ثم أجاب عن هذا الاعتراض، يقول: إن من الأعمال ما يخرج تركه من الملة، أو يدخل تركه الكفر، وهو الصلاة، وعلى هذا فإن تارك الصلاة إذا كان يخرج من الملة أو يكفر فقد اختل إيمانه، أو لا يقال: إنه مؤمن، ثم يقول: إن الجواب عن هذا أن الصلاة استثنيت بنصوص مستقلة.
وهذا الكلام في مجمله صحيح، فالصلاة ورد النص بتكفير تاركها أكثر مما ورد في غيرها، وقد وردت نصوص بأن كفر تارك الصلاة كفر مغلظ، فقد وصف تارك الصلاة بالشرك، والشرك لا يكون -إذا قارن الكفر- إلا الكفر المغلظ، وكلامه هذا صحيح، لكنه فيه نوع من الالتباس، فلا يظهر أنه يستدل للسلف أو يستدل ضدهم، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذا دليل من أدلة المرجئة الذين يقولون: إن ترك الأعمال لا يخرج من الإيمان إلا الصلاة، والصلاة جاء دليل إخراج تاركها من الإيمان بدليل مستقل، لا لأنها من الإيمان.
نقول: هذا صحيح من وجه وليس بصحيح من وجه آخر، فصحيح أن الصلاة استثنيت من أركان الإسلام بأن تاركها يخرج من الملة عند بعض أهل العلم، أو يكفر كفراً مغلظاً أو نحو ذلك مما قيل، وأن فيها نصوصاً مستقلة، لكن هذا لا يعني أن غيرها من الأعمال لا يدخل في مسمى الإيمان؛ لأننا نقول: الإيمان يزيد وينقص، ولا نقول بأن الذي يختل إيمانه يخرج من الإيمان بالكلية، فمن هنا لا مكان للاعتراض على أهل السنة بهذا المثال، لكن استثناء الصلاة وارد.
فكثير من الأعمال تركها لا يخرج من الملة، إلا الصلاة، لكن لو أن إنساناً ترك أركان الإسلام جميعاً وأعرض عن الدين بالكلية فإنه يكفر وإن كان مصدقاً، وسيأتي أيضاً إشارة إلى هذا في مقام آخر، المهم أنه هنا اعترض اعتراضاً بالقول بأن تارك الصلاة يكفر ويخرج من الإيمان، فعلى هذا فإن الأعمال داخله في الإيمان، ثم كأنه استدرك على هذا الاعتراض بقوله: إن الصلاة جاء النص فيها مستقلاً، ونحن نقول: كما جاء النص بأن تارك الصلاة يكفر كذلك جاءت النصوص بأن الذي يخل بالأعمال ينقص إيمانه، والذي يفي بالأعمال يزيد إيمانه، وهذا له نصوص مستقلة، فيبقى الاعتراض غير وارد على أهل السنة والجماعة، إنما يرد على المرجئة فيما بينهم، وعلى المرجئة وخصومهم الآخرين من المعتزلة والخوارج الذين يخرجون أهل الكبائر من الإيمان بالكلية.(70/10)
مراد أهل السنة بالقول والعمل
قال رحمه الله تعالى: [ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل].
هذا أيضاً من الكلام المجمل الملتبس، فكلامه هذا فيه إجمال وفيه نظر من ناحية أخرى، فقوله: التصديق بالقلب والإقرار باللسان هو معنى أن الإيمان قول وعمل ليس بصحيح.
فالقول بأن التصديق بالقلب والإقرار باللسان يخالف ويناقض قول السلف بأن الإيمان قول وعمل؛ لأن السلف فسروا قولهم، وتفسيرهم لهذه الكلمة متواتر، وهو أنهم يقصدون بـ (قول وعمل) قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
إذاً: فكلمة (قول وعمل) ليست مرادفة للإقرار بالقلب والقول باللسان، بل تزيد عليها قطعاً؛ لأن السلف اتفقوا على أن المقصود بقولهم: (قول وعمل) جميع الأمور الثلاثة: التصديق والإقرار باللسان والعمل بالأركان، لذلك لما خاضوا مع المرجئة في هذه المسألة فصلوا، فلما اضطر السلف للتفصيل فصلوا، وقالوا: الإيمان هو تصديق الجنان وقول اللسان وعمل الأركان، وهو تفسير لكلمة (قول وعمل).
وقوله: [لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل] هذا صحيح، لكن تفسيره بأن القول التصديق بالقلب والإقرار باللسان فقط، فيه نوع من الالتباس؛ لأنه قال: [وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: قول وعمل]، فليته شرح معنى (وعمل) وجعلها في أصل الشرح السابق، من أجل أن يزول اللبس، ومع ذلك يبقى لسلامة العبارات محمل لو لم يكن هناك نوع من التكلف في عرض قول المرجئة في هذا المقطع كله، فلو لم يكن هناك التباس في الكلام في أوله وآخره لقلنا: إن هذا الكلام يمكن أن يحمل على أحسن المحامل، فيبقى سليماً في الجملة، لكن إذا نظرنا إلى مجمل القول قبل صفحات وفي الصفحات التالية؛ وجدنا أن هذا القول ملبس ولا بد من بيانه وشرح معنى جملة (قول وعمل)، فهي ليست مرادفة للتصديق والإقرار فقط، وإن كان القول فعلاً يرادف التصديق والإقرار، لكن العمل أمر لا بد من الإشارة إليه هنا، وأنه يعني الأمور الثلاثة، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله].
يقصد أن أهل السنة والمرجئة أجمعوا، فكأنه يريد أن يجمع بينهم هنا ليوفق بين المذهبين.
قال رحمه الله تعالى: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومنهم من يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها].
ويعني هنا طائفة من المرجئة.
وقوله: (قد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد) هذا فعلاً قول لأهل السنة والمرجئة جميعاً.
لكن قوله: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال) يقصد أن هناك طائفة من المرجئة توافق أهل السنة في ظاهر القول، لكن عند التفصيل يخالفون، فهذا قول بعض المرجئة، كما أنه رد من معتدلة المرجئة -وهم مرجئة الفقهاء- على الجهمية، فعبارة: (لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق) هي قول طائفة من المرجئة، وليس كلهم، وتوافق قول بعض الجهمية.(70/11)
تعليق على كلام المحقق في نقله المذاهب في منزلة العمل من الإيمان
وللمحقق كلام في الحاشية نقله عن غيره فيه شيء من الإجمال، وكنت أود لو أنه وضحه، حيث قال ناقلاً: [قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء الإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما].
فهذه العبارة آخرها صحيح وأولها فيه نظر، أعني أن القول بأن الأعمال أجزاء للإيمان هذا فعلاً قول المعتزلة وقول الخوارج، لكنه يوافق بعض أقوال أهل السنة والجماعة، وقلت لكم: أهل السنة والجماعة يرون أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنه يمكن أن يعبر بعضهم بأنها أجزاء الإيمان، لكن ليست أجزاء بمثابة الأركان عند أهل السنة، بل أجزاء بمثابة المتممات والمكملات، فالإيمان يزيد وينقص لأنها منه، فظاهر أول العبارة يوافق قول أهل السنة والجماعة بأن الأعمال أجزاء الإيمان، وإن كانوا لا يعبرون بهذا التعبير، لكن هذا هو مفهوم قول أهل السنة والجماعة، ثم عند التطبيق يفارق الخوارج والمعتزلة أهل السنة، فالخوارج والمعتزلة حينما وافقوا أهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان -وهو ما عبر عنه هنا بأجزاء الإيمان- خالفوهم في مسألة حكم الذي يخالف في الأعمال، وهو مرتكب الكبيرة، فإن الخوارج والمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة إذا أخل بجزء الإيمان اختل إيمانه كله، بينما أهل السنة يقولون: إذا أخل بجزء الإيمان -وهو العمل- ينقص إيمانه بقدر الخلل العملي.
ثم جاء بكلام ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه أشار إلى قول المرجئة، فقال: [والثالث مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط]، وهذا كلام مجمل، وكان الصواب أن يقول: مذهب الجهمية، أو يقول: غلاة المرجئة، أو: مرجئة الجهمية، ولا يقول: مذهب المرجئة، فالمرجئة لا يقولون: لا حاجة إلى العمل، إنما يقولون: العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، فهو إنما حكى هنا قول الجهمية وسماه مذهب المرجئة، وفي هذا نوع من الإيهام.
ثم قال: [فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض، والرابع أهل السنة وهم بين بين, فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكن تاركها مفسق لا مكفر، فلم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يهونوا أمرها كالمرجئة].
هذا الكلام في الحقيقة فيه إجمال وإيهام، صحيح أن أهل السنة بين المرجئة الغلاة وبين الخوارج والمعتزلة، لكن قوله بأنهم قالوا: إن الأعمال لا بد منها كأنه يحكي مذهب أبي حنيفة، بمعنى أنها شرط زائد عن مجرد الإيمان، وأنها من لوازم الإيمان، بينما أهل السنة يقولون: لا بد منها بمعنى أنها من الإيمان أو تدخل فيه، ثم قوله: [لكن تاركها مفسق لا مكفر] هذا فيه تفصيل وليس على إطلاقه، فبعض الأعمال تاركها يكفر بحسب ما ورد في النصوص، وبعضها يفسق، وأيضاً يقال بأن إيمانه ناقص، ويقال: نقص إيمانه.
وقوله: [ولم يهونوا أمرها كالمرجئة] أيضاً فيه نظر؛ لأن مرجئة الفقهاء هونوا أمرها في آخر الأمر، ثم قال: [افترقوا إلى فرقتين، فأكثر المحدثين أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا أبو حنيفة وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة في الإيمان] هو هنا خلط بين الناس قال: [مع اتفاقهم على أن فاقد التصديق كافر].
نعم، فاقد التصديق بالكلية كافر.
أيضاً وكلمة (أكثر الفقهاء) فيها نظر.
وقوله: [فلم يبق الخلاف إلا في التعبير] هذا أيضاً فيه نظر، فليس صحيحاً أن الخلاف في التعبير، الخلاف عقدي، وهو اعتقاد أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، وهذا هو الحق، وأن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو الحق، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنه عمل البشر، وعمل البشر يجوز استثناؤه، ولأن الإنسان لا يدري ما مصيره وما مصير عمله عند الله عز وجل، فالاستثناء جائز، وهو لا يعني عدم الثقة بالعمل، إنما يعني أن يكل الأمر إلى الله عز وجل، ولا يزكي نفسه.(70/12)
اختلاف درجات نور التوحيد في قلوب العباد
قال رحمه الله تعالى: [ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده].
هذا مما يمكن أن نسميه نوعاً من الخلط؛ لأن ابن أبي العز رحمه الله يظهر لي أنه يوافق أهل السنة والجماعة إجمالاً، لكنه أيضاً عنده نوع مما نسميه القرب أو اعتقاد معقولية بعض أقوال المرجئة، وأنها معقولة، ويمكن أن تفسر بتفسيرات تتوافق مع مذهب السلف؛ نظراً لأن النزاع لفظي.
فهنا بدأ يستدل لأهل السنة والجماعة باستدلالات لا بأس بها، وإن كانت موهمة، لكنه إيهام فيه غموض لا أحب أن أشير إليه؛ لأننا نحمل كلام ابن أبي العز على أحسن المحامل، لاسيما أنه في آخر المبحث هنا قرر الانتصار لأقوال أهل السنة والجماعة في الأمور التي ذكرها، فإذا كان انتصر لها فلا شك أن اضطرابه في الأمور السابقة وفي بعض المسائل الآتية ناتج عن أنه يرى أن أقوال المرجئة لها وجه، وأنها يمكن أن تكون أقوالاً اجتهادية، وإن كان يرجح غيرها، فهنا بدأ يستدل لمذهب السلف بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: (وأهله في أصله سواء)، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى].
قوله: (وأهله في أصله سواء) يحتمل أمرين عند الطحاوي رحمه الله: يحتمل أن يقصد بالأصل مبدأ الإيمان، وهو مجرد التصديق ابتداء، ويحتمل أن يقصد بأصله الإيمان التصديقي الذي هو كل الإيمان عند المرجئة، فمن هنا تبقى العبارة محتملة، لكن الشارح ابن أبي العز فسرها بما هو أقرب إلى أقوال السلف، ومع ذلك في عباراته نوع من الإيهام، فقول الطحاوي: (وأهله في أصله سواء) إن قصد أن أهل الإيمان في مبدأ التصديق سواء، أي: في وجود الإيمان في قلوبهم، ثم يتفاوت هذا الإيمان في المعاني والأعمال؛ فهذا صحيح، وإن كان قصده الوقوف عند القول بأن الإيمان في قلوب الناس سواء، بمعنى أنه لا يرى أنه يتفاوت في الأعمال والأحوال؛ فهذا خطأ.
وابن أبي العز كأنه أراد أن يجمع بين الأمرين، فقال: [لا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله] فهذا فيه أيضاً نوع تقريب بالكلام إلى مذهب السلف.
قال رحمه الله تعالى: [فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق، ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله تعالى)، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله)، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك].
ينبغي أن يفهم أن هذه النصوص ما أشكلت فعلاً إلا على المرجئة، فالخوارج بالغوا في الأخذ بها، فما أشكلت عليهم، فهم يعتبروها هي المحكمة، ويعتبرون نصوص الوعد هي المتشابهة، لكن المرجئة هم الذين أشكلت عليهم نصوص الوعيد، أما بقية أهل العلم فما أشكلت عليهم، هذا أمر.(70/13)
وجه اللبس في اعتبار الطحاوي استواء أهل الإيمان في أصله
الأمر الآخر: أن الكلام السابق كله في شرح قول الطحاوي: (وأهله في أصله سواء) فيه نوع التباس؛ لأن الشيخ ابن أبي العز هنا إن قصد بهذا الكلام أن الإيمان يتفاوت في أحواله ومعانيه القلبية فقط دون الأعمال؛ فهذا لا يكفي في شرح الكلمة، وإن أراد أن الإيمان يتفاوت في الأحوال القلبية وفي أحوال الأعمال فهذا صحيح، لكنه ما استكمل الموضوع، غير أنه هنا يوهم بأنه أيد الأحناف في أن المقصود بالزيادة والنقص الزيادة في جانب التصديق، والزيادة في الأحوال القلبية، لا سيما أنه قبل ذلك قال ما يدل على أنه هنا يخدم المرجئة أكثر مما يخدم أهل السنة والجماعة.
حيث شرح قول الطحاوي: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، فهذه كلها معان قلبية فيها إشارة إلى أن الأعمال لا علاقة لها بالزيادة والنقصان، أو لا علاقة لها بالإيمان.
وكذلك قول ابن أبي العز هنا وشرحه للكلمة، كأنه يشير إلى أن الزيادة والنقصان وعدم التساوي بين العباد في الإيمان إنما هو في الجوانب التصديقية وأحوال القلوب، إلا أنه بعد ذلك فصل بين الأمرين ورجع رجعة أخرى إلى تقرير زيادة الإيمان بالأعمال، وهذا المسلك قد يستغله المرجئة في تفسير كلام الشيخ، لأنه في صالح المرجئة، لكن إذا أخذنا الكلام بمجمله، فأخذنا هذا المقطع مع ما سيأتي من تقرير أن الأعمال يزيد بها الإيمان وينقص؛ فإنا نعتبر ابن أبي العز قد عدل عن هذا المسلك ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، لكنه بأسلوب مضطرب، كأنه أراد أن يجر المرجئة والأحناف إلى مذهب أهل السنة والجماعة بأسلوب يصلح لهم.(70/14)
امتناع حصول الإيمان بمجرد الإقرار دون ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [والشارع صلوات الله عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط].
هنا يرد على الكرامية.
قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب].
هذا الكلام فيه إجمال، فقوله: [فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب] الصحيح أن الأمرين يجتمعان، الأعمال تتفاضل بالعدد وبتفاضل القلوب.
فالإنسان الذي يعمل عملاً صالحاً لا شك أن ثوابه على هذا العمل بقدر ما في قلبه من الإخلاص واليقين وبقدر كثرة العمل، فالإنسان إذا كان يكثر من النوافل عن يقين وتصديق بالله وخشوع، فإنه يؤجر ويعظم ثوابه على الأمرين: على ما في قلبه من التصديق والخشوع وعلى كثرة العمل، وهنا حصر الأجر والثواب والتفاضل على ما في القلب فقط، وهذا جارى فيه المرجئة، فكلامه صحيح من وجه، لكنه يحتاج إلى إكمال، فيحسن أن تكون العبارة: وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب وبعددها وبنوعها أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت!].
هذه قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم جاء إلى عابد وسأله: هل له من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فلما يئس من التوبة قتله وأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فقيه في دين الله فسأله: هل له من توبة؟ فقال له: نعم، ومن يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فنصحه بأن يذهب إلى مجتمع صالح وإلى أهل بلد صالحين، لعله بينهم تصلح أعماله فيقبل الله توبته، وفعلاً اتجه إلى هذه البلاد من أجل أن يعيش بينهم وهو صادق التوبة، فمات في الطريق بين القريتين، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فتنازعوا فيه، كل منهم يقول بأنه تبع له، ثم قيست المسافة بين البلدين فوجدوا أنه إلى بلد أهل الخير والاستقامة أقرب، فدخل في رحمة الله عز وجل.
والشارح يقصد بهذا أنه استحق الجنة قبل أن يعمل، لكن الصحيح أن هذا الدليل ليس دليلاً للمرجئة، إنما هو دليل لأهل السنة، وإن كان فعلاً دليلاً للجميع -للمرجئة وأهل السنة- على من قال بأن الإيمان قول اللسان فقط، فهو أيضاً دليل لأهل السنة؛ لأن ما استحق به الثواب عمل واعتقاد، فهذا الرجل الذي استحق الثواب من الله عز وجل واستحق الجنة والتوبة أنشأ العمل، بمعنى أنه سار برجليه متجهاً إلى بلد صالح وإلى أناس صالحين ليحقق ما أمره الله عز وجل به، فهو عمل، وليس المقصود ما وقر في قلبه فقط.
قال رحمه الله تعالى: [وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها].
هذا دليل لأهل السنة على أن الأعمال من الإيمان.
قال رحمه الله تعالى: [وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض.
وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب].(70/15)
الأسئلة(70/16)
سبب الاختلاف في حقيقة الإيمان
السؤال
ما سبب الاختلاف في الإيمان؟
الجواب
سبب هذا الخلاف في الإيمان، نزعة علم الكلام التي وجدت في ذلك الوقت، أي: الكلام في القدر، وكلام الخوارج في مرتكب الكبيرة، وكلام أوائل المعتزلة، فكلام القدرية والخوارج هو الذي سبب قول المرجئة، فهو ردة فعل؛ لأن الخوارج بالغوا في مسألة الجزاء على الأعمال حتى إنهم كانوا يرون أن الكبيرة تزيل الإيمان بالكلية، وتخرج المسلم من الإيمان بالكلية، فهذا أوجد جواً من المناقشات والمناظرات والتمحل العقلي والرد بالعقليات والرد بالفلسفة والمراء والجدل، الأمر الذي مهد لظهور الإرجاء فيما بعد.(70/17)
حكم الاهتزاز أثناء القراءة
السؤال
ما حكم ما يفعله بعضهم من الاهتزاز أثناء القراءة؟
الجواب
هز الرأس عند تلاوة القرآن لا أصل له، وإذا كان الإنسان يتعبد به فهو بدعة، وإذا ما تعبد به فهو خطأ يجب أن لا يرتكبه.(70/18)
من يلتمس له العذر في المخالفة في بعض مسائل العقيدة
السؤال
إذا كنا نلتمس للعلماء الأجلاء العذر في كونهم جانبوا الصواب في بعض مسائل العقيدة؛ فلماذا لا يلتمس بعض المعاصرين العذر لأناس لهم قدرهم ومكانتهم في مسائل عقدية؟
الجواب
هذا أصل شرعي، وهو أن نلتمس للعلماء الأجلاء وأهل الفضل والصلاح والاستقامة المعروفين بالسنة العذر إذا خالفوا، ما لم يرتكبوا أمراً مخلاً بالعقيدة أو يصروا على بدعة، فإنهم نلتمس لهم الأعذار في مثل ما ورد، كمسألة الكلام في المرجئة، والتماس الأعذار لا يعني الإقرار على ما فعلوا ولا أن ما قالوه حق، وفرق بين التماس العذر للشخص كـ أبي حنيفة وغيره وبين الإقرار بما قاله، فنحن نلتمس لهم العذر ولا نتبعهم فيه.
أما ما يحصل من بعض الناس فليس بحجة، فالناس تحدث منهم تجاوزات وبغي من بعضهم على بعض في كل زمان، وعلى أي حال فما يحدث بين أهل السنة وأهل الحق من تجاوز هذا الأصل هو إما من الجهل وإما تشف وإما حسد، وإما غير ذلك من الأمور التي تعتري البشر، والبشر فيهم الضعف والخلل والتقصير، ومع ذلك يجب على المسلمين أن يتناصحوا وأن يجمعوا الكلمة وأن يلتفوا حول علمائهم، ولو أن أمثال هؤلاء الذين لا يعذر بعضهم بعضاً من أهل الحق والصلاح رجعوا إلى علمائهم وإلى أهل الفضل والعدل فيهم لما حصل منهم ذلك.(70/19)
شرح العقيدة الطحاوية [71]
أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان كثيرة، وقد صنف فيها السلف كتباً وردوا على المخالفين من المرجئة الغلاة، ومرجئة الفقهاء والجهمية وغيرهم، وفندوا شبهاتهم وحججهم، وبينوا بوضوح عقيدة السلف في الإيمان وآثارهم وأقوالهم، وما يؤدي إليه لازم قول المرجئة من انتشار المعاصي والمنكرات واستحلال المحرمات والتهاون في الواجبات وغيرها من المآلات الباطلة.(71/1)
حصول زيادة الإيمان بزيادة الشرائع والتكاليف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله].
يعني بذلك أن الإيمان يزيد بزيادة الشرائع والتكاليف، وعلى هذا فإنه يزيد بزيادة العمل أيضاً، فكلما زاد عمل الإنسان بما أمر به، وزاد انتهاؤه عما نهي عنه؛ زاد إيمانه، كما أن الإيمان يزيد في أصل نشأته في تاريخ التشريع، بمعنى أن الإيمان في أول الأمر في العهد المكي كان المقصود به مجرد بعض الأمور المعرفية وبعض الأعمال، ثم زاد بتشريع الصلاة، ثم زاد بتشريع بقية أركان الإسلام، وتشريع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالدعوة، زاد من حيث الكم، بمعنى أن كل هذه تسمى إيماناً، كما أنه يزيد أيضاً بعمل الإنسان نفسه، فالإنسان كلما زاد امتثاله للأوامر الشرعية زاد إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بالأمور القلبية والأمور العملية.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين)، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- فقد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]].
الإيمان يزيد بالأعمال فيما يتعلق بالجوارح، وكذلك يزيد بالأمور التي ترد إلى القلب فتزيد اليقين، ما يرد إلى القلب مما يزيد اليقين يعد زيادة في الإيمان، حتى وإن كان من الأمور التصديقية الخبرية.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل.
وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان.
ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى؛ بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي، ولهذا -والله أعلم- قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده؛ فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه.
والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202]، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر، وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه)].(71/2)
ما أراده الشارح في تقرير زيادة الإيمان بالأعمال
المقطع السابق كله لا يزال فيه نوع في بيان معنى أن الإيمان يزيد بالعمل، بل ربما يفهم بعض الناس -وربما يكون هذا مقصود الشارح- أن كل هذه النصوص وهذه المعاني قصد بها أن الزيادة والنقص في القلب فقط، أي: في الجانب التطبيقي، فربما يفهم من عبارات الشارح هذا الكلام.
والحقيقة أني تأملت الأمر فوجدت أن ما ساقه الشارح هنا يحتمل الأمرين: يحتمل أن المقصود به الاستدلال على قول القدرية؛ لأن المقصود بزيادة الإيمان زيادة اليقين في القول وزيادة التصديق فقط، وأما كون الإيمان يزيد بالأعمال -يعني أن الأعمال تدل على زيادة التصديق، وأن الأعمال من لوازم الإيمان وليست من ذاته- فهذا محتمل حقيقة، لكن مع ذلك فإن في العبارات ما يدل على أنه يقصد أن الإيمان يزيد وينقص بالأعمال، وأن الزيادة والنقص ليست فقط بزيادة اليقين والتصديق، إنما هي أيضاً زيادة تشمل العمل، بمعنى أن العمل من الإيمان وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
فقوله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل] إلى آخر ما ذكره يحتمل أن الشارح أراد فيها الانتصار لمنهج أهل السنة والجماعة رداً على المرجئة بإثبات أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه بها يزيد وينقص، لكنه لم يفصح عن ذلك إفصاحاً بيناً.
فمثلاً: قوله: [وأما الزيادة في العمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح] فيه إشارة إلى أنه يقصد الاستدلال لمذهب المرجئة؛ لأن زيادة الإيمان بالأعمال لا تدل على أن الأعمال من مسمى الإيمان، إنما تدل على أن الأعمال مظاهر للجانب التطبيقي والمعرفي في القلب، وأننا نعرف زيادة الإيمان ونقصه بلوازمه وبالأعمال، وهذا وارد، لكنه غير صحيح.
ويحتمل أنه يقصد الاستدلال على أن الإيمان يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصها، أي: بالعمل والترك حسب الأوامر الشرعية.
وفي الحقيقة أني تأملت في هذا المقطع كله أكثر من مرة ووجدت أن الأمر فيه غموض، فالشارح ابن أبي العز اضطرب في هذه المسائل والتي قبلها وفي بعض ما سيرد، فعنده نزعة الاعتذار للمرجئة الأحناف، في حين أنه -والله أعلم- يميل في حقيقة الأمر إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ ولذلك حاول أن يتوسط بأسلوب فيه اضطراب، فكان كلامه محتملاً للأمرين: يحتمل أنه يقصد بهذا المقطع كله الاستدلال على أن الإيمان يزيد وينقص بالأعمال، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ويحتمل العكس، أنه أراد الاستدلال على أن الأعمال زيادتها ونقصها إنما هي دليل على زيادة ونقص التصديق في القلب، أي: إنما هي مستلزمات فقط، أي: قرائن ودلائل على الإيمان الذي في القلب، وليست من مسمى الإيمان.(71/3)
حقيقة النزاع بين أهل السنة والمرجئة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان وزيادته
قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك].
سبق أن ذكرت أن النزاع ليس لفظياً، فالحقيقة أن النزاع عقدي، وإن كان لفظياً من بعض الوجوه، لكنه من حيث العلم والاعتقاد ليس بلفظي، فمن الجانب العملي نجد أن النزاع بين أهل السنة وأوائل المرجئة يكاد يكون لفظياً من الناحية العملية، والدليل على ذلك أن المرجئة الأوائل الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان لا يتساهلون في العمل، ويرون أن الإخلال بالعمل معصية، وأن ارتكاب ما نهى الله عنه معصية، ويثبتون الوعيد الثابت في المعاصي، لكنهم يقولون: إن وجوب العمل بالأمور العملية وترك ما نهى الله عنه ثابت بنصوص خارجة عن نصوص الإيمان، أي: جاء وجوب العمل ووجوب الترك لما نهى الله عنه بمقتضى نصوصٍ لا تدل على أن هذه الأمور من الإيمان بذاته، إنما هي من لوازمه، فيقولون: الإنسان إذا آمن وصدق لا بد أن يذعن لأوامر الله عز وجل ويترك نواهيه، وهذا من لوازم الإيمان أو من شروط الإيمان، والشرط خارج عن الأصل، كما نقول في شرط الصلاة، فشرط الصلاة هو من مقدماتها ومن الأمور التي تسبقها، فيقال -مثلاً-: من شروط الصلاة الطهارة، لكن ليست الطهارة من أجزاء الصلاة، هذا نظير كلام الأحناف والمرجئة في الإيمان، وهم يقولون فعلاً: الأعمال من مستلزمات الإيمان وليست من الإيمان، وهذه شبهة في الحقيقة، وليست حجة؛ لأن الأمر يرجع إلى الاصطلاح الشرعي، أي: ما ورد به كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه الصحابة والسلف في معنى الإيمان، فهؤلاء وقفوا في معنى الإيمان على المعنى اللغوي، وسيأتي ذكر شبهتهم والرد عليها بعد قليل.
إذاً: ليس النزاع في المسألة نزاعاً لفظياً إلا من جانب الثمرة العملية فقط، أما من حيث الاعتقاد ومن حيث المعرفة فلا شك أن هناك نزاعاً عقدياً حقيقياً، هذا شيء.
الشيء الآخر: أن أوائل المرجئة بينهم وبين أهل السنة خلاف لفظي في الجانب العملي، وليس الأمر كذلك عند المتأخرين من المرجئة، فمتأخرو المرجئة تساهلوا في هذا الأمر حتى إنهم أخلوا بكثير من أمور الوعيد؛ لأنهم لما قالوا: إن الإيمان التصديق قالوا بأن من أعرض عن الأعمال بالكلية يبقى مؤمناً مسلماً حتى وإن لم يعمل من الدين بشيء، وهذا خلاف الأصل الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذه النزعة بدأت على ألسنة بعض المعاصرين الذين يقولون: لا يكون الكفر إلا بالتكذيب القلبي، فقولهم هذا هو قول المتأخرة من المرجئة، وهو غير صحيح، فالكفر يكون أيضاً بالأعمال، إما عملاً وإما تركاً، فالإعراض عن الدين بالكلية كفر مخرج عن الملة، وكذلك عمل الشركيات وإن كان القلب مصدقاً مؤمناً، فالعمل بالشركيات كفر مخرج عن الملة، ولا يصح أن يقال: لا يشرك إلا من زال من قلبه الإيمان، فقد يشرك وفي قلبه التصديق.
إذاً: فالصحيح أن الخلاف ليس بلفظي مع المتأخرين، أما عند المتقدمين فقد يكون لفظياً من الجانب العملي، لكنه ليس بلفظي من الجانب الاعتقادي العلمي.(71/4)
أصناف المرجئة في كلام السلف
قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام، ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعاً].
هذا الكلام أيضاً وما تبعه من تعليق من المحقق في الهامش فيه نوع إيهام، فقوله: [أن يصير ذلك ذريعةً إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء] هذا ليس على إطلاقه، كما أن قوله بعد ذلك: [قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وهذا باطل قطعاً] هو حق، لكن ليس هذا قول المرجئة الذين يعنيهم السلف، فالسلف يطلقون المرجئة في الإطلاق العام المشهور ويقصدون بهم مرجئة الفقهاء من الأحناف والأشاعرة والماتريدية، وأغلب الذم الوارد وما ورد في نصوص وآثار السلف إنما هو في الرد على هذا النوع من المرجئة، وهم الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، أو: التصديق والقول فقط، ومن ثم لا يجعلون الأعمال من الإيمان، ولا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، ولا يستثنون في الإيمان، فأصحاب هذه الأصول الأربعة أو الخمسة هم المرجئة عند السلف.
أما الذين أشار إليهم الشارح هنا فسماهم أهل الإرجاء فيسميهم السلف الجهمية، وهم الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، يعني: بإطلاق، هؤلاء هم مرجئة الجهمية، وهم المقصودون بالإطلاق في عبارات من بعد السلف.
فالسلف كانوا يطلقون على الجهمية مرجئة، لكن هذا قليل وبحسب المناسبة، أما أكثر الذين رد عليهم السلف من المرجئة فهم مرجئة الفقهاء، وأكثر كلام السلف في المرجئة يعنون به مرجئة الفقهاء، فإذا أطلقت كلمة (المرجئة) عند العلماء فإنما يقصدون بها مرجئة الفقهاء، أما مرجئة الجهمية فإطلاقهم لها عليهم قليل، ولا يمكن أن يذكر إلا مع ذكر مقولات الجهمية أو بوصف قولهم الشنيع، هذا الإرجاء الغالي، والإرجاء عند الجهمية ناتج عن الجبر، وهو القول بأن الإنسان مجبور على أفعاله، فنتج عن ذلك الإرجاء ضرورة، يعني: الجهمية يلزمهم ذلك ولو لم يقولوا به؛ لأن من قال بأن الإنسان مجبورٍ على أفعاله وليس له أي اختيار ولا حرية ولا قدرة، فمن الضروري أن يقول بأن الإنسان لا يحاسب على أي ذنب؛ لأن المجبور على الذنب لا ذنب له.
إذاً: فالصحيح أن الذين أشار الشارح إليهم هنا هم غلاة المرجئة، وهم الجهمية.
وكذلك المحقق همش بوهم أكثر وقال: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] والصواب أن هذا إرجاء يخرج به صاحبه من الملة، وليس مجرد ذنب؛ لأن قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية، يدخلون فيه الشرك الأكبر، والبدع المغلظة، والكفريات والجرائم وكل شيء، وهذا لا يصح، وهذا قول غلاة المرجئة الذين هم الجهمية، وليس الإرجاء المذموم هو هذا فقط، بل الإرجاء المذموم هو قول مرجئة الفقهاء، وكذلك قول الجهمية من باب أولى.
ثم قوله: [أما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم، فهذا لا يعد بدعة] بل هذا هو البدعة بعينها إلا إذا فصل، فهذا فيه إجمال، فالصحيح أن من قال بإرجاء عصاة المؤمنين يوم القيامة إلى الله عز وجل فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، فقد وافق قول أهل السنة والجماعة، أما من قال بالإرجاء المطلق -وهو نتيجة قول المرجئة- فإن هذا بدعة، وقوله: لا ينزلهم جنة ولا ناراً، كذلك الكلام مجمل.
فقول المحقق: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] هذا ليس على الإطلاق، فهو مذموم فعلاً، لكنه إرجاء غلاة المرجئة وهم الجهمية، ومن الإرجاء المذموم عدم إدخال العمل في مسمى الإيمان، وعدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وعدم الاستثناء في الإيمان إلى آخره.
وقوله: [وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً] كلام مجمل، فإن قصد بهذا عصاة المؤمنين الذين يموتون دون توبة فصحيح، فهؤلاء أمرهم إلى الله عز وجل.
وقوله أيضاً: [لا ينزلهم جنة ولا ناراً] هذا أيضاً أمر محتمل، أما مصيرهم في النهاية فلا شك أنه إلى الجنة، حتى أولئك الذين يعذبون من أهل الكبائر من عصاة المؤمنين إذا لم يغفر الله لهم، فإنهم قد يعذبون عذاباً على قدر أعمالهم ثم يخرجون بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو بشفاعة غيره.
وقوله: [لا يتبرأ منهم] هذا كلام مجمل أيضاً، فما معنى التبرؤ؟! فالتبرؤ الكامل لا يجوز، لكن التبرؤ بقدر ما فيه من فسق وعصيان أو بدعة هذا أمر ضروري، ولذلك قرر فعلاً منهج المرجئة، ولم يقرر مذهب أهل السنة في هذه الكلمة، فقوله: [ولا يتبرأ منهم] ليس على إطلاقه، فالتبرؤ فيه تفصيل، فلا يتبرأ منهم تبرؤاً كاملاً؛ لأن عصاة المؤمنين لهم من الولاية بقدر إيمانهم، لكن أيضاً يتبرأ(71/5)
مأخذ أبي حنيفة ومأخذ مخالفيه من الأئمة في اعتبار حقيقة الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع، فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك].
هذا من الأمور التي تحتاج إلى شيء من الإيضاح والتعليق، وربما نعنصر هذه الفقرة؛ لأنه سيترتب على هذه المقدمة التي ذكرها أمور كثيرة ستأتي فيما بعد، فسنذكر بعض العناصر الضرورية لأنها مقدمات مهمة لما سيأتي فيما بعد من حوار بين أهل السنة والمرجئة حسب السياق الذي ذكره الشارح.
قوله: [فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع] هذا الكلام يحتاج إلى تأمل، وذلك أن أمور الاعتقاد ليست كأمور الأحكام، فأمور الأحكام قد يقع فيها إذا اختلف الأئمة أن يكون الحق مع واحد من الأئمة أو مع اثنين، والبقية قد لا يصل اجتهادهم إلى الصواب، لكن العقيدة ليست كذلك، فلا يمكن أن يكون الحق مع واحد والبقية قد جانبوا الحق في أمور العقيدة؛ وهذا أمر يجب أن تهتموا به في جميع مسائل الخلاف في الأمور التي تعد أصولاً في الاعتقاد، فأهل السنة يعدون هذه الأمور من أصول الاعتقاد، أعني دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه خالف فيها من خالف، فلما حشدت فيها النصوص وجدوا وجه الحق فيها بالكتاب والسنة واضحاً جداً، ولا يجوز لأحد أن يعدل عنه، وإن تأول بعض من تأول وعذر في ذلك فلا يعني أنه يحتمل أن يكون معه الحق، فقد يزل عالم من العلماء ويخرج عن مقتضى السنة في أمر صريح بين، ولا يعد ذلك من الأدلة على أن المسألة خلافية، فمسألة الإرجاء ليست مسألة خلافية، بل هي بدعة، وما دامت من العقيدة فإن شذوذ الإمام أبي حنيفة وشيخه حماد ومن جاء بعدهما ممن تبعهما عن عموم السلف لا يدل على أن المسألة خلافية، بل ما دام جمهور السلف -كما أشار الشارح- وبقية الأئمة لهم رأي آخر فيجب أن يكون الحق مع البقية، ما دام أن المخالف قليل، ولا ننظر إلى المخالف الآن، لكن ننظر إلى المخالف عندما نشأت المسألة، وهذا هو الذي ينبغي اعتباره منهجياً من الناحية الشرعية؛ لأننا نتكلم عن نشأة هذه المقولة -مقولة المرجئة- في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وهذا يعني أن الصحابة لم يقولوا بها، ولا التابعون الأوائل، بل قال بها بعض التابعين أو تابعي التابعين، فبدأت بواحد فقط، قيل: إنه ذر بن عبد الله، وقيل: إنه حماد بن أبي سليمان، وقيل: أبو حنيفة، وقيل: إنهم كلهم قالوا بهذا القول، لكن كل واحد زاد عمن سبقه.
فإذا كان في ذلك العصر ما قال بها إلا واحد، ثم أخذها عنه واحد، ثم اشتهرت عند هؤلاء؛ فهل يعقل أن الحق مع واحد؟! إنه في الأمور الاجتهادية قد يرد هذا، لكن في الأمر العقدي لا يعقل أن الحق مع واحد وإن تبعه بعد ذلك من تبعه، فكثرة أتباعه أمر لا تقوم به الحجة، حتى ولو كان أكثر المسلمين صاروا تبعاً له؛ لأن هذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وقوع المخالفة والافتراق، أما منشأ القول فهو شاذ، والشاذ في العقيدة يجب أن لا يكون دليلاً أو حجة على الناس.
إذاً: فهذا السياق أراد به الشيخ أن يلطف الخلاف، في حين أنه فعلاً بين لنا أن قول أبي حنيفة رحمه في هذه المسألة شذ به عن الأئمة وشذ به عن السلف، وعلى ذلك فلا اعتبار لهذا القول من الناحية الشرعية، هذه النقطة الأولى.(71/6)
الرد على اعتبار أبي حنيفة للمدلول اللغوي للفظ الإيمان
النقطة الثانية: حينما أشار إلى المعنى اللغوي، فنقول: إن المعنى اللغوي ليس حجة على الاصطلاح الشرعي؛ لأن الاصطلاح الشرعي أمر زائد على المعنى اللغوي، يدل عليه أن الاصطلاح الشرعي في كثير من المعاني الشرعية التي وردت يزيد عن المعنى اللغوي علمياً ويزيد عملياً، والدليل على ذلك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والدعاء وغير ذلك، كلها لها معان لغوية محدودة عند العرب، فوضع لها الشارع المعاني التي تتضمن أعمالاً، فالصلاة في اللغة هي الدعاء، لكن في الاصطلاح هي الدعاء وزيادة، والصلاة في الاصطلاح ركوع وسجود، وأدعية، وقراءة قرآن، وتوجه معين، واستقبال القبلة، فدخل في مفهوم الصلاة غير مجرد الدعاء بالمعنى اللغوي، حيث دخلت أعمال أخرى إضافية صارت جزءاً من الصلاة شرعاً.
وكذلك الصيام، فالصيام لغة: هو الإمساك، لكن الشرع وضع للصيام معنى آخر، وهو الإمساك بضوابط وحدود وأعمال، وما لم تتم هذه الضوابط والحدود والأعمال لا يصير الصيام صياماً شرعياً.
وكذلك الجهاد، فالأصل فيه بذل الجهد، لكنه إذا أطلق في الشرع فالمقصود به في الدرجة الأولى القتال للكفار بالسيف، وإلا فيمكن أن واحداً يجلس في بيته ويفكر في مصالح المسلمين ويقول: أنا مجاهد؛ لأنني بذلت جهدي، إذاً: فلا بد من اعتبار الاصطلاح الشرعي، فكما قلنا: إن للصلاة معنى شرعياً غير اللغوي، وكذلك الحج، والصوم، والجهاد وغيرها، فكذلك للإيمان معنى شرعي غير المعنى اللغوي، هذا ما حدده القرآن والسنة.
إذاً: فالاعتذار لـ أبي حنيفة رحمه الله في قوله: الإيمان هو التصديق على أن اللغة تدل على ذلك؛ ليس بعذر، يعني: ليس بعذر في الخروج عن أصل السلف، نعم نعذره بتأول، بمعنى أننا لا نبدعه؛ لأنه إمام، لكن لا يعني ذلك أن عمله صحيح وأن قوله غير بدعة، بل بدعة ويجب تجنبها.(71/7)
قيام الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في الإيمان
الأمر الثالث: أن الأدلة من الشرع على أن الأعمال من الإيمان، وعلى زيادة الإيمان ونقصانه وبقية الأمور التي قررها السلف لا تكاد تحصر، في حين أن أدلة أبي حنيفة رحمه الله وغيره من المرجئة على أن الإيمان هو التصديق فقط أدلة قليلة جداً، واستدلالهم بها فيه اشتباه وفيه ضعف، فهل يعقل أن نعدل عن الأدلة الصريحة القوية الكثيرة التي كتبها العلماء في مجلدات، وكلها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من الإيمان، وكلها صريحة صراحةً بينة، مثل حديث شعب الإيمان، فهل يعقل أن نعدل عن هذه الأدلة الصريحة الكثيرة إلى أدلة قليلة مشتبهة للعلماء عليها رد بين؟! نعم هناك أدلة سيوردها بعد قليل فيها اشتباه على من لم يرجع إلى قواعد السلف في الاستدلال، وفيها اشتباه على من لم يرد النصوص بعضها إلى بعض، أما من رد النصوص بعضها إلى بعض وفسر بعضها ببعض فلا بد أن يتبين له وجه الحق في أن الإيمان هو التصديق وزيادة، أن الإيمان هو التصديق والعمل، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.
الأمر الرابع: أن هذه الأوصاف للإيمان التي اعتبروها أوصافاً وشرائط، أي أن الأحناف حينما قالوا: إن الأعمال من لوازم الإيمان، لكنها أشبه بالأوصاف للإيمان، وأشبه بالقرائن على وجود الإيمان، وأشبه بالشروط للإيمان ومستلزماته، لكنها ليست من الإيمان.
نقول لهم: لما سميتموها أوصافاً وشرائط للإيمان لا يتم الإيمان إلا بها؛ فإن هذا يعني أنها في الاصطلاح الشرعي توسع مفهومها حتى صارت جزءاً من الإيمان، وسماها الله عز وجل إيماناً، وكونها سميت إيماناً؛ لأنها تنبني على التصديق والمعرفة، وهذا أمر ضروري بدهي.
فتسمية الأعمال بالإيمان فعلاً؛ لأن فيها جزءاً تصديقياً، بمعنى أن من عمل ولم يصدق لا يعتبر مؤمناً، وكذلك من صدق ولم يعمل لا يعتبر مؤمناً، وهم يقولون العكس، يقولون: من صدق ولم يعمل يعتبر مؤمناً، لكنه يعاقب على تركه لموجب النصوص الخارجية، وهذا ليس بكلام جيد، هذا كلام عقلي فلسفي، هذه أهم الأمور التي أحببت أن أشير إليها؛ لأنها عبارة عن ضوابط سنحتاجها بعد قليل في سياق قول الأحناف والرد عليهم.(71/8)
ذكر أدلة أبي حنيفة على أن الإيمان عبارة عن التصديق في اللغة(71/9)
نفي إخوة يوسف إيمان أبيهم لهم في إخباره بشأن يوسف
قال رحمه الله تعالى: [فمن أدلة الأصحاب لـ أبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: بمصدق لنا].
هذه الآية وجه الدلالة عندهم فيها غير صريح، فقول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] لا يتعلق بقضية شرعية، فإخوة يوسف أخبروا أباهم بخبر ثم قالوا هذا القول، فما دخل في ذلك الإيمان في الاصطلاح الشرعي، فهم يستدلون بدليل يتعلق بالخبر على أمر يتعلق بالأوامر والنواهي الشرعية، فهذا الدليل ليس في مكانه.
إذاً: ليس المقصود في كلام إخوة يوسف الإيمان الشرعي، ولو كانوا يقصدون الإيمان الشرعي لقالوا: وما أنت بمؤمن بنا، لكن حينما قالوا: (لنا) عرف أن المقصود الإيمان بخبر وليس الإيمان بالمعنى الشرعي الذي هو الأعمال والأمور القلبية التي هي مقتضى الإسلام.
فهذا دليل على أن التصديق يسمى إيماناً، والإيمان يسمى تصديقاً مع زيادة، والسلف ما أنكروا أن الإيمان يسمى تصديقاً وأن التصديق يسمى إيماناً، لكن هل الإيمان الشرعي مقتصر على التصديق فقط؟! إذاً: فالحنفية تجاهلوا محل الخلاف واستدلوا على ما لا خلاف فيه.
قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى].
هذا الكلام صحيح في إطلاقه، لكن ليس دليلاً على أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه تكلم عن أحكامنا الظاهرة التي يحكم بها المسلمون يحكم بها أهل العلم.
فالأسماء والأحكام حينما يقررها أهل العمل لا يقصدون بها ما عند الله عز وجل، بل يقصدون الظواهر التي نبني عليها أحكاماً باجتهادنا نحن البشر، فكونه مؤمناً بينه وبين ربه أمر لا نعلمه، فكيف نعرف أنه مؤمن وهو لا يعمل؟! وعكسه المنافق، فالمنافق لا نجزم بنفاقه لأننا لا نعلم ما في قلبه، لكن نحكم له بظاهر الإسلام ونقول بأنه مؤمن مسلم؛ لأنه عمل بظواهر الإيمان.
فكلامهم هذا كلام مجمل ليس حجة لهم ولا عليهم، وليس هو محل الخلاف، فنحن لا نتكلم عن تسمية العبد مؤمناً بينه وبين ربه، وإنما نتكلم عن تسميته في أحكام الدنيا، أما الأحكام الغيبية فلا نفترضها ثم نقيم الحجة على الافتراض.
قال رحمه الله تعالى: [فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا].
هذا كلام صحيح من وجه، لكن فيه إجمال، فما المقصود بكون الإقرار شرطاً؟! إن قصدوا بأن الإقرار شرط أننا لا نحكم بإسلام المؤمن أو بإيمان المؤمن إلا بالأعمال فهذا صحيح، وإن قصدوا أن الإقرار والعمل شرط زائد عن الإيمان فلا نقرهم على ذلك، ونقول: الإقرار والعمل إنما هو جزء من الإيمان، فمن أقر فهو مؤمن، ومن عمل فهو مؤمن في ظاهر الأمر، كما أن من صدق فهو مؤمن إذا ألحق تصديقه بالعمل والإقرار.
قال رحمه الله تعالى: [هذا على أحد القولين كما تقدم].
استدلوا أولاً بالآية على أن الإيمان المقصود به التصديق، ثم جاءوا بكلام إخوة يوسف، وإخوة يوسف لا يتكلمون عن الإيمان الشرعي، ولا يتكلمون عن أمور الدين والعقيدة، بل يتكلمون عن خبر كذبوا به على أبيهم، فقالوا: ما أنت بمؤمن لنا، ثم أتوا بالدليل الثاني.(71/10)
اعتبار الضدية للكفر الذي يعني التكذيب والجحود
قال رحمه الله تعالى: [ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما].
هذا أيضاً فيه نظر؛ إذ عندنا عبارتان مختلفتان: عندنا شيء اسمه التصديق، وشيء اسمه الإيمان، ولا شك أن التصديق من الإيمان، لكن الإيمان أرفع من التصديق، فالتصديق يقابله التكذيب، والإيمان يقابله الجحود أو الكفر، فهم خلطوا في المسألة خلطاً لا يلزم لغة ولا يلزم في اصطلاح العلماء، فقولهم: إن الإيمان ضد الكفر هذا في الحقيقة يكون دليلاً عليهم وليس دليلاً لهم.(71/11)
الاستدلال بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه].
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] قالوا: يدل على أن قلبه هو موضع الإيمان، والجواب أن السلف ما أنكروا أن هناك حداً اضطرارياً وحداً اختيارياً، فالحد الاضطراري يصل إلى حد أن الإنسان يبقى إيمانه في قلبه فقط إذا ما استطاع أن يعمل، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فلو أن إنساناً اضطر اضطراراً إلى ترك الأعمال في ظرف من الظروف أو في وقت من الأوقات أو في لحظة حرجة أو زمن فتنة؛ فإنه معذور بذلك حتى ولو لم يبق من الإيمان إلا التصديق، فحجتهم هنا ليست حجة عامة على أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] يتعلق بالحد الأدنى من الإيمان عند الضرورة القصوى، ونحن لا نتكلم في هذا ولا ننكره، بدليل أنه لو زالت هذه الضرورة وجب عليه العمل.
فاستدلالهم هنا ليس بصحيح؛ لأن الحد الذي ذكروه هو الحد الاضطراري، ونحن نتكلم عن الأمور الاختيارية التي أوجبها الله عز وجل على الأمة إلى قيام الساعة.(71/12)
تركيب الإيمان من قول وعمل يعني زواله بزوال جزئه
وأما الدليل الرابع، وهو أنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال الجزء، فغير صحيح أيضاً ولا يسلم لهم، فالإيمان مركب من قول وعمل، ومع ذلك لا يزول كله بزوال الجزء، بل ينقص، فالأصل أن نقول: ما دام أنه مركب من قول وعمل فإنه ينقص بزوال الجزء، ونقول لهم: من قال لكم: إنه يزول كله؟! والله عز وجل صرح في كتابه بزيادة الإيمان؛ والذي يزيد قد ينقص، بل ورد في نصوص الإشارة إلى نقصان الإيمان، فقولهم بأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه لا يسلم، وهذه فلسفة عقلية لا صحة لها.(71/13)
عطف العمل على الإيمان عطفاً يقتضي المغايرة
قال رحمه الله تعالى: [ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] في مواضع من القرآن].
العطف لا يدل على المغايرة من كل وجه، والدليل على هذا كلمة الإسلام والإيمان، فالإسلام إذا أطلق وقيل: مسلم فلا بد أن يتضمن الإيمان في الظاهر، أما الباطن فأمره إلى الله عز وجل، وإذا قيل: مؤمن فلا بد أن يتضمن الإسلام، ومع ذلك إذا اجتمعت الكلمتان فكل واحدة يصير لها معنى، وإذا افترقتا تضمنت إحداهما الأخرى، فكذلك الإيمان والعمل الصالح إذا انفردت واحدة لا بد أن تتضمن الأخرى، فالعمل الصالح لا يكون صحيحاً إلا بإيمان، والإيمان لا يكون صحيحاً إلا بعمل صالح، وإذا جاءت الكلمتان في سياق واحد في مقام واحد دلت كل واحدة على معنى يخصها فـ (الذين آمنوا) يعني: اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً، (وعملوا الصالحات) يعني: عملوا بما أوجبه الله، ولذلك السلف فرقوا بين الكلمة إذا أطلقت وبينها إذا جاءت في سياق الجمع مع مرادفها، فعلى هذا نقول في كلمة (آمنوا وعملوا الصالحات)، كما نقول في كلمة الإسلام والإيمان.(71/14)
الاعتراض على استدلال الحنفية بأن الإيمان هو التصديق في اللغة(71/15)
امتناع الترادف بين الإيمان والتصديق
قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق].
هنا بدأ يذكر ردود أهل السنة والجماعة، لكنه ذكرها ذكراً فيه ضعف وإجمال.
قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق والإيمان].
يقصد بهذا أن السلف حينما قال لهم المرجئة بأن الإيمان في اللغة هو التصديق قالوا: نعم إن الإيمان قد يدل لغة على التصديق، لكن ليست الكلمتان مترادفتين من كل وجه، فالترادف ممنوع، أي أن الإيمان أوسع من التصديق من الناحية الشرعية، فلا تحتجوا علينا -أيها المرجئة- بكون العرب تسمي الإيمان تصديقاً، وتسمي التصديق إيماناً؛ لأن هذا ترادف من بعض الوجوه، وكل الكلمات العربية المترادفة لا تترادف من كل وجه، ولا تتطابق من كل وجه، لكن تتطابق في أغلب معانيها أو في بعض معانيها، وكذلك كلمة (تصديق) و (إيمان) لا تترادفان من كل وجه، بل كلمة (إيمان) أوسع من كلمة (تصديق) من بعض الوجوه، فالإيمان الشرعي يشمل التصديق وزيادة، كما أن الصلاة تشمل الدعاء وزيادة، وكما أن الصيام يشمل الإمساك وزيادة، وهكذا.
قال رحمه الله تعالى: [وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه يوجب الترادف مطلقا؟! وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان، ومما يدل على عدم الترادف أنه يقال للمخبر إذا صُدق: صدقه، ولا يقال: آمنه ولا: آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83]، وقال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا؛ لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل أو مصدراً على ما عرف في موضعه، فالحاصل: أنه لا يقال قط: آمنته، ولا صدقت له، وإنما يقال: آمنت كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ (أقررت) أقرب من تفسيره بـ (صدقت) مع الفرق بينهما؛ ولأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدقت، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له؛ فإن فيه أصل معنى الأمن، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع؛ ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفره أعظم، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب؛ فكذلك الإيمان يكون تصديقاً، وموافقة، وموالاة، وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان].
خلاصة هذا الكلام: أن الدليل على أن الإيمان ليس هو التصديق فحسب: أنه في لغة العرب لا يقابل الإيمان التكذيب، بل الذي يقابل الإيمان هو الجحود، والذي يقابل التصديق هو الكذب، فإذا قلتم: إن الإيمان هو التصديق فمعنى هذا أن ضد الإيمان هو الكذب وليس الكفر، وهذا لا يستقيم، وما دمنا قلنا: إن الكفر ضد الإيمان فهذا يعني أن الإيمان له معنى زائد عن مجرد التصديق؛ لأن التصديق يقابله التكذيب في المعنى اللغوي المباشر.
فهم قصروا الإيمان على معنى ضيق من معانيه، فقال لهم السلف: إن الذي ضد التصديق لغة هو التكذيب وعلى هذا ما أدخلتم الكفر وإن كان التكذيب يتضمن الكفر، لكن الكلام على المدلول اللغوي، فإذا قلتم بأن الإيمان هو التصديق فما تقولون في أن العرب يجعلون مقابل الإيمان الكفر والجحود؟! فهذا يجعلكم تضطربون في الوقوف على المعنى الغوي الذي هو التصديق فقط.(71/16)
حصول التصديق بالأفعال
قال رحمه الله تعالى: [ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع) إلى أن قال: (والفرج يصدق ذلك ويكذبه)].
يعني: لا يتم التصديق من قبل الأعضاء إلا بالعمل.
قال رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدر وصدقته الأعمال.
ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له؛ فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفه وبينه].
يقصد أنه إيمان مفسر في الشرع، وهو هذا الدين، والدليل على ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركانه الستة، وفسر الإيمان بأركان الإسلام، وكلها أحاديث صحيحة، فسر الإيمان بأركانه الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة ثابتة الإيمان بأركان الإسلام الخمسة، فإن قلنا افتراضاً: إن العرب قصروا معنى الإيمان على التصديق؛ فإن الدلالة الشرعية توسعت في المعنى فوضعت للإيمان معاني عملية، وأركاناً عملية، كما وضعت للصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والجهاد، وغير ذلك من المصطلحات الشرعية.
إذاً: فمعنى الإيمان مفسر، فلا داعي للكلام بعد تفسير النصوص، فإذا كان الله عز وجل فسر لنا معنى الإيمان، وفسره رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه؛ فلا داعي للوقوف على المعنى اللغوي، إذاً: فالإيمان شرعاً إيمان خاص مفسر، وهو هذا الدين بجملته وبما فيه من الأمور الاعتقادية والعملية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بذلك وأجمع عليه السلف.(71/17)
توجيهات للقول بدخول الأعمال في مسمى الإيمان من حيث دلالة لفظ الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص من غير تغيير للبيان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق، أو لأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، أو: إن اللفظ باق على معناه في اللغة].
قوله: (ونقول) يعني أهل السنة والجماعة، ففي الكلام خلط؛ لأنه أحياناً ينقل كلام شيخ الإسلام وكلام ابن القيم بحذافيره، فيقول: نقول وقالوا، وكأنه فريق يرد على فريق، في حين أن الكلام لأهل السنة والجماعة.
قال رحمه الله تعالى: [ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى].
أي: تدخل في المسمى اللفظي بالمدلول الشرعي، وتخرج عنه بالمدلول اللغوي أحياناً، فلوازم الإيمان -وهي الأعمال- تدخل في مسمى الإيمان اللفظي بالمدلول الشرعي، وتخرج عنه أيضاً بالمدلول اللغوي أحياناً.
قال رحمه الله تعالى: [أو أن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً].
يقصد أن لغة العرب ليس فيها ما يمنع من أن تدخل الأعمال في مسمى الإيمان، وهذا صحيح، فالسلف استقرءوا لغة العرب ووجدوا أن العرب ليس عندهم قصر الإيمان على التصديق فقط، بل يدخلون بعض الأعمال القلبية وغيرها في مسمى الإيمان، حتى قبل ورود المصطلح الشرعي، فهذا وجه من وجوه التسوية.
والثاني هو الوجه الذي قال به طائفة من السلف.
قال رحمه الله تعالى: [ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً].
أي: يجوز أن نقول: إن اللفظ وقع على معناه اللغوي فقط، وهو التصديق، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، وهي الأعمال والأمور الأخرى.
قال رحمه الله تعالى: [أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي].
هذا بعيد وإن كان له وجه من الاستدلال؛ لأنه يجوز أن تكون الأعمال من الإيمان مجازاً، وهذا بعيد، واللغة تتسع لإدخال الأعمال في مسمى الإيمان ما دامت الأعمال التي يدين بها الإنسان لله عز وجل مرتبطة بالعمل القلبي.
قال رحمه الله تعالى: [أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذه الطريق].
يعني: نقله الشارع من الخصوص إلى العموم، من الخصوص وهو قصر الإيمان على التصديق إلى العموم وهو إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، كل هذه مسالك مفترضة في الرد على المرجئة في تعميم مسمى الإيمان، وأنه يدخل فيه الأعمال، وأقواها أن لغة العرب لا تمنع من دخول الأعمال في مسمى الإيمان ما دامت الأعمال مأموراً بها شرعاً، ويدين بها الإنسان لله عز وجل؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مجرد حركات، الأعمال الشرعية تنبثق من خضوع القلب لله عز وجل، تنبثق من جانب التصديق والتسليم والإذعان واليقين، والتقوى، والحب، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من الأمور القلبية، فإذا كانت الأعمال تنبثق عن هذه الأمور القلبية فهي مرتبطة بمسمى الإيمان.(71/18)
احتجاج أهل السنة ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمعنى الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وقالوا: إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول معادياً له يقاتله؛ أن هذا ليس بمؤمن، كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)].
هذا الدليل من أقوى أدلة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان شعباً، وجعل هذه الشعب تشمل الأعمال القلبية وغير القلبية، وأعمال الجوارح، بل إن الشعب بدأت بعمل اللسان، وانتهت بعمل الأركان، فقول لا إله إلا الله، وإماطة الأذى مثالان متعلقان بالعمل، ومع ذلك سماهما إيماناً، وهذا دليل قاطع بين على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبين ولا ينطق عن الهوى، ولسانه أيضاً عربي، ولا يتكلم إلا بما يفهمه المخاطبون العرب، ولا يمكن أن يكون في لفظه وكلماته إيهام، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الألسنة بالعربية، فلا يمكن أن يرد احتمال باضطراب الكلام أو اضطراب اللغة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى هذه الأعمال إيماناً، وقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها) أي: أفضل ما سماه الإيمان (قول لا إله إلا الله، وأدناها) أي: أدنى ما سماه الإيمان (إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه الأمثلة كلها أعمال.
قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (البذاذة من الإيمان)].
الخلق كثير منه أعمال، والبذاذة ترجع إلى التواضع، يعني: عدم التكلف في اللباس، وهذا عمل.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيمانا؛ فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة، والصوم، والحج، والأعمال الباطنة؛ كالحياء، والتوكل، والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى، وكما أن شعب الإيمان إيمان فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله -مثلاً- من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله كفر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم، وفي لفظ: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، ومعناه -والله أعلم-: أن الحب والبغض أصل حركة القلب، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال، فمن كان أول أمره وآخره كله لله كان الله إلهه في كل شيء، فلم يكن فيه شيء من الشرك، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملاً الإيمان، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل، ويأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم: (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) فسمى حب الصحابة إيماناً وبغضهم كفراً.
وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور وهو: أن الراوي قال: بضع وستون أو بضع وسبعون، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب].
أبو المعين النسفي من شيوخ الماتريدية، والماتريدية مرجئة، وكثير من أهل الكلام المتأخرين من الماتريدية والأشاعرة إذا عارض الحديث أصولهم ذهبوا إلى الطعن في الحديث بأي وسيلة، فاستهدفوا إما الرواة وإما الكلام في متن الحديث، أو ذهبوا إلى أنه خبر آحاد إذا كان خبر آحاد ونحو ذلك، وهذا منهج منتشر في الأشاعرة والماتريدية، وليس هو من منهج الأولين.
قال رحمه الله تعالى: [فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب، فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه: (بضع وستون) من غير شك،(71/19)
الأسئلة(71/20)
بيان مدى صحة القول بخروج الزاني من الإيمان إلى الإسلام
السؤال
ذكر ابن رجب في (جامع العلوم والحكم) أن الزاني إذا زنى وقد كان مؤمناً فإنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا كلام يحتاج إلى تفسير معنى الإسلام، فإن كان المقصود أنه لا يزال حكمه ظاهراً أنه مسلم فهذا صحيح، بمعنى أنه ظاهراً وباطناً لا يزال مسلماً، فهذا يرجع إلى التفصيل في معنى (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فهل يزول عنه الإيمان بالكلية ثم يرجع إليه، أو يزول عنه الإيمان في هذه الجزئية، وهي الإيمان بتحريم الزنا؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم اختلافاً كبيراً، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وفصل فيها في كتاب الإيمان فليرجع إليه.(71/21)
شرح العقيدة الطحاوية [72]
الإيمان قول وعمل، والقول يشمل قول القلب أي: تصديقه واعتقاده، وقول اللسان وتكليمه، والعمل يشمل عمل القلب من الخوف والخشية والرجاء والتوكل والحب والبغض، وعمل الجوارح وهو فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات، كما أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والآثار السلفية الواردة في ذلك.(72/1)
رد أهل السنة على المرجئة في احتجاجهم بزوال الإيمان المركب بزوال جزئه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!.
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلَّم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط].
يقصد بذلك أن الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وهم طائفة من الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص، هذا من جانب، ومن جانب آخر أيضاً هو قول المعتزلة والخوارج، ليس فقط قول طوائف بعض المرجئة، فالذين قالوا: إن كونه يلزم من زوال جزئه زواله كله هم بعض المرجئة، وهم أيضاً الخوارج والمعتزلة، والخوارج والمعتزلة هم عكس المرجئة في كثير من الأمور، ومع ذلك يلتقون في بعض المستلزمات وبعض الأقوال.
وهو هنا يريد أن يرد على الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وإنه إذا زال جزء منه زال كله، يريد أن يرد عليهم بأن هذا الكلام كلام مجمل، يقول: إذا قلتم: إن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه؛ فهذا لا يصح.
وقوله: [فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية] يقصد كل أفراد الإيمان، فهو يقول: إنه لا يصح أن الإيمان يزول كله بزوال الجزء، أما إذا أرادوا أن الإيمان إذا زال شيء منه لم يبق مجتمعاً فهذا صحيح، فنحن نعرف أن الإيمان بمجموعه إذا زال جزء منه لم يبق سليماً في الجملة، فيختل شيء منه بقدر خلل هذا العمل، ولا يبقى كاملاً أيضاً، فإنه ينقص بقدر نقص هذا العمل، لكن لا يصح أن نقول: إنه إذا اختل منه شيء أو زال جزؤه أو ذهب بعضه فقد ذهب مسمى الإيمان عن المؤمن أو زال كله، بمعنى أنه لا ينعدم بزوال جزء منه، بل يبقى أصله حتى ولو كثر النقص فيه، فلو افترضنا أن النقص في أكثر أجزاء الإيمان فإنه يبقى أصله، هذا جانب.
والجانب الآخر: أننا لو افترضنا أن النقص جاء من شيء عظيم في الدين -كارتكاب بعض الكبائر- فإنه مع ذلك قد يختل خللاً عظيماً، لكن يبقى أصله، وقد يرتفع معنى الإيمان عن المسلم في لحظة ما، لكنه مع ذلك لا ينفك عنه مسمى الإسلام ولا مسمى الإيمان، إنما قد يرتفع في تلك اللحظة التي حدث للمسلم فيها عارض، كأن يشك في شيء من الدين أو يضطرب اعتقاده أو يحصل له شيء من النزغات العظيمة التي تستوجب زوال الإيمان في لحظة ما، لكنه لا يلبث أن يعود، بل ربما يرتكب من الكبائر والفواحش العظام ما يمكن أن نقول: إنه بذلك لم يكن مؤمناً في تلك اللحظة التي حصل منه فيها ذلك الفعل، بمعنى أنه لا يستحق أن يكون ممن وفى بالإيمان، لكن يبقى أصل الإيمان ثابتاً.
فعلى هذا فإن قول الذين يقولون: إن الإيمان يزول كله بزوال جزئه لا يصح، وإذا كان قصدهم أنه يزول كماله فنعم، لكن هذا لا يسمى زوالاً، بل يسمى نقصاً، ويسمى تقصيراً، ويسمى خللاً، ويسمى عدم كمال إلى آخر ذلك من الألفاظ التي يعبر بها أهل العلم، والآن سيبدأ في الاستدلال على تقرير زيادة الإيمان أو نقصانه.(72/2)
الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه(72/3)
أدلة الكتاب على زيادة الإيمان ونقصانه
قال رحمه الله تعالى: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً، منها: قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]].
هنا صرح تعالى بزيادة الإيمان، فزيادة الإيمان بسبب الجمع بين العمل والمعرفة، أو العمل والتطبيق، أو تلاوة آيات الله، زادتهم إيماناً، ولا شك أنه يلزم منها أنها زادتهم يقيناً وزادتهم عملاً؛ لأن من زاد يقينه زاد عمله.
قال رحمه الله تعالى: [{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]].
هذه خمسة أدلة من كتاب الله عز وجل كلها صريحة صراحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض في أن الإيمان يزيد، وعلى أنه يزيد بمجموعة من الأمور القلبية والعملية، وليس في الأمور القلبية التصديقية فقط.
قال رحمه الله تعالى: [وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟! فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟!].
هنا أشار إلى اعتراض قال به المرجئة، وهو أنهم قالوا في الزيادة المذكورة في هذه الآيات وفي غيرها: إن هذه الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به، أي: بزيادة الشرائع، فقالوا: إن زيادة الإيمان للمؤمنين بزيادة ما يرد إليهم من الله عز وجل من أوامر ونواه وأخبار، فكلما زادت الأخبار عندهم -بزعمهم- وصدقوا بها زاد إيمانهم بذلك، وكلما زادت الأعمال وصدقوا بها زاد إيمانهم، فكأنهم أعادوا الزيادة إلى مجرد التصديق بالقلب، ثم أجابوا على هذا: بأن قولهم هذا لا يصح وإن كان ضمن الزيادة الواردة في النصوص الشرعية، فلا شك أن زيادة المؤمن به واقعة، بمعنى أن الشرائع تزيد في وقت تنزل الوحي، وفي وقت نزول هذه الآيات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه أشياء من الأعمال والاعتقادات تزيد في مسمى الإسلام، وفي شرائعه، هذا معنى صحيح، لكن ليس هذا فقط هو معنى الزيادة.
إذاً: فالذين قالوا بأن الزيادة زيادة المؤمن به يقصدون به زيادة الأعمال المشروعة، فرد عليهم بقوله: فهل في قول الناس {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] زيادة مشروع؟! يعني: هل جاء فيه تشريع جديد؟! نعم إن الله عز وجل أمرهم بأن يثبتوا في الإيمان، لكن لا يعني ذلك أنه جاءهم أمر جديد في الدين، إنما أمرهم الله عز وجل بأن يثبتوا على ما هم عليه، فكذلك بقية الآيات، فليس فيها زيادة عمل مشروع، إنما فيها إشارة إلى أن المؤمنين الذين حصل لهم ذلك زاد إيمانهم، وزاد يقينهم، وزاد عملهم، وزاد أخذهم بالأسباب، وكل مستلزمات الزيادة معروفة، وأقل ذلك أنهم لما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم؛ قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا دليل على أنهم جمعوا بين يقين القلب وبين العمل، وهو نطق اللسان في الاحتساب وفي مسألة اللجوء إلى الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]].
الآيات التي تتنزل ويزداد بها المؤمنون إيماناً تتضمن العقائد والأمور القلبية، وتتضمن الأعمال، هذا شيء.
الشيء الآخر: أن الله عز وجل نسب الزيادة إلى الإيمان نسبة صريحة لا لبس فيها كما ذكرت، إذاً: فمحاولة تأول هذا الأمر فيه نوع تناقض وتكلف.(72/4)
بيان حال حديث أبي هريرة في امتناع زيادة الإيمان ونقصانه
قال رحمه الله تعالى: [وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا الفقيه، قال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيي بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: (لا، الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر)].
هذا الحديث لا يصح كما قال أهل العلم.
قال رحمه الله تعالى: [فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني وغيرهم، وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة -وقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان - فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً!].
إذاً: الحديث لا دليل فيه، ولا يصح الاستدلال به، ولا تكون به حجة للمرجئة، ومتنه تظهر عليه علامة الوضع، فالمتن مركب تماماً على عقيدة المرجئة التي ما ظهرت إلا في آخر القرن الأول، فهو مركب تركيباً يناسب عقيدة المرجئة في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وقول طائفة منهم ومن المتكلمين بأن نقص الإيمان يعني الكفر، يعني: إذا نقص اختل كله، وهذا لا يستقيم مع النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولا مع ما أجمع عليه السلف، ولا مع قواعد الشرع المعروفة في مسائل التكفير.
إذاً: فعلامات الوضع على متن الحديث واضحة جداً، وقد كفينا في موضوعه والحديث عنه من قبل أهل العلم؛ لأن السند لا يصح أبداً.(72/5)
الأدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه
قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين].
هذا الدليل السادس؛ لأن الأدلة متفرقة نوعاً ما، فالشيخ استأنف الاستدلال على زيادة الإيمان ونقصانه عند أهل السنة والجماعة، وهذا هو الدليل السادس.
قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخر غير الإيمان؟!].
الإشارة إلى حديث شعب الإيمان هو الدليل السابع، وحديث الشفاعة الدليل الثامن، والشاهد أن حديث شعب الإيمان معروف، وسبق إيراده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، وفي بعض الروايات: بضع وستون، ثم ذكر أعلاها وأدناها، وهي من الأعمال، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدنها إماطة الأذى عن الطريق، وهي كلها أعمال، فعلى هذا فإن الإيمان يشمل الأعمال، ويزيد وينقص؛ لأن ذكر الأعلى إشارة إلى الزيادة والأدنى إشارة إلى النقص.
وكذلك حديث الشفاعة، ذكر فيه أنه يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال ذرة، وفي سياق الحديث ثلاث مرات، أي: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؛ لأن الحديث ورد متدرجاً، فذكر فيه أدنى مرة، ثم أدنى مرتين، ثم أدنى ثلاثاً، فذكر الثالثة يدل على المقصود بشكل أوضح، فدل على أن الإيمان له أدنى وأدنى من أدنى، الأمر الذي يدل على أن الإيمان فيه زيادة ونقص، لا سيما أنه مثل الإيمان بالحبة وبنصفها وبالذرة، وهي تتفاوت فيها الزيادة والنقص، وعلى هذا فإن هذا يعتبر أيضاً دليلاً صريحاً على زيادة الإيمان ونقصانه.(72/6)
آثار السلف في زيادة الإيمان ونقصانه
قال رحمه الله تعالى: [وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً].
هنا بدأ يستدل بأقوال السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، فذكر الدليل الأول قول أبي الدرداء.
قال رحمه الله تعالى: [منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص.
وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً.
فيذكرون الله عز وجل، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة.
ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم.
ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه، وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق].
فيما سيأتي سيشير إلى استدلالات المرجئة والرد عليها، وهنا أشار إلى الرد مباشرة، فبدأ بالأول، وهو أنهم زعموا أن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، أي: أن العمل غير الإيمان، وسيرد على ذلك.(72/7)
الرد على احتجاج الحنفية بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة
قال رحمه الله تعالى: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة؛ فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان؛ فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]].
هنا فسر المؤمنين بمن إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وهذا يتضمن المعنيين، فوجل القلب هو نوع من اليقين والإيمان، ثم إنه نوع من العمل؛ لأن الوجل لابد أن يكون له لوازم.
قال رحمه الله تعالى: [{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]].
هنا أفرد الإيمان، ولابد أن يستلزم أعمالاً، أي: أن هذه المعاني لا تتحقق للمؤمنين إلا إذا كانوا يعملون بمقتضى الدين.
قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا)، (من غشنا فليس منا)، (من حمل علينا السلاح فليس منا)].
في الدليل الأول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى الإيمان عن الفاعل بعمل يخل بالإيمان، وهذا دليل على أن العمل من الإيمان، وكذلك قوله: (حتى تحابوا) فالتحاب هو عمل، وهو شرط للإيمان، بل هو أيضاً معنى من معاني الإيمان، وكذلك قوله: (من غشنا)، (من حمل السلاح)، نفى عنه ذلك بالعمل الذي هو الغش وحمل السلاح، وهذه كلها أعمال.
قال رحمه الله تعالى: [وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! وأما إذا عطف عليه العمل الصالح فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب].
يقصد هنا عطف العمل الصالح على الإيمان، فإنه غايره من بعض الوجوه ووافقه في الأصل، يقول: إن كثيراً من ألفاظ اللغة العربية التي فيها ترادف إذا عطف أحدها على الآخر بقي الاشتراك على أصله، ودل العطف على المغايرة من بعض الوجوه، وهذه قاعدة عند العرب لا تتخلف، وهي قاعدة معروفة معلومة، وتستقيم في المصطلحات الشرعية أكثر من غيرها، وهو أنه إذا وجدنا لفظين مترادفين فإذا أطلق أحدهما منفرداً دل على معنى الآخر، وإذا أطلقا جميعاً بقي الاشتراك بينهما ودل العطف على التغاير من بعض الوجوه.
فالعطف فعلاً يدل على المغايرة، لكن في بعض الوجوه، ولا يعني وجود المغايرة من بعض الوجوه أن الترادف انعدم أو زال.
ومن ذلك: الفقير والمسكين، فإذا أطلقنا كلمة (فقير) دلت على معنى المسكين وحدها بدون أن ترد معها الأخرى.
وكذلك إذا قلنا: (مسكين) دل على معنى الفقير، لكن إذا اجتمعتا فقلنا: الفقير والمسكين صار بينهما شيء من الفروق، ومع ذلك فوجوه الاشتراك بينهما موجودة، ومنها الحاجة ونحو ذلك من الأمور.
وكذلك الإيمان والعمل الصالح؛ فإذا عطف العمل الصالح على الإيمان بقي الاشتراك موجوداً في أن العمل الصالح جزء من الإيمان والإيمان يشمل العمل الصالح، لكن العطف يدل على التغاير الجزئي الذي جاء من أجله سياق الكلام.(72/8)
مراتب المغايرة
قال رحمه الله تعالى: [والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزأه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:3]].
عطف العمل الصالح على الإيمان لا يدخل في هذا المعنى إطلاقاً، وهذا ظاهر، فليس بينهما تباين كالنور والظلمة.
قال رحمه الله تعالى: [ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92].
الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب:7].
وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول فيكون مذكوراً مرتين].
ذكر مرتين للاختصاص، فإذا عطف على الشيء جزؤه فإنه يدل على أن أحدهما اختص بشيء، والغالب أن المعطوف يكون أخص، وأن له معنى يزيد على المعطوف عليه، فعطف الصلاة الوسطى على الصلوات دليل على أن هناك أهمية للصلاة الوسطى مع دخولها في أهمية عموم الصلوات، وعطف جبريل وميكال على عموم الملائكة يدل على أن هناك أهمية أو خصائص لجبريل وميكال مع دخولهما في خصائص الملائكة العامة، وكذلك عطف النبي صلى الله عليه وسلم على عموم النبيين يدل على أنه داخل في عموم النبيين وأنه اختص بأمر عظيم آخر، وهكذا مسألة الإيمان والعمل الصالح.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران.
الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله: فألفى قولها كذباً ومينا.
ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، والكلام على ذلك معروف في موضعه].(72/9)
الاعتداد بإطلاق الشرع لفظ الإيمان لدحض دعوى المغايرة
قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان؟ فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام.
ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] الآيات].
هنا استأنف الاستدلال، لكنه بشكل غير واضح، ففي هذه الآية دليل لأهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه فسره بالعمل.
قال رحمه الله تعالى: [قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: (جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها).
وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب.
وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)].
هذا من أصرح الأدلة وأقواها دلالة على قول أهل السنة والجماعة، ثم إنه من الأحاديث التي حار فيها كثير من المرجئة؛ لأنه فسر الإيمان بصراحة بأعمال صالحة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس، فهذا دليل قاطع على أمرين: على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان دخولاً أولياً، بل هي تفسير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بهذه الأمور، فهي داخلة فيه، ليس على سبيل الاستلزام ولا على سبيل الشرطية، بل على سبيل التضمن، فالإيمان متضمن للأعمال، لأن تفسير الإيمان بالعمل بهذا الحديث تفسير صريح قاطع، وهو حديث صحيح، وتكرر بأسانيد وبألفاظ أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اللفظ الذي أخرجه البخاري ومسلم وكثير من أهل السنة.
كما أنه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الأمور تزداد عند بعض الناس وتنقص عند بعضهم، فهم في شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يتفاوتون في العمل بها والنطق بها والتزامها قولاً وعملاً، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس من المغنم.
فهذه الأعمال من الأعمال التي يتفاوت فيها العباد، فتفاوتها دليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان.
وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟! فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود، وفي المسند عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية والإيمان في القلب)، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان].(72/10)
دلالة حديث جبريل على اشتمال الإيمان على أعمال الإسلام
قال رحمه الله تعالى: [ويؤيده حديث جبريل عليه السلام، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن.
والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد].
تصنيف وتقسيم العباد هنا دليل على زيادة العمل ونقصه وزيادة الإيمان ونقصه، فالسابق في الخيرات نزع إلى كمال الإيمان، والمقتصد عنده توسط في الإيمان، والظالم لنفسه نقص إيمانه، وهذا كله راجع إلى الأعمال أيضاً؛ لأن هذا معروف باللزوم، بل بالضرورة؛ لأنه لا يمكن أن هذه الآية تنطبق على من لم يعمل خيراً قط أو من صدق فقط، فلو كان الإيمان هو التصديق لقيل: إن الذين صدقوا حتى لو لم يعملوا يخضعون لهذا التصنيف، وهذا لا يرد أبداً، بل العكس هو الصحيح، فالذين تفاوتت أعمالهم بين نقص وزيادة هم كلهم من المؤمنين الذين جمعوا بين التصديق والعمل، لكن منهم من اقتصد في العمل ومنهم من سبق وعمل خيراً ومنهم من ظلم نفسه، بمعنى أنه كثر خلطه، وبهذا يدل هذا التقسيم على الزيادة والنقص في الإيمان والعمل بالضرورة.
قال رحمه الله تعالى: [وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد.
فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي ولا ينعكس].
كلامه هنا يدل على أن هذه المعاني الثلاثة يتضمن بعضها بعضاً بالضرورة ويستلزم بعضها بعضاً أيضاً، ومسألة العموم والخصوص بين الإيمان والإسلام والإحسان وبين النبوة والرسالة يمكن أن تتبين لو تصورنا أن الإسلام والإيمان والإحسان عبارة عن دوائر، فنجعل دائرة الإحسان هي الدائرة الصغرى الضيقة، ودائرة الإيمان فوقها تحيط بها، ودائرة الإسلام دائرة كبرى، فإنا إذا نظرنا إلى الإحسان من حيث عدد المحسنين وجدناهم قلة؛ لأن الإحسان دائرة ضيقة جداً، فالإحسان أخص من جهة أهله ومن جهة الوجود، أي: وجود الإحسان من العباد، لأنه أعلى درجات الإيمان والإسلام، لكن من حيث نفسه نجد أن الإحسان لابد أن يستلزم الإيمان والإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك محسن إلا وهو قبل ذلك مؤمن ومسلم.
فعلى هذا يكون الإحسان أعم من جهة نفسه؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام، فشمل الدائرتين الوسطى والكبرى، وأخص من جهة أهله؛ لأن المحسنين قلة.
وكذلك النبوة والرسالة، فلو جعلنا الرسالة دائرة صغيرة فالنبوة دائرة كبرى فوقها، فعلى هذا فإن الرسالة لابد أن تتضمن النبوة من جهة نفسها؛ لأنه لابد أن يكون كل رسول نبياً، لكن من جهة أهلها نجد أن الرسل أقل؛ لأن الله عز وجل يصطفي الرسل من الأنبياء، والله أعلم.(72/11)
الأسئلة(72/12)
حكمة عطف العمل الصالح على الإيمان
السؤال
ألا يكون العطف بين الإيمان والعمل الصالح للإشعار بأهمية العمل؛ إذ الخلل غالباً يكون في العمل، فأكثر العباد يعتقدون ويصدقون ويقولون: إنا مؤمنون -كما هو واقع في هذا الزمان في كثير من المسلمين- ثم يتساهلون في العمل؟
الجواب
أما أن يكون هذا من المقاصد فهذا أمر بين، لكن مع ذلك يبقى الأصل، وهو أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان وأنه إذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فإن الإيمان يعني: الجوانب الاعتقادية القلبية والعمل الصالح يعني: ظواهر الأعمال، كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا.
أما أن يكون من مقاصد الشرع الإشعار بأهمية الأعمال في مسألة عطف العمل الصالح على الإيمان، وأن التساهل فيها من أكثر ما يكون في العباد؛ فهذا صحيح.(72/13)
بيان معنى قوله: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)
السؤال
ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل) فيما يتعلق بإنكار المنكر، وهل يعني هذا أن الإنكار بالقلب هو آخر حد للإيمان؟
الجواب
الحديث يتعلق بدرجات إنكار المنكر: الإنكار باليد لمن استطاع، والإنكار باللسان، والإنكار بالقلب، فالإنكار بالقلب قد يزيد وقد ينقص، لكن إذا انعدم الإنكار بالكلية فهذا دليل على عدم وجود الإيمان، بحيث لا يكون عند الإنسان إحساس ولا تمعر لوجود المنكر أو مشاهدته ورؤيته، فهذا دليل على أنه ليس عنده إيمان، فعلى أي حال أقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) يعني: من لم ينكر بأدنى درجات الإنكار القلبي، فالإنكار القلبي درجات، فمن الناس من يتمعر قلبه ويقشعر جلده من المنكر، ومنهم من يتأثر بعض التأثر، ومنهم من يشعر بأن هذا منكر وتكرهه نفسه فقط، لكن لا يتحرك قلبه، وعلى أي حال إذا لم يوجد أي شعور بالمنكر حتى بالقلب فهذا دليل على تبلد الإحساس وعدم وجود الإيمان أصلاً.(72/14)
شرح العقيدة الطحاوية [73]
الإسلام والإيمان بينهما عموم وخصوص وجهي، فإذا اجتمعا دل الإسلام على الأعمال الظاهرة والإيمان على الأعمال الباطنة، وإذا افترقا شمل كل منهما الآخر، والاستثناء في الإيمان من مسائل الإيمان التي وقع خلاف فيها بين السلف، ولكل قول دليله، وإن كان أقواها وأرجحها أن الاستثناء في أصل الإيمان لا يجوز، أما الاستثناء لعدم العلم بالعاقبة أو تعليق للأمر بمشيئة الله أو في غير أصل الإيمان فهذا لا حرج فيه.(73/1)
الأقوال في مسمى الإسلام
قال رحمه الله تعالى: [وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة].
قوله: منهم من جعل الإسلام هو الكلمة، الكلمة تعبير عن الشهادتين، أو الإقرار بالإسلام بأي تعبير ولو بالقرائن، يقولون: من أقر بالإسلام كأن ينطق بالشهادتين، أو تتوافر عندنا القرائن على إقراره بالإسلام -كملازمته للقيام بشعائر الدين- فإن هذا يكفيه أن يكون مسلماً، بل قالوا: إن هذا هو المقصود بالإسلام الإقرار، وانقسموا إلى طائفتين: منهم من اعتبر الإسلام هو النطق والإقرار، ومنهم من اشترط توافر القرائن الأخرى مع الشهادتين أو مع الإقرار باللسان.
ومنهم من قال: إن الإسلام يعني: الأعمال الظاهرة، وهو قريب من القول الأول، إلا أن القول الأول حصر بالكلمة، قالوا: إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من الدين، ذلك أن الدين أعمال قلبية باطنة وهي الاعتقادات والأمور الإيمانية التصديقية، وأعمال ظاهرة، وهي الشعائر الظاهرة التي تؤدى بالأركان، فقالوا: إن الإسلام المقصود به هو الأعمال الظاهرة فحسب.
وقول ثالث: أن الإسلام والإيمان مترادفان لا فرق بينهما أبداً، والقول الرابع هو الذي يرى التفريق عند الاجتماع والترادف عند الانفراد، وإن كان الترادف لا يعني الترادف من كل وجه، لكن في الجملة، وهذا هو قول جمهور السلف، فيرون أنه يفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام عندما يجتمعان فإذا اجتمع الإيمان والإسلام في كلمة واحدة فإن الإيمان يعني: الأمور القلبية الاعتقادية المعرفية التصديقية، والإسلام يعني: شعائر الدين الظاهرة، وإذا انفرد كل واحد منهما عن الآخر فلابد أن يتضمن الآخر، فإذا أطلق اسم الإيمان على الشخص -كأن نقول: المؤمن- فلابد أن يتضمن معنى المسلم؛ لأن الكافر لا يسمى مؤمناً في الاصطلاح الشرعي، وإن سمي مؤمناً في الاصطلاح اللغوي فيما يتعلق ببعض أجزاء العقيدة، كالإيمان بالله.
وقالوا: إن المؤمن إذا جاء منفرداً فإنه يشمل معنى الإسلام، وكذلك المسلم يشمل معنى الإيمان؛ لأنه جاء منفرداً، ومع ذلك قالوا: قد يطلق على المنافق أنه مسلم، لكن هذا أمر غيبي لا تتعلق به الأحكام التي نقررها، ذلك أن الأحكام على أهل القبلة وتسميات أهل القبلة ونحو ذلك متعلقة بالظواهر ومتعلقة بالقرائن، وأمور القلوب غيبية، فعلى هذا يبقى الاصطلاح صحيحاً، واستثناء المنافق لا يرد؛ لأننا لا نعلم المنافق، فأحكامنا التي نطلقها لا نفرق فيها هذا التفريق الذي يقال فيه: يستثنى منه المنافق، فالراجح أن كلمة إسلام وإيمان ومسلم ومؤمن إذا اجتمع دلت كل واحدة على معنى، وإذا افترقت دلت كل واحدة على الأخرى.
وأما قوله: الإيمان بالأصول الخمسة، فالمراد الأصول الخمسة الواردة في آية بسورة النساء {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:136]، وأغفل الإيمان بالقدر لا على أساس أنه ليس من أركان الإيمان، لكن على أساس أن الغالب في الآيات والأحاديث ذكر الأصول الخمسة، وعلى أي حال فهذا الاصطلاح سبق أن تكلمت عنه وأرى أن فيه نظراً؛ لأنه موهم، فالأولى أن يقال: الأركان الستة.
قال رحمه الله تعالى: [وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة،) الحديث، شعائر الإسلام.
والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة].
هنا أشار إلى تناقض هؤلاء في قولهم حيث قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فكأنه يقول بأنهم حينما أشاروا إلى أن الإيمان يخص معنى وهو التصديق بالقلب تناقضوا بعد ذلك حينما جعلوه مرادفاً للإسلام تماماً.
أما إذا رجعنا إلى المصطلح الشرعي فلاشك أن الإيمان معنى زائد عن التصديق، والإسلام أيضاً معنى زائد على مجرد الشعائر الظاهرة، وهذا أمر مهم ولابد أن نستصحبه في كل ما سيأتي، وإذا تبين لنا ذلك عرفنا كيف نميز أدلة أهل السنة من أدلة غيرهم ووجوه الاستدلال فيها، وأقصد بذلك أن نفرق بين المدلول اللغوي للإسلام وللإيمان وبين المدلول الشرعي لهما، فعرفنا أن المدلول اللغوي للإيمان هو التصديق، وأن المدلول اللغوي للإسلام هو الانقياد العام الظاهر، وقد يطلق على الانقياد الباطن في اللغة، لكن هناك فرق بين هذا وبين المعنى الاصطلاحي الشرعي للكلمتين، فالشرع جاء بمسمى للإيمان، وهو أنه يشمل الأعمال الصالحة، وجاء أيضاً بمسمى للإسلام، وهو أنه يشمل الأمور القلبية، وترتب على هذا الأحكام في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لابد من استصحاب الاصطلاح الشرعي عند الكلام على مسمى ال(73/2)
منزلة الإسلام من الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)].
بدأ يستدل لمذهب أهل السنة في أن الإسلام والإيمان بينهما فرق إذا اجتمعا في سياق واحد كما في الحديث.
قال رحمه الله تعالى: [وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه، وكذلك: هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور.
وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21].
وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد.
كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الناس كثيرة، أعني: في الإفراد والاقتران].
يقصد بهذا أنه لا يمكن أن تنفرد الشهادتين إحداهما عن الأخرى، كما أنه لا يمكن أن ينفرد مسمى الإيمان عن مسمى الإسلام في الجملة، فإن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله فلابد أن يقر بالرسالة للرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم بلوازمها، وكذلك العكس، إذا شهد أن محمداً رسول الله فلابد أن يتضمن ذلك شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن كل واحدة منهما لها لفظ ومعنى، وتعني أيضاً واجباً معيناً، لكن الواجبين لا ينفكان ولا يصح التفريق بينهما، وكذلك الإسلام والإيمان إذا اجتمعا دل كل واحد على معنى، وإذا افترقا تضمن كل واحد معنى الآخر.
قال رحمه الله تعالى: [منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ونظائره كثيرة، وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه.
وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين، وأمثال ذلك].(73/3)
دليل الفرق بين الإسلام والإيمان
قال رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (قولوا أسلمنا) انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة.
وأجيب بالقول الآخر، ورُجِّح، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سباق الآية وسياقها، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين.
ثم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة، ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، الآية، يعني -والله أعلم-: أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم منفي عنكم الإيمان الكامل، يؤيد هذا أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون، كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، والله أعلم بالصواب].
ما قاله الشارح هو الراجح عند كثير من المفسرين من أهل السنة والجماعة، وإن كانوا تنازعوا في بعض الجزئيات، لكن واقع الأمر يشهد لهذا التفسير، وهو أنه لم ينف عنهم ما يعصم دماءهم وأموالهم، بل أثبت لهم أنهم دخلوا في الإسلام ونفى عنهم الإيمان الحقيقي أو الإيمان الكامل، وذلك راجع إلى أنهم أسلموا في وقت قريب أو أنهم حديثو عهد بكفر وبشرك، فالمتأمل لواقع الأعراب في ذلك الوقت يجد أنهم أذعنوا للإسلام بسبب قوة الإسلام في ذلك الوقت، ولم يكن عن روية وعن تفكر، فأذعنوا إذعان استجابة في الجملة وليس إذعان يمكن أن نسميه إذعاناً تاماً؛ لأنهم حينما أسلموا أسلموا في الجملة وانقادوا تبعاً لرءوسهم ولشيوخهم وتبعاً لما درج عليه الناس من حولهم، فكل القبائل أذعنت وأرسلت وفودها للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الإذعان العام نجد منه أنهم لم يتفقهوا في دين الله عز وجل وأنهم كانوا على قرب عهد بشركهم وبما هم عليه من أحوال قلبية وعملية، ولم يزل عنهم الإيمان بالكلية، لكنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يكون فيه المرء منهم على فقه يعصمه عما يوجب الردة.
ولذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر هؤلاء ممن ارتدوا، وهكذا كل من يدخل الإسلام تبعاً لغيره من الشعوب والأمم، فإنهم لا يكونون على درجة واحدة من اليقين والإذعان والقناعة، بل يكونون تبعاً لشيوخهم وللناس، فإذا رأوا الناس أذعنوا أذعنوا، فهذا يدخلهم في مبدأ الإيمان، لكن لا يستحقون كمال الإيمان؛ لأنهم لم يتفقهوا في الدين بعد ولم يقتنعوا اقتناعاً يجعلهم يزدادون في الإسلام خيراً، وكثير منهم بعد ذلك فقهوا في دين الله وكانوا من خيار المسلمين.(73/4)
انتفاء الترادف بين الإسلام والإيمان حال اجتماعهما
قال رحمه الله تعالى: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقبل إلا ذلك، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد.
فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بـ (لا إله إلا الله) حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به.
فانتظمت التوحيد، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة.
وكذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر -كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) - كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه.
وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]؟ ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله.
ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً.
قال: أو مسلماً؟! قالها ثلاثاً)، فأثبت له اسم الإسلام، وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق.
وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] على ترادف الإسلام والإيمان فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا موصوفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.
والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة رضي الله عنه! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!].
هذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله كان يعتني بالنصوص الشرعية، لكن قد يحدث أحياناً شيء من سوء الفهم أو تشرب لبعض الأقوال التي تلتبس حتى على العالم الكبير مثله، أقول: فلاشك أن أبا حنيفة رحمه الله رجاع للحق، ويؤثر عنه أنه رجع عن الإرجاء بالكلية، وإن لم يرجع فإن قوله لا شك أنه مخالف لأهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يقدح في أمانته وفي قدره كما هو معروف في ميزان أهل السنة والجماعة، فهو لا يوافق على زلته إن كان مصراً على القول بالإرجاء، لكن نظراً لإمامته ونظراً لعلمه وتقواه وصلاحه وقبوله عند عامة المسلمين يبقى له قدره من الإمامة والعلم والاعتبار، والراجح أنه لم يقل بجميع أقوال المرجئة التي شنعها السلف.
وفي المقطع التالي أحب قبل أن يبدأ أن أشير إلى مسألة مهمة، فهو سيتكلم عن ثمرات الاختلاف بين الناس في مسألة الإيمان والإسلام، وهي فرع عن الاختلاف في مسمى الإيمان، فإذا كان هناك ثمرات فهذا دليل على أن الخلاف بين أهل ال(73/5)
الخلاف في حكم الاستثناء في الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله.
والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال].(73/6)
دليل القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً.
فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف].
هذا القول عند الكلابية فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة والرضا والنزول والكلام وغير ذلك- أزلية قائمة بالذات غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب والبغض لله عز وجل والكلام من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء، وأوضح ما يكون هذا في الكلام، فإنهم زعموا أن الكلام قائم بالنفس وأنه غير مرتبط بالمشيئة، وهذا يعني عندهم أن الله لا يتكلم متى شاء ولا كيف شاء، إنما كلامه معنى قد يعبر عنه بتعبيرات ترجع إلى تفسيرات كثيرة عندهم، فمن هنا قالوا: هو معنى قائم بالنفس، والذي يسمى كلام الله -كالقرآن- إنما هو عبارة عن كلام الله.
فالتزامهم لهذا الأصل هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل.
فالمهم أن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان -ومنهم بعض الكلابية- التزموا ذلك بسبب ما التزموه أصلاً من قولهم بأن الأفعال غير مرتبطة بالمشيئة، وهذا يذكرنا بما سبق تقريره من أن الأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فيقولون بمقولة في جزئية معينة فيلزم من هذه المقولة أن تجرهم إلى أشياء أخرى في كثير من مسائل الدين، فالكلابية ما تكلموا إلا في مسألة كلام الله عز وجل وفي مسألة أزلية الصفات، أرادوا بذلك أن يقولوا: إنها أزلية غير مقترنة بالمشيئة ولا متعلقة بالمشيئة، وحينما التزموا ذلك ما توسعوا فيها أول الأمر، بل كان عندهم شيء من الحذر، لكن جاءت أجيال بعدهم من الأشاعرة والماتريدية فأخذت هذه القاعدة فنفت بها جميع صفات الله عز وجل، حتى إنها لم تثبت من الصفات إلا سبعاً، وهذه السبع أيضاً قالوا بأنها عقلية، وسموها الصفات العقلية.
وقد يقول قائل: ما صلة مسألة الاستثناء في الإيمان بمسألة أفعال الله وصفاته؟ أقول: حينما زعموا أنه لا يجوز أن تتعلق أفعال الله بمشيئته، وأنه لا يفعل كما شاء، وإنما فعله دائم ملازم له أبداً وإلى ما لا نهاية؛ قالوا: من ذلك ما يتعلق بإيمان المؤمن وكفر الكافر، فنظراً لأن المؤمن عند الله مؤمن حتى وإن كان في أول حياته كافراً؛ فإن محبة الله لازمة له حينما كان كافراً وحينما أسلم، كما أن المؤمن لا نجزم بمصيره، فقد يكون بغيضاً عند الله لأنه ربما يموت على الكفر، نسأل الله العافية، فنظراً لأننا لا نجزم بمصيره، وأن الله ربما كتب له البغض والكره لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن، بل لابد أن يستثني وجوباً، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
قال رحمه الله تعالى: [وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة.
ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني القبول، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه! يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!].
هذا نوع من الوسواس، والذين قالوا بهذا القول إنما هم من المتأخرين، ولا يعرف هذا القول في القرون الثلاثة، إنما نسب إلى ابن شريك وأظنه كان في القرن السادس أو الخامس، وصار له بعض الأتباع، فصاروا يقولون في كل شيء: إن شاء الله، حتى المشاهد أمامهم يقولون: هذا فلان إن شاء الله، وهو نوع من الوسواس.
قال رحمه الله تعالى: [المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبر(73/7)
دليل القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان
قال رحمه الله تعالى: [وأما من يحرمه فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً فيقول: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة، وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت].
كلمة (الشكاكة) كلمة استعملها متأخرو المرجئة في لمز أهل السنة والجماعة، وهذا كثير في كتبهم، يقصدون بالشكاكة من يجوز الاستثناء في الإيمان، يقصدون أهل السنة والجماعة، والشكاكة هم الذين مر ذكرهم قبل قليل، وهم الذين يستثنون في كل شيء، أو الذين يوجبون الاستثناء، فهؤلاء لاشك أنهم قد يسمون الشكاكة أحياناً من باب التجوز، وبعضهم أيضاً قد يكون عنده شيء من الوسواس، لكن المرجئة توسعوا فأطلقوها على من أجازوا الاستثناء في الإيمان، وهم أهل السنة والجماعة.
قال رحمه الله تعالى: [وفي كلا الجوابين نظر؛ فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول (إن شاء الله) هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله.
فلا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الفاعل في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده.
وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل، وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص.
وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين وهما].
الزمخشري من رءوس المعتزلة كما هو معروف.
قال رحمه الله تعالى: [وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآنا].
رجع الزمخشري إلى مشربه، وهذه من ثمرات القول بخلق القرآن، فما جرى هنا لمثل الزمخشري -وهو العالم في اللغة والمتمكن والمتبحر، ويعرف معاني لغة العرب، وعنده علم لكثير من أمور التفسير وغيرها- إلا بناء على أصله، وهو أن القرآن مخلوق بزعمه، فإذا كان مخلوقاً فمن السهل أن يقول: إن الملك حينما نزل بالقرآن أدخل الاستثناء، أو أن القرآن هو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستثني ما دام القرآن كلامه، وجبريل يستثني ما دام القرآن كلامه.
أقول: هذا من الأمور التي يجب أن نعتبر بها وأن نعرف فعلاً كيف تجر المقولة الواحدة أحياناً على أصحابها أموراً كثيرة في أمور الاعتقاد، فمشرب هذا المعتزلي -وهو الزمخشري - أدى به إلى أن يجرؤ على أن يقول في كلام الله هذا القول، وهو أن (إن شاء الله) من لفظ جبريل أو من لفظ محمد صلى الله عليه وسلم! فكيف لو تصور عامة المسلمين هذا التصور في كتاب الله عز وجل، والناس لا يميزون هذا التمييز، فمن الطبيعي حينئذ أن يكون القرآن كله محتملاً ما دام مخلوقاً، أو قد يرد الاحتمال إلى كثير منه، والمسلمون يحترمون القرآن في الجملة، لكن حينئذٍ سيورد كل واحد الاحتمال فيما يخالفه ويقول: هذه الكلمة نظراً لأنها تخالف أصولي محتملة لأن تكون من جبريل أو من محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنها تعبير من الملك أو من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فيجب أن نعتبر بمثل هذه الأمور، وأن نعرف فعلاً أن الأهواء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فهي مقولة جزئية أحياناً لكنها تجر أصحابها إلى فساد العقائد في كثير من الأصول.(73/8)
دليل القائلين بجواز الاستثناء وتركه
قال رحمه الله تعالى: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين].
وهم السلف.
قال رحمه الله تعالى: [وخير الأمور أوسطها: فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى].(73/9)
الأسئلة(73/10)
الفرق بين المسائل العلمية والاعتقادية
السؤال
ما الفرق بين المسائل العلمية والاعتقادية؟
الجواب
المسائل العلمية هي التي يرد فيها الخلاف، ويكون الخلاف فيها جارياً بين أهل السنة أنفسهم، ويسع فيها الخلاف، حيث تتنازع فيها الأقوال، وكل معه دليل أو وجه من الاستدلال، فهذه المسائل الخلافية تسمى مسائل الخلاف، أما مسائل الاعتقاد فهي التي يتفق عليها السلف أو جمهور السلف، فتعتبر مسألة عقدية حتى وإن كانت في الأحكام، فهي داخلة في العقائد ولو كانت من صنف الأحكام، كمسألة مسح الخفين أو غسل الرجلين، فهذه مسائل فقهية صارت من العقائد؛ لأن هناك من أهل الأهواء من خالف فيها النصوص مخالفة صريحة.
فلذلك نجد أن الأمور الخلافية لا ترد في أصول الاعتقاد، إنما ترد في بعض الأمور المتفرعة عن أصول الاعتقاد، ومسائل الإيمان أغلبها من الأصول وليست من الفروع، فالسلف فرقوا بين أصول الإيمان ومسائل الإيمان، وهذا تفريق علمي اصطلاحي ليس تفريقاً عقدياً، فسموا أركان الإيمان أصولاً، وسموا المسائل الأخرى المتفرعة عنها -مثل دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والاستثناء في الإيمان، والزيادة والنقص في الإيمان- هذه سموها مسائل الإيمان؛ تفريقاً بينها وبين الأركان فقط، لا لأنها أقل درجة في الاعتقاد، وإن كان المخالف في المسائل الإيمانية مبتدعاً، ولا يعد كافراً، هذا هو الفرق، لكن من حيث التبديع والخطأ ومخالفة السنة فإن كل من خالف في أصول الإيمان أو في مسائل الإيمان مخالف للسنة والجماعة.
أقول: هناك فرق بين أصول الإيمان ومسائل الإيمان، وهو أن أصول الإيمان لا يجوز لأحد أن ينكر شيئاً منها أو يخالف الأصل فيها، ومن أنكر شيئا منها فقد كفر، أعني أركان الإيمان الستة، أما مسائل الإيمان فإن من خالف فيها أقوال السلف فإنه يعد مبتدعاً ولا يعد خارجاً من الملة.(73/11)
حكم ادعاء الإيمان من غير استثناء
السؤال
ما حكم أن يمثل الإنسان نفسه بالإيمان من غير استثناء فيقول: أنا مؤمن؟
الجواب
حسب السياق والمقام، إذا كان يقول: أنا مؤمن بقصد الاغترار والاعتزاز والتعالي فلا يجوز هذا، وإن كان قصده الإقرار بأصل المبدأ، وهو أنه مسلم إن شاء الله، فلا مانع أن يقول: أنا مؤمن حتى لو لم يستثن، وذكر الشارح الفرق بين من قال: أنا مؤمن على سبيل الجزم بالمصير -وهذا لا يجوز- وبين من قال: أنا مؤمن تعبيراً عما في قلبه من صدق اليقين والثقة بدينه والثقة بما في قلبه، فلا مانع، فعلى أي حال إذا قال الإنسان: إن شاء الله يقصد التعليق على المصير وغيره فلا مانع، وإن كان يقصد الشك فهذا غير جائز، فإذا قال: أنا مؤمن بدون استثناء فهذا هو الأرجح، لكن إذا كان على سبيل التزكية فلا.(73/12)
حكم الاستثناء في الإخبار عما سيفعله المرء
السؤال
أوليس في الاستثناء مندوحة عن الوقوع في الكذب أو خلف العهد؟
الجواب
في غير دعوى الإيمان الأولى للإنسان أن يقول: إن شاء الله، إذا كان يعلق الأمر على يمين أو وعد، فجملة (إن شاء الله) يستخدمها بعض الناس في كل فعل، فإذا قال أحد الناس: سوف أذهب إلى السوق قيل له: قل: إن شاء الله، وإذا قال: سوف أكتب.
قيل له: قل: إن شاء الله، هل هذا العمل مشروع؟
الجواب
هو جائز ولا بأس، فإذا قال أحد: إني سأفعل كذا.
قلنا له: قل: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من الاستعانة بالله عز وجل، فكلمة (إن شاء الله) فيها زيادة توكل وتفويض إلى الله عز وجل.
فذلك أمر جائز ومشروع ولا حرج فيه، وليس عليك حرج أن تقول: إن شاء الله، وإذا ذكرك بها إنسان فقل: جزاك الله خيراً، والله أعلم.(73/13)
شرح العقيدة الطحاوية [74]
من عقيدة أهل السنة والجماعة التصديق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان، وكله حق يجب اتباعه، وسواء كان من أخبار الآحاد أو المتواتر، فإنها تفيد العلم اليقيني في أبواب الاعتقاد أو الأحكام والشرائع، أما من لجأ إلى عقله وحكم هواه ورد به أحاديث الآحاد أو ما لا يوافق عقله، فهذه من طرق أهل البدع في الاستدلال، وقد كان للسلف دور كبير في كشف استدلالات أهل الأهواء وبينوا ما فيها من فساد وخلل.(74/1)
جميع ما صح عن رسول الله من الشرع حق والرد على الجهمية في ردهم أخبار الآحاد
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) يشير الشيخ -رحمه الله- بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد.
فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة؛ فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين].
هذا القول من عقائد الجهمية، والمعتزلة تبع للجهمية في هذه المسألة؛ لأن السلف في مثل هذا الموضوع أو مثل هذه القضية لا يفرقون بين المعتزلة والجهمية، بل يسمون الجميع جهمية؛ لأن كل من عطل أو قال بقول مؤد إلى التعطيل أو التزم التأويل منهجاً في العقيدة يسميه السلف جهمياً، فعلى هذا يكون أول من ابتدع بدعة التفريق في الأخبار بين الآحاد والمتواتر، وجعل الآحاد دون المتواتر في الاحتجاج به هم الجهمية، ومن خلال الجهمية انتقل هذا الأصل الباطل إلى الرافضة؛ لأن الرافضة تحولوا إلى جهمية، ومتأخرة الخوارج كذلك قالوا بهذا القول، وإلى الآن يتبنونه.
ثم إن هذا الأصل أيضاً موجود عند متكلمة الأشاعرة والماتريدية، بل أكثر الأشاعرة والماتريدية يقولون بهذا القول، أي: يفرقون في مسألة الأخبار بين الآحاد والمتواتر.
وتقسيم الخبر إلى آحاد ومتواتر من الناحية الفنية العلمية تقسيم صحيح، فمعلوم أن الأخبار فيها متواتر من حيث السند وفيها آحاد، لكن تقسيمها من حيث القبول والرد على هذا النحو هذا هو البدعة، وهو من أبواب الضلالة التي استهدفت العقيدة ومصادر الدين، ومنهج الاستدلال الذي اتفق عليه سلف الأمة، فهذا الأصل صار الآن من أصول الأشاعرة والماتريدية، خاصة بعدما تبناه أكابر المتكلمين من الأشاعرة، أمثال أبي المعالي الجويني والرازي المسمى بـ فخر الدين، وكل منهما أصل هذه القضية، إلا أن الرازي فرع عليها فروعاً كثيرة وجعلها من الأساسيات في تقرير العقيدة في كتابه (أساس التقديس)، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وغيرها بردود مفصلة من خلال كتاب (بيان تلبيس الجهمية)، كما رد عليه ابن القيم في كتابين أيضاً: في الصواعق المرسلة، وفي اجتماع الجيوش الإسلامية، وقولهم بأنها لا تفيد اليقين، هذا قول التزموه وليس من لوازم قولهم، بمعنى: أنهم زعموا أن الأدلة اللفظية المتواتر منها والقطعي لا تفيد اليقين، ويقصدون باللفظية التي لا تخضع لقواعدهم، ما دامت مجرد ألفاظ في الكتاب والسنة لا تخضع لقواعدهم فلا تفيد اليقين حتى يحتكم فيها إلى القواعد العقلية.
بمعنى أنهم يقولون: إن الأخبار الواردة في الأمور الغيبية -كأسماء الله وصفاته- تبقى دلالتها ظنية، ولا نجزم بأن دلالتها قطعية حتى تعرض على ما يسمونه بالقواطع العقلية، فما وافق هذه القواطع أخذوا به لفظاً ومعنى، وما خالف قواطعهم -كما زعموا- أولوه إلى معان يختلفون عليها اختلافاً كثيراً، فمن هنا زعموا أن الدلالات اللفظية -أي: دلالات القرآن على أسماء الله وصفاته وأفعاله- لا تصير إلى شيء.(74/2)
سد الجهمية طريق معرفة الرب بالقدح في دلالة النصوص على الصفات
قال رحمه الله تعالى: [وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، قالوا: والآحاد لا تفيد العلم ولا يحتج بها من جهة طريقها ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية].
يقصد بذلك أن كثيراً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الدين ورد بطريق الآحاد، ثم إنه حينما ورد ذلك قبله الصحابة وقبله التابعون وأئمة الهدى، فهو عند السلف يفيد العلم، بل كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بآحاد أو تواتر فإنه يعد من مصادر الدين الأساسية، وسيذكر المؤلف أصل هذه القاعدة، والذي يتلخص أن سلف هذه الأمة عنوا بالأسانيد عناية فائقة قطعت الشبهة أو الشك في أي حديث يرد ويثبت بإسناد صحيح فإذا كنا عرفنا أن السلف عنوا عناية فائقة فصار عندهم تمييز قاطع بين الصحيح وغير الصحيح؛ فهذا يعني أنه لا يمكن أن يقال بأن حديث الآحاد أو خبر الآحاد لا يعتمد عليه في الدين.
قال رحمه الله تعالى: [وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في التحقيق {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39 - 40]، ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة.
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم رده وسمى رده تفويضاً! أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم].(74/3)
أصول أهل التأويل والتعطيل في دلالات النصوص(74/4)
القدح في دلالات ألفاظ النصوص على الصفات
الشارح هنا ذكر أربعة من أصول أهل التأويل والتعطيل أجملها ثم أجمل الرد عليها.
الأول: قوله: [وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات] فهذا أصل من أصولهم، وهو قولهم بأن الدلالة اللفظية في الآيات والأحاديث لا تفيد اليقين.
يقول: إنهم بهذا أولاً قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، ثم أضاف إلى هذا قولهم بأن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، ورد عليهم في هذا.(74/5)
تقديم قواعدهم العقلية على النصوص
ثم جاء بالمسألة الثانية من أصولهم الفاسدة، وهي قوله: [ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي] أي: شبهاتهم وقواعدهم العقلية التي زعموا أنها قطعية، مثل: قولهم بأن النصوص تفيد الظن، والأصليات تفيد القطع، وأنه إذا تعارض الظن والقطع أخذ بالقطع وأولو الظن.(74/6)
اعتبار دلالات النصوص ثانوية مظنونة
والأصل الثالث في قوله: [وعزلوا لأجلها النصوص]، بمعنى: أنهم جعلوا دلالات النصوص دلالة ثانوية محكوماً عليها، وجعلوا دلالة النصوص مظنونة معرضة للشك ومعرضة للاختبار، ومعرضة للأوهام العقلية، فمن هنا خلت قلوبهم من الاعتقاد الصحيح، وهذا أمر بدهي؛ لأن من اعتقد أن كلام الله عز وجل إنما هو ظنون فمن الطبيعي أن لا يعتقد فيه الحق، وأن يبقى إما شاكاً متردداً وإما باحثاً عن الحق في غير موضعه.(74/7)
عرض النصوص على البدع
ثم ذكر الأصل الرابع فقال: [بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته]، يعني: أنهم جعلوا بدعهم وأصولهم هي الأصل وهي الحكم، والنصوص محكوماً عليها، فما وافق عقلياتهم قالوا بأنه محكم وقبلوه واحتجوا به، وما خالف عقلياتهم زعموا أنه متشابه، ثم إذا زعموا أنه متشابه اختلفوا في الموقف منه، فمنهم من رده، بمعنى: أنه لم يعتقد دلالته، ثم آل إلى الشك وفوض المعاني إلى غير اعتقاد، يعني: جعل الألفاظ بلا معان، وفوضها إلى علم الله، مع أن هذا أمر لا يصح؛ لأن الله عز وجل تكلم بالقرآن بلسان عربي مبين، وله حقائق ومعان، فتفويض المعنى يعني أنه لن يعتقد أن للنصوص معاني، فيبقى بلا عقيدة؛ لأن من فوض على هذا النحو فإنه سيبقى بلا عقيدة، ومنهم من حرف، بمعنى: أنه أول بمختلف أنواع التأويلات؛ لأن هناك من أول تأويلاً بعيداً وهناك من أول تأويلاً قريباً، لكن لا يدل على الحقيقة المرادة من النص.
ومنهم من عطل تعطيلاً مطلقاً، بمعنى: أنه لم يفوض ولم يحرف ولم يؤول، إنما اعتقد أن ألفاظ القرآن والسنة مجرد ألفاظ تخييلية أو تشبيهية أو تمثيلية إلى آخر ذلك من المعاني التي زاغوا بها عن الحق واتبعوا الفلاسفة.(74/8)
طريق أهل السنة في اعتبار دلالات النصوص
قال رحمه الله تعالى: [وطريق أهل السنة: أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]].(74/9)
الرد على الجهمية ومن سلك مسلكهم في رد خبر الآحاد(74/10)
إفادة تلقي الأمة الخبر بالقبول والعمل
بدأ يرد بعض الرد التفصيلي في مسألة خبر الواحد، ودعواهم أن خبر الواحد لا يفيد اليقين ولا يفيد العلم، وأن خبر الواحد لا يؤخذ منه اعتقاد، ولا يؤخذ منه أيضاً حكم جازم، إنما يبقى على سبيل الظن، أو تؤخذ منه بعض الأحكام الفقهية على غلبة الظن أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر].
يقصد أن التواتر قسمان: تواتر لفظي، وتواتر معنوي، وكلاهما في الحكم سواء، فما تواتر من الدين -سواء كان تواتره لفظياً أو معنوياً- فحكمه واحد، بمعنى أنه قطعي، ولا يعني ذلك أن ما لم يتواتر لفظاً ومعنى لا يعتبر قطعياً، فإن هناك أحاديث ما وردت إلا بخبر الواحد، ولكنها اشتهرت كشهرة حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، ومع ذلك فإنه عند السلف يعتد به ويصح التدين به، ذلك أن الدين إنما جاءنا على هذه الطريقة، بمعنى: أن الله عز وجل ارتضى كثيراً من أمور الدين بأن تنقل بخبر الآحاد، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من وسائل نقل الدين خبر الآحاد، فكثيراً ما يرسل واحداً إلى الصحابة، ويأخذ بخبر واحد، وأيضاً عرف النبي صلى الله عليه وسلم في كثير مما بلغ به الصحابة الدين أنه كان بخبر الواحد.
ثم إن هذا أمر معلوم بالضرورة، وهو أن الله عز وجل علم أن هذه الأمور التي ستنقل بالآحاد ستكون، أي: أنها ستنقل من خلال الآحاد، فلو كان في ذلك نقص في نقل الدين لأتمه الله عز وجل ولأكمله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغ وأدى الرسالة، وكان من وسائل بلاغه خبر الآحاد؛ فهذا يعني: أن خبر الآحاد لا بد من اعتماده وقبوله إذا صح؛ لأنه من وسائل نقل الدين، وكثير من أمور الشرع والأحكام -بل وبعض العقائد- إنما مصدرها خبر الآحاد، هذا بالإضافة إلى ما أشار إليه الشارح هنا، وهو: أن أغلب أخبار الآحاد التي يعتمد عليها -خاصة ما يتعلق بالعقيدة وأصول الأحكام- أغلبها متواتر تواتراً معنوياً، والتواتر المعنوي: هو قبول الأمة للحديث، اتفاقهم على قبول حديث: (إنما الأعمال بالنيات) منذ عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم والقرون الفاضلة إلى عصر تدوين السنة، فلما دونت السنة كان هذا أشبه بالإجماع، أي: أنهم اتفقوا على قبول مثل هذا الحديث واعتباره من الدين والاحتجاج به، ولم يعترض أحد من الأئمة ولا من أهل العلم على الاستدلال بحديث الآحاد، فمن هنا كان أغلب الأحاديث التي ذكر الشارح نماذج منها يصل إلى حد التواتر المعنوي؛ لأن الأمة أخذتها بالقبول واشتهرت شهرة يستحيل معها أن تكون مجرد أخبار آحاد.(74/11)
عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر الواحد
قال رحمه الله تعالى: [ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته)، وخبر أبي هريرة رضي الله عنه: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، وكقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وأمثال ذلك، وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة فاستداروا إليها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد!](74/12)
حفظ الله تعالى دينه بحفظ حججه وبيناته
قال رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته].
من المعلوم في الدين بالضرورة أن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وأن الله رضي له ذلك، وأكمل الله الدين من كل وجه، وكان من وسائل كمال هذا الدين وتبليغه وحفظه أن نقل لنا شيء كثير منه من طريق الآحاد، فلو كان طريق الآحاد ليس بدليل في تثبيت الدين وفي تقريره والاعتماد عليه ما رضيه الله لنا ولا بقي الدين محفوظاً؛ لأنه إذا تطرق الاحتمال لشيء من الدين تطرق الاحتمال للدين كله، بل إذا تطرق الاحتمال إلى مفردة من مفردات الدين التي وردت في حديث الآحاد تطرق إلى كل ما يرد في حديث الآحاد، وحديث الآحاد كثير ويشمل جزءاً من الدين مهماً، فلو ألغينا هذا الجزء ما كان الدين كاملاً ولا كان محفوظاً، إذاً: لا بد أن يكون قبول خبر الآحاد من المعلوم بالضرورة؛ لأنه وسيلة من وسائل حفظ الدين، فإذا تأملنا بعض العقائد وبعض الأحكام وجدناها ثبتت بطريق الآحاد، وهي جزء من الدين.
ثم إن هناك أمراً آخر يحسن التنبيه عليه، وهو أن أصول الدين القطعية الكبرى ليس طريقها فقط حديث الآحاد؛ فإنها انعقدت بالإجماع وانعقدت بأمور أخرى ودلائل أخرى، ومن ذلك ما يتعلق بصفات الله عز وجل.
وأقصد بهذا أن أكثر الذين طعنوا في حديث الآحاد إنما لجئوا إلى الطعن في حديث الآحاد بسبب مخالفتهم في الصفات، فلو لم يكن هناك نزاع عندهم في الصفات لما تكلموا في أحاديث الآحاد، ولذلك ما عملوا بقاعدة عدم اعتماد خبر الآحاد إلا فيما يتعلق بالصفات، إذاً: فهم استهدفوا شيئاً من الدين ثبت بقواعد أخرى، بقواعد السلف المبنية على القواعد العامة، وهي إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس، قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث، وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب].(74/13)
أخبار أئمة الحديث المشتغلين به تنفي وقوع الشك في صحة ما رووه وتلقوه بالقبول
قال رحمه الله تعالى: [وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب، ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث].
قوله: [خبر الآحاد وإن كان يحتمل الصدق والكذب]، أي: قبل أن يحرر، وهذه قاعدة معلومة عند العقلاء، فمجرد خبر يأتيك عن أحد يحتمل الصدق والكذب حتى يحرر، فإذا حرر ثبت بالقرائن أو بصدق الراوي.
فيكون الخبر معلقاً بين الصدق والكذب قبل أن يحرر، فإذا حرر عرف هل هو صدق أو كذب، فكل خبر يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت بطرائق الثبوت المعروفة عند العقلاء، أو بالطرق الشرعية.
قال رحمه الله تعالى: [ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة الرواة، ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم يزك الإسلام وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث.
فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم؛ ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه، ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً.
كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك؛ لعد ذلك جهلاً كثيراً] يقصد بذلك أن الذين يؤخذ عنهم القول الفصل في مسألة خبر الآحاد هم أهل الحديث الذين عنوا به، حيث كانوا يفرقون بين الأحاديث بمختلف درجاتها، ويعرفون الصحيح من السقيم، وما الذي يعتمد عليه في الدين وما الذي لا يعتمد عليه، ومصداق قول الشارح أنا لا نعرف من أئمة الحديث الكبار المعتد بهم المقتدى بهم في الدين من يتردد في قبول خبر الآحاد إذا ثبت بسند صحيح، بل يتورعون عن الكلام فيه أشد التورع، ولا يجرؤ أحد من أئمة الحديث الكبار على ذلك؛ لأنه عرف مسالك القبول في الحديث من عدمه، فما نعرف أن أحداً منهم يتردد في الحديث مثل تردد الذين ليس لهم علم بالحديث، فلذلك هذا القول لم يقل به -فيما أعلم- أحد من أئمة الحديث المعتد بهم، إلا أنه قد يوجد من أئمة الحديث من قال ذلك بسبب نزعته، فهذا النوع تغلب عليه النزعة إلى مذهبه المخالف، من حيث يشعر أو لا يشعر، أما الذين لا ينتمون إلى الفرق ولا إلى الجماعات -بمعنى: ليس لهم مناهج تخالف مناهج أهل السنة- فلا يعرف أن منهم من تردد في هذه المسألة، وهي أن الحديث إذا ثبت بسند صحيح وجب قبوله في الاعتقاد والعمل، ولا يفرقون بين العقائد والأعمال، ولا يقولون بأنه ظني.
وقد يتفلسف بعض المتكلمين فيقول: إني أقصد أنه ظني في أصل منشأ الخبر، لكن هذا ينبغي أن لا يقال في الأحاديث، فإذا صح أن نقول في أخبار الناس: إن الأصل فيها الظنية حتى تثبت؛ فلا يصح أن يقال ذلك فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه أهل العلم المختصون: إنه صحيح يجب قبوله بدون تردد، ولا يعرض لهذه الأوهام التي قد تصح في غير الوحي.(74/14)
شبهة النفاة في رد دلائل الأحاديث الصحيحة
قال رحمه الله تعالى: [ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم وما وضعته خواطرهم وأفكارهم ردوه بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى؛ قلباً منهم وتحريفاً لمعنى الآية عن مواضعه، ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين، ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، تحريفاً للنصين، ويصنفون الكتب ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرءون كثيراً من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه معناه الذي أراده الله، وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص علينا ذلك من خبرهم؛ لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم، فقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، والأماني: التلاوة المجردة.
ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه.
ويشير الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (من الشرع والبيان) إلى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: شرع ابتدائي، وبيان لما شرعه الله تعالى في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الاتباع].
يظهر أنه يقصد بالشرع الابتدائي: النصوص العامة التي تقرر أصول الدين وقواعد الأحكام وجوامع الأدلة، فهذه تسمى شرعاً ابتدائياً، وما يفصلها وما يبينها وما يفسرها -سواء من القرآن أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم- هو الشرع المبين، فالابتدائي هو الأصول والقواعد، والنصوص الحاكمة والنصوص العامة، وما سواه هو البيان والتفسير.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، وفي بعض النسخ: بالخشية والتقى بدل قوله: (بالحقيقة)، ففي العبارة الأولى يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت كما تقدم تنظيره بقوة البصر وضعفه.
وفي العبارة الأخرى يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، والمعنى الأول أظهر قوة، والله أعلم بالصواب].(74/15)
الأسئلة(74/16)
منهج الصحابة في تلقي خبر الواحد منهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ألم يرد أن أبا بكر رضي الله عنه كان لا يأخذ في بعض الأحيان إخبار بعض الصحابة حتى يتأكد من غيرهم؟
الجواب
ليس إخبار الناس بعضهم عن بعض، أو الصحابة بعضهم عن بعض، أو أخبارهم فيما بينهم كإخبارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرق بين هذا وذاك، فالصحابة لم يردوا قول أحد ممن قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: رأيت، أو: قال لي، أو كنت عنده، فأي واحد من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يروي عنه فعلاً أو تقريراً كان الجميع يسلمون له، وبعض القصص التي حدثت من عمر في التثبت ليست راجعة إلى شكه في خبر الآحاد، بل راجعة إلى معان أخرى، كما شك حين سمع من يقرأ آيات على غير قراءته، فقد يكون في بعض هذه الأمور ملابسات أو قرائن لا ترجع إلى رد الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما ترجع إلى أمور أخرى تكتنف الحال، وإلا فإن الصحابة كلهم -ومنهم الخلفاء الراشدون- كانوا ينفذون خبر الواحد في الدين، ولم يكونوا يشددون على الصحابة في أمر يتعلق بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت آحاداً، وكثير من روايات الصحابة فيما بينهم كانت آحاداً، خاصة في بعض الأمور التي لا يتوافر فيها عدد ممن سمعوا، وأقصد أنه في كثير من الوقائع التي تحدث للصحابة يكون الراوي للحديث واحداً، فيقبل الحديث مع أنه لم يصل إلا عن طريق هذا الواحد، ولا يعلمون أنه رواه غيره إلا فيما بعد، ومع ذلك يقبلون الحديث لأول وهلة بمجرد أن رواه الواحد، وما يرد من حالات استثنائية لأمور لها ملابساتها ولها ظروفها ولأسباب معقولة عند أهل العلم لا تؤثر في الأصل.(74/17)
معنى الفاسق الملي
السؤال
ما معنى الفاسق الملي؟
الجواب
الفاسق الملي: هو مرتكب الكبيرة، يسمى فاسقاً ملياً؛ لأنه فاسق بكبيرته، وسمي ملياً لأنه لا يزال من أهل الملة، فهو المسلم الذي يرتكب الكبيرة.(74/18)
شرح العقيدة الطحاوية [75]
ولاية الله لعباده ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، بل ولايته لعباده هي من رحمته وإحسانه ولطفه بهم، فالمؤمنون كلهم أولياء الله، والله وليهم ينصرهم ويعينهم ويسددهم ويحبهم ويرضى عنهم، كما أن أولياء الله أصناف ودرجات تتفاوت بحسب القرب والبعد من الله، والكرامات التي تحصل للعبد هي من آثار ولايته لله، وما يدعيه المبتدعة من مكاشفات أو خوارق ولم يتحقق فيهم مقتضى الولاية من الإيمان والتقوى فإنما هي من الشياطين وإيحاءاتهم.(75/1)
ولاية المؤمنين لله تبارك وتعالى
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن): قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
الولي: من الولاية -بفتح الواو- التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة: ((ما لكم من ولايتهم من شيء))، بكسر الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان.
وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة.
قال الزجاج: وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها.
] الغالب استعمال الولاية بمعنى القرب والنصرة والمحبة، وتستعمل بالفتح، ويغلب استعمالها بالكسر في الإمرة وما يتفرع عنها، فالولاية: الإمرة والسلطة والإمارة ونحوها، والولاية -بالفتح- غالباً تطلق على الحب والنصرة والقرب ونحو ذلك.
وعلى أي حال فالمعنى اللغوي للولاية -كما ذكر الشيخ- هو ضد العداوة، لكنه يعني القرب والنصرة، كما أنه يعني المحبة ولوازمها، ومن لوازم المحبة: القرب والنصرة.(75/2)
أنواع الولاية الشرعية
والولاية شرعاً يحسن أن نشير إليها إجمالاً، فالولاية شرعاً تطلق على ثلاثة أمور: الأمر الأول: ولاية الله لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، يحبهم، وهو سبحانه حافظهم وناصرهم إلى آخر ذلك مما يتبع لوازم الولاية.
الأمر الثاني: الولاية من المؤمنين لربهم، فالمؤمنون هم أولياء الله، يؤمنون به ويحبونه ويطيعونه ويعبدونه حق عبادته ويتقونه، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
الأمر الثالث: ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وهي درجات، وهذه الولاية هي الولاية المقبولة الشرعية.
وهناك ولايات لم يرد ذكرها شرعاً، وهي ولايات غير شرعية، بمعنى: أنها لا تقوم على أساس شرعي، كولاية بعض المسلمين للكافرين، فهذه محرمة، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، وولاية الطواغيت والشياطين لبعض بني آدم، هذه كلها ولايات تدخل في مفهوم الولاية الاصطلاحي العام، لكنها ليست ولايات مشروعة، فالولايات المشروعة هي ولاية الله لعباده المؤمنين، وولاية المؤمنين لربهم فهم أولياء الله وأحباؤه، وكذلك ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وهي تتفاوت على درجات وشعب كشعب الإيمان، فكما أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت؛ كذلك الولاية بين المؤمنين تزيد وتنقص وتتفاوت.
قال رحمه الله تعالى: [فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة].
ذكر الشيخ أنواع الولاية المشروعة في قوله: فهذه النصوص كلها ثبت فيها أولاً: موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وثانياً: أنهم أولياء الله، وثالثاً: أن الله وليهم ومولاهم، فالولايات الثلاث الشرعية ذكرها الشيخ بإيجاز هنا.(75/3)
حقيقة الولاية الكائنة بين الله جل جلاله وعباده المؤمنين
قال رحمه الله تعالى: [وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره].
في هذا إشارة إلى شبهة المعطلة والمؤولة من الفلاسفة ثم الجهمية ثم المعتزلة ثم أهل الكلام كالكلابية والأشاعرة والماتريدية، كلهم يشير الشيخ هنا إلى الرد عليهم في أنهم حينما أنكروا الأسماء أو أنكروا الصفات أو بعض الصفات أو بعض الأفعال إنما زعموا أن فيها ما يشير إلى التأثر أو التفاعل بين الخالق والمخلوق بما يؤدي إلى النقص في حق الله عز وجل.
فزعموا أن المحبة تكون لتفاعل بين المحبوبين، وأن التفاعل لا يخلو من حاجة كل واحد منهما إلى الآخر، فمنهم من أنكرها ومنهم من تأولها، وأنكروا الخلة، وأنكروا حتى الرحمة؛ لأنهم زعموا أن الرحمة تنبثق عن تأثر بين طرفين، فكلامه هنا إشارة إلى الرد عليهم، فحينما قال: [هذه الولاية من رحمته وإحسانه] أي أنها كمال من الله عز وجل ورحمة وإحسان، ولا تعني أن الله عز وجل يؤثر فيه شيء، أو أنه سبحانه بحاجة، أو أن علاقته بالمخلوقين كعلاقة المخلوقين بعضهم ببعض، فمحبته لأوليائه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع غناه الكامل، ومحبته لعباده لا تعني حاجته إليهم، وإن احتاجوا هم إليه.(75/4)
تفاوت درجات الولاية
قال رحمه الله تعالى: [والولاية أيضاً نظير الإيمان]: هنا سيقرر مسألة مهمة جداً يغفل عنها كثير من الناس، ويمكن أن نضع لها عنواناً، وهو: ثبوت أصل الولاية لكل مؤمن وتفاوت مقدارها، وهذا في أنواع الولاية الثلاثة، وأنواع الولاية الثلاثة كلها أصلها ثابت للمؤمنين والمسلمين عموماً، لكنها تتفاوت في مقدارها بين شخص وآخر بحسب ما عنده من التقوى والعمل الصالح، فمنها ما يكون ولاية كاملة، سواء من العبد لربه أو من الرب لعبده أو من المؤمن للمؤمن، فالمؤمن المتقي الصالح له الولاية الكاملة من الله عز وجل بحسب حاله، وله الولاية من المؤمنين الكاملة، وكذلك هو يتولى الله عز وجل بقدر ما يستطيع، أي: استنفذ جهده في ولايته لربه.
إذاً: فمن هنا يقرر ثبوت الولاية لكل مؤمن بدرجاتها الثلاث، وتفاوت مقدراها أيضاً بدرجاتها الثلاث؛ لأن هناك من يكون له جزء من الولاية، وهناك من يكون أمره بين الولاية والعداوة، وهناك من يكون إلى الولاية الكاملة أكثر وأقرب، بحسب أعمالهم القلبية وأعمال الجوارح.
قال رحمه الله تعالى: [والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ: أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وناقصة، فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64]، فـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] منصوب على أنه صفة (أولياء الله) أو بدل منه، أو بإضمار (أمدح)، أو مرفوع بإضمار (هم)، أو خبر ثان لـ (إن)، وأجيز فيه الجر بدلاً من ضمير عليهم.
وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تملق ولا رياضة.
وقيل (الذين آمنوا) مبتدأ، والخبر: (لهم البشرى) وهو بعيد].
هنا يشير بهذا إلى طائفتين: إلى طائفة الخوارج الذين تشددوا في الدين وتنطعوا في مواصلة الصوم وفي كثرة الصلاة إلى حد يزيد على المشروع، وظنوا أن ذلك مقتضى الولاية، في حين أنهم خالفوا السنة وأمثالهم ممن تابعهم، فكثير من العباد والنساك بالغوا في العبادة حتى صارت منهاجهم هي أصول التصوف البدعي فيما بعد.
كما أنه يرد على فريق آخر، وهم الصوفية الذين يكتفون من معاني التقوى والعمل الصالح بالشكليات، إما بالرياضة النفسية والتحنث وكثرة التأمل والتفكير مع قلة الأعمال الصالحات، وأحياناً يتركون الأعمال، وإما بالتعبد والتحنث والانتقاء والسياحة الهائمة في الأرض بغير قصد، والإقامة في الزوايا والدويرات دون إسهام في الأعمال الصالحة من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشهود الجمعة والجماعات، وإما بالأشكال، فيلبسون الخرق الممزقة والثياب البالية، ويزعمون أن هذا هو مظهر التقوى، وأنه كاف في تحقيق الولاية! فهذه الأصناف كلها موجودة في الأمة، وكلها أخطأت معنى الولاية، وإلا فلا شك أن من أهم أمور الولاية القيام بحق الله عز وجل في الصوم والصلاة، ثم القيام بالنوافل في حدود المشروع من الصوم والصلاة ونحوهما من الأعمال الصالحة.
قال رحمه الله تعالى: [وقيل: (الذين آمنوا)، مبتدأ، والخبر: (لهم البشرى)، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها وانتثار نظم الآية].(75/5)
بيان اجتماع الولاية والعداوة في المؤمن وبيان خلاف المرجئة والخوارج في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع].
أهل البدع على اختلاف طوائفهم يخالفون أهل السنة في هذه المسائل، وأشهر من خالف أهل السنة هم الخوارج والمرجئة كما ذكرت سابقاً.
فالخوارج يزعمون أن الولاية والعداوة لا تجتمع في شخص، وأن من نقصت ولايته لله عز وجل فإنه لا يستحق رحمة الله سبحانه ولا يكون من المؤمنين، ومن هنا جعلوه كافراً، فحكموا بخلوده في النار في الآخرة، كما أنهم عادوه وجعلوه عدواً خالصاً، وأنزلوا عليه أحكام الكافرين، بل يعادونه أشد مما يعادون الكافرين، ولذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ففي الحديث الصحيح: (يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)؛ لأنهم يرون أن من نقصت ولايته بارتكاب ذنب انتفت عنه الولاية الكاملة، ووجدت له العداوة الكاملة.
ويقابلهم المرجئة، وهم الذين لا يعولون على العمل الصالح أبداً، يقولون: كل من صدق بالله عز وجل -وبعضهم يقول: من صدق وأقر بلسانه، وبعضهم يقول: من عرف الله- فله الولاية الكاملة مطلقاً؛ لأن الولاية لا تتجزأ.
فالفريقان يقولان بأن الولاية لا تتجزأ، فكما أن الإيمان عندهم لا يتجزأ فلا يزيد ولا ينقص، كذلك الولاية والعداوة عندهم لا تزيد ولا تنقص.
والحق الذي عليه إجماع السلف، والذي قرره الكتاب والسنة أن كل مؤمن وكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والإيمان والصلاح، ومن العداوة بقدر ما فيه من التجاوز والانحراف والمعصية، ما لم يأت بما يوجب الردة، فإذا أتى بما يوجب الردة فله العداوة الكاملة كالكافر الخالص، فالكفار الخلص لهم البراء الكامل، ولا تجوز ولايتهم في شيء، كاليهود والنصارى والمشركين والمرتدين، هؤلاء لهم العداوة الكاملة، ولا تجوز ولايتهم في شيء، لا الولاية الدينية ولا الدنيوية التي يفضلون فيها على المؤمنين، ونحو ذلك مما ذكره أهل العلم من صور الولاية، فلا يجوز للكافر أي نوع من أنواع الولاية التي تؤدي إلى الموادة.
وكذلك المؤمن المتقي الصالح له أيضاً الولاية الكاملة، حتى وإن أتى ببعض اللمم، فإن هذا لا ينقص حقه في الولاية، إنما الذي ينقص الولاية هو الكبائر والذنوب العظيمة.
أما ما بين هذين الحدين فإنه يتفاوت بقدر عمل كل مسلم، فكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والطاعة والصلاح والاستقامة حتى وإن قلت، وله من البراء والعداوة بقدر ما فيه من المعصية والبدعة، وهذا يعني: أن البراء والعداوة لا يوجهان للشخص نفسه، بمعنى أن ينبذ نبذاً كاملاً، وإنما يكره فيه الشر وتكره فيه المعصية، ولا يتولى فيها أو ينصر عليها إلى آخره، فالولاية والعداوة والولاء والبراء لها تفاصيل في الأحكام.
فالبراء الجزئي لا يعني النبذ الكامل، كما أن الولاية الجزئية لا تعني القبول الكامل للشخص، ولذلك يجتمع في أكثر المسلمين وأكثر المؤمنين الولاء والبراء؛ لأن الصالحين منهم قلة؛ ولأن الذين يقعون في الردة -نسأل الله العافية- قلة، فيبقى أكثر الناس في وسط، وإن كانوا يتفاوتون أيضاً بحسب أعمالهم وبحسب مظاهر الصلاح فيهم.
وعلى هذا فإن ولاية المسلم إنما تتعلق بما يظهر منه، ولا يجوز أن نفتش عما في القلوب أو نمتحن الناس، كما يفعل كثير من الذين عندهم قلة فقه في هذه المسألة، فيقول: أنا لا أتولى مسلماً حتى أتثبت من دينه، أو: حتى أمتحنه، فهذه بدعة؛ إذ الأصل ثبوت الولاية للمسلم بمجرد أن تعرف أنه مسلم، وإن ظهر لك منه شيء من البدع والمعاصي، فتكره فيه هذه البدع والمعاصي وتتبرأ منها ومن فعله لها، لكنه يبقى له من الولاية حقه لكونه مسلماً.
ويلحظ أن الشيخ عد بعض الأحناف الذين يقولون بالإرجاء، عدهم في هذه المسألة من أهل السنة، وهو يقصد أن المرجئة يقولون: إن الولاية في أصلها لا تتجزأ، ولا تزيد ولا تنقص، لكن تتجزأ فيما يضاف إليها أو تزيد فيما يضاف إليها من الأعمال الصالحة، فقولهم في الولاية والبراء كقولهم في الإيمان، فكما قالوا بأن الإيمان هو التصديق، قالوا بأن الولاية هي مبدأ المحبة.
وفي الحقيقة قد يكون الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في مسألة الولاية والبراء أخف من الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وفي مسألة حقيقة الإيمان، لكن مع ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق أن الخلاف لفظي من كل وجه؛ فإن كثيراً من المرجئة قد لا يهتم بمسألة المعاصي والكبائر، وربما بعضهم يبقى عنده أصل الولاء الكامل للمسلم وإن كان عنده شيء من المعاصي.
فقوله: إن الخلاف لفظي فيه نظر، وإن كان ليس كالنزاع في مسألة الإيمان، فهو أخف بكثير ولا شك.(75/6)
اجتماع الطاعة والمعصية في العبد دليل اجتماع الولاية والعداوة
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)، وفي رواية: (وإذا اؤتمن خان)، بدل: (وإذا وعد أخلف)، أخرجاه في الصحيحين.
وحديث شعب الإيمان تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار].
هذا الكلام فيه عودة إلى تقرير أن الإيمان يزيد وينقص، وكأنه يشير إلى أن الولاية والعداوة كذلك تزيدان وتنقصان، وأن الولاء والبراء يزيدان وينقصان بقدر ما عند الإنسان.
قال رحمه الله تعالى: [فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق.
وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفس)؛ فلا أصل له، وهو كلام باطل؛ فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق].(75/7)
صفات أولياء الله وأقسامهم
قال رحمه الله تعالى: [وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64].
والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]، إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
] في هذه الآية ذكر تعالى صفات أهل الولاية الكاملة أهل التقوى الذين قاموا بحق الله عز وجل، ذكر منها عشر خصال: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالنبيين، ثم ذكر بعد ذلك إيتاء المال على حبه، ثم إقامة الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم الوفاء بالعهد، ثم الصبر في البأساء والضراء.
فهذه الخصال العشر إذا اجتمعت في إنسان على وجه شرعي فهو صاحب الولاية الكاملة لله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من هذه الصنف.
قال رحمه الله تعالى: [وهم قسمان: مقتصدون ومقربون، فالمقتصدون: الذين يتقربون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح.
والسابقون: الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)].
في هذا الحديث وردت كلمة التردد، وهذه من الأمور التي تكثر إثارتها في الأيام الأخيرة، خاصة عندما أثار بعض الناس هذه المسائل على غير منهج السلف، كمسألة التردد ومسألة الهرولة، وإن كانت الهرولة لها خصوصية أكثر، لكن مثل هذه الأفعال التي وردت في حق الله عز وجل يؤمن بها كما جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلاله عز وجل، ومن غير أن يورد المفهوم السلبي الناقص الذي يتبادر أحياناً إلى عقول بعض الناس، فباب الأخبار والأفعال أوسع من مسألة الصفات والأسماء، فليس كل فعل من أفعال الله يقصد به صفة، وليس كل خبر عن الله عز وجل يقصد به صفة، ومن ذلك ما في هذا الحديث.
فمسألة التردد يؤمن بها كما هي خبر عن الله عز وجل على ما يليق بجلاله، مع نفي ما يرد إلى الذهن من معنى التردد عند البشر؛ لأن البشر يتردد عن جهل وعن تقصير وعن ضعف.
فهذا المذكور عن الله تعالى إشارة إلى محبته لوليه، هذا هو المقصود، ومع ذلك لا تؤول كما يصنع المؤول، بل يؤمن بها كما هي وتثبت على حقيقتها كما وردت في السياق، ولكن لا نستنتج منها صفة، فلا يقال: من الصفات التردد؛ لأننا نعرف من السياق أن المسألة راجعة إلى ما بين الرب عز وجل وبين عبده، فإذا كنا نفهم هذا من السياق فإن المفهوم الكامل لهذه العبارة هو أن الله عز وجل يحب عبده ويكره له ما ينغصه، فيبقى اللفظ كما هو من دون أن يقال: إنه صفة؛ لأن إثبات الصفة يلزم منه لوازم أخرى زائدة عن مجرد إثبات السياق بما يكتنفه من قرائن وأحوال ومفهوم في المعنى العام.
ولذلك ما كان السلف يخوضون في هذه الأمور، يقولون: هذا الكلام حق ويبقى على ظاهره، ويثبت على ما يليق بجلال الله عز وجل، فقوله: (ما ترددت في شيء أنا فاعله) هذا كلام الله عز وجل الذي ذكره عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبقى كما جاء من دون أن يؤخذ منه اسم ولا صفة؛ لأنه من باب الأفعال ومن باب الأخبار، والأفعال والأخبار أوسع من الصفات، وهذا يعني أنه ليس كل ما يرد من فعل أو خبر نقول: إنه يثبت منه صفة، وليس كل صفة لله عز وجل يثبت منها اسم، فالأسماء توقيفية، والصفات أوسع منها، والأفعال أوسع من الصفات، والأخبار أوسع من ذلك كله.
قال رحمه الله تعالى: [والولي: خلاف العدو، وهو مشتق من الولي: وهو الدنو والتقرب، فولي الله: هو من والى الله بموافقته في محبوباته والتقرب إليه بمرضاته، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
قال أبو ذر رضي الله عنه: لما نزلت الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! لو عمل الناس بهذه الآية لكفتهم).
فالمتقون يجعل ا(75/8)
ما تحصل به الكرامة للمؤمن عند الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [(وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن): أي: أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب)، وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها؛ فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت, والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر.
ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر: وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوه القرب شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم].
هذا فيه رد على المتصوفة ومن نحا نحوهم من الذين يزعمون أن الولاية إنما هي الولاية القلبية، وأنه إذا اجتمعت الولاية الكامنة في القلب فقد يستغني الإنسان عن العمل، وقد يترك طلب الرزق، بل هو أفضل له من السعي في طلبه، ولذلك تركوا طلب العيش، وتركوا الجهاد وغير ذلك، والحقيقة أن الأمر -كما ذكر الشيخ- يرجع إلى نفس الإنسان وما آتاه الله من إيمان ومن تقوى وعمل صالح، فإن كان غنياً وهو محسن في العمل فوظف ماله لدين الله عز وجل وفي عمل الخيرات زاده الغنى خيراً، وإن كان فقيراً وصبر زاده الصبر خيراً، ولذلك نجد من أفاضل هذه الأمة من الفقراء عدداً في جميع مراحل التاريخ، وأولهم الصحابة الكبار، فالعشرة المبشرون بالجنة كان منهم الأغنياء ومنهم الفقراء، وفي عموم المهاجرين الأغنياء والفقراء، وكذلك أهل بيعة الرضوان، وفي كل خير، وكذلك من التابعين وتابعيهم بعد عهد النبوة، نجد -مثلاً- من كبار السلف من اشتهر بالغنى، كـ عبد الله بن المبارك، كان غنياً منفقاً، وكان ينفق على قوافل الجهاد وينفق على قوافل الحج، ومع ذلك كان من العباد الزهاد في الوقت نفسه، ومن الأئمة الصالحين والعلماء الكبار والمحدثين.
ونجد في المقابل الإمام أحمد، فلم يكن غنياً، بل كان ينفر من الدنيا، واعتبر الدنيا محنة أشد عليه من المحنة التي حصلت له في قضية القول بخلق القرآن، وفي كل خير، كل كان إماماً في الدين، فالمسألة مبناها على ما عند الإنسان من التقوى والصلاح والاستقامة.
قال رحمه الله تعالى: [وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم.
ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافىً شاكر أو مريض صابر؟ أو مطاع شاكر أو مهان صابر؟ أو آمن شاكر أو خائف صابر؟ ونحو ذلك].(75/9)
الفرق بين ما يحصل للمؤمنين من الكرامات وما يدعيه الصوفية من المكاشفات
بقي لنا تعليق على جملة ذكرها الشارح أحب أن أذكره هنا، حيث قال الشارح عن أولياء الله المتقين: [ويعطيهم الله أشياء يطول شرحها من المكاشفات والتأثيرات] يقصد أن كثيراً من أولياء الله عز وجل يحدث لهم من الكرامات شيء طيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فـ عمر بن الخطاب)، فالشارح يقصد الإلهام والرؤى الصادقة، ويقصد الكرامات، ويقصد الفراسة ونحو ذلك مما يحدث للمؤمنين من هذه الأحوال التي يكون فيها إكرام من الله لهم، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العلمية أو في الأمور العملية في الحياة الدنيا، أو في توفيق لكثير من الأمور التي لا تحصل لغيرهم، فهذه تسمى مكاشفات وتأثيرات.
والصوفية قد يقصدون بهذه الأمور معاني بدعية، فقد يقصدون الاطلاع على أمور غيبية، أو تأثيرات فيها مخرقة ودجل وعبث الشياطين بهم يسمونها مكاشفات وتأثيرات، ففرق بين مكاشفات وتأثيرات المؤمنين التي هي نتائج الولاية ومن باب الكرامات، وبين المكاشفات والتأثيرات الصوفية التي هي من عبث الشياطين ومن الدجل والشعوذة.(75/10)
الأسئلة(75/11)
بيان حصول التواتر المعنوي لخبر الواحد حال تلقيه بالقبول
السؤال
قلت: إن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يكون من قبيل المتواتر، فكيف ذلك؟
الجواب
التواتر إما لفظي وإما معنوي، فالتواتر المعنوي أن تحتف بأحاديث الآحاد قرائن، أو يتفق مع قواعد أو مع نصوص أخرى، فالتواتر المعنوي بابه واسع يختلف عن التواتر اللفظي، فالتواتر اللفظي يحدث بتواتر السند، أما التواتر المعنوي فهو أوسع من ذلك، فأي حديث آحاد وافق معنى آية أو وافق قاعدة شرعية؛ فإنه يكون فيه تواتر معنوي، حتى وإن كان سنده آحاداً.(75/12)
بيان معنى قوله: (كان منافقاً خالصاً)
السؤال
في الحديث المتفق عليه: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) هل المقصود بالنفاق النفاق الاعتقادي؛ لقوله: (خالصاً)؟
الجواب
قد يفهم من الحديث هذا، لكن ليس على سبيل الجزم، فبعض أهل العلم وجه الحديث على أن المقصود به النفاق العملي الخالص، وليس النفاق الاعتقادي، ومع ذلك فإنه -والله أعلم- يحتمل الأمرين، غير أنه مختلف فيه بين أهل العلم: فأما الذين قالوا بأن المقصود به النفاق العملي الخالص وليس الاعتقادي فقد قالوا: إن الخصال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم -وهي الكذب في الحديث، والغدر، والخيانة، وإخلاف الوعد- كلها من الأمور العملية من كبائر الذنوب، ومهما كثرت الكبائر العملية لا تخرج من الملة، والنفاق الاعتقادي مخرج من الملة.
وأما الذين قالوا بأن النفاق المقصود في الحديث هو النفاق الاعتقادي فقد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان منافقاً خالصاً)، وظاهره النفاق الخالص، ثم إنهم وجهوا الاستدلال بقولهم: من اجتمعت فيه هذه الخصال وأكثر منها فإنه لا بد أن يكون فاسد الضمير وفاسد النية وفاسد الاعتقاد؛ إذ لا تجتمع هذه الخصال العملية إلا فيمن خلا قلبه من الإيمان، والله أعلم.(75/13)
المراد بمعاداة الولي التي يعقبها إيذان الله بالحرب
السؤال
ما المقصود بقوله: (من عادى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة)؟ وهل مبارزة الولي من الكبائر؟ وكيف تكون المعاداة؟ وهل من عادى ولياً لا يكون هو ولياً لله لثبوت الوعيد؟
الجواب
يظهر أن الحديث يشمل العداوة الكاملة التي هي عداوة النفاق وعداوة الكفر، ويشمل ما دون ذلك، حتى وإن كان أمراً دنيوياً، فقد يشمله الوعيد، يعني: إذا حدث منه ما يوصف بالعداوة أو العدوان، والعدوان يشمل العدوان الجزئي والعدوان الكلي، فيظهر أن الحديث يشمل جميع هذه الأمور، لكن معاداة الولي درجات.
وقوله: (بارزني بالمحاربة)، هذا من ألفاظ الوعيد، لا يعني المبارزة بالمحاربة التي هي المبارزة بالنفاق والكفر في الضرورة، فالحديث الأظهر أنه شامل للمبارزة التي هي مبارزة الكفر والنفاق ونحو ذلك، ويشمل ما دون ذلك من معاداة أولياء الله، فما يحدث من حسد وما يحدث من بغي وعدوان لأولياء الله يدخل في ذلك.
وأما ولاية من عادى ولياً لله فقد تحصل من وجه، فلا يعني ذلك أن من عادى الولي معاداة ليست كفرية يخرج من الولاية العامة، يعني: قد يكون مسلماً يعادي ولياً من أولياء الله لحسد، أو لشهوة، أو لشبهة أو نحو ذلك، أو لظلم وعدوان، لكن ليس فيه كفر أو نفاق، إنما ضعف إيمانه من هذا الوجه، فعادى ولياً من أولياء الله، فهذا لا يخرج من الولاية العامة، يعني: لا يخرج عن كونه مسلماً، وفيه من الولاية بقدر ما فيه من الطاعة، لكن ليس له الولاية الحقة الكاملة التي خص بها الأولياء المتقون.(75/14)
انتفاء اجتماع الكفر الأكبر مع الإيمان
السؤال
ذكر الشارح أن المرء قد يكون فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد، فهل يجتمع في الإنسان كفر أكبر مع الإيمان، وشرك أكبر مع التوحيد؟
الجواب
لا يجتمع شرك أكبر مع التوحيد بمعناه الشرعي، فالمراد الذين يكون فيهم إيمان وكفر لا يخرج من الملة، أو شرك ليس مخرجاً من الملة، فقد يكون في الإنسان شرك الرياء، أو الشرك الخفي، أو الشرك الذي ليس بخفي لكنه لا يدخل في الشرك الأكبر، ذلك أن الشرك مراتب، وإن كان الغالب في الشرك عند الإطلاق هو الشرك الأكبر، لكن مع ذلك للشرك مراتب، ومن مراتب الشرك ما يكون من البدع غير المخرجة من الملة، ومن المعاصي القلبية كالرياء والسمعة.
المهم أن الشرك مراتب كما أن الإيمان مراتب، كما أن الكفر مراتب والتوحيد مراتب، فعلى هذا فإن من خرج من الملة بكفر أو شرك لا يكون فيه توحيد ولا إيمان، وكذلك من كان فيه إيمان وتوحيد واستحق ذلك شرعاً فإن كفره وشركه لا يخرجه من الملة.(75/15)
شرح العقيدة الطحاوية [76]
من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى، وما تدعيه القدرية من أن الإنسان خالق فعله أو بعض فعله مضاد ومناقض لقوله تعالى: (الله خالق كل شيء) وقوله: (والله خلقكم وما تعملون) وغيرها من النصوص الدالة على أن الله تعالى خلق الإنسان وفعله، وقد صنف أئمة الإسلام كتباً في هذه المسألة وبينوا ضلال القدرية وقبيح استدلالهم.(76/1)
أركان الإيمان وأصوله ومسائله
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى)].
هنا قرر المؤلف أركان الإيمان وأصول الإيمان، وأحب أن أنبه على أمر مهم في جميع مسائل الإيمان القادمة، وينبني عليه فهم الكثير من القضايا المتعلقة بالإيمان، وهو أن الأمور العلمية المتعلقة بالإيمان على نوعين: النوع الأول: ما يسمى بأصول الإيمان، وهو أركان الإيمان الستة التي عدها المؤلف هنا.
والثاني: ما اصطلح عليه أهل العلم في نهاية القرن الأول وما بعده، وهو ما يسمى بمسائل الإيمان، فمسائل الإيمان هي أيضاً من أصول الدين، وبعض الناس قد يظن أن مسائل الإيمان دون الأركان في الأهمية، لكن الأمر على غير ذلك، فإن أصول الإيمان أو أركان الإيمان لا تختلف عنها مسائل الإيمان في أهميتها في الدين، وإنما فرق بينهما تفريقاً علمياً؛ لأن المسائل تفرعت عن القواعد العامة، لكنها مما أجمع عليه السلف ومما اعتبر من أصول الدين بعدما تكلمت فيه الفرق.
فالنوع الأول يعبر عنه بأصول الإيمان، وأركان الإيمان، وهي الأركان الستة.
والنوع الثاني -وهو مسائل الإيمان- يشمل أموراً: أولها: تعريف الإيمان.
وثانيها: دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
وثالثها: زيادة الإيمان ونقصانه.
ورابعها: الاستثناء في الإيمان.
وبعض أهل العلم زاد فيها مسألة خامسة: وهي الأسماء والأحكام، فبعضهم يلحقها بمسائل الإيمان؛ لأنها ثمرة لها.
والأسماء والأحكام في العقيدة المقصود بها: الأسماء التي نطلقها على العباد المكلفين، ثم الأحكام التي تترتب على هذه الأسماء، مثل: مسلم، مؤمن، فاسق، فاجر، كافر، مشرك إلى آخر ذلك من العبارات، فهذه تسمى أسماء.
فالأسماء: هي الألفاظ التي تطلق على العباد المكلفين بحسب أحوالهم، ثم يترتب على هذه الأسماء أمر آخر يسمى: الأحكام.
فالكافر له أحكام تفصيلية، والمسلم له أحكام، والمؤمن له أحكام تفصيلية، والفاسق الفاجر مرتكب الكبيرة له أحكام تفصيلية، فالأحكام فرع عن الأسماء، أو نتيجة للأسماء، والأسماء والأحكام نتيجة عن مسائل الإيمان.(76/2)
أهمية مسائل الإيمان
مسائل الإيمان لا تقل أهمية عن الأركان؛ لأنها فرع عنها، وإن كانت الأركان منصوصاً عليها بالكتاب والسنة، وعليها إجماع سلف الأمة، لكن المسائل أخرجت بمباحث مستقلة؛ لأنها تكلمت فيها الفرق، وأول ما تكلم السلف عن مسائل الإيمان على وجه فيه تفصيل، فالناس أول القرن الأول في عهد الصحابة كانوا يأخذون الدين بالجملة دون كلام في المسائل البدهية، إلا ما ورد في الكتاب والسنة، ومنها مسائل الإيمان، لكن لما جاءت المرجئة والقدرية خاضوا في هذه الأمور، وخاض قبلهم الخوارج، فالكلام في هذه المسائل ما ظهر إلا حين ظهرت المرجئة، وهي أشبه بردة الفعل ضد الخوارج.
فالمرجئة هم الذين أثاروا قضايا مسائل الإيمان، فقالوا بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والإقرار، ثم قالوا بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل هي شرط الإيمان وثمرته، ثم نتج عن هذا عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن من قال بأن الإيمان هو التصديق أو القول، فالتصديق والقول لا يدخلهما زيادة ونقص، وتبعاً لذلك قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فلما تحدث المرجئة عن هذه المسائل تحدث السلف في تقريرها شرعاً على ما ورد في الكتاب والسنة، وأبرزت وقررت على أصولها العلمية، فسميت بهذه الأسماء تحت هذه القضايا الرئيسة، وهي تابعة لأصول الإيمان، وهي أصول أيضاً، أصول من أصول الدين؛ لأن السلف أجمعوا عليها وبدعوا من خالفها، فلا يظن ظان أن مسائل الإيمان أدنى درجة، أو أنها من المسائل الخلافية، بل هي من لوازم أركان الإيمان وأصوله.(76/3)
اشتمال حديث جبريل على أركان الإيمان واشتمال حديث وفد عبد القيس على أعماله
قال رحمه الله تعالى: [تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته؛ حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي وسأله عن الإسلام، فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً وسأله عن الإيمان، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
وسأله عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام التي في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية، والتي في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] الآية، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)].
هذا الحديث تكلم عنه الشارح، لكن في كلامه شيء من الغموض في مسألة الجمع بين الحديثين: حديث تفسير الإيمان بالأركان الستة، الذي هو حديث جبريل، وحديث تفسير الإيمان بأركان الإسلام، الذي هو حديث وفد عبد القيس، فهذان الحديثان بينهما فرق في تفسير الإيمان، ويجمع بينهما ما ذكره أئمة السلف من أنه في حديث جبريل فسر الإيمان مع الإسلام، أي: جاء ذكر الإيمان والإسلام في حديث واحد؛ لأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان ثانياً، ثم سأله عن الإحسان، والإسلام والإيمان والإحسان أمور متداخلة، فأخصها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، وكأنها دوائر ثلاث: الدائرة الصغرى الخاصة الإحسان، والدائرة الوسطى الإيمان، والدائرة الكبرى الإسلام، هذا عندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة، فعندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة فسر كل لفظ بالمعنى الذي يخصه.
في الحديث الثاني ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، إنما ذكر الإيمان، فقال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟) ففسر الإيمان مفرداً بما يتضمن الإسلام والإحسان، كما هي القاعدة عند أهل العلم؛ أنه إذا ذكر مفرداً يتضمن الإسلام والإحسان، وإن كان الإحسان قد يخرج، لكن هذا أمر لا نجزم به، فالتضمن هو الأصل، بمعنى أنه قد يكون الإنسان مؤمناً مسلماً ولكن ليس بمحسن، فهذا استثناء نحترز به احترازاً عند التفصيل، وإلا فالإيمان الأصل فيه أنه يتضمن الإحسان، ومع ذلك لا يلزم، والعكس هو الصحيح، فالإحسان لابد أن يتضمن الإيمان والإسلام، والإيمان لابد أن يتضمن الإسلام، لكن الإسلام لا يلزم أن يتضمن الإحسان ولا يتضمن الإيمان، بمعنى: قد يكون أحد ظاهره الإسلام وهو منافق، والله أعلم بحاله.
أعود فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركان الإسلام حينما ذكر الإيمان مفرداً، فلابد أن يتضمن الإسلام، فعلى هذا تطرد القاعدة عند التفصيل والإجمال، فعندما نجمل فتأتي الألفاظ وحدها يتضمن لفظ الإسلام الأمور الثلاثة، وكذلك لفظ الإيمان وكذلك لفظ الإحسان، وعندما يأتي كل لفظ مع الآخر فلابد أن يفسر بأخص معانيه، وكل معنى شرعي له خصوص وعموم، فالصلاة قد تطلق على نوعين من الصلاة: الصلاة الكاملة المؤداة على وجه صحيح، ومجرد الصلاة التي تبرأ بها الذمة فقط، فكلها تسمى صلاة، وهذه مقبولة وهذه مردودة، لكن كلها يسقط بها الفرض، فعلى هذا فإن تفسير الإيمان بأركان الإسلام جاء هنا لأن الإيمان ذكر وحده.
قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا].(76/4)
دلالة الكتاب والسنة على ثبوت حقيقة الإيمان بالعمل مع التصديق
[والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق].
ينبغي أن نضيف كلمة من أجل أن يستقيم الأمر على تصور أهل السنة، فنقول: (والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حقيقة الإيمان وحكمه إلا بالعمل الصالح مع التصديق)؛ ذلك أن كلمة (حكم الإيمان) كلمة محتملة، فقد يقصد بحكم الإيمان ثمرته أو الأحكام المترتبة عليه، وقد يقصد بحكم الإيمان حقيقته، فهي عبارة موهمة، فهذه العبارة قد يقول بها المرجئ، وتستقيم على مذهبه، وقد يقول بها السني، لكن فيها نوع من الالتباس.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] الآية، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، نفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام].
هنا أشار إلى ما ذكرته من أن لفظ الإيمان إذا جاء مفرداً شمل الإسلام، كما في حديث وفد عبد القيس، وإذا جاء مقترناً بالإسلام فسر بالمعنى الأخص، وكما قلت: يمثل ذلك الصلاة، فأنت قد ترى إنساناً صلى الظهر أو العصر لم تعجبك صلاته، بمعنى: أنه ما خشع ولا قام بما ينبغي في الصلاة من الأمور المكملة، فيمكن أن تقول له: ما صليت، تعني: أنه ما أدى الصلاة على وجهها، فالصلاة الخاصة المطلوبة ما صلاها، ولو أنه أخل بالصلاة إخلالاً كاملاً قلت: ما صليت، يعني: ما أديت الصلاة أصلاً، وما قبلت صلاتك.
فكذلك الإيمان والإسلام، ولذلك يتميز مذهب أهل السنة والجماعة بهذه الشمولية في تفسير الألفاظ، واعتبار معاني الألفاظ ورد بعضها إلى بعض، سواء في مثل هذه الأمور أو في غيرها، هذا مما يتميز به منهج السلف عن مناهج أهل الأهواء والفرق، ومنهم المرجئة، وهو الجمع بين ألفاظ الشرع وإعطاء كل لفظ وكل معنى التفصيلات التي تتعلق به.(76/5)
وجه إشكال حديث وفد عبد القيس على تفسير الطحاوي للإيمان
قال رحمه الله تعالى: [كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداء، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه].
يشير إلى تفسير الشيخ للإيمان على مذهب المرجئة؛ لأن الشيخ فسر الإيمان أكثر من مرة، وفي بعض المرات فسره بتفسير يرده حديث وفد عبد القيس.
وهو قوله: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى).
فهذا مما يرد عليه الحديث؛ لأنه لا يكون الإيمان واحداً؛ ولا يكون أهله في أصله سواء؛ لأن هذا ينافيه تفسيره بالأعمال التي ذكرت.
فمجموع كلام الطحاوي السابق في الإيمان يفهم منه: أنه وافق المرجئة، وأنه جعل العمل من لوازم الإيمان وليس من الإيمان نفسه، فالشارح يقول بأن حديث وفد عبد القيس لا يتوافق مع تفسير الشيخ للإيمان عند تفصيله، ويعارضه؛ لأن الحديث صريح في تفسير الإيمان بأركان الإسلام.(76/6)
جواب السؤال عن قصر الإسلام على الخصال الخمس دون غيرها من الواجبات
قال رحمه الله تعالى: [ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
والتحقيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه، ليعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية: كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدميين، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والمغصوب والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد، وصلة الأرحام ونحو ذلك.
فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار.
وما يجب حقاً لله تعالى -كالكفارات- هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة؛ فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى على ما عرف في موضعه].(76/7)
وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى): تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79] الآية].(76/8)
الجمع بين قوله تعالى: (كل من عند الله) وقوله: (فمن نفسك)
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وبين قوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))؟ قيل: قوله ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)): الخصب والجدب والنصر والهزيمة؛ كلها من عند الله، وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)): أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك].
خلاصة هذا الجمع أن قوله عز وجل: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) يعني: من حيث العلم والتقدير، كل شيء يحدث -ومنه أفعال العباد خيرها وشرها- بعلم الله وتقديره ومشيئته، وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)) ونحوه مما جاء في الآيات يعني: من حيث التسبب، فالله عز وجل جعل لأفعال العباد أسباباً، وأفعال العباد التي فيها الشر والضرر عليهم تسببوا في وقوعها على أنفسهم، وكون الله عز وجل قدرها لا يعني ذلك ألا يكون العبد متسبباً؛ لأن الله عز وجل أعطى العباد المكلفين الحرية والقدرة والاختيار، وبين لهم طريق الخير وأقدرهم عليه وأمرهم به، وبين لهم طريق الشر وأقدرهم عليه ونهاهم عنه، فإذا فعلوا الشر فإن فعلهم له سبب في العقوبة، والفعل والعقوبة كلاهما مقدر من الله عز وجل؛ لأنه كل من عند الله.
إذاً: كل من عند الله من حيث العلم والتقدير والمشيئة العامة والإرادة العامة، ويقال للإنسان إذا أصابه ضر بسبب أعماله وسيئاته: فمن نفسك، أي: من حيث التسبب، أنت سببه، فهذا عقوبة لك، وهذا معلوم عند التأمل، بل هو واضح، وهو الذي تقتضيه الفطرة، ومن حاد عن هذا الفهم فلابد أن يختل فهمه ويقع في إشكال.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))، أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) وأنا كتبتها عليك.
والمراد بالحسنة هنا: النعمة، وبالسيئة: البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد].
هذا من تفسير الشيء بجزئه، يعني: كثيراً ما يرد عن السلف تفسير النصوص بأسباب نزولها أو بأحوال خاصة، ولا يعني ذلك أنهم ينكرون عموم اللفظ، بل كانت مداركهم ومفاهيمهم وإدراكهم للغة تغني عن التفصيل، فكان السلف في ذلك الوقت المبكر في عهد الصحابة ومن بعدهم إذا جاء تفسيرهم هكذا -مثل تفسير السيئة بما حصل يوم أحد- فإنهم لا يتطرق إلى أفهامهم أن المقصود حصر معنى الآية على السيئة يوم أحد، إنما الإشارة إلى المثل والسبب، أو تفسير الشيء بجزئه، وهذا كثير جداً في عهد الصحابة والتابعين الأوائل قبل أن يتكلف الناس ويتعمقوا في الكلام ويتوسعوا، وتضعف لغتهم وتضعف مفاهيمهم، ولذلك يظن كثير من الناس أن تفسير الصحابة وتفسير التابعين ليس بشامل؛ لأنه يأتي بمثل هذه الجزئيات، والصحيح أنه أشمل؛ لأنه يأتي بالمثل الذي يدل على القاعدة، ويأتي بالجزء الذي يدل على الكل، ويأتي بالمثال الذي يدل على الأصل، وهذا أشمل في الفهم، لكن لما ضعفت العربية وكثر تكلف الناس، وتعودوا على العنصرة والتعمق وتشقيق الكلام اضطر العلماء إلى التنبيه على عمومات الألفاظ في النصوص.
قال رحمه الله تعالى: [والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة].(76/9)
دفع احتجاج القدرية على خلق الإنسان فعله بقوله تعالى: (فمن نفسك)
قال رحمه الله تعالى: [وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))].
يقصد القدرية الذين قالوا بأن الإنسان خالق أفعاله أو بعض أفعاله، فبعضهم قالوا: إنه خلق أفعاله، وبعضهم قالوا: خلق بعض أفعاله، وبعضهم يقول بأنه هو الموجد والأصل في أفعال الشر، وليس لله فيها خلق! تعالى الله عما يزعمون، المهم أن هؤلاء هم القدرية الأولى، وقدرية المعتزلة كذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))، فإنهم يقولون: إن فعل العبد حسنة كان أو سيئة فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما وهم لا يفرقون، ولأنه قال تعالى: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، فجعل الحسنات من عند الله، كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، بل في الجزاء.
وقوله بعد هذا: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ))، و ((مِنْ سَيِّئَةٍ))، مثل قوله: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ))، و ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)).
وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب؛ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؛ لأن الحسنة مضافة إلى الله؛ إذ هو أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه.
وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستفتاح: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، أي: فإنك لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه.
ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].
وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة ما لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاماً، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام].(76/10)
وجه الخير فيما يبتلي الله تعالى به عباده من ظلم الظلمة
قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذاباً عليه بالمعجزات التي أيد بها الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس يضلهم فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم.
وليس هذا كالملك الظالم والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك خير في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه].
هذا فيه إشارة إلى الفارق بين فهم أئمة السلف أئمة السنة وفهم أهل الأهواء فيما يتعلق بالصبر على المظالم والجور والأثرة، وما يتعلق بالتعامل مع الولاة، فهو أشار إلى ذلك هنا بهذه المناسبة ليبين أنه فعلاً قد يحدث من الملوك أو من بعض السلاطين شيء من الظلم والعدوان والأثرة، لكن ورد الصبر على ذلك، بمعنى: يجب ألا يؤدي ذلك إلى الخروج، ولا يعني بذلك عدم النصح وعدم إقامة الحجة أو عدم إنكار المنكر بالطرق المشروعة، لا يقصد هذا، وإنما يقصد أن ما يحدث من هذه الأمور -الظلم والأثرة والعدوان من بعض السلاطين- لا يقتضي بالضرورة أن يكون شراً كله، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ظلم الولاة وجورهم وأثرتهم، وقال: (إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ونحو ذلك من الأحاديث الواردة، بل إنه أمر بالصبر حتى مع جلد الظهر وأخذ المال: (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ونحو ذلك من الأحاديث، وأمر بالصبر حتى على من لا يرى الناس أنه مستحق للولاية كالعبد الحبشي ونحو ذلك.
المهم أن الشاهد هنا أن فيما يحدث من مظالم وعدوان قد يكون شراً، لكنه شر لابد من الصبر عليه، وقد يكون وراءه خير، ثم إنه ليس شراً محضاً، نعم لو كان باختيار الناس لوجب أن يختاروا الأفضل وأن يبتعدوا ولا يقعوا فيما يسبب الظلم والعدوان، لكن الكلام فيما يقدر عليهم وما يكتب لهم في مصائرهم؛ وذلك أن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فهذا الأمر هو الفارق بين فهم السلف وغيرهم، ولذلك قالوا هذه الكلمة: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وهذه قاعدة -في الحقيقة- صحيحة يصدقها الشرع والعقل، فلو افترضنا أن تنفلت أمور الناس ليلة واحدة بلا إمام لفسد دينهم ودنياهم، وما استطاع الإنسان أن يؤدي حتى صلاة الجماعة أو غيرها، وكثير من ضرورات الدين -كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجمعة والجماعات وإقامة الحدود والجنائز وغيرها- كلها لا يمكن أن تؤدى بغير ما يحكم دنيا الناس من إمامة ولو من سلطان ظالم، فهذه الحقيقة هي التي يختلف فيها فهم السلف عن فهم غيرهم من الذين لا يصبرون على الجور ويعدون الجور من المنكرات التي يجب إزالتها بلا حدود ولا ضوابط ولا شروط.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ما يسلط عليهم من العدو، ولهذا قد يمكن الله كثيراً من الملوك الظالمين مدة، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة].
هذا ينطبق أيضاً على مثل الأمر بقتال الخوارج، فالخوارج ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم دون غيرهم من أهل الأهواء، مع أن أهل الأهواء من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم أشد كفراً من الخوارج، ومع ذلك ما جاء الأمر إلا بقتال الخوارج؛ لأن منهجهم ومسلكهم يفسد الدين والدنيا، فهم لا يستريحون حتى يقتلوا الناس أو يقتلهم الناس، فلذلك جاء الأمر بقتلهم؛ لأن مناهجهم تفسد دين الناس ودنياهم، وكل منهج يكون كذلك يكون أضر على الناس، وهذا هو السبب في حث السلف على الصبر على الظلم والجور؛ لأن الظلم والجور بذنوب العباد، فالعباد لو استقاموا على دين الله عز وجل وحققوا التوحيد، وحققوا أوامر الله عز وجل واجتنبوا نواهيه لا يمكن أن يولى عليهم من لا يصلح لهم، فهذا لا يتأتى أبداً شرعاً ولا عقلاً، فما يأتي الناس شيء من الجور والظلم من الملوك والسلاطين إلا بسبب ذنوبهم، ولا يمكن ولا يتأتى أن يكون هناك مجتمع مثالي مسلم كمجتمع الصحابة فيولى عليه ظالم، لا يمكن هذا، ولذلك لما قال أحد الناس لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم اختلف الناس عليك وقد اتفقوا على أبي بكر وعمر؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا ولاة على مثلي، وأنا ولي على مثلك.
والظاهر -والله أعلم- أن الذي سأل علي بن أبي طالب من أهل الأهواء، ولا أجزم، لكن الظاهر من السؤال هو هذا.
قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].(76/11)
فوائد من قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)
قال رحمه الله تعالى: [وفي قوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)) من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها، لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه، فإن ذلك من السيئات التي أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر.
ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه قد هداه فلماذا يسأل الهدى؟! وأن المراد التثبيت، أو مزيد الهداية! بل العبد محتاج إلى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك؛ فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريداً للعمل بما يعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريد أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤاله سؤال تثبيت، وهي آخر الرتب.
وبعد ذلك كله هداية أخرى: وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه، وأن يستغفره العبد من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك توحيده والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده، والاستغفار من الذنوب.
وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة، كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) فهذا حمد وهو شكر لله تعالى، وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية، هو المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً، وهو أن العباد وإن كانوا يعطون جداً -ملكاً وعظمة وبختاً ورياسة- في الظاهر أو في الباطن -كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة- فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أي: لا ينجيه ولا يخلصه، ولهذا قال: لا ينفعه منك، ولم يقل: ولا ينفعه عندك؛ لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره.
فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإنه لو قدر أن شيئاً من الأسباب يكون مستقلاً بالمطلوب -وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره- لكان الواجب ألا يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وبه المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود؟! فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم ينصرف عنه ضده لم تحصل مشيئته.
والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات.
والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو -مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة والفعل- فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكاً مطاعاً، ولابد أن يصرف عن الأسباب المتعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع.
وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تام، وإن(76/12)
الرد على الجبرية والقدرية
هذا الكلام كله فيه رد على فئتين، وببيان مذهب هاتين الفئتين يتبين المقصود: الفئة الأولى: الذين يزعمون أن العباد يستقلون بأفعالهم استقلالاً تاماً بجميع الأفعال أو ببعضها، وهم القدرية على مختلف أصنافهم، فهذا رد عليهم.
والفئة الثانية: وهم الجبرية، وهم أيضاً على درجتين، الجبرية الغالية جبرية الجهمية، وهم الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ويجرون هذا الأمر حتى على الأسباب، يعني: يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على أفعال خفية ليست هي بذاتها التي تتسبب في وجود الأفعال، ويتضح هذا ببيان ما عند الصنف الثاني من الجبرية، وهم كثير من جبرية الأشاعرة والماتريدية أصحاب القول بالكسب، فلهم فلسفة عجيبة في مسألة الأسباب، فكثير منهم يرون أن الأسباب ليست إلا قرائن على فعل الله عز وجل، وليست مؤثرة في الأفعال، وهذا ردة فعل للقدرية، يزعمون أن كل شيء مادام بفعل الله عز وجل وتقديره؛ فالأسباب لا أثر لها البتة، فعلى سبيل المثال: إذا قلنا لهم: نرى أن الله عز وجل جعل السحاب سبباً للمطر، والمطر سبباً لحياة الأرض ثم للنبات وهكذا، قالوا مبالغة في إلغاء الأسباب: السحاب الذي ترون قرينة على وجود المطر وعلامة فقط، وما هو بسبب، ولذلك ألغوا الأسباب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إنهم يحترزون من ذكر الباء السببية في أفعال الله عز وجل أو في ألفاظ القرآن، وقد رد عليهم ابن القيم في كتابه (شفاء العليل).
والمهم أنهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على فعل الله وليست أسباباً حقيقية مؤثرة، زعماً منهم أن قولنا بأنها مؤثرة يتنافى مع أن الله خالق كل شيء؛ وهذا فهم خاطئ، فالله عز وجل فعال لما يريد، وكل شيء بقدره وفعله، لكن جعل للأشياء أسباباً، وقد يكون من أفعال الله ما ليس له أسباب مباشرة، فالله عز وجل يخلق ما يشاء كيف يشاء، قد يخلق الشيء بكن، لكن سائر الأفعال التي نراها في الكون تكون بأسبابها، فالله عز وجل خالق الأسباب والمسببات، وهو على كل شيء قدير، فلا يخرج عن ملكه شيء، لكن مع ذلك فإن من إتقان الملك وإتقان الخلق أن توجد هذه الأسباب، فهذا من بديع الصنع ومن عظيم خلق الله عز وجل وقدرته أن توجد هذه الأسباب، فالشيخ هنا يرد على طائفتين: الذين يلغون الأسباب بالكلية، ويجعلون الأسباب ما هي إلا قرائن ودلالات على الأفعال، وكذلك الذين يزعمون أن المكلف يستقل بفعل نفسه، سواء كل الأفعال أو بعض الأفعال، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره، فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره].(76/13)
الأسئلة(76/14)
المقصود بحكم الإيمان وحقيقته
السؤال
ما المقصود بحكم الإيمان وحقيقة الإيمان؟
الجواب
قد يقصد بحكم الإيمان حقيقة الإيمان، لكن بعض المرجئة يقصدون بحكم الإيمان ثمرته أو لوازمه، أو الأسماء والأحكام؛ يعني: الحكم على الشخص بعد إيمانه، فكلمة حكم الإيمان قد يقصد بها الحقيقة وقد يقصد بها الآثار والأحكام المتعلقة بأفعال العباد، أما الحقيقة فهي أدق؛ فحقيقة الإيمان تعني حقيقته الشرعية، فإذا قيدت كلمة حكم الإيمان بحقيقته فإنها تعتبر أحكم وأسلم من الكلمة المجردة من الوصف.
إذاً: كلمة (حكم الإيمان) تحتمل معنيين: تحتمل الآثار واللوازم والشروط، وهذا قول المرجئة، وتحتمل حقيقة الإيمان، وهذا قول السلف.
وقد يقال: هل بينهما فرق؟ وما حكم الاقتصار على أحدهما؟
و
الجواب
لا مانع أن نطلق كلمة (حكم الإيمان) وحدها أو (حقيقة الإيمان) وحدها إذا دل السياق على المقصود.(76/15)
مدى الاعتبار بحديث أركان الإيمان في تعريف الإيمان
السؤال
سمعت بعض الناس يقول: ينبغي أن يعرف الإيمان بما عرف به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره، وينهى عن التعريف المشهور بحجة وجود الرد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا حق وهذا حق، فإن تعريف الإيمان بأركانه الستة صحيح إذا قصد التعريف الخاص، لكن أحياناً يدخل في مسمى الإيمان أمور أخرى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بتعريف آخر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بأركان الإيمان الستة، وعرفه في قصة وفد عبد القيس وفي أحاديث كثيرة بأركان الإسلام؛ فمعنى هذا أن كل ذلك من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم له، فيكون جماع هذه التعريفات وجماع مفهوم الإيمان في الكتاب والسنة، وجماع ما ورد في حقيقة الإيمان في عموم النصوص تعريف الإيمان بأنه قول وعمل، أو اعتقاد وقول وعمل، ولا مانع مع ذلك من تعريفه بأركان الإيمان الستة، لكن مادام قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهذا، فلا ينبغي لأحد أن يحجر الإيمان على تعريف معين، إلا إذا اقتضى الحال ذلك، أما عند الحاجة للتفصيل، وعند وجود اللبس، أو بعد ظهور الأهواء وخوف خطأ الفهم من الناس، أو إذا كان السائل ممن قد يفهم من التعريف قول فئة أو طائفة من الطوائف التي تخص الإيمان ببعض معانية فنحتاج إلى التفصيل.(76/16)
وجه امتناع اشتقاق الصفة من التردد والهرولة
السؤال
من المعلوم أن صفات الله عز وجل وأسماءه وأفعاله تأتي عن طريق الخبر، فلماذا لا يؤخذ من فعل التردد والهرولة صفة؟
الجواب
التردد والهرولة وردت في مقابل أفعال العباد، ولو لم ترد في مقابل فعل العبد لأطلقناها صفة بجزم، لكن ما دامت قد وردت في سياق فعل العبد فلابد أن يربط المعنى بهذا المفهوم، وهذا أمر لا نستطيع أن نرده عن أذهان السامعين، وهو مقتضى اللغة التي تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بلسان عربي مبين، وأعطي جوامع الكلم، ولا يتكلم عن ربه إلا بحق، فألفاظ الحديث التي ورد فيها التردد وورد فيها الهرولة ونحوها من الأفعال الثابتة لله عز وجل لا نستطيع أن نجزم بأنها صفات، لكن نقول: نقرها كما جاءت، وتثبت لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلاله، فهي حق على حقيقتها، ولا نتأول، لكن مع ذلك لا نثبتها صفة مفردة؛ لأن إثباتها صفة مفردة يحتاج إلى دليل، ولا سيما أنها ربطت بأفعال الخلق، فأي فعل لله يربط بأفعال الخلق يفهم من سياقه المعنى المراد، وإذا فهم من سياقه المعنى المراد لم يصر هذا الفهم تأويلاً؛ بل هو تفسير للفظ بظاهره، فإذا فهمنا أن التردد في قبض نفس المؤمن القصد منه إكرام المؤمن والرأفة به لعمله الصالح؛ فهذا يعني أننا ما أولنا؛ لأن هذا هو مفهوم النص وظاهره.
وكذلك الهرولة، وإن كانت الهرولة تختلف عن التردد نوعاً ما، لكن يمكن أن يقاس على التردد الملل: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فربط الفعل بأفعال العباد، فمعنى الملل عند العباد منفي عن الله عز وجل، إذاً: للملل في حق الله معنى آخر بالضرورة مفهوم من السياق نفسه، لا بتأول، ولذلك لا تصلح هذه أمثلة على التأويل كما يزعم كثير من المبطلين، فالسلف حينما أولوا الملل أو فسروه بغير لفظه -وكذلك التردد- لا يعني ذلك أن هذا تأويل؛ لأن هذا مقتضى السياق، فالمعنى موجود في النص نفسه؛ لأنه مقابل أفعال العباد، فهذا خبر، ولا مانع أن نثبت منه صفة بالإجمال، لكن لا يقال: إنها صفة مفردة، فلا يقال: من الصفات التردد ومن الصفات الملل، لكن يقال: هذا الفعل من صفات أفعال الله عز وجل، ونكتفي بذلك ونقف على النص، ونقول: هذا النص يثبت لله على ظاهره على ما يليق بالله عز وجل، ومعناه مفهوم عند المخاطبين، والله أعلم.(76/17)
حكم الجزم لشخص بالولاية
السؤال
ما حكم الجزم بأن فلاناً المعروف بالعلم والدين ولي من أولياء الله؟
الجواب
الجزم بأن فلاناً من أولياء الله لا يجوز، مثل الجزم بمصير أحد من العباد، لكن أن يقال: هذا ولي من أولياء الله بناء على القرائن وظواهر الحال؛ فهذا معلوم، فلا شك أنا إذا رأينا على عبد من العباد قرائن الولاية من الاستقامة والصلاح والتقوى وغير ذلك قلنا: فلان ولي من أولياء الله، على سبيل الشهادة بما نعلمه ظاهراً ولا نجزم، فالجزم أمر صعب ولا ينبغي، وربما يكون من الأمور غير المشروعة، أما الشهادة بأن فلاناً ولي من أولياء الله بناء على القرائن الظاهرة إذا شهد له عموم الناس فجائزة؛ لأن الشهادة على نوعين: شهادة بمعنى الجزم، وشهادة بمعنى الأخذ بالقرائن الظاهرة، فيجوز أن تقول: يظهر لي أن فلاناً ولي من أولياء الله، بناء على ما يظهر من أعماله وحاله.
إذاً: فالجزم الذي يعني الاعتقاد الذي يمكن أن تقسم عليه لا يجوز؛ لأنه مثل الجزم بمصير العبد، وفرق أيضاً بين الحي والميت، يعني: التغليظ في أمر الميت أكثر من أمر الحي؛ لأن الميت إذا مات وظاهره على الولاية يشهد له بالولاية شهادة عامة، أما الحي فلا تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك يشهد له بظاهر حاله في وقت الشهادة، على ألا تتعلق الشهادة بمصيره إذا كانت الشهادة بواقع الحال فلا حرج فيها بشرط ألا يكون الجزم اليقيني الذي يؤدي إلى الاعتقاد.(76/18)
البشرى الموعود بها الأولياء في الدنيا
السؤال
ما هي البشرى التي وعدها الله أولياءه في الدنيا؟
الجواب
أولياء الله لهم البشرى في الحياة الدنيا من عدة وجوه: أولاً: شهادة الناس لهم.
والأمر الثاني: ما يطمئن الله به قلوبهم من نور الإيمان ولذة العبادة وسعادة الحال ونحو ذلك مما يلاحظه أهل التقوى والاستقامة؛ فهم يعيشون سعادة قلبية في الدنيا، إضافة إلى ما يجدونه من قرائن الحال على الولاية؛ من شهادة الناس، ومن كرامات تحدث لهم منظورة وغير منظورة وغير ذلك مما هو معلوم.(76/19)
شرح العقيدة الطحاوية [77]
أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا ماتوا فهم تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ولكن لا يخلدون في النار، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود العصاة في النار، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة، فجمعوا بين النصوص وفهموها على فهم الصحابة والتابعين، بعيداً عن الغلو أو الإرجاء.(77/1)
الإيمان بجميع الرسل وتصديقهم فيما جاءوا به
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به): الإشارة بذلك إلى ما تقدم، مما يجب الإيمان به تفصيلاً، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) إلى آخر كلامه، أي: لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151].
فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به؛ وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافراً بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم، فكان كافراً حقاً، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].(77/2)
الأقوال في مصير أهل الكبائر
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون)].
صحة العبارة: لا يخلدون في النار، لكنه راعى السجع؛ فأوهمت العبارة، فالمعنى: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، والتقدير بأنهم في النار ثم لا يخلدون خطأ، فـ الطحاوي راعى السجع فقدم كلمة (النار) على (لا يخلدون)؛ وهذا يفهم منه أنهم في النار في أول وهلة، والصحيح التفصيل كما سيأتي؛ وهو أن أهل الكبائر تحت المشيئة: إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، وبعضهم يغفر له وبعضهم قد يعذب، ومن يعذب لا يخلد.
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون؛ وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته؛ وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به].
في هذه الجملة تعرض لأصل من الأصول الكبرى التي خالف فيها كثير من الفرق أهل السنة والجماعة، وهي مسألة مرتكب الكبيرة، ويمكن أن نلخص أقوال الناس في أهل الكبائر بما يلي: أولاً: أن مرتكب الكبيرة إذا تاب من ذنبه قبل الموت، فهذا لا شك أنه يغفر له ذنبه، بمعنى أنه تقبل منه توبته إذا صدق وتوافرت فيه شروط التوبة، وهذا باتفاق، وإن كان هناك من بعض الجهلة من يخوض في بعض تفاصيل المسألة، لكن في الجملة لا نجد في أصول الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة -كالخوارج والمعتزلة- من يشك في هذه المسألة، أن من تاب تاب الله عليه.
وأما إذا أصر عليها في الدنيا ثم مات عليها فأقوال الناس في هذه المسألة على النحو الآتي:(77/3)
قول أهل السنة والجماعة
أولاً: قول أهل السنة والجماعة: وهو أن مرتكب الكبيرة ما دام مصراً على كبيرته في الدنيا فإنه يبقى فيه أصل الإيمان، لكنه فاسق بكبيرته، وقد يسمى بحسب عمله، قد يسمى ظالماً، وقد يسمى فاجراً، وقد يسمى فاسقاً، وقد يسمى عاصياً، وقد يطلق عليه وصف النفاق إذا كانت فيه خصلة من خصال النفاق، لكن ليس المقصود به النفاق المطلق، فيقال: فيه نفاق، فيه جاهلية إلى آخره، ويسمى مبتدعاً إذا كانت معصيته بدعة، لكن يبقى فيه مسمى الإيمان وأصل الإيمان، فيسمى مؤمناً ويعامل معاملة أهل القبلة إلا لمصلحة راجحة فيهجر ليتوب، أو ليكف فساده عن الناس، ويقام الحد عليه في الدنيا، كل هذه الأمور لا تمنع من كونه مؤمناً، ولا تمنع أن يكون من أهل القبلة وأن تجرى عليه أحكام أهل القبلة في الجملة، وحجبه عن بعض حقوق أهل القبلة لا يعني أنه خرج منهم، فقد لا يصلي عليه بعض أهل العلم، ولا يعني ذلك أنه ليس بمسلم، وقد لا يحضر جنازته، وقد لا يعوده في أثناء مرضه، لكن هذا لمصلحة، ولا يعني أنه ليس بمسلم، وهذه من الأمور التي اشتبهت على كثير من صغار طلاب العلم؛ يأخذون بعض مواقف السلف تجاه المبتدعة أو تجاه أهل الكبائر أو الظالمين أو نحوهم، فيظنون أن هذا يعني الحكم عليهم بالكفر أو نحو الكفر، أو أنهم يحرمون من حقوقهم التي ثبتت لهم بالإسلام، والحال أن هؤلاء لهم حكم تفصيلي، فلابد من اعتبار المصالح ودرء المفاسد فيهم، ومعرفة حكم السلف على الشخص وإن عاملوه معاملة قاسية؛ فالسلف قد يهجرون المبتدع، قد يهجرون الفاسق والفاجر، قد يقيمون عليه الحد في الدنيا، قد يصفونه بالفسق والفجور، قد يتركون بعض حقوقه من الصلة أو الزيارة عند المرض أو الصلاة عليه أو حضور جنازته، أو حضور وليمته أو نحو ذلك، قد يفعل هذا كثير من أئمة الدين، وهذا نوع من الهجر لمصلحة، ولكن لا يعني الحكم عليه بأنه ليس بمسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حق بعض موتى الصحابة: (صلوا على صاحبكم)، وكذلك فعل بعض السلف، فهذا ما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عند أهل السنة.
أما في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً على كبيرته فإنه تحت مشيئة الله عز وجل: إن شاء غفر له، وأسباب الغفران كثيرة جداً، وأحياناً يغفر الله للعبد بغير سبب منه، بل برحمة الله عز وجل ولطفه بعبده، وإن شاء عذبه في النار، وإن عذبه الله عز وجل فلابد أن يخرج منها بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة لأهل الكبائر من أمته، وقد ضمنها الله له يوم القيامة، أو بشفاعة الشافعين الآخرين، كشفاعة الأنبياء، وشفاعة الرسل، وشفاعة الصالحين، وشفاعة الشهداء على القول بأن حديث شفاعة الشهداء صحيح، وشفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، وشفاعة أطفال المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ واحتسبهم أهلهم عند الله عز وجل، كل هذه من أسباب خروج أهل الكبائر من النار، ثم برحمة الله عز وجل قبل ذلك وبعده.
أما الفرق فقد اختلفت اختلافاً كثيراً في مصير أهل الكبائر في الآخرة نوجزه على النحو الآتي:(77/4)
قول الخوارج والمعتزلة والمرجئة
أولاً: الخوارج، فالخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر، أي: يحكمون عليه بأحكام الكفر في الغالب، وإن كان بعضهم قد يسميه كافراً ومع ذلك لا يحكم عليه بجميع أحكام الكفر، ففرقهم تختلف في هذا اختلافاً كثيراً، وإذا مات على كبيرته فإنهم يرون أنه مخلد في النار مطلقاً.
ثانياً: المعتزلة، وقد وافقوا الخوارج في بعض أقوالهم وخالفوهم في بعضها، فأما في الدنيا فقد نفت المعتزلة عن مرتكب الكبيرة الإيمان ونفت عنه الكفر، وبعضهم يسميه فاسقاً، وبعضهم يقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فمنزلة بين المنزلتين اصطلاح جديد لم يرد به الشرع، يريدون به أنه ليس بمؤمن ولا بكافر.
أما في الآخرة؛ فإن مرتكب الكبيرة عندهم -كما هو حاله عند الخوارج- من أهل النار المخلدين فيها، ولا يدخل تحت مشيئة الله عز وجل ولا تشمله الشفاعة، لكن بعضهم يقول بأن له ناراً غير نار الكافرين، أي أنها أخف من نار الكافرين، وهذه أيضاً مقولة عجيبة ليس لها مستند.
ثالثاً المرجئة، وأقوال المرجئة أيضاً تتفاوت، فالمرجئة الغلاة يرون أن مرتكب الكبيرة ما دام مؤمناً بالله عز وجل فهو مؤمن في الدنيا والآخرة، ولا يضره أي ذنب يفعله ما دام مؤمناً، وهو في الآخرة مضمونة له الجنة، حتى وإن ارتكب من الكبائر ما ارتكب.
أما مرجئة الفقهاء فيقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا عاص، وقولهم شبيه بقول أهل السنة والجماعة عموماً، وإن كان المتأخرون منهم تساهلوا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل معه، وأما الأوائل فإن رأيهم في مرتكب الكبيرة في الدنيا قريب من رأي أهل السنة والجماعة، وإن كان عندهم نوع تساهل، ومن ذلك أن بعضهم يدخل بعض الأمور المكفرة المخرجة من الملة في مسمى الكبائر، فلا يرون أن مرتكبها يخرج بها من الملة مادامت عملية، وهذا من أهم الفوارق في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا بين أهل السنة والمرجئة عند التفصيل، فهم عند الإجمال يقولون بقول أهل السنة والجماعة، لكن عند التفصيل فإن الكبائر المكفرة عندهم ما دامت عملية لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها مؤمناً، ويكون حكمه حكم المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا فيه نظر؛ فإن الكبائر المخرجة -كالشركيات والبدع المغلظة- يخرج بها المؤمن من مسمى الإيمان إلى الردة والكفر، أما في الآخرة فإن مرجئة الفقهاء يقولون بقول أهل السنة والجماعة في الجملة.
قال رحمه الله تعالى: [فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).
وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذاك نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة.
وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبراً لقوله: (وأهل الكبائر)، كما ظنه بعض الشارحين].(77/5)
الخلاف في عدد الكبائر وحقيقتها
قال رحمه الله تعالى: [واختلف العلماء في الكبائر على أقوال، فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً، أو: إنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال].
هذا هو أجمع الأقوال، خاصة إذا أضيف إليه الإصرار على الصغيرة، فالكبيرة ما يترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اللعنة أو الغضب من الله عز وجل، وكذلك ما يشابهه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، (من تشبه بقوم فهو منهم) إذا كان التشبه يتعلق بالأمور العقدية والعبادية ونحوها، وكذلك البراءة من الفاعل ونحو ذلك، فالمهم أن الألفاظ التي يفهم منها الوعيد بأي وجه مع الإصرار على الصغائر نستطيع أن نفرق بها بين الكبيرة والصغيرة وإن لم تكن حدية قاطعة، لكنها أحسن الضوابط، تجمع الفروق بين الصغيرة والكبيرة بشيء من الدقة.
قال رحمه الله تعالى: [واختلفت عبارات قائليه: منهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة].
المقصود بذلك الحدود في الدنيا، وحد الآخرة الذي هو الوعيد بالنار ونحو ذلك، كالوعيد بعذاب القبر.
قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة والغضب].
ضوابط الصغيرة هنا تعود إلى ضوابط الكبيرة، فإذا قلنا: إن ضوابط الكبيرة هي تلك الضوابط؛ فالصغيرة ما دون ذلك، وهذا ما أراد أن يقرره، لكن فصله مرة أخرى على وجه كان ينبغي أن يقرره على القاعدة الأولى، فيقول: ما دون ذلك فهو صغيرة، وينتهي الإشكال.(77/6)
وجوه ترجيح القول بأن الكبيرة ما وجب فيه حد أو ورد فيه وعيد
قال رحمه الله تعالى: [وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك؛ كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وأمثال ذلك.
وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـ ابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم.
الثاني: أن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب؛ فهو حد متلقى من خطاب الشارع.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال.
فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية.
ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر! وهذا فاسد.
ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات ليس من الكبائر! وهذا فاسد.
ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو: إنها مبهمة؛ فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم].(77/7)
أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى إذا لقوه مؤمنين غير تائبين
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين) لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب.
وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل كما تقدم؛ فإن إبليس عارف بربه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
وكذلك فرعون وأكثر الكافرين، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84 - 85] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء، التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم.
وقوله: (وهم في مشيئة الله وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله) إلى آخر كلامه، فصل الله تعالى بين الشرك وغيره؛ لأن الشرك أكبر الكبائر، كما قال صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى، ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله قبل التوبة.
وقوله: (ذلك أن الله مولى أهل معرفته) فيه مؤاخذة لطيفة، كما تقدم].
أشار إلى المعرفة؛ لأن مسألة المعرفة ليست هي الكافية في إثبات الإيمان، وليست هي دلالة الولاية، ففيها مأخذ من حيث موافقتها لمرجئة الجهمية؛ لأنهم يعدون الإيمان هو المعرفة، وأن الولاية تتم بالمعرفة، وكذلك لموافقتها عبارة المتصوفة؛ لأنهم يعبرون عن الأولياء بأهل المعرفة، وهذا التعبير فيه تساهل شديد، ولا شك أن أغلب أهل التصوف من مرجئة الجهمية.(77/8)
حاجة المسلم إلى سؤال الله تثبيته على الإسلام
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام) وفي نسخة: (ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به): روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: (كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ولي الإسلام وأهله، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه)، ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة، وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه، حيث قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه، حيث قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه؛ فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت، ولا بالموت الآن، والفرق ظاهر].
ينبغي للمسلم دائماً أن يعود نفسه ويعود من حوله ومن تحت ولايته وأن يذكر المسلمين دائماً بضرورة الإكثار من الدعاء بالتثبيت، لاسيما عند الفتن وعند كثرة البدع والضلالات وكثرة الفسوق والفجور كما هو حاصل في حال المسلمين اليوم، فينبغي للمسلم دائماً أن يتحرى مثل هذا الدعاء: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك، وغيره من الأدعية التي يجب أن يكثر بها المسلم من اللجوء إلى الله عز وجل بأن يثبته ويعصمه من الضلالة والفتن وأن يميته على الإسلام.(77/9)
الأسئلة(77/10)
الفرق بين الصفة والخبر
السؤال
ذكرت في الدرس الماضي الكلام حول الهرولة فقلت: إن هذا من قبيل الإخبار، فما الفرق بين الصفة والإخبار؟
الجواب
الخبر أوسع من الصفة فيما يتعلق بالله عز وجل، والإخبار عنه على درجات: أخصها الأسماء، فالأسماء توقيفية، ثم بعد ذلك الصفات، والصفات كذلك توقيفية، لكنها أوسع من الأسماء؛ ذلك أن الأسماء يشتق منها صفات، وهناك صفات أخرى أوسع من الأسماء، فالصفات أكثر من الأسماء، ثم الأفعال، فأفعال الله عز وجل منها ما هو متعلق بأسمائه، ومنها ما هو متعلق بصفاته، ومنها ما هو أفعال لا نجزم بأنها يمكن أن تطلق على الله صفات مستقلة، والإخبار أوسع من هذا كله، فالخبر هو الإخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذلك الإخبار عن جزاء العباد والإخبار عن أمور تتعلق بخلق الله وتدبيره وأمره ونهيه، وهذه الأمور بابها واسع جداً، فأوامر الله ونواهيه وأفعاله ومشيئته وخلقه جملة وتفصيلاً كل هذه تتعلق بالأفعال، ولذلك ليس كل خبر نستنتج منه صفة، ولذلك اختلف العلماء في مسألة الهرولة، هل هي صفة تثبت مستقلة أو تثبت على سياقها في الحديث؟ والخلاف في مسألة الملل أكثر منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)، ومثلها التردد، هذه أخبار عن أفعال الله عز وجل تتعلق بخلقه، فهذه الأفعال بعضها معلوم لدى المخاطبين، وبعضها قد يلتبس، وبعضها غيبي، فعلى هذا ليس كل خبر عن أفعال الله عز وجل في خلقه يعتبر صفة؛ لأن الصفة على كل الأحوال تلزم مفردة بصرف النظر عن السياق، في حين أن كثيراً من الأفعال والأخبار ترد بالسياق حسب مقاماتها وحسب المفهوم من السياق، فمثلاً: الهرولة الواردة في الحديث: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) يفهم منها المجازاة لا شك، فواضح أن المقصود أن الله عز وجل يجازي عبده على فعله، وإن كنا لا نجعل مفهوم الهرولة كله ينصرف إلى المجازاة، لكن نفهم المقصود من إطلاق الهرولة، وعلى هذا لا نستطيع أن نجزم بأنها صفة تثبت بدون سياقها، وكذلك صفة المقت لا نستطيع أن نثبتها إلا مقيدة، وكذلك نقول: إن الله عز وجل يمكر بالماكرين: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، وكذلك الاستهزاء، وكل هذه الأمور بعضها من باب الخبر، وبعضها فعل، وبعضها صفة، فعلى هذا يكون الفرق بين الصفة والخبر أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات، فليس كل الأخبار نستطيع أن نستنج منها صفات، كالتردد في قبض روح المؤمن، والاستهزاء بالمنافقين، والمكر بالكافرين.(77/11)
بيان معنى قول الطحاوي (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)
السؤال
ما معنى قول الطحاوي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)؟
الجواب
أي: يرى أنه حلال، أو يعتقد عدم تحريمه بما يخالف قطعية النص، فالمقصود بالاستحلال: اعتقاد عدم تحريمه، سواءً فعله أو لم يفعله، فمن اعتقد أن الربا حلال فقد كفر، سواء أكل الربا أو لم يأكله.
وليس المقصود بالاستحلال مجرد الفعل، إنما المقصود بالاستحلال اعتقاد ما يخالف القطعي في الدين.
لكن الغالب أن الاستحلال يرجع إلى المحرم، وأحياناً يطلق السلف كلمة الاستحلال لاعتقاد خلاف الشرع في الحلال والحرام وغيرهما.
فلذلك توقف بعض أهل العلم عن هذه العبارة، كثير من شراح الطحاوية والذين يدرسونها يتوقفون عند هذه العبارة ويرون أنها تستبدل؛ بأن يقال: ما لم يعتقد خلافه، أو ما لا يعتقد خلاف الحق، أو بما لا يرد به النص، أو بما خالف الإجماع أو نحو ذلك.
ثم ذكر من يقر بعض الأمور الكفرية التي تخالف الإسلام ويحميها، هل يعتبر مستحلاً لها؟
و
الجواب
لا يلزم أن يكون مستحلاً لها، فالاستحلال -كما ذكرنا- هو اعتقاد أن المحرم ليس بمحرم، أما مجرد الفعل والانتهاك سواء في الربا أو غيره فهذا من عموم الذنوب، ومثله من يقر عملاً كفرياً، أو يدافع عنه بهوى، لكنه لم يستحله اعتقاداً، أي: لم يخالف ما جاء في تحريمه أو تحليله، فإنه بذلك يكون مرتكباً لكبيرة مهما فعل، ما دام أنه لم يعتقد خلاف الحق، أما مجرد الأكل والانتهاك والحماية وغير ذلك فإنه يعتبر من الكفر العملي إن كان كفراً وإلا فيعتبر من الكبائر العادية، وإن كانت الكبائر تتفاوت بلاشك.(77/12)
تعليق على السؤال عن الشر الجزئي والكلي وعن اعتبار العقيدة قاعدة وثلاث نتائج
السؤال
ما معنى الشر الجزئي والشر الكلي، وما صحة القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، وما معنى القول بأن الشر ليس في الشرع، ولكن في تأخر الخير عن الشر؟
الجواب
هذا السؤال من الأسئلة التي أعتذر عن الإجابة عن مثلها، وأنصح السائل ألا يعلق نفسه بمثل هذه الأمور.
وأما ما يتعلق بجواب هذا السؤال فالسؤال نفسه يحتاج إلى عدة أسئلة تبينه، فما معنى الشر الجزئي والشر الكلي؟ هذا كلام مبهم، وكذلك القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، فالذي قال هذا ماذا قصد بالقاعدة؟ فإن كانت القاعدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والثلاث المسائل تتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان؛ فهذا صحيح.
فلذلك مثل هذا السؤال من المحارات التي يضر تعلق النفس بها، فهي إما تكلف، وإما تقليد للغير، وإما نوع من الطموح إلى المثاليات الفكرية الوهمية، ومع ذلك نعتذر عن الجواب عن مثل هذا السؤال؛ لأنه لا يزال غامضاً يحتاج إلى شرح.
وأنصح السائل وجميع الإخوان ألا يتعلقوا بمثل هذه الأسئلة التي لا يتعلق بها اعتقاد ولا عمل، وليست من متعلقات العقيدة، ولا من أمورها الكمالية فضلاً عن الضرورية.(77/13)
شرح العقيدة الطحاوية [78]
الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين صحيحة، كما أنه تشرع الصلاة على كل من مات من أهل القبلة دون السؤال عن معتقده أو امتحانه، فالصلاة خلف مستور الحال من المسلمين جائزة ما لم يظهر منه شرك أو بدعة مغلظة، والأفضل والأولى أن يصلي الإنسان خلف البر فهو أولى من الصلاة خلف الفاجر.(78/1)
عقيدة أهل السنة في الصلاة خلف أهل القبلة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة.
وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم، بر أو فاجر، وإن هو عمل بالكبائر، والجهاد واجب مع كل أمير، بر أو فاجر، وإن عمل الكبائر).
وفي صحيح البخاري رحمه الله: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً.
وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها].(78/2)
صور الصلاة خلف الأئمة وأحكامها
في بداية هذا المقطع أحب أن أشير إلى أن الصلاة خلف أئمة المسلمين لها عند السلف أحكام تفصيلية، ذكر منها الشيخ ثمان صور أو تسع صور كل صورة لها حكم، ويمكن أن نوجز هذه الصور بما يلي: فالصلاة خلف الإمام تختلف في حكمها بين الصلاة خلف الإمام الأعظم -الخليفة أو السلطان، أو من ينوبه-وبين الصلاة خلف الإمام الذي دون ذلك.
فأكثر الأحكام التي توجب الصلاة مطلقاً خلف كل إمام براً كان أو فاجراً تتعلق بالصلاة خلف الإمام الأكبر، أو الإمام المعين من قبل السلطان والإمام الأكبر، فهذا لا يجوز ترك الصلاة خلفه بحال من الأحوال.
ثانياً: أن من لم يعلم عنه البدعة -وهو مستور الحال- تجب الصلاة خلفه أيضاً مطلقاً، والسؤال عن حاله أو الشك في الصلاة خلفه بدعة.
وكل هذه قطعيات ليس فيها إلا استثناءات نادرة جداً ينبغي ألا يعول عليها؛ لأن الاستثناءات ينبغي ألا تسبق القواعد، فتجب الصلاة خلف من لا يعرف عنه بدعة، وكذلك مجهول الحال، فضلاً عن أن يكون إماماً معتبراً هذا أمر بدهي.
ثالثاً: صاحب البدعة غير المغلظة، وكذلك صاحب الكبيرة -كالظالم والفاسق- إذا كان والياً من ولاة المسلمين، أو معيناً من قبل أئمة المسلمين تشرع الصلاة خلفه إذا كان صاحب بدعة غير مغلظة، أو فاسقاً أو فاجراً أو ظالماً، سواءً كان سلطاناً أو عينه السلطان، فالصلاة خلفه مشروعة وواجبة إذا ترتب على البحث عن غيره مفسدة.
وكذلك صاحب البدعة الذي لا يدعو إلى بدعته يدخل في هذا الحكم.
رابعاً: صاحب البدعة المغلظة إن كان سلطاناً يصلى خلفه، وللسلف قولان في كونها تعاد أو لا تعاد، والراجح: أنها إذا كانت مغلظة مكفرة صلى خلفه، ثم تعاد الصلاة سراً.
ولذلك قيل: إن بعض السلف كانوا يصلون خلف المأمون ثم يعيدونها؛ لأنهم يرونه صاحب بدعة مغلظة داعياً إلى بدعته؛ لأنه قال بخلق القرآن وانتصر لذلك ودعا إليه، فكان بعض السلف يصلون خلفه لأنه إمام المسلمين ثم يعيدون الصلاة.
وهذه المسألة خلافية، ومبنى الخلاف على أن هناك من قال بأن المأمون لا يكفر بفعله؛ لأنه ملتبس عليه الأمر، والالتباس في تصرفاته واضح، يعني: لم يكن جازماً، وبعضهم يقول بأنه متأول، والمتأول لا يكفر وإن كانت بدعته مكفرة، فإذا كان كذلك فالأولى عدم إعادة الصلاة خلفه.
فإن قيل: ما الفرق بين ابن أبي دؤاد وبين المأمون وبدعتهما واحدة؟ ف
الجواب
أن ابن أبي دؤاد جهمي معتزلي خالص، والمأمون كان معتزلياً في هذه المسألة، وليس في أصول المعتزلة كلها، فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بالتوحيد، ولا يقول بالعدل، وإنما كان يقول بخلق القرآن، ومع ذلك كان متردداً، حتى إنه رجح قول المعتزلة ترجيحاً، لكن أثناء المناظرات ظهر تردده والتباس الأمر عليه، فهو متأول، ففرق بين المأمون وابن أبي دؤاد، فـ ابن أبي دؤاد رأس ضلالة ورأس بدعة ومعتزلي خالص، وكان جهمياً تالفاً.
أما المأمون -وإن كان مبتلى بهذا الكلام عفا الله عنا وعنه- فإنه مع ذلك إمام المسلمين ومن أهل السنة، وليس بدعياً خالصاً، بمعنى: أنه لا يعد من أهل الاعتزال الخلص، ولا من الجهمية الخلص.
وقد كان الإمام أحمد يستغفر للمأمون، ولاشك أن الإمام أحمد عامل المأمون على أنه إمام مسلم ويجب عليهم السمع والطاعة له، ويصلى خلفه، هذا مما لا شك فيه، ومن خالف في شيء من هذا فلا يعني أنه خالف في الأصل، فالأصل عند أهل السنة واضح.
خامساً: أن صاحب البدعة وصاحب الكبيرة إذا لم يكن سلطاناً أو معيناً من قبل الولاة؛ فإن وجد من هو أفضل منه فيجب العدول عنه إلى الأفضل، ما لم يترتب على ذلك مفسدة.
ففي أحيان كثيرة يكون الإمام عادياً يختاره جماعة، ولا تعلم السلطة، كما يحصل في بعض البلاد الإسلامية، فهذا هو الذي يجب فيه العدول عن المفضول إلى الفاضل.
وفي واقع حالنا الآن أغلب الأئمة يعينون من قبل جهة رسمية، فلا بد من اعتبار ذلك، فهم معينون من قبل ولي الأمر؛ لأن تعيين الإمام يكون من قبل الجهة المختصة من الوزارة المختصة بالمساجد ووزارة الشئون الإسلامية، وعلى هذا فأغلب الأئمة المعينون من قبل ولاتهم لا يتأتى العدول عن واحد منهم إلا بالتفاهم مع الجهات المسئولة، لكن الشخص إذا لم يرغب في الائتمام بأحدهم فهناك مساجد كثيرة، يعني: لا حرج عليه إذا رأى كبيرة ظاهرة في إمام من الأئمة أن يعدل عنه إلى إمام آخر ما لم يترتب على ذلك فتنة، فهذا أمر عادي ليس فيه حرج، لكن ليس لأحد أن ينصب دون ولاة الأمور، فما دام هناك جهات مسئولة فلا بد من الرجوع إليها.
ونحن نعلم أنه -بحمد الله- في هذا البلد يختار الأئمة بشكل جيد، ويندر أن يكون في بعضهم الصفات المحذورة، فلا بدع ولا كبائر، إلا النادر والنادر لا حكم له.(78/3)
مجمل القول في صلاة المرء خلف الإمام
قال رحمه الله تعالى: [اعلم -رحمك الله وإيانا- أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال].
لا يجوز امتحان الأئمة، بمعنى أنه يكون مستور الحال فتمتحنه وتسأله في العقيدة، فهذه بدعة، فما دام أنه يصلي في جماعة يعرفونه، وألفوه ورضوه؛ فلا يجوز أن تمتحنه، إلا أن تكون من أهل الحسبة أو من أهل الولاية ممن لهم سلطة.
ويلحق بهذه المسألة التوقف والتبين كما يفعل جماعة التوقف والتبين الذين بدءوا يظهرون بدعهم، يقول أحدهم: أنا أتوقف في الصلاة خلف أي إمام حتى يتبين لي الحال، حتى إن بعضهم يعد في البلد الواحد الكبير أو في المدينة الكبيرة أربعة أو خمسة أشخاص يصلي خلفهم، والبقية لا يعرف حالهم، وهذه بدعة من بدع الخوارج.
قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه -كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك-؛ فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر؛ فهو مبتدع عند أكثر العلماء.
والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟! فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟! فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه؛ فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية، ولم تفت المأموم الجمعة ولا الجماعة].
كل هذا لا يتأتى إلا للمطاعين من الأئمة الكبار والعلماء المعتبرين، فلا يأتي طويلب علم ويطبق هذه القاعدة وهو مجهول مغمور، فلا ينفع فعله هذا بل قد يضر؛ لأن بعض الناس قد يجتهد ويقول: أنا أترك الصلاة خلف هذا الرجل من أجل أن يعرف الناس أنه صاحب بدعة وكذا وكذا، فنقول: إذا كنت إماماً متبوعاً وكلمتك مسموعة، وعملك هذا لا يؤدي إلى فتنة، فهذا لا حرج فيه.
إذاً: يشترط في مثل هذا أن يكون من إمام متبوع يطاع ويعتبر فعله وقوله وتصرفه، ويؤدي فعله هذا إلى نتيجة ولا يؤدي إلى فتنة ولا مفسدة.
قال رحمه الله تعالى: [وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة؛ فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الأفضل أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه].
يعني: كأن توليه السلطة أو الدولة، فلا يجوز للفرد أن يغيره إلا عن طريق الجهة المسئولة.
قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر؛ فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة].
هذه قواعد عظيمة يجب أن يدركها طلاب العلم، خاصة في الأزمان التي يقل فيها فهم هذه الأمور، فيجب أن تدرك وأن تشهر للناس؛ لأن الناس في وقتنا هذا بدأ خلطهم في هذه الأمور، واضطرابهم وعدم إدراكهم لفقه القواعد الشرعية، وهذه قواعد عظيمة عليها عمل السلف، حتى وإن وجدت بعض الشذوذات تخالفها، فلا اعتبار بذلك.
أعني: من أراد أن يتلقف من أقوال السلف وأفعالهم ما يخالف هذا فسيجد، لكنها أفعال قليلة(78/4)
الأسئلة(78/5)
حكم العدول عن الصلاة خلف المقصر في الالتزام بالشعائر
السؤال
يوجد في بعض الأحيان مساجد لها أئمة متفاوتون في الالتزام بالشعائر، مثل: إعفاء اللحى وغير ذلك، فهل الأفضل العدول عمن كان كذلك إلى مسجد قريب؟ وكذلك لو كان في المسجد الآخر بعض المظاهر التي تذهب الخشوع، مثل صغر المسجد وكثرة الصبيان ونحو ذلك؟
الجواب
هذه الأمور إذا ما كانت متعلقة باعتقاد باطل فلا حرج؛ لأن المساجد كثيرة، فإذا كان هناك مسجد ليس ببعيد، ويرى أن الصلاة فيه أفضل باعتبارات، كالخشوع، أو لقلة المصلين، أو قلة الفوضى، أو البعد عن الشوارع العامة التي فيها الحركة والفوضى، أو لأمر يفضل فيه هذا الإمام على الإمام الآخر فيما يتعلق بزيادة إيمانه، وزيادة يقينه، وزيادته في الخير؛ فلا حرج في ذلك ما لم يترتب على هذا مفسدة.
وإن كان هذا الشخص الذي ينتقل إلى مسجد أبعد من مسجده يعتبر عمدة في المسجد، أو له اعتبار، أو ينظر الناس إلى تركه لهذا المسجد بسوء الظن في الإمام، أو كان انتقاله سيؤدي إلى الشك، أو إلى أمر فيه مفسدة، كاختلافهم مع الإمام ونحو ذلك؛ فهذا لا ينبغي في الحقيقة، وإن كان ليس هناك أي شيء يترتب على هذه الأمور؛ فيبقى الأمر باعتبار الأصلح في حق الشخص نفسه.
ومع ذلك أرى أن هذا نادر جداً، يعني: أن يكون الإمام على ما ذكره السائل، ويجب أن ينصح.(78/6)
حكم تكفير الحجاج ومدى صحة قتله لسعيد بن جبير
السؤال
ما حكم تكفير الحجاج، وهل ورد من بعض السلف تكفيره وهل صح ما نسب إليه من قتل سعيد بن جبير وغيره؟
الجواب
ما أعرف أن أحداً من السلف كفر الحجاج، فقد يطلق على بعض أعماله الكفر، وهذا معروف، فبعض الأعمال قد يفسرها بعض السلف بأنها كفر، ولا يعني ذلك أنهم أطلقوا عليه أنه كافر، بل هو كفر معصية.
أما قتله لـ سعيد بن جبير فمعروف، فـ سعيد بن جبير رضي الله عنه اجتهد فخرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، وخرج كثير من الأئمة في وقته فناصحوه، خاصة الأئمة الكبار أمثال: الحسن البصري، ومطرف وغيرهم من الأئمة الكبار، نصحوا سعيد بن جبير ونصحوا غيره، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد، فخرج فاتخذ الحجاج في خروج سعيد بن جبير ذريعة لقتله، ولا شك أن قتله كان بعدما انتهت الفتنة، وبعد العهد بها، فقتل الحجاج له بعدما رجع واختفى معناه أن سعيد بن جبير قتل مظلوماً، لكن الذريعة التي اتخذها الحجاج هي خروجه عليه، مع أن سعيد بن جبير ما خرج على عبد الملك بن مروان، إنما تأول في ضرورة دفع ظلم الحجاج، فتأوله ما وافقه عليه غيره هو ومن شاركه، ما وافقهم السلف على ذلك، بل إن بعد هذه الفتنة -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، والذهبي - عرف السلف أنه لا جدوى من استعمال القوة لدفع الظلم، وأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة الصبر والمناصحة أمر قاطع لا محيد عنه، وأنه لا يجوز لمن ليس له ولاية أن يحمل السيف على الوالي وإن كان ظالماً وفاجراً، والحجاج كان والياً، لكنه كان ظالماً جباراً كما هو معروف.
فـ سعيد بن جبير رحمه الله تأول وأخطأ، والأئمة الذين سلموا بعد الفتنة وبقوا أحياءً رجعوا عن ذلك وتابوا وعرفوا أنهم أخطئوا، وإن كان الحجاج ظالماً جباراً، وفرق بين هذا وهذا.
فالخروج لا يسوغ بمثل هذه الأمور مهما كان الظلم والجبروت من الوالي، فلا يجوز الخروج بحال ما يحل الأمر بالطرق الشرعية، ولا يصيب الناس من هذه الأمور شيء من الظلم والجور إلا بذنوبهم، ولو استقاموا وأصلحوا ما بينهم وبين ربهم لما ولى عليهم والياً ظالماً أبداً.(78/7)
حكم الخروج على الحاكم لعمله الكفري
السؤال
هل العمل الكفري يسوغ الخروج؟
الجواب
العمل الكفري لا يسوغ الخروج؛ لأن أغلب الأعمال الكفرية كبائر، هذا شيء.
الشيء الآخر: قد يقصد بالعمل الكفري الشرك أو نحوه، لكن هذا لا يحكم به على المعين، قد يصدر من كثير من الناس أعمال كفرية، ولاة وغير ولاة، لكن لا يكفرون بذلك ولو كانت أعمالهم كفرية؛ لأنه فرق بين الحكم بالكفر، وبين تكفير المعين، ولا يجوز الخروج بالسيف على من ظهر منه الكفر العملي أبداً.
فلذلك ينبغي أن تحرر هذه الأمور جيداً، وأن تعرف مذاهب السلف ومقاصدهم في هذه الأمور.(78/8)
إرجاء عمر بن ذر
السؤال
ما نوع الإرجاء عند عمر بن ذر؟ وهل هو من الوعاظ؟
الجواب
عمر بن ذر قال بمثل قول أبيه بأن الإيمان قول، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإرجاؤه هو إرجاء الفقهاء المشهور الذي كان عليه أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، فإرجاؤه إرجاء الفقهاء وهم المرجئة الأوائل الذين يقولون بأن الإيمان هو القول، أو التصديق والقول، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.(78/9)
وجه الاستدلال بقوله تعالى: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) على زيادة الإيمان
السؤال
ذكر الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في كتابه: (أعلام السنة المنشورة) قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] مستدلاً به على زيادة الإيمان ونقصانه، فما وجه ذلك؟
الجواب
الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه لو كان الإيمان التصديق فقط لما كان محبباً ومزيناً في القلب؛ لأن التصديق أمر لا يقبل أكثر من مجرد الإقرار، فإذا قبل أكثر من الإقرار مثل التحبيب والتزيين فإنه يكون قابلاً للزيادة والنقص؛ لأن المحبة أمر زائد على التصديق، وأيضاً: تزيين الإيمان في القلب أمر زائد على التصديق، هذا ما يظهر لي، والله أعلم.(78/10)
بيان درجة الزيادة على ما ثبت عن رسول الله من نوافل العبادة في الأفضلية
السؤال
يروى عن بعض السلف أن الواحد منهم كان يصلي في الليل أكثر من ثلاثمائة ركعة، وقد يقرأ القرآن في اليوم مرتين، فهل لمثل هذا العمل أثر في الولاية، أم ينبغي للإنسان المحافظة على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
السؤال تضمن الجواب، فلاشك أنه ينبغي أن يحافظ على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما اجتمع عليه أصحابه من الاعتدال في العبادة وفي كل شيء، ومن ذلك الصلوات وقراءة القرآن والقيام والصيام، وقد يكون بعض الناس عنده ميل إلى الزيادة في بعض العبادات، وربما يكون عنده من الظروف ما يجعله يعمل ببعض العبادات نظراً لأنه -مثلاً- قد لا يقدر على الكسب، أو في بعض أمور حياته يحتاج إلى إشغال وقته بمزيد من الطاعات، فهذه أمور خاصة، لكن الإنسان السوي المعتدل ينبغي أن يوازن بين أموره في دينه ودنياه.
فلا بد أن يسهم في أمور الدنيا بما ينفع الأمة، كما أنه ينبغي أن يأخذ من العبادة بالقدر الكافي الذي يوافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا نجد أن عامة الصحابة كانوا على الاعتدال، لكن قد يوجد إنسان عنده مزيد من الوقت والفراغ لأمر معذور فيه، فقد يكون من المعذورين في الجهاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نحو ذلك، فإذا كان عنده شيء من هذا مما يقعده أو يعجزه عن أن يقوم بواجباته التي تقوم بها حياة الأمة؛ فقد يعذر في شغل وقته بالعبادة من صيام أو قيام أو قراءة قرآن أو لزوم صلاة أكثر مما هو معهود في السنة؛ لأنه ما دام لم يتعبد بذلك ولم يوجبه على الآخرين، وإنما أراد مجرد التطوع والنافلة؛ فهذا لا حرج عليه.
أما الإنسان السوي الذي عنده من المواهب والقدرات ما يستطيع أن يعمل به لدينه ودنياه؛ فيجب أن يوازن بين الأمرين، ولذلك نجد أفاضل الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل الاعتدال والاستقامة كان عندهم شيء من الموازنة بين الأمور، والله أعلم.(78/11)
شرح العقيدة الطحاوية [79]
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المعين من أهل القبلة لا يحكم عليه بجنة ولا نار إلا من ثبت النص في حقه، وقد اختلفت أقوال السلف في تحديد من يشهد لهم بالجنة، أما الشهادة بالكفر أو بالنار على المعين من أهل القبلة فإنه لم يثبت عن أحد من السلف، خلافاً للخوارج وغيرهم من فرق المبتدعة.(79/1)
أثر نسيان الإمام وخطئه على صلاة المأموم
قال رحمه الله تعالى: [وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ، ولم يعلم المأموم بحاله؛ فلا إعادة على المأموم، للحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد الصلاة، ولم يأمر المأمومين بالإعادة، ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة أعاد عند أبي حنيفة خلافاً لـ مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم، وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع].
لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم فالراجح: أنه لا يجوز له أن يعيد الصلاة؛ لأن المسألة فيما يسوغ وما لا يسوغ، المسألة في الأمور الخلافية، وإلا ففيما أعلم أن القاعدة عند السلف أنه إذا صلى المأموم خلف إمام يخالفه في بعض الأمور الفقهية، ثم إن هذا الإمام عمل أموراً يرى هذا الذي صلى خلفه أنها فيها نظر -يعني: ليست من الأمور التي تبطل الصلاة، أو تبطل الصلاة عنده، لكنها اجتهادية بين أهل العلم- فلا يجوز له أن يعيد الصلاة، وسيأتي أمثلة لهذا.
فالأمور الاجتهادية لا يجوز للمأموم أن يعيد بسببها الصلاة فيما خالفه فيه إمامه، ولو كان في أمر يرى أنه يبطل الصلاة ما دام من الأمور الاجتهادية، وهذا هو الراجح حفاظاً على معنى الجماعة، وتجنباً للفرقة.
[ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه، لأنه لاعب وليس بمصل].
هذه محل إجماع وليست من الأمور الخلافية.(79/2)
وجوب طاعة ولي الأمر في مواضع الاجتهاد
قال رحمه الله تعالى: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية].
هذه قاعدة عظيمة، ومن القواعد التي يحتاجها المسلمون في كل مكان وفي كل زمان، ولو امتثل المسلمون هذه القاعدة لانحل كثير من الخلافات بينهم، ولما وجد كثير مما يوجب النزاعات وشحناء القلوب والفرقة واضطراب الأمور عند المسلمين فيما بينهم، لا سيما في وقتنا هذا، حيث نرى بعض مظاهر المخالفة لهذه القاعدة قد تؤدي أحياناً بمجتمعنا وبكثير من المجتمعات الإسلامية إلى أمور مفاسدها تضر بالإسلام والمسلمين، وتضر بالأمة في مجموعها فضلاً عن ضررها اللاحق بالمتنازعين.
فكثيراً ما نجد بعض المجتهدين في الحسبة أو غيرها قد يصدر عمن يعد مسئولاً أو يعد مرجعاً لهم ما لا يعجبهم من الأحكام أو القرارات، فتجد الواحد منهم متذمراً، وربما يحتال بكل حيلة للخروج من هذه الأوامر، وربما يعلن المعارضة ويفت في عضد من حوله ممن يعملون لمصلحة الإسلام والمسلمين.
أقول: إن هذه الأمور موجودة -مع الأسف- عند بعض المنتسبين إلى الخير، فقد لا يعجبهم رأي يصدر عن شيخ لهم أو عن مسئول، أو عن مرجع، فلا يعملون بهذه القاعدة، بل يعملون بالعكس، فربما ينكرون الإشكالات بدعوى أن هذه أمور تؤدي إلى مفاسد، وربما تفسر كثير من الأعمال والقرارات وغيرها بتفسيرات فيها حكم على القلوب ونحو ذلك.
فلنتأمل هذه القاعدة، وأرى أنه يجب علينا جميعاً أن نمتثلها، وأن نعود أبناء المسلمين على مثل هذا الأمر فإن مصلحة الجماعة مقدمة، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، فيجب أن نتعود ونعود من حولنا على مسألة الطاعة لمن اجتهد في موارد الاجتهاد.
فالشارح يقول بأن إمام الصلاة، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، ويقاس عليهم كل مسئول تحت إدارته من يعمل من المسلمين يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف خير من الفرقة، وهذه القاعدة العظيمة كثيراً ما تحدث النزاعات بين المسلمين بسبب إهمالها أو تركها أو جهلها، فيحسن التركيز على مثل هذه القاعدة، خاصة في وقتنا الذي كثرت فيه الآراء والاجتهادات والنزاعات بين المسلمين، وكثرت الفرقة والاختلاف والنزاع في مثل هذه الأمور التي ينبغي أن يتعود فيها المسلم على الصبر، واحتمال الرأي المرجوح عنده ما دام صادراً ممن له ولاية عليه، بل يجب ما هو أكثر من ذلك؛ لأن المسلم إذا رأى أن كلامه يخالف هذه القاعدة -حتى لو لم يعمل ما يناقضه- فيجب عليه أن يسكت للمصلحة ودرء المفسدة.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.
ويروى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـ أبي يوسف: أصليت خلفه؟! قال: سبحان الله! أمير المؤمنين! يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع].
يظهر أن أبا يوسف يرى عدم جواز الصلاة بذلك، ويرى وجوب الوضوء بعد الاحتجام، ومع ذلك صلى ولم يعد الصلاة، ولما قيل له ذلك قال هذا الكلام العظيم، الذي هو قاعدة: سبحان الله! أمير المؤمنين! يعني: أترك الصلاة خلف أمير المؤمنين لمجرد مخالفة في أمر اجتهادي.
[وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراًً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد.(79/3)
اعتقاد الصلاة على من مات من أهل القبلة سوى من استثني
وقوله: (وعلى من مات منهم) أي: ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار].
يعني: من أهل القبلة من المسلمين، فيخرج بذلك الكفار الخلص، وقد يسمون فجاراً، فالمقصود أن أهل القبلة أبراراً كانوا أو فجاراً يجب أن يصلى عليهم وتشهد جنائزهم ويدفنوا في مقابر المسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه].
هذه فيها خلاف؛ فبعض أهل العلم قالوا: قد يكون أهل البدع المكفرة متأولة، وكذلك قطاع الطريق قد يكونون من الجهلة أو نحو ذلك، فهؤلاء يصلى عليهم، وبعضهم يرى عدم الصلاة، والمسألة خلافية.
قال رحمه الله تعالى: [خلافاً لـ أبي يوسف، لا الشهيد خلافاً لـ مالك، والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه.
لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور، لا للعموم الكلي.
ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق.
فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخصٌ نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه].
لذلك ينبغي التنبيه على مسألة كثيراً ما يرد عنها السؤال، وهي أنه إذا كان إنسان يعرف أن أحد المسلمين عمل عملاً يخرجه من الملة، يعني: يعرف أنه منافق خالص في النفاق، فهل يجوز له أن يعلن للناس أنه لا تجوز الصلاة خلفه؟ والصحيح: أنه ما دام مستور الحال فلا يجوز له الصلاة خلفه، ويجب ألا يتكلم، بل يترك الأمر على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وكان الصحابة يفعلونه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا علم نفاقاً في أحد تركه، ولم يقل للناس: لا تصلوا عليه.
أقول هذا لأنه كثيراً ما ترد أسئلة في هذا الموضوع، حيث يقول المرء: أنا أعرف أن فلاناً الميت فيه كذا وكذا، كأن يكون -مثلاً- تاركاً للصلاة بالكلية، أو نحو هذا، فهل أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ أقول: لا؛ بل نسكت عنه ما دام أن الناس لا يعرفون حاله، فدع الأمر على ما هو عليه، فيصلي عليه على أساس أنهم يجهلون حاله، وأنت ما دمت تعرفه لا تصل عليه، وإذا قال لك أحد ممن لا يعرفه: ما رأيك؟ تقول: أرى أنك لا تصلي عليه، مع أنه هذه المسألة مسألة خلافية، لكن أن تعلن أو أن تشهد أو أن تقول للناس: لا تصلوا عليه؛ فهذا لا يجوز، ولا ينبغي، وهو خلاف السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات إما واجب وإما مستحب، وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر، كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)].(79/4)
الحكم على المعين بكونه من أهل الجنة أو النار
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً): يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار].
يعني: على سبيل الجزم، ينبغي أن يفهم هذا؛ لأنه يجب أن نفرق بين الحكم العام، وبين الحكم على المعين أو للمعين.
أما الحكم العام بأن المؤمنين من أهل الجنة فهذا نجزم به إن شاء الله، ونشهد أن المسلمين والمؤمنين من أهل الجنة، هذا حكم عام قطعي، ولا شك فيه، وأن الكفار الخلص من أهل النار، وهذا أيضاً حكم قطعي يجب أن يعتقده كل مسلم.
ومن الأمور التي قد تخفى على كثير من الناس اليوم -بل اختلط فيها بعض من يدعون الثقافة والفكر والعلم أحياناً- مسألة الكفار الخلص، فالكفار الخلص لاشك أنهم من أهل النار، فاليهود والنصارى والمشركون والمنافقون الخلص والملاحدة من أهل النار جزماً، هذا الحكم العام، فنجزم بأنهم من أهل النار كما نجزم بأن المسلمين المؤمنين هم أهل الجنة، فالحكم العام أمر لا بد من اعتقاده.
لكن الحكم على المعين هو الذي يجب أن يتحرز فيه المسلم، وهو أن تقول: فلان ابن فلان من المسلمين من أهل الجنة جزماً، تعتقد ذلك وتقسم عليه، فهذا لا يجوز، وكذلك العكس، فلا تجزم بأن فلاناً ابن فلان -وإن كان كافراً خالصاً- من أهل النار، بحيث تتألى على الله عز وجل، أو تقسم على ذلك، فهذا مما لا يجوز.
إذاً: فرق بين الحكم العام الذي هو قطعي، وبين الحكم على المعين الذي هو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وقد ميز الله بين المسلمين والكفار، وبين من يستحق الجنة ومن يستحق النار، لكن يبقى التخصيص في المسلمين هل كلهم يدخلون الجنة من أول وهلة أم أن منهم من قد يدخل النار -وهم أهل الكبائر إذا لم يغفر الله لهم- ثم يخرجون من النار إلى الجنة؟ هذا أمر تفصيلي معلوم، لكن مصير جميع المسلمين في الجملة إلى الجنة، ومصير جميع الكفار في الجملة إلى النار، ويبقى المعين، فهذا أمر لا بد فيه من الاطلاع على الغيب، ولا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل، إلا من ورد ذكره بالنص، فمن شهد له الله عز وجل أو شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وجبت الشهادة له، ومن جاءت الشهادة له بالنار -عياذاً بالله- وجبت الشهادة له بذلك إذا ذكر تعيينه.
قال رحمه الله تعالى: [يريد أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء].(79/5)
أقوال السلف في الشهادة بالجنة للمعين
قال رحمه الله تعالى: [وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية، والأوزاعي.
والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث.
والثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون، كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر (وجبت) ثلاث مرات- فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ)، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار].
هذا على سبيل القرائن والعلامات، ولا نقول بالجزم، يعني: يعرف أهل الجنة بقرائن وعلامات، وترجى لهم الجنة بذلك، ويعرف أهل النار بقرائن وعلامات، ويخشى عليهم.
أما الجزم فإن هذه الأدلة لا تدل على الجزم، لكن ما ورد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذه القصة توقيفي لنعلم أنه لا يمكن أن يقوم أحد مقام النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الشهادة للمعين، فينبغي ترك الشهادة للمعين، وتبقى شهادة المؤمنين قرينة فقط، أما الجزم فلا نستطيع أن نجزم، فعلى هذا يكون الرأي الثاني هو الرأي الصحيح، وهو الذي تتجه إليه الأدلة، ودليل أصحاب القول الثالث إنما هو مظنة، والظن في هذه الأمور لا يصح.(79/6)
ما يعتقده أهل السنة من ترك الشهادة بالكفر على أهل القبلة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى): لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] الآية، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] الآية].
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف): قال الشارح في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)].
من أصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون على أحد من المسلمين بالكفر، ولا بالشرك ولا بالنفاق، إلا إذا تبين شيء من ذلك، يعني: توافرت شروط وقوع الكفر من الشخص وانتفت الموانع، وتوافر الشروط يزيد وينقص، أي: شروط وقوع الكفر بحسب حال الشخص، وبحسب الزمان وبحسب المجتهد.
فعلى هذا لا يتأتى لأكثر أفراد المسلمين أن يحكموا على أحد بالكفر؛ لأنهم ليسوا من أهل العلم، لأن شروط التكفير لا بد من إدراكها إدراكاً جيداً بفقه تراعى فيه قواعد الشرع، وتراعى فيه النصوص الشرعية، ويراعى فيه حال الشخص، ويراعى فيه أسلوب إقامة الحجة، ويراعى فيه معرفة إقامة الدليل وكيف يكون.
ثم لا بد أيضاً من معرفة تامة، فلا يمكن أن نحكم على معين إلا بعد أن تنتفي الموانع، فالإكراه قد يعذر به، والتأول قد يعذر به، والجهل قد يعذر به، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي لا يعرفها إلا أهل العلم.
ولذلك فإن مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي يجب ألا يتناولها إلا أهل العلم، ويجب أن نفهم أنا لسنا متعجلين بها، وأن عامة الناس وكثيراً من طلاب العلم ليس عليهم أن يبحثوا عن أحوال الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول، ليس عليهم ذلك، بل هذه الأمور ترجع إلى أهل العلم الراسخين، وأنهم ما تعبدوا بإشهار الكفر وإعلانه، وأن الحكم بالكفر حكماً عاماً أمر يختلف عن الحكم على المعين اختلافاً كبيراً، فكثير من الأمور التي يكون فعلها كفراً، أو قولها كفراً، أو اعتقادها كفراً؛ لا يحكم على من فعلها بأنه كافر، ولذلك نجد أن السلف كثيراً ما يطلقون الكفر على الحالات والأقوال والاعتقادات، لكن يندر جداً حكمهم بالكفر على المعين.
أقول: يندر جداً، بل إن بعض الأئمة لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً حتى وقت اشتداد الأهواء وشدة أهل البدع وتسلطهم على المسلمين، فإنا لا نعرف من الأئمة من حكم على المعين إلا في حالة نادرة، وكثير من أئمة الهدى -وما أكثرهم- لم يؤثر عنهم تكفير المعين.
إذاً: المسألة خطيرة، فلا تجوز الشهادة من طائفة أو جماعة على المعين بكفر ولا بشرك ولا بنفاق إلا بعد معرفة الأصول الشرعية بذلك، وليس كلما يعرف يقال، فليس كل من تناول هذه الأمور يستطيع أن يصل فيها إلى الحكم بالكفر القاطع، وبعض الأشياء لا يحكم بها الفرد، إنما لا بد من توافر اجتهاد المجتهدين، خاصة في الحالات التي تتعلق بالمصالح الكبرى، وفي الأمور التي ينبني عليها الحكم على جماعات أو أفراد أو أمم أو مجتمعات.
وكذلك قوله: (لا نرى السيف على أحد من محمد صلى الله عليه وسلم) هذه قاعدة عامة، تشمل الأفراد والجماعات والولاة وغيرهم، فلا يجوز رفع السيف إلا فيما أباحه الله عز وجل.(79/7)
الأسئلة(79/8)
مدى صحة الحكم على الكافر المعين بالنار
السؤال
هل يحكم على الكافر المعين بأنه من أهل النار؟
الجواب
في الجملة نعم، لكن ما يجزم عليه، الحكم العام غير الجزم وغير الشهادة، ولذلك إذا تكلم الناس عن معين أصل كلامهم في هذا الأمر ليس بمشروع، إذا مات كافراً وخاض الناس هل هو من أهل النار أو لا؟ أصلاً غير مشروع، إذا مات يهودي فقل: اليهود من أهل النار ولا داعي أن نحكم على المعين.
ولذلك لما هلك أحد زعماء اليهود منذ أشهر خاض الناس في المسألة خوضاً يدل على أن الناس بدءوا يجهلون البدهيات، ولا يجدون من يعلمهم، فبدءوا يتجادلون ويتعادون أحياناً، فبعضهم يقول: لا نشهد له بالنار، وبعضهم يقول: نشهد له بذلك جزماً! وهو يهودي، واليهود من أهل النار، لكن بعينه لا نتكلم فيه، فما أمرنا بهذا، وليس هذا من الأمور التي كلف بها العباد.(79/9)
شرح العقيدة الطحاوية [80]
من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم جواز الخروج على ولاة الأمر والحكام بالسيف وإن جاروا، ووجوب طاعتهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية، ومن رأى منهم منكراً أو ظلماً فليصبر على جورهم وظلمهم، ويدعو الله تعالى لهم، ويلزم جماعة المسلمين، ولا ينزع يده من طاعتهم أبداً.(80/1)
ما يعتقده أهل السنة من حرمة الخروج على الأئمة وولاة الأمر
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)].
هذه من القواعد المتفق عليها عند السلف، فهي تشمل عدة قواعد، وإن شاء الله نلخصها تفصيلاً في درس لاحق، لكن نجملها الآن حسب ما يظهر؛ لأن الشيخ أدخل بعضها في بعض.
فقوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا) هذا كلام على إطلاقه يشمل كل الأئمة الفجار منهم والأبرار.
أقول هذا؛ لأنه وجد من المتحذلقين الذين اغتروا بأقوال أهل الأهواء من لا يسمى إماماً من الولاة إلا من كان مستحقاً للإمامة، بمعنى أنه تقي صالح، وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصحيح.
فولاة الأمور يجب عدم الخروج عليهم، سواءٌ كانوا صالحين أو طالحين، سواءٌ كانوا أبراراً أو فجاراً، والسلف نصوا على هذا، وإن جاروا، فولي الأمر إذا حدث منه نوع من الظلم، أو أثرة، فيجب الصبر والمناصحة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتخذ الجور والظلم والأثرة ذريعة للخروج.
ثم قال: (ولا ندعو عليهم)، وهذه أيضاً مهمة جداً؛ لأن بعض الناس فهم فهماً خاطئاً في هذه المسألة، فالدعاء على ولاة الأمور لا يجوز؛ لأن ولاة الأمور ولاهم الله أمر المسلمين، فالدعاء عليهم ينعكس على الأئمة نفسهم، فلذلك إذا كان عند إنسان غيرة على دين الله، وإشفاق على الأمة وعلى المجتمع فيجب عليه أن يدعو لولاة الأمور؛ لأن في صلاحهم صلاح المجتمع، لكن الدعاء عليهم يزيد البلاء؛ فيجب على كل مسلم أن يدعو لولي الأمر بأن الله يهديه ويسدده ويصلحه ويوفقه، يدعو له بالدعاء المشروع سراً وعلناً، ولا ندعو عليهم، فالدعاء عليهم بدعة.
إذاً: فهذا أصل عظيم، وقد يتعلل البعض بأن الدعاء يكون للصالحين، وهذا جهل أو هوى، فليس الدعاء للصالحين فقط، بل أيهما أحق بالدعاء بالصلاح: الصالح أو غير الصالح؟! فالصالح تدعو له بالتسديد، لكن غير الصالح تدعو له بالصلاح، فيجب أن تفهم المسألة جيداً على أصول السلف وعلى مقتضى النصوص.
وقوله: (ولا ننزع يداً من طاعة) هذا أيضاً تأكيد لما سبق، وهو أخذ بنص الحديث الذي سيأتي.
وقوله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة) لأن الله أمر بذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أمراً صريحاً لا لبس فيه.
وقوله: (ما لم يأمروا بمعصية) أي: أنهم إذا أمروا بمعصية تعارض الشرع فلا يطاعون في هذه المعصية.
فهذه أيضاً مسألة مهمة، فبعض الناس يقول -وهذا أيضاً جهل أو هوى-: ما دام أن الوالي قد أمر بمعصية فأنا لا أطيعه مطلقاً! وهذا فهم منكوس، فلا تطعه في هذه المعصية التي أمرك بها، لكن في غيرها من الطاعات تطيعه، فلو أن والياً قال لك: لا تصل جماعة في المسجد من غير سبب ضروري، فإنه في هذه المسألة لا يطاع؛ لأنه أمر بمعصية إما عن جهل وإما عن تأول وإما عن ظلم، فالله أعلم.
وهذا افتراض مع أنه لا يحدث إن شاء الله، ولكن لو حدث فإنه في هذه المعصية لا يطيعه، لكن فيما عدا ذلك إذا أمر بأمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بمصالح الأمة في دين الناس أو دنياهم تجب طاعته طاعة لله عز وجل.(80/2)
الأدلة على وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية
قال رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، وعند البخاري: (ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)].
الظاهر أن هذا مخصوص، أعني: الأمر بالطاعة حتى ولو لم تتوافر فيه شروط الإمامة؛ لأنه ذكر أنه ولو كان مجدع الأطراف تجب طاعته، وهذا فيما يتعلق بإمام الغلبة، أو الوالي الذي تمكن من غير اختيار المسلمين، فهذا تجب طاعته في هذه الحال؛ لأنه فرق بين الاختيار والغلبة، ومعروف من خلال تاريخ المسلمين ومن استقراء أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أئمة الاختيار في التاريخ قلة، فأغلب الذين حكموا المسلمين قديماً وحديثاً ليسوا أئمة اختيار، ومع ذلك هم ولاة تجب طاعتهم في المعروف، ويجب الدعاء لهم، وتجب الصلاة خلفهم، ويجب الجهاد معهم، والدعاء لهم بالصلاح والمعافاة وغير ذلك، وإن كان عندهم ما عندهم مما لا يعجب بعض الناس أو مما لا تتوفر فيه الشروط المثالية.
ففرق بين الاختيار -كما في عهد الخلفاء الراشدين- وبين الغلبة أو الإمارة أو الوراثة، أو الملك أو السلطة أو غير ذلك مما هو أصل من أصول تولي الولاية الشرعية التي اعتبرها أهل العلم بإجماع ولاية شرعية، فأغلب ولايات المسلمين في تاريخ الإسلام هي من النوع الثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه مع وجوب النصح وغير ذلك مما هو معلوم، ولهذا فإن هذه الأحاديث التي أوردها الشارح كلها صحيحة ثابتة، ليس فيها ما يمكن أن يطعن فيه من حيث السند، ولذلك تلقاها السلف بالقبول وجعلوها من مناهج الدين؛ إذ إنها وصية من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه الوصية تعني أن هذه الأمور ستكون، وأنه قد يتولى على المسلمين عبد حبشي.(80/3)
معنى حديث: (على المرء المسلم السمع والطاعة)
قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين أيضاً: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)].
هذا فيه إشارة مهمة جداً، وهي مسألة: (فيما أحب وكره)، فكثير من الناس الذين لا يفقهون هذه الأصول يرون أن الأمر الذي تكرهه لا تمتثل فيه أمر السلطان أو الوالي، وهذا ما هو بصحيح، فقد أمرنا بالسمع والطاعة في المنشط والمكره، فليس المقصود أن المرء لا يطيع إلا فيما يحب ويوافق هواه، وإذا أمر بأمر اجتهادي يخالف رأيه، ويخالف قناعته، ويخالف ما يقول به كثير من الناس في عبارات معاصرة؛ يقول: ليس عندي استعداد لقبول ذلك، وليس المقصود بالولاية مجرد أن يأمر الوالي الأكبر فقط والسلطان الأكبر بل من دونه ممن له ولاية حتى ولو كان أدنى موظف، فله ولاية، يجب أن يطاع في المعروف فيما تحب وفيما تكره، وإلا فسدت أحوال الناس، ولن تستقيم أمور الأمة، وتحدث فيهم دعوات الشقاقات، وفساد ذات البين والفتن.(80/4)
معنى حديث: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)
قال رحمه الله تعالى: [وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله! فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)].
في هذا الحديث افترض حذيفة رضي الله عنه أسوأ الحالات تدريجياً، ومع ذلك ما أمر بالمنازعة، ولا بأن يثير فتنة، ولا بأن يحمل رأياً، وهذا الحديث فيه حكم عظيمة من أحوج ما يحتاجه المسلمون اليوم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما فتح له الفرصة ليكون له موقف، أو أن يتخذ موقفاً من السلطان أو من الناس، أو من المخالفين ما دام الأمر عنده لم يستبن، فما قال: ارفع راية، أو: قم بالواجب، كما يدعي بعض الناس ولو كان من غير أهله، فـ حذيفة إمام جليل وفقيه في الدين، ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم -والأمر للأمة- بأن إذا كان الأمر على هذه الحال فيجب أن يكف ولو أن يعض على أصل شجرة.
وهذا مقيد بالنصوص الأخرى، لكنه يحكم غالب المسلمين الذين ليس لهم حل ولا عقد، وليسوا من أهل العلم الراسخين، وإلا فقد يستثنى من هذا الحديث ما جاء في أحاديث أخرى يمكن نجمع بينها فيما بعد إن شاء الله.(80/5)
معنى حديث: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر)
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)].
هذا أيضاً فيه وصية عظيمة، وهو أنه يجب الصبر حتى مع رؤية ما يكره من الأمير، مع عدم الطاعة في المعصية، فإذا كان ما تكره معصية لله عز وجل فلا تطعه فيها.
فهذه قاعدة عامة تدخل أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر فيه بالطاعة فيما أحب وكره، أي: يجب أن تصبر على ما تكرهه من أميرك؛ لأن في عدم الصبر مفسدة عظمى ترجع على الأمة، وربما عليك أيضاً وعلى غيرك.(80/6)
شرح العقيدة الطحاوية [81]
من عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الإمامة أن طاعة ولاة الأمر من طاعة الله عز وجل ما لم يأمروا بمعصية، وأن يدعى لهم بالصلاح والمعافاة، ومن رأى منهم منكراً أو جوراً وظلماً فليصبر وليلزم الجماعة والسنة، ويجتنب الشذوذ والفرقة.(81/1)
معنى حديث: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر)
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)].
لا تجزئ بيعة لخليفتين في بلد واحد، فبعد الخلافة الراشدة انقسمت بلاد المسلمين في بعض الفترات إلى أكثر من دولة، وهذا أمر واقع رضيه المسلمون، وتعتبر الولاية للمسلمين -وإن تعددت- شرعية ما لم تكن في بلد واحد.
أما في البلد الواحد فلا تجوز الولاية لاثنين، هذا أمر بدهي عقلاً وشرعاً، لا تصح الولاية لاثنين في بلد واحد، ومسألة التنازع على الولاية تحسم بأن الولاية لمن كانت له الولاية أصلاً، بصرف النظر عن الأمور والملابسات الأخرى، فمن كان هو الوالي صاحب بيعة فلا يجوز أن يبايع لغيره ما دامت بيعته نافذة.(81/2)
معنى حديث: (ولا ينزعن يداً من طاعة)
قال رحمه الله تعالى: [وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، فقلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)].
هذا الحديث اشتمل على قواعد عظيمة من قواعد الدين في الولاية، وهذه القواعد هي منهج السلف الذي قرروه في كل زمان، وفي كل الأحوال التي مرت بالأمة عبر تاريخها الطويل، وهي: أنه قد يتولى على الأمة خيارها، وقد يتولى الأمة شرارها، وقد يتولى عليهم من يبغضونه ويبغضهم، وأن هذا الأمر إذا كان أمراً واقعاً فلا بد من التزام الأصل فيه، وهو: السمع والطاعة في المعروف، وعدم جواز الخروج، وعدم جواز المنابذة بالسيف بنص الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة هذا الأمر سألوه، فقالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) يعني: ما دامت الصلاة قائمة بين المسلمين وتحت هذه الولاية الشرعية فلا يجوز رفع السيف على الوالي.
ثم ذكر القاعدة الأخرى، وهي: أن من رأى من واليه شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتيه الوالي أياً كانت هذه المعصية، بمعنى أن كون الوالي يرتكب معصية أو ظلماً أو فسقاً أو فجوراً أو نحو ذلك مما ترى أنه غير جائز شرعاً؛ فلا يعني ذلك أن تقر هذا العمل وتبيحه، بل تكرهه وتكره فعله، لكن لا يجرك ذلك إلى نزع اليد من الطاعة، أي: نزع البيعة، سواء بالقلب أو بالعمل، فلا يجوز أن يستبيح الإنسان نقض بيعة لإمام له عليه ولاية شرعية وإن ظهر منه ما يكرهه المسلم في قلبه، فلا يجوز أن ينزع يداً من طاعة، بل يبقى مطيعاً سامعاً ولو على كره، أو على أثرة أو على ظلم أو نحو ذلك مما هو معروف مما يقع من البشر من المظالم والأخطاء والفسق والفجور.
أقول: هذه قواعد عظيمة يجب أن يفهمها الناس وأن يعرفوا أنها هي مناهج السلف وليست من عندنا، فهذا الحديث حديث صحيح من الأحاديث التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وأمرهم بها أمراً صريحاً.
ونزع اليد من الطاعة نوعان: نوع بمعنى عدم اعتبار الولاية في القلب، بمعنى أن تعتقد أن الوالي ليس له ولاية بمجرد ظهور المعاصي، فهذا لا يجوز، وهو نوع من نزع الطاعة؛ لأنه ورد هذا في أحاديث أخرى غير هذا الحديث، فهذا الحديث ظاهره أن نزع اليد هو الشيء العملي الظاهر، لكن هناك أحاديث أخرى تنظم إلى هذا الحديث ستأتي الإشارة إلى بعضها، فيها أنه لا يجوز أن يتخذ ما يحدث من الوالي من فسق وفجور وظلم ذريعة إلى عدم اعتقاد ولايته؛ لأن الخروج يكون باليد ويكون بالقلب كما سيأتي، وكما هو معروف في منهج السلف.(81/3)
لزوم طاعة أولي الأمر فيما هو طاعة لله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] كيف قال: (وأطيعوا الرسول) ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك.
وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور؛ فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم.
وعن مالك بن دينار: أنه جاء في بعض كتب الله: (أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم)].(81/4)
عقيدة أهل السنة في اتباع السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والفرقة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة): السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة: جماعة المسلمين، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا أهل السنة والجماعة.
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصوابا والفرقة زيغاً وعذابا)].(81/5)
الأسئلة(81/6)
بيان معنى هلاك المخالفين من الجانبين
السؤال
ما المقصود بقوله: عامة المخالفين هالكون من الجانبين؟
الجواب
أشار إلى حديث أن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، يعني الهلاك من جانب الإفراط والتفريط؛ لأن الإشارة إلى أهل الكتاب تدل على هذا الجانب، فالنصارى فيهم غلو واليهود فيهم تفريط، فهلكت الطائفتان بالغلو والتفريط، وكذلك الذين يهلكون من هذه الأمة مابين مغال وما بين مفرط، والله أعلم.(81/7)
حكم الإنكار على تارك الصلاة خلف إمام يدعو لولي الأمر
السؤال
هل ينكر على تاركي الصلاة خلف إمام معين لكونه يدعو للوالي، وهل فعلهم بدعة؟
الجواب
الدعاء للولاة مشروع، بل هو من علامات أهل السنة، فمن علامات أهل السنة الدعاء للولاة، ومن علامات أهل البدعة الدعاء عليهم، وعلى هذا فإن الذي يترك الصلاة خلف إمام لكونه يدعو للوالي يعتبر مبتدعاً.(81/8)
الجمع بين قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ودخول مقرب الذباب للصنم النار
السؤال
في الحديث أن رجلاً أكرهه عباد الصنم على أن يقرب له شيئاً فقرب ذباباً، فدخل النار، فكيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]؟
الجواب
الحديث ورد ولا بد من الإيمان بما جاء به؛ لأن هذا الذي قرب ذباباً دخل النار بسبب ذلك، وهذا أمر توقيفي غيبي، وظاهر ذلك -والله أعلم- أن هذا الرجل حينما أكره على أن يقرب ذباباً لم يستشعر أنه بذلك يفعل ذنباً عظيماً، وربما قصد التقرب، فالله أعلم، فإذا كان قصد التقرب لغير الله -وإن كان في الأصل ألجئ إلى ذلك- وكان بإمكانه أن لا يفعل ذلك، أو إذا فعله يفعله وهو يعلم أنه شرك، ولا يفعله عن قصد؛ فإنه بذلك يستحق العذاب، والله أعلم.(81/9)
بيان معنى كون إلزام السلطان بالتزام قول بغير حجة غير جائز
السؤال
قال ابن تيمية في الفتاوى: (وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة في الكتاب والسنة؛ فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين)، فما معنى هذا الكلام؟
الجواب
يظهر أن المقصود به أحد وجهين: الوجه الأول: أن يلزم العلماء السلطان بأن يأخذ بقول اجتهادي ويلتزمه بغير رضاه، فهذا بعيد، وهو لا يجوز.
والوجه الثاني وهو الظاهر: أن السلطان إذا ألزم في مسألة خلافية بقول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز، بمعنى: إذا شرع ذلك تشريعاً؛ لأن إلزام السلطان الناس بقول معين في مسألة اجتهادية له وجهان: وجه يعتبر فيه الإلزام من باب تقرير المصلحة أو دفع المفسدة؛ فإذا كان من باب المصلحة ودفع المفسدة فهذا من حق السلطان، والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من أئمة المسلمين وسلاطينه إلى اليوم كانوا يلزمون في مسألة خلافية بأمر معين، كما في كثير من التعاميم التي فيها مصالح وتبنى على آراء أهل العلم، فهذا جائز، بل من حق السلطان إذا كان الإلزام يعني: إلزام الناس بمصلحة معينة لها مبرر شرعي في أمر اجتهادي.
أما إذا كان الإلزام بمعنى أن يشرع فيحرم أو يحلل؛ فهذا لا يجوز، وإذا حصل فهو تشريع ولا يجوز باتفاق المسلمين.
وأغلب ما يحدث من سلاطين المسلمين من النوع الأول، أي: من الأنواع الاجتهادية، حيث تكون المسألة فيها نزاع بين العلماء، فيأخذ السلطان بقول من أقوالهم ويلزم الناس به، ويكون هذا الإلزام في الغالب من باب تحقيق المصلحة ودرء المفسدة وجمع الكلمة أو نحو ذلك، وهذا جائز وسائغ تقتضيه المصلحة في الغالب.(81/10)
شرح العقيدة الطحاوية [82]
من عقيدة أهل السنة والجماعة محبة أهل العدل والأمانة، وبغض أهل الجور والخيانة، فإن العبودية وتمامها يستلزم كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، كما يجب التسليم للنصوص والإيمان بما تحويه من معانٍ وأحكام، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه؛ فإن ذلك أسلم وأحكم للإنسان في الحال والمآل.(82/1)
عقيدة أهل السنة في الحب والبغض
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة): وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله].
تطرق هنا لأصلين متلازمين: الأصل الأول: هو مسألة الولاء والبراء، أو الولاية والبراءة.
الأصل الثاني: وهو ملازم للأول، وهو الحب والبغض، فلا شك أن المسلم لا بد أن يكون له حال تعامله مع الناس ولاء وبراء، ومحبة وبغض، حتى مع المسلمين، وسيذكر الشارح -لكن بكلام متفرق- أن هناك ولاءً كاملاً وهناك ولاءً جزئياً، وأن هناك براءً كاملاً وهناك براءً جزئياً، والولاء الكامل فيه المحبة الكاملة والولاء الجزئي فيه المحبة الجزئية، والبراء الكامل فيه البغض الكامل، والبراء الجزئي فيه البغض الجزئي، فالولاء والبراء يتجزأان، وتجزئة الولاء والبراء وجعله درجات هو الفارق بين أهل السنة وبين الخوارج من جهة، وبينهم وبين المرجئة من جهة أخرى، فالمرجئة لا يجزئون الولاء والبراء، والخوارج لا يجزئون الولاء والبراء، فالخوارج إذا تبرءوا من مسلم أو من غير مسلم تبرءوا منه جملة وتفصيلاً، فالمسلم الذي يرتكب الكبيرة يتبرءون منه تبرؤاً كاملاً ويعاملونه معاملة الكافر، وهذا شطط وتنطع في الدين وخروج عن مقتضى السنة، وبدعة مغلظة.
وكذلك المرجئة يرون للمسلم -وإن كان عاصياً فاجراً- الولاء الكامل، وهذا أيضاً شطط وتفريط.
إذاً: فالقاعدة أن الكافر الخالص يجب البراء الكامل منه ومن كفره، ويجب البغض الكامل له ولكفره، أما من كان مسلماً وكان مرتكباً للمعاصي والآثام والبدع فإن له من الولاية بقدر ما يأتيه من الإيمان والصلاح، وله من البراءة -وكذلك البغض- بقدر ما فيه من المعصية أو الفجور أو البدعة، ما لم يخرج من الملة، فإذا خرج من الملة وجب البراء الكامل منه والبغض الكامل له.
فصاحب البدع المغلظة والآثام والجرائم والمظالم الشنيعة يغلب في حقه البغض والبراء، ومن كان دون ذلك فله من الحق وعليه بقدر طاعته ومعصيته.
إذاً: فتفصيل القاعدة في الولاء والبراء، وترتيب الولاء والبراء على درجات لا يكون إلا عند أهل السنة، أما بقية الفرق فما بين مفَرِّط ومُفْرِط.
وأؤكد على أن الحب والبغض مرتبط بالولاء والبراء، فقد يجتمع في المسلم الواحد الحب والبغض، بل أغلب المسلمين يجتمع في حقهم الحب والبغض، تحبهم في الله بقدر ما فيهم من الطاعة والاستقامة والخير، وتبغض الواحد منهم بقدر ما فيه من المعصية والانحراف، بمعنى أنه يجتمع في الشخص الواحد الولاء والبراء، وأغلب المسلمين يقعون في التقصير، فعلى هذا يشترك فيهم الولاء والبراء والحب والبغض.
قال رحمه الله تعالى: [فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]].(82/2)
الفرق بين محبة الله تعالى والمحبة في الله
مما تحسن الإشارة إليه هنا أن هناك فرقاً بين محبة الله وبين المحبة في الله، ذلك أن محبة الله عز وجل لا تجوز إلا له سبحانه، التي هي محبة التقديس والعبادة، فمحبة التقديس والعبادة لا تجوز إلا لله سبحانه.
والنوع الثاني: هو المحبة في الله، بمعنى: أن يكون عند المسلم ميل فطري غريزي للخير وأهل الخير، فهذا أمر مشروع، بل ينبغي أن يكون لكل من يستحق المحبة، فكل مؤمن له من المحبة -كما ذكرت سابقاً- بقدر ما فيه من الولاية والخير.
وكون المسلم يحب الله ثم يحب أولياء هذا أمر لا تناقض فيه، فإن محبة الله إنما هي محبة التعظيم والتقديس والعبادة، أما محبة العباد فهي المحبة الفطرية، لكن المسلم المستقيم على الحق ترتبط محبته بما يحبه الله، والذي ليس عند استقامة قد يحب ما لا يحب الله، وهذا انحراف، لكنه إذا أحب غير الله محبة تقديس وعبادة وقع في الشرك، وإذا أحب غير الله محبة ميل وغريزة شهوانية ونحوها فهذا هوى، لكنه دون الشرك.
إذاً: محبة الله لا يشرك فيها غيره، وهي محبة التقديس ومحبة العبادة، أما المحبة الأخرى الغريزية فمنها ما هو مرتبط بالدين، ومنها ما هو غريزي بحت، فالمحبة التي ترتبط بالدين هي محبة الخير وأهل الخير وما يحبه الله عز وجل، والمحبة الغريزية البحتة حي محبة الأشياء، فالله عز وجل فطر العباد على محبة الأولاد والأموال والأزواج، فهذه محبة غريزية جائزة إذا لم يتعد فيها الإنسان حدود ما يشرع، فإذا تعدى فيها حدود ما يشرع وقع إما في البدعة وإما في الشرك وإما في الشهوة.
قال رحمه الله تعالى: [والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله؛ فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك؛ إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه].(82/3)
بيان عقيدة أهل السنة في رد علم ما اشتبه إلى عالمه جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونقول: (الله أعلم) فيما اشتبه علينا علمه): تقدم في كلام الشيخ رحمه الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26]، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22].
وقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب، وقال: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: يا عمر! تراني قد رضيت وتأبى؟!).
وقال أيضاً رضي الله عنه: السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي -أو: بما لا أعلم-؟! وذكر الحسن بن علي الحلواني: حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله].(82/4)
درجات أخذ أهل السنة بالنصوص
في هذا المقطع إشارة إلى أصل عظيم كثيراً ما يخفى على الناس، خاصة في الآونة الأخيرة، وهو من أعظم أصول أهل السنة، ومن أعظم المناهج التي تعد من الفوارق الكبرى بين أهل السنة وبين أهل البدع والأهواء، ذلك أن أهل السنة يأخذون بالنصوص على أصول الاجتهاد، سواء كانت اجتهادية أو كانت توقيفية، والأخذ بالنصوص على ثلاث درجات: فإذا كان النص من النصوص الواضحة التي لا تشتبه على أحد، مثل نص شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهذا أمر بيِّن تقوم به الحجة على كل العباد الذي يسمعون ويعقلون.
وإن كان من النصوص التي تخفى على أكثر الناس ولا يعرفها إلا المجتهدون فيجب الرجوع فيها إلى أهل العلم وأهل الاختصاص الذين هم أهل الذكر، كما بين الله تعالى ذلك.
وإذا كان من النصوص التي لا يعلمها إلا الله تعالى؛ فليسلم وليرد النص إلى عالمه، وهو الله عز وجل، بأن يقول: آمنت بأن كلام الله حق وأن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، ويذعن لذلك ويجعل نفسه مستسلماً بحيث لو فهم النص عمل به، فهو مؤمن به حتى ولو لم يفهمه، بمعنى أنه اشتمل على الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، هذا هو الأصل، وأغلب نصوص الشرع من الدرجتين الأوليين، أغلبها مما يفهمه عامة الناس أو يفهمه العلماء، والذي يشتبه في الغالب هو بعض نصوص الغيب ونصوص العقيدة.(82/5)
بيان وجه الفرق بين أهل السنة ومن خالفهم في رد ما اشتبه من النصوص إلى عالمه
أما كون هذه القاعدة هي الفارق بين أهل السنة والجماعة فيمكن أن نستعرض هذا بإيجاز، فنقول: إن الخوارج حينما تواردت عليهم نصوص الوعيد اشتبه عليهم الأمر نظراً لقلة علمهم، وما ردوا نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد أولاً؛ لأنَّ مداركهم ضعفت عن ذلك، ولم يرجعوا إلى العلماء، وربما رجعوا لكنهم لم يسلموا لأهل العلم من الصحابة، ذلك أن الخوارج كانوا من الفئات التي تستهين بالعلماء، لا ترى لأحد من الناس فضل علم، لذلك كانوا يلمزون الصحابة ويرون أنهم علماء دنيا وأنهم قعدوا عن الجهاد إلى آخره، فلما لمزوا الصحابة ولمزوا العلماء تركوهم وجفوهم، فلما جفوهم وكلهم الله إلى مداركهم الضعيفة، فقالوا على الله بغير علم، ولم تتسع مداركهم للجمع بين النصوص، فغلبوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فصاروا وعيدية يكفرون بالذنوب، وصار هذا منهجاً باطلاً ابتليت به الأمة إلى يومنا هذا.
ثم جاءت القدرية، فالقدرية حينما جاءت نصوص القدر ولم يفهموها ما ردوها إلى أهل العلم.
ولذلك وصف معبد الجهني -وهو أول قدري- بأنه طلب العلم وكان عنده تعجل وتسرع، وأنه لم يستوعب العلم من العلماء، فأخذ نصوص القدر برأيه وضعفت مداركه عن الجمع بين نصوص القدر، فتوافق رأيه مع رأي بعض فئات من النصارى والصابئة والمجوس، ففرح بذلك وظن أن هذا مذهب من المذاهب التي تقتدى، فأعلن القول بالقدر؛ ولم تستوعب مداركه نصوص القدر، ولم يعرف قواعد الجمع بين النصوص، ولم يرجع إلى العلماء، وما سلم لله عز وجل، بل خاض في القدر برأيه، فصار مذهبه من أخبث المذاهب إلى يومنا هذا.
وهكذا بقية الفرق، كلهم على هذا المنهاج، ومن متأخريهم أهل الكلام الذين خالفوا السلف في الصفات، فأهل الكلام حينما جاءتهم نصوص الصفات وما استوعبوا منهج السلف في تقرير صفات الله عز وجل ما فهموا ولا أذعنوا لأهل العلم، بل اتهموا أهل العلم بالحشوية، واتهموهم بأنهم عندهم سلامة قلوب وسذاجة ونوع من الغباء والغفلة إلى آخره.
فلما اتهموا أهل العلم وأئمة الدين في ذلك استقلوا عنهم، وما استوعبت مداركهم الإيمان بالصفات، بل اشتبهت عليهم، فعدوها من المتشابهات مع الأسف، وإلى اليوم يعد أهل الكلام نصوص صفات الله عز وجل من النصوص المتشابهة، وليتهم حينما اشتبهت عليهم ردوها إلى عالمها، ولو فعلوا لأحسنوا؛ لأن هذا منتهى مداركهم، لكن ما فعلوا، بل خاضوا فتكلموا في صفات الله بغير علم، وقالوا -مثلاً-: لا يعقل أن يكون الرحمن على العرش استوى، لا بد أن يكون المعنى غير ذلك، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت.
فلما اشتبهت ما ردوها إلى عالمها، بل خاضوا فيها، وما اتفقوا على رأي في هذا الأمر.
فصفات الله عز وجل الذاتية كاليد والقدم إلى آخره، والصفات الفعلية كلها أولوها، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت، فقيل لهم: أما تعرفون القاعدة في الاشتباه؟ إن الذي يشتبه يرجع للعلماء، فإن فهمتم قول العلماء وإلا فالعيب في عقولكم، فردوا الأمر إلى عالمه وقولوا: آمنا بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: مسألة الخوض في المتشابه هي الفارق بين أهل الأهواء وبين أهل السنة، فأهل السنة أولاً ليس عندهم اشتباه، لكن إذا اشتبه عليهم شيء قالوا: آمنا بما جاء عن الله على مراد الله عز وجل، وأهل الأهواء كلهم خاضوا في المتشابه، فكانت أصولهم كلها تقوم على هذا الأصل.(82/6)
الأسئلة(82/7)
حكم مدح الكافر تعظيماً لعمل قام به
السؤال
هل مدح الكافر دون محبته التي فيها تعظيم لعمل قام به فيه محظور، وكذا التسمي باسمه؟
الجواب
هذا كلام يحتاج إلى تفصيل، فمدح الكافر إذا كان يعني تزكيته في الدين أو تزكية منهجه الكفري؛ فلا يجوز مدحه، وإذا كان المدح لبعض أفعالهم الشائعة بين البشر، ككونه صادقاً، فيقال: هذا الرجل صادق، وإن كان كافراً؛ فلا حرج في ذلك إذا لم يلتبس الأمر ولم يكن عند أناس قد يتأثرون إما من صغار السن أو غيرهم ممن لا يفرقون بين أساليب المدح، فمجرد الاعتراف بخلق حسن عند الكافر لا حرج فيه إذا أمنت الفتنة.(82/8)
حكم بغض رجال الحسبة بغير حق
السؤال
هل من يبغض رجال الحسبة بحق أو بغير حق ناقص الإيمان؟
الجواب
رجال الحسبة أولاً هم في الغالب من الصالحين إن شاء الله، والحسبة لا شك في أنها من أعظم الأعمال الجليلة التي يجب أن يثنى على صاحبها وأن يحب في الله، لكن لا يعني ذلك أن كل من اندرج اسمه أو دخل في أهل الحسبة يكون مزكى بكل حال، هذا لا يلزم، فالأصول تبقى أصولاً، لكن الأفراد يحكم عليهم بحسب أحوالهم، وقد يحدث من بعض من ينتسبون للحسبة -وإن كان هذا قليلاً، وهذا من باب الابتلاء- أشياء مما يحدث من البشر من المعاصي أو الآثام أو الظلم أو نحو ذلك، فهذا يعامل بحسبه، ولا ينسحب الحكم على أهل الحسبة، بل يعامل الشخص الذي يخطئ بحسبه ويوقف منه بحسب حاله، لكن لا ينسحب الأمر على أهل الحسبة كلهم، فأهل الحسبة قد يكون فيهم من ينتسب إليهم وهو ليس كذلك، أو عنده نقص، كما يكون في أهل الجهاد، وكما يكون في أهل العلم، وكما يكون في عامة المسلمين، فالأمر واضح ولا ينبغي أن يشتبه.(82/9)
تفاوت محبة الله تعالى لعباده بتفاوت طاعاتهم
السؤال
هل محبة الله لعباده تتفاوت من عبد إلى عبد؟
الجواب
لا شك أن المحبة مرتبطة بالعمل، فكلما تقرب الإنسان إلى ربه زادت محبة الله له، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(82/10)
حكم الرضا بالقضاء والقدر
السؤال
ما حكم الرضا بالقضاء والقدر؟ وهل هناك فرق بين الرضا بالقضاء والقدر وبين الإيمان بالقضاء والقدر؟
الجواب
الرضا بالقضاء والقدر واجب، يجب على العبد أن يرضى بقدر الله عز وجل؛ لأن هذا مقتضى الإيمان بالربوبية وأن ما شاء الله عز وجل كان وما لم يشأ لم يكن، وأن أفعال الله لا تكون إلا بالحكمة، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فعلى هذا يكون الرضا بالقضاء والقدر من الله عز وجل واجباً على العبد، وهناك بعض الفروق بين الرضا بالقضاء والقدر وبين الإيمان بالقضاء والقدر، فالإيمان هو مجرد التسليم واليقين والتصديق، وهو أمر قد لا يتعدى إلى الرضا، بمعنى أن هناك من يؤمن بالقضاء والقدر، لكن إذا حصل القدر فيما لا يحمد قد لا يرضى، وقد لا يصبر، فهذا أمر ينافي الرضا، ولا ينافي مجرد التصديق أو مجرد الإيمان.
إذاً: فالرضا أمر زائد على الإيمان بالقدر، وكثير من العباد -خاصة أهل التقصير- قد يسلمون بالقدر ويؤمنون به، لكن إذا حصل قد يضعف إيمانهم عن الرضا، وقد يحصل لهم شيء من الجزع وعدم التحمل.(82/11)
حكم موالاة أعداء الإسلام
السؤال
هل موالاة أعداء الإسلام تعتبر من الكفر البواح، وما معنى الكفر البواح؟
الجواب
الموالاة درجات، فإذا كانت الموالاة قلبية، بمعنى أن المسلم يحب الكفار لكفرهم أو لبعض كفرهم، أو يواليهم لما هم عليه من أمور شركية، أو يحبهم حباً يصل إلى حد الإخلال بالعقيدة الإسلامية أو بشيء من أركانها وأصولها؛ فهذا قد يكون كفراً، وغالب صوره في الكفر، أما إذا كانت الموالاة موالاة مادية عامة، وموالاة ظاهرة؛ فهي معصية وتختلف بحسبها، فأغلب صور الموالاة الظاهرة -خاصة في وقت ضعف المسلمين- تكون من الكبائر أو من الذنوب العظيمة، ما لم تصل إلى حد الإخلال بشيء من العقيدة، أي: بشيء مما يتعلق بأركان الإيمان، وما لم تصل إلى حب شيء من دينهم وما هم عليه من كفر، وحينئذٍ تبقى من الأمور التي تتفاوت في تقديرها، وهي من الكبائر، يعني: موالاة الكفار فيما يتعلق بالتعامل ظاهراً، أو ما يسمى بالعلاقات، سواء كانت عامة أو فردية، فأغلب صورها من الأمور العملية؛ لأنا لا نطلع على قلوب العباد، والغالب أن أغلب المسلمين الذين عندهم شيء من الولاء الظاهر في التعامل مع الكفار ليس عندهم النفاق الخالص -والله أعلم- أو حب عقائد الكفار أو التعلق بها، إنما قد يكون ذلك لمصالح ناتجة عن ضعف أو ناتجة عن تأول أو تراخ أو عن أمور تحدث من الناس بسبب تقصيرهم في دين الله عز وجل، فهذه الأمور لا تصل إلى حد الكفر، وأغلب الناس يخلط في هذه المسألة خلطاً عجيباً، ولا يعرف قواعد الشرع ولا مذهب السلف في ذلك.(82/12)
موقف الخوارج من المسح على الخفين
السؤال
هل الخوارج تنكر المسح على الخفين وتقول: لم يرد في القرآن إلا الغسل؟
الجواب
هناك طوائف من الخوارج ينكرون المسح، لكن إنكار عموم الخوارج ليس عندي به علم، وأغلب الخوارج يجهلون السنة أو بعضها ويتنكرون لها، وكثير من السنن التي لا تخضع لقواعدهم لا يأخذون بها وإن أجمع عليها المسلمون، فبعض الخوارج فعلاً ينكرون المسح على الخفين، لكن لا أعرف أنه من أصول الخوارج كما هو عند الرافضة، والله أعلم.(82/13)
شرح العقيدة الطحاوية [83]
من أصول أهل السنة والجاعة العظام وقواعدهم المتينة: أن الحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما، خلافاً للرافضة الذين يقولون: لا جهاد إلا عند خروج المهدي المزعوم، كما أن من عقيدة أهل السنة الإيمان بالكرام الكاتبين من الملائكة الذين جعلهم الله على العباد حافظين وأوكلهم بكتابة جميع الأعمال.(83/1)
اعتقاد أهل السنة في الحج والجهاد مع ولاة الأمر من المسلمين
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)].
قبل أن نبدأ بالشرح نشير إلى وجه الجمع بين الحج والجهاد في هذه الجملة، وهو أن الحج من أركان الإسلام، والجهاد أيضاً من أصول الدين، ونظراً لأن الحج والجهاد من الأعمال الجماعية الكبرى، فالحج من الأعمال التي تتعلق بعموم المسلمين، فلا يتأتى للمسلمين أن يختلفوا فيه؛ لأن اختلافهم يؤثر في أداء الشعائر، ولذلك يجب على الناس أن يلتزموا نهجاً واحداً في أداء الحج على ضوء ما يجتهد فيه الذي يتولى الحج في ذلك الوقت، وفي أداء المشاعر في أوقاتها؛ لأن المشاعر مربوطة بمكان وزمان، فلا يتأتى للناس أن يختلفوا فيها، وإذا اختلفوا فسد حج بعضهم، فلا بد أن يكون الوقوف في عرفة في يوم معين، فمن وقف قبل هذا اليوم أو بعده لا يصح حجه، ثم يتلو ذلك بقية الشعائر الأخرى التي تؤدى في الحج، فلذلك لا بد للمسلمين أن يلتزموا في الحج بقرار الإمرة التي تتولى الحج، سواء كان من يتولى الحج براً أو كان فاجراً عاصياً ظالماً.
وهنا أنبه على مسألة كثيراً ما تثور عند بعض الجهلة، وهي مسألة توقيت يوم عرفة، حيث يدور أحياناً في مجالس الناس عن جهل أن تقدير يوم عرفة مبني على كذا وكذا، وأنه ليس هناك رؤية في هذه السنة، أو أن مجلس القضاء الأعلى لم يقرر دخول ذي الحجة على رؤية، إنما هو اجتهاد أشخاص! فهذا كلام خطير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج يوم يحج الناس)، وما قال هذا إلا لأنه يعلم أن الناس قد تتفاوت أفهامهم، وفي هذه البلاد -والحمد لله- كل ما يتعلق بالمواقيت الشرعية من دخول رمضان وخروجه والحج ونحو ذلك يسير على أساس شرعي سليم بحمد الله، ويعلن من مجلس القضاء الأعلى أو من الديوان الملكي بناء على أمور ترجع إلى أهل العلم، خاصة فيما يتعلق بهذه الأمور الشرعية الخطيرة، فهناك من يتكلم في هذه الأمور بجهل أو بهوى فيضل الناس، وهذا أراه من أعظم الفتنة ومن أعظم الهوى ومن أعظم البدع التي يجب أن يردع من يقع فيها.
وإنما نبهت على هذا؛ لأنه بدأ يكثر عند بعض الجهلة وبعض المتعلمين وبعض أصحاب الغرور والأهواء الكلام بما يشكك الناس في شعائر دينهم، وهذا أمر خطير، ويجب على طلاب العلم أن لا يسمحوا للناس أن يخوضوا في هذه الأمور، فإذا أعلن وقت الحج فإعلانه شرعي ملزم، ولا داعي لهذه الأمور التي تحدث الوساوس، وقد ربط الحج بولاية الحج، فمن تولى إمرة الحج -براً كان أو فاجراً- لا بد من الحج معه، ولا يكون الحج صحيحاً إلا بتوقيته، فمن تأخر يوماً أو تقدم يوماً فحجه غير صحيح؛ لأن الحج يوم يحج الناس.(83/2)
الرد على الرافضة المعطلين للجهاد إلى خروج مهديهم
قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة، حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وينادي مناد من السماء: اتبعوه].
الرافضة هم على رأس الفرق التي خالفت المسلمين، وتعمل في هذه الأمور بضد ما عليه أهل الحق، لكن غير الرافضة فيهم شبه منهم، فأكثر أهل الأهواء من سماتهم المخالفة في هذه الأمور، فلا نعرف أن أهل الأهواء يجاهدون مع المسلمين أو مع أئمة المسلمين، ولا يجاهدون إلا في فتنة، ويسمونها الجهاد، فلو نظرنا إلى المعتزلة والجهمية والخوارج وكثير من الفرق الكبرى لوجدنا أن هذا هو منهجهم، لا يقاتلون مع المسلمين، بل يقاتلون المسلمين، فإذا ثارت على المسلمين فتنة سارعوا فيها، ولا تجدهم في الثغور أو في جيوش المسلمين؛ لأنهم لا يرون الجهاد مع أئمة المسلمين.
فأهل الأهواء لا يقاتلون إلا في ألويتهم، ولا نعرف أن ألوية أهل الأهواء ضد الكفار أو لجهاد الكفار، بل ألوية أهل الأهواء دائماً في نحور المسلمين ومن قرأ التاريخ فسيجد مصداق هذا واضحاً جداً طيلة التاريخ الإسلامي.
فأكثر الفرق هم كالرافضة، لكن قد يكون لهم فلسفة أخرى ونظرة أخرى غير نظرة الروافض، فمتى ما حصلت ثورة على أئمة المسلمين شاركوا فيها، أما الرافضة فلا يشاركون إلا تأولاً أو من أجل النكاية، لا لأنه جهاد، ولا يجاهدون إلا مع هذا الموهوم المنتظر الخرافة الذي يسمونه المهدي المنتظر.
قال رحمه الله تعالى: [وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل، وهم شرطوا في الإمام أن يكون معصوما اشتراطا بغير دليل، بل في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعته)].
قوله: (خيار أئمتكم) وقوله: (شرار أئمتكم)، يعني: الولاة؛ لأن لفظ (الأئمة) يطلق على صنفين: على الولاة السلاطين، أبراراً كانوا أو فجاراً، وعلى الأئمة في الدين، أئمة العلم، فهذه إمامة وهذه إمامة، وهذه لها حقها وهذه لها حقها، ولا شك أن من ولي أمر المسلمين فهو إمام لهم حتى ولو لم يكن على شروط الإمامة، لا كما يظن بعض الناس الذين يعتقدون جهلاً أنه لا يسمى إماماً إلا إذا توافرت الشروط، فهذا ليس بصحيح، ثم إن من الشروط شروطاً كمالية لم توجد إلا في الخلافة الراشدة.
فمن تولى أمر المسلمين فهو إمام، سواء كان براً أو فاجراً، ومصداق ذلك هذا الحديث، وهو صريح، حيث سماهم أئمة على الحالين، وهذا أمر له اعتباره في القواعد الشرعية، ولذلك بنى الحكم على هذا الاعتبار، فحين قالوا: (أفلا ننابذهم عن ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أيضاًَ قاعدة أخرى مهمة جداً، فقال: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله) يعني: يكره ذلك في قلبه، ويناصح إن استطاع، وينكر إن استطاع بالأسلوب المناسب الذي لا يؤدي إلى الفتنة، لكن لا ينزع يداً من طاعة، وما أجهل كثيراً من الناس في هذا العصر من الذين بدءوا يجانبون هذه المسائل ويتهمون من يقول الحق أو يعتقده أو ينهج هذا النهج بأمور ليست مما يجوز أن يتهم فيه المسلمون أو يتراشق فيه المسلمون.
أقول: إن كثيراً من أهل السنة وأهل الحق الذين بقوا على هذا الأصل يكادون يعيشون غربة أحياناً في بعض بلاد المسلمين، بسبب انتكاس مفاهيم المسلمين وعملهم على غير الأصول، فالمسلمون الذين نهجوا مع ولاتهم نهج الخروج والقوة ما أصابوا الحق؛ لأن هذا ليس هو منهج السلف، فمن أنكر عليهم اعتبروه هو المخطئ، وهو الذي يخذل الدين، وهو الذي لا يعرف شيئاً إلى آخره، حتى عاش كثير من أهل الرأي الصائب والقول الرشيد والاعتقاد السديد في غربة الآن في كثير من بلاد المسلمين، فلا بد من تقرير الحق، وأن يكون لطلاب العلم أثر في المسلمين يعملونه، ذلك أن أغلب المصائب التي وقعت على البلاد الإسلامية الآن -خاصة ما يحدث من القتل والتشريد وانتهاك الأعراض وسفك الدماء وما ترونه وتسمعونه من فتنة في بعض بلاد المسلمين- يقوم أصلاً على مخالفة هذا المنهج، بسبب أن طائفة ممن عندهم حماس للدعوة إلى الله عز وجل، وعندهم غيرة على دين الله جهلوا هذا الأصل، فظنوا أن مقتضى الحسبة قتال الحكومات، وهذا خطأ شنيع؛ إذ هو أولاً مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه مخالفة لنهج الإسلام في الدعوة إلى الله، ومخالفة لأصول الدعوة وللأساليب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، ولو أنهم اتقوا الله عز وجل وناصحوا بالتي هي أحسن وعملوا لوجدوا خيراً، وإذا ما وجدوا فالأ(83/3)
خسارة الرافضة في تعليق الجهاد بالإمام المعصوم
قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة، ولم يقل: إن الإمام يجب أن يكون معصوماً، والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا].
لأنهم فرضوا له صفات لا يمكن أن تكون في البشر، فهو معدوم فعلاً، فتلك الصفات لا توجد في أحد من خلق الله عز وجل ولا من الذين يدعون أنهم أئمة معصومون، فهؤلاء الذين يدعون أنهم معصومون هم أناس من البشر منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، والصالحون منهم ليس عندهم هذه الخصائص التي ادعتها الرافضة، سواء منهم من يعلقون عليه بعض الآمال مثل المهدي الموهوم، أو الأحياء منهم أو الأموات الذين كان لهم وجود، ألقوا عليهم من الصفات والآمال وافترضوا فيهم من الخصال ما لا يوجد في مخلوق.
إذاً: فهم توهموا أموراً معدومة وليست حقيقية، فلذلك بقوا طيلة الدهر ينتظرون موهوماً حتى جاء الخميني وأظهر لهم فكرة جديدة، وهي فكرة (ولاية الفقية) الوسيط بين الإمام المزعوم الموهوم وبين الأجيال الحاضرة، وقال: لا بد أن نتولى بعض صلاحيات الإمام المعصوم المنتظر، فنفخ هذه الروح الوهمية أيضاً فانتفضوا انتفاضتهم المعلومة، لكنهم لا يزالون على أفكارهم الخيالية.
قال رحمه الله تعالى: [فإنهم يدعون أن الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب في زعمهم سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك بسامراء، وقد يقيمون هناك دابة -إما بغلة وإما حرساً- ليركبها إذا خرج، ويقيمون هناك في أوقات عينوها لمن ينادي عليه بالخروج: يا مولانا! اخرج، يا مولانا! اخرج، ويشهرون السلاح، ولا أحد هناك يقاتلهم! إلى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم فيها العقلاء!].
ذكر المحقق في الهامش بعض الترجمة للعسكري التي توهم أن هذا الرجل له وجود، وأن له ولادة ووفاة إلى آخره.
وهم يزعمون أنه المهدي، ويسمونه صاحب الزمان والمنتظر والحجة وصاحب السرداب، وقد ولد بزعمهم في سامراء، ومات أبوه وله خمس سنين، وكل هذه ليست حقائق بإجماع المؤرخين، فكل ما قالوه من هذا أوهام لا وجود لها تاريخياً أبداً حتى في كتبهم، وقد قرأنا في كتبهم ما يدل على أن هذا وهم وكذب، ولا أدري كيف يروون هذه الروايات التي يعتمدونها عندهم ثم يقولون بهذه الأكذوبة، فيكذبون ثم يصدقون أنفسهم، أقول: حتى في كتبهم المسندة يوجد ما يكذب القول بأن هناك رجلاً اسمه كذا إلى آخره؛ إذ إن أباه كان عقيماً ومات عقيماً ليس له ولد ولا ذرية، وهذا معروف عند المؤرخين من غير الشيعة، وبعض الرافضة يثبت هذا.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (مع أولي الأمر برهم وفاجرهم) لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، فلا بد من سائس يسوس الناس فيهما، ويقاوم العدو، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر].(83/4)
عقيدة أهل السنة في الإيمان بالكرام الكاتبين من الملائكة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين): قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقال تعالى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس:21].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وفارقناهم وهم يصلون).
وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم).
جاء في التفسير: اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وواحد أمامه، فهو بين أربعة ملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان.
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه].(83/5)
القرين من الجن والقرين من الملائكة
قال رحمه الله تعالى: [وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة.
قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، لكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير).
الرواية بفتح الميم من (فأسلمَ)، ومن رواه (فأسلمُ) برفع الميم فقد حرف لفظه، ومعنى (فأسلمَ) أي: فاستسلم وانقاد لي في أصح القولين، ولهذا قال: (فلا يأمرني إلا بخير) ومن قال: إن الشيطان صار مؤمناً فقد حرف معناه؛ فإن الشيطان لا يكون مؤمناً].
ليس هناك ما يمنع أن يكون هذا القرين من الجن؛ وليس من الشياطين الذين حكم عليهم بالشيطنة على وجه خاص؛ لأن الشيطنة وصف عام ووصف خاص، فالوصف العام هو بمعنى الشر، فالإنس فيهم شياطين والجن فيهم شياطين، وذرية إبليس فيهم شياطين، والوصف الخاص هو المختص بالشيطان الذي هو إبليس وذريته الذين هم من جنسه وفصيله.
والناظر إلى النصوص الشرعية وإلى فهم الصحابة وفهم السلف وتفسيرهم للنصوص يجد أن الأحاديث التي جاء فيها أن الله أعان النبي صلى الله عليه وسلم على قرينه فأسلم تدل على أنه قرين من الجن، والجن منهم من يسلم ومنهم من يفسق، أو أنه قرين -مهما كان- قدر الله أن يسلم؛ لأن الأمور بيد الله عز وجل، حتى لو قلنا: إن الشياطين لا يسلمون كما يقول بعض الشراح، فالأمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، وهذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا داعي للتحريف وتطويع النصوص لقواعد عقلية، فإذا كان أسلم بقدرة الله فالله بيده مقاليد السموات والأرض وبيده قلوب عباده، فليس الأمر بغريب، والخبر لا بد أن يؤخذ على حقيقته، أن قرين النبي صلى الله عليه وسلم أسلم بمعنى أنه لم يعد كافراً، هذا ظاهر الحديث، فما عداه تكلف، وما أشرت إليه هو رأي الجمهور؛ لأنه أسلم حتى لم يكن يأمره إلا بخير.
قال رحمه الله تعالى: [ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قيل: حفظهم له من أمر الله أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لذلك قراءة من قرأ: يحفظونه بأمر الله].(83/6)
بيان ما تكتبه الملائكة
قال رحمه الله تعالى: [ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) خرجاهما في الصحيحين، واللفظ لـ مسلم].(83/7)
الأسئلة(83/8)
الجمع بين كتابة الملائكة النيات وكونهم لا يعلمون الغيب
السؤال
كيف نجمع بين كتابة الملائكة النية وبين كون الملائكة لا يعلمون الغيب، والنية من الغيب؟
الجواب
ما يتعلق بما يحدث عند الإنسان أمر لا شك أنه يطلع الله عليه الملائكة عندما يحدث، حتى الخواطر والوساوس والهم بالشيء، إذا هم أن يفعل أو أن يترك، فهذا أمر جعل الله عز وجل عند الملائكة القدرة على معرفته، ولا يقدر عليه غيرهم، بمعنى أن البشر لا يعرفون ما في وساوس البشر الآخرين أو في خطراتهم أو في نياتهم وإراداتهم، لكن الكرام الكاتبين أقدرهم الله عز وجل على أن يعرفوا ما يختلج في نيات الناس، هذا أمر جعله الله عز وجل من مقدورهم، فلم يعد في حق الملائكة غيباً، لاسيما أنه أمر حدث من الإنسان، ولكن لا أظن أن الملك -حتى الكاتب- يعلم ما يفعل الإنسان غداً أو بعد غد حتى من الخطرات والإرادات والهم ونحو ذلك، فالمهم أن الله عز وجل أطلع هذه الطائفة من الملائكة على هذا الشيء الذي هو غيب عنا، فهذا راجع إلى قدرة الله، ولم يعد غيباً بالنسبة لهم.(83/9)
الجمع بين كون الكفر ملة واحدة وثبوت كفر دون كفر
السؤال
كيف نجمع بين كون الكفر ملة واحدة وأن هناك كفراً دون كفر؟
الجواب
أولاً: لا يظهر أن بينهما تناقضاً.
والأمر الثاني: أن كل عبارة محمولة على المعنى المراد بحسب قواعد الشرع والنصوص وفهم السلف، فلا شك أن المراد بكون الكفر ملة واحدة الكفر المخرج من الملة، فالكفر المخرج من الملة ملة واحدة، وملة الإسلام ليست كفراً.
وقول السلف: كفر دون كفر يعني: الكفر الذي لا يخرج من الملة، ولا شك أنه يتبين من خلال النصوص أن الكفر منه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج، ومسمى الكفر قد يطلق على المعصية والبدعة، وقد يطلق على الكفر المخرج، وهذا ظاهر جداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النياحة كفراً، وسمى الطعن في الأنساب والأحساب كفراً، وسمى الانتساب لغير الأب كفراً، وسمى كفر النعمة كفراً، وسمى جحد حق الزوج من المرأة كفراً، في أشياء كثيرة سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً وليست كفراً قطعياً، فهذا هو مفهوم الكفر دون الكفر، فكل ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال المسلمين كفراً مما ليس بشرك ولا ردة فهو كفر معصية، وكفر بدعة، بل إن بعض الأعمال دون البدعة يسمى كفراً، مثل عدم شكر المنعم في بعض النعم التي أنعم الله بها على عباده، فهذا يسمى كفر نعمة، وقد لا يكون كبيرة أيضاً.
فمثل هذه الأمور لا بد من استصحاب عموم النصوص وقواعد الشرع فيها، ولذلك أجد أنه من الخلل والزلل أن يتناول مثل هذه الأمور من لا علم عنده ولا فقه، أو يقل فقهه في الدين، فربما يكون مثقفاً متحذلقاً أو طويلب علم مبتدئاً ثم يبدأ يخوض في هذه الأمور ويصنف المسلمين ويحول ذممهم إلى الكفر وغيره بمجرد أن يقرأ هذه النصوص أو يسمع بها، وهذا أمر خطير، فالذي لا يعرف موارد الشرع وقواعد الدين ومناهج السلف وألفاظ الشرع ومعانيها ودلالاتها، ولا يعرف كيف يرجع الألفاظ والمصطلحات إلى أصولها بحسب سياقها، لا يجوز له أن يتكلم في هذه الأمور، وأقول هذا بمناسبة كثرة كلام الناس في هذه الأمور، وعدم تفريقهم بين الصالح وغير الصالح، وبين ما له أصل وما ليس له أصل، والله أعلم.(83/10)
شرح العقيدة الطحاوية [84]
من الإيمان بالملائكة أن نؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، وقد اختلف في الروح وحقيقتها ووقوع العذاب عليها مع البدن أم لا، وكلها من الاختلافات الجزئية بين أهل السنة، كما أن فناء الروح وموتها حصل فيه كلام بين الفلاسفة وغيرهم، ومرد النزاع في ذلك هو عدم الرجوع إلى النصوص القرآنية والنبوية في ذلك مع فهم أهل العلم لها.(84/1)
الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين): قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]؛ لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ويتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه].(84/2)
ذكر ما قيل في حقيقة النفس وحدوث الروح
قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن؟ أو عرض من أعراضه؟ أو جسم مساكن له مودع فيه؟ أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسألة تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى.
فقيل: الروح قديمة].
كلمة (قديمة) يعني بها أنها أزلية، وأنها ليست مخلوقة، فهنا عبر عن قول الفلاسفة، وأفراخ الفلاسفة، بمعنى أن الروح لا بداية لها، وعلى هذا ففهمها عندهم أنها تشبه الخالق عز وجل، أو أنها تأخذ صفات الخالق عز وجل من حيث إنه الأول الذي ليس قبله شيء.
والذين يقولون بهذا القول إيمانهم بالله عز وجل مضطرب، قد يعبرون عن الروح بأنها صفة من صفات الله عز وجل، فهي على هذا قديمة عندهم، أي: أزلية، أو يعبرون عن الروح بأنها قوة ونوع من الآلهة عندهم، والآلهة عندهم على حد سواء كلها أزلية، أو غير ذلك من التعبيرات، فالمهم أن هؤلاء ليسوا في قولهم على شيء، بل هم في أمر مريج.
فهؤلاء أعطوا الروح خصائص الربوبية التي لا تكون إلا لله عز وجل؛ لأنه ليس هناك شيء قديم أزلي ليس قبله شيء إلا الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وبقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده].
الذين قالوا بأن الروح قديمة هم طائفة من الفلاسفة والإسماعيلية، وكثير من الفلاسفة الإسلاميين يقولون بهذا القول، يعني: الإسلاميين الذين يدعون الإسلام، ويسمون بأسماء إسلامية، وعاشوا بين المسلمين، وأغلبهم من الباطنية كـ الفارابي وابن سينا وابن سبعين، فهؤلاء يقولون بقدم الروح ويلحقونها بصفات الله عز وجل، والروح خلق من خلق الله عز وجل، وهي أمر من أمره، بمعنى أنها من شأنه سبحانه، فهو يقدرها ويخلقها، هذا معنى كونها من أمر الله، {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وليس المعنى: من أمره الشرعي الذي هو الطلب، إنما من أمره يعني: من شأنه سبحانه، أي: من تقديره وخلقه.(84/3)
أدلة أهل السنة على كون الروح مخلوقة
قال رحمه الله تعالى: [وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة على أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك: محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما.
ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى، فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي من مصنوعاته.
ومنها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، وقوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه، والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث.
وأما احتجاجهم بقوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور.
وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله: {مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه].
يعني بذلك أن هذه الصفات وأمثالها لا يمكن أن تطلق إلا على موصوف، وإذا أطلقت بألفاظ اللغة بدون موصوف فإنها ليس لها وجود إلا في الأذهان، فهي مجرد تصور، فالصفات التي لا تقوم بنفسها هي التي إذا أطلقت فلابد أن تقيد بالموصوف، والصفات التي تقوم بنفسها هي الصفات التي إذا أطلقت تكون مستقلة، فيمكن أن يعبر عنها مستقلة، ويمكن أن يعبر عنها مضافة إلى غيرها، وفي الحالين تبقى أعياناً مستقلة تقوم بنفسها.
فالعلم إذا أطلق يبقى مجرد إطلاق ذهني، فإذا قلنا: علم الله صار صفة من صفات الله عز وجل، وهو العلم الكامل، وإذا قلنا: علم المخلوق صار صفة من صفات المخلوق المحدود.
أما الأسماء الأخرى التي تقوم بنفسها -وهي الأعيان المنفصلة- فهي التي تتعلق بالمخلوقات، مثل البيت، فيجوز أن تقول: أو هذا بيت، أو: هذا البيت، ونعرف أنه يطلق على شيء مخلوق ندركه، فإذا قلت: هذا بيت فلان فقد أضفته إلى فلان، ولكن لو لم تضفه لعرفنا أن البيت صفة قائمة بنفسها، وإذا أضيف إلى الله عز وجل -كبيت الله الحرام- فإنه تكون إضافة تشريف؛ لأنه مخلوق، ولا يمكن أن يكون من صفات الله عز وجل.(84/4)
الأسئلة(84/5)
جواب عن استشكال قبض ملك الموت الأرواح المتفرقة والمتعددة في وقت واحد
السؤال
هل مع ملك الموت ملائكة آخرون يعينونه على توفي الأنفس، كما قال تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وإذا لم يكن هناك ملائكة يتوفون الأنفس غير ملك الموت، فكيف يكون توفي من يموتون في نفس الوقت وفي أماكن متفرقة، ومن يموتون في مكان واحد في نفس اللحظة؟
الجواب
أولاً: أمور الغيب لا تقاس بعالم الشهادة.
ثانياً: أن قدرات المخلوقات تختلف ما بين مخلوق ومخلوق، فقدرات ملك الموت أو غيره من الملائكة -مثل جبريل عليه السلام، وميكائيل وإسرافيل وغيرهم- لا تقاس بقدرات البشر أبداً، فلا شك أن الله أعطاهم من القدرات ما لم يعط البشر.
كما أن بعض الخلق عنده من القدرات ما ليس عند البشر، والبشر عندهم ما ليس عنده، والجن عندهم من المقدرة ما ليس عند البشر.
فالجني قد يطلع على أمر لا تحجبه عنه الحجب المادية المحسوسة، في حين أن الإنسان تحجبه الجدران وتحجبه الوسائل التي تحجب المدركات، والجني لا تحجبه هذه الأمور إلا في حدود معينة حددها الله له في أصل خلقه.
فعلى هذا لا يصح أن يرد هذا الاعتراض أو الإشكال في ملك الموت؛ لأن ملك الموت أعطاه الله عز وجل من القدرات ما لم يعط البشر، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أنا لا ندري لعل الله عز وجل يقسم الموتى في الزمن، فاللحظة فيه يمكن أن تقسم إلى ألف قسم.
ثم إن ملك الموت -كما هو معروف- معه فريق من الملائكة، ومع ذلك فإن الله عز وجل أقدره على ما يشاء مما كلفه به، فلا داعي لمثل هذا القول في أمور الغيب؛ لأنها غيب، وعليها نقيس ما ورد في أخبار الغيب من عذاب القبر ونعيمة وأحوال الموتى وأحوال الجن وأحوال الشياطين وأحوال الملائكة، فالشيطان -وهو إبليس- ثبت أنه يوسوس وأن له جنوداً.
فهذه مسائل لا نقيس فيها ما أخبرنا الله به من أمور الغيب وثبت فيه الخبر على عالم الشهادة أبداً.
وكل المقاييس العلمية التي تحت تناولنا لا يمكن أن تحكم أمور الغيب، فإذا ما أيدت الغيب فلا يمكن أن تعارضه أو أن تحكم فيه بما يعارض ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا يجب على المسلم أن يريح نفسه من هذه الأمور، ويعرف أن الله عز وجل لا حدود لقدرته، وأنه يقدر عباده على ما يشاء من القدرات التي يخلقها ويوجدها.
ونحن نعرف ما حدث لسليمان عليه الصلاة والسلام حينما طلب من بعض مجالسيه من أهل العلم ومن الشياطين ومن الجن ومن البشر، إحضار عرش بلقيس، فعرض عليه العفريت أن يحضره قبل أن يقوم من مقامه، وقال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، وهذا في اليمن وهذا في الشام في فلسطين، وقبل أن يرتد إليه طرفه كان عرش بلقيس أمامه، فالله عز وجل صرح بأن ذلك بعلم آتاه الله المخلوق، فهذه المسألة وغيرها من المسائل الغيبية، ولا يجوز إثارة مثل هذه الأسئلة فيها.
والإنسان إذا أشكل عليه الأمر عليه أن يسلم بأن كلام الله حق، وأن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ويكفي ذلك.
وأحب أن أنبه على الأدب الشرعي الذي وجه إليه الله تعالى في كتابه بشأن الروح حينما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وهذا فيه توجيه رباني بأن المسلم يجب عليه أن لا يخوض في موضوع الروح على سبيل الجزم.
كما أن الخوض في الروح على سبيل تحديد الماهية يعتبر -والله أعلم- مما نهى عنه الشرع؛ لأن صرف النبي صلى الله عليه وسلم من سألوه عن الحديث عن ماهية الروح يدل على أن هذا مما أمر الله عز وجل بالتأدب به والتزامه، لكن قد يجوز الكلام أحياناً عن بعض خصائص الروح الخارجية التي ورد ذكرها، أو ذكر شيء منها في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما ماهية الروح فلا يجوز الكلام فيها، أما خصائص الروح وأعمال الروح وما ورد في صفاتها فهذا يجوز الكلام فيه؛ لأنه ورد في الشرع، لكن أيضًا بقدر لا يتجاوز ما ورد في الكتاب والسنة.(84/6)
الخلاف في حقيقة الروح
قال رحمه الله تعالى: [واختلف في الروح: هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة إلى ذلك.
واختلف في الروح: ما هي؟ فقيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما الروح، أجوهر أم عرض؟ وقيل: ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع].
الطبائع الأربع هي: الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة.
قال رحمه الله تعالى: [وقيل: هي الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وقيل: هي الحرارة الغريزية وهي الحياة، وقيل: هو جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدبير].
الجوهر هو تعبير عن جزء الجسم أو الجسيمات الصغيرة الشفافة التي ليس لها ثقل ولا كثافة ملموسة، أو أن ثقلها لا يمكن أن يدركه الناس بمداركهم، فإذا قيل: جوهر بسيط فذلك يعني أنه لا ثقل له ولا كثافة، كالهواء مثلاً، فالهواء قد يسمى جوهراً بسيطاً.
والجوهر المركب أو الكثيف: الأجسام الصلبة التي تتركب من عدة جزيئات، ثم تكون لها كثافة ويكون لها ثقل فتقبل اللمس وغير ذلك من الإحساسات.
قال رحمه الله تعالى: [وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير، وقيل: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، وقيل غير ذلك.
وللناس في مسمى الإنسان: هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل منهما؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه: هل هو اللفظ، أو المعنى فقط، أو هما، أو كل منهما؟ فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه.
والحق: أن الإنسان اسم لهما، وقد يطلق على أحدهما بقرينة، وكذلك الكلام.(84/7)
حقيقة النفس التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع
قال رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس].
وجه المخالفة ما ذكرته قبل قليل، وهو أنها ليس فيها ثقل ولا كثافة، هذا معنى مخالفة الأجسام الكثيفة المركبة، فهي مخالفة للجسم في كيفية الخلق، فليس لها ثقل ولا كثافة.
قال رحمه الله تعالى: [وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.
فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء، وأفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها].
هذا يحتمل أن المقصود به الروح، أو أن النفس قد يرد ذكرها أحياناً على معانٍ أخرى، وسيأتي الكلام عن أن النفس والروح بينهما أحياناً تلازم، وبينهما أحياناً افتراق حسب السياق، ومع ذلك فإن مجموع النفس والروح توصف بصفات تدل على أنها مخلوقة، وأنها ربما تكون جواهر بسيطة أو مخلوقات شفافة، وغير كثيفة، فورد أن النفس والروح قابلة للتوفي، وأنها قابلة للقبض، وأنها قابلة للإخراج والخروج والدخول، والبعث والعروج، وغير ذلك من الأوصاف التي تطلق على النفس والروح معاً، وأحياناً بعضها يطلق على الروح فقط، وبعضها يطلق على النفس.
وهذا دليل على أن بين الروح والنفس شيئاً من الترادف أحياناً وشيئاً من الاختلاف في بعض الأحيان بحسب السياق.
والأقوال في تفسير الروح ليس لها مستند يقيني من الأدلة الشرعية، ما هي إلا استنباطات إما من ظواهر النصوص، وإما من كلام الناس، وإما من بعض الاستنتاجات العقلية التي لا يلزم أن تكون حقيقة، فليس في ذلك ما تتعلق به العلوم الشرعية، بل هي أقوال أقرب إلى الترف العلمي منها إلى الحقائق العلمية، فضلاً عن أن تكون عقيدة، ما عدا الإجماليات الكبرى، ككون الروح من خلق الله عز وجل، وتنفخ في الجسد في وقت معين، وأن الله عز وجل يرسل ملكاً لنفخ الروح في وقت معين بعد مائة وعشرين يوماً إلى آخر هذه الأمور التي لا بد من الإيمان بها؛ لأنها جاءت بها النصوص.
أما ما عدا ذلك -كتفسير الروح ما هي، والنفس ما هي، ومتى تغاير النفس الروح، ومتى توافقها- فهذه أمور أقرب إلى الاستنتاجات، وبعضها يكون راجحاً إذا قام عليه الدليل، لكن لا يكون يقينياً، وبعضها لا أصل له.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها، ووصفها بالإخراج والخروج، والإخبار بعذابها ذلك اليوم، والإخبار عن مجيئها إلى ربها.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60]، ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل، وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت.
وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر)، ففيه وصفه بالقبض، وأن البصر يراه.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث بلال: (قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة).
وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، إلى غير ذلك من الصفات.
وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة، والشبه الفاسدة، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية].(84/8)
العلاقة بين النفس والروح
قال رحمه الله تعالى: [وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح: هل هما متغايران، أو مسماهما واحد؟ فالتحقيق: أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة.
فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها.
وتطلق على الدم، ففي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه).
والنفس: العين، يقال: أصابت فلانا نفس، أي: عين.
والنفس: الذات، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، ونحو ذلك].
الذات يقصد بها البدن والروح معاً، وأحياناً يقصد بها البدن وحده، فالإنسان والحيوان يسمى بدنه نفساً، وأحياناً تطلق النفس على البدن والروح معاً.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن، وعلى جبرائيل، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193]، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضا.
وأما ما يؤيد الله به أولياءه فهو روح أخرى، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
وكذلك القوى التي في البدن، فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشام.
وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو: قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح].
لذلك يعبر الناس عن الأمور الإيمانية اليقينية وعن الأحوال العبادية بالروحانية، ويعبرون عن خلافها -أي: عن الشهوات والبعد عن العبادة- بالمادية.
وهذا الإطلاق يوافق هذا المفهوم نوعاً ما، وإن كان كثير من المنحرفين من غلاة المتصوفة وغيرهم بالغوا في هذه المسألة حتى جعلوا لها معاني غير شرعية، ومعاني بدعية، ومع ذلك فالإطلاق في أصله ناتج عن مفاهيم الناس نحو الروح.
فهناك من المفاهيم التي تطلق ما يقصد بالروح فيها الروحانية التي هي الإقبال على العبادة، والمادية بعكس ذلك، أي: الشهوات والملذات والإقبال على بهرج الدنيا والأمور التي تبعد عن جو العبادة.
قال رحمه الله تعالى: [والناس متفاوتون في هذه الأرواح: فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا].(84/9)
صفات النفس
قال رحمه الله تعالى: [وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة، ولوامة، وأمَّارة.
قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53].
والتحقيق: أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، مع قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث].(84/10)
الخلاف في موت الروح
قال رحمه الله تعالى: [واختلف الناس: هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت؛ لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت؛ فالنفوس البشرية أولى بالموت.
وقال آخرون: لا تموت الأرواح؛ فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان.
قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها.
والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية؛ فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى].
وعموم النصوص يدل على أن المقصود بتوفي الأرواح أو توفي الأنفس هو خروجها من الأجساد، والنفس تطلق ويراد بها الجسد، ولا شك أن الأجساد تموت وتضمحل، يعني: تفنى، وأما الأرواح فإن التوفي والموت لا يعني أنها تنعدم، إنما تخرج من الجسد، وإذا خرجت من الجسد فقد ورد في النصوص أن أرواح المؤمنين -أسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- ترتفع وتصعد إلى السماء، وأما أرواح الكفار -نسأل الله العافية- فتبقى في أسفل سافلين، وتوصد أمامها أبواب السماء.
فإذا قصد بموت الروح التحول عن الجسد، بحيث تنفصل الروح عن الجسد؛ فهذا صحيح، وإن قصد بالفناء والموت ما يقصده كثير من الذين يتفلسفون ولا دليل عندهم على أنها تنعدم، فالصواب خلافه، وهو أن النفس أو الروح لا تنعدم، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]، وتلك الموتة هي مفارقة الأرواح للأجساد.
وأما قول أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]؛ فالمراد أنهم كانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتا، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق -والله أعلم- موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم].(84/11)
الأسئلة(84/12)
حال مرتكبي الكبائر عند الموت فيما يخص مناداة النفس المتوفاة
السؤال
الناس عند الموت صنفان: صنف يقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، وصنف آخر يقال لهم: يا أيتها النفس الخبيثة، فماذا يقال للمسلمين العصاة ممن ارتكبوا بعض الكبائر وما زالوا على الإسلام؟
الجواب
مرتكب الكبيرة المسلم إذا مات على كبيرته فظواهر النصوص تدل على أنه تخاطب نفسه خطاب النفس الخبثة.
ولو رجعنا إلى سياق الحديث الذي ورد فيه النفس الخبيثة؛ فسنجد أنه يشمل الكافر والمنافق والعاصي في بعض الأحوال، وليس في كل الأحوال، فليس عندنا يقين على أن كل العصاة الذين يموتون على المعصية يخاطبون بهذا الخطاب، لكن هناك دلائل تدل على أن بعض أصحاب الكبائر الشنيعة إذا ماتوا على كبائرهم تخاطب نفوسهم بخطاب النفوس الخبيثة، لكن ذلك -والله أعلم- يكون من باب الجزاء المقدم، أو العذاب المقدم، الذي يشبه عذاب القبر؛ لأن بعض العصاة يعذبون عند خروج الروح، ويعذبون في القبر، لكنهم عند الحساب تحت مشيئة الله، قد يغفر الله لهم ويدخلون الجنة، ويكون عذابهم عند الموت -بأن يقال: يا أيتها النفس الخبيثة- وعذابهم في القبر بمثابة التكفير لذنوبهم، هذا ظاهر النصوص والله أعلم.(84/13)
المفاضلة بين طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى
السؤال
أيهما أفضل: طلب العلم والانصراف إليه بالكلية، أم الدعوة إلى الله عز وجل وصرف الوقت في ذلك، أم الأفضل الجمع بين الأمرين؟
الجواب
الصواب أن ينظر في حال الشخص، فإن كان من ذوي الذكاء والفطنة والقدرة على الاستنباط فإنه يجعل وقته لطلب العلم، ومن كان دون ذلك فإنه ينصرف إلى الدعوة والعبادة مع أخذ القدر الكافي من العلم الضروري الذي يحتاجه، وكل ميسر لما خلق له.
وهنا أنبه على أن الناس الآن عندهم نوع من الخلط في التصورات يحتاج إلى التنبيه عليه، ومن ذلك فهم الناس للدعوة، فهذه مسألة ينبغي أن يعنى بها طلاب العلم.
فالمفهوم السائد عند شبابنا للدعوة أنها ممارسة العمل الدعوي العملي فقط، وعلى هذا فإنهم لا يعتبرون طالب العلم المتمسك الذي يعكف على طلب العلم الشرعي، ويعمل بشعائر الدين، ويستقيم في بيته وفي أهله، لا يعتبرونه داعية، وهذا خطأ فادح.
وأنا أعتبر أعظم نموذج للدعوة أن يكون الشاب مكباً على العلم الشرعي، وأن يكون عاملاً بما يعمل، سلوكه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وملازم للعلماء وطلاب العلم، وأن يكون قدوة فيما يعمل وما يأتي وما يظهر به أمام الناس، وأن يحرص على شعائر الدين الظاهرة، فهذا عندي أكبر داعية، والنصوص على هذا ظاهرة من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وسلوك الصحابة والتابعين.
وكون المسلمين يحتاجون إلى بعض العمل في الدعوة وفي أعمال البر أمر معلوم، لكن لا يعني أن الدعوة تحصر على أعمال البر وعلى الحركة والنشاط، كما هو مفهوم كثير من شباب المسلمين في العالم كله الآن.
فكوننا نتحرك بما نستطيع هذا لا بأس به، لكن أن نحصر الدعوة على العمل النشط فلا، بل هذا وجه من وجوه الدعوة.
وأفضل داعية هو طالب العلم المستمسك الذي يكون قدوة للناس في قوله وعمله وسلوكه، هذا هو أكبر داعية.
والداعية النشط في الدرجة الثانية بعده، أعني النشط في حركته وعمله؛ لأن طالب العلم الذي يكب على العلم هو الذي يشق طريقه إلى الرسوخ في العلم، والذي يكون من أهل الذكر، ويكون مرجع الأمة في الفتوى، ومرجع الأمة في الرأي، ومرجع الأمة في الأنموذج الذي يحتاجه الناس.
ومع ذلك ففي كل الخير، ولا يعني ذلك أنا نشطح ونقول: الدعوة هي هذا العمل فقط، وإنما أقول: هذا أفضل أنموذج للداعية، ومع ذلك فإن الدعوة يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيها أعمال البر، وهذا من أعظم أبواب الدعوة، والمسلمون لو أنهم حصروا الدعوة في معنى واحد لقصروا، وربما أثموا إثماً عظيماً؛ فلا بد من التوازن.
فمن مفهوم الدعوة الضروري الذي يجب أن يلقنه شبابنا اليوم هو ما ذكرته من أن يكون طالب العلم أنموذجاً وقدوة لغيره في علمه وسلوكه، وسيكون أكبر داعية بإذن الله ولو لم يتحرك الحركة التي يفهمها الناس.
ولذلك يجب أن يلتزم الداعية بالنهج السليم وقواعد الشرع، وسمت أهل العلم وهديهم، والبعد عن الأمور التي لا تليق بالدعاة مما يثير الفتن أو يوقع الأمة في الحرج، أو نحو ذلك مما يسلكه بعض الناس هداهم الله من باب الاجتهاد.
فعلى هذا لا بد من تصحيح المفهوم حول الدعوة عند الناس، وإن كنا نجد أن مشايخنا -حفظهم الله- يمثلون النموذج الأمثل للدعاة، وهذا خير قد تقوم به الحجة، ويقوم به البيان، كما أنهم أيضاً يوضحون هذه الأمور، يبينون أن الدعوة ليس المقصود بها فقط ما يفهمه الناس.
وقد فصل الناس بين الداعية والعالم، أو بين الداعية وطالب علم، فيقولون: هذا داعية، وهذا طالب علم، والحق أن طالب العلم هو الداعية، بل إذا لم يكن طالب العلم هو مرجع الداعية وهو قدوته؛ فإن هذا يعني الإنفصام النكد الذي نرى ظواهره الآن.
وعلى هذا فلا بد من تطمين كثير من الشباب الذين نجد عندهم شيئاً من عرض هذه القضايا، خاصة الشباب الصغار في المرحلة الثانوية أو بعض مراحل الجامعة، حيث تجد عند الشاب نوعاً من التوتر؛ لأنه يظن أنه إذا انكب على العمل وانقطع إلى العبادة خرج من كونه داعية فأثم، فتجد عنده شيئاً من التوتر وضيق النفس وضيق الصدر والتوفز والتحفز، يريد أن يخرج من وضعه الذي هو فيه؛ لأنه شعر أنه أنه قاعد حينما بدأ يكب على دروس المشايخ، وبدأ ينصرف إلى شئون أهل بيته، وبدأ يجالس الناس، ويجالس من ليس عندهم حركة ولا نشاط، يظن أنه ترك الدعوة وأنه بذلك وقع في ذنب عظيم، وربما حبط عمله، وهذا خطأ أقول: هذا الذي لاحظته في بعض الشباب، يقول أحدهم: أنا أحتاج إلى علاج.
فما الذي دهاك؟ يقول: كنت فيما مضى أتحرك وأمشي وأذهب في رحلات، والآن شعرت أنه ليس عندي إلا الذهاب إلى دروس المشايخ! فنقول: هذا خير كثير، فقد كنت تسعى في الزمن السابق بدون علم.
والدعوة الصحيحة أولاً تبدأ بالعلم، وأغلب الناس مداركهم وسط، فيجب على من كان كذلك أن يتعلم، ولو تجاوز الثلاثين والأربعين، ثم بعد ذلك يذهب للدعوة، فالأنبياء دعوا في سن كبير وما ضرهم ذلك، وما صارت شخصياتهم -كما يقال- مضطربة أو غير مرباة.
بل إني أقول: إن إغراق الشباب في سن المراهقة وما بعدها بقليل في العمل الدعوي الحرك(84/14)
بيان ما خالف فيه أهل البدع من العلو الثابت لله تعالى
السؤال
من المعلوم أن الله تعالى له العلو المطلق، فله سبحانه علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، فأي هذه الأنواع خالف فيه أهل البدع من أهل الكلام؟
الجواب
هو علو الذات، فهم حصروا العلو في علو القدر أو الخيرية المطلقة، أو ما يسمونه العلو المعنوي، وبعضهم قد يقر بعلو القهر وبعضهم لا يقر به، خاصة غلاة المتكلمين، لكن محل النزاع هو علو الذات.
ولذلك أنكروا الفوقية لله عز وجل، وأنكروا الاستواء، وأنكروا الأفعال التي تتفرع عن هذه المسألة، مثل النزول والمجيء ونحو ذلك.(84/15)
شرح العقيدة الطحاوية [85]
نعيم القبر وعذابه حق، وكذا سؤال منكر ونكير في القبر عن ربه ودينه ونبيه كما جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكلام في كيفيته فليس للعقل فيه مجال لكونه لا عهد له به في الحياة الدنيا، ولكن نؤمن إجمالاً كما جاءت النصوص بأحوال حياة البرزخ وما يجري فيها، وإن كانت بعض الجزئيات جرى فيها خلاف بين السلف.(85/1)
عقيدة أهل السنة في إثبات عذاب القبر
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران): قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:45 - 47].
وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك].(85/2)
ذكر حديث البراء بن عازب في عذاب القبر ونعيمه
قال رحمه الله تعالى: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.
قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟! فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه.
لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه.
لا أدري، فينادي مناد من السماء أن: كذب، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه الحاكم وأبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما وابن حبان].(85/3)
ذكر أحاديث أخرى في إثبات عذاب القبر
قال رحمه الله تعالى: [وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، وروى البخاري في الصحيح عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: أنظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعاً)، قال قتادة: وروي لنا أنه يفسح له في قبره، وذكر الحديث.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم -أو الإنسان- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر: النكير) وذكر الحديث.
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا].
كون الشرع لا يأتي بما تحيله العقول صحيح، بمعنى أنه لا يمكن أن يأتي بشيء يخالف العقل السليم؛ لأن العقل السليم مفطور على الاستقامة، وعلى التوافق مع الوحي؛ لأن الوحي هو كلام الله، والعقل السليم من خلقه، ولا يمكن أن يتعارض الخلق مع الأمر، فخلق الله وأمره متوافقان، لكن العقول المشوشة أو التي اعترضتها الأهواء، أو سوء التربية أو الجهل، أو تنازعتها المذاهب وأقوال الناس؛ ربما يتخيل أصحابها تخيلاً أو توهماً يحيله العقل، لكن المقصود هنا العقل السليم المهتدي بهدي الله عز وجل، فإن هذا العقل أي السليم الذي على الفطرة السلمية لا يمكن أن يتصور من أمور الشرع ما يناقض العقل.
لكن قد يأتي الشرع بما تحار فيه العقول، بمعنى أنه قد يأتي في الشرع ما لا تدركه العقول، فتحار فيه، والحيرة متوجهة إلى العقل بقدراته الناقصة، لا إلى الشرع، فحينما نقول: إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإن الحيرة أتت من قصور العقول، لا من كون كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشتمل على المحارات في ذاته، أو على الأمور المحيرة المتشابهة، فهذا لا يمكن، لكن الحيرة تأتي من قصور العقل، والعقل مخلوق، والمخلوق محدود ويعتريه السهو والنسيان والخطأ، والفناء، والهوى، ونوازع الشيطان، وغير ذلك من الأمور التي تعتري العقل، فقد يحار في بعض الأمور التي جاء بها الشرع.
وحيرته لا تعني أن الشرع اشتمل على محارات، فالشرع لا يأتي إلا بالأمر البين، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين بالواضحة البيضاء التي ليلها كنهارها، والوضوح لا يمكن أن يكون فيه شيء من المحارات، إنما المقصود أن عقول بعض البشر قد تحار في بعض الأمور الغيبية التي جاءت في كتاب الله، أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(85/4)
أنواع تعلق الروح بالبدن
قال رحمه الله تعالى: [فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها إليه التفات ألبتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً، فالنوم أخو الموت، فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.
وليس السؤال في القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به.
واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور.
وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله! بل سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان].(85/5)
أحوال الإنسان في قبره
هذا الكلام متعلق بعذاب القبر ونعيمه، والإنسان تثبت له في قبره سبعة أحوال: الحالة الأولى: أنه تعاد روحه إلى جسده في الحياة البرزخية، والحياة البرزخية هي الواسطة بين حياتين؛ إذ البرزخ هو الفاصل بين شيئين، فالطريق الفاصل بين أرضين يسمى برزخاً، والطريق بين البحرين يسمى برزخاً، فالبرزخ معناها حياة بين حياتين، بين حياة الدنيا وبين الحياة الآخرة.
فأول أحوال الإنسان أنه تعاد روحه في جسده، والثانية يأتيه ملكان، ويحصل له من الملكين ما يحصل، ومن ذلك أنهما يحاسبانه ويسألانه، وليس المراد الحساب التفصيلي الوارد بعد الحشر والبعث، إنما هو حساب محدود بهذه الأسئلة الثلاثة.
والملكان قيل: إنهما المنكر والنكير، وبعض أهل العلم يصحح حديث منكر ونكير الذي فيه اسماهما.
والحالة الثالثة: أنه يسأل عن ثلاثة أمور: عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم.
والحالة الرابعة: أنه يفرش له إذا كان مؤمناً من الجنة، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة.
وإذا كان من أهل الجنة فله حالة خامسة، وهي أن يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحها.
والحالة السادسة: أنه إذا كان أيضاً مؤمنا يفسح له في قبره مد بصره، وهذه مسألة غيبية أيضا أشكلت على بعض العقلانيين الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، فزعموا أن القبور المتقاربة لا يتأتى أن يمد لكل واحد من المؤمنين فيها مد بصره؛ لأنهم قاسوا أحوال البرزخ بأحوال الدنيا، وهو قياس فاسد؛ فإن ذلك أمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، وراجع إلى الحياة البرزخية الغيبية بكل أجزائها، ولا تحكمها مقاييس الدنيا، لا بمسافات ولا بزمان ولا بمكان، إنما هي راجعة إلى قدرة الله عز وجل، وهذا أمر لا حد له، والخبر لا بد أن يصدق.
والحالة السابعة: أنه يأتيه رجل حسن الوجه إذا كان مؤمناً، وتنعكس الأحوال الأربعة الأخيرة بالنسبة للكافر، نسأل الله العافية.
فهذه أحوال سبعة ثبتت بالنصوص: إعادة الروح، وسؤال الملكين، وما يفرش له، وما يفتح له من باب، وكذلك أنه يمد له مد بصره، أو يضيق عليه إذا كان كافراً، نسأل الله السلامة، وأنه يأتيه رجل فإن كان مؤمناً كان حسن الوجه يؤنسه ويسعد به، وإن كان عمله سيئاً فيكون بمثابة الرجل القبيح الوجه، كما هو وارد في النصوص.
هذه الأحوال ثبتت فيها النصوص، ولم يجادل فيها أهل العلم، وإن كان بعض أهل العلم ناقش في بعض المسائل، لكن الغالب أن من ناقشوا هم من أهل الكلام، وليسوا من أهل السنة، وأن من روي عنهم هذا الشيء من بعض أهل السنة ربما لم يبلغهم الحديث، مع أني لا أعرف أن هذا من آراء أهل السنة، إنما هو من آراء المتكلمين، أي إنكار هذه الامور جميعاً أو بعض هذه الأمور، أو بعض هذه الاقوال.
وأما تسمية الملكين بمنكر ونكير فهذه مسألة راجعة إلى ثبوت الحديث الذي فيه التسمية، لكن لا أثر لها على ثبوت ورود خبر الملكين، فإن هذا أمر آخر، وقد خلط بعض المفسرين في هذه المسألة، فخلط بين إنكار اسم منكر ونكير، أو دعوى أنه لم يرد إلا في أحاديث ضعيفة، وبين مسألة ثبوت ورود الملكين، فالملكان لا شك أنهما يأتيان الإنسان في قبره، لكن تسمية الملكين بمنكر ونكير هذه راجعة -كما قلت- إلى صحة الحديث، والظاهر أن الحديث صحيح، والله أعلم.(85/6)
اختلاف الأحكام المتعلقة بالأبدان والأرواح باختلاف الدور
قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً، فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه وهذا في حفرة من النار وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه، وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً، وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، ولمَّا كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته].(85/7)
الاختلاف في مسائل من أحوال القبور
قال رحمه الله تعالى: [وللناس في سؤال منكر ونكير: هل هو خاص بهذه الأمة أم لا؟ ثلاثة أقوال: الثالث التوقف، وهو قول جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها)، منهم من يرويه (تُسأل)، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك وهذا أمر لا يقطع عليه، ويظهر عدم الاختصاص، والله أعلم، وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضاً.
وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان: منه ما هو دائم، كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]].
أي: منه قسم دائم إلى قيام الساعة، فالدوام في حال الحياة الدنيا.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: (ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) رواه الإمام أحمد في بعض طرقه.
والنوع الثاني: أنه مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما تقدم ذكره في الممحصات العشرة].(85/8)
الاختلاف في مستقر الأرواح بعد الموت إلى قيام الساعة
قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة، فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار.
وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
وقيل: على أفنية قبورهم.
وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك.
وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت.
وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس.
وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت.
وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
وقال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم.
وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه.
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه! وقولهم مخالف للكتاب والسنة.
وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها.
ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن محمد عبد الله بن جحش: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة.
فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفا).
ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون محبوساً في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم.
وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]؛ فهي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم -يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم.
فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه).
فقوله: (نسمة المؤمن) تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: (هي في جوف طير خضر).
ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة من كثير منهم، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم.
وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم.(85/9)
الأسئلة(85/10)
بيان ما لا يغفر من نوعي الشرك يوم القيامة
السؤال
هل الشرك الأصغر داخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
الجواب
الشرك الأصغر داخل في عموم المعاصي والذنوب، ولا يدخل في الشرك من حيث الحكم، والشرك الأصغر يشمل الكبائر والبدع وما دون ذلك، فالبدع المغلظة والكبائر المغلظة التي لا تخرج من الملة كثير منها يدخل في الشرك الأصغر.
بل ما هو دون ذلك من بعض البدع يدخل في الشرك الأصغر، فعلى هذا فالمقصود بالشرك الذي لا يغفر هو الشرك الأكبر فقط.(85/11)
مدى صحة اعتبار منكر ونكير وصفاً لعدد من الملائكة
السؤال
من خلال ما نشاهد من كثرة الموتى في وقت واحد قد نعلم أن منكراً ونكيراً وصف لمن يقوم بهذا العمل من الملائكة، مثل رقيب وعتيد، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا السؤال فيه خطأ في التصور، ذلك أن عمل الملائكة لا يقاس بعمل البشر في المحدودية وفي الكيفية، فلو مات مائة ألف في لحظة واحدة ودفنوا في لحظات متقاربة فإن سؤال منكر ونكير يشملهم.
وكيفية ذلك الله أعلم بها، وليس هناك داع لنقيسها بمقاييس الدنيا، وأحوال البشر في الوقت والمكان والزمان.
فهذا القول لا يقال على سبيل تقرير أن منكراً ونكيراً وصف.
والحقيقة أنه لا يلزم أن يكون وصفاً، فربما يكون اسماً، وربما يكون الاسم مشتقاً من الوصف، والله أعلم.(85/12)
شرح العقيدة الطحاوية [86]
من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والجزاء، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب والصراط والميزان، وكلها ثابتة في نصوص الوحيين، وكل الأمم مقرة بالبعث الأخروي غير طوائف قليلة ورد في القرآن الكريم محاججتهم والرد عليهم.(86/1)
عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان): الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه ورد على منكريه في غالب سور القرآن].
مسألة البعث من المسائل التي تكلمت فيها جميع الأمم، الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية، وجميع الديانات والمذاهب الكبرى تتكلم عن البعث، وهم بين منكرين وهم القلة، وبين من يقرون بمبدأ البعث لكنهم يختلفون، فمنهم من يقر بمبدأ البعث على نحو تراثي، وهم أكثر الديانات، ما عدا الإسلام، فالإسلام لا شك أنه الدين الحق الذي أبان الله به الحق، فإن الإيمان بالبعث فيه، ومسائل البعث جملة وتفصيلاً جاءت في نصوص من الكتاب والسنة بينة، لا لبس فيها ولا غموض.
والمنكرون للبعث تماماً قلة، وإن كان ورد ذكرهم في القرآن الكريم؛ لأن لهم وجوداً بين العرب وبين نُزاَّع الأمم، ويوجد ذلك في مذاهب الفلاسفة والدهريين وغيرهم.
وأما أغلب الذين يؤمنون بالبعث فقولهم كقول المنكرين، بمعنى أن مؤدى قولهم هو إنكار البعث، حتى أهل الكتاب اليهود والنصارى الآن، فإيمانهم بالبعث شبيه بإيمان الأمم غير الكتابية، ومؤدى رأي غالب الأمم في البعث إلى إنكاره؛ لأنهم يقولون: إن البعث بعث الأرواح فقط، فأغلب الديانات الشرقية، والديانات اليونانية، والديانات القديمة، وكذلك الفلاسفة يتكلمون عن البعث؛ لأنه جاء عن الأنبياء، لكنهم يفسرونه بتفسير هو في الحقيقة إنكار للبعث.
فبعضهم يرون أن البعث ما هو إلا نوع من التناسخ للأرواح، أي: أن أرواح البشر الموجودة الآن تنتقل إلى أجساد أخرى بعد الموت، وهذا هو البعث عندهم.
وبعضهم يفسر البعث بأنه حلقة من حلقات الدنيا تعتبر الحلقة الأخيرة، وهذا موجود عند المجوس وعند بعض الصابئة وعند الرافضة، وعند الباطنية وبعض غلاة الصوفية.
فيرون أن البعث ما هو إلا حياة أخرى لاحقة بالحياة الدنيا تعتبر انتصاراً لمن يقدسونه، وانتصاراً لهم على الآخرين.
فكأن البعث عندهم حلقة من حلقات هذه الحياة الدنيا تعتبر هي الحلقة الأخيرة، يسعد فيها السعداء ويشقى فيها الأشقياء، على نحو خرافي عندهم.
وهذا هو ما عليه أكثر الديانات الوضعية، فهو عند الصابئة وعند المجوس بمختلف دياناتهم، وعند أكثر الديانات الهندية، ويوجد عند بعض الرافضة، وعند غلاة الصوفية، وغلاة الفلاسفة وغيرهم، وأكثر الباطنية.
لكن بعضهم يقول: إن هذه الحلقة تتكرر، بمعنى أن البعث يتكرر على مدار سنين معينة، يعدونها بآلاف السنين.
فبعضهم يقول: ستة آلاف سنة، وبعضهم يقول: في كل ست وثلاثين ألف سنة، وبعضهم يقول: في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة إلى آخره.
فليس البعث عندهم بمعنى تبدل الأرض بغير الأرض، وأن الله عز وجل يميت جميع الناس ثم يحييهم مرة أخرى، ويندر أن يوجد هذا التصور عندهم، حتى عند أصحاب الديانات الكتابية، فبعضهم يرى البعث تناسخاً، وبعضهم يرى البعث حلقات، وهو أيضاً نوع من التناسخ، وبعضهم يرى أن البعث هو الحلقة الأخيرة من هذه الحياة.
فالإيمان بالبعث حتى عند الأمم الكتابية لا يخلو من هذه التصورات الفاسدة، فلا يوجد من يؤمن بالبعث على نحو صحيح سليم إلا المسلمون.
وإن وجد من يؤمن به كذلك فعددهم قليل، وليس هو مذهباً سائداً عند غير المسلمين، ولا حتى عند أهل الكتاب.
ولا شك أن العقول السليمة تدرك ضرورة الإيمان بالبعث، فبعض العقلاء حتى وإن لم يكونوا مسلمين عندهم هذا الشعور، وهو شعور فطري، غريزي؛ لأننا إذا قلنا: إن وجود البشر في هذه الدنيا جاء عن إبداع وعن حكمة ولا شك في ذلك، فنحن نرى الناس يموتون والأمم تنقضي وتفنى، وبينها تفاوت في الأقدار وفي الأعمار وفي الرزق وفي الحظوظ، وهناك الظالم والمظلوم، وفي هذه الدنيا من استكمل نصيبه وحظوظه، وفيها من لم يستكمل، فيموتون على هذا الشكل بتفاوتهم، مما يوجب عند العاقل ضرورة أن يكون هناك حلقة أخرى تكون فيها المساواة، ويكون فيها العدل المطلق، وإن كنا نعرف أن الله عز وجل عدل بين الخلق في الدنيا والآخرة، لكن هناك أمور غيبية لا ندركها.
فالظاهر من كثير الناس الذين ليس عندهم إدراك لحكمة الله عز وجل أو قناعة بأحكام الله على التفصيل أنهم يشعرون بالضرورة وبالغريزة من أنه لا بد من استكمال حلقات الدنيا، أو حظوظ البشر والأمم على نحو ما، فيوجد عندهم الشعور بضرورة البعث، فهذا شعور عام هو أشبه بالدلالة العقلية المجملة، لكن مع ذلك هذه الدلالة لا تعطي يقيناً بالبعث، ولا تعطي أيضاً خبراً عن تفاصيل البعث، وما بعد البعث؛ لأن أحوال القيامة والبعث وما يحدث فيها من أهوال، ثم بعد ذلك انقسام الناس إلى شقي وسعيد، وإلى منعم ومعذب، هذا أمر لا يدرك على التفصيل، حتى وإن أقرت بضرورته بعض العقول السليمة، لكن على التفصيل أنى للإنسان أن يدرك هذه الأمور الغيبية على التفصيل؟! فكان لا بد من الإيمان بالغيب والإيمان بالبعث على نحو ما ج(86/2)
اتفاق الأنبياء على الإيمان بالآخرة وموقف الفلاسفة من الأنبياء والبعث
قال رحمه الله تعالى: [وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري].
يقصد بالخطاب الجمهوري أن نظرة الفلاسفة للأنبياء نظرة خاصة؛ لأن الفلاسفة ليسوا من أتباع الأنبياء، فقد اتفق المحققون من أئمة السلف وغيرهم أن الفلسفة لم تأت إلا بمخالفة ما جاء به الأنبياء، الفلسفة بمعناها الاصطلاحي عند السلف، لا أقصد الفلسفة في العصر الحديث؛ لأن الناس توسعوا في مفهوم الفلسفة في هذا العصر، لكن الفلاسفة بمفهوم العلماء في القرون الأولى إلى وقت قريب هم من لم يؤمن بالنبوات، أو إيمانهم بالنبوات منحرف، فلا يمكن أن يكون فيلسوفاً ومؤمناً بالنبيين على وجه الحقيقة، قد يكون هناك إيمان إجمالي؛ فلذلك مبدأ الفلاسفة يقوم على اعتبار أن الأنبياء ما هم إلا أناس عباقرة، عندهم قدرات ومواهب عالية جبارة، استطاعوا أن يصنعوا للناس أشياء وتعاليم يقودون بها الأمم، وبمواهبهم العالية استطاعوا أن يجذبوا إليهم العوام، فخاطبوا الجمهور بخطاب عقلي نابع عن عبقرية ومواهب عالية.
وبعض الفلاسفة قد يفسر بعض أمور النبوة بشيء من التفسيرات الغيبية الوهمية لا الصحيحة، فيقول: نظراً للعقلية الجبارة والمواهب الجبارة عند النبي فقد تتصل به قوة خارجية وأرواح خارجية فتفيض عليه من فتوحاتها، فيقول بأقوال هي أشبه بالهستيريا.
هذه هي مذاهب الفلاسفة إلى يومنا هذا، وكل من أعرفهم من الفلاسفة الإسلاميين هذا كلامهم في النبوات، فالفلاسفة يقدرون الأنبياء ويحترمونهم، لكن على أنهم أناس عباقرة، لا أن الله أوحى إليهم، وإن فسروا الوحي فسروه بنحو خرافي.
إذاً معنى قولهم: إن خطاب الأنبياء خطاب جمهوري، أي: أن الأنبياء بعبقريتهم ومواهبهم العالية خاطبوا الجمهور بخطاب عقلي، فصار لهم أتباع، وصارت لهم ديانات صنعوها من عند أنفسهم، ولذلك كان أمثال العقاد يقول: ما النبوة قبل إبراهيم إلا نمط من الكهانة، وأن الأنبياء قبل إبراهيم ما هم إلا مجموعة من الكهان الذين يحترفون حرفة الكهانة أمام الأمم.
وكان العقاد يفسر النبوة تفسيراً خرافياً على نحو ما يقول الغرب.(86/3)
تبيين القرآن لمعاد النفس والبدن ومعرفة ذلك عند الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام.
وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:24 - 25]، ولما قال إبليس اللعين: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36 - 38].
وأما نوح عليه السلام فقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:17 - 18].
وقال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] إلى آخر القصة.
وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260].
وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16] بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33] إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] إلى قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
وقال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، وقد أخبر الله في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73].
وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة.
وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53].
وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
وأخبر عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1 - 2]، إلى أن قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7].
وذم المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45].
{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُون(86/4)
الأسئلة(86/5)
اختلاف السلف في مستقر الأرواح بعد الموت
السؤال
كيف اختلف السلف في مستقر الأرواح بعد الموت مع أنها مسألة غيبية لا مجال للرأي فيها؟
الجواب
بعض المسائل التي اختلف فيها السلف ولم يتفقوا فيها على قول، وهي من أمور الغيب، استنتجوها أو استروحوا القول فيها من النصوص لا على سبيل الجزم، بعضهم قد ينتزع من بعض النصوص مفاهيم أو أحكاماً معينة لا يجزم بها، لكن يفهمها إما بالمفهوم وإما بظاهر النص من غير جزم، وإما بقرائن أو بسياقات وغيرها، فأغلب المختلف فيها من الأمور الغيبية عند السلف نجدها مما يتنازع فهم الناس فيها، لا على أنهم يقولون فيها بغير علم مطلقاً، إنما قد يفهم من بعض النصوص بعض الأحكام أو بعض الأشياء نظراً لاختلاف المعنى، فيكون الاختلاف؛ لأن النصوص الغيبية منها ما هو قطعي الدلالة قطعي المعنى فهذا لا خلاف فيه، ومنها ما هو ثابت في دلالته أي في نصه، لكن اختلف في معناه، فهذا اختلفوا فيه على اختلاف فهومهم في النصوص، ولذلك فإنهم يدخلونه تحت مشكل الآثار أو مشكل النصوص، أي: ما يشكل عند صاحب النظر لا في ذات النص، وهذا قليل جداً، ولا يدخل في الأصول، إنما يدخل في الفرعيات.(86/6)
شرح العقيدة الطحاوية [87]
أدلة البعث العقلية والنقلية مبثوثة في النصوص الكثيرة، وما يدعيه المنكرون من أدلة هي في حقيقتها أوهام وخيالات كاذبة وأساطير منافية للحس والعقل، كما أن جزاء الأعمال في الآخرة من ثواب أو عقاب هو مما أوضحته النصوص وبينته بجلاء، وكذلك العرض والحساب والميزان كله في آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكابر أحد في ذلك ولا يماري.(87/1)
تابع عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللحجة تقدير آخر: وهو لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما، فإنه قادر على أن يفنيكم، ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51].
ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز، ووضع الأدلة، وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفى بالجواب، وأقام الحجة، وأزال الشبهة، ولما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم علماً ضرورياً أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80].
فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم].
وفي مثل هذه الحجة نجد أن الخصم لا بد أن ينقطع، يعني: إذا كان الخصم منصفاً عاقلاً يريد الحق أصلاً، أما إذا كان لجوجاً، فاللجوج ينكر البدهي، وهذه الحجة بدهية وفطرية وبرهانية وتطبيقية في وقت واحد، تجتمع فيها جميع معاني إقامة الحجة، فهي حجة شرعية وعقلية، وهي أيضاً من البدهيات، ولذلك لا يمكن لأحد من البشر مهما أوتي من قوة في الذكاء والمقدرة والوسائل العلمية أن يأتي بدليل على البعث مثل هذا الدليل، أو يأتي بحجة على البعث مثل هذه الحجة، ولذلك لما تكلف المتكلمون بعد عصر الصحابة الذين بزعمهم أرادوا أن ينصروا الحق بالقواعد العصرية، لما تكلفوا الحجج العقلية لم يأتوا بمثل هذا البرهان، بل في الغالب أنهم سلكوا مسالك وعرة ملبسة عسرة الفهم، وعسرة الألفاظ لبيان أو إقامة الحجة على البعث، ثم هم لم يصلوا إلى مثل هذه النتيجة ولا إلى قريب منها، وكثير من المتكلمين الذين زعموا أنهم أتوا بالأدلة العقلية على البعث ذهل عن هذا الدليل، ولو استعمله واكتفى به لاستراح من تسويد المجلدات العظيمة بلا طائل، وفي النهاية ما وصلوا إلا إلى التشكيك أحياناً أو إلى إنكار بعث الأجساد، أو إلى أدلة واهية لا تقوم بها حجة ولا تستبين للمخاصم أو المجادل، سواء كان المجادل عنيداً أو كان ممن يريد الحق، لكن لم يهتد إليه.
إذاً: هذا البرهان على البعث يكفي عن كل الأدلة والوسائل العلمية التي يسلكها الناس، وقد اجتمعت في هذه الأدلة ما يدل على البعث، فلذلك ينبغي للمسلم دائماً في أي قضية يريد أن يستدل فيها، ينبغي له أن يتحرى أدلة القرآن، وألا يحيد عن الدلالة القرآنية، إلا بمزيد من الشرح لبعض المعاني التي قد يجهلها الخصم في معاني الألفاظ، أو ترتيب النتائج على المقدمات التي وردت في القرآن، فكل أمر من الأمور الشرعية والعقلية سواء في عالم الشهادة أو في عالم الغيب له دليل في القرآن، فلا يمكن للناس أن يأتوا بأفضل منه، وهو يناسب جميع البشر بجميع لغاتهم، فالأدلة والبراهين القرآنية التي وردت في الاستدلال على قضايا الدين، سواء في باب الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته أو بالبعث أو بسائر أصول الدين، قد اشتملت على كل عناصر الإقناع لأي صنف من البشر، على اختلاف لغاتهم، لكن الذين يفقهون العربية لا شك أنهم سيعرفون الدليل مباشرة من القرآن، و(87/2)
الاستدلال بالشيء الأجلِّ الأعظم على الأيسر الأصغر في إثبات البعث والمعاد
قال رحمه الله تعالى: [ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل، فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81]، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33].
ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: (كن) فإذا هو كائن، كما شاء وأراده.
ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، إلى آخر السورة.
فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركّب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5]، إلى أن قال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16].
وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21].
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد.
ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجمع.
فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائماً، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض، فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.
والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة، يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن(87/3)
ما جاء في جزاء الأعمال في الآخرة
[وقوله: (وجزاء الأعمال) قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].
والدين: الجزاء، يقال: كما تدين تدان، أي كما تجازي تجازى، وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
وأمثال ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب، إن شاء الله تعالى].(87/4)
عقيدة العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب).
قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:15 - 18] إلى آخر السورة.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:6 - 15].
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15]، الآية، إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
وروى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8]؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور).
وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم.
فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش)؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق)، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة)، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله.
وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل)، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله.
وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر بن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة تطاير الصحف، فمن أوتي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل(87/5)
الإيمان بالصراط
وقوله: (والصراط): أي: ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر).
وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم.
وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا طُفِئَ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحضٌ مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل، ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، قال: فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث.(87/6)
معنى الورود في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72].
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]).
أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود:58].
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود:66].
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك.
وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور أن الورود هو المرور على الصراط.
وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علِّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة، فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي.
وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي)].
أمور القيامة تسمى السمعيات أو الخبريات؛ لأنها لا سبيل إلى إثباتها إلا بما ثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقول لا تحيط بدقائق هذه الأمور، لكن عقول البشر قد تدرك في الجملة ضرورة البعث، أما تفاصيل ما يحدث يوم القيامة من البعث والنشور والعرض والجزاء والحساب والصحف والصراط والميزان وغير ذلك، فهذه أمور لا يمكن أن تَرِدَ على خاطر أحد؛ لأنها أمور لا يعرف الناس دقائقها، فلا بد من الإيمان بها كما جاءت، والتسليم بأنها حق على حقيقتها.
فالعرض معناه: أن العباد يعرضون على الله عز وجل.
والحساب معناه: أن الله عز وجل يحاسب كل واحد منهم، ويحاسبهم جميعاً في وقت واحد، وكل واحد يظن أن الله لا يحاسب غيره ولا يناجي غيره، والله على كل شيء قدير.
وكذلك الكتاب هو كتاب حقيقي، وأن كل إنسان سيقرأ كتابه المتعلم والأمي، فالله عز وجل يمكن حتى غير القارئين من أن يقرءوا كتبهم، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
والكتاب هو الصحيفة، وقيل: إن الكتاب غير الصحيفة، وقيل: إن الكتاب هو ما فيه تفاصيل الأعمال التي كتبها الكرام الكاتبون، وأن الصحيفة هي خلاصة النتيجة وأشبه بالشهادة، وكل ذلك حق، فقد وردت النصوص بهذا وذاك، والثواب والعقاب الذي هو جزاء ذلك.
ثم ذكر الصراط وهو أمر حسي معلوم موصوف، وفي كل ما أشار إليه الشارح رد على الذين زعموا أن هذه الأمور ما هي إلا أمور توهيمية، أو أنها دلالات على معان لا على أشياء، فقال: الصراط هو الحق والعدل، وقال: إن الميزان هو العدل أيضاً إلى آخره.
فهذه الآيات والأحاديث الواردة تثبت أن هذه الأمور أمور حسية حقيقية أخبرنا الله عز وجل بها، فلا مجال لتأويلها، بل لا بد أن نؤمن بها كما جاءت، فمثلاً في حديث البيهقي: ذكر وصف الصراط، ووصف بعض ما يحدث للناس على الصراط من وجود النور للمؤمنين، وتفاوت النور بينهم، وهذا حق لا بد أن يثبت على حقيقته، وأنه أمر مادي محسوس يوم القيامة، وليس تعبيراً عن أمور معنوية، كذلك الصراط ووصفه بهذه الأوصاف، وأنه كحد السيف وأنه دحض، يعني: زلق، مزلة، ومزلة وصف لمعنى دحض، وأن الناس يمرون بهذا الصراط على قدر أعمالهم، فمرورهم أيضاً موصوف بهذه الأوصاف، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، وفي بعض الروايات كالبرق، ومنهم كالريح إلى آخره، وأن هذا الصراط صراط حقيقي على متن جهنم، وليس مجرد معان أو أمور معنوية يرمز فيها إلى رموز غير حقيقية، كما يقول الفلاسفة وأتباعهم من الجهمية وبعض المعتزلة، وكثير ممن يسمون أنفسهم بالعقلانيين والعصرانيين في العصر الحديث، فإنهم تعرضوا لهذه الأمور بالتأويل الذي يؤدي إلى إنكارها وتعطيلها.
نس(87/7)
شرح العقيدة الطحاوية [88]
نصب الميزان يوم القيامة لوزن أعمال العباد من كمال عدل الله سبحانه وتعالى وظهوره على خلقه؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، والميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان يوزن فيه الرجل مع عمله كما دلت النصوص على ذلك، وأما من ينفي الميزان من أهل البدع في الآخرة أو يتأوله ولا يصدق بالنصوص والآثار التي تثبت حقيقة الميزان، فهذا حري بأن لا يقيم الله له وزناً يوم القيامة.(88/1)
حقيقة الميزان في الآخرة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والميزان) أي: ونؤمن بالميزان، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103].
قال القرطبي: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة؛ فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها.
قال: وقوله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يحتمل أن يكون ثَمَّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، والله أعلم.(88/2)
كفتا الميزان
والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان، روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم).
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا من حديث الليث، زاد الترمذي: (ولا يثقل مع اسم الله شيء).
وفي سياق آخر: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة) الحديث.(88/3)
وزن العمل مع العامل
وفي هذا السياق فائدة جليلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105]).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود: (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تدفعه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد).
وقد وردت الأحاديث أيضاً: بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) الحديث.
وفي الصحيحين -وهو خاتمة كتاب البخاري - قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً).
فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت كبشاً أغبر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت)، ورواه البخاري بمعناه.
فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.
فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان.(88/4)
الرد على من ينفي الميزان
ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع، لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً.
ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ فتأمل قول الملائكة لما قال الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85].
وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله: أن الحوض قبل الميزان والصراط بعد الميزان، ففي الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة).
وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار، والله تعالى أعلم].(88/5)
الأسئلة(88/6)
مدى صحة القول بأن الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون فقط
السؤال
ما صحة القول بأن الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون فقط؟
الجواب
الصراط لا يتجاوزه إلا المؤمنون، لكن جميع البشر يمرون على الصراط، وقد ورد في بعض النصوص أن هناك من المسلمين ومن المؤمنين من لا يمرون بالصراط، لكن هذا مرجوح، والصحيح أن جميع البشر يمرون بالصراط، لكنّ المؤمنين يتجاوزون الصراط ويقطعونه دون أن يتكردسوا في النار نسأل الله العافية، أما الكفار والمنافقون وأهل الكبائر، الذين قدر الله عليهم أن يعذبوا، فإنهم يتكردسون في جهنم بعد أن يكونون على الصراط.
وما أشار إليه القرطبي كلام مرجوح، وجه به بعض النصوص، لكن الصراط العام الذي ورد ذكره في عموم النصوص هو الذي يمر به جميع البشر، لكن لا يتجاوزه ولا يقطعه وينجو منه إلا من أراد الله له ذلك، وهم المؤمنون.(88/7)
عدم التعارض بين دخول الأمم الكافرة النار مع معبودها وبين سقوطهم من على الصراط
السؤال
هل هناك تعارض بين سقوط كل أمة مشركة مع ما تعبد من حجر وبشر وشجر وغير ذلك وبين كونهم يمرون على الصراط فيسقطون منه؟
الجواب
الحديث الذي ذكر أن كل أمة تصور لها ما كانت تعبد، ثم تتبعه وتسقط في جهنم، هذا سقوط جماعي، ما فيه دلالة على نوعية السقوط في الصراط، وأيضاً ما ورد أن قوم فرعون يردون معه جهنم، وأن أهل النار يدخلونها زمراً، وأنهم يساقون من قبل الملائكة، كل هذه مشاهد لا تتناقض، بمعنى أنه لا يمنع أن يكون ذلك إما بعد الصراط مباشرة أو قبل الصراط على نحو جماعي.
والصراط هو مرحلة من المراحل وهو على متن جهنم، فلا تعارض بين النصوص؛ لأن هذه مسألة غيبية، لا يمنع أن يكون هذا وهذا، وأن هذه الأمور تعد مراحل يمر بها العباد، كما أن الحشر نفسه فيه بعث ثم وقوف ثم عرض ثم حساب ثم صحف، والصحف نوعان: منها: الصحف الخاصة التي هي أشبه بالشهادات، ومنها: الصحف التي هي السجلات، ثم وزن، وبعد ذلك يأتي تقسيم الناس إلى أصناف، وكل صنف يذهب على حدة، فالأمور التي تدل على ما يحصل للأفراد لا تتعارض مع الأمور التي تدل على ما يحصل للناس كجماعات وكأمم، فإنها مشاهد من مشاهد القيامة وحلقات من حلقاتها الله أعلم بتفاصيلها.(88/8)
ما جاء في الورود المذكور في الآية
السؤال
ما معنى الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] وحقيقة هذا الورود؟
الجواب
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجميع سيردون، لكن كيف هذا الورود؟ هذا هو الذي لا نستطيع أن نتحكم به في أذهاننا؛ فهو ورود غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى هذا لا يمكن أن نقصر الأمور على كيفيات معينة، وربما يكون الورود وروداً عاماً وورداً خاصاً، وما ورد من أن هناك من المؤمنين من لا يحاسبون، وهم في ظل الله عز وجل، فهذا لا يمنع من أن يكون هذا نوعاً من الجزاء، وأنهم حين يمرون على الصراط على متن جهنم يمرون ولا يشعرون، فالذين يمرون كالبرق هم بمثابة من لا يمرون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم؛ لأن لمحة البرق لا تشعر الإنسان بأنه مر على شيء، فيجمع بين النصوص على هذا النحو، أو كل نص يكون له معنى، وما دام من الأمور الغيبية فلا يجوز أن يتوهم التعارض.(88/9)
شرح العقيدة الطحاوية [89]
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، والقول بفناء النار مخالف لنصوص القرآن والسنة، ومسألة القول بحوادث لا أول لها أو تسلسل الحوادث أو القول بحلول الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى، كلها أقوال وبدع محدثة لها لوازم وإيرادات، وكل هذه الأقوال ناتجة عن خلل في التصور وعدم فهم منهج السلف وضبط المصطلحات الشرعية.(89/1)
الجنة والنار مخلوقتان وهما موجودتان الآن ولا تفنيان أبداً
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له).
أما قوله: (إن الجنة والنار مخلوقتان) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم].
هناك نصوص تدل على أن الجنة مخلوقة الآن، وكما سيقرر الشارح بعد قليل أن الجنة في أصلها موجودة، وكثير مما فيها موجود مخلوق، لكن قد يكون من بعض أنواع النعيم التي يعد الله بها عباده ما يتجدد خلقه، فالتسبيح الذي هو غرس الجنة، يغرس الله به للعباد جزاءهم، وكثيراً من الأعمال يتجدد جزاؤها في نعيم الجنة بحسب تجدد الأعمال.
فوجود الجنة حقيقي، هذا أمر معلوم، وهي مخلوقة الآن، وكذلك النار مخلوقة الآن وموجودة، وكثير من أنواع النعيم فيها مخلوقة وموجودة، لكن بعض أنواع النعيم يخلق ويتجدد بحسب أعمال العباد كما ورد في النصوص.(89/2)
النصوص الواردة في إثبات وجود الجنة والنار الآن
قال رحمه الله تعالى: [فمن نصوص الكتاب قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21].
وعن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:21 - 22].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15]].
القرآن جاء بلسان عربي مبين، والله عز وجل تكلم به ولا يتكلم الله إلا بالحق، والإعداد المذكور في الآيات هو الخلق والوجود السابق.
قال رحمه الله تعالى: [وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة).
وتقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)، وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به، حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت)].
هذه أحاديث صريحة بأن الجنة والنار موجودتان.
أما قوله: (فأفرشوه من الجنة) أي: أن الميت إذا كان من أهل الصلاح والاستقامة يفرش له من الجنة، ويرى منزله من الجنة رؤية حقيقية؛ لأن هذه الأخبار حق، وتقع في زمن الدنيا، وإلا فأحوال البرزخ وأحوال القبر تختلف عن أحوال الدنيا، لكنها في زمن الدنيا الذي يعيشه الأحياء إذا مات الميت من هؤلاء الأحياء فإن كان من أهل الخير يرى منزله من الجنة، ويفرش له من الجنة، فتكون الجنة موجودة معاينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -وخبره الصدق والحق- في أثناء المعراج بما رآه، وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس أنه رأى الجنة ورأى النار عياناً، كما ورد في الحديث الصحيح، وهذا دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وأن هذه الأخبار ليست أخباراً توهيمية تخييلية، كما يزعم الفلاسفة وأذناب الفلاسفة، ممن لا يؤمنون بالله ولا برسله.
قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: يكفرن.
قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط).
وفي صحيح مسلم من حديث أنس: (والذي نفسي بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار).
وفي الموطأ والسنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة).
وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة.
وفي صحيح مسلم والسنن والمسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم(89/3)
شبهة القائلين بعدم وجود الجنة الآن والرد عليهم
قال: [وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، قال: هذا حديث حسن غريب.
وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح.
قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]؟].
هذه الشبهات كلها قالها بعض المعتزلة والجهمية والفلاسفة، حتى ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ليس في الإسلام فلسفة وليس من المسلمين فلاسفة، لكن سموا إسلاميين؛ لأنهم يدّعون الإسلام، وإلا فأغلبهم ينزعون إلى الباطنية، فلذلك فإن الفلاسفة الإسلاميين كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض وابن سبعين والسهروردي وغيرهم، هؤلاء أغلبهم من الباطنية، ومن لم يكن باطني الأصل، فهو لا يؤمن بكثير من أمور الإسلام، إنما هم على مذاهب الفلاسفة وإن ادعوا الإسلام.
وقوله: (وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها) يعني: أن الجنة موجودة؛ لأن جنة آدم التي كان فيها جنة حقيقية، عاش فيها آدم جزءاً من عمره، ثم حدثت البلوى التي ابتلاه الله بها، وقصته مع الشيطان، ثم نزل إلى الأرض، وقصة آدم مع إبليس، وإنزال آدم من الجنة إلى الأرض، هذا دليل قاطع على أن الجنة كانت موجودة، وأنها لا تزال موجودة؛ لأن آدم نزل من جنته الحقيقية إلى هذه الدنيا، وهو قول السلف.
وهذه الشبهات تلبس على من ليس عنده علم شرعي، وعلى من لم يكن عنده بصيرة في العلم الشرعي ولا يرجع إلى أهل العلم، فمن هذه الشبهات أولاً: أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل وعد بفناء كل شيء، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، هذا أولاً.
ثانياً: قولهم: إن الجنة لو كانت مخلوقة لما قيل: إن غراسها التسبيح، فهذا دليل على أنها تُنْشَأ فيما بعد؛ بسبب أعمال العباد.
نقول: هذا دليل عليهم وسيأتي.
وكذلك قولهم عن امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، قالوا: هذا دليل على أن الجنة غير موجودة، إذ لو كانت موجودة لما دعت امرأة فرعون بأن يبني لها الله عز وجل بيتاً في الجنة، ولكان البيت مبنياً من قبل، لكنها طلبت بناء البيت فيما بعد.
هذه شبهات سيرد عليها المؤلف إجمالاً في الردود التالية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالجواب أنكم إن أردتم بقولكم: إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر].
يعني: استدلالاتكم هذه لا تدل على أن أصل الجنة غير مخلوقة ولا موجودة، وإنما تدل على أن بعض نعيم الجنة يحدثه الله عز وجل على نحو ما ذكر وورد في النصوص؛ بسبب أعمال العباد التي وفقهم الله إليها، وبسبب أيضاً ما وعد الله به عباده يوم القيامة، إذا دخلوا الجنة أنه يحقق لهم كل ما يتمنونه من نعيم، فما يحققه الله عز وجل هو جديد، لكن أصل الجنة والكثير من نعيمها موجود ومخلوق الآن وقبل الآن.
قال رحمه الله تعالى: [وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه.
وقيل: إلا ما أريد به وجهه.
وقيل: إن الله تعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ف(89/4)
الأقوال في فناء الجنة والنار
قال: [وقوله: (لا تفنيان أبداً ولا تبيدان).
هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وفناء النار جماعة منهم من السلف والخلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها.
وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله بأصله الفاسد الذي اعتقده، وهو امتناع وجود ما لا ينتهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يخلُ من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم.
فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي، وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، فقال: بفناء حركات أهل الجنة والنار، حتى يصيروا في سكون دائم، لا يقدر أحد منهم على حركة.
وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في تسلسل الحوادث بالماضي والمستقبل، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجدد شيء، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه، فهذا القول تصوره كافٍ في الجزم بفساده].
في هذا المقطع عدة أمور يحسن الوقوف عندها بإيجاز.(89/5)
حقيقة ما نسب إلى بعض السلف من القول ببقاء الجنة وفناء النار
أولاً: ما يتعلق بما أشار إليه الشارح من أن هناك من السلف والخلف من قال ببقاء الجنة وفناء النار، فهذه مسألة يخلط فيها كثير من الناس، وبعضهم نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وإلى تلميذه ابن القيم القول بفناء النار، وعند تأمل هذه المسألة عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن سبقهما ممن نسب إليه القول من السلف في هذه المسألة، فالمتأمل يجد أن الناس يخلطون بين مسألتين: بين مسألة القول بفناء النار، والقول بانقطاع العذاب، وهما مسألتان منفصلتان.
ثم إنهم يخلطون بين ما يسوقه أهل العلم وبين ما يقولون به، فالقول بفناء الجنة والنار فناء مطلقاً لم يقل به أحد من السلف، وما نسب إلى بعض السلف من القول في النار دون القول في الجنة، فهو القول بانقطاع عذاب النار لا بفنائها، وفرق بين الفناء وانقطاع العذاب، وانقطاع العذاب لا يعني انتهاء مادة النار، إنما يعني انتهاء صورة التعذيب لأهلها على نحو معين، فهم اجتهدوا في سياقه، واستدلوا بعمومات النصوص من أن رحمة الله تسبق عذابه، فلا بد في نهاية الأزمان والآباد التي لا تتناهى أن تسبق رحمة الله عز وجل عذابه، وتعم الرحمة جميع الخلق فتبقى الجنة، وهناك أيضاً من يبقى من أهل النار يعذبون آباداً لا تتناهى، لكن في النهاية يكون لها تناه أبدي، أو بعد سرمدية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويقصدون بذلك انقطاع العذاب.
وهذا القول مرجوح ولا دليل عليه، إلا أدلة عامة ليست أدلة قطعية، فلذلك لا يلتفت إليه كما قال جمهور السلف، فجمهور السلف يقولون ببقاء النار وبقاء آبادها لمن قدر الله عز وجل أنهم لا يخرجون منها، نسأل الله العافية، فهؤلاء لا يخرجون منها ويبقى عذابهم أبد الآباد.
فمن قال: ينقطع عذابها ولا تنقطع النار، إنما هو اجتهاد ليس عليه دليل، وقد ساق هذا الاجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية دون أن يذكر رأيه فيه، فحمّله بعض الناس هذا القول، وكذلك ساقه ابن القيم دون أن يجزم بشيء، بمعنى أنه لم يفنده في بعض المقامات، أو أنه حكاه مجرد حكاية، فظن الناس أنه قوله، لكن عند التحقيق نجد أن قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم هو قول السلف: أن الجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع.
وأن هناك طائفة من خلق الله عز وجل مخلدون في النار لا ينقطع عذابهم أبداً، ممن لم تشملهم رحمة الله عز وجل.
هذا هو قول جمهور السلف ولم يخرج عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم، لكن -كما قلت- حكى كل منهما أقوالاً، وربما بعضهم يحكي القول كالمنتصر له في حين أنه يحكيه على لهجة من قالوه، هذا الذي يظهر لي من خلال تأملي لكلام شيخ الإسلام، وله في ذلك رسالة مستقلة حققت وطبعت الآن من قبل الدكتور محمد السمهري، وهي موجودة تباع في الأسواق، في مسألة فناء الجنة وفناء النار، فينبغي الرجوع إليها.(89/6)
مسألة القول بوجود حوادث لا أول لها
ثانياً: ما يتعلق بحوادث لا أول لها في الماضي، فهذه فلسفة في الحقيقة تكلف فيها المتكلفون وتكلم بها المتكلمون قديماً وحديثاً، وهم ليسوا على شيء، ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية برد قوي عقلي مفحم، ولذلك ألزموه بلازم باطل لا يصح، اتهموه بأنه يقول: بأن هناك حوادث لا أول لها ولا آخر لها، واتهموه بأنه يقول بالتسلسل في الحوادث، واتهموه بأنه يقول بحلول الحوادث بذات الله سبحانه.
وهذا كله باطل لم يقل به، إنما ألزموه به.
وشيخ الإسلام حينما قال بالتسلسل أو بمنع التسلسل، فإنه فرق بين أمرين: فرق بين الحوادث المتعلقة بأفعال الله عز وجل سبحانه، وبين الحوادث التي هي المخلوقات، وهذا التفريق لم يفهمه كثير من الناس الذين قرءوا كتب شيخ الإسلام، وأكثر خصومه لم يفهموه، أو فهموه؛ لكنهم نظراً لأنه يخالفهم ألزموه بما لم يتكلم به.
فشيخ الإسلام ابن تيمية قال في مسألة حوادث لا أول لها أو بالتسلسل في البداية والنهاية في أفعال الله عز وجل، قال: هذه أزلية لا حد لها لا في البداية ولا في النهاية؛ لأن الله عز وجل فعال لما يريد منذ الأزل وإلى الأبد إلى ما لا نهاية.
لكن الجهمية وأتباعهم من الأشاعرة والماتريدية ينكرون الأفعال لله، فلذلك منعوا هذا وقالوا: إن ابن تيمية قال بحوادث لا أول لها ولا نهاية لها، مع أنه لم يقل ذلك، وإنما قال: إن قصدتم بالحوادث أفعال الله، وهو أن الله يفعل من الخلق والإحياء والإماتة والكلام والنزول والمجيء والرضا والغضب ونحو ذلك فصحيح؛ لأن أفعال الله لا أول لها ولا نهاية لها، سواء سميتموها حوادث أو لم تسموها، بدليل أن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومن ذلك أفعاله سبحانه، فهو قادر على الخلق حتى قبل أن يخلق الخلق، وقادر على الرزق حتى قبل أن يوجد المرزوقين، وهو سبحانه فعال لما يريد منذ الأزل، كما أنه الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو قادر على الأفعال إلى ما لا نهاية، يتكلم متى شاء سبحانه، ينزل متى شاء سبحانه، يخلق متى شاء، يحيي ويميت متى شاء، لا نهاية لأفعاله ولا بداية.
فهم قالوا: إن هذا قول بتسلسل الحوادث، وألزموا شيخ الإسلام بما لم يلتزم به.
أما الجانب الثاني: وهي أفعال العباد أو هي المخلوقات، فقال شيخ الإسلام: هذه المخلوقات المحدثات لا شك أن لها بداية؛ لأنها مخلوقة، ولها نهاية؛ لأنها تفنى، فهو فرق بين الحوادث التي هي أفعال الله، وبين الحوادث التي هي المحدثات المخلوقات.
إذاً: من عرف هذه المسألة وعرف التفريق فيها أدرك صحة قول شيخ الإسلام ابن تيمية وأقوال السلف؛ لأن شيخ الإسلام ذكر أقوال السلف وساقها منذ عهد الصحابة إلى عصره، فلم يكتف بقوله، بل ساق أقوال السلف.
ومن فرق في هذه المسألة عرف شناعة قول خصومه الذين شنعوا عليه، وقالوا: إنه قال بقيام الأفعال به سبحانه، وأنه قال بحوادث لا أول لها، وأنه صحح التسلسل في الحوادث إلى ما لا نهاية، وإلى ما لا بداية إلى آخره، فهم ألزموه بما لم يلتزم به؛ لأنهم ينكرون أفعال الله، بينما هو يقصد أن الحوادث مستمرة منذ الأزل، وإلى ما لا بداية لها ولا نهاية في أفعال الله، والله عز وجل يحدث من خلقه وتدبيره وأمره ما يشاء متى شاء، ولا يقال بأنها تسلسل، ولا يجوز أن نسميها حوادث، لكن ما دام أنهم سموها بذلك فنحن نقول: إذا قصدتم بالحوادث أفعال الله، فأفعال الله لا نهاية لها ولا بداية، ولكن لا نسميها حوادث، وإن قصدتم بالحوادث المخلوقات فلا شك أن المخلوقات لها بداية ونهاية، لكن هذا ليس هو محل النزاع بيننا وبينكم، وليس هو محل النزاع بينكم وبين السلف، أنتم موهتم على الناس، ألزمتم السلف بألفاظ لم يقولوا بها، فالسلف غاية ما يقولون: إن أفعال الله -التي تسمونها الحوادث خطأ وزوراً- لا حد لها لا في البداية ولا النهاية.
وأظن المسألة واضحة، وإذا طبقتموها على كثير من مسائل الخلاف في هذه القضية عرفتم وجه الصواب ووجه الخطأ في كثير مما يقوله الناس.(89/7)
الأسئلة(89/8)
معنى قول أبي هريرة: (حفظت وعاءين عن رسول الله بثثت أحدهما وأمسكت عن الآخر)
السؤال
جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين بث أحدهما وأمسك عن الآخر، وقال: لو بثثت الآخر لقطع مني هذا وأشار إلى حلقه)
السؤال
ما المقصود بهذا؟ وهل هذا إشارة إلى الفتن التي تكون في الأمة؟
الجواب
تضمن السؤال شيئاً من الجواب، نعم جاء عن أبي هريرة وعن بعض الصحابة ما يشير إلى ذلك؛ لأن الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الدين على نوعين: نوع يدركه عامة الناس، ونوع لا يدركه إلا بعض الناس، وهم الراسخون في العلم، أو يكون من باب الإخبار عن أحوال شخص ائتمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة عليه، أو يكون متعلقاً بالفتن التي لم تتحقق، والإخبار عنها يوجد في قلوب عامة الناس شيئاً من الرعب والرهبة وشيئاً من اليأس والقنوط، فيحدث الصحابة بها طلاب العلم والعلماء، ولا يحدثون بها العامة، ولذلك كان الصحابة يعتبون على القصاص أن يتحدثوا بكل شيء، القصاص والوعاظ الذين ليس عندهم فقه في الدين، لكنهم يحفظون النصوص، وعندهم عاطفة، ويحبون الخير، فتجد الواحد منهم يعظ بما يعرف وبما لا يعرف، بما يدرك وبما لا يدرك، فلامهم الصحابة على ذلك، حتى إنهم لما كثر منهم الوعظ في عهد علي رضي الله عنه انبرى لهم هو وغيره ومنعوهم، حتى كان ابن عمر وعبد الله بن الزبير وغيرهما يخرجونهم من المساجد بقوة، مع أنهم يقولون: قال الله قال رسوله، ويتحدثون ببعض الإسرائيليات التي يجوز الحديث عنها، لكن كانوا يحدثون الناس بما لا يعرفون، مثل: أحاديث الصفات عند العامة، ومثل: أحاديث الفتن وغير ذلك، فهذه الأمور تشكل على العامة.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ يعني: أنتم لا تقولون الكذب، لكن أتيتم بأشياء لا يستوعبها الناس.
إذاً: الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها ربما يكون خاصاً ببعض الناس، أو يكون خاصاً ببعض الفتن، أو لا يدركها إلا الراسخون في العلم، أو لا يستطيع أن يحدث بها إلا عالم يستطيع أن يبين للناس وجه الحق، ويزيل عنهم الالتباس، فالذي قال فيه أبو هريرة هذا القول هو من هذا النوع، والله أعلم.(89/9)
ذكر مراتب دخول المؤمنين الجنة
السؤال
هل قول من قال: إن المؤمنين يدخلون الجنة على طوائف: طائفة يدخلون الجنة بلا عذاب ولا حساب، وطائفة يدخلون الجنة بعد الصراط والفصل، وطائفة يدخلون الجنة بعد أن يمحصوا في النار وهم أهل الكبائر هل هذا القول صحيح؟
الجواب
نعم، هذا تقسيم صحيح، ولا شك أن هناك من يدخلون الجنة بلا حساب، وهناك من يدخلون الجنة بعد تجاوز الصراط والمحن التي يمر بها العباد، وطائفة يدخلون الجنة بعد أن يطهروا وهم أهل الكبائر، هذا ورد في النصوص، وإن كانت هناك تقسيمات أكثر من هذه، فيمكن أن نقول: طائفة يدخلون الجنة دون أن يردوا الحوض، وهذا إذا قيل: إن الحوض بعد الصراط، أما على القول بأن الحوض قبل الصراط فربما يكونون من هؤلاء الذين يذادون، وربما يكونون من أهل الكبائر، فالله أعلم، ليس فيها نص صريح.
وربما يقال أيضاً: إن الذين يدخلون الجنة ثلاثة أصناف، ويكون الصنف الرابع هم الذين يدخلون الجنة بلا حساب، وأنهم تفتح لهم أبواب الجنة، ومنهم من لا يدخلون الجنة إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن تفتح لهم أبوابها.
إذاً: هذه أحوال كلها وردت وكلها صحيحة.(89/10)
شرح بيتين لابن القيم فيهما ذكر الأشياء التي لا تفنى
السؤال
هناك بيتان لـ ابن القيم يقول فيهما: ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم فما هو شرح هذين البيتين؟
الجواب
ذكر أهل العلم بعض هذه الأشياء، وبعضها ثبتت في النصوص وبعضها ليس هناك دليل قاطع على بقائها وعدم فنائها، وقال بعضهم: إنها تفنى بصورة أخرى، يعني: تتحول من حال إلى حال.
أما العرش والكرسي فلا شك أنه لا يشملهما العدم، وكذلك النار والجنة، وعجب الذنب كذلك ورد أنه أيضاً لا ينعدم، بمعنى: أنه يبقى عظماً، لكن لا يعني ذلك عدم الموت، فهذه مسألة خلافية، فالعظم الذي يكون في عجز الإنسان ويبقى فبقاؤه لا يعني عدم الموت؛ لأن الموت محكوم به على الإنسان نفسه، والإنسان قد تأكله الأرض كله وقد تبقى أجزاء منه، وقد وجد من بعض أجسام الأنبياء والشهداء من لم تمسه الأرض إلى الآن.
فعلى هذا يبقى جسمه، لكن الفناء الذي هو الموت حصل، وكون بعض العظام تبقى لا يعني عدم الحكم بالموت، والتحول من خلق إلى خلق قد يسمى فناء وقد يسمى موتاً أيضاً، فالإنسان قد يأكله سبع، وقد يسقط في الماء وتأكله الحيتان، وقد يحترق، ومع ذلك تبقى ذرات جسمه على شكل رماد أو فضلات أو نحو ذلك.
وكذلك اللوح والقلم والأرواح، أما الأرواح فالخلاف فيها راجع إلى طبيعة هذه الأرواح، هل هذه الأرواح أجسام؟ هل هي أعيان، أو هي أمور معنوية أو نحو ذلك؟ فالخلاف مبني على حقيقة هذه الأرواح وكيفيتها، والله أعلم.
وقد ذكر كثير من أهل العلم ما ذكره ابن القيم من أن هذه الثمانية الأشياء لا تفنى.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية العرش والكرسي والنار والجنة وبين أنها لا تفنى، وأن هذا قول جمهور السلف، وأنها مستثناة.
أما البقية فليس عندي فيها جزم، والله أعلم.(89/11)
شرح العقيدة الطحاوية [90]
وردت استثناءات في القرآن الكريم تفيد عدم أبدية النار، وقد اختلفت كلمات السلف في فهمها وتعددت الآراء حول هذه المسألة، وإن كانت الأدلة التي استدلوا بها لا تقوى أمام الأدلة الكثيرة التي تفيد عدم فناء النار، فضلاً عن أن هذا هو قول جمهور أهل السنة، وقد حكى ابن القيم رحمه الله المسألة بالأدلة والتفصيل في كتابه (حادي الأرواح) وكتب فيها ابن تيمية رحمه الله رسالة مستوفاة.(90/1)
الأقوال في أبدية الجنة
قال رحمه الله تعالى: [فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:108].
واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار، ثم أخرج منها، لا لكلهم.
وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف.
وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف.
وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه.
وقيل: (إلا) بمعنى (الواو)، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف.
وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير، وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت.
أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.
وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86].
وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24].
وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس:16] ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقيل: إن: (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء.
وقيل: غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه.
وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] محكم].
لا ندري ما المقصود بالاستثناء على سبيل الجزم، لكن حينما أورد ما بعد الاستثناء وهو قوله عز وجل: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] تبين أن الحكم هذا هو المقصود وهو يتضمن الأبدية، وأن الاستثناء راجع لأحد الأمور السابقة ما نستطيع أن نجزم بشيء من ذلك، ومع ذلك فإنه يدل على أن الله عز وجل فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، لكنه حكم وأخبرنا بحكمه بأن هذا العطاء للمؤمنين غير مجذوذ، يعني: لا ينقطع أبداً.
فهذا هو الحكم النهائي؛ لأنه جاء بعد الاستثناء.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35].
وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].
وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:108] تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.
والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت).
وقوله: (ينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً).
وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)].
الكلام في أبدية النار وفي دوامها وأقوال الناس فيها، والكلام أيضاً في انقطاع عذاب أهلها، وهل ينقطع العذاب وتبقى النار، أو تبقى النار ويبقى العذاب لمن حكم الله عليهم بالخلود؟ وهل هذا الخلود الأبدي يعني أن لا نهاية، أو أن الآباد لها حدود؟ هذه مسألة عويصة، وتعتبر من المشكلات، وكان الأولى ألا يخوض فيها الناس؛ لأن الأصل ما عليه جمهور السلف من القول بأبدية الجنة والنار، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع أيضاً، وأن هناك طائفة من عباد الله عز وجل ينعمون إلى ما لا نهاية، وطائفة من عباد الله عز وجل يعذبون إلى ما لا نهاية، هذا هو الأصل، لكن وردت إشكالات نسبت إلى بعض الصحابة وإلى بعض التابعين في مسألة النار(90/2)
الأقوال في أبدية النار
قال رحمه الله تعالى: [وأما أبدية النار ودوامها، فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة].
هذا القول تضمن صراحة القول بأبدية العذاب، ومن ثم القول بأبدية النار نفسها.
إذاً: من قال بأبدية العذاب إلى ما لا نهاية، فلا شك أنه يقول بأبدية النار إلى ما لا نهاية.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي.
الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80 - 81].
الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد].
وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب، وليس فيه تصريح بفناء النار أو عدمه، أي: أن أصحاب هذا القول يقولون ببقاء النار وبانقطاع عذاب المعذبين فيها، وأنهم يخرجون منها كلهم.
قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أنها تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم].
هذا القول أيضاً قال بفناء النار بنفسها، وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب في الضرورة أيضاً، هذا القول عكس القول الأول تماماً يتضمن القول بانقطاع العذاب بالضرورة، لأنه إذا كانت تفنى فلا شك أنه ينقطع عذابها، وهذا أيضاً قول باطل.
قال رحمه الله تعالى: [السادس: تفنى حركات أهلها، ويصيرون جماداً لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم.
السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه].
هذا القول أيضاً تضمن القول بانقطاع العذاب، لأن من قال بفناء النار لا شك أنه يقول بانقطاع عذابها، لكنه يرى أن أهل النار يخرجون على درجات، منهم من يخرج بعد تطهيره من ذنوبه وهم أهل الكبائر، ومنهم من يبقى إلى أن تفنى، وبالضرورة سينقطع عذابها عنهم، لكن هذا القول فيما يظهر لي أنه يتضمن القول بأن أهل النار يعودون إلى الجنة، وإن كان ليس فيه تصريح بذلك، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر ضمنه هذا القول وفصله.
قال رحمه الله تعالى: [الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله.
وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان.
وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما].
قوله: (وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما) يشير فيه إلى أن من أهل السنة من قال بالقول السابع، أما القول الثامن فهو قول الجمهور، وهو القول الذي تقوم عليه ظواهر الأدلة، والقول الثامن هو الأصل عند أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل يخرج من النار من يشاء من أهل الكبائر وغيرهم بالشفاعات، وبرحمته سبحانه كما ورد في السنة، وأنه يبقى فيها الكفار، وأن عذابها يبقى ويبقى أهلها مخلدين فيها، نسأل الله العافية.
إذاً: هذا القول هو قول جمهور أهل السنة والجماعة، وهو القول الصحيح.
أما القول السابع فقد أثر عن بعض أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ونسب إلى بعض الصحابة وإلى بعض كبار التابعين، وحكاه بعض الأئمة على أنه قول لبعض أهل العلم المعتبرين، وحكاه شيخ الإسلام ابن تيمية وحكاه ابن القيم أيضاً.
وفي بعض المواضع التي حكاه فيها شيخ الإسلام ابن تيمية نجد أنه سكت عنه لم يؤيد ولم يعارض، ولذلك فهم بعض الناس أنه يقول بهذا القول، وهذا من باب الإلزام الذي لا يلزم، وشيخ الإسلام له في ذلك رسالة مشهورة موجودة مكتوبة وقد حققت مستقلة.
ذكر في هذه الرسالة شيئاً من الأقوال التي ستأتي بعد قليل وأدلتها، لكن جملة القول الذي حكاه أو ساقه هو أن هناك من أهل العلم من الصحابة وغيرهم من قال بأن عذاب النار ينقطع، وليس هناك تصريح بفنائها بذاتها؛ لأن الآباد مهما تكررت لها نهاية، ولأن رحمة الله عز وجل سبقت عذابه، ولأن الأصل في عذاب المعذبين هو بسبب ذنوبهم، وأن الذنوب مهما تكاثرت تنتهي إلى آخره من الأمور التي ذكرها ولم يعلق عليها، فهو إنما ذكرها أدلة للقائلين بانقطاع العذاب، ففهم بعض الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية يؤيد هذا القول، مع أنه لم يؤيده ولم يعارضه؛ إلا أنه في الم(90/3)
أدلة القائلين بفناء النار دون الجنة
قال رحمه الله تعالى: [فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
وقوله تعالى.
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107].
ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108].
وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23].
وهذا القول - أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم.
وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه.
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] و {أَلِيمٌ} [الأعراف:73] و {عَقِيمٍ} [الحج:55] ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم، وقد قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]].
في الإشارة إلى اليوم في قوله: (عذاب يوم) هنا يقصد أنه يوم لا بد أن يكون له نهاية في دلالته اللغوية، وحتى في الدلالات الاصطلاحية للغة، فاليوم سواء كان من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة فإنه محدود بحد زمني معين، فالإشارة إلى أن العذاب في يوم يدل على أنه ينقطع، ولذلك لم يرد نص في نعيم الجنة بأنه يوم، وهذا دليل على أنه لا ينقطع، هذا من أدلتهم.
واليوم هو يوم القيامة عند الحساب، ولا شك أن الحساب له يوم معين ويوم الجزاء له وقت معين أيضاً.
أما ما ورد في قول الله عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] فالمقصود به يوم القيامة عند الحساب قبل دخول الجنة.
أما نعيم الجنة فلم يوصف بأنه يوم.
قال رحمه الله تعالى: [فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض.
قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]].
هذه أدلة الفريق الأول ممن ينسبون إلى أهل السنة والجماعة، أو أنهم من أهل السنة والجماعة إن صح القول عنهم، وذكر أدلة شرعية وأدلة عقلية وقواعد عامة، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً كما ذكرها ابن القيم أيضاً في (حادي الأرواح) وكذلك في (الصواعق المرسلة).
وكلام ابن القيم قريب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضه منقول عنه، لكن ليس فيه ما يدل على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قالا بهذا القول صراحة.(90/4)
أدلة القائلين ببقاء النار وعدم فنائها
قال رحمه الله تعالى: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها].
قوله: (ببقائها وعدم فنائها) فيه نوع من الغلو؛ لأن بعض أصحاب القول الأول ما قال بفناء النار، وإنما قال بانقطاع عذاب أهلها، فتداخلت الأقوال، ولذلك القول بفناء النار بنفسها قول شنيع عند الجميع بالإجماع، وإن نسب إلى بعض أهل العلم والفضل، لكن ربما من زلة العالم أو من التوهم أو الاجتهاد الخاطئ، بينما القول بانقطاع العذاب أو بخروج أهل النار منها بعد أبد الآباد هذا قول أخف من القول بنفائها بنفسها، والقول بانقطاع العذاب أو بخروج أهل النار بعد آباد وآماد طويلة لا يلزم منه القول بفناء النار بنفسها.
وهنا سرد أدلة القائلين ببقائها، وبعضها لا يتضمن القول ببقاء النار، إنما يتضمن فقط القول ببقاء عذاب أهل النار، وعدم انقطاع عذاب أهلها.
قال رحمه الله تعالى: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].
وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75].
وقوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30].
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23].
وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].
وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
وقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40].
وقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] أي: مقيماً لازماً.
وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.
وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما.
وقوله: وخلق لهما أهلاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3] والمراد الهداية العامة، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
فالموجودات نوعان: أحدهما مسخر بطبعه، والثاني متحرك بإرادته، فهدى الأول لما سخره له طبيعة، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره.
ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع: نوع لا يريد إلا الخير، ولا يتأتى منه إرادة سواه، كالملائكة.
ونوع لا يريد إلا الشر، ولا يتأتى منه إرادة سواه، كالشياطين.
ونوع يتأتى منه إرادة القسمين، كالإنسان، ثم جعله ثلاثة أصناف: صنفاً يغلب إيمانُه ومعرفتُه وعقلُه هواه وشهوتَه، فيلتحق بالملائكة.
وصنفاً عكسه، فيلتحق بالشياطين.
وصنفاً تغلب شهوته البهيمية عقله، فيلتحق بالبهائم.
والمقصود أنه سبحانه أعطى الوجودين: العيني، والعلمي، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده فلا هداية إلا بتعليمه، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته، وثبوت وحدانيته، وتحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى.
وقوله: (فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه) إلى آخره.
مما يجب أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح، فإنه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]؟ وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لكن إذا منَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح، لا يمنعه موجب ذلك أصلاً، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر(90/5)
شرح العقيدة الطحاوية [91]
الاستطاعة عند أهل السنة والجماعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، ومن جهة التوسع والصحة والتمكين تكون قبل الفعل، والله لا يكلف العباد ما يشق عليهم وما لا يقدرون عليه، وأما الأشعرية ومن نحا نحوهم من أهل الكلام والفلسفة فقد طال جدلهم وكلامهم في مسائل الاستطاعة والجبر والكسب والقدر، عندما حكموا العقل وابتعدوا عن النص، وقد رد عليهم أهل العلم وبينوا مخالفاتهم في الكسب وأفعال العباد والقدرة.(91/1)
مفهوم الاستطاعة
قال رحمه الله تعالى: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل.
وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]].
المقصود بموضوع الاستطاعة هنا القدرة التي أقدر الله بها العباد المكلفين على الفعل، ولها ارتباط بالإرادة والمشيئة والقدر عموماً، فالاستطاعة هي قدرة المكلف على فعل الشيء الذي أقدره الله على فعله.
وموضوع الاستطاعة من الموضوعات التي ابتدع فيها أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية الكلام، ثم صارت من أصول أهل الكلام الأشاعرة والماتريدية، واشتهرت باسم الكسب عند الأشاعرة؛ نظراً لأن الأشعري يرى أن استطاعة العباد على أفعالهم التي يقدرهم الله عليها تأتيهم عن طريق الكسب، لا القدرة الكاملة على الفعل، بمعنى: أنه يرى أن الإنسان المكلف ليس في الأصل قادراً على الفعل، إلا عند العزم والشروع بالفعل، حتى وإن كان يملك جميع القدرة والوسائل، كالمشي مثلاً قدرة يتم بالاستطاعة، فيقول: إن الإنسان الذي يقدر على المشي أعطاه الله عز وجل وسيلة وهي الرجلين، ولا يمكن أن نسميه مستطيعاً على المشي إلا إذا عزم على الفعل، فإذا عزم وأنشأ التحرك أقدره الله، أو في تلك اللحظة التي عزم فيها أوجد الله عز وجل له الاستطاعة.
وهذه فلسفة فيها شيء من الغموض واللبس من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس لها أصل في الشرع، نحن نعلم أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات فيما يقدرون عليه، وجعل لهم وسائل وهي الجوارح، والقدرات موجودة قبل الفعل وبعده، لكنها لا تتمثل لنا بفعل حقيقي إلا عند الفعل الحقيقي.
فالإنسان المتكلم الذي يملك القدرة على الكلام نسميه متكلماً وقادراً على الكلام، حتى وإن لم يتكلم، والقدرة على الكلام موجودة عنده، لكن قد لا يعزم على الكلام فيسكت، وحينما سكت لا يعني أنه غير قادر أو غير مستطيع على الكلام.
وكذلك بعد الفعل، فالمسألة فيها نوع من التفلسف عند أهل الكلام، خاصة الأشعري ومن جاء بعده، حيث زعم أن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا أثناء الشروع فقط، وكأن الإنسان يصادفها مصادفة أو يكسبها كسباً، كالإنسان الذي يبحث عن شيء مفقود، فإنه لا يتهيأ له -حسب رأيهم- أن يكون وجد هذا الشيء إلا عندما يقع عليه، ومثلوا بالقدرة أو بالاستطاعة على الشيء المفقود، فإنه لا يمكن أن يكون وجد الشيء إلا أثناء التمكن منه، وهذا القياس غير صحيح، فلذلك عدت مسألة الاستطاعة والكسب عند الأشعري من المعضلات التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً صحيحاً.
المهم أن السلف يرون أن الله عز وجل أقدر العباد المكلفين على الأفعال، التي عندهم وسيلة إليها قبل الفعل وبعد الفعل وأثناء الفعل، وأنهم بذلك مكلفون، لكن قد يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل، وقد لا يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل.
فتأتي مسألة الهداية والإضلال والتوفيق والخذلان متفرعة من مسألة الاستطاعة، وسيأتي الحديث عنها بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ألفاظ متقاربة، وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين كما ذكره الشيخ رحمه الله، وهو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط].
القسم الأول: أن الاستطاعة قوة كاملة في الإنسان القادر المكلف موجودة قبل الفعل.
القسم الثاني: أنها موجودة أيضاً أثناء الفعل، والإنسان ليس مجبوراً، فالإنسان قادر على أن يفعل أو لا يفعل في الأمور الاختيارية، فقادر أن يفعل، وهذه قدرة ثابتة للفعل، ثم تلحق إذا أنشأ الفعل، وقادر ألا يفعل أيضاً.
إذاً: المقصود بالقسم الأول: القدرة الكاملة في الإنسان.
والقسم الثاني: القدرة التي تتهيأ للإنسان أثناء الشروع في الفعل.
قال رحمه الله تعالى: [وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل.
وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل.
والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه].
يعني: جعل الله عز وجل القدرة التي أعطاها العباد سبباً للتكليف، ولذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً من الأمور التي أمر بها، فإنه لا يحاسب، وغير مكلف بها، ورفع الله الحرج عن غير المستطيع، لكن الاستطاعة هي مناط التكليف، يعني: أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات وقوى كاملة فيهم، هي الوسيلة لفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه.(91/2)
محل القدرة من حيث الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات وأدلتها
قال رحمه الله تعالى: [والقدرة التي يكون بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.
وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال].
يعني: أنه قسم أفعال العباد هنا إلى قسمين وهذا هو الصحيح.
القسم الأول: كون الإنسان قادراً على الفعل قبل فعله، فيما يقدره الله عليه.
القسم الثاني: التمكن من الفعل أثناء الفعل.
وقال السلف بالأمرين: إن الإنسان فاعل وقادر حتى قبل أن يتمكن، وإذا فعل فإنه فاعل بقدرة أقدره الله عليها أثناء الفعل.
وهذا مما خالف فيه الأشاعرة حيث قالوا: القدرة لا تكون إلا أثناء الفعل فقط.
وكذلك الجبرية الجهمية وبعض المعتزلة خالفوا وقالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، أما أثناء الفعل فالإنسان مجبور على الفعل، وكونه قادراً فالله عز وجل جبره أن يفعل بالقدرة السابقة.
إذاً: قول الجبرية أن الإنسان قادر على أن يفعل الأشياء التي يقدر عليها، لكن قدرته أو فعله للشيء أثناء الشروع في الفعل لا يعد قدرة جديدة ولا استطاعة، إنما يعد مما جبر عليه.
وكلا القولين خطأ، والصواب هو أن الله عز وجل أقدر العباد وأوجد فيهم القوة الكاملة الفطرية والغريزية على الفعل، ثم أثناء الفعل أيضاً هيأ الله عز وجل لهم التمكن من الشروع في الفعل.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام].
يعني: أن الله عز وجل رتب الحكم على التمكن والقدرة، لا على ذات الفعل، فالله تعالى أوجب الحج على من تمكن وقدر عليه، فإن فعل قام بالواجب، وإن لم يفعل لم يقم بالواجب، ولم يرتب الحكم على الفعل؛ لأنه لم يقل: إن الحج لا يجب إلا على من باشر الحج، بل ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أن الحج واجب على المستطيع، فرتبا الحكم على التمكن والقدرة والاستطاعة لا على الفعل ذاته، وهذا دليل على أن الإنسان قادر ومتمكن، وتوجد عنده الاستطاعة قبل الفعل، وأنه لو لم توجد عنده، لسقط عنه التكليف، لكن الأصل وجود الاستطاعة والتمكن والقدرة في عموم العباد المكلفين.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولم يعاقب من لم يتق، وهذا معلوم الفساد.
وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات.
وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم دل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال، على ما بين تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة:91] إلى أن قال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة:93].
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] والمراد: استطاعة الآلات والأسباب.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) وإنما نفى استطاعة الفعل معها.
وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] والمراد نفي حقيقة القدرة، لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة].
يعني: أن هذه الآية تعني نفي الفعل لا نفي أصل القدرة؛ لأن الله عز وجل ما نفى أصل القدرة على السمع والبصر، وإنما جعل لهم أسماعاً وأبصاراً، لكن نفى أن يكون الله عز وجل وفقهم للسمع والبصر على الوجه الصحيح، وإنما خذلهم الله عز وجل فأعمى قلوبهم وأبصارهم وجعلهم لا يفعلون، أما أصل القدرة فهي موجودة، ولذلك جعل الله عز وجل التكليف مناط الثواب والعقاب.
إذاً: كونهم ما يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فيه نفي الشروع في الفعل لا نفي أصل القدرة، فالله عز وجل لم ينف عنهم أصل القدرة، لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، لكنه عاقبهم بالخذلان، بسبب ذنوب وأعمال اقترفوها.
قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قو(91/3)
الرد على القدرية في اعتقادهم أن العبد يخلق فعله
قال رحمه الله تعالى: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء، فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق.
وهذا القول فاسد].
يعني: هذا القول بأنه لا دخل لقدرة الله عز وجل في أفعال العباد، الذي يتضمن قولهم بنفي الهداية والإضلال من الله عز وجل، وبنفي التوفيق والخذلان، فنحن نقول: إن الله عز وجل يهدي من يشاء ويوفق من يشاء، وأن الله عز وجل يضل من يشاء ويخذل من يشاء، هم يقولون: لا، الإنسان خالق لأفعاله قادر على أفعاله، فإن ضل فبقدرته واستطاعته التي توجد في غريزته، وإن اهتدى فبقدرته واستطاعته.
هذا كلام قدرية المعتزلة، وهذا باطل، فإن الله عز وجل أقدر المؤمنين على فعل الخيرات هداية منه وتوفيقاً سبحانه، وأقدر الكفار على فعل الكفر، وحجبهم عن الخير والهدى إضلالاً وخذلاناً منه؛ لأمر يعلمه سبحانه ولحكمة؛ لما يعلمه عن هؤلاء العباد وما يستحقون.
فلا يقال: إن الله عز وجل لم يخص المطيع بالطاعة، إنما المطيع بإرادته وباستطاعته أطاع فقط، بل لا بد من أن يكون لله عز وجل تقدير في التوفيق والخذلان.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية، خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] والكفار ليسوا راشدين].
هناك خلط في العبارات، فقوله: (فالقدرية يقولون: هذا التحبيب إلى آخره، إلى أن قال: وإظهار دلائل الحق بدأ يرد على القدرية، فقال: والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين) يعني: تزيين الإيمان في القلوب وتحبيبه خاص بالمؤمنين.
قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].
وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين أنه سبحانه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وأيضاً فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: (يرجح) معنى زائد على الفعل، فذلك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل، فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء؛ امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى.
وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك، فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وهذا باطل قطعاً].
هنا ترك قول الأشاعرة، وبدأ يرد على القدرية.(91/4)
الرد على الأشاعرة في القدرة
قال رحمه الله تعالى: [فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق، وهو: أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة.
لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين: حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم أن القدرة عرض، فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل].
هؤلاء هم الأشاعرة، رجع المؤلف إليهم مرة أخرى، وجعلهم من أهل الإثبات، وقال: إنهم حزب من القائلين بإثبات القدرة، لكنهم حصروا القدرة على وقت الفعل.
قال رحمه الله تعالى: [والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، كما تقدم.
وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه.
فالشارع ييسر على عباده، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان قد يسمى مستطيعاً.
فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك.
فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة -مع بقائها إلى حين الفعل- لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن، مع جعل الفاعل مريداً، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة.
فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل.
وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق، وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة].
بهذا ينتهي الدرس، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(91/5)
شرح العقيدة الطحاوية [92]
تنازع العلماء في القول بفناء النار على أقوال ومذاهب، أقواها وأشهرها هو قول جمهور العلماء والمحققين أن النار لا تفنى ولا تبيد، وقد نسب القول بفناء النار لبعض الصحابة والتابعين.(92/1)
الأقوال في فناء الجنة والنار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فسبق أن وعدتكم أن نقرأ جملة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك؛ لأن هذه المسألة من المسائل المعضلة التي كثر الخلاف فيها قديماً وحديثاً، وأيضاً نسب إلى شيخ الإسلام فيها قول قد لا يصح في الجملة، والآن سنقرأ جملة من كلام الشيخ في الرسالة؛ لأن الرسالة طويلة، وبعضها قد لا تلزم قراءته؛ لأن فيها شيئاً من الاستطرادات، لكن قبل أن نبدأ بالقراءة أحب أن أنبه أن شيخ الإسلام حينما تكلم عن هذا الموضوع تكلم عنه بناء على إشكال ورد عند تلميذه ابن القيم في مسألة القول بفناء الجنة والنار، أو القول بفناء النار، فلما تهيأت فرصة لـ شيخ الإسلام تكلم عن هذا الموضوع بلسانه، وهذه الرسالة اشتهرت عند الناس قديماً وحديثاً، لكنها لم تطبع وتخرج محققة إلا في الآونة الأخيرة في كتاب تحت عنوان: (الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك) تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، دراسة وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الله السمهري.
وقد وضع المحقق جزاه الله خيراً مقدمة جيدة، درس فيها هذه المسألة وأقوال الناس، وما قيل في شيخ الإسلام بسببها ما بين ناف أو مثبت، ثم حقق الرسالة، وشيخ الإسلام ابن تيمية بدأ رسالته في الكلام عن القول بفناء الجنة والنار بذكر أقوال أهل العلم جملة، كما ذكرها ابن القيم في (حادي الأرواح) فذكر أن الناس تنازعوا في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول ببقائهما مطلقاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول جمهور السلف وجمهور المسلمين، فالجمهور -وهم الأغلب- قالوا ببقاء الجنة والنار إلى ما لا نهاية بإذن الله وبقدرته سبحانه.
والقول الثاني: من قال بفنائهما معاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول منكر، وهو قول الجهم بن صفوان ومن تابعه القول بفنائهما مطلقاً، بأن الجنة والنار تفنيان، وبالتبع يفنى النعيم والعذاب.
وهذا قول منكر، فقد كفر السلف من قال به.
والقول الثالث: من قال ببقاء الجنة مطلقاً لصراحة النصوص في ذلك إلى ما لا نهاية بإذن الله، والقول بفناء النار أو بانقطاع عذابها.
وأصحاب هذا القول لم يميزوا بين الأمرين تمييزاً واضحاً، ثم أشار شيخ الإسلام إلى أن القول بفنائهما من الأقوال الشاذة، فما رأينا أحداً حكاه عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان وأتباعه الجهمية، وهذا مما أنكره عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، ثم ذكر كلاماً لـ عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة، والآن نقرأ كلام شيخ الإسلام بالتفصيل حول القول بفناء النار، بعد أن قرر الإجماع والقول الجزم بأن الجنة لا تفنى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين ومن بعدهم.
وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة، قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها].
يعني: هذه المسألة ليست واضحة، وليست هناك أقوال صريحة فيها، والآن سيسوق أسماء من أُثِرَ عنهم القول بانقطاع العذاب، وتضمن هذا القول بفناء النار، لكنهم ما صرحوا بفناء مطلق، فقولهم يتوجه إلى أمرين: إلى خروج أهل النار منها بعد أحقاب طويلة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وانقطاع العذاب عن المعذبين، لكن ما صرحوا بأن النار تفنى، وربما يقول قائل: إذا كان أهل النار بعد أحقاب طويلة يخرجون منها فما فائدة بقائها؟ نقول: هذا شيء ليس لنا أن نعلقه على فائدة نتحكم بها، وأيضاً أننا نجد في هذا حكمة وهي: أن في بقاء النار -وإن كان ليس فيها أحد- تذكيراً لأهل الجنة الذين فيها بنعمة الله عليهم؛ حتى يداوموا على حمد الله وشكره وغير ذلك من الفوائد التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما أن هناك من المخلوقات ما لا يفنى كالكرسي والقلم وغير ذلك، والله أعلم.(92/2)
القائلون بفناء النار وأدلتهم
قال رحمه الله تعالى: [وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم].
هؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم القول بذلك، وإن كان كثير من أهل العلم طعنوا في أسانيد النقل إليهم، لكن الكلام فيها بين الصحابة وبين التابعين مشهور، بغض النظر عمن ثبت عنه القول ومن لم يثبت، مع أن بعض أهل العلم صحح القول المنسوب إلى عمر رضي الله عنه في بعض أسانيده.(92/3)
أثر عمر في خروج أهل النار منها
قال رحمه الله تعالى: [وقد روى عبد بن حميد -وهو من أجل علماء الحديث- في تفسيره المشهور، قال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه.
وقال: أنبأنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه.
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23].
وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة، مثل: سليمان بن حرب، الذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل: حجاج بن منهال في كلامهما، عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم والسنة، والذي يروى من وجهين: من طريق ثابت، ومن طريق حميد، هذا عن الحسن البصري الذي يقال: إنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه، يرويه عن عمر بن الخطاب، وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين، فسواء كان قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظ، كان مثل هذا الحديث متداولاً بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.
وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة.
فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا، لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس].
قصد الشيخ هنا: أن الإرسال بين الحسن وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يضر في ثبوت أصل القضية بين السلف، وأنها مسألة يتكلم فيها؛ لأن هذا السند رجاله ثقات إلى الحسن، والحسن رحمه الله نسبه إلى عمر، وسواء صحت النسبة أو لم تصح فهذا لا يضر بأصل القضية؛ لأن الحسن تكلم بها وأسندها إلى عمر، ثم كلامه بها اشتهر، ورواه عنه هؤلاء الثقات الذين يميزون، وهم صيارفة الأسانيد والحديث، ومع ذلك ما أنكروا أصل القضية حينما رووها، فلو كان هذا الكلام عندهم بدعة لبدعوه وردوه.
قال رحمه الله تعالى: [وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]؛ ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفد، ليست كالرزق الذي ما له من نفاد، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها.
فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريباً من ذلك.
والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره البخاري ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون).
وقوله: (يخرجون منها) أي: يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع.
فهم لا يخرجون منها -يعني: جهنم- بل هم خالدون في جهنم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية، ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال.
كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، وهم لا يعدمون، بل يموتون ويهلكون، وكما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فإذا أنفده الرجل فقد نفد ما عنده، إن كان لم يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.(92/4)
أثر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)
وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو معروف مشهور- ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون التفسير كـ ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبيهقي، والذين يذكرون الإسناد مجملاً كـ الثعلبي، والبغوي، والذين لا يسندون كـ الماوردي، وابن الجوزي قال: قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
قال: وفي هذه الآية أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
قال الطبري: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته].
إذاً: ينبغي أن نستصحب في أذهاننا أمرين: الأمر الأول: أن شيخ الإسلام هنا لم يؤيد هذا القول ولم يعارضه، بمعنى أنه لم ينتصر له انتصاراً يرى أنه هو الراجح، ولم يظهر منه أنه يرى أن هذا القول باطل، إنما ساقه على أنه قول قيل من أهل العلم، وأنه ثبت أنه قال به من لهم اعتبارهم من أهل العلم.
الأمر الثاني: أن هذا القول بحد ذاته ليس من الأقوال المنكرة، بغض النظر عن كونه راجحاً أو مرجوحاً، وإن كان غير قول الجمهور، لكنه قول له اعتباره؛ لعموم الأدلة، وهذا الاعتبار لا يعني أنه صحيح بالضرورة، قد يكون الصحيح هو رأي الجمهور، لكن يريد رحمه الله أن يقرر أن هذه المسألة مسألة مشهورة، وقال بها من لهم علمهم وفضلهم من السلف، وطائفة أقروها ولم ينكروها وإن لم يقولوا بها، ورووها بأسانيد صحيحة ولم ينكروا أصل القول، إنما سكتوا عنه، فغاية ما يقال: إن هذا القول اجتهادي، وإن من قال به خلاف رأي الجمهور يمكن أن يقال: إنه أخطأ، لكن ليس ببدعة؛ لأن الدلالة على قول هذا الفريق وجيه، ويكون قول الجمهور أوجه منه وأصح.
إذاً: لا بد من أن نضع في أذهاننا أن سياق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة، وذكر أقوال الذين قالوا بفناء النار وانقطاع عذابها وذكر أدلتهم لا يعني أنه ينتصر لهذا القول، ولا أنه هو القول الراجح، وكثيراً ما يسلك شيخ الإسلام هذا المسلك في المسائل الخلافية، يسردها دون أن ينتصر لها أو يرد عليها، ينبغي أن نفهم هذا؛ لئلا يلتبس الأمر علينا.
قال رحمه الله تعالى: [قال الطبري: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام:128].
قال في هذه الآية: إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصاً بأهل القبلة، فإنه قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:128 - 129]، (فأولياؤهم من الإنس) لفظ يدخل فيه الكفار قطعاً، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41].
وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَان(92/5)
الآثار الواردة عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما في خلو جهنم من المعذبين بعد مضي الحقب
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله.
قال البغوي: ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: ألا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.
فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:21 - 28].
وهذا وصف الذين كذبوا بآيات الله، {كِذَّابًا} [النبأ:28] أي: تكذيباً، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي عن مرة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا.
وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: سنين.
وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها.
قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهلال الهجري والضحاك وذكوان والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة.
وعن هشام عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] فقال: الله أعلم بالأحقاب، فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون.
وعن هشام عن الحسن قال: الأحقاب لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري أحد ما هي؟ يقتضي أن لها عدداً الله أعلم به، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل واحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن عن عمر بن الخطاب كما تقدم.
قول الحسن: (ليس فيها عدد إلا الخلود) حق أيضاً، فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضاً.
وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله.
وعن السدي: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وعن عبد الله بن عمرو قال: الحقب: أربعون سنة.(92/6)
أقوال الناس في الأحقاب المذكورة في آية النبأ من حيث تحديدها وعدمه
وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة مقدرة، وهو قول الزجاج وغيره، لكن قال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً.
قال الزجاج: وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب.
وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشراب حينئذٍ، وهذا باطل قطعاً، ثم إذا ذاقوا البرد والشراب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها بعد ذلك؟ وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: هي في أهل التوحيد.
قال عبد الحق بن عطية في تفسيره: ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان: الحقب سبع عشرة ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]، قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول].
لا يمكن أن يرد نسخ الأخبار؛ فالله عز وجل إذا قال خبراً لا يمكن نسخه؛ لأن النسخ لا يرد إلا في الأوامر والنواهي والأحكام، فالكلام في النسخ مستبعد.
قال رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقاباً عصاة المؤمنين.
قال: وهذا أيضاً ضعيف؛ فما بعده من السورة يرد عليه.
وقال آخرون: إنما المعنى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] غير ذائقين برداً ولا شراباً، فبهذه الحال: يلبثون أحقاباً، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم.
والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية؛ لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.
قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، كقوله تعالى: {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]، ومثل هذا أن كلمات الله داخلة تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية له يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أُخِذَ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد، كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة.
وقوله: (كلمات الله داخلة تحت العدد) ممنوع؛ إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها، مثل: الآيات المنزلة، وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً، وكلما عد بقدر معدود فهو ما حدّ، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.(92/7)
استدلال القائلين بفناء النار وانقطاع عذابها بقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك)
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن جعفر بن سليمان عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].
وقد روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وعن قتادة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106 - 107] الله أعلم بتثنيته على ما وقعت.
وروى الطبري عن يونس أنبأنا ابن وهب حدثنا ابن زيد في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فقرأ حتى بلغ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وعن السدي: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] إن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]، وذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثاراً عن الصحابة والتابعين، مثل ما روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي، وأبو جعفر الطبري وغيرهم عن الصحابة في ذلك.
وفي المسند للطبراني: ذكر فيه: (أنه ينبت فيها الجرجير) وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة.
منها ما رواه حرب والبيهقي، قال حرب الكرماني: سألت إسحاق عن قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} [هود:107]، قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
قال إسحاق: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].
قال المعتمر: قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن.
ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في قوله سبحانه: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:107]، تأتي عليه.
وقال ابن جرير حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107]، قال: استثنى الله عز وجل، قال: يأمر النار أن تأكلهم.
قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.
وقال: حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعهما خراباً.
وقال حرب الكرماني عن إسحاق بن راهوية حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله(92/8)
أدلة وطرق الذين قطعوا بدوام النار
قال رحمه الله تعالى: [قلت: والذين قطعوا بدوام النار لهم أربع طرق: أحدها: ظن الإجماع، فإن كثيراً من الناس يعتقد أن هذا مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين السلف، وإن كان فيه خلاف حادث فهو من أقوال أهل البدع.
والثاني: أن القرآن قد دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه أخبر بخلودهم في النار أبداً في غير موضع من القرآن.
والثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار دون الكفار، فإنهم لم يخرجوا.
والرابع: قول من يقول: الرسول وقفنا على ذلك، وعلمناه من بعده ضرورة، ولا يحتجون بنص معين، وعامة الناس يقولون: هذا لا نعلمه إلا من الخبر، وشذ بعضهم فزعم أن العقل دل على خلود الكفار.
فأما الإجماع فهو أولاً: غير معلوم، فإن هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع، نعم قد يظن فيها الإجماع، وذلك قبل أن يعرف النزاع، وقد عرف النزاع قديماً وحديثاً، بل إلى الساعة لم أعلم أحداً من الصحابة قال: إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضد ذلك، ولكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا.(92/9)
أدلة دوام النار من القرآن
وأما القرآن فالذي دل عليه حق، وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبداً، كما أخبر الله عز وجل في غير موضع، وأخبر أنهم يطلبون الموت والخروج منها، ويطلبون تخفيف العذاب فلا يجابون: لا إلى هذا ولا إلى هذا، وأخبر أنهم ماكثون فيها، وأخبر أنهم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:74 - 78].
وقوله: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: يميتنا، وهكذا قال المفسرون مثل: السدي وابن زيد وغيرهما.
قال السدي: يقضي علينا بالموت، وقال ابن زيد: القضاء هاهنا: الموت.
وكذلك قال سائر المفسرين، وهذا كقوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
وعن الفراء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] إلى قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27]، وذلك أن القضاء هو الإكمال والإتمام، والأمر المقتضى هو الذي قد مضى وفرغ.
وبالموت تنقضي حياة الإنسان، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:161 - 162].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36 - 37].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28].
فهذه النصوص وأمثالها في القرآن تبين أنهم خالدون في جهنم لا يموتون ولا يحيون، وأنهم يسألون هذا وهذا فلا يجابون.
وهذا يقتضي خلودهم في جهنم دار العذاب مادام ذلك العذاب باقياً، ولا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها، كما يخرج أهل التوحيد، فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعة، وغير الشفاعة مع بقائها، كما يخرج ناس من الحبس الذي فيه العذاب، مع بقاء الحبس والعذاب الذي فيه على من لم يخرج.(92/10)
أدلة دوام النار من السنة
وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -صحيح مسلم - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل).
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة في الحديث الطويل الذي فيه المرور على الصراط والشفاعة، وقال فيه: (حتى إذا فرغ الله من القصاص بين العباد، فأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، وتأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القصاص بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، وهو آخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة فيقول: رب اصرف وجهي عن النار) وذكر صرفه عن النار، ثم تقدمه إلى الجنة، ثم إلى بابها، ثم إدخاله الجنة، وأنه يعطيه ما تمناه ومثله معه.
ورواه أبو سعيد، وقال: (وعشرة أمثاله).
وكذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقول: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتهم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، إلى أن قال: ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً.
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40].
فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
وفي رواية: (من إيمان) بدل قوله: (من خير)، قال فيه: (فيقول الجبار: قد بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتشحوا، فيلقيهم في نهر بأفواه الجنة) الحديث.
ولم يقل: (لم يعملوا خيراً قط).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب: فادخل الجنة، فيأتيها فتخيل إليه أنها ملآى إلى أن قال: فيقول الله له: اذهب، فإن لك عشرة أمثال الدنيا، أو إن لك الدنيا وعشرة أمثالها).
وفي رواية لـ مسلم: فيقول له: (تمن، فيتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعافه).
وهذا يوافق حديث أبي سعيد من وجهين: وكذلك لـ مسلم من حديث جابر: (مثل الدنيا وعشرة أمثالها)، كما في اللفظ الأول في حديث ابن مسعود.
وفي حديث جابر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة).
وفي رواية: (إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة).
ولـ مسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة).
وللبخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، فيسمون: الجهنميين).(92/11)
الفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاً وعقلاً
الفرق بين بقاء الجنة والنار.
والفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاً وعقلاً، فأما شرعاً، فمن وجوه: أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها.
الثاني: أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات.
الثالث: أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام.
الرابع: أن النار قيدها بقوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، وقوله: {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} [هود:107]، فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة أو معلقة على شرط، وذلك دائم مطلق ليس بمؤقت ولا معلق.
الخامس: أنه قد ثبت أنه يدخل الجنة مَنْ يُنَشَأه في الآخرة لها، ويدخلها من دخل النار أولاً، ويدخلها الأولاد بعمل الآباء، فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيراً، وأما النار فلا يعذب أحد إلا بذنوبه، فلا تقاس هذه بهذه.
السادس: أن الجنة من مقتضى رحمته ومغفرته، والنار من عذابه، وقد قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98].
وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته، فيجب داومه بدوام معاني أسمائه وصفاته.
وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته، والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها، لاسيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره.
السابع: أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، وقال: (سبقت رحمتي غضبي) و (غلبت رحمتي غضبي).
وهذا عموم وإطلاق، فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة ألبتة.
الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع، فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكناً، توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة، وكذلك ما يقدره من المصائب فيها حكم عظيمة، فيها تطهير من الذنوب، وتزكية للنفوس، وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره، ففيها عبرة، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، ولهذا قال في الحديث الصحيح: (إنهم يحبسون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).
والنفوس الشريرة الظالمة التي إذا ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر، فإذا عذبوا بالنار عذاباً يخلص نفوسهم من ذلك الشر، كان هذا معقولاً في الحكمة، كما يوجد في تعذيب الدنيا، وخَلْقُ مَنْ فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، أما خَلْقُ نفوسٍ تعمل الشر في الدنيا، وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره.
ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وقال: بل يفعل ما يشاء، الذين سلكوا طريقته كـ الأشعري وغيره، ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة، ولكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين، ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيماً، فسروه بأنه عليم أو قدير أو مؤيد، وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم، وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الرحمة والحكمة.
وما قاله المعتزلة أيضاً باطل، فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل، ومن أعظم ما غلطهم اعتقادهم تأييد جهم، فإن ذلك يستلزم ما قالوه، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، والله سبحانه أعلم.(92/12)
الآيات الواردة في بقاء الجنة وعدم فنائها
وأما آيات بقاء الجنة.
فالأول: مثل قوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35].
فأخبر أنه دائم، والمنقطع ليس بدائم.
والثاني: مثل قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، والمنقطع ينفد.
والثالث: قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد، وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر، لكان ينفد كما ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقياً لا ينفد.
والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8].
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25].
كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3].
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص.
وذكروا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: غير مقطوع.
وعن مقاتل: غير منقوص أيضاً.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3].
قالوا ومنه المنون؛ لأنه يقطع عمر الإنسان.
وعن مجاهد: غير محسوب.
وهذا يوافق ذلك؛ لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير محسوب.
وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم، من جنس قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17].
وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه: أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِم} [آل عمران:164].
وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:25 - 27].
وهذا قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
وقوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها.
والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]؛ لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه؛ فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجراً وعوضاً لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم.
وأيضاً فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه، وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسناً إلى نفسه لا ظالماً لها.
فلهذا كان مَنُّهُ على المخلوق ظلماً أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره، وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه مِنَّة، وهو الجواد المحض، وهو سبحانه ليس كمثله شيء.
وللناس كلام في الجود والإحسان، ومن يفعل لحكمة ومقصود لحكمة هو مقصود هل هو جواد أم ليس بجواد؟ أم يفرق بين من يطلب عوضاً من غيره، فيحتاج إلى غيره، فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره، بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولأنه لما قال تعالى: {(92/13)
تحقيق موقف شيخ الإسلام من القول بفناء النار
كما سمعتم لقد ساق شيخ الإسلام الأقوال في هذه المسألة، ويظهر للقارئ أنه انتصر للقول بأن عذاب النار ينقطع وينتهي، وأن مآل الجميع إلى دار النهاية، لكن هذا لا يعني أنه تبنى هذا القول جزماً، أو أنه هو رأيه، وإنما ساق أقوالاً تبقى المسألة محتملة، الله أعلم بها؛ ولذلك تنازع الناس هل هذا رأي شيخ الإسلام أم أنه حكاه مجرد حكاية وقرره، الله أعلم بالحال، ولا يظهر أنه توقف؛ لأنه لم يصرح بالتوقف، فلا نستطيع أن نجزم أنه توقف، وإلا قد يرد ذلك.
وقد ورد حول هذا الموضوع سؤال عن رسالة لـ عبد الكريم الحميد في هذه المسألة، وأنا سبق أن قرأت للحميد رسالة قديمة من حوالي ثمان سنوات أو أكثر مخطوطة في هذا الموضوع، لكن السائل هنا يذكر أن هذه الرسالة فيها رد على ما توجه في مقدمة هذا الكتاب من أن هذا ليس قولاً نجزم به على شيخ الإسلام، وأنا لم أطلع على هذا الرد الأخير، وإنما اطلعت على الكلام الذي ينزع فيه إلى أن هذا هو قول شيخ الإسلام كما في رسالة الحميد، فهو يرى أن ما ذكره الشيخ في هذه الرسالة التي قرأناها هو قوله، أي: قول شيخ الإسلام.(92/14)
تنبيهات في مسألة فناء النار
لعل مسألة القول بفناء النار من المسائل التي لا تزال تستحوذ على أذهان الكثيرين، والقضية كما تعرفون ليست جديدة على أهل العلم المتخصصين، والذي وردني بشأنها بعض الأمور من الإخوة أحب أن أنبه إليها بإيجاز.
الأمر الأول: أنني أحب أن أؤكد على ما سبق أن ذكرته أكثر من مرة، وهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر في كثير من كتبه رأي جمهور السلف وينتصر له، من أنه لا يجوز القول بفناء النار، وأن هذا من أقوال الجهمية، وهذا تكرر كثيراً في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكثيراً ما كان يرد على الجهمية وعلى أصحاب هذا القول، وكلامه واضح، ومع ذلك ما نسب عنه من سرده لأقوال الناس في الرسالة السابقة الغالب أنه صحيح، لكنه حسب ما قرأنا وسمعتم أنتم وعند التمعن والتبين للحال نجد أن شيخ الإسلام لم يذكر بصراحة أنه يتبنى هذا الرأي أو يؤيده، وإنما ذكر أقوال هؤلاء وذكر أقوال هؤلاء، وتوسع في أقوال المخالفين؛ لأن المقام يقتضي حشد كل ما عندهم من الأقوال والأصول والقواعد، فينبغي أن يفهم هذا، حتى لا يدعي أحد ويجزم أن شيخ الإسلام قال بفناء النار؛ لأن أقواله في إنكار هذا القول كثيرة جداً في مواضع كثيرة، فيحمل الصريح على غير الصريح كما هي القاعدة، والمجمل يحمل على المبين، ويحمل على المفسر، هذه قاعدة شرعية، إذا وجد من أي إنسان فضلاً عن الأئمة قول مجمل وقول مفصل ومفسر ومبين، فينبغي أن يحمل المجمل على المبين، وهذا ما أراه في موقف شيخ الإسلام ابن تيمية وهو إنكاره على من يقول بفناء النار، وهذا بين في مواضع كثيرة، أما سرده لرأي من يرى فناء النار وحشده للأدلة فإنما هو سياق مجرد عن الرأي، ما ظهر أنه انتصر لهذا القول، أو قال: هذا رأيي، أو هذا ما أرجحه، وليس هناك ما يدل على ذلك، ولا حتى بالإشارة، وإنما غاية ما يمكن أن يقوله بعض المتكلفين أن سكوته إقرار، وهذا لا يصح دائماً، ليس كل سكوت إقرار في معرض بيان أقوال أهل العلم وتفصيله.
الأمر الثاني فيما يتعلق بهذه القضية أيضاً: أن بعض الإخوة أنكر إثارة مثل هذا الموضوع، وقال: هل من المصلحة أن تثار مثل هذه المسألة؟ أقول: مثل هذه المسائل الغامضة والمشكلة ينبغي ألا تثار عند عموم الناس، ولا في المحاضرات العامة، ولا في دروس المبتدئين، لكن في درس متخصص يحضره مثل هؤلاء النخبة، الذين هم طلبة علم إن شاء الله ينبغي أن يثار الموضوع؛ لأنه من الأمور التي كتب فيها الناس الآن، والقول فيها سجال بين فريق وآخر، وهناك راد ومردود عليه، وهناك كتب طبعت وموجودة في الساحة، ووصل الحد بإناس إلى طلب المباهلة في مثل هذا الموضوع.
إذاً: فلا بد من إثارتها عند أمثالكم، ولا تستغربوا هذا، ولستم في عافية من إثارة القضايا العقدية الخطيرة المهمة التي تحدث إثارتها بين طلاب العلم بخاصة، فلا تضيق صدوركم ذرعاً في عرض مثل هذا الموضوع في درس متخصص مثل هذا الدرس.(92/15)
الأسئلة(92/16)
الترجيح في مسألة القول بفناء النار
السؤال
كأنك تميل إلى القول بفناء النار، وكأنك تهز رأسك مؤيداً للأدلة التي ذكرها أصحاب القول بفناء النار، فكيف نوجه الآيات التي صرحت بأن أهل النار خالدين فيها أبداً، مثل: سورة النساء والأحزاب وغيرهما، وما زالت هذه التساؤلات تحيرني حتى أنقذني الله بـ (كتاب رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) للإمام الصنعاني، حيث رد على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى تلميذه ابن القيم، وقد فند الأدلة ورد عليها، وقد قام بتحقيق الكتاب الشيخ الألباني، والشيخ الألباني يؤيد ما ذكر الإمام الصنعاني، وأثبت أن شيخ الإسلام يقول بذلك، وإنه خطأ، وقد جل من لا يخطئ؟
الجواب
لو قدر أني أرى هذا الرأي فقد سبقني من هو خير مني، لكن كنت أحكي أن هذا قول غريب، وكنت أذكر كثيراً أنه ينبغي في مثل هذه المسألة وغيرها، إذا كان لجمهور السلف فيها رأي، فإنه ينبغي للمسلم أن يلتزم به، وإذا كان لعدد قليل منهم قول فهو بمثابة زلة العالم، ولا ينبغي أن يكون لي رأي غير رأي الجمهور.
ففي الحقيقة أنا لا أعتقد ذلك، وإذا فهم مني أني أهز رأسي عندما يذكر دليل هذه المسألة فلا يجوز أن يبنى على ذلك حكم ورأي، فعلى أي حال فقد أوضحت أن رأي الجمهور هو الرأي الأرجح، وهو الذي ينبغي أن يتبناه طالب العلم، وهو الذي تقتضيه الأدلة صراحة.(92/17)
قواعد وضوابط في التكفير
السؤال
ما هو ضابط التكفير؟ وهل من ترك تكفير إنسان وقع في أحد نواقض الإيمان من الإرجاء؟ وما حكم تكفير النصراني؟ وما حكم تعيين شخص بعينه أنه كافر؟
الجواب
هناك قواعد وضوابط في التفكير أثرت عن السلف، وهي مستنبطة من النصوص الشرعية، من أهمها: القاعدة الأولى: أن الكافر الخالص يجب ألا نشك في كفره، اليهودي، والنصراني، والمشرك، والمنافق، والملحد، والزائغ عن دين الله المرتد، لا نشك في كفره ولا يجوز للمسلم أن يتردد في ذلك.
كما أن المسلم أيضاً يجب ألا نشك في إسلامه، حتى يتبين كفره، من كان مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويستقبل هذه القبلة، ويدعي الإسلام ولم يظهر منه ما يوجب الردة، فإنه يبقى على اسم الإسلام، حتى وإن ظهر منه ما يمكن أن يكون كفراً في القول والعمل.
القاعدة الثانية: ليس كل من فعل أو قال الكفر يكفر، إلا بانتفاء موانع وتوافر شروط يعلمها أهل العلم، ليس كل من قال أو فعل الكفر من المسلمين يكفر، بل أكثر من يقولون الكفر أو يفعلونه من المسلمين الأصل فيهم الإسلام، ما لم يكن ردة؛ لأن أغلب الأقوال الكفرية من باب الكبائر، وأغلب الأفعال الكفرية من باب الكلام، إذ الشرك الصريح مسألة معروفة، وليس كل من قال أو فعل الكفر يكفر.
القاعدة الثالثة: أنه جاء الوعيد بالتكفير، يعني: ورد الوعيد في وصف المسلم بالكفر وعلى أنه كافر، ومع ذلك لا يكفر إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع.
القاعدة الرابعة: أننا لسنا متعبدين بتكفير من نرى كفرهم، بمعنى أنه لا يتعلق بذمة المسلم تكفير المسلمين خاصة، ولا يظن أنه إذا ما كفر من يظهر كفره منهم أنه يأثم، وأنه ارتكب ذنباً عظيماً، أو أنه إذا ما كفَّر كَفَر، كل هذا خطأ.
القاعدة الأخيرة: أنه لا يتناول التكفير إلا الراسخون في العلم، وإلا لو عرضنا هذه المسألة لكثير من طلاب العلم أو المتعالمين أو الحدثاء الذين ليس عندهم فقه في دين الله عز وجل، لكفّر الناسُ بعضهم بعضاً، ووقعت فتنة.(92/18)
معنى قاعدة (من شك في كفر المشركين فهو كافر)
السؤال
ما معنى قاعدة: من شك في كفر المشركين فهو كافر؟
الجواب
قاعدة: من شك في كفر المشركين أو كذا فهو كافر، هذه قاعدة، لا تنطبق على المسلم، نعم من شك في كفر المشركين من اليهود والنصارى والمرتدين الخلص، وأهل النفاق الخالص، فلاشك أن من شك بما ثبت شرعاً في الكتاب والسنة من كفر هؤلاء، فإنه يخشى عليه الكفر، فالقاعدة سليمة في غير المسلمين، أما في المسلمين فلا، حتى وإن كانوا أهل بدع، وإن كانوا أهل معاص وفجور وظلم، وإن تجاوزوا كثيراً من حدود الله عز وجل، ما داموا مسلمين لا نكفرهم إلا ببينة.(92/19)
شرح العقيدة الطحاوية [93]
الله خالق كل شيء، ومن مخلوقاته سبحانه وتعالى أنه خلق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون لها على الحقيقة، وهي كسب لهم، وبها صاروا مطيعين أو عصاة، وقد خالفت الجبرية والقدرية في مسألة خلق أفعال العباد، وأوردوا شبهات وإيرادات دحضها أهل السنة وردوا عليهم وأبطلوا أدلتهم.(93/1)
أفعال العباد خلق الله وهم فاعلون لها حقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد).
اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية].
أفعال العباد على نوعين: أفعال اختيارية، وأفعال غير اختيارية، أما الأفعال الاختيارية فالتي يفعلها العباد بمحض إرادتهم، وهذه لا تتأتى إلا من أفعال العقلاء، وغير العقلاء لا يخضعون في هذا؛ لأن أفعالهم قصرية، فمثلاً: المجانين والأطفال أفعالهم شبه قصرية، حتى وإن كان عند الطفل المميز شيء من الاختيار، لكنه غير مكلف، وعلى هذا فإن الحديث منصب على أفعال المكلفين العقلاء الذين يختارون أفعالهم الاختيارية، التي بمقدورهم أن يفعلوها أو يتركوها.
أما النوع الثاني: وهو الأفعال غير الاختيارية، وهي الأفعال القصرية المتعلقة بتسيير أحوال العباد في شئونهم الخاصة، وفي أنفسهم، وفي أجسامهم، مثل: حركة الدم، وحركة الجسم وغير ذلك من الحركات التي عُبِّر عنها الآن اللاإرادية، هذه أمور لا تدخل في هذا الكلام، إنما الداخل في هذا الكلام الذي سيأتي الخلاف فيه، هو أفعال العباد التي يفعلونها باختيارهم أو يتركونها باختيارهم، مما يستطيعونه ويقدرون عليه تركاً أو فعلاً.
قال رحمه الله تعالى: [فزعمت الجبرية -رئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي - أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصِّله.
وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا؟].
هنا ذكر الشارح أو نسب القول المخالف للمعتزلة، والمعتزلة هم الذين يقولون بأن الإنسان مختار لأفعاله اختياراً مطلقاً، ليس لله فيها تقدير ولا مشيئة، هذا هو قول القدرية، فهو نسبه إلى المعتزلة؛ لأن أشهر من تبناه في القرن الثاني وما بعده المعتزلة، وإلا فأصل هذا القول هو قول القدرية الأولى، قول معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومن سلك سبيلهما.
والقدرية الأولى يقولون: لا قدر، أي: أن الله لم يقدر أفعال العباد المكلفين، وأن الأمر أُنُف، يعني: مستأنف، وأن أفعالهم حدثت بإرادتهم الكاملة، وليس لله فيها تقدير، بل بعضهم بالغ وقال: ليس لله فيها علم أصلاً، وهذا كفر محض، فمن أنكر العلم والتقدير فقوله كفر، حتى لو لم نكفره، ثم لما جوبه وقوبل هذا القول بشيء من الاستنكار حتى عند عوام الناس لطفته المعتزلة فيما بعد، وقالوا: نحن لا نقول بإنكار العلم السابق، إنما نقول بأن أفعال العباد من اختيارهم الاختيار المطلق، ومع ذلك فإن بعض المعتزلة حصروا هذه المسألة بأفعال الشر فقط، وقالوا: إن أفعال الشر هي التي ليست مقدرة من الله عز وجل، زعماً منهم أن هذا يقتضي التنزيه؛ لأنهم ظنوا أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فقد رضي به، ونسوا أن الله عز وجل قد يقدر الشيء من باب الابتلاء والفتنة، أو قد يقدره سبحانه بناء على ما سيفعل هذا الشخص في سابق علم الله، فهم ما استوعبوا قضية القدر، وحكموا عقولهم، فوقعوا في هذا، فمنهم من قال بأن جميع أفعال العباد العقلاء المكلفين ليست من تقدير الله إطلاقاً، إنما هي من أفعال العباد بحتة، حتى إن بعضهم صرح بأن الإنسان خالق أفعاله، وبعضهم حصر هذا في جانب فقط وهو جانب الشر.
إذاً: هذا هو قول القدرية، وليس كل المعتزلة يقولون به، إنما بعضهم يلطف العبارة.(93/2)
مذهب أهل السنة في خلق أفعال العباد
قال رحمه الله تعالى: [وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه].
يعني: أن الله عز وجل منفرد بخلق المخلوقات جميعاً، بما فيها أفعال العباد، وهذا حتم لا بد منه، ولو افترضنا أن هناك أفعالاً لا تحدث بقدرة الله ولا بعلمه ولا بمشيئته، فإن هذا يؤدي إلى القول بخالق مع الله، وهذا هو قول المجوس، وقد كفروا بهذا القول.
قال رحمه الله تعالى: [فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات فشبهوا، والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالِقِين مع الله تعالى، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتت خالِقَين وهم أثبتوا خالِقِين].
قوله: (بل أردأ من المجوس) نقول: قول المجوس من أشنع الأقوال؛ لأن المجوس صرحوا بأن الخالق الآخر إله، وعبدوه من دون الله عز وجل، فلاشك أن مقولتهم إذا نظرناها من جميع الوجوه أشد وأشنع وأكفر من مقولة المعتزلة الجهمية أو المعتزلة القدرية، لكن قد يكون قول المعتزلة من بعض الوجوه أشد، وإلا فقول المجوس قول شنيع، ولاسيما أنهم نسبوا خلق الشر إلى إله آخر وعبدوه من دون الله، وأحياناً يقولون: إنه الشيطان، وعبدوا الشيطان، وهذا سبب نزعة عبادة الشيطان عند عبدة الشيطان الموجودين الآن في بعض البلاد.
وعبدة الشيطان لهم اصطلاحان: اصطلاح يطلق على طائفة قديمة هم امتداد للمجوس، وانتموا إلى بعض الفرق الإسلامية، وهؤلاء عباد الشيطان الذين في العراق وأجزاء من سوريا وشمال هذه المنطقة، هؤلاء نزعتهم نزعة مجوسية، فهم يعبدون إبليس نسأل الله العافية؛ لأنهم يرون أن له قدرة، ويستقل بخلق بعض الأفعال، منها: خلق الشر، وهناك صنف آخر من عبدة الشيطان، وهم الذين ظهروا أخيراً ويمارسون بعض الطقوس، وبين الفكرتين شيء من التشابه، لكن هذه فيها سذاجة ونوع من عدم التعمق الفكري، بينما تلك كانت متأصلة ومغرقة في الوثنية.
على أي حال هناك شبه بين قول المعتزلة والقدرية وبين قول المجوس، من حيث قولهم بأن الإنسان هو خالق أفعاله، أو ألزموا بهذا القول فجعلوا جميع العقلاء خالِقِين لأفعالهم، بينما المجوس أثبتوا خالقاً آخر مع الله فقط، هذا من الناحية العددية، وإلا من حيث شناعة القول فلاشك أن قول المجوس أشنع، وقول القدرية إنما هو امتداد لقول المجوس، وأغلب الذين نشروا قول القدرية إما أنهم مجوس أو أخذوه عن المجوس مباشرة، وقول القدرية كما أنه موجود في المجوسية، كذلك هو موجود عند بعض الفرق الصابئة، وعند بعض فرق اليهود، وبعض فرق النصارى، ويدل عليه قصة بطريرك الشام قسطنطين الذي سلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس، فإن عندهم هذه النزعة القدرية بعينها، أي: القول بأن الإضلال ليس من تقدير الله، فلذلك لما خطب عمر رضي الله عنه الناس في الجابية قال: ومن يضلل فلا هادي له، قام هذا الأسقف النصراني واعترض على عمر هذا القول، وقال: إن الله لا يضل أحداً، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقولته هدده بالقتل.
فإذاً: هذه المقولة موجودة عند النصارى وعند اليهود، لكن أصلها من المجوس، ولا شك أن نشأتها بين المسلمين جاءت من خلال النصارى والمجوس واليهود والصابئة.
قال رحمه الله تعالى: [وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكل دليل صحيح يقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم].
هذا الأمر يذكرنا بضرورة استحضار مراتب القدر، وسبق الكلام عنها أكثر من مرة، لكن من المناسب الآن أن نستحضرها جيداً، فمراتب القدر أربع جاءت في النصوص القطعية، لا بد من الإلمام بها جميعاً؛ من أجل أن يحكم المسلم عقيدته في هذا الأمر، ويعرف الرأي المخالف بهذا الميزان معرفة واضحة بلا تردد ولا التباس.
المرتبة الأولى: العلم، وهي أن جميع المخلوقات لله عز وجل بما في ذلك أفعال العباد تخضع أولاً لمرتبة العلم، وأن الله عز وجل علمها أصلاً.
الثانية: الكتابة، وهي أن الله عز وجل(93/3)
الرد على الجبرية والمعتزلة في مسألة أفعال العباد
قال رحمه الله تعالى: [وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل.
فمما استدلت به الجبرية، قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فنفى الله عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد، قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
ومما استدل به القدرية، قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتيب العوض، كما قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ونحو ذلك.
فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فهو دليل عليهم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17]، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذ والله تعالى أعلم: وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما صمت إذ صمت، وما زنيت إذ زنيت، وما سرقت إذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر.
وأما ترتب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله، والباء التي في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ونحوها، باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.(93/4)
بيان ما يدخل في عموم (كل)
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين، والخلق يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا، بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم (كل) وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم (كل)، الذي هو صفة من صفاته، يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً.
وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم (كل)، وهل يدخل في عموم (كل) إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها، وكذا قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، ولا نقول: لأن (ما) مصدرية، أي: خلقكم وعملكم؛ إذ سياق الآية يأباه؛ لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير.(93/5)
الرد على شبهة: كيف يعذب الله المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟
وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري، وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده، ويمتنع عند عدمه ضروري، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما: أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكار ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله، وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8]، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية، وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة.
وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق، فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل وسدت باب السؤال، وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل، جعلت الثواب والعقاب عليه، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرَين، ومفعول بين فاعلين، وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه، وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.
والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً.
يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب، يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي؛ فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:41 - 42]، والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله فلم يتمكن منه الشيطان، وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل].
خلاصة الأمر في هذا الموضوع: أن مسألة أفعال العباد راجعة إلى تصور مراتب القدر أولاً.
ثانياً: تصور معنى الابتلاء، وتصور حكمة الله عز وجل في ذلك، فإن الإنسان إذا تصور المراتب الأربع للقدر، ثم عرف أن الله عز وجل بيّن للعباد طريق الخير وأقدرهم عليه، ورتب عليه الثواب، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه، ورتب عليه العقاب، فهذا أمر يتصوره كل عاقل يعرف شرائع الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان محجوج بهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يقول عاقل بأن الإنسان الحر المختار قصر وجبر على شر دون أن يريده، إلا في حال لا يكلف ولا يحاسب فيها، فمن فقد عقله وفقد الاستطاعة سقط عنه الحساب، لكن في حال قدرته وإمكاناته فإنه محاسب على ما بيّنه الله عز وجل له وأرشده إليه، وبذلك تقوم الحجة، وما وراء ذلك من الإشكالات والشبهات إنما هو من وساوس الشيطان، والله عز وجل ليس بظلام للعبيد، ولا يمكن أن يحدث منه ولا في أفعاله ظلم لعباده.
يبقى ما ورد مما يحدث من أفعال الله عز وجل إذا شاء للعباد فيها، مما هو محجوب عنهم ولا قدرة لهم عليه، مثل: مسألة الشقاء والسعادة المكتوبة سلفاً على العبد، فهذه مسألة محجوبة عن العب(93/6)
الأسئلة(93/7)
الرد على من قال بأن شيخ الإسلام هو أول من ابتدع مراتب القدر الأربع
السؤال
ذكر محقق شرح الواسطية للشيخ الهراس: أن بعض المبتدعة انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه أول من ابتدع هذا التقسيم لمراتب القدر الأربع، فما صحة ذلك؟
الجواب
لا، ليس بصحيح فقد سبق شيخ الإسلام كثير في هذه الأمور، وقد تكلم فيها السلف، لكن هل سموها مراتب وحدودها بأربع؟ هذا ما أدري عنه، لكن أصلوا القدر على هذا الأساس: مرتبة العلم، مرتبة الكتابة، مرتبة المشيئة والتقدير، مرتبة الخلق، هذه المراتب ذكرها السلف منذ أن نشأت القدرية في آخر القرن الأول الهجري، وليس من ابتداع شيخ الإسلام ابن تيمية.(93/8)
شرح العقيدة الطحاوية [94]
من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أنه لا يكلف العباد ما لا يطيقون، بل لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقد يطيقون أكثر مما كلفهم، ولكنه سبحانه رفع الحرج عن هذه الأمة ويسر لها الأحكام والتكاليف، وكل ما يجري في هذا الكون فهو يجري وفق حكمته وقدرته ومشيئته، لا راد لقضائه، ولا غالب لأمره، بل هو عدل حكم لا يظلم أحداً أبداً سبحانه وتعالى.(94/1)
مفهوم التكليف والاستطاعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره.
غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]].
هنا الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العبارة جارى الأشعري فيما خالف فيه السلف في بعض التعبيرات، لكن الطحاوي ربما يقصد معنى آخر غير ما يقصده الأشعري، وتعلمون أن الأشعري رحمه الله حينما رجع إلى السنة بعد أن كان معتزلياً بقيت عنده بعض النزعات الكلامية، من ضمنها ما يتعلق بمسألة الكسب والاستطاعة، أو تكليف ما يطاق أو ما لا يطاق.
فقوله: (ولم يكلفهم الله عز وجل إلا ما يطيقون) هذا كلام لا بأس به؛ لأن الله عز وجل يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن العبارة الثانية فيها نظر، وهي قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فهذه فيها نوع من الفلسفة والتكلف، وهي من كلمات الأشعري، ولا يؤيده عليها السلف بهذا الإطلاق، لا يقال: ولا يطيقون إلا ما كلفهم لأنه نوع من الجبر، قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن الله عز وجل بنى دينه على التيسير وعدم الحرج، وإلا لو كلف الناس بست صلوات لصلوا ست صلوات، لكن الله عز وجل يسر لهم، والله عز وجل فرض علينا خمسين صلاة، ثم خففت إلى خمس بأجر خمسين، وذلك من فضل الله.
فقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذا هو مذهب الأشعري الذي يرى أن القدرة لا تكون إلا عند الإرادة، ويرى أيضاً أن إرادة العبد إرادة شكلية ليست إرادة حقيقية، يعني: تأتي بالصدفة مع إرادة الله.
إذاً: فلا يصح أن يقال: (لا يطيقون إلا ما كلفهم)؛ لأنهم قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن بمشقة وبحرج، والله عز وجل رخص لهم ورفع عنهم الحرج والمشقة، وبنى دينه على التيسير.
أما تفسيره فيما بعد هو تفسير صحيح لا بأس به.
قال رحمه الله تعالى: [فقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون:62].
وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين، وهو محال].
الأصل أن السلف يكرهون الحديث في مثل هذه القضايا، كقول أبي الحسن الأشعري: إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً.
هذه فلسفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (جائز) أو (غير جائز عقلاً) هذه سفسطة لا ثمرة لها، وجميع الأمور الاعتقادية أو التفصيلية التي تكلم فيها الناس، والتي لا أصل لها في الشرع، أو لا يترتب عليها عمل فالكلام فيها بدعة، ولذلك بدّع السلف من استعمل علم الكلام أو تحدث به أو تناوله؛ لأنه حديث عن مثل هذه الأمور التي لا مصلحة من ورائها، فما الفائدة من أن الإنسان يتفلسف ويجادل غيره في أن الله عز وجل يكلف ما لا يطاق أو لا يكلف، أو أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً أو غير جائز عقلاً؟ الله عز وجل حكم وشرع لعباده شرعاً بني على قدرات العباد و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وبني على التيسير وانتهى الأمر.
ولو فرضنا أن العقل أجاز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فالنتيجة أن هذا أمر لا مصلحة فيه للعباد لا في دينهم ولا دنياهم، ولذلك مثل هذا الكلام يجب أن يجتنبه من يتقي الله ويتورع عن الدخول فيما لا يعنيه؛ لأنه ليس له تعلق بحياة الناس وبعلومهم الطبيعية أو علومهم الشرعية، بل مجرد فلسفة لا طائل تحتها، وعليه يقاس غيره من الأمور التي ليس وراءها لا أمر شرعي ولا مصلحة دنيوية طبيعية.
إذاً: الأصل في علم الكلام النهي؛ لأنه لا فائدة فيه لا في دين الناس ولا في دنياهم.
وهذه الأمور مما أخذت على الأشعري رحمه الله، ودخلت بسببه على كثير من أهل الفضل والعلم، دخلت على كثير من الأشاعرة والماتريدية وغيرهما، بل حتى أحياناً ممن ينتسبون إلى مذهب الإمام أحمد دخلوا في هذه الأمور، مع المهاترات والكلام والردود، وردود على الردود، مثل: الذي يحلم في منامه ينتهي إلى لا شيء.
قال رحمه الله تعالى: [والجواب عن هذا بالمنع، فلا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا(94/2)
معنى قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به)
وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به) إلى آخر كلامه.
أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه، وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، و (لا حول ولا قوة إلا بالله) دليل على إثبات القدر.
وقد فسرها الشيخ بعدها، ولكن في كلام الشيخ إشكال، فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: (لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم) وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد ولا يصح ذلك؛ لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28].
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ولكنه تفضل علينا ورحمنا وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، ففي العبارة قلق فتأمله.(94/3)
الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي وكذلك الأمر والإذن والكتاب وغيرها
وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره) يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ونحو ذلك.
أما القضاء الكوني ففي قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].
والقضاء الديني الشرعي في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
وأما الإرادة الكونية والدينية فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ: (ولا يكون إلا ما يريد).
وأما الأمر الكوني ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وكذا قوله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، في أحد الأقوال وهو أقواها.
والأمر الشرعي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
وأما الإذن الكوني ففي قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102].
والإذن الشرعي في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5].
وأما الكتاب الكوني ففي قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
والكتاب الشرعي الديني في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
وأما الحكم الكوني ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80].
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112].
والحكم الشرعي في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10].
وأما التحريم الكوني ففي قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26].
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95].
والتحريم الشرعي في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3].
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].
وأما الكلمات الكونية ففي قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر).
والكلمات الشرعية الدينية في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124].(94/4)
عدم ظلم الله عز وجل لعباده بأي وجه من الوجوه
وقوله: (يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً) الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون].
هذه العبارة لو قيدت لكان أحسن، وهي قوله: (فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً) لو قال: ليس كل ما كان من بني آدم ظلماً إلى آخره، لكان أفضل؛ لأن هناك أشياء قبيحة تكون ظلماً ولا تجوز في حق الله عز وجل، كما لا تجوز في حق العباد، لا من باب القياس، لكن من باب أنها مما ينزه الله عنها؛ لأن الكامل ليس كالناقص، فالعباد ليس لهم سلطة على العباد، فكل تحكم في الآخرين يعتبر منهم ظلماً، أما الله عز وجل إذا تحكم في عباده فإنما يتحكم في ملكه سبحانه.
فهذا هو الفارق، فالله عز وجل يفعل في خلقه ما يريد، ويفعل في خلقه ما يشاء؛ لأنهم خلقه وملكه، لكن العباد لا يملك منهم أحد ملكاً حقيقياً، فلذلك تحكم العباد بالعباد ظلم إذا كان بغير حق، أما تحكم الله عز وجل بالعباد على ما يشاء فليس بظلم؛ لأنه هو ربهم وهم ملكه، وبيده مقاليد السماوات والأرض سبحانه، ويفعل بملكه ما يشاء.
إذاً: لا يقال: ما يكون ظلماً من العباد يكون ظلماً من الله من كل وجه، فالتقييد يكون أضبط وأولى.
قال رحمه الله تعالى: [وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه -لو فعله- عدل؛ إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].
وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وذلك يدل على نقيض هذا القول.
ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).
فهذا دل على شيئين: أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.
الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه لا ما هو ممتنع عليه.
وأيضاً: فإن قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، حتى يؤمّن من ذلك، وإنما يؤمّن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: {فَلا يَخَافُ} [طه:112]، علم أنه ممكن مقدور عليه، وكذا قوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28]، إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه، ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم، فعلى قول هؤلاء: ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول في مواضع نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له، ولا ينبغي له، فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء، والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء، والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك وهذا فعل، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35].
وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(94/5)
شرح العقيدة الطحاوية [95]
مما ينتفع به الأموات بعد حياتهم ما تسببوا به في حال الحياة من أوقاف أو صدقات جارية، أو علم ينتفع به الآخرون، أو غير ذلك من القربات وأنواع الصدقات التي لها آثار نفعية متعدية تلحق العبد إلى قبره، أو ينتفع بدعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة عنه والحج وغيرها من القربات، وقد اختلف في بعض الأعمال البدنية مثل الصوم عنه والصلاة وقراءة القرآن له والذكر، ومنع بعض أهل البدع كل هذه الأعمال أن تصل إلى الميت، والصواب هو ما حرره السلف والعلماء من بعدهم في هذه المسألة.(95/1)
انتفاع الأموات من سعي الأحياء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات).
اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته.
والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج، على نزاع فيما يصل من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن رحمه الله: أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح].
هذا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي رفعت الصبي وقالت: (ألهذا حج؟ قال: ولكِ أجر)، هذا والحديث مطلق، وقد ورد في أكثر من حادثة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حج عن أبيه أو عن أمه، أو فيمن يحج بالصبي، والصبي غير مكلف، وورد ثبوت الأجر لمن حج عن غيره مطلقاً في النصوص، فتحديد الأجر بأجر النفقة هذا لا دليل عليه.
قال رحمه الله تعالى: [واختلف في العبادات البدنية، كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها.
وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء ألبتة لا الدعاء ولا غيره، وقولهم: مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39].
وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه.
واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج بأن النوع الذي لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه].
الصلاة بالاتفاق لا تدخلها النيابة، فلا أحد ينوب عن أحد في الصلاة.
أما الحج فقد ورد أنه يجوز الحج عمن لم يستطع الحج، سواء كان حياً غير متمكن بإطلاق، أو من به مرض لا يرجى برؤه، أو كان ميتاً، فإنه يجوز الحج عنه والنيابة عنه.
وكذلك تجوز الصدقة عن حي أو ميت.
وكذلك بعض الأعمال الأخرى كإهداء قراءة القرآن.
أما الصيام ففيه نظر أو فيه خلاف هل هو مما تدخله النيابة أو لا تدخله، والراجح أنه لا يصوم أحد عن أحد إلا بإسقاط الفرض؛ لحديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، وهذا لا يعني: النيابة، إنما يعني: الصيام عمن مات وعليه فرض الصيام.
إذاً: الراجح أن الحديث لا يتعدى إلى التطوع، إلا إذا كان واجباً، كصيام فرض، أو وجب على الإنسان صيام كفارة أو نذر.
قال رحمه الله تعالى: [كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره، وقد روى النسائي بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة)].(95/2)
ذكر الأدلة على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه
[والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.
أما الكتاب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل).
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية).
وفي صحيحه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وأما وصول ثواب الصدقة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم).
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها)، وأمثال ذلك كثيرة في السنة.
وأما وصول ثواب الصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه؛ لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع].
الحديث صريح ولا اجتهاد مع النص، في أنه يجوز الصيام بل يشرع الصيام عمن مات وعليه صوم.
وكنت أريد أن أشير إلى أن حديث ابن عباس السابق الصحيح فيه أنه موقوف على ابن عباس وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة) حسب ما قال المحقق: إنه موقوف على ابن عباس.
قال رحمه الله تعالى: [وأما وصول ثواب الحج، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)، ونظائره أيضاً كثيرة.
واجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي ومن غير تركته، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته)، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله له في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته.
وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟].
قوله: (وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة) هذا من باب القياس، والقياس في الأمور التوقيفية لا يصح؛ لأن أمور العقيدة توقيفية، هذا ليس من باب الأحكام المجردة، هذا من باب الأمور الغيبية والأمور التوقيفية، فإذا نبه الشارع بوصول ثواب الصوم، فلا يدل ذلك على وصول ثواب غيره من الأعمال إلا بدليل آخر، وإلا لو أخذنا بهذه القاعدة لفتحنا باب العمل للميت من كل وجه، بما في ذلك قراءة القرآن عند القبور، وبما في ذلك الصلاة، والكثير من الأعمال التي يعملها أهل البدع، وهذا فيه نظر.
إذاً: لا يصح القياس في أمور العقيدة والأمور الغيبية أبداً، وإنما يصح القياس في أمور الأح(95/3)
معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
قال رحمه الله تعالى: [والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، قد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام، من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم.
يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.
الثاني -وهو أقوى منه-: أن القرآن لم ينفِ انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه.
وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38 - 39]، آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى: فالأولى: تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا.
والثانية: تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكذلك قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره، فإنه تعالى قال: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فاستدلال ساقط؛ فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين، وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت كما تقدم، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما: (اللهم هذا عن أمتي جميعاً)، وفي الآخر: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) رواه أحمد والقربة في الأضحية وإراقة الدم، وقد جعلها لغيره.
وكذلك عبادة الحج بدنية، وليس المال ركناً فيه، وإنما هو وسيلة، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال، وهذا هو الأظهر، أعني: أن الحج غير مركب من مال وبدن، بل بدني محض، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين.
وانظر إلى فروض الكفايات: كيف قام فيها البعض عن الباقين، ولأن هذا إهداء ثواب، وليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء.(95/4)
حكم الاستئجار على تلاوة القرآن وإهدائه للميت وإهداء القراءة للميت بغير أجرة
وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف، وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وهذا لم يقع عبادة خالصة، فلا يكون ثوابه مما يهدى إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك، كان هذا من جنس الصدقة عنه فيجوز.
وفي الاختيار: لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة؛ لأنه في معنى الأجرة.
انتهى.
وذكر الزاهدي في القنية: أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره فالتعيين باطل.
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج، فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف
الجواب
إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام؟].
رأي جمهور السلف على خلاف هذا القول، لكن بعض أهل العلم المعتبرين من السلف وغيرهم قالوا بمثل قول ابن أبي العز هنا، وقال به أيضاً بعض المتقدمين والمتأخرين، لكن الراجح هو قول جمهور السلف من أنه لا يجوز القياس في هذا الأمر، ولا يجوز إهداء قراءة القرآن للميت، وكونه لم يرد عن السلف يعتبر حجة؛ لأنه إذا لم يرد فيه نص صحيح صريح بإطلاق ولم يفعله السلف هذا كاف في أن نرده؛ لأنه يدخل في باب الابتداع، وقياس إهداء القرآن على وصول ثواب الحج والصيام والدعاء لا يصح، للاعتبارات التي ذكرتها من قبل، وهي أن هذا الأمر من الأمور التي لا يجب فيها القياس؛ لأن فيه جانب عبادة، وأيضاً هو أمر توقيفي، ومثل هذه الأمور لا بد أن يكون الأصل فيها الدين، ومع ذلك فإن الشارح سينتصر لهذا الرأي ويذكر الأدلة، وكما قلت: المسألة فيه نزاع.
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة؟ قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته، فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه، فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم إليه.
ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير.(95/5)
اختلاف العلماء في حكم قراءة القرآن عند القبور
واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: هل تكره أم لا بأس بها وقت الدفن وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها، كـ أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، قالوا: لأنه محدث لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة.
ومن قال: لا بأس بها، كـ محمد بن الحسن وأحمد في رواية، استدلوا بما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها، ونُقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.
ومن قال: لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نُقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين، وأما بعد ذلك كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم يُنقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره لما فيه من التوفيق بين الدليلين].
يعني: يرى الشارح أن القراءة عند القبر بعد الدفن مباشرة فقط لا بأس بها؛ لأن هذا هو المأثور عن كثير ممن أجازه من السلف، وأنهم يرون هذا جائزاً وقت الدفن، أما أن يكون بصورة مستمرة في كل وقت يقرءون عنده القرآن، فهذا ليس بمشروع.(95/6)
الأسئلة(95/7)
وجه إدخال مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء في أمور العقيدة
السؤال
هل مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء داخلة في أمور العقيدة؟
الجواب
مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء لها جانبان: جانب حكمه من حيث الشرع الجواز، وجانب حكمه عدم الجواز؛ لأنه من الجوانب العبادية، والخلاف ورد بسبب الذين توسعوا في هذا الجانب، فالعبادات في أسلوبها داخلة في باب العقيدة، ثم هناك جانب غيبي، والجانب الغيبي داخل في العقيدة، ومن الجانب الغيبي نشأة الأموات، وما يسمعونه وما لا يسمعون، وما ينتفعون به وما لا ينتفعون، وهل يجيبون أو لا يجيبون؟ وهل يصلهم الثواب أو لا يصلهم؟ فهذه أمور داخلة في مسألة الحياة البرزخية وأمور الآخرة، فمن هذا الجانب كانت عقدية.(95/8)
وجه الجمع بين مراتب القدر الأربع وبين كون الدعاء يرد القدر
السؤال
كيف نجمع بين قولنا: إن مراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، وبين أن الدعاء يرد القدر؟ وهل يقال: إن الملك عندما يؤمر عند خلق الإنسان بكتب رزقه وعمله وشقي أم سعيد، كل هذا لا يكتب في اللوح المحفوظ، بل يكتب في مكان آخر، فإذا دعا أزيل عنه ما كتب له؟ فهل هذا صحيح؟
الجواب
أولاً: الدعاء لا يرد ما كتب في اللوح المحفوظ، الدعاء يرد الأقدار الجزئية الأخرى، ما كتب في صحيفة الإنسان عند نفخ الروح فيه بعد (120) يوماً من خلقه، إذا نفخت فيه روحه وكتبت عليه القضايا الأربع: رزقه، وأجله، وموته، وشقاوته أو سعادته، هذه الأمور لا ينفع فيها الدعاء، إنما ينفع الدعاء في رد بعض الأقدار الجزئية أو جلبها، هذا هو الظاهر من النصوص.
ثانياً: أن ما يقدره الله عز وجل مع كونه عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت هذا لا يتعارض مع الكتابة الأولى، فالمحو والإثبات إنما فيه دليل على عموم مشيئة الله عز وجل، وأن الله فعّال لما يريد.
واختلف أهل العلم هل المحو والإثبات في الكتابة الأصلية الأولى؟ الراجح أن المحو والإثبات في الكتابات الجزئية؛ لأن الكتابات مراحل: منها: الكتابة القدرية العامة الكبرى التي قدر الله بها جميع أحكام الخلائق، فهذه كتابة عامة.
ومنها: ما هو دون ذلك ككتابة الصحيفة، الكتابة السنوية التي يقدرها الله عز وجل في ليلة القدر وغير ذلك، فهذه كتابات جزئية.
فالمحو والإثبات إذا كان في الكتابة الأصلية فهو راجع إلى قدرة الله عز وجل وتقديره، وأن الله يعلم أن هذا سيكون، فلا يتعارض مع كتابته وتقديره وخلقه، وإذا كان المحو والإثبات في الصحائف التي دون الصحيفة الكبرى أو الكتابة الأولى، فهذا يعني: أن الله عز وجل يقدر في النهاية ما كتبه في الأول، وهو الراجح.
المهم أن مراتب القدر باقية على ما هي عليه: العلم، والكتابة، علم الله عز وجل من عباده ما سيكون منهم فكتب الكتابة المستقرة على ما علمه منهم، وما دون ذلك من كتابات قد يكون فيه المحو والإثبات، والله أعلم.(95/9)
حكم سماع الأموات للأحياء
السؤال
ما هو القول الصحيح في سماع الأموات للأحياء؟
الجواب
الصحيح أن الأموات يسمعون الأحياء، لكن ليس دائماً إلا ما ورد بالنص من أن الميت عند دفنه يسمع قرع نعال من ينصرفون عنه، ويسمع قولهم، وكذلك عند السلام، إذا جاء الحي وسلم على الميت، فإن الميت يرد عليه السلام ويسمعه، أو يسمعه سواء رد أو لم يرد، هذا هو الذي ورد هنا.
إذاً: ما ثبت به النص يثبت وما لم يرد لم يثبت، وليس هناك دليل على أن الأموات يسمعون في كل الأحوال، فيكون الأصل أنهم لا يسمعون إلا ما ورد به النص.(95/10)
دليل من أجاز قراءة القرآن على الميت عند الدفن
السؤال
ما دليل الشارح في جواز قراءة القرآن على الميت عند الدفن؟
الجواب
القراءة على الميت بعد وفاته مباشرة نقلت عن بعض الصحابة وعن بعض السلف، نقلت عن محمد بن الحسن وعن ابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين، وبقية الصحابة لم ينكروا ذلك، والقاعدة الشرعية: أن الصحابة إذا عملوا شيئاً من أمور العبادة الأصل فيها التوقيف، فإن عملهم حجة، خاصة إذا أقروه ولم يعارضوه، أو أقره بعضهم ولم يُعارض، وهذا موقوف أو محصور فيما بعد الدفن، أما استمرار قراءة القرآن على القبر فهذه المسألة فيها خلاف.(95/11)
شرح العقيدة الطحاوية [96]
الدعاء من أقوى الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار عن العباد، وهو مشروع بإجماع المسلمين، ولم يخالف في ذلك أحد إلا غلاة الفلاسفة، والدعاء أنواع منها دعاء العبادة الذي هو الخوف والخشية والرغبة والرهبة والإنابة والتوكل والتوجه إلى الله، ودعاء المسألة الذي هو سؤال الله والتماس الإجابة منه وحده لا من أحد من المخلوقين.
وقد تؤخر عن العبد الإجابة لأمور كلها خير ونفع له.(96/1)
استجابة الله دعاء عبده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات).
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم: أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً، وإجابة الله لدعاء العبد مسلماً كان أو كافراً، وإعطاؤه سؤله من جنس رزقه لهم ونصره لهم، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك، وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه).
وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال: الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب].
الدعاء مشروع بإجماع المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا أناس أغلبهم ينتمون إلى فرق خارجة من الملة، فهؤلاء الذين شكوا في مشروعية الدعاء ينتمون إلى غلاة الجهمية وغلاة الصوفية وإلى الفلاسفة، يعني: الفلاسفة بالاعتبار العقدي، فعلى هذا نقول: إن الأصل في الدعاء هو العبادة، والله عز وجل جعل العبادة متضمنة للدعاء بكل أشكاله، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة) لأن العبادة معناها: التوجه إلى الله عز وجل بالتعظيم والرغبة والرهبة والخشية والإنابة والتوكل، وكل ذلك إما أن يكون دعاء بذاته، وإما أن يكون وسيلته الدعاء، وعلى هذا لا يمكن أن تخلو عبادة من الدعاء، فيكون الدعاء هو العبادة التي شرعها الله عز وجل جملة وتفصيلاً، فلا ينبغي أن نتكلف في التماس الأدلة في مشروعية الدعاء، لكن علينا التماس الأدلة على نفع الدعاء؛ لأن بعض الناس قد يظن أن التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء مجرد عبادة فقط ليس وراءها منافع، في حين أن الأمرين متحققان في الدعاء: الأول: أن الدعاء عبادة وتوجه إلى الله عز وجل بالتعظيم والتقديس والإجلال والتوكل والإنابة والخشية والرجاء وغير ذلك، الثاني: أنه أيضاً طلب للنفع في أمور الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: [قال ابن عقيل: قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن ليس بموجود لا يُدعى.
الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى.
الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى.
الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى.
السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى].
هذا على سبيل التمثيل، وإلا فالدعاء يدل على جميع أسماء الله الحسنى، خاصة الصفات الفعلية التي هي متعلقة بمصالح العباد، فالدعاء يدل على جميع أسماء الله عز وجل بجملتها، وعلى صفاته مثل: الحي، القيوم، العظيم، الأعلى.
قال رحمه الله تعالى: [ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء؛ ليبين كذب أهل الطبائع].
يشير الشارح هنا إلى الفلاسفة والدهرية والملاحدة وطوائف من غلاة المتكلمين، وكثير من العقلانيين في كل عصر، الذين يحكمون عقولهم في أمور الدين وفي كل شيء، فهؤلاء مذهبهم أن الدعاء يؤثر بالطبع وليس بقدرة الله عز وجل، وأن هذه الأمور من السنن اللازمة التي لا تأتي بتأثير الداعي، إنما قد يقترن وجود الدعاء بوجود المؤثر أو بوجود الأصل، فهم ينكرون أن يكون الدعاء سبباً في جلب المنافع ودفع المضار، ويعتبرون ما يجري في أحوال العباد أموراً طبيعية، تحدث في السنن الكونية فقط، دون أن يكون لله عز وجل مشيئة أو إرادة، أو يكون الدعاء سبباً مباشراً بما يحدث للعباد من مصالح أو مضار.
وهذه فلسفة تشمل كثيراً من قضايا الدين في القدر وفي أفعال العباد وغيرها، ولذلك نتج عنها القول بالجبر، ونتج عنها مذاهب الصوفية الذين تركوا الأسباب، ونتج عنها أيضاً عدم الإيمان بصفات الله عز وجل الفعلية، ونتج عن هذا أيضاً التأول للصفات الفعلية إما بالإنكار وإما بالتأول، كل ذلك ناتج عن دعوى أن كل شيء يحدث بالطبع في السنن الكونية فقط، وليس للدعاء ولا للأسباب أي تأثير.(96/2)
الرد على من يزعم عدم فائدة الدعاء
قال رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء، وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين، ويجعل الدعاء عليه في مقام الخواص].
يعني: أن الخواص يتحكمون في القدر لا على سبيل الدعاء، لكن الدعاء يعتبر إشارة أو علامة للتأثير في الأمور الكونية.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ].
لأنهم يزعمون أن الخواص يدبرون الكون! تعالى الله عما يزعمون؛ ولذلك قسموا الكون ووزعوه على من يقدسونه، فقالوا: القطب والغوث هذا هو المتحكم الأول في الكون، ثم من دونه طبقات بحسب التسمية، مثل: الأوتاد ومن دونهم، فقالوا: إن هؤلاء كل منهم له جزء في التصرف الكوني، فعمموا هذا حتى على مسألة الدعاء، فزعموا أن دعاء هؤلاء الخواص أمر ونهي، أي: تحكم في الكون، ليس مجرد طلب من الله عز وجل، لكنه إشارة أو دليل على تصرفه في الكون، فكأن صاحب الخصوصية عندهم إذا دعا فإنه يأمر الأسباب بأن تتصرف كما يريد.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات، هذا وهم مشركون].
هذا هو الذي يعتقده فلاسفة الصابئة، فهم يزعمون أن الأفلاك مؤثرة، وبعضهم يزعم أن الدعاء مؤثر فيما تعقده الأفلاك، فجعلوا تأثير هذا في هذا كله من دون الله عز وجل، وهم لا يقصدون ضجيج الأصوات بالدعاء المشروع، ولذلك نجد عند الصابئة وعند كثير من الديانات الوضعية التي تأثرت بالفلاسفة فيها أدعية تتضمن شركيات، وتنسب التأثير إلى غير الله عز وجل، وتطلب النفع والضر من غير الله سبحانه، ويزعمون أن هذا مما يؤثر على تدبير الأفلاك في الكون.
فالفلاسفة ما قصدوا الدعاء بمعناه الشرعي، إنما قصدوا مجرد توجه العباد إلى من يزعمون أو يدّعون حصول النفع منهم، ونحن نعرف أن الداعي لغير الله عز وجل قد يتحقق له طلب من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يدعو غير الله مما لا يقدر على شيء مما يُدعى إليه وقد يتحقق للداعي دُعاءه من باب الابتلاء، فيكله الله عز وجل إلى هذا المخلوق، فيقع في الشرك، وقد ينتفع في دنياه وفي بدنه، لكنه يقع في الشرك، وهذا كثير، ولذلك بعض الناس قد يفتن إذا رأى دعاة أهل القبور قد ينتفعون ببعض الأشياء، قد ينتفعون من دعائهم لأصحاب القبور في بعض الأشياء فيفتن، ويكون عنده شيء من الريب والشك، وما جرى من هذا الشرك ابتلاء، مع أنه لا يتحقق له الطلب في الغالب، لكن إن تحقق طلبهم فلأنهم لجئوا لجوءاً صادقاً من حيث التوجه، لا لإخلاص العبادة، لكن من حيث الاضطرار، فالله عز وجل يجيب المضطر ولو كان كافراً.
إذاً: المسألة تحتاج إلى إيضاح؛ لئلا تلتبس على الناس؛ لأني أرى كثيراً من الناس، خاصة مع كثرة إقبالهم على الرقى والأدعية غير المشروعة، وضعف توكلهم على الله عز وجل، تعلقت قلوبهم بمثل هذه الأمور، وحصل لهم نفع، فظنوا أن هذا النفع الذي حصل يدل على مشروعية العمل، وأن الله عز وجل ما حقق على أيديهم النفع إلا لأنهم على حق، وهذه مسألة فيها شرك، فنبين للناس أن الله عز وجل يبتليهم، قد يأتي إنسان ويذهب إلى دجال ويحصل منه على أمر دنيوي من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يجاب دعاؤه من باب العقوبة له والفتنة، والشيطان أيضاً أحياناً يتلبس بأمور كثيرة، وكذلك شياطين الجن قد يكون لهم أثر في ذلك، قد يجلبون لبعض الناس بعض النفع ويدفعون عنهم بعض الضر، مما أعطاهم الله عز وجل من قدرات، فيكون هذا من باب الوقوع في الإثم والشرك، ويكون من باب الفتنة والابتلاء، ولا يعني: أن استجابة الدعاء على الوجه الشرعي.
ومع ذلك فإن الغالب أن من دعا الله خالصاً مخلصاً وبعيداً عن الشرك والدجل أنه يستجاب لهم، والغالب أن من دعا غير الله لا يستجاب لهم، لكن يستجاب للبعض وهذا ابتلاء وفتنة، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وجواب الشبهة بمنع المقدمتين: فإن قولهم عن المشيئة الإلهية، إما أن تقتضيه أو لا.
ثم قسم ثالث: وهو أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما أنه مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة.
ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من موجوب التوحيد و(96/3)
الحكمة في أن الداعي قد لا يعطى شيئاً أو لا يعطى غير ما سأل
وهنا سؤال معروف: وهو أن من الناس من قد يسأل الله شيئاً فلا يُعطى، أو يُعطى غير ما سأل، وقد أُجيب عنه بأجوبة، فيها ثلاثة أجوبة محققة: أحدها: أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟).
ففرّق بين الداعي والسائل وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بالعموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر، وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص، وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي، علموا قربه منهم، وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته، فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فُسِّر قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب، وقوله بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] يؤيد المعنى الأول].
أحب أن أشير إلى أن كثيراً من قضايا الدين ترد في نصوص مجملة، ثم إن كانت من أمور العقائد تفصل بإيضاح وبأخبار، وإن كانت من أمور العبادات تفصل بأوامر ونواه، ولا شك أنه ورد في النصوص الصريحة الصحيحة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن الله يجيب دعوة الداعي في نصوص مجملة، لكن هناك نصوص أخرى صحيحة تُفسّر معنى الدعاء وحقيقة الدعاء الذي يُجاب؟ ومتى يُجاب؟ وكيف يجاب؟ وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله دخل الجنة) هذا نص مجمل، لكن هناك نصوص مفسرة لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومبينة للوازم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذه اللوازم ضرورية.
ووردت نصوص: أن من فعل كذا قبلت صلاته، من فعل كذا قبل صيامه، لكن للصيام ضوابط ووقت معين وشروط وواجبات، وكذلك للصلاة شروط وواجبات لا بد منها، فكذلك الدعاء ورد في نصوص مجملة: أن الله يستجيب الداعي إذا دعاه، لكن هناك نصوص أخرى مفصّلة تضع للدعاء المقبول المُجاب شروطاً، وتوضح أن هناك موانع قد تمنع إجابة الدعاء.
هذه قاعدة ينبغي أن يترسمها طالب العلم دائماً في كل ما يتعلق بقضايا الشرع العامة، والنصوص المجملة التي هي عبارة عن قواعد، وهذه النصوص مربوطة بالنصوص الأخرى، ولا بد من ضبطها بالأوامر والنواهي والشروط والواجبات، ولا بد من فهم الموانع أو المفسدات التي تتعلق بالأمر إن كان عبادة، أو تتعلق بالخبر إن كان عقيدة، لا بد من الرجوع في كل نص عام إلى ما يقيده ويفسره، ومن ذلك الدعاء، ورد للدعاء إجابة، لكن للإجابة شروط ولها موانع، ينبغي فهم هذه الشروط وتحقيقها، وفهم الموانع والابتعاد عنها.
قال رحمه الله تعالى: [الجواب الثاني: أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين المسئول، كما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يُعجِّل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذاً نُكثر؟ قال: الله أكثر) فقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلاً، أو مثله من الخير مؤجلاً، أو يُصرف عنه من السوء مثله.
الجواب الثالث: أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، بل قد يحصل غيره، وهكذا سائر الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة، المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل، تختلف باختلاف قوته وما يعينها، وقد يعارضها مانع من الموانع، ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر من هذا الباب، وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك، فأُجيبت دعوته، فيظن أن السر في ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي.
وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعاً في الوقت الذي ينبغي، فانتفع به، فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب، فكان غالطاً.
وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر فيُجاب، فيظن أن السر للقبر، ولم يدر أن السر للاضطرار، وصدق اللجأ إلى الله تعالى، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى.
فالأدعية والتعوذات و(96/4)
غضب الله ورضاه
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين).
كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين، بالفتح: الهلاك.
قوله: (والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى).
قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119].
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
وقال تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60].
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93].
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61].
ونظائر ذلك كثيرة.
ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى.
كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية، وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية، ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المرسلين).
وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: (من لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه).
ويأتي في كلامه: (أن الإسلام بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل).
فقول الشيخ رحمه الله: (لا كأحد من الورى) نفي التشبيه، ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فاعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط لما أراده.
ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه من الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، يزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.
فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كانت كل منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله؛ إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر! وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لا بد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده، حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى].
نقف عند هذه النقطة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.(96/5)
الأسئلة(96/6)
حكم ترك تطعيم الأطفال بحجة أن ذلك نقص في التوكل
السؤال
أحد الإخوة لا يرى عمل التطعيمات الخاصة بالأطفال، فهو لا يطعم أولاده؛ لأنه يرى أن هذا نقص في التوكل على الله، وأن كبار السن لم يعملوا هذه التطعيمات عندما كانوا صغاراً، والناس في هذه الأزمنة قد تعلقوا بهذه الأسباب، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
من يترك هذا تورعاً في حق نفسه لا حرج، لكن أن يترك أولاده لا يجوز له؛ لأن التطعيمات من الأسباب التي بإذن الله تبرأ بها الأمراض، وتجنب المرض قبل وقوعه مشروع، وحماية الناس من الأمراض قبل وقوعها مشروعة، سواء كانت حماية فردية أو جماعية.
وكل فرد عليه أن يرعى من هم تحت ولايته، من أطفال وغير أطفال، وإذا وجد وسائل مشروعة لدرء الخطر عنهم فينبغي عليه أن يأخذ بهذه الوسائل، بما في ذلك التطعيمات.
والتطعيمات مشروعة ولا حرج فيها، لكن على الناس أن يعلموا أن التطعيمات أسباب، وأن الله عز وجل هو الواقي.
والوقاية قبل العلاج من الأسباب المشروعة، ونحن نعلم أن كثيراً من الأمراض انقطعت بإذن الله بسبب التطعيمات، كالجدري، والحصبة وغيرهما، وهذه الأمراض موجودة سابقاً ومن أشد الأمراض فتكاً بالناس، ولا تزال آثارها في بعض كبار السن.
وكبار السن من آبائنا الذين هم أصفى توحيداً، وأعرف بقواعد الشرع بحكم أنهم على الفطرة، ويتلقون العلم الشرعي صافياً، لو أن أحد هذه الأسباب كانت موجودة في عهدهم فما أظن أن يتوقفوا في استعمالها، لكن ما وجدوا.(96/7)
حكم التفرغ للرقية واتخاذها مهنة
السؤال
ما حكم التفرغ للرقية واتخاذها مهنة من قبل بعض المنتسبين للعلم أو غيرهم، وهل هذا مأثور عن أئمة السلف؟
الجواب
الأصل في الرقية أنها مشروعة، وهي نوع من الدعاء الذي أمرنا به، وهو جزء من العبادة.
وأيضاً الأصل في الرقية أن تكون من كتاب الله عز وجل، أو مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الألفاظ الثابتة، أو ما يشبه ذلك من الأدعية الصحيحة السليمة، التي ليس فيها شرك، وليس فيها بدع، وليس فيها ظلم أو عدوان، وليس فيها ألغاز أو استعانة بغير الله عز وجل، كالاستعانة بالجن ونحو ذلك.
أما مسألة التفرغ للرقية من قبل طالب العلم، بحيث يجعل مهنته رقية للناس، سواء كان ذلك بأجر أو بغير أجر، فلم يرد عن السلف أن أحداً منهم تفرغ من أجل الرقية، بل كانوا يرقون أنفسهم ويرقون غيرهم، ويقرون من يرقي غيره، لكن لا على سبيل جعل الرقية مهنة يتفرغ لها الإنسان، وما يفعله كثير من طلاب العلم هذا فيه نوع من تجاوز الأصل الشرعي، ويستتبع ذلك وضع مكان ثابت يجتمع فيها حشد كبير من الرجال، أو حشد من النساء، ويقرأ عليهم قراءة جماعية بشكل يومي منتظم، وحدد لذلك أجوراً معينة، وتباع من خلال هذا الأمر أنواع من الأدوية والمياه بأكثر من قيمتها الحقيقية إلى غير ذلك من الوسائل التي في التوسع فيها نظر، ولذلك أقول: إن هذه الظاهرة إذا زادت ربما تتأصل وتكون من البدع التي يصعب علاجها فيما بعد.
أما كون الإنسان يحتسب الرقية ويرقى الناس ويفيدهم فهذا لا حرج فيه، لكن أن يجعل ذلك مهنة فهذا فيه نوع من التجاوز ولا بد من التنبيه على ذلك.
قد يرد إشكال وهو أن الناس بحاجة إلى الرقية الشرعية، والدليل على هذا أنه ما من راق يشتهر إلا ويتكدس عليه الناس بالعشرات والمئات والآلاف، نقول: هذا حق، لكن كلما زاد الناس من التعلق بهذا الأمر وضع الله عز وجل عليهم من الأصار والأغلال ما يجعلهم أيضاً يزيدون أكثر؛ لأنهم يلجئون إلى غير الله عز وجل فيكلهم الله إلى عباده، والذي ينبغي أن يعوّد الناس كيف يحمون أنفسهم بالأوراد الشرعية، وبالتزام الطاعة وأعمال البر، والمواظبة على الذكر والاستغفار وغير ذلك من المحصنات الشرعية التي بإذن الله تقي الناس من كثير من الأمراض والأوهام، التي تسبب لهم اللجوء إلى الرقاة، هذا شيء.
الشيء الآخر: أن الناس لو عودوا أن يرقوا أنفسهم أو يرقيهم أمثالهم والأقربون منهم من الجيران وجماعة المسجد ونحوه؛ لكان هذا أولى، ولما ظهرت هذه الظواهر التي أصبحت الآن من الظواهر التي دخلت من خلالها بعض البدع، والله أعلم.(96/8)
معنى قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) وإثبات صفة الوجه لله عز وجل
السؤال
ما معنى قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] يعني: هل يبقى الوجه فقط أم سائر الذات؟ وهل فيها إثبات صفة الوجه لله؟
الجواب
هذه المسألة معروفة عند أهل العلم، وهي مسألة إثبات صفة الوجه لله عز وجل على ما يليق بجلاله، أما معنى الآية في كونه لا يبقى إلا وجه الله، يعني: لا يبقى إلا ذاته؛ لأن العرب تعبر عن الذات بالوجه، هذا معروف في لغة العرب، وليس بغريب، وليس فيه تكلف، نثبت الوجه، ومع ذلك نثبت أنه لا يبقى إلا الله عز وجل، ويستثنى من ذلك من كتب الله له من المخلوقات عدم الفناء، مما ذكره أهل العلم.(96/9)
شرح العقيدة الطحاوية [97]
من عقيدة أهل السنة والجماعة محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نحبهم وألا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ونذكرهم بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونبرأ إلى الله من طريقة الروافض والنواصب الذين قدحوا في الصحابة وسبوهم وكفروهم، كما نبرأ من الغالية الذين يبالغون في مدح بعض الصحابة حتى يعطوهم بعض صفات الإلهية ونحوها، والوسط هو منهج القرآن والسنة في الثناء على الصحابة ومدحهم وتزكيتهم ورضا الله تعالى عنهم.(97/1)
مذهب الجهمية وأهل الكلام في صفتي الرضا والغضب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه، ورضاه وغضبه، وحبه وبغضه، وأسفه ونحوه ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك.
وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت.
كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)].
قد يفهم بعض الناس أن الشيخ رحمه الله أتى بالحديث استدلالاً لقول الكلابية وقول الجهمية ومن سلك سبيلهم، بينما هو يقصد أنهم اعترضوا على مثل ما ورد في هذا الحديث، فساق الحديث ليثبت مذهب السلف.
وقبل أن ندخل في الكلام عما في الحديث من دلالة، أحب أن أنبه إلى بعض الأمور التي مرت، وهي نفي الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه ورضاه وغضبه، فـ الجهم بن صفوان نفى جميع الأسماء والصفات، حيث زعم أن المقصود بالأسماء والصفات هي آثار أفعال الله عز وجل في خلقه، فنفيه الأسماء والصفات والأفعال لله سبحانه بحجة أن ذلك يفهم منه التشبيه.
والجهم على مذهب غلاة الفلاسفة، بل على مذهب الفلاسفة؛ فالفلاسفة كلهم غلاة، وما أعرف أحداً من الفلاسفة يسمى معتدلاً.
والفلاسفة يجردون الله عز وجل من وجود الذات أصلاً، فيتصورون وجود الله عز وجل -كما يسميه أهل الفكرة- وجوداً ذهنياً فقط، فمن هنا أنكروا الأسماء والصفات التي جاء بها الأنبياء، وجهم تعلق بمذهب الفلاسفة حينما حاورهم وحاور الصفاتية، وهذا يدل على خطورة تعلق المسلم بمحاورة المخالفين دون أن يتسلح بالعلم، لا ينفعه ذكاؤه، بل أكثر ما يهلك الإنسان بسبب ذكائه إذا لم يتسلح بالعلم الشرعي، وأغلب الذين يقعون في الشبهات والتأويل والإلحاد بأسماء الله وصفاته وأفعاله وفي قضايا الدين هم الأذكياء، تجدهم يحاورون غير المسلمين أو أهل الأهواء المخالفين دون تسلح بالعلم الشرعي، والجهم كما هو معروف لم يعرف بعلمه كما ذكر السلف، فلما حاور الصفاتية وحاور الفلاسفة أوقعوا في ذهنه مسألة: أنه لا يمكن أن يكون لله عز وجل وجود ذاتي، فمن هنا استنكر الأسماء والصفات، فلما وجد النصوص الشرعية في الكتاب والسنة قال: إن هذه النصوص تعني آثار ما يفعله الله عز وجل في خلقه.
والمعتزلة سارت على منهج الجهمية، لكنهم أثبتوا الأسماء دون الصفات.
أما الصفاتية فالمقصود بهم الذين يثبتون الصفات، ويدخل فيهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم، وبعض أهل العلم يدخل فيهم المعتزلة.
وأهل السنة من باب أولى أن يثبتوا الصفات.
إذاً: فالمقصود بالصفاتية هم من أثبتوا الصفات، سواء أهل السنة أو غيرهم، فمن أثبت شيئاً من الصفات أو كل الصفات يسمون صفاتية.
وأول الصفاتية الذين تأثروا بالجهمية والمعتزلة وادعوا أنهم على مذهب السلف الكلابية، فإنهم يثبتون جميع الصفات ما عدا الصفات الفعلية، فزعموا أن الصفات الفعلية لا تثبت على حقيقتها، إنما لا بد أن تؤول، فإنهم قالوا بأن الصفات الفعلية ليس لها علاقة بالمشيئة، ولا ترتبط بالمشيئة، وزعموا أنها تفسر بآثار خلق الله في العباد، ولا تفسر بأنها صفات لله ثابتة له.
وهذا الاتجاه هو الذي مشى عليه الأشاعرة والماتريدية، هذا قبل أن يتوسعوا ويأخذوا بمذهب الجهمية في إنكار الصفات الذاتية، فالأشاعرة والماتريدية في أقوالهم المتأخرة خرجوا عن مذهب ابن كلاب الذي كان عليه، ووقعوا في تأويل جميع الصفات ما عدا سبع صفات.
أيضاً قوله: إن الصفاتية ومن سلك سبيلهم من النفاة قالوا: صفاته لازمه لذاته، قديمة أزلية، يعني: أنها غير مرتبطة بالمشيئة، قالوا: لا يتكلم الله عز وجل كما يشاء، ولا يغضب متى شاء، وإنما رضاه آثار ذلك في خلقه، وغضبه آثار ذلك في خلقه، فأولوا هذه الصفات.
والصفات الفعلية ثابتة لله عز وجل، كما في حديث الشفاعة.
قال رحمه الله تعالى: [كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)].
في هذا دلالة قاطعة على أن الله عز وجل يحدث منه الغضب، كما يليق بجلاله سبحانه، وأنه يغضب متى شاء إذا وجد للغضب سبب، وغضبه يثبت له سبحانه على ما يليق بجلاله من غير تشبيه، وليس غضب الخالق كغضب المخلوق؛ ولذلك قال: (غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) هذا دليل على أن غضبه عز وجل متعلق بمشيئته فيما قبله.
وقوله: (ولن يغضب بعده مثله) فيه دليل على أن الله عز وجل بعد هذا المقام يغضب كما يشاء، وأن غضبه متعلق بمشيئته سبحانه.
قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إ(97/2)
ما ورد من النصوص في الثناء على الصحابة
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله، ورضي عنهم، ووعدهم الحسنى].
النواصب عكس الروافض، فالروافض معروفون وهم الذين يسبون الصحابة، وينتسبون إلى التشيع، وفي الحقيقة أن الشيعة درجات: الشيعة المفضلة، والشيعة المفترية، والشيعة الغالية التي خرج منها الرافضة حين ذاك، فالشيعة الغالية هم الذين يقدسون علياً رضي الله عنه، ولم يكونوا يتكلمون في الصحابة كثيراً في بداية الأمر.
والشيعة المفترية هم الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر، وقد سماهم علي رضي الله عنه: مفترية، وأمر بجلدهم ثمانين جلدة.
والشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً على عثمان فقط، فالشيعة المفضلة انتهت واندثرت، ولذلك بعض الناس يحب الشيعة ظناً منه أن الشيعة إنما مشكلتهم تفضيل علي على عثمان، أو تفضيل علي على الصحابة فقط، فيتعاطف معهم، وتجده يدافع عنهم ويقول: التشيع ليس فيه شيء، نقول: هذا التشيع غير موجود عند الرافضة؛ لأن الرافضة يسبون الصحابة، بل يكفرونهم، أما المفضلة فتشيعهم أخف من تشيع الرافضة.
أما الشيعة الغالية فهي السبئية، والسبئية فيما بعد تحولت إلى رافضة، فهم الآن يسمون رافضة؛ لأنهم أولاً يرفضون الصحابة رضي الله عنهم إجمالاً، بل كفّروهم وأخرجوهم من الملة وقالوا فيهم قولاً عظيماً، حتى ذات النبي صلى الله عليه وسلم لم تسلم منهم، ثم إنهم رفضوا زيد بن علي منذ ذلك الوقت؛ لأنه أثنى على أبي بكر وعمر خيراً، ثم إنهم رفضوا الحق ورفضوا السنة والجماعة، فهؤلاء رافضة ليسوا شيعة.
إذاً: الروافض سمتهم الأولى: سب الصحابة، يوجد عند بعض الشيعة الأوائل سب لبعض الصحابة، لكن لا يسبون جملة الصحابة، ولا يسبون أبا بكر وعمر.
أما النواصب فهي نزعة وليست فرقة؛ لأن بعض الأصول فرق وبعض الأصول ليست فرقاً، فالرافضة فرق، والخوارج فرق، والجهمية فرق، والمعتزلة فرق، لكن النصب نزعة وجدت أشبه بردة فعل، فالناصبة لما رأوا مبالغة الشيعة في علي وآل البيت صاروا يقدحون في علي وفي آل بيته، لكن الناصبة لا يكفرون علياً إنما يقدحون فيه، أو يفضلون عليه بعض الصحابة الذين لم يرد التفضيل بينهم شرعاً، فقد يفضلون معاوية على علي، أو يفضلون بني أمية على آل البيت، وهذا لا شك أنه بدعة وخطأ وظلم عظيم، ولكن هو أشبه بالنزعة التي ليست مذهباً وليس لها أتباع ولا رءوس مشاهير، إنما هي ردة فعل من بني أمية.
أما الخوارج فهم خوارج قبل أن يكونوا ناصبة، والنصب يوجد في الخوارج؛ لأنهم يسبون علياً رضي الله عنه ويكفّرونه، ولم يبق من النصب إلا أنه سمة من سمات الخوارج.(97/3)
الآيات القرآنية الواردة في الثناء على الصحابة
قال رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] إلى آخر السورة.
وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلى آخر السورة.
وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10].
وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10].
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء، فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم، لا يستحق في الفيء نصيباً بنص القرآن].
أي: أن الله عز وجل ذكر هذه الفئات بالتفصيل بأنهم يستحقون الفيء، أي: الغنائم، بعد أن ذكر ذلك إجمالاً في أول السورة، فقد ذكر الله عز وجل قبل هذه الآيات قوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7]، ثم ذكر بعد ذلك: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] أي: هؤلاء يستحقون الفيء، ثم ذكر من سمات هؤلاء أنهم الذين ليس في قلوبهم غل، وأن من يستحق الفيء هم الذين يدعون لإخوانهم الذين سبقوهم، وعلى هذا فإن الذين لا يدعون للسابقين ومن في قلوبهم غل لا يستحقون الفيء على هذا الوجه؛ لأن الآيات جاءت في ذكر صفات تفصيل من يستحقون الفيء الذي ورد ذكره في أول السورة.(97/4)
الأحاديث والآثار الواردة في الثناء على الصحابة والتحذير من الطعن فيهم
قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) انفرد مسلم بذكر سب خالد لـ عبد الرحمن دون البخاري.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ خالد ونحوه: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: عبد الرحمن وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية.
والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وقيل: إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف؛ فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة؛ لأن النسخ ليس من فعلهم، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة.
وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهو حديث ضعيف، قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة.
وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: (قيل لـ عائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر! فقالت: وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل، فأحب الله ألا يقطع عنهم الأجر)].
يقول في الحاشية: لم نجده في مسلم، فيبدو أن نسبته إلى مسلم وهم من ابن أبي العز.
قال رحمه الله تعالى: [وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد؛ فلمقام أحدهم ساعة -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة)، وفي رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم عمره).
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟) الحديث.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة).
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117].
ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم، حيث قال: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ)، وفي رواية: (وقد رأى أصحاب محمد جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر)].
كلام ابن مسعود مقيد بالأصول الأخرى، يعني: ما رآه المسلمون الذين هم على الاستقامة حسناً فهو كذلك، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأن هذا مثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة في أحاديث: (عليكم بالجماعة)، (إن يد الله مع الجماعة).
إذاً: قوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) أي: ما رآه المسلمون المستمسكون، وهم من يسمون بأهل الحل والعقد وبأهل العلم، ليسوا بالرعاع والدهماء، وليسوا بأهل البدع وإن كثروا، ثم هذا مفسر بحديث: (إ(97/5)
النهي عن التجاوز في حب الصحابة والتبرؤ من أحد منهم
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نفرط في حب أحد منهم) أي: لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم، كما تفعل الشيعة، فنكون من المعتدين.
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171].
وقوله: (ولا نتبرأ من أحد منهم) كما فعلت الرافضة! فعندهم لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!! وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17]، وهذا معنى قول من قال من السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يروى ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، منهم: أبو سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وغيرهم.
ومعنى الشهادة: أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به.(97/6)
حب الصحابة دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان
وقوله: (وحبهم دين وإيمان وإحسان) لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص، وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه).
وتسمية حب الصحابة إيماناً مشكل على الشيخ رحمه الله؛ لأن الحب عمل القلب، وليس هو التصديق، فيكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وقد تقدم في كلامه: أن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، ولم يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا هو المعروف من مذهب أبي حنيفة، إلا أن تكون هذه التسمية مجازاً.
وقوله: (وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) تقدم الكلام في تكفير أهل البدع، وهذا الكفر نظير الكفر المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقد تقدم الكلام في ذلك.(97/7)
ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
قوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة).
اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص، أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال بالنص الجلي، وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار.(97/8)
أدلة القائلين بثبوت خلافة أبي بكر بالنص
والدليل على إثباتها بالنص أخبار: من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فائتي أبا بكر) وذكر له سياقاً آخر، وأحاديث أخر؛ وذلك نص على إمامته.
وحديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) رواه أهل السنن.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لـ أبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
وفي رواية: (فلا يطمع في هذا الأمر طامع).
وفي رواية: قال: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر، لأكتب لـ أبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر).
وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).
وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة، فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم].
عائشة رضي الله عنها أشفقت على أبيها، فراجعت النبي صلى الله عليه وسلم بألا يستخلفه في الصلاة، لكنه أصر على استخلافه.
قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريَّه، حتى ضرب الناس بعطن).
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال على منبره: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر).
وفي سنن أبي داود وغيره، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بـ أبي بكر، ثم وزن عمر وأبو بكر، فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء).
فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك.
وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك.
وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه، أنه كان يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بـ أبي بكر، ونيط عثمان بـ عمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه).
وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلواً دلي من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها، فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء).
وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء، أو الملك)].
يعني: من خلال النظر في كلام المحققين من أهل العلم قديماً وحديثاً تبين أن مسألة استخلاف أبي بكر رضي الله عنه اجتمع فيها النص والاختيار، بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من إدراك مقاصد الإسلام ومقاصد النبي صلى(97/9)
حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح
قال رحمه الله تعالى: [واحتج من قال لم يستخلف بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإن لا أستخلف، فلم يستخلف من هو خير مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم].
عمر رضي الله عنه لم يعتبر النصوص صريحة في الاستخلاف، لكن أن تكون قرائن أو مؤشرات يستأنس بها فلا شك أن الصحابة رووا هذا وعمر يعرفها، لكنه لم يعتبرها من النص الجلي الصريح، ولذلك جمهور السلف يرون أن النص على خلافة أبي بكر خفي وليس من النص الجلي.
قال رحمه الله تعالى: [وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟).
والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لـ أبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة، من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك، حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة، اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر.
فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين، وفهموا ذلك، حصل المقصود، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار؛ طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(97/10)
الأسئلة(97/11)
حكم التقريب بين أهل السنة وبين الرافضة وحكم من يدعو إلى ذلك
السؤال
ظهر في الآونة الأخيرة في بعض الأشرطة لبعض المنتسبين للعلم أنه لا فرق بين أهل السنة والرافضة، ويسعى للتقريب بينهم، كما ذكر روايات وقصصاً فيما وقع بين الصحابة من خلاف وفتنة؟
الجواب
ما يتعلق بالكلام في الصحابة الذي أعرفه أن المشايخ والعلماء الكبار الآن يرون أنه لا يجوز الحديث عما شجر بين الصحابة، حتى وإن كان من باب إعطاء الحقيقة أو الإنصاف للصحابة؛ لأن هذا يثير في الناس إشكالات، ويشككهم فيما كان عليه الصحابة، وأكثر الناس لا يتخلص من الشبهات التي تقع في ذهنه، فاعتبر من الأحداث التي لا يجوز إثارتها بين المسلمين مرة أخرى، ولا يترتب على إثارتها أي مصالح، فالأصل في المسلمين أن يعرفوا حقوق الصحابة، وأن يتعلموا ذلك، أما ما حدث من فتن وأحداث فلا يجوز إثارته ولو من باب تقرير الإنصاف أو العدل أو تقرير الدفاع عن الصحابة؛ لأن الأصل عند السلف عدم جواز الحديث فيما شجر بين الصحابة.
أما الكلام عن الرافضة وتزكية الرافضة أحياناً، أو اعتبار الفرق بينهم وبين أهل السنة فرقاً غير عقدي أو التقريب بينهم، فهذه كارثة في صفوف الدعاة إن صح التعبير، منذ أن صار الدعاة غير علماء والكوارث تتوالى على المسلمين من هذا النوع، وسبق التنبيه إلى مثل هذا من قبل مشايخنا وطلاب العلم، منذ بدأت بعض الأحداث من بعض الدعاة أو بعض الحركات الإسلامية، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم اتخذوا رءوساً جهالاً، فضلوا وأضلوا، والسبب في ذلك أن الموازين الآن عند كثير من الدعوات المعاصرة اختلت، فصار من يتولى القيادة يتولاها بشروط غير شرعية، مجرد ما يكون عنده عاطفة إسلامية وفكر وثقافة ويكون لسناً، وقد يكون صاحب مؤهل أو تخصص نادر، يرفع الراية وتنساق معه جموع الشباب وجموع المجتمعات، وهذه من سمات أهل الأهواء، وهي خطر عظيم، ولذلك لما تمكن هؤلاء من الدعوة، وصار لهم أتباع، تجرءوا على أن يقولوا ما في أنفسهم، وأن يبينوا عن جهلهم.
فهذا جهل مطبق ودليل على عدم الرسوخ في العقيدة، وعدم الفقه في الدين، ودليل على تمكن الحزبية من الجماعات، فأنا أشعر من السؤال أن فيه إشارة إلى بعض الدعاة المشاهير في بعض البلاد العربية القريبة، الذين حاولوا أن يلطفوا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة، وأن يعتبروا الخلاف مع الشيعة اختلافاً يسيراً يمكن تجاوزه، وأن أهل السنة بالغوا في قولهم في الشيعة إلى آخره.
أقول: هذا من الخلط، وسببه تصدر هؤلاء الذين لا يفقهون في دين الله عز وجل، إلا مجرد الثقافة العامة من غير أصول ولا ضوابط، فصاروا يفتون بغير علم، ويتبعهم على ذلك فئام من شباب الأمة.
إذاً: المسألة ليست مسألة شخص، بل مسألة مناهج، وإذا استمرت المناهج بهذا الشكل في تصدر هؤلاء الذين ليسوا من الراسخين في العلم، فسترى كوارث كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة، ورأينا وسمعنا في السابق ولا نزال نسمع من مثل هذه الأمور العظام الكبار.
ومعلوم أنه إذا تصدر للدعوة ناس ليس لهم رصيد إلا العاطفة، فمن الطبيعي أن يحدث مثل هذا، ما لم يتعلموا على أهل العلم، والمشكلة أن أكثر الذين يتدينون ممن لهم أثر يعتبرون مفكرين أو دعاة، خاصة الذين يتدينون في الغرب، ثم يأتي إلى بلاد المسلمين هنا ويتصدر، هؤلاء مشكلتهم أنهم جهلة ولا يعلمون أنهم جهلة، وهذا يسمى جهلاً مركباً، فلا يدرسون على العلماء، وأنا أشير على كثير منهم بأنه يجب أن يجلسوا على الركب بين يدي العلماء، لكنهم والله أعلم رأوا أن في ذلك غضاضة عليهم، وإلا فعلى هؤلاء أن يتعلموا ما يتعلمه الأطفال عندنا، ثم ما يتعلمه الشباب، ثم ما يتعلمه طلاب العلم، حتى يرسخوا في العلم؛ لأن تدينهم قائم على عواطف، والعواطف لا تصنع شيئاً، أو يتدين على أيدي دعاة أكثرهم من أهل الأهواء، فتنغرس في قلبه الأهواء وهو لا يدري، أو يتدين في الغالب على أصحاب شعارات وحزبيات وجماعات ترفع لواءات الحزبية، فيتصدر بهذا الاتجاه، ولو لم ينتم إليها، فمن هنا جاءت مثل هذه الدواهي والمصائب من أمثال هؤلاء، مما يزعمون أنه جمع أو تقريب بين السنة والرافضة.
أقول: أهل السنة والرافضة ليس بينهم تقارب، إلا أن تستجيب الرافضة للحق، فهذا ما نرجوه ونأمله، ويجب أن نسعى إليه، ويسعدنا ذلك، أما أن نقرب السنة للرافضة أو نتهم السنة بالتحيز، أو أنهم قالوا في الرافضة ما لم يكن، فهذا من الباطل، فلا شك أن عند الرافضة من الباطل والضلالات والانحراف في المناهج والأعمال، وعندهم من الشركيات ما يجهلها أكثر أهل السنة؛ لأن أكثر مخازي الرافضة لا يعلمها إلا بعض المتخصصين، حتى إن بعضهم قد لا يجرؤ على ذكرها علناً؛ لأن أكثر الناس لا يصدقون، ويحتاجون إلى براهين قد لا يملك إفهام الناس لها، عند الرافضة من الباطل والكفر والشرك والبعد عن الحق ما لا يكاد يتصور.(97/12)
شرح العقيدة الطحاوية [98]
من عقيدة أهل السنة والجماعة ثبوت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بعده بالنص عليه من أبي بكر، ثم لعثمان حين ترك عمر الأمر شورى من بعده، ثم لعلي رضي الله عنه، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، وفضائلهم وجليل مناقبهم مبثوثة في كتب السير والتراجم، وقد اتفق أهل السنة على تعظيمهم وتوقيرهم، ثم من بعدهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وما شجر بين الصحابة فإنه يسع المسلمين السكوت وعدم الكلام خوفاً من الفتن وإيغار الصدور بالأحقاد والضغائن.(98/1)
من حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر، إلا سعد بن عبادة، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر؛ لا علي، ولا العباس ولا غيرهما، كما قد قال أهل البدع! وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن، فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال: أو في شك صاحبك؟ نعم، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها.
وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر، لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين، عن عمرو بن العاص: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وعد رجالاً).
وفيهما أيضاً، عن أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم، وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثاً، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها)، ومعنى: غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.
وفي الصحيحين أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، -فذكرت الحديث إلى أن قالت-: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت في نفسي كلاماً قد أعجبني، خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب، وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد، فقال عمر: قتله الله].
والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها.(98/2)
خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وفضائله
قوله: (ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـ عمر رضي الله عنهما].
يعني: نحن بصدد الحديث عن ترتيب الخلفاء الراشدين في الخلافة، لكن ينبغي أن يستصحب الترتيب الآخر، وهو أن ترتيبهم في الفضل جاء هكذا، ولم يكن بالضرورة أن يكون ترتيبهم في الخلافة ناتجاً عن ترتبيهم في الفضل، لكنه وقع هكذا، ولعل الصحابة رضي الله عنهم جميعاً سددوا ووفقوا في اختيار الأفضل فالأفضل فالأفضل، فكما أن الأربعة ترتيبهم في الأفضلية هكذا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فكذلك ترتيبهم في الخلافة جاء هكذا، وإن كان ليس ترتيب الخلافة من لوازم ترتيب الأفضلية، لكنه وقع كما قلت، وذلك من توفيق الله للصحابة رضي الله عنهم.
وكان الناس في وقت عثمان رضي الله عنه خاضوا في أيهما أفضل علي أو عثمان، ولم يترددوا في أفضلية أبي بكر وعمر، وبعد قتل عثمان رضي الله عنه، بقي الأمر محل نزاع، ثم استقر بعد ذلك باتفاق الصحابة وباتفاق التابعين وتابعيهم وأئمة السلف وإلى أفضلية الخلفاء الراشدين في الإمامة كأفضليتهم في الأفضلية المطلقة، وأن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وانتهت المقولة التي كان عليها بعض السلف قديماً من تفضيل علي على عثمان، مع اعترافهم بإمامة عثمان، فإنهم كانوا يفضلون علياً على عثمان، ثم تركوا هذا التفضيل بعد توارد النصوص؛ لأنه لما أثيرت القضية روى الصحابة رضي الله عنهم وروى رواة الحديث من الثقات ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأربعة من الصحابة، فتبين للسلف اتفاقاً أن عثمان أفضل من علي، وأن النصوص الواردة في أفضليته أكثر من النصوص الواردة في أفضلية علي وفي كل خير، ولا شك أنهم الخلفاء الراشدون، وأنهم خير الصحابة بإطلاق، وهم من العشرة المبشرين بالجنة, وتفضيل الفاضل لا يعني استنقاص المفضول.
قال رحمه الله تعالى: [أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـ عمر رضي الله عنهما؛ وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر، وأكثر من أن تذكر.
فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت؟ لا، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان! فقلت: ثم أنت؟ فقال، ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر).
وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه، فإذا هو علي، فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعلك الله معهما).
وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبي بكر، ثم استحالت الدلو غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن.
وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، عالية أصواتهن -الحديث، وفيه-: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك).
وفي الصحيحين أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم)، قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهم(98/3)
خلافة عثمان رضي الله عنه وفضائله
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ثم لـ عثمان رضي الله عنه).
أي: ونثبت الخلافة بعد عمر لـ عثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى، والمبايعة لـ عثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها، كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه قبل أن يصاب بالمدينة بأيام، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة؛ ما فيها كثير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه أربعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد يرى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله! فلقد أمرت به معروفاً! الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال: إن شئت فعلت؟ أي: إن شئت قتلنا؟ قال: كذبت! بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كان كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر! انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً ونحوه، قال: إن وفى لي مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أحب إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسرب معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعداً، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.
وقال: أوصي الخليفة(98/4)
خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفضائله
قوله: (ثم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه).
أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لـ علي رضي الله عنهما.
لما قتل عثمان وبايع الناس علياً، صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المقدم ذكره، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).
وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ابنه ستة أشهر.
وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى معاوية، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، والقصة معروفة في موضعها.
فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة، سوى معاوية مع أهل الشام.
والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة، كـ علي، وطلحة، والزبير، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض، ممن بعدت داره من أهل الشام، ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون سوء].
جاء في بعض النسخ: (ويحمي الله عثمان أن يظن بالأكابر ظنون سوء) وكلا العبارتين صحيحتين، إن كان الخطاب المقصود به عثمان، فلا شك أن عثمان رضي الله عنه لا يمكن أن يظن بالناس تلك الظنون التي نسبت إليه، لكن العبارة الموجودة أقرب: (ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون السوء) يعني: أنهم كانوا بعيدين عن المدينة ولا يعرفون ماذا حدث، ويظنون أن الصحابة قصروا في حق عثمان، ولم تبلغهم الأخبار على وجهها، فأبوا أول الأمر مبايعة علي حتى يقتص لـ عثمان، والقضية اجتهادية بين المسلمين، لم يكن فيها قصد الهوى أو الفرقة كما هو معروف.
قال رحمه الله تعالى: [وبلغ عنهم أخباراً منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء قوم يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج، الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم يُنْتَصَرْ للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي، ولا من طلحة والزبير، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين، ثم جرت فتنة صفين لرأي؛ وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون، حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر، كما طغوا على الشهيد المظلوم].
يعني: أن علياً رضي الله عنه لا يستطيع تحقيق مطلب أهل الشام الذين أرادوا الاقتصاص من قتلة عثمان؛ لأن علياً رضي الله عنه والذين خرجوا معه من المدينة أعرف من أهل الشام بتفاصيل القضية وبملابساتها، وبأحوال الجيش الذي مع علي، والذي منه قتلة عثمان، ومنهم من لا يعرف بعينه، ومنهم له أحوال لا يمكن معها إقامة القصاص ما لم تجتمع كلمة المسلمين على إمام واحد، فينفذ أمره.
فالمسألة مسألة وجهة نظر، فكل من الصحابة ومن كان في الجيش في الجملة يريد مطلباً يرى أنه هو الشرعي، وأنه الذي به يكون الحق، لكن لا يخلو من بين هؤلاء وبين هؤلاء من يريد الفتنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لكن ليس من الصحابة، وهذا مما يجب أن يفهم، لم يثبت ولن يثبت أن أحداً من الصحابة كان صاحب هوى أو له مطلب أو سلطان، لم يكن أحد منهم يريد ذلك، لكن ممن التفوا حولهم من قتلة عثمان، ومن الشيعة السبئية والخوارج وأهل النفاق، وقليلي الفقه في الدين، وحدثاء الأسنان الذين تأخذهم العواطف ولا يقدرون الأمور بقدرها، وليس عند(98/5)
ذكر بعض الأصول المتعلقة بالفتنة التي حصلت في خلافة علي رضي الله عنه
من الأصول المهمة فيما يتعلق بالفتنة: أولاً: أن أكثر الصحابة لم يشاركوا في هذا الأمر؛ وذلك حين رأوا أن الأمر فتنة، فتأخروا، بخلاف ما تذكره روايات الرواة وأكثرهم من الشيعة من أن أغلب الصحابة وقعوا في النزاع، فالصحيح كما ذكر الأئمة المحققون أنه لم يشارك من الصحابة في القتال أكثر من ثلاثين، بل بعضهم قال: عشرة، يعني: الذين شاركوا في مسألة المداولة ومحاولة جمع المسلمين على رأي، فانضموا إما إلى علي وإما إلى معاوية.
ثانياً: أن الصحابة الذين شاركوا منهم من خرج أثناء القتال، خاصة الكبار كـ طلحة والزبير؛ فقد خرجا منها في أثنائها لما علما بأنها فتنة، وحين بلغهما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده علي بن أبي طالب وذكره لهما.
ثالثاً: أن جميع من شارك في الفتنة ندموا بعد ذلك، حتى إن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنهما حينما التقى كل واحد منهما الآخر تعانقا، حتى وقع سيفاهما على الأرض من شدة التأثر، وذهب علي إلى عائشة رضي الله عنها -وهي في جيش خصومه- فاعتذر منها، وكلمها بأدب، وخاطبها بأنها أمه، وقال: يا أماه، وهذا مما يدل على أن قلوبهم كانت صافية، بعكس ما يقوله الروافض، وأكثر المؤرخين الذين تكلموا عن القضية.
رابعاً: أنها فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ويضطر من يشارك فيها ومن لم يشارك فيها إلى ارتكاب الضرورات؛ لأن الأمور في وقت الفتنة تختلف عن حالة الرخاء والسلم، والفتنة لها ضرورات لا بد من اعتبارها، فقد يقبل المسلم في الفتنة ما فيه ضيم وضير عليه، قد يقبل المسلم في الفتنة ما يضره في دينه، لكنه يصبر، قد تعرض على المسلم في الفتنة مغريات، وتختل موازين الناس في الفتنة أيضاً في تقرير الحق والباطل، ففي الغالب في الفتنة ينغمر الحق وتسود الآراء الباطلة، حتى يرى الناس أنها هي الحق، وقد يخفى الأمر حتى على العاقل اللبيب، ويكون العاقل العالم الفقيه الراسخ الداهية حيران من أمره، أما الصغير العاطفي فيلج في الفتنة ويظن أنه على هدى، وهو ليس على هدى.
فهذه أمور حاصلة من خلال هذه الفتنة التي حدثت بين الصحابة؛ ولذلك اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين الصحابة، واعتبار الأمر أمرَ تاريخٍ قد قضي لم نشهده ولم نعلمه، والذين شهدوه ما علموا كل خلفياته، مما جعلهم تختلف عندهم موازين الحكم، وموازين الرؤية للقضية، فكيف بمن جاء بعدهم بأجيال، وكل منهم كان يروي ما يرى ولا يدري عما لا يرى، وكان أغلب ما في القضية من أحكام قطعية في قلوب أصحابها عند علي ومعاوية وكبار الصحابة، لا أحد يدري عما كان في نفوسهم من اجتهادهم إلا الإحسان الظني فيهم، وقضوا إلى ما فعلوا، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لا شك أنهم لم يقعوا في أمر يقتضي القدح والطعن في أحد منهم، ولا إلغاء الأفضلية التي كانت لهم؛ لأن الصحابة قدرهم قبل الفتنة كقدرهم بعدها ولا فرق، لم تغير الفتنة من حقوقهم شيئاً، وما ثبت لهم من النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقوقهم العامة، وفي حقوق بعضهم الخاصة، فهو ثابت لم تغير فيه الفتنة شيئاً، وإذا كان الأمر كذلك فكأن الفتنة لم تكن، وهي أمر انقضى ومضى.
إذاً: اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض في الفتنة، ولا حتى من أجل بيان وتقرير القول الحق؛ لأن إثارة القضية أمام عامة الناس، وأمام جمهور المسلمين، وأمام غير الراسخين في العلم لغير حاجة وضرورة مما يحرك القلوب على الصحابة، ومما يثير الشكوك والتساؤلات، ومما يبرر الوقوع في الفتن عند ضعاف الفقه، فما أكثر ضعف الفقه، أكثر الناس ربما إذا سمع القصة عن الصحابة ظن أنه يسوغ له أن يخالف، وأن يفارق، وأن يعاند، وأن يناطح العلماء ويناطح الولاة، ويظن أن هذا هو نهج الصحابة.
فلذلك ينبغي ألا تثار قضية الصحابة أبداً إلا عند طلاب العلم المتخصصين، في دروس خاصة ممن يهمهم ذلك، أو عند الإجابة على سؤال يجب ويتعين الإجابة عليه عند من سأل، أما إثارة القضية في الندوات أو في المحاضرات، أو في الكتب، أو في رسائل أو بحوث من جديد، فهي من الأمور التي نهى عنها السلف، ولذلك لما ظهرت الأشرطة الأخيرة فيما شجر بين الصحابة، ورجع الناس إلى المشايخ الكبار والعلماء بسبب ما حيرهم من ضعف الإيمان، صدرت فتاواهم بعدم جواز تداول هذه الأشرطة، وعدم نشرها بين الناس؛ لأن هذا يثير الضغائن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثير الشكوك، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأمور، ولا يذكرون القواعد الشرعية في الحكم في هذه الأمور.
فيجب على طلاب العلم أن يلتزموا هذا التوجيه من المشايخ الكرام.(98/6)
من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال رحمه الله تعالى: [ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي).
وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه).
(ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي).(98/7)
الخلفاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون
قوله: (وهم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون).
تقدم الحديث الثابت في السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل، كترتيبهم في الخلافة.
ولـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا في الاقتداء في الأفعال إلا بـ أبي بكر وعمر، فقال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم، فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين].
يعني: أن الفارق بين الاقتداء وبين الاتباع، أن الاتباع يكون باتباع المناهج والسنن التي لها أصل في الشرع، فنتبع الخلفاء الراشدين في الأمور التي لم يكن فيها خلاف، أو فيما ينظم أحوال الأمة، مما نسميه الآن: المناهج، سواء مناهج تقرير الدين، أو مناهج الدفاع عن الدين، أو مناهج حماية الأمة من البدعة، أو مناهج التعامل مع غير المسلمين وغير أهل السنة، أو مناهج أحكام أهل الذمة ونحوها، فهذه تسمى مناهج غالباً يكون الحال فيها ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، حتى بعد الخلفاء الراشدين، لكن الخلفاء الراشدون تميزوا؛ لأنهم كانوا في عهد أكابر الصحابة، فكانوا إذا وافقوهم على شيء أو أقروهم على أمر صار إجماعاً، أما الاقتداء فهو في الأحوال الخاصة التي تحدث من الخليفة أو نحوها، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كلهم في أحوالهم الخاصة أهل قدوة، لكن حدث في عهد عثمان وفي عهد علي من الفتن ما يجعل التصرفات أحياناً تكون للضرورات وليست للأحكام العامة والمناهج، فـ علي رضي الله عنه تصرف تصرفاً ضرورياً تجاه الفتنة ما يلزم الاقتداء به فيه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في مواجهته للفتنة في آخر أمره تصرف تصرفاً ضرورياً لا يلزم الاقتداء به فيه؛ لأنه لجأ إلى كثير من أموره ضرورة.
فعلى هذا هناك فرق بين الاقتداء وبين اتباع السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان، وعلى هذا عامة أهل السنة.
وقد تقدم قول عبد الرحمن بن عوف لـ علي رضي الله عنهما: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان.
وقال أيوب السختياني: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار].
في عهد متأخري الصحابة وأوائل التابعين استقر الأمر، ولم يعد هناك شك عند السلف في ترتيب الخلفاء على ما ذكر، وأن عثمان أفضل من علي، ولذلك من خالف من السلف فمخالفته زلة لا يقرونه عليها، وإذا كان من غير السلف ومن غير المعتبرين فمذهبه بدعة، لكن بدعة غير مغلظة؛ بدعة تفضيل علي على عثمان من البدع غير المغلظة، وتسمى: تشيعاً، لكن ليس كالتشيع الاصطلاحي عندنا، هؤلاء الذين فضلوا علياً على عثمان وهم على منهج أهل السنة والجماعة في العموم، هؤلاء زلوا ووقعوا في بدعة خفيفة، ويسمون: المفضلة، ويقال: فيهم تشيع، كما قيل عن عبد الرزاق بن همام، وكما قيل عن سفيان الثوري قبل رجوعه إلى مذهب أهل السنة في هذه المسألة، وكما قيل عن الحاكم النيسابوري وعن كثير من الأئمة، يقال: فيهم تشيع، ولكن لا يقصد به تشيع الرافضة الآن، هذا ليس بالتشيع، هذا رفض.
أما من قدم علياً على أبي بكر وعمر وعثمان جميعاً فهذا يسمى من المفترية، حتى لو كان في أموره الأخرى على السنة، ويندر، بل لم ينسب إلى أهل السنة من قال بهذا القول، بل هذا القول قال به الشيعة، ولذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر بجلد من يفضلونه على أبي بكر وعمر، ويسميهم: المفترية، وكتب إلى ولاته: بأن من فضله على أبي بكر وعمر فليجلد جلد المفتري ثمانين جلدة، ولذلك سماهم السلف: المفترية.
قال رحمه الله تعا(98/8)
العشرة المبشرون بالجنة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين).
تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة، ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: وسمعنا صوت السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، جئت أحرسك، -وفي لفظ آخر-: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام).
وفي الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لـ سعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد، فقال: ارم، فداك أبي وأمي).
وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم، قال: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد شلت.
وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد.
وفي الصحيحين، واللفظ لـ مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير).
وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، فقال: فداك أبي وأمي).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة بن الجراح).
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: (جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين، قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح).
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال: (أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ قال: سعيد بن زيد، قال: لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر منه وجهه، خير من عمل أحدكم، ولو عمر عمر نوح) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه، ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة وقدم فيه عثمان على علي رضي الله عنهما].
في الرواية الأولى لم يذكر أبا عبيدة، لأنه عد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الرواية ذكر أبا عبيدة، فقد يكون صلى الله عليه وسلم قال هذا مرة وقال هذا مرة، وهذا لا ي(98/9)
اتفاق أهل السنة على تعظيم العشرة المبشرين بالجنة التعظيم الشرعي
وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم؛ لما اشتُهر من فضائلهم ومناقبهم، ومَن أجهلُ ممن يكره التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وهم يستثنون منهم علياً رضي الله عنه، فمن العجب أنهم يوالون لفظ التسعة، وهم يبغضون التسعة من العشرة! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقد رضي الله عنهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
وثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: (يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت! لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية)].(98/10)
الأسئلة(98/11)
كيفية ترتيب الخلفاء الراشدين في الأفضلية وبقية العشرة
السؤال
كيف يكون ترتيب الخلفاء الراشدين وبقية العشرة؟
الجواب
مجمل الألفاظ في ترتيبهم كانت على ترتيبهم في الخلافة، إلا في ألفاظ قليلة، أما ما بعد الأربعة الخلفاء الراشدين فذكر بعضهم طلحة والزبير وأبا عبيدة؛ لأنهم أفضل من البقية، لكن ليس هناك دليل قاطع، إلا في النصوص التي وردت من تسمية الزبير بحواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسمية أبي عبيدة أمين هذه الأمة، وهذا كلام مجمل لا شك أنه يدل على الأفضلية الفردية، لكن لا يدل على الأفضلية المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فهذه المحبة لا تعني الأفضلية المطلقة؛ لأن البقية يحبون الله ورسوله، ويحبهم الله ورسوله.
فأحياناً تكون الأفضلية خصيصة وليست أفضلية بإطلاق.
أما الخلفاء الراشدون لا شك أن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة، وجاءت النصوص على ترتيبهم المعروف، أما من بعدهم فالمسألة خلافية ليس فيها جزم، والله أعلم.(98/12)
حكم الخوض فيما شجر بين الصحابة من قتال
السؤال
ما رأيكم في الخوض في خلافة الأربعة بما فيها من الفتنة، وذكر تفصيل ذلك، وخصوصاً ما انتشر من دروس طارق السويدان وغيره، وأنا سمعت شيئاً من أشرطته، فقد تعرض فيها للفتنة؟
الجواب
الفتنة لها مقاييس، نسأل الله أن يعافينا جميعاً من الفتن، ليس كل حدث يسمى فتنة، لكن أحياناً بعض الأمور التي تبتدع في المسلمين تسمى فتنة، وإلا فالفتنة إذا جاءت لا تستأذن أحداً.
أما الكلام على الأشرطة فما بعد كلام مشايخنا وعلمائنا مزيد، فقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نقله الثقات عنه، وفضيلة الشيخ محمد بن العثيمين وقد سمعته وغيرهما، أفتوا بعدم جواز استماع هذه الأشرطة وعدم نشرها، للتعليل الذي ذكره السلف، وهو أصل من أصول السلف، وهو قاعدة من قواعدهم التي يجب احترامها: من أن الكلام فيما شجر بين الصحابة ينبغي الكف عنه، وعدم إلقائه ونشره عند الآخرين، وهذه الأشرطة سحبت، وهذا بحمد الله كان بتوجيه المشايخ.(98/13)
شرح العقيدة الطحاوية [99]
أهل السنة يتبرءون من طريقة الرافضة الذين نصبوا العداء لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يتجاوز بضعة عشر رجلاً، وبالمقابل يغالون في الاثني عشر إماماً الذين نصبوهم وهالوا عليهم الصفات القدسية والرتب العلية، ومن أحسن القول في الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من كل دنس فقد برئ وسلم من النفاق.(99/1)
موقف الرافضة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والرافضة يبرءون من جمهور هؤلاء].
يعني: من الخلفاء الثلاثة الراشدين ومن بقية العشرة، ومن أصحاب الحديبية وأهل بدر، بل يبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيذكر الشارح.
قال رحمه الله تعالى: [بل يبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من نفر قليل، نحو بضعة عشر رجلاً! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس، لم يجب هجر هذا الاسم لذلك، كما أنه سبحانه لما قال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] لم يجب هجر اسم التسعة مطلقاً، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2].
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقال في ليلة القدر: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان).
وقال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة].
شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لعشرة، وهؤلاء عند الرافضة مرتدون، فأبغض الرافضة لفظة (عشرة)؛ لأنها تشير إلى العشرة المبشرين بالجنة، وهذا من أشد أنواع الحمق المعروف في البشر؛ لأنه لا علاقة بين هذا وذاك، حتى لو قدر أن هناك شيئاً من الأعداد يخص ما هو مبغض أو مكروه فلا ينبغي بغض العدد بذاته، وبغض إطلاقه على أي شيء، فهذه مسألة تدل على حمقهم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً في منهاج السنة.(99/2)
الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة الإمامية
قال رحمه الله تعالى: [والرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة الاثني عشر إماماً، وهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعون أنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم دعوى مجردة عن الدليل، ثم الحسن رضي الله عنه، ثم الحسين رضي الله عنه، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن، ويتغالون في محبتهم، ويتجاوزون الحد].
قبل أن نتجاوز ذكر الأئمة عند الرافضة، نود أن نبين أن الأخير الذين يدّعون أنه إمام هذا ليس له وجود، وإنما هو شخص وهمي لم يولد ولم يعرف له حال، وأبوه مات عقيماً لم يكن له ولد، ولم يعرف أنه ولد، وقصة ولادته أيضاً قصة خرافية، فقد جاءوا بقصة لا تستقيم عند العقلاء، فزعموا أنه فجأة كشف للناس في ليلة واحدة أن إحدى جواريه حامل بولده، وأنها ستضع تلك الليلة، ولما أخبر من حوله من أهل البيت أنكروا ذلك، وقالوا لا نرى من نسائك ومن جواريك من في بطنها ولد، فأحالهم على أوهام بزعمهم في القصة وقال سترون، وفي آخر الليل فوجئ أنه بشر الناس بأنه ولد له ولد دون أن يكون هناك حمل، ودون أن يعرف أن إحدى نسائه حامل، ولم يكن لذلك أي شيء من التمهيد، وهذا مما يدل على أن القصة مكذوبة ومخترعة ولا أصل لها.
وأنا أعجب من المهمش الذي ترجم في رقم (3) في الهامش لمن يسمى بـ محمد بن الحسن العسكري، ولم يعلق على هذه القصة التعليق الكافي، بل قال: هو أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة الاثني عشر، الملقب عند الإمامية بـ الحجة والقائم والمنتظر وصاحب الزمان، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره، والشيعة يقولون: إنه دخل السرداب إلى آخره.
إذاً: لا بد من الإشارة إلى أن هذه خرافة، بل حتى الرافضة الآن متنازعون، ويوجد من علمائهم قديماً وحديثاً وإلى اليوم من يشير إلى أن هذه القصة خرافة، وهناك الآن كتاب خرج من كاتب وباحث مشهور أظن اسمه أحمد الكاتب، أضاف الشكوك على هذه القصة، وذكر بالمنهج العلمي الدقيق أنها لا تصح، وأن فيها نظراً.
فالمهم القول بأن للعسكري ولداً هذه خرافة ولا أصل لها، لم يولد له ولد أبداً.
قال رحمه الله تعالى: [ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم وتبطله، وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: (دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش).
وفي لفظ: (لا يزال الإسلام عزيزاً باثني عشر خليفة).
وفي لفظ: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة).
وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز، ثم أخذ الأمر في الانحلال.
وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولى عليهم الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود! وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر.(99/3)
البراءة من النفاق بحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق)].
كلمة (المقدسين) فيها نوع من التجاوز؛ لأن القداسة لا تكون إلا لله عز وجل، فوصف الذريات بأنهم مقدسون فيه نوع تجاوز وتساهل، وهو لفظ لا ينبغي إطلاقه، لو قال: وذرياته المنزهين أو المبرئين كان أولى.
أما قول القائل: قدس الله روحه، أو قدس الله روحها، فهو من باب الدعاء وليس من باب الوصف، فمعنى قولهم: قدس الله روحه، يعني: يرفع الله درجته في الملأ الأعلى، والملأ الأعلى هم عند روح القدس، فربما يؤخذ من هذا التساهل في هذه العبارة: قدس الله روحه، ومع ذلك عند التحقيق فيها نظر، لكن قالها من أهل العلم من هو قدوة، ومن هو مأمون على مثل هذه الأمور، وأما ما ذكر المؤلف فقد يكون من باب التساهل في التعبير، أو عدم الفطنة إلى مغزى العبارة، وتبقى كلمة: قدس الله روحه، أسهل من وصف إنسان من الناس أو أحد من البشر بأنه مقدس؛ لأن المقصود من عبارة: قدس الله روحه أن يرفع الله روحه إلى أعلى عليين، أو إلى الملأ الأعلى الذين عند روح القدس.
قال رحمه الله تعالى: [تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماء يُدعى خماً، بين مكة والمدينة، فقال: أما بعد: ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاثاً).
وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته.(99/4)
أصل الرفض من منافق زنديق
وإنما قال الشيخ رحمه الله: (فقد برئ من النفاق)؛ لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق؛ قصْدُه إبطال دين الإسلام، والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلامَ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولس بدين النصرانية، فأظهر التنسُّك، ثم أظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتلِه، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيسا، وخبره معروف في التاريخ.
وتقدم أنه من فضَّله على أبي بكر وعمر جلده جلد المفتري].
مسألة إرجاع الرفض إلى النفاق، هذا أمر صحيح، لا شك أن الرفض منشؤه النفاق والمنافقون؛ لأن الرفض في الحقيقة عبارة عن ديانات كثيرة تقمصت مذاهب التشيع، هذه الديانات منها: اليهودية، ومنها: الصابئية، ومنها: المجوسية، وهي الأغلب، ومنها: النصرانية؛ ولذلك وجدت سمات هذه الديانات في الرافضة، فصارت الرافضة خليطاً من ديانة المجوس أولاً؛ لأن أغلب سمات الرافضة مجوسية في عقائدها، وفي عباداتها، وفي عاداتها وفي عوائدها، وفي مظاهر أعيادها، كما أنها مجوسية من حيث النزعة الشعوبية، أو النزعة العنصرية، فالرافضة مجوس قديماً وحديثاً، وينزعون إلى نصرة المجوس، وهم في أي وقت تقوم لهم دولة ينصرون تقاليد المجوس، ويتمسكون بآداب المجوس، حتى في أنماط إدارة الأمور، حتى في الشئون السلطانية، كما أنهم يقدسون المجوس تقديساً واضحاً، فعندهم العرق المجوسي هو العرق الأول المفضل.
إذاً: لا شك أن الذين بذروا الرفض هم المنافقون من شتى الديانات، وأغلبهم أصحاب الديانات المشهورة، أولاً: الصابئة المجوسية، ثم اليهودية، ثم الصابئة، ثم النصرانية، وكل هذه الديانات موجودة في الرفض، وأصولها واضحة من خلال أصول الرافضة المشهورة.
أما الأمر الآخر فيما يتعلق بهذا الموضع، هو القول بأن ابن سبأ هو الذي بذر بذور الرفض، هذا الأمر عند التحقيق العلمي قد يكون محتملاً، ولا سبيل إلى الجزم به؛ لأنه لا يلزم من إرجاع الرفض إلى أصوله الكفرية أن يكون من رجل واحد عمل ما عمل، مع أن الراجح أن ابن سبأ فعل ذلك، وإن لم يكن في وقت تصرفاته تلك مشهوراً بـ ابن سبأ، وإنما كان مشهوراً بـ ابن السوداء، وبعضهم يلقبه بـ عبد الله بن وهب، ولا يقصدون عبد الله بن وهب الراسبي الخارجي، إنما يقصدون عبد الله بن وهب الحميري السبائي، وله أسماء أخرى نظراً لتقلبه في كل بلد، فهو في كل بلد يظهر بشكل، فلقب بألقاب، وأهم صفاته التي اشتهر بها في عهد الصحابة أنه كان يسمى: ابن السوداء، وهذا يجرنا إلى الحديث عما ورد عند بعض الباحثين المتأخرين من إنكار أن يكون ابن سبأ حقيقة، ودعواهم أنه أسطورة.
وإنكارهم هذا مبني على تعليق الأحداث بلفظة عبد الله بن سبأ، لكن لو رجعنا إلى ألقابه وأوصافه الأخرى لوجدنا له أصولاً، ورواة الرافضة وعلى رأسهم سيف بن عمر هم الذين أشهروا قصص عبد الله بن سبأ، وأكثرها عن طريقهم، لكن لا يعني أن القصة غير صحيحة؛ لأنهم يروون الصحيح وغير الصحيح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن شهرة الاسم كانت متأخرة، فقد كان يسمى: ابن السوداء، ويسمى بأسماء أخرى، ولا شك أن علي بن أبي طالب طارد رجلاً فعل هذه الأفاعيل، وادعى هذه الدعاوى، وبذر بذور الإلحاد والكفر الصريح، وادعى عند قوم أن علياً إله إلى آخر القصة، وقام بنشر الرفض الغالي، وهذا معلوم، وقيل: إن علي بن أبي طالب تمكن منه، وقيل: إنه لم يتمكن منه، وقيل: إنه جلده، وقيل: إنه قتله، لكن لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا أصل الحدث والعبرة منه، وهو أن الرفض من صنع المنافقين، ولا يلزم أنه يرجع إلى رجل، ولذلك لما بذرت بذور التشيع دخلها كل كائد للإسلام، ولا يلزم أن يكون من خلال ابن سبأ أو تتلمذ على يده، ومن الطبيعي أنه إذا وجدت أفكار تشق عصا المسلمين، وتفارقهم في العقائد، فإن هذه الأفكار يعتنقها أناس كثيرون، ممن يضمرون الكيد للإسلام والمسلمين، أيضاً هذه الأفكار تتناسب مع أناس لهم ديانات معينة، ويحبون أن يبثوا دياناتهم من خلال هذه الأصول الكفرية أو الأصول البدعية، كما أن الذين وضعوا هذه الأصول لا شك أنهم ليسوا بشخص واحد، قد يكون بدأها شخص واحد، لكن لما بدأها توافرت جهود آخرين من الزنادقة والمنافقين، فكل وضع ما يناسب، ولذلك تجدون تطور الرفض من خلال العصور، حتى بعد ابن سبأ، فقد جاء على حسب رغبات الشعوب، وعلى حسب التأقلم مع الديانات الموجودة دا(99/5)
وجوب موالاة المؤمنين والتحذير من معاداتهم
قوله: (وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل).
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر.
وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ].
هذه جملة من أصول الأعذار التي يعذر بها المخطئ المجتهد، أو العالم إذا زل، فإذا زل العالم فلا نتبعه على زلته، بل ينبغي أن يحذر الناس من زلة العالم، لكن لا نلغي قدره واعتباره وإمامته في الدين، كما يفعله كثير من قليلي الفقه، من أصحاب العواطف، الذين إذا زل العالم أو زل طالب العلم ألغوا اعتباره وجرحوه، وهجموا عليه، وسلخوه من الأمة، هذا خلل شديد، بل فيه أحياناً خروج عن سبيل المؤمنين، أي: عدم إعذار العالم المجتهد إذا زل، لكن لا يتابع على زلته، كما أشار الشارح هنا في شرحه لكلام الطحاوي في قوله: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هذا تقرير أصل من أصول السلف أهل السنة والجماعة، يجب أن يعيه طالب العلم جيداً، وهو أن سبيل المؤمنين هو جزء من الدين، والمقصود بسبيل المؤمنين أي: المناهج التي عليها أئمة الهدى: المناهج في الدين، المناهج في المصالح العظمى، المناهج فيما يتعلق بوسائل الاجتهاد، المناهج فيما يتعلق بأصول تعامل الناس مع بعضهم، تعامل الناس مع علمائهم، تعامل الناس مع ولاة الأمر منهم، تعامل الناس مع المصالح العظمى، أو الأضرار الكبرى التي تتعرض لها الأمة، هذه كلها تسمى: سبيل المؤمنين، هذا السبيل أصله هو نهج العلماء من خلال استنباطهم لفقه الكتاب والسنة، ولذلك يعتبر سبيل المؤمنين جزءاً من العقيدة التي نعبر عنها بمناهج السلف، فمنهج أهل السنة والجماعة هو سبيل المؤمنين، ليس فقط في العلم والاعتقاد كما يظن بعض الناس، لكن أيضاً في العمل والتعامل، وهذه نقطة مهمة؛ لأن كثيراً من الذين ينتسبون لأهل السنة والجماعة، تجدهم من المتضلعين في العلم والاعتقاد، لكنهم في العمل وفي التعامل يكسرون مناهج السلف كسراً، ويصادمونها صدماً، بل ربما أحياناً يعملون بما يشوهها، ويعملون بضدها.
وهذه مسألة مهمة وقع فيها كثير من المنتسبين للسلفية، والمنتسبين لأهل السنة والجماعة، تجدهم في الناحية العلمية النظرية لعقائد السلف من العالمين الراسخين في هذا الجانب، لكن في جانب التعامل هم في واد والسلف في واد آخر، ولذلك أقول: إن العلم هو الاعتقاد، والعمل به هو سبيل المؤمنين، ولا يختلف هذا السبيل وينفصل بعضه عن بعض، وإشارة المؤلف هنا والشارح تدل على أن المقصود توجه علماء الأمة ونهجهم في أمر من الأمور، سواء كان من أمر الدين، أو كان من أمر الدنيا الذي استقر فيه صالح الأمة، فإن نهجهم وما يتفقون عليه أو ما يتفق عليه جملتهم هو سبيل المؤمنين، ومن حاد عنهم فهو متوعد بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في الآية، فلذلك يجب أن يحذر طالب العلم من مخالفة نهج العلماء، أو الازدواجية في النظرة إلى العلماء، فتجده يأخذ ما يحلو له من الأمور العلمية، ويقول: العلماء في الجوانب العلمية والاعتقادية على العين والرأس، لكن في العمل، وفي تقدير مصالح الأمة، وفي النظرة إلى الأحداث ليسوا قدوة، أقول: هذه مصادمة لمنهج السلف في اتباع سبيل المؤمنين، وربما يقع فيها كثير من الناس وهو لا يشعر، وربما يتعذر بمعاذير هي من زلات العلماء، ولذلك نبه الشارح إلى هذه المسألة، قد يخالف سبيل المؤمنين عالم راسخ، لكن لا يكون عمله حجة، إنما نلتمس له العذر ولا نتابعه، وأمثلة ذلك كثيرة من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، كثير من الراسخين في العلم يجتهد اجتهاداً يخرج به عن سمت العلماء، وقد يكون له أحياناً موقف عملي هو مخالف لسبيل المؤمنين، فيجب ألا نتبعه؛ لأن المواقف العملية أخطر من الاجتهادات، لكن قد نعذره، فلذلك أشار إلى(99/6)
الأسئلة(99/7)
الحكم على كتاب (الشيعة والتشيع) لموسى الموسوي
السؤال
قصة محمد بن الحسن العسكري تكلم عنها الكسروي الشيعي الذي رجع إلى السنة نوعاً ما في كتابه الشيعة والتشيع، تحقيق الدكتور القفاري والعودة؟
الجواب
هذا الكتاب أو غيره فيه حجج من الشيعة الذين كتبوا عليهم، لكن ومع ذلك لا يلزمنا أن نحتج على الرافضة ببعضهم، بقدر ما يلزمنا أن نحقق المسألة علمياً أولاً، فإذا حققناها علمياً وأشهرناها عند الباحثين والعلماء، سنجد من الرافضة من يستفيد من هذا البحث العلمي أو التحقيق العلمي، أما وجود التناقض بين أقوال الرافضة فلا شك أنها موجودة، وما يكتبه بعضهم من الرجوع أو التراجع عن التشيع ينبغي ألا ننخدع به، فدعوى رجوع مثل الموسوي أو غيره هذه مسألة لا تعدو -والله أعلم- أن تكون عبثاً ولعباً على الذقون، شيعي أنكر على شيعي آخر، لكن لا يعني هذا أنه ترك التشيع، فلا نقع في السذاجة المتناهية، لكن نضرب قول بعضهم ببعض، هذا جيد، ومن أساليب السلف أنهم ينقضون بحجة بعضهم على بعض.(99/8)
حكم إنكار شخصيات مشهورة في كتب التاريخ
السؤال
ينكر بعض الكتَّاب ثبوت شخصيات من التاريخ مثل: عبد الله بن سبأ وبعض الصحابة مثل: القعقاع؟
الجواب
المسألة ينبغي أن تبحث علمياً.(99/9)
حكم الجماعات الحزبية ومن ترفع شعار السلفية وغير ذلك من الجماعات
السؤال
هل الجماعات الموجودة الآن من الفرق الثنتين والسبعين؟ وهل من انتسب إلى السلفية يعتبر على سبيل المؤمنين، أم هو أقرب، أم هو من التحزب المنهي عنه شرعاً؟
الجواب
هذا سؤال كبير، وكثير من المشايخ تكلموا في هذه الأمور بكلام جيد بين وواضح، وقعّدوا لها بقواعد، يستطيع طالب العلم من خلالها أن يستبين منها الحق.
وعلى أي حال فالجماعات الموجودة الآن إن قصد بها الجماعات الحزبية ذات الشعارات والمناهج، فأغلب هذه الجماعات ترجع إلى أصول بدعية أصلاً، حتى وإن ادعت السنة؛ لأنها خرجت من منابت بدعية، هذا شيء، الشيء الآخر أننا لا نعرف من منهج السلف أن هناك تحزبات أو جماعات، هذا مخالف لنهج السلف، وبمجرد أن توجد الحزبية فالمنهج غير سلفي إطلاقاً، بل يعتبر نوعاً من الافتراق، حتى وإن ادعى صاحبه أنه على مذهب أهل السنة، وحتى وإن كان نظرياً وعلمياً على مذهب أهل السنة والجماعة، أو عقيدته العلمية على مذهب أهل السنة، فإذا تحزب ورفع شعاراً غير السنة والجماعة، وأوجد مناهج في الدين والدعوة مخالفة لمنهج السلف، فهذا خروج عن السنة.
فنحن هنا نحكم على الجماعات ذات الطابع الحزبي بأنها خرجت عن منهج أهل السنة والجماعة خروجاً كلياً وجزئياً، لكن أهم من هذا كله وهو ما ذكرته في أول حديثي، وأؤكده الآن، ليكون واضحاً أن الجماعات التي خرجت في العالم الإسلامي جماعات أصولها بدعية أصلاً؛ لأنها خرجت من منابت أحسن ما فيها أنها خرجت من منابت أهل الكلام الأشاعرة والماتريدية، وخرجت من منابت صوفية، ومنابت قبورية، ومنابت عقلانية، ومنابت اعتزالية، ومنابت جهمية، فالمسألة واضحة، لكن لا يعني ذلك الحكم على الأفراد، وإنما الحكم من حيث الجملة.
أما ما ذكره السائل من وجود بعض الشعارات السلفية، فأقول: السلفية ليست شعاراً، ومن ادعى السلفية فيعرض أمره على الكتاب والسنة، أو على نهج السلف، فإن سلم من التحزب، وسلم من وضع مناهج منحرفة في الدين، وسلم من البراء من غيره ممن هم من أهل السنة، وهذه مشكلة أكثر السلفيين يتبرءون ممن يخالف منهجهم الخاص، فوقعوا في الحزبية من حيث لا يشعرون، فإذا تبرءوا ممن لا يكون على منهجهم الخاص، ولم يغفروا له زلته، ولم يعذروه بالمعاذير الشرعية، وقعوا فيما وقع فيه الحزبيون، وهذه الحزبية ربما تكون أضيق من الحزبية العامة الموجودة عند الجماعات، وإن كان هذا قليلاً، لكن مع ذلك أحذر من ذلك، كما هو معروف عن أهل العلم ومشايخنا الذين لهم بصر ومعرفة بهذه الأمور، فإنهم بينوا للناس أن هناك بوادر تحزب عند بعض من يرفعون شعارات السلفية، لكن لا يعني ذلك: أن كل من رفع شعار السلفية نتهمه، لا، بالعكس.
إذاً: غالب الجماعات ترجع إلى الثنتين والسبعين فرقة، بطبيعة الحال، من خلال المنشأ والمنابت والمناهج التي وضعوها.
وهنا أحب أن أؤكد على عمل آخر؛ لكي لا يفهم الكلام على غير وجهه، وهو أن بعض الأساليب والوسائل في الدعوة إلى الله عز وجل يسميها كثير من الناس: حزبيات وجماعات، فمثلاً: وجود مراكز إسلامية لا تضع مناهج تخالف السلف، ولا تعلن ولاءات، ولا تعلن حزبيات، وإنما هي عبارة عن وسائل تعليم مثل: المدارس، المراكز، والمؤسسات مثل: مؤسسة الحرمين، وما كان على شاكلتها، هذه وسائل وأساليب في خدمة السنة، لا تُعَدُّ جماعات، بعض الناس حكم عليها على أنها تجمع وتحزب، وهذا غير صحيح، وفيه جناية، وأيضاً فيه حجر للأمة؛ لكي لا تعمل ولا تنشط، فالعمل المؤسسي مشروع، وأهل السنة أولى به من غيرهم، وكذلك بقية الوسائل، ولذلك أعجب من الذين يقولون: إن وسائل الدعوة توقيفية، فمن وسائل الدعوة الشريط، والكتاب، ومن وسائل الدعوة: استعمال الحاسبات، ومن وسائل الدعوة: استعمال الآلات والمصنوعات الحديثة في خدمة الدين، فهل هذه توقيفية؟ وأنا لا أدري لماذا تثار هذه الضجة حول وسائل الدعوة؟! فالخلاصة أن استعمال هذه الأساليب والوسائل، التي تخضع لضوابط السلف ومناهج السلف لا تدخل في الافتراق، ولا تدخل في الجماعات ولا الحزبيات.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(99/10)
شرح العقيدة الطحاوية [100]
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأنبياء أفضل من الأولياء، ونبي واحد أفضل من جميع الأولياء، وأما أهل الأهواء والبدع من الصوفية وملاحدة الفلاسفة وغيرهم، والرافضة، فهم يفضلون أئمتهم وأولياءهم على الأنبياء، وهذا خروج ومروق عن الشريعة، وزندقة وإلحاد في دين الله تعالى.(100/1)
ضلال تفضيل الأولياء على الأنبياء
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء).
يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة].
هذا مذهب تفضيل طوائف من الناس على الأنبياء والرسل، وهذا المذهب يوجد في كثير من الطوائف الضالة، فبعضهم يصرح، وبعضهم يكون واقع حاله تفضيل البشر، أو تفضيل من يزعمون له الولاية أو القداسة والإمامة على الأنبياء، فممن يصرحون بالتفضيل، تفضيل أنفسهم، أو تفضيل من يقدسونه، أو تفضيل الأولياء والفلاسفة على الأنبياء، ممن يصرح بذلك الفلاسفة، فالفلاسفة كلهم، حتى الذين يسمون بالإسلاميين وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن سبعين وابن الفارض ومن سلك سبيلهم ممن زعم لهم الإسلام وليسوا كذلك، هؤلاء يصرحون بتفضيل الفلاسفة والأولياء على الأنبياء والمرسلين، وتوجد هذه النزعة عند طوائف الباطنية بشتى أنواعها، كل الباطنية بفرقها تفضل الأولياء أو الأئمة كل له في ذلك نزعة، يفضلون رؤسائهم على الأنبياء والمرسلين، وأحياناً يصرحون بإهانة المرسلين، وكذلك طوائف من المتصوفة، والمتصوفة أغلبهم ينزعون إلى الفلسفة وإلى الباطنية، لا تخلو أغلب مدارس الصوفية من النزعة الفلسفية التي تقول بتفضيل الأولياء على النبيين، أو النزعة الباطنية التي تقول بتفضيل الأئمة على الأنبياء.
ثم الرافضة حقيقة مذهبهم أنهم يفضلون الأئمة على الأنبياء، والاتحادية وغلاة الجهمية يدخلون في طوائف الفلاسفة وغلاة المتصوفة والباطنية.
كذلك كبار الجهمية وكبار المعتزلة نجد منهم من يفضل الطوائف من الفلاسفة والعقلانيين على الأنبياء، وبعضهم يلزمه ذلك من باب الإلزام، يعني: غلاة المتكلمين تدل نظرتهم إلى الدين الذي جاء به الرسل على أنهم يفضلون أنفسهم على الأنبياء؛ وذلك أنهم فضلوا عقولهم وأفكارهم وما ابتدعوه من مناهج في الدين على الأنبياء، هذا من باب الإلزام.
وهناك طوائف من الجهمية وطوائف من المعتزلة وبعض المتصوفة وبعض المتشيعة يلمحون لهذا ولا يصرحون، أما خلّص الرافضة وخلّص الباطنية وخلّص المتصوفة الغلاة، وخلّص الفلاسفة فهؤلاء يصرحون بالتفضيل، ولا عندهم في ذلك أي تردد، ويبالغون في هذا في مؤلفاتهم، وفيما أُثر عنهم من كلام، وفي أشعارهم وفي غير ذلك، فقد قرروه تقريراً، وانتصروا له في مؤلفات وكتب.
قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع، فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64] إلى أن قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]].
الاتحادية هم أصحاب الاتحاد من الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية، وهؤلاء كلهم مذهبهم واحد، يختلفون فقط في التعبيرات عن المذهب.
والاتحادية هم الذين يرون اتحاد الخالق بالمخلوق أو اتحاد المخلوق بالخالق، بعضهم يعبر عن مسألة الاتحاد بزعمه أنه حلت فيه الإلهية، مثل ما فعل الحلاج، وبعضهم يزعم أن الله الخالق حل في المخلوقات أو اتحد فيها، وهذا مذهب كثير من غلاة الصوفية، فهؤلاء كلهم اتحادية، الذين يزعمون اتحاد الخالق بالمخلوق أو ببعض مخلوقاته، أو الذين يزعمون اتحاد المخلوقات أو بعض المخلوقات بالله عز وجل بأي نوع من أنواع الاتحاد.
وعلى ذلك يعد التثليث عند النصارى والتثنية عند المجوس، وكذلك مذاهب غلاة الصوفية كلها نوع من الاتحاد.
والاتحاد يشمل وحدة الوجود، وإن كانت الوحدة أخص أو أصرح في التعبير من الاتحاد، لكن مع ذلك فإن الاتحاد يشمل هذه المذاهب كلها؛ لأن الاتحاد يعبر عنه بعدة تعبيرات، فمنهم من يقصد بالاتحاد الاتحاد الجزئي، وهم أغلب أصحاب الاتحاد، ومنهم من يقصد بالاتحاد الاتحاد الكلي، وهؤلاء أحياناً يعبرون عن ذلك بوحدة الوجود، ولذلك يقال لهم: أصحاب وحدة الوجود، وهم في الحقيقة اتحادية، لكن عمموا مسألة الاتحاد حتى سموا بأصحاب وحدة الوجود، وهم الذين يرون أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، فكل من الخالق والمخلوق يتمثلون في هذا الخلق، تعالى الله عما يزعمون.(100/2)
مصير من أمّر السنة على نفسه ومن تكبر عنها
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة.
وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه.
والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل بإرادة نفسه، فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شعبة من قول الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة، وتصفية نفسه، إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم.
ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء.
ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه، ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كـ ابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت، لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي].
أشار المؤلف إلى بدعة تفضيل الأولياء على الأنبياء، وسبق الكلام عن هذا في درس من دروس الأهواء الملحق بهذا الدرس، لكن أحب الآن أن أنبه إلى مسألة مهمة دائماً تحدث عند تصور البدع، ولعلنا نستفيد منها فيما يجب أن يسلكه طلاب العلم في محاربة البدع، أو محاربة ذرائع البدع التي تحدث كثيراً عند الناس، وهو أن كثيراً من هذه الأفكار التي من ضمنها تفضيل الأولياء على الأنبياء، بدأت وكأنها ساذجة، وكأنها أفكار أو شبهات خفيفة ما تنبه لها الناس، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، أو تفضيل طائفة من الناس على الأنبياء، هذه نزعة فلسفية كما قلت، توجد عند أكثر المستكبرين على النبوة وعلى الأنبياء، وعلى رأسهم الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية وأهل الأهواء في كل ديانة، الذين يفارقون ديانات الأنبياء يوجد عندهم هذا الاستكبار، الذي يجعلهم يفضلون طوائف ممن يقدسونهم على الأنبياء، إما التفضيل المباشر الصريح، وإما التفضيل غير المباشر، وإنما يكون من لوازم المذاهب التي يلجئون إليها؛ لأن من سلك غير طريق النبيين لا شك أنه استهان بهم، وفضل عليهم غيرهم، لكن هنا نشأت هذه البدعة في تاريخ الإسلام، ربما يقول قائل: كيف تنتشر هذه البدعة التي يظهر عوارضها وخطؤها بشكل بيّن بين المسلمين؟ أقول: انتشرت غيرها من البدع في البداية حذرة غير بينة، وقد بدأت هذه الدعوى في منتصف القرن الثالث على أيدي العباد الجهلة، أو العباد الذين اختلط فيهم -والله أعلم- مسلك العبادة السنية عن جهل مع مسالك العبادات البدعية، أو عن تبييت لإفساد الإسلام والله أعلم بأحوال الأشخاص، لكن في الجملة الذي يتأمل أحوال العباد الأوائل في القرن الثاني والثالث، يجد منهم طوائف عمقت البدعة، وأخذت عن الأمم السابقة كثيراً من المذاهب والنحل والديانات، وأظهرتها بين المسلمين بشعار المسلمين وبالصبغة الإسلامية، وقد يكون ممن ينتسبون للسنة من العباد والنساك من وقع في هذه البدع، تقليداً لغيرهم دون أن يشعر أنها بدعة، وذلك ناتج عن جهله، وعن بعده عن مناهج العلماء، وعن عدم التزامه لسلوك الأئمة في وقته، وقد يكون من أصحاب الخير والفضل والاستقامة في ذاته، لكن نجد دائماً أن كل من كان عنده شيء من الجهل، أو الابتعاد عن مسالك السلف، إذا وضع نفسه إماماً في الدين، أو وضعته طائفة من الناس إماماً في الدين، فإنه يخطئ ويزل، ويتبع الناس زلته؛ بسبب صلاحه، فذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أن أول من تكلم بمسألة تفضيل الولي على النبي أحمد بن أبي الحواري، وهو من العباد المشاهير المتوفى سنة (246هـ)، وكانت عبارته حذرة، ولما استنكر العلماء ذلك عليه أخرجه العوام من دمشق؛ لأن العوام الذين هم على الفطرة في الغالب يمتثلون توجيهات أهل العلم، ثم لما شاعت هذه المسألة وتكلم عنها أهل العلم انطفأت بعض الوقت، ولم يجرؤ أحد أن يقولها، حتى جاء الحكيم الترمذي، وهو معاصر لـ ابن أبي الحواري تقريباً، فكتب هذه المسألة في كتاباته ومؤلفاته، وأشار إشارة صرح فيها بختم الولاية، وأن الولاية تختم كما تختم النبوة، وهذه مسألة في الحقيقة فيها نوع من الأخذ بالقول بتفضيل الأولياء، لكن غير صريح، يعني: مسألة القول بختم الأولياء كما تختم النبوة فيها نوع من رفع مقام الأولياء، ولم(100/3)
عقيدة ابن عربي في النبوة والولاية وتكفير العلماء له
وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبنة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع كلتا اللبنتين، فيكمل الحائط؛ والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه؛ فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه إلى الرسول.
قال: فإن فهمت ما أشرنا إليه، فقد حصل لك العلم النافع].
عند تأمل كلام ابن عربي ينبغي أن نستصحب من خلال هذا التأمل مدى جهل الذين يعتذرون لـ ابن عربي أو يجهلون كفره؛ لأن كفريات ابن عربي كثيرة وثابتة في كل كتبه، ومن أمثلته هذا، مع أن هذا على وضوحه يعتبر من الكفريات التي تحتاج إلى بيان عند بعض الناس، وله كفريات صريحة وواضحة مثل الشمس.
قال رحمه الله تعالى: [فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب، وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول؟! {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111].
{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟! وله من الكلام أمثال هذا، وفيه ما يخفى من الكفر، ومنه ما يظهر، فلهذا يحتاج إلى ناقد جيد ليظهر زيفه، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد، ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير.
وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة، اتحادية في الدرك الأسفل من النار، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين؛ لإظهارهم الإسلام، كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبطنون الكفر، وهو يعاملهم معاملة المسلمين؛ لما يظهر منهم، فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، ولكن في قبول توبته خلاف، والصحيح عدم قبولها، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه، والله المستعان.(100/4)
ثبوت كرامات الأولياء
قوله: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم).
المعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وفي عرف أئمة أهل العلم المتقدمين وغيره، ويسمونها الآيات، ولكنْ كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة].
أقرب الأوصاف الشرعية لمعجزات الأنبياء أنها آيات أو دلالات، وقد ذكر الله عز وجل أنها آيات، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها آيات، وكلمة معجزة هي وصف للآيات وليست اسماً لها، فلذلك ينبغي أن يعبر عن المعجزة بالآية، ويقال: من أوصاف هذه الآيات أنها معجزة، ومن سمات الآيات أنها معجزة، فحصر الشيء ببعض وصفه فيه إضعاف للدلالة، هذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء، والآيات التي تحدث من دون الأنبياء تسمى كرامات، إذا كانت على أيدي صالحين، وتسمى دجلاً ومخارق وخوارق إذا كانت على أيدي غير صالحين، ومع ذلك فالكرامات خارقة في وصفها اللغوي، لكن لا تسمى الآيات والمعجزات والخوارق كرامات، إلا إذا توافرت فيها صفات الكرامة، وإذا كانت الخوارق للأنبياء فهي آيات، ومن أوصافها أنها معجزة، وإذا ما توافرت في الأنبياء فلا تسمى معجزات، لكن تسمى آيات ودلائل؛ لأنها تلحق بدلائل النبوة.
فكرامات الأولياء تلحق بدلائل النبوة؛ لأن الأولياء الذين توافرت عندهم صفة الكرامة أتتهم الكرامة باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وبتقواهم، وصارت كراماتهم امتداداً لآيات النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته.
قال رحمه الله تعالى: [فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده].
يعني: هذه صفات الكمال التي يكون فيها الإعجاز، والتي تنبثق منها الآيات الكونية، أو آيات الأنبياء، فشيء يرجع إلى العلم، وشيء يرجع إلى القدرة، وشيء يرجع إلى الغنى.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة، بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرأا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:188]].
الآن بدأ يفصل في مسألة الثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وأن هذه هي التي يكون فيها الإعجاز، وهي التي لا تكون على وجه الكمال إلا لله عز وجل، بدأ يفصل فيها، فالأولى كمال العلم، ومن ذلك علم الغيب، وهذا لا يكون إلا لله.
قال رحمه الله تعالى: [وتارة بالتأثير].
الحديث عن التأثير يرجع إلى كمال القوة، التي لا تكون إلا لله عز وجل، أو كمال القدرة التي أشار إليها قبل قليل.
قال رحمه الله تعالى: [كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90].
وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية].
هذا راجع إلى كمال الغنى الذي أشار إليه من قبل.
قال رحمه الله تعالى: [كقوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7].
فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك].
يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك كمال العلم، ولا كمال القدرة، ولا كمال الغنى، إلا ما منحه الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علّمه الله إياه، ويقدر على ما أقدره عليه، ويستغني عما أغناه عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة، أو لعادة غالب الناس].
العادة المطردة المخالفة هي الآيات الكونية، والعادة المخالفة لعادة غالب الناس هذه ما دون العادات الكونية، مثل: كشف المجهول، والقدرة على ما يعجز عنه كثير من المخلوقين، أو جلب النفع، أو دفع الضر فيما لا يقدر عليه البعض ويقدر عليه الآخر، هذا مما يقدر عليه بعض المخلوقين، وكشف المجهول من دون الغيب، ليس هو الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن ما هو مجهول عنا تعلمه الملائكة، وكذلك ما هو مجهول عنا تعلمه الجن؛ لأن الجن ليس عليهم حجب في كثير من الأمور، وكذلك هناك أمور لا يقدر عليها البشر، يقدر عليها الملك، ويقدر عليها الجني، وهناك أمور أيضاً قد لا يستطيع أن ينفع بها الإنسي، لكن قد ينفع بها الجني وغيره، وهذه داخلة في خوارق العادات.
أما الأمور المخالفة للعادات المطردة فهي لا شك الآيات الكونية، مثل: شق القمر، مثل: حبس الشمس، هذه أمور تخرج عن قدرة جميع الخلق، وهناك أمور لا تخرج(100/5)
المحمود من الخوارق والمذموم والمباح
فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها.
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة.
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا سلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة].
هذه إشارة إلى أن تعلق بعض الناس بالكرامة، واعتبارها هي دليل الصلاح أو دليل التوفيق هذا خطأ، خاصة من يطلبون الكرامات ويلتمسونها، ولذلك الذين يجعلون كثرة الكرامات دليلاً على الاستقامة، أو أن قلة الكرامات دليل على عدم الاستقامة وعدم التوفيق، هؤلاء يخطئون؛ فإن الكرامة هبة من الله عز وجل يهبها لمن يشاء بقدر، أيضاً لم تكن من الأمور الذي يفتن بها الصالحون، ولذلك نجد أن الكرامات عند أولياء الله الصالحين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم قليلة.
ولما وجد من العباد والجهلة والمبتدعة من كثر تعلقهم بالكرمات، كثرت عندهم الكرامات والمخارق أيضاً، واختلطت عليهم الكرامة بالخوارق وبالمخارق والدجل، ولذلك فتن بعضهم.
وهناك طائفة من الدعاة الذين ينتسبون لبعض الجماعات يتعلقون كثيراً بالكرامات، ويجعلونها دليلاً دائماً أو غالباً على التوفيق والصلاح والاستقامة، وهذا خطأ، فكونهم يفرحون بالكرامة هذا أمر طيب، وإذا حدثت الكرامة لمسلم استبشر بها، لكن أن يطلبها ويتعلق بها قلبه، بحيث يعتمد عليها كثيراً، وأن يشيعها ويجعلها دليلاً على الاستقامة والتوفيق، فهذا خطأ؛ لأن الإكثار من ذلك ليس هو من سبيل المؤمنين، ولم يكن الإكثار من الكرامة أو التنويه عنها أو التماسها والتعلق بها من السنة، وإنما كما قال الشارح: إن أكبر كرامة للمؤمن أن هداه الله عز وجل ووفقه وسدده وأعانه، هذه بحد ذاتها كرامة، فلا ينبغي أن يبحث عن غيرها، إلا إن جاءت بدون طلب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليستبشر بها خيراً، لكن أن يلتمسها ويتعلق بها خاطره، ثم يبدأ يتعلق بها في مناماته ورؤاه، ويتعلق بها في أحواله الأخرى، فهذا مما يضعف التوكل على الله عز وجل، ويروج البدعة في كثير من الأمور، ويضعف جانب الصلاح والاستقامة في الظاهر.
قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن].
يشير المؤلف رحمه الله إلى جانب آخر مما يلتبس على الناس بالكرامات، وهو جانب المؤثرات المعنوية والمؤثرات النفسية وتعلق النفس بها، وجعلها من ضمن الأسباب.
والمقصود بهذا أن هناك من يتوسع في مفهوم الخوارق، حتى يستخدمها في ضر الناس ونفعهم، أو في كف الشر عنه، أو في جلب الخير إليه، كما يحدث من بعض الرقاة الجهلة، ويحدث من بعض المشعوذين وبعض الدجالين أو بعض المبتدعة، أو غيرهم من الذين عندهم نوع من الصلاح، لكن عن جهل، فهؤلاء قد يستخدمون بعض التأثيرات النفسية، أو يستخدمون أحياناً الجن، أو يستخدمون الرقى في التأثير على الخصم.
ولذلك تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، يعني: بغير سلاح مباشر، كمن يستخدم العين للقتل، وهذا يوجد عند بعض الحسدة مرضى القلوب، يعين الناس حتى يقتل بعضهم، نسأل الله العافية.
أو يستعين بعائن، بأن يذهب إلى عائن مشهور ممن لا يتقون الله، من الجهلة المركبين في الجهل، ويكون مشهوراً بالعين، فيقول عن لي فلاناً، أو افعل معه كذا، أو سأصفه وأنت اصرف له العين إلى آخره! فيحدث أحياناً قتل للنفس، ويحدث مثل هذا عن طريق الجن أيضاً، بعض الناس يستعين بالجن استعانة يظن أنها مشروعة على قتل خصومه، أو قتل من يكرههم ومن يحسدهم، هذا كله من القتل بغير سلاح، واختلف أهل العلم هل فيه قود أو ليس فيه قود؟ هذه مسألة خلافية مبنية على عدم وجود القرينة أو الدليل القطعي على التعمد في القتل؛ أما إذا وجد التعمد في القتل بهذه الوسيلة فلا شك أنه من باب القتل الذي توعد الله به من يفعله، إنما يبقى هل يكون فيه قود (قصاص) أو لا يكون؟ والشاهد عندنا أن هؤلاء يستعملون هذه المخارق، وهذه الأساليب الدجلية، ويظنون أنها مشروعة في التأثير على خصومهم، أو في الإضرار بالآ(100/6)