شرح العقيدة الطحاوية [1]
عند تناول قضايا العقيدة لابد من مراعاة عدد من القواعد والأسس التي تعد منطلقاً في تقرير ذلك، ومن جملة تلك القواعد إدراك تأثير الأسباب في المسببات بإذن الله تعالى، وكون التحسين والتقبيح في الأفعال عقليين والثواب والعقاب شرعيين، والاعتداد بخبر الواحد المتلقى بالقبول، واعتبار موافقة صحيح النقل لصريح العقل، وغيرها من القواعد المهمة التي لا يستقيم إغفالها حال التعرض لتقرير قضايا الاعتقاد.(1/1)
قواعد وأسس في تناول مسائل العقيدة(1/2)
اعتقاد تأثير الأسباب في مسبباتها بإذن الله
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول محقق شرح العقيدة الطحاوية في مقدمته: [تأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها بإذن الله]: هذا النوع من الكلام يلحق بالكلام في القدر، فهو تبع للكلام في القدر، وكأن المقدم هنا اختار هذه المسألة لأنها من أبرز المسائل أو من أهمها عنده، وإلا فهناك بعض مسائل القدر المهمة، وإن كان سيذكر الحسن والقبح في الأفعال، وهو أيضاً موضوع اختياره جيد، لكن مسألة الأسباب ليست أهم قضايا القدر التي خالفت فيها الفرق، لكنها تصلح كنموذج، وقد ضرب مثلاً بعد العنوان، فقال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح]، وكان الأولى أن يقول: مثل أن يقال: إن الله يخلق السحاب بالرياح، فهذا مثل للأسباب، وليس هو أهم الأسباب أو أبرز الأسباب.
قال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ونحو ذلك، والقول بأن الله يفعل عند الأسباب لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه].
هذه المقولة لبعض أهل البدع، وهي أن الله يفعل عند الأسباب، وهي مقولة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ثم صارت مقولة بعد ذلك لها قواعد، وهي مقولة خاطئة، بل هي من مقولات العقلانيين الذين يقولون: إن فعل الله وإرادته تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذه المسألة ملحقة بمقولة سابقة سبق أن ذكرتها حينما تكلمت عن أول بدع القول في القدر، ومنشأ هذه البدعة: هو القول بإنكار القدر السابق والعلم السابق لله سبحانه وتعالى، الذي قال به غيلان ثم الجعد بن درهم، ونسب إلى معبد الجهني، وهو القول بأنه لا قدر، ومعنى: (لا قدر) أن الله لم يقدر الأمور قبل حدوثها، وإنما يقدرها عندما تحدث، وأن الله لا يعلم الأمور قبل حدوثها، وإنما يعلمها عندما تحدث، وهذا مبني على فلسفة عقلية موروثة عن الفلسفة اليونانية، فليست فلسفة حدثت في الإسلام، إنما هي موروثة عن طوائف متفلسفة من أهل الكتاب، وأهل الكتاب منهم طوائف وفرق كانت على الفلسفة اليونانية الخالصة، ومن هنا وسوسوا لبعض المسلمين بهذه المقولات، فنشأت عنها هذه المسائل.
إذاً: فالقول بأن الله يفعل عند الأسباب يعني أنهم يقولون: إن فعل الله يصاحب الفعل ولا يسبقه، بمعنى: أن علمه تعالى بالشيء لا يسبقه، وأن إرادة الله -أيضاً- تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذا يعني إلغاء حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه السابق وتدبيره الذي هو عن علم وحكمة.
قال: [وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، ويقول: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:164]، ويقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، ويقول: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، ويقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]، ويقول: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:15 - 16] ومثل هذا في القرآن كثير.
وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً)].
يعني هنا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تكون سبباً في رحمة الله لمن يصلي عليه.
قال: [فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل] وجه الشبهة: أنه قد يسأل أمثال هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم فيقول: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب تأثيراً، مع أن له قدرة مطلقة؟! قد ترد هذه الشبهة، فيقول قائل: لماذا جعل الله الأسباب هي المؤثرة، مع أن الله قادر على أن يستغني عنها؛ فإنه يقول للشيء: (كن) فيكون؟ وقد أجاب المحقق عن ذلك.
قال: [فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل؟ جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب].
يعني: أن الله قدر أن تكون الأسباب هي الوسيلة لهذه الأمور، فهذه أمور داخلة في قدرة الله، ولا تعني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأسباب هي م(1/3)
الحسن والقبح والثواب والعقاب
قال: [الثالث عشر: الحسن والقبح في الأفعال عقليان، والثواب والعقاب شرعيان: وقد ذهبوا في هذه المسألة مذهباً وسطاً، وهو أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، وأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأشياء، والله قد فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة المنعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، لكن الثواب والعقاب شرعيان يتوقفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان عن طريق العقل].
مقصوده بذلك: أن الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والجهمية ومن جاء بعدهم ممن اقتدى بهم يقولون: إن مسلك الحسن، يعني: حسن الأشياء أو استحسانها لدى البشر واستقباحها لدى البشر أمور تدرك بالعقل جملة وتفصيلاً، حتى لو لم يأت الشرع بذلك، وأهل السنة والجماعة لم ينكروا هذه القاعدة، لكنهم قالوا بأنه ليس الأصل في الأمور هو التحسين والتقبيح العقلي؛ لأن العقل لا يدرك كل شيء فيما يحسن وما يقبح، قد يدرك بعض الأشياء وتخفى عليه أشياء كثيرة، لاسيما أن كثيراً من الأمور معلقة بالغيب، إما الغيب الماضي وإما الغيب المستقبل، فلو استقبح العقل شيئاً فلربما كان في علم الله في الغيب أن يكون هذا الشيء المستقبح في العقل حسنا فيما يأتي، والعكس كذلك، فربما استحسن شيئاً وهو في علم الله فيما سيقع قبيح، هذا أمر.
والأمر الآخر: أن التحسين والتقبيح العقليين مجملان ولا يدركان التفصيل، أي: تفصيل الشرائع وتفصيل ما يستحسن، فالواجب شرعاً والمستحب شرعاً أمور تفصيلية لا يدركها العقل مستقلاً، حتى وإن استحسنها كلها فإن استحسانه لها تبع للشرع؛ لأن الشرع لا يأتي إلا بما يوافق الفطرة، وكذلك العكس، فلو افترضنا أن الله لم ينزل الشرائع؛ فهل تدرك العقول لو اجتمعت كلها بجميع قواها تفصيلات ما يصلح للناس وما لا يصلح لهم في كل جزئيات السلوك وأمور الغيب والشهادة؟! لا يمكن.
إذاً: فالشرع لابد منه، والعقل يستحسن المستحسنات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل، ويستقبح المستقبحات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل؛ لأن العقل آلة تعتريها المؤثرات من الهوى والشبهات والشهوات، وأهم ذلك كله الفناء، فالعقل يفنى، والشرع لا يفنى، إلا إذا انقضت الدنيا وانتهى وقت الاختبار والابتلاء وبقيت الأمور للحساب، فإن الناس يحاسبون على هذه الأمور بمقتضى الشرع لا بمقتضى العقل.
فالمقصود أن أهل السنة والجماعة يوافقون على أن للعقل تحسيناً وتقبيحاً، لكن لا على وجه التفصيل، ولا يستغني البشر عن الشرع بالعقل، وليس كل ما يستحسنه العقل حسناً، وليس كل ما يستقبحه العقل قبيحاً؛ لأن العقل آلة تعتريها الأمور التي ذكرتها من الهوى والسهو والنسيان والخطأ والضعف والمحدودية وغير ذلك.(1/4)
ثبوت فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول
قال: [الرابع عشر: إثبات فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول عملاً وتصديقاً: فقد احتجوا بخبر الواحد المتلقى بالقبول في مسائل الصفات والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، وأشراط الساعة، والشفاعة لأهل الكبائر، والميزان، والصراط، والحوض، وكثير من المعجزات، وما جاء في صفة القيامة والحشر والنشر، والجزم بعدم خلود أهل الكبائر في النار].(1/5)
توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول
قال: [الخامس عشر: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: فكل ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يستخدم بدقة وإمعان؛ لأن العقل الصريح في دلالته على المراد لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت؛ لأن العقل والنقل وسيلتان لغاية واحدة: هي الوصول إلى الله، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يمكن لها أن تتعارض].
أظن أن هذه المسألة واضحة، ولكن أحب أن أبين أمراً فيها قد لا يكون المتكلم عرج عليه هنا، وهو مسألة: المقصود بصحيح المنقول، والمقصود بصريح المعقول.
فأما صحيح المنقول فأظنه واضحاً، وهو النص الصحيح الذي هو في كتاب الله تعالى، وما صح من السنة، سواء ما يتعلق بالعقيدة وبالأحكام، وسواء ما يتعلق بأمور الغيب والشهادة، وسواء ما يتعلق بالتكييفات وما يتعلق بعلل وحكم الشرع، كل ذلك إن ورد فيه قاطع في الشرع فلابد حتماً من أن يوافق العقل السليم، لكن تبقى المشكلة في تحديد معنى العقل السليم الذي يحكم في هذا الأمر، وهذه مسألة نسبية، فلا يستطيع أحد من البشر على الإطلاق أن يحدد لنا أن فلاناً من الناس عقله سليم مطلقاً، فالعقل سلامته نسبية، كسلوك الأفراد وصلاحهم، فلا توجد عصمة العقل إلا للأنبياء، وغير الأنبياء عقولهم تتفاوت وإدراكاتهم تتفاوت، ومهما بلغت العقول فإن سلامتها سلامة نسبية.
إذاً: فسلامة العقل أمر مفترض في جملة العقول الصحيحة وليس في أفرادها، وهذا دفع لشبهة ظهرت في المتكلمين، وهي أن يدعي إنسان من المفكرين العباقرة بأنه يستطيع أن يضع موازين للدين يزن بها الشرع، كما فعل الرازي، فقد ذكر في كتابه: (تأسيس التأسيس) موازين عقلية، وجعلها هي الموازين التي توزن بها أمور الدين، وفي جملة ذلك نصوص الشرع، حتى إنه رد خبر الواحد ورد الأحاديث الصحيحة، وأول صفات الله وأول أخبار السمعيات؛ لأنه حينما حكم قواعده العقلية فيها تنافت معها بزعمه.
إذاً: فالعقل السليم لا يملكه شخص، بل هو عند جملة أهل الحق بمجموعهم، وضابط العقل السليم ضابط واضح، وهو أنه إن وافق الشرع فهو سليم، وإن خالف الشرع فإن فيه قصوراً أو خللاً، فإذا كان صاحبه صاحب بدعة وهوى ففيه خلل، وإذا كان العقل لا يوافق عقول أصحاب الهدى والاستقامة فإن فيه قصوراً عن إدراك مراد الشرع، فمن هنا اعتبر العقل مؤيداً لا مصدراً، فهو يعتبر رافداً ولا يعتبر أساساً.
قال: [يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح المعقول لم يخالفه السمع، الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته].
هذا صحيح؛ فإن الذين حكموا عقولهم في أمور الغيب لو أردنا منهم أن يثبتوا أن العقل استطاع أن يأتي بشيء تفصيلي غير ما جاء به الشرع لما استطاعوا، فالعقل لا يستطيع أن يدرك أمور الغيب، مهما بلغ من القوة والذكاء والحدة، فالمتكلمون الذين حكموا العقول وقعوا في معضلات لا يستطيعون التخلص منها، أول هذه المعضلات أن عقولهم لا تتفق، فعقل من نصدق، إنهم لم يتفقوا على أمر قطعي على الإطلاق، أي: أمر قطعي يثبت في أمر الغيب أنه كما هو في الغيب؛ لأنا لم نطلع على الغيب، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن ما نفوه ليس لديهم برهان على نفيه إلا في مدركات العقل العامة، مثل نفي النقائص عن الله سبحانه وتعالى، فهذا أمر قطعي على جهة الإجمال والتفصيل لا يحتاج إلى أن تعمل فيه العقول، لكن تبقى الدلالة على أن هذا اللفظ منفي معناه عن الله سبحانه وتعالى على مراد الله، كنفيهم الاستواء بالعقل، فهم نفوا ما في أذهانهم، ولم يستطيعوا نفي الاستواء الحقيقي؛ لأن الاستواء الحقيقي الذي يليق بجلال الله تعالى لا نعلمه، أليس كذلك؟! وهل يستطيع عاقل مهما أوتي من القوة والذكاء أن يبين لنا كيف يكون استواء الله؟! إذاً: الذي نفوه هو وهمٌ في أذهانهم، فهم لما سمعوا قول الرحمن سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] توهموا أن الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، كاستواء الإنسان على الكرسي، فهل هذا الوهم حق؟! وهل هو قريب من الحق؟! وهل هو محتمل أن يكون حقاً؟! إذاً: هم نفوا ما في أذهانهم من الوهم؛ لأنهم حينما أثبتوا الأوهام التي في أذهانهم أثبتوها بغير دليل، وحينما نفوها نفوها بغير دليل، وأقحموا العقل المسكين في هذا، وهذه أعظم جناية على العقل، قالوا: إن العقل يحيل(1/6)
حرمة تكفير المسلم بذنب أو خطأ
قال: [السادس عشر: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه.
يقول شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فيكف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه].
هنا ينبغي التنبيه على أمر، ولعله سيأتي -إن شاء الله- مستقبلاً بشكل واف في شرح الطحاوية إذا دخلنا فيه، لكن بالمناسبة أحب أن أنبه إليه؛ لأنه قد يعالج بعض المظاهر التي ظهرت لدى طائفة من طلاب العلم المستعجلين هداهم الله، وهذه المسألة هي مسألة التكفير باللوازم والتكفير بالبدعة المكفرة، أو التكفير بالقول المكفر أو التكفير بالأصل المكفر، وأقصد بذلك: أنَّه ليس كل من ارتكب مكفراً يكفر بشخصه، فضلاً عن الطوائف، وليست كل طائفة ارتكبت مكفراً نحكم بكفرها، وسأضرب لكم مثلاً بعدما ضرب المحقق هنا مثلاً بالخوارج، فهناك مثل آخر في المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية، فغلاة المتكلمين منهم خالفوا السلف في قضايا كثيرة، ومع ذلك لم يقل أحد بكفرهم، إلا بعض المستعجلين من المتأخرين هداهم الله، فما قالوه -أي: الأشاعرة وغيرهم- لا يستدعي تكفيرهم، حتى ولو وصل الحال ببعضهم إلى أن يقول بمقولة كفر، فإن تكفيره بعينه أمر يجب أن يتثبت فيه.
وأريد بهذا أن أصل إلى النتيجة الخطيرة التي أردت التنبيه عليها، وهي أن مسألة التكفير لمن لم يستحق الكفر أشد خطأً من ارتكاب صاحب الكفر لما كفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا وقال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إذا خرج التكفير من شخص مع الاعتقاد؛ فلابد من أن يقع هذا التكفير على أحد الشخصين، فإن كان من أطلق عليه الكفر كافراً -وهذا في علم الله- وقعت عليه، وإذا لم يكن كافراً في علم الله رجعت إلى صاحبها فكفر نفسه من حيث لا يشعر، فيجب التنبه لهذا الأمر.
وهناك أمر آخر متفرع عن هذا، وهو أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، صحيح أن هناك ما يسمى بالولاء والبراء، لكن هذه قاعدة إجمالية، ليس كل من واليناه لابد فيه من أن يكون على الاستقامة الكاملة، وليس كل من عاديناه لابد فيه من أن يكون على الضلالة الكاملة، بل قد يجتمع الولاء والبراء في شخص واحد، قد يجتمع الولاء والبراء في غالب المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
إذاً: فمسألة التكفير من أشد المسائل خطورة، وأرى الناس بدءوا يلوكونها وكأنها مجرد أحكام عادية ينتزعها الإنسان متى شاء ويلبسها من يشاء، مع أن هذه مسألة خطيرة لم يتعبد بها أولاً، إنما تعبدنا بالتكفير بالجملة لا بالتعيين، فالتكفير بالجملة معروف وأمر سهل ويعرفه أهل العلم، فاليهود كلهم كفار بالجملة، والنصارى كفار بالجملة، والمشركون كفار بالجملة، ومن خالف قطعياً من قطعيات الدين فهو كافر بالجملة، ومن أخل بركن من أركان الدين فهو كافر بالجملة، لكن تعيين أفراد أو جماعات أو فرق مسألة خطيرة لم نتعبد بها، وأهل العلم كانوا يتورعون فيها أشد التورع، ثم إن أكثر الناس يفهم التكفير دائماً على أنه التكفير المخرج من الملة، ومن هنا ينتزع أقوال أهل العلم في بعض المقولات أو في بعض الأشخاص فيكفر بها، مع أن أهل العلم قديماً إذا أطلقوا التكفير في مسائل أهل القبلة؛ فأغلب ما يطلقونه على التكفير الذي لا يخرج عن الملة، الذي هو كفر دون كفر، ويتورعون كل التورع عن التكفير الذي يخرج عن الملة.
قال: [(1/7)
تنبيه على إصدار أحكام التخطئة في فتن المسلمين
أحب أن أنبه على أمر من النوازل التي حدثت للمسلمين في الآونة الأخيرة، وهو ما يتعلق ببعض الفتن التي ظهرت في أرض الجهاد في أفغانستان، ولن أتكلم عن هذا الأمر بالتفصيل، وأرجو ألا يفهم كما يفعل كثير من المستعجلين، وألا ينتزع مني ما لم أقله، لكني أحب أن أعلق على هذه المسألة بمناسبة الكلام عن مسألة التكفير والتعادي والموالاة والمعاداة ونحو ذلك من أحكام الشرع.
أقول: لقد بدرت من بعض الناس -هداهم الله- بعض الألفاظ والأحكام والمواقف تجاه ما حدث بين الأفغان تخالف منهج السلف، حتى من بعض الذين عقائدهم صحيحة ولديهم شيء من العلم بالسنة، فأرى أنهم تجاوزوا منهج السلف في علاج هذه الأمور، أي: في أثناء الفتن؛ لأن للفتن فقهاً يخالف فقه سائر الأيام والأحوال، ولأن للفتن أحكاماً تخصها، خاصة إذا حدثت الفتن بين فرقتين من المسلمين عملهم واحد في جبهة واحدة وفي مكان واحد كما هو حال المجاهدين، والخلل الذي حصل يتمثل في نظري فيما يتعلق بالمسألة التي ذكرتها في أمور: أولها: سرعة الحكم بالتكفير أو التفسيق أو التخطئة قبل التثبت.
وثانيها: الخلل في مسألة التفريق بين ما تجوز الموالاة فيه والمعاداة وما لا تنبغي الموالاة فيه والمعاداة.
والأمر الثالث: الحكم على الأشخاص باللوازم التي لا تلزم، فقد سمعنا حكماً على أشخاص من خلال تصرفات أتباعهم، وحكماً على الأتباع من خلال عقائد رءوسهم، وحكماً على الغائبين قبل اللقيا بهم والأخذ عنهم، وحكماً على المجاهدين من الأفغان -خاصة القيادات منهم- بمجرد أمور تخرج إما في جرائدهم وإما في كتب يعلمونها أتباعهم أو نحو ذلك، وهذا تكفير باللوازم.
نعم التخطئة ترد، ووزن الأمور بالموازين الشرعية أمر مطلوب، بمعنى: من هو الأفضل والأقرب للسنة، ومن هو الأبعد والأكثر بدعة، فهذا أمر ليس على المسلم حرج في أن يقوله، لكن الإلزام بما لا يلزم أمر خطير قد ترتبت عليه مواقف خطيرة، هذا أمر.
الأمر الآخر: إدراك المصالح العامة ودرء المفاسد، وهذا أمر غاب عن كثير ممن خاضوا في هذا الأمر، حتى بلغ الحد ببعضهم إلى أن يعتبر الجهاد في أفغانستان كله خطأ، وبعضهم ألغى راية الجهاد في سبيل الله وفسرها بتفسيرات بدعية أو بتفسيرات أهواء أو بتفسيرات شبهات أو شهوات عند أصحاب تلك الراية، وبعضهم -أيضاً- تكلم في المجاهدين بما يمنع دعم المسلمين عنهم، وهذه مسألة خطيرة، فأنا أقول: حتى لو اقتنع واحد منا بأنه ينبغي أو يحسن ألا يدفع التبرع لفلان من الناس من رءوس المجاهدين، فهل هذا من المصلحة العامة المترتبة على موقفه هذا فيما يتعلق بأحوال المسلمين عامة؟! يجب ألا نبخل على المسلمين عامة، ويجب ألا نبخل على الأفغان من حيث الخصوص، فهناك الشيوعية الملحدة تحارب الله ورسوله، وهناك أناس يجاهدون في سبيل الله على مختلف نزعاتهم وعلى مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، فلو أن المسلمين اضطروا يوماً من الأيام -كما حدث في فترات التاريخ- إلى أن يجتمعوا بفرقهم الضالة والمستقيمة ضد الكفار الخلص فهل يمنع هذا؟ أترك الجواب لكم، فتأملوا واسألوا أهل العلم وارجعوا إلى قواعد الشرع.
وأعود فأقول: إن نصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنة لابد من أن تجمع مع سائر النصوص الأخرى، كتلك النصوص السابق ذكرها وغيرها، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذه الآية من نصوص الوعيد؛ إذ فيها إشارة إلى خلود القاتل عمداً في النار، ونصوص الوعيد ترد إلى نصوص الوعد، فيرد بعضها إلى بعض، ولا تؤخذ على ظاهرها، بمعنى: أنه لا نأخذ بنص واحد ونجعل الحكم القاطع مبنياً عليه، فالنصوص لابد من أن ننظر إليها بمجملها، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذا من النصوص التي تبين ما يغفر وما لا يغفر، وهذا من نصوص الوعد والوعيد في وقت واحد، فنصوص الوعيد -أي: نصوص التخويف والنصوص التي تتعلق بدخول النار وغيرها- ترد إلى نصوص الوعد بمجموعها، وهذا هو النظر المتكامل الذي ينظره أهل السنة والجماعة، لا يأخذون بنص دون آخر، لذلك قالوا: من أخذ بنصوص الوعد دون نصوص الوعيد فهو مرجئ، ومن أخذ بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فهو حروري، خارجي.(1/8)
شرح العقيدة الطحاوية [2]
لقد كانت مراحل القرون الثلاثة الأولى في جملتها مراحل غلبة لهدي السلف في الاعتقاد، مع حصول النزاع في القرن الثالث، ثم هيمنت أقاويل أهل الكلام بعد ذلك وانحسر منهج السلف إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فانبرى لإبراز منهج السلف بالنقل والعقل، وخط بذلك معلماً بارزاً وشيد مدرسة علمية كان من آثارها تلامذته النجباء كابن القيم رحمه الله تعالى وغيره.(2/1)
المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة إلى زمن ابن تيمية(2/2)
مرحلة تنزل القرآن إلى نهاية القرن الأول
قال: [امتداد مدرسة ابن تيمية: لقد جمع الإمام ابن تيمية رحمه الله منهج أهل السنة والجماعة في العلم والاعتقاد والفهم والعمل والسلوك، وأحياه وحرره تحريراً بديعاً اتسم بسعة العلم وقوة الأمانة وحسن العرض ودقة الضبط، ولكن ابن تيمية سبق ولحق في هذا الميدان بجهاد علمي صادق ومتصل].
أحب أن أشير إلى مسألة أرى أنها مهمة فيما يتعلق بجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في خدمة عقيدة السلف، وأقدم لهذا بالتنبيه على المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة، بمعنى: تقريرها على شكل مؤلفات ومصنفات وتبيينها للناس.
المرحلة الأولى: هي مرحلة تنزل القرآن وإلى نهاية القرن الأول، فهذه الأساس فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يستمدون كل شيء في الدين من القرآن والسنة، ويرجعون فيما لم يدركوه إلى أهل العلم، حتى الصحابة كانوا يأخذون الدين مباشرة عن القرآن والسنة، هذا في الجملة، لكن عامتهم كانوا لا يستطيعون استنباط كل شيء في الدين، فكانوا يرجعون إلى أهل الاختصاص من الصحابة، لذلك برز من الصحابة من برز في اختصاصات شرعية تتعلق ببيان الدين للناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كبروز علي في القضاء وزيد في الفرائض، وبروز غيرهما من الصحابة في بعض الجوانب، وهناك من كانوا مرجعاً علمياً شاملاً كـ ابن عباس وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم من أئمة الصحابة، فكانوا أئمة في الدين يرجع إليهم، وكان منهجهم في تقرير العقيدة لا يعدو إظهار النص والاستنباط من القرآن والسنة ثم التعليق على النص لإيضاحه دون بسط في الشرح أو تصنيف أو مؤلفات؛ لأن الناس كانوا أقرب إلى الفطرة وأفهم للغة وأبعد عن البدع والخرافات، ولم تتشعب بهم السبل ولم تظهر الفرق، فكان الناس على هدي واحد، العقيدة عقيدة الجميع والمنهج منهج الجميع والسنة عليها الجميع، ومن شذ برز شذوذه عند العامة والخاصة، هذا في القرن الأول، فلذلك لم توجد مؤلفات، وما كان الناس بحاجة إلى مؤلفات، إنما كانوا بحاجة إلى تعليم، وقام الصحابة بذلك حق القيام، وبرزت في عهدهم بعض الطوائف، وكان شذوذها ظاهراً كالخوارج والشيعة كما هو معلوم، وسبب بروزها هو أنها تركت تلقي الدين عن العلماء، هذا هو السبب الرئيس الأول، ولا ننسى جهود ابن سبأ، لكن ابن سبأ دخل على هذه الطائفة من الناس لأنهم لم يتلقوا دينهم عن الصحابة، والذين تلقوا دينهم عن الصحابة عصمهم الله.
المهم أنه في القرن الأول كانت العقيدة هي السائدة، وما كانت تحتاج إلى مؤلفات ولا تحتاج إلى مصنفات ولا تحتاج إلى شيء من تقرير الأصول والمناهج الزائدة على ما في النصوص.(2/3)
مرحلة القرن الثاني
المرحلة الثانية: مرحلة ما ظهر في القرن الثاني، وقد استجد فيها على أئمة المسلمين أمر، وهو الرد على أهل البدع، وصاحب هذا الرد ضرورة وضع الموازين والأصول الأولى في مهمات العقيدة، كالإيمان تعريفه ومسماه وزيادته ونقصانه، والقدر ومفهومه، والرؤية، وكلام الله وأسمائه وصفاته، فهذه الأمور كانت في القرن الأول تفهم جملة، وما كان الناس يتحدثون عن جزئياتها؛ لأنهم يفقهونها في الجملة.
وأما في القرن الثاني فظهرت المرحلة الثانية، وهي ضرورة الدفاع عن هذه الأصول وإبرازها كأصول مستقلة لها حدود تعرف بها وتفهم عند الناس، ووضعت لها ضوابط معينة، وظهرت مسألة الاستدلال الشامل على هذه المسائل، بمعنى أنه اضطر أئمة الدين إلى أن يأخذوا الأدلة من الكتاب والسنة، ويبرزوها مستقلة إما على شكل كتب أو مصنفات، وإما على شكل مناظرات أو مجالس علمية في موضوع ما، كما في الرؤية، حيث استقيت نصوص الرؤية وظهرت في هذا الوقت جلية؛ لأنه ظهر من أنكر الرؤية وتكلم بذلك، وكذلك كلام الله، والقرآن، ومسألة أسماء الله وصفاته، فأبرزت النصوص المستقلة في هذا الأمر، وكذلك الوعد والوعيد، فاضطر السلف إلى أن يأخذوا نصوص الوعد ويبرزوها، ثم نصوص الوعيد ويبرزوها، وأخذوا منهجاً وسطاً -وهو منهج الحق- بين الوعد والوعيد، وهكذا بين منكري القدر والجبرية وغيرهم.
وفي المرحلة الثانية أيضاً ظهرت المصنفات الصغيرة في جزئيات العقيدة، في الرد على فرق بعينها، وفي كتابة المسائل المحدودة المعينة، لكنها مصنفات قليلة.(2/4)
مرحلة القرن الثالث
المرحلة الثالثة: القرن الثالث، وقد ظهر فيه اتجاه أشمل من الاتجاهات السابقة، وهو ضرورة، فحينما ظهرت البدع وظهرت لها أصول في الاعتقاد، وظهرت لها مصنفات وكتب شاملة؛ اضطر السلف إلى الكتابة في العقيدة في كتب الشاملة تجمع بين الأصول وبين النصوص المستدل بها، وبين الآثار المنقولة عن أئمة الدين الذين سبقوا في القرن الثاني والأول، وهذه المصنفات هي المصنفات الشاملة في أصول الدين في العقيدة، وهي المسماة بكتب السنن، أي: الآثار، وأغلبها في العقيدة، لا أقصد كتب الحديث، وإن كانت كتب الحديث اهتمت فعلاً بالعقيدة وبوبت لها، وهذا اتجاه جديد لم يكن يوجد في القرن الأول والثاني، والتبويب للعقائد في كتب الحديث هو -أيضاً- من سمات هذه المرحلة الثالثة، لكن من أبرز سماتها وجود المصنفات الشاملة التي تجمع بين النصوص والقواعد والمناهج والمفاهيم والتعريفات بمسائل أصول الدين والرد والمناقشة في وقت واحد، فكتب السنة الكبيرة بدأت في هذه المرحلة، مثل السنة للإمام أحمد، والسنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، وكذلك مؤلفات ابن سلام وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم من الأئمة الذين عاشوا في ذلك العصر.(2/5)
مرحلة القرن الرابع وما بعده
وبعد القرن الثالث جاءت المرحلة الرابعة، وهي مرحلة هيمنة كتب الكلام والمسائل الكلامية على الاتجاه العلمي في أغلب بلاد المسلمين، وهذا لا يعني أن عقيدة السلف اندثرت، بل كانت موجودة ولها رجالها ولها مصنفاتها ولها كتبها، لكن الذي ساد بين الناس في القرن الرابع وما بعده إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية هو الاتجاهات الكلامية، اتجاهات الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، حتى اتجاهات فرق الرافضة والباطنية ظهرت في تلك الفترة، وهيمنت جميعها على كثير من بلاد المسلمين، وسبب ظهور هذه الاتجاهات يرجع إلى أمور: منها ظهور دويلات الطوائف العقيدية، كدويلات العبيديين الفاطميين، ودويلات القرامطة والبويهية، ودويلات الخوارج كالرستمية، وما جاء بعدها فهذه الطوائف هيمنت على كثير من بلاد المسلمين، إذا لم نقل: إنه في هذه الفترة من القرن الرابع وما بعده كادت أن تهيمن على كل بلاد المسلمين، وهذه الهيمنة السياسية هي التي مكنت لهيمنة المذاهب الكلامية على المدارس والاتجاهات والصبغة العلمية العامة، حتى صار مذهب السلف لا يوجد إلا في رجاله، بمعنى أنه لا يتبنى سياسياً، وإلا فهو موجود في مدارسه واتجاهاته، وأهله ينافحون عنه وهم ظاهرون، بل هم المعتبرون عند الأمة في العموم، لكن مع ذلك هيمنت على أكثر المؤلفات والاتجاه العلمي المذاهب الكلامية إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية.(2/6)
جهود شيخ الإسلام في إظهار مذهب السلف
لقد انبرى شيخ الإسلام ابن تيمية لإظهار مذهب السلف إظهاراً علمياً قوياً بما آتاه الله من مواهب، فكانت جهوده تتلخص في أمور: الأمر الأول: استقراء أقوال السلف وإظهارها بارزة نقية واضحة ليس فيها لبس وليس فيها غبش؛ لأن آثار السلف كانت موجودة في وقته، ولكن كل يستدل بها على منهجه، حتى المتكلمون كانوا يستدلون بأقوال السلف على مناهجهم بأسلوبهم في الاستدلال، فكان هناك شيء من الغبش عند كثير من الناس، فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان من أعظم أعماله أنه أبرز مناهج السلف وأقوالهم وعقائدهم وما هم عليه في كل فروع الدين ومسائله وأصوله إبرازاً واضحاً جلياً.
والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً لم يقم به أحد مثله، أعني: في العقيدة، فدافع دفاع المتمكن، واستعمل جميع وسائل الدفاع المباحة، ومن ذلك وسائل المتكلمين أنفسهم، والتزام مناهج السلف في اعتماد الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بالآثار، واعتماد الإنصاف والعدل في القول، وتحري الحق، واعتماد استعمال البرهان العقلي وقلب الحجة على المنازع، وهذا مما برع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث استعمل مناهج المنازعين لأهل السنة والجماعة ضدهم، كما في درء التعارض، وفي نقض التأسيس وفي غيرهما من كثير من الكتب؛ جعل وسائلهم في تأويل مسائل الدين وفي مجانبة أقوال السلف هي الحجة عليهم، لأنهم في الغالب قلبوا الاستدلالات، وسأضرب لكم مثالاً على قلب الاستدلال عند المتكلمين ليتضح منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في إبراز هذه المسألة، فقاعدة المتكلمين -خاصة المتأخرين منهم- في وضع أصولهم التي تقوم على التأويل والمجاز والتعطيل أنهم يعتبرون النص ظنياً والعقل قطعياً، فما رأيكم في هذه القاعدة؟! أليست مقلوبة؟! ومع ذلك انطلت على صغار طلاب العلم وعلى بعض المتكلمين مدة طويلة، أي أن الأصل في النصوص الشرعية الظني والأصل في العقل القطعي، وهذا مصادم للفطرة والعقل السليم، لكن مع ذلك ساد، حتى صار هو القاعدة الكبرى التي يعتمد عليها المتكلمون، فـ شيخ الإسلام قلب عليهم هذا الاستدلال وأقر فيه الحق، وقال: العكس هو الصحيح، فالأدلة الشرعية هي القطعية؛ لأنها معصومة ولأنها صادرة عن المعصوم، والصادر عن المعصوم معصوم، وهو القطعي، وأدلتكم العقلية ظنية؛ لأنها صادرة عن البشر، والبشر ناقص، والصادر عن ناقص ناقص.
إذاً: أتقيسون الكامل -وهو وحي الله- بالناقص؟! بل ليس الأمر كذلك، أتجعلون الناقص هو الحاكم على الكامل؟! أيجوز هذا؟! فقلب عليهم مناهجهم.
إذاً: فشيخ الإسلام ابن تيمية أبرز مناهج السلف وعقيدتهم على هذا الشكل، ولم يأت بجديد، ومدرسته ليست مدرسة مستقلة، ومذهبه ليس بمذهب مستقل، وقد حماه الله تعالى من أن يبتدع أتباعه له مذهباً ينسبونه إليه، وهذه كرامة له، مع أنه أتى بشيء عجيب، وقام بجهد لم يقم به مثله في وقته ولا بعده، مع ذلك لم يكن لأتباعه تعصب، ولم تكن لهم ميزة تميزهم عن أهل السنة والجماعة، بل أتباعه هم أهل السنة والجماعة، أما لمز الخصوم فهذا لا يعتد به.
وأمر آخر أيضاً في عمل شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أنه جمع بين التقرير والدفاع، بين تقرير العقيدة ببيانها وإيضاحها وشرحها وتفصيلها ولم يبتدع شيئاً، فكل ما قاله يستند فيه على الآثار بعد النصوص.
والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً قوياً، بمعنى أنه جلَّى مذاهب السلف وبينها ونقحها مما دخلها بسبب عبث المتكلمين.
وأمر آخر: هو أنه دافع عن كل اتهام لرجال السلف، وعن كل اتهام لرجال العقيدة، ثم فند أقوال الخصوم، فصار تراثه وعمله هو تراث أهل السنة والجماعة، ونسبته إليه إنما هي لأنه إمام من أئمة أهل السنة، لا لأنه انفرد بجهد أو جاء بجديد، أو نهج منهجاً غير منهج السلف، بل كل أصوله مبنية على مناهج السلف، لذلك لما خاصمه بعض المتكلمين في وقته فيما يتعلق ببعض التأويلات وبعض البدع تحداهم بتحد لم يجيبوا عليه إلى الآن، حيث قال: إن أصولكم لا يوجد ما يدل عليها عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، وقال: أنا أمهلكم ثلاث سنين، فهاتوا لي إماماً واحداً من أئمة الدين المعتد بهم قال بقولكم الذي قلتم به في مسائل التأويل والإيمان ومسائل القدر وغيرها التي خالفتم فيها السلف، فوقفوا ثلاث سنين ولم يجيبوه، فبعد ذلك انتصرت السنة بحمد الله، ولا يزال منهج شيخ الإسلام ابن تيمية هو منهج السلف، ونسبته إليه ليست لأنه ابتدع شيئاً، إنما هي لأنه حرر مناهج السلف وبينها واستقرأها وكتب فيها ودافع عنها، فكان منهجه يتمثل في منهج أهل السنة والجماعة.(2/7)
حقيقتان في منهج أهل السنة(2/8)
تقرير أهل السنة للاعتقاد العاصم في مسائل زلات الفرق
قال: [وخليق بنا أن نذكر هنا حقيقتين كبيرتين: الأولى: أن أهل السنة والجماعة وهم يبينون العقيدة المنجية في توحيد الله تعالى وما يلحق بها من شعب الإيمان الأخرى، يُجْلُون في الوقت نفسه ووفق المنهج المعتمد وفي ذات السياق الاعتقاد العاصم في مسائل عدالة الصحابة وتفضيل الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وخيرية القرون الأولى، والإمامة، وعدم منازعة الأمر أهله، ومضي الجهاد، والكف عن تكفير المسلمين بالمعاصي والذنوب التي هي دون الشرك الأكبر وهي مما اختلف فيه، ووحدة الجماعة، والتزام المنهج الصحيح في فهم الدين.
إن هذا الترابط الموضوعي والمنهجي بين التوحيد وبين هذه المسائل يدل على: أ- أن التوحيد هو المنهج الحاكم الذي يجب أن تفهم كل مسألة في هداه.
ب- أن الانحراف في هذه المسائل ذريعة إلى جرح التوحيد وإمراضه.
مثال ذلك: عدالة الصحابة، فإن القدح في هذه العدالة ذريعة إلى رد آيات قرآنية أخبرت بفضل الصحابة وعدالتهم، ورد القرآن إلحاد من الإلحاد.
جـ- أن الذين جادلوا في الباطل في القديم والحديث في هذه المسائل لم يعرفوا بصحة العقيدة].
فيما يتعلق بعدالة الصحابة أحب أن أشير إلى ظاهرة ظهرت كثيراً في الكتاب المحدثين، وهي: التجرؤ على بعض الصحابة، على جملة منهم أو واحد أو اثنين أو أكثر باختلاف نزعات هؤلاء الكتاب، لكن أحب أن أشير إلى أمر مقرر عند السلف، وهو أن القدح في صحابي واحد -أياً كان- في دينه وعدالته هو ابتداع وعلامة نفاق، ومن قدح فهو مبتدع، بل من علامات أهل البدع القدح في بعض الصحابة، وهي من علامات الزيغ نسأل الله العافية، ولا يعني ذلك أن الصحابة معصومون، لكن الصحابة أجمعت الأمة على عدالتهم في الجملة، وعلى أن القدح في أحدهم إنما هو زيغ ونفاق، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن هذه الظاهرة إنما هي علامة ابتداع في هذا العصر، وقد كثرت حتى بين كتاب ينتمون إلى الدعوات الإسلامية والفكر الإسلامي، ولا يتورعون عن القدح في صحابي ما أو نسبة بعض البدع إليه، كمن ينسبون بعض الأمور إلى عثمان رضي الله عنه، أو بعض الأمور إلى أبي ذر رضي الله عنه، أو إلى أبي الدرداء، أو إلى ابن مسعود أو إلى غيرهم، وبعضهم يتهم بعض الصحابة ببعض الأهواء، حتى لو لم ينسب إليه بدعة معينة، فربما قدح فيه ليطعن في قوله أو في روايته، حتى ظهر فيمن ينتسبون إلى المتكلمين في العصر الحديث من يقول بأن الأحاديث التي رواها متأخرو الصحابة في الصفات لا تؤخذ، وهذا قدح مبطن.
أقول هذا لأن هذه المقولات كثرت في الكتب التي بين أيدينا، وأنا أقول: الذي أعرفه من منهج السلف وأئمة الدين أن القدح في الصحابي ابتداع، وهو علامة الزيغ نسأل الله العافية.(2/9)
عقيدة أهل السنة عقيدة أئمة الدين
قال: [الثانية: أن جمهور علماء أهل السنة والجماعة وأئمتهم من المذاهب الأربعة المشهورة وغيرها على عقيدة واحدة، وإن اختلفت في الفروع الاجتهادية، وقد كتب في ذلك علماء مشهورون من مختلف المذاهب، كالإمام الطحاوي الحنفي في عقيدته هذه، وكالإمام أحمد رحمه الله فيما نقل عنه من رسائل وإجابات في العقائد، وكالإمام البخاري، وكـ ابن زيد القيرواني المالكي في رسالته المشهورة، وكالإمام عبد القهار بن طاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) وغيرهم].(2/10)
آثار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
قال: [لقد بارك الله في جهاد ابن تيمية رحمه الله، فجعل له أثراً صالحاً باقياً ماثلاً في مدرسة علمية وفكرية متكاملة لها منهجها وأسلوبها وطابعها.
فمن هذا الأثر تلاميذه وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته.
وقال شيخ الإسلام التفهني الحنفي: والإنسان إذا لم يخالط ولم يعاشر يستدل على أحواله وأوصافه بآثاره، ولو لم يكن من آثاره -أي: ابن تيمية - إلا ما اتصف به تلميذه ابن قيم الجوزية من العلم لكفى ذلك دليلاً على ما قلناه.
ومن هذا الأثر كتبه الكثيرة العدد النفيسة القيمة الواسعة الانتشار.
ومن هذا الأثر ثناء المؤمنين عليه في كل زمان ومكان].
مما هو معروف عند أئمة السلف أن الطعن في أئمة الدين الكبار إنما هو من علامات أهل البدع، ولا يعني ذلك أن أئمة الدين الكبار معصومون كل العصمة، لكنهم يمثلون القدوة للأمة، والطعن فيهم على سبيل اللمز أو على سبيل الطعن فيما جاء عنهم أو التهكم إنما هو طعن في مذاهب السلف وفي سبيل الأمة أو الجماعة، فمثلاً: الطعن في الإمام أحمد رحمه الله من علامات أهل البدع أياً كان هذا الطعن، ولا يتصور أن يكون الطعن طعناً مباشراً، فأغلب الذين يتعرضون للأئمة الكبار يتعرضون لهم بتلبيس من الكلم، بمعنى أنا نجد أن أحدهم قد يثني على مثل الإمام أحمد فيقول: وهو إمام في الدين، وله كذا وكذا، لكنه في قوله بالصفات ذهب إلى مذهب الحشوية أو إلى مذهب كذا، فيثني ثم يلمز، وهذه من علامات أهل البدع، لا يجرئون على الطعن في الجملة في أئمة الدين أو في الإمام الواحد، إنما يثنون ثم يلمزون، ومثله الإمام البخاري والإمام مسلم أو ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم من الأئمة الذين رضي أهل السنة والجماعة في الجملة هديهم وما جاءوا به وما هم عليه، وكونهم يخطئون في بعض الأمور أمر يجب أن نقول به، بمعنى أنهم قد يخطئون في بعض الأمور؛ لأنه لا يمكن أن يكونوا معصومين، إلا أن ما يقع منهم من خطأ لا يوصل إلى الطعن فيهم، هذا أمر.
والأمر الآخر: أنهم بإمامتهم وجلالتهم قدوة المسلمين، واستهداف أشخاصهم إنما هو استهداف للقدوة، ثم هو استهداف للدين.
والأمر الثالث: أن هناك فرقاً بين الطعن وبين النقاش، فيجوز لمن آتاه الله علماً أن يقول: أرى أن فلاناً من الأئمة لم يقصد كذا، أو: عذره في الأمر الفلاني كذا، أو: إن الدليل هو كذا، ولا يطعن في الشخص، أما إذا طعن في إمام من الأئمة فهذا علامة ابتداع، ولا يزال من أبرز علامات المبتدعة الطعن في مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد وغيرهما، وكذلك اللمز والطعن غير المباشر، كما هو موجود في بعض الاتجاهات الحديثة عند المتكلمين.(2/11)
مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث(2/12)
جهود الملك عبد العزيز في نشر عقيدة أهل السنة
قال: [مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث.
مضى على عصر ابن تيمية أربعة قرون تقريباً، ولم تخل هذه القرون الأربعة من داعية للحق قائم بعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن حدثاً وقع في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري كان له الأثر الكبير في انتشار عقيدة أهل السنة والجماعة والالتزام بمنهجهم في الفهم والتطبيق، ذلكم هو قيام الدولة السعودية في جزيرة العرب مناصرة للدعوة الإصلاحية التي نادى بها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والتي تدعو الناس إلى العودة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والالتزام بما كان عليه سلف الأمة الصالح وتطبيق شريعة الله جل وعلا.
لقد تهيأ لهذه الدعوة من أسباب التمكين ما لم يتهيأ لدعوات كثيرة قبلها وبعدها، وهذا من فضل الله، تهيأ لها سبب الدولة أو السلطة، وبهذا السبب الذي هيأه الله تعالى قويت الدعوة وتمكنت وانتصرت في عهد مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله، ومن جاء بعده من بنيه وأحفاده حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري، حيث قام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله بما يجب القيام به تجاه عقيدة أهل السنة والجماعة وإلزام الناس بتطبيق شريعة الله والحكم بينهم بموجبها.
يقول المشايخ محمد بن عبد اللطيف وسعد بن حمد بن عتيق وعبد الله بن عبد العزيز العنقري وعمر بن محمد بن سليم ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف رحمهم الله: ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف وتسلط الأعداء والرجوع إلى كثير من عوائدهم، حتى مَنَّ الله في آخر هذا الزمان بظهور الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل أيده الله ووفقه، وما مَنَّ الله به في ولايته من انتشار هذه الدعوة الإسلامية والملة الحنيفية، وقمع من خالفها وإقبال كثير من البادية والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة، وكذلك ما حصل بسببه من هدم القباب ومحو معاهد الشرك والبدع وردع أهل المعاصي والمخالفات، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين زادهما الله تعالى تشريفاً وتكريماً].(2/13)
ركائز قيام الدولة السعودية
بمناسبة الكلام عن جهود الملك عبد العزيز رحمه الله أحب أن أشير إلى أمر هو معروف، لكن التذكير به من باب الأمانة والنصيحة.
فنحن نعرف جميعاً أن الدولة السعودية منذ قيامها ونصرها لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قامت على ركائز: الركيزة الأولى: نصر الدعوة في الجملة، بمعنى أنها قامت أساساً بعهد شرعي عليه البيعة على نصر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي هي دعوة أهل السنة والجماعة دعوة الحق، هذه الركيزة الأولى.
الركيزة الثانية: قامت على نشر التوحيد، وهذا من أهم الركائز التي قامت عليها الدولة السعودية.
الركيزة الثالثة: محاربة البدع المخالفة للدين أياً كان نوعها، كل ما يخل بالدين ويخل بعقيدة الأمة هو أمر مرفوض، فقامت الدولة على حماية عقيدة المسلمين وعباداتهم في هذا البلد من ذلك.
الركيزة الرابعة: تطبيق شرع الله، والذي يتمثل في أمور: أولها: تحكيم شرع الله في كل شيء، وثانيها: إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثالثها: نشر الدين بنشر العلم الشرعي الصحيح وحماية الأمة من أي علم يخل بعقيدتها ودينها.
الركيزة الخامسة: المحافظة على الحرمين، يعني: العناية بالحرمين على مقتضى الدين الصحيح، وحمايتهما من البدع وحماية المناسك من كل ما يطرأ من جهالات المسلمين وغيرها.
وهذه الركائز هي عهد بين الدولة السعودية وبين هذه الأمة التي رضيتها ورضيت بإمامتها وبايعتها على الكتاب والسنة، وهذا العهد باق إن شاء الله وسيبقى، وأي إخلال بهذا العهد إنما هو علامة إدبار وعلامة تفرق وعلامة شر وفتنة، نسأل الله أن يعصمنا ويعصم ولاة الأمر من ذلك.(2/14)
تصنيف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقد يقول سائل: هل الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام المرحلة الثالثة؟ فنقول: السلف جماعة واحدة، لا يفرق بينهم الزمان، والمراحل أمور اصطلاحية فنية، فيجوز أن نقسم المراحل إلى المئات والآلاف والعشرات، ويجوز أن نلغي المراحل ونقول: مذهب أهل السنة والجماعة مرحلة واحدة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فهذه أمور اصطلاحية، أما أن يقال: إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أكثر وجوهها العلمية والاعتقادية هي امتداد لدعوة ابن تيمية فهذا صحيح، لكن لا يعني أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب انفرد بشيء، اللهم إلا بأمور تقتضيها ظروف الزمان والمكان، فـ محمد بن عبد الوهاب أتيح له بنصر الدولة السعودية وبنصر الجماعة من أهل التوحيد ما لم يتح لشيخ الإسلام ابن تيمية، هذا هو وجه الفرق، أما ما عدا ذلك فالاتجاه فيه واحد، وكل في اتجاه السلف، ولا ننسى أنه قامت دعوات إصلاحية على مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المسلمين الأخرى غير دعوة الشيخ، لكن لم يكن لها أثر كأثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
قال: [وكان أمر العقيدة جلياً لدى الملك عبد العزيز؛ إذ يقول رحمه الله: يسموننا بالوهابيين ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أهل مذهب جديد وعقيدة جديدة، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وكلهم محترمون في نظرنا.
هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة].
ذكرني هذا ببعض الركائز، وقد نوه بها الملك عبد العزيز رحمه الله مرات عديدة، بل هي تعتبر من أعظم الأسس التي كان يعتمد عليها عملياً ويقول بها نظرياً، وقد التزمها في سائر حياته، وهي: اعتبار أهل العلم أئمة الدين، اعتبارهم بكل معاني الاعتبار، ليس اعتبار المجاملة ولا مجرد اعتبار التقدير والاحترام، إنما اعتبار العمل والتطبيق، فكانوا هم الشيوخ، وكان كل أمر ذي بال يتعلق بالأمة يصدر عنهم، وكانت المصالح الكبرى للأمة تصدر عنهم، وهذا هو العهد الذي كان بينهم وبين الملك عبد العزيز رحمه الله، وهو عهد قد التزمه وتعهد به وتوعد من يخالفه.
ومن الركائز التي كان كثيراً ما يحرص عليها الملك عبد العزيز تطبيق الحدود، وهذه هي التي تعتمد عليها الدولة الإسلامية أياً كانت في ترسيخ أمرها وفي حماية دينها وفي مصداقية تطبيقها لشرع الله، فأعظم مصداقية لتطبيق الشرع هي تطبيق الحدود وحماية الدين من الردة ومن انتهاك الحرمات ونهب الأموال، وغير ذلك مما يستوجب الحدود.
فهذه من الركائز المعلومة البدهية عند عامة أهل العلم، بل وعامة أهل البلاد، فكلهم يعلم أن هذه الدولة -بحمد الله- قامت عليها، ونرجو أن تستمر عليها بإذن الله.(2/15)
جهود الملك عبد العزيز في نشر العقيدة خارج بلاده
قال: [وإذ يستعمل الملك عبد العزيز سلطانه في التمكين للتوحيد والعقيدة المنجية في بلاده، فإنه ينشرها خارج بلاده بوسيلتين اثنتين: الأولى بعث الدعاة، والثانية نشر كتب التوحيد الخالص، وعقيدة أهل السنة والجماعة.
ومما أمر بنشره من كتب العقائد: العقيدة الواسطية، والتوسل والوسيلة، ومنهاج السنة، والعبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومجموعة التوحيد، وهي مجموعة رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ سليمان آل الشيخ حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الله العنقري والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ سليمان بن سحمان، ولمعة الاعتقاد لـ ابن قدامة، وغير ذلك من الكتب المبينة لعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ولهذا السبب -سبب تسخير سلطة الدولة في نصرة الإسلام- وجدت الدعوة من الانتشار والتمكن ما لم تجده دعوات أخرى كثيرة فردية وجماعية، وبرز هذا الانتشار في العالم الإسلامي كله في مدارس فكرية ونشاط دعوي وجهود متصلة لإحياء تراث أهل السنة والجماعة.
إن لانتشار الدعوة الإسلامية في تاريخ المسلمين الحديث وحياتهم المعاصرة سبباً أو أسباباً، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب دعوة الإحياء العامة لمنهج أهل السنة والجماعة التي نهض بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والتي نصرها آل سعود دولة بعد دولة وإماماً بعد إمام، منذ محمد بن سعود إلى يوم الناس هذا، فلا يزال المنهج الإسلامي يحكم حياة المملكة العربية السعودية في الاعتقاد والاجتهاد والسلوك.(2/16)
أسباب الاهتمام بالعقيدة(2/17)
اجتماع الناس على أصول الحق
قال: [العقيدة التوقيفية الجامعة.
لماذا هذا الاهتمام بالعقيدة والبحث في مصادرها العلمية ومسارها التاريخي في القرون الأولى، ثم القرون: الرابع والخامس والسادس، ثم عصر ابن تيمية، ثم ما بعد ابن تيمية إلى يوم الناس هذا؟ والجواب عن ذلك: أولاً: أن أصول الحق هي التي تجمع الناس مهما تعددت أمكنتهم ومهما باعدت بينهم الأزمنة، ومهما اختلفوا في فروع الفقه.
إن النصوص التي أشرنا إليها والتي تتكلم عن مفهوم العقيدة لدى الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية وعند ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والملك عبد العزيز وغيرهم من أئمة الهدى، هذه النصوص لم تتطابق في المفهوم فحسب، وإنما تطابقت في اللفظ كذلك].
قبل أن نتجاوز الكلام عن المذاهب أحب أن أشير إلى أمر من الأمور التي قد تخفى على كثير من الذين لم يتأملوا مسار العقيدة في القرون الثلاثة الفاضلة، ويتضح هذا بخطأ ساد عند كثير من الباحثين وطلاب العلم، وهو اعتقادهم أن بعض المذاهب أو الفرق لها ارتباط بالمذاهب الأربعة على وجه ما من الارتباط.
أقول: هذا أمر حادث بعد القرون الثلاثة الفاضلة، أما في القرون الثلاثة الفاضلة التي هي القدوة والتي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن للمذاهب أي ارتباط بالفرق، بل كانت المذاهب الأربعة كلها -مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - على السنة، وأئمتها جملتهم كانوا على السنة، وكانت هذه المذاهب بأتباعها -سواء العلماء وطلاب العلم والعامة- على السنة، وإن كان قد يوجد من أتباع الفرق من ينتمي إلى المذاهب، كبعض الشيعة قبل أن يكون لهم فقه مستقل، وكبعض المعتزلة والجهمية، لكن هذا أمر لا دخل له في صبغة المذاهب نفسها، فالصبغة الشرعية هي صبغة المذاهب، فكانت كلها على السنة، وهذا بإجماع، بل هو واضح جداً لا لبس فيه، فالإمام أبو حنيفة كان على السنة، وتلاميذه الأوائل كانوا على السنة، والإمام مالك كان من أئمة السنة المنافحين عنها المقررين لها، وتلاميذه الأوائل في القرون الثلاثة الفاضلة كانوا على السنة، والإمام الشافعي كذلك، والإمام أحمد لا نحتاج إلى أن نبين ذلك عنه، إذاً: اللبس إنما حدث بعد القرون الفاضلة، ففي القرن الرابع بدأ التمشعر على يد الأشاعرة، وكانوا من أتباع المذاهب، ثم في الآونة الأخيرة بعد القرن الرابع اقترنت تبعية المذاهب بتبعية الفرق بناء على حال الحكومات والسلاطين، فإذا كان السلطان -مثلاً- حنفياً وأشعرياً ربط الأحناف بالأشاعرة، وإذا كان حنفياً ماتريدياً ربط الأحناف بالماتريدية، وهكذا حتى صار الآن المفهوم عن كثير من المذاهب أنها مرتبطة بالفرق، وهذا ارتباط كله حادث، ولم يكن في العصور الأولى للمذاهب حينما كانت المذاهب مذاهب اجتهادية يقع فيها الخلاف ويرضاها المسلمون جميعاً، وبعدما تحولت إلى التعصب تحولت إلى الافتراق.
قال: [وهذا برهان مبني على: أ - الصدور عن الأصلين المعصومين: الكتاب والسنة.
ب - صحة المنهج العلمي في الاعتقاد والفهم.
ت - دقة الالتزام بالمنهج.
فالحق هو الحق في كل زمان ومكان، فإذا صح منهج التلقي ومنهج الفهم وحصل الصدق في الالتزام اجتمع الناس على الحق، وإن فصلت بينهم التخوم والقرون، فالأنبياء والمرسلون صلى الله عليهم وسلم اجتمعوا على أصل الديانة وإن لم ير بعضهم بعضاً، وإن ظهروا في عصور تطاولت بينها الآماد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، والمسلمون مأمورون بالاقتداء بالأنبياء في الاجتماع على الأصول].(2/18)
العقيدة ميزان توقيفي لا يضطرب
قال: [الثاني: أن العقيدة ليست مذهباً اجتهادياً، بل هي الميزان الثابت الذي لا يضطرب ولا يطيش، إن العقيدة هي معرفة مراد الله تعالى من الديانة، ومن بعث الرسل وإنزال الكتب، وخلق الجن والإنس، ثم الاستقامة على هذا والعمل بمقتضاه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة في العلم بمراد الله وفي العمل بمقتضاه، ولقد اقتدى الصحابة ثم سائر القرون المشهود لها بالخيرية بالرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد الحق، وندب الله الأئمة في كل عصر لتبيين الاعتقاد الصحيح الذي هو العقيدة التوقيفية الجامعة، ومن القول الفصل الدال على أن الاعتقاد الصحيح هو الفرقان بين الحق والباطل: أن الذين التزموا هذه العقيدة استقاموا على الطريقة وصلحوا وأصلحوا في العلم والدعوة والحكم والعمل والجهاد، وأن الذين شذوا عن هذه العقيدة تفرقت بهم السبل وعظم فهمهم واضطربت أقوالهم وأفعالهم، وفسدوا وأفسدوا، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32].
يقول ابن تيمية رحمه الله: وطريقتهم - أي: أهل السنة والجماعة - هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة).
ويقول: ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد، فقال - أي: ابن تيمية -: ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني، بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، يؤخذ من كتاب الله ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة، وما ثبت عن سلف الأمة.
ويقول: فقلت لا والله ليس لـ أحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين، وأهل الحديث والصوفية].(2/19)
الاستدلال بما وافق الحق من قول المخالف منهج سلفي
لعلنا نقف وقفة تأمل عند كلام شيخ الإسلام، وهذا الكلام الذي سأقوله كثيراً ما يردده هو وغيره من أئمة السلف الأقدمين، وذلك في مسألة الاستدلال بقول المخالف فيما يوافق فيه مما عنده من حق، وأقصد بذلك أن أئمة السلف لا يمنعون من الاستدلال بقول الصوفية فيما وافقوا فيه أهل الحق، أو تقوية الحق بأقوال المتكلمين فيما وافقوا فيه الحق، أو الاستدلال بالحق الذي عند أي فرقة أخرى إذا كان يعزز قول أهل السنة والجماعة ومنهجهم، بل هو من باب إقامة الحجة على المخالفين فيما خالفوا فيه إذا أيدناهم فيما وافقوا فيه، أقصد أن المخالف إذا أخذت عنه ما وافق فيه ألفت قلبه ليأخذ عنك فيما خالف فيه، هذا من ناحية، والناحية الأخرى هي قاعدة في الإنصاف والعدل، ليست مجرد سياسة أو مجرد منهج للتقريب والترغيب، إنما هي قاعدة شرعية تقوم على العدل والإنصاف، وأقصد بها أنه إذا كان مع الخصم أو المخالف ما يوافق الحق فيجب الاعتراف له به، سواء أكان دليلاً أم قولاً أم خلقاً أم فضيلة من الفضائل، فإذا كان مع المخالف لك والمخالف لأهل السنة والجماعة دليل صحيح أو قول صحيح أو سلوك صحيح أو فضيلة من الفضائل فلا بد من الاعتراف به إنصافاً وإحقاقاً للحق، وهذا هو الذي يقرب الناس إلى الخير ويؤلفهم.
إذاً: هذا منهج لأئمة السلف، ولم يتفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان كثيراً ما يعول على هذا الأمر، حتى إن بعض طلاب العلم يعجب ويظن أن شيخ الإسلام إذا ذكر أقوال الصوفية وذكر أقوال المتكلمين فكأنه بهذا أقرهم على جملة مقولاتهم الأخرى، وأقول: هذا خلل في تصورنا وليس خللاً في منهج السلف، فـ شيخ الإسلام وغيره من الأئمة يأخذون ما يوافق الحق من الآخرين، وينصفونهم إذا تكلموا عنهم، ينصفونهم في القول عنهم وينصفونهم في الحكم لهم، والإنصاف لا يعد خضوعاً ولا يعد خنوعاً ولا يعد ترويجاً للمخالف، كما يظن كثير من صغار العقول، يظنون أنه إذا أنصف الخصم أو أنصف المبتدع أو اعترف بما لديه من فضيلة؛ فكأنه بذلك يهزم الحق أو أن في ذلك عليه أو على أهل الحق غضاضة، وهذا غلط مجانب للصواب وليس عليه أئمة السلف، إلا في حالات يقدرها أهل العلم إذا خشوا فتنة العامة بإنصاف المبتدع أو خشوا أموراً أخرى يقدرونها لا يقدرها الفرد ولا تكون ميزاناً ولا تكون قاعدة ولا تكون منهجاً، إنما هي أحكام شاذة قليلة قد يرد فيها أن يتغاضى صاحب الحق عما عند خصمه إذا تبين أن الفتنة بذلك تكبر وتكثر، وهذا نادر جداً ولا يصح أن نعول عليه ولا أن نجعله قاعدة.
إذاً: أنبه على منهج أئمة الدين في هذا الأمر، ويتلخص في أمور آخذ منها ثلاثة: الأمر الأول: الاعتراف بما لدى الخصم من الحق، وإعلان ذلك.
وبعض الناس يضيق، ولا تتحمل أعصابه أن يعترف بفضيلة الخصم، وهذا خلل، وهو أمر يجب أن نتجاوزه.
الأمر الثاني: الإشادة بجوانب الفضل عند المخالف، من مبتدع أو متكلم أو متصوف أو جماعة من الجماعات في القول أو السلوك، لا كما يحصل الآن من التراشق والنبز بالألقاب بين الجماعات والدعاة مع الأسف، حيث نجدهم لا ينصفون، فإذا تكلم المخالف عن جماعة تخالفه تجده كأنه لا يعرف إلا السيئات، مع أنه يعرف حسناتهم ويعرف فضائلهم، بل بعضهم لبس عليه الشيطان إلى حد أن يقول: الفضائل هي الأصل، فأنا يهمني أن أنقد ويهمني أن أبين.
ويدعي أن هذا هو النصح، وهذا منهج خطير، والمحكم في هذا الأمر هو الكتاب والسنة، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر اليهود والنصارى أنصفهم، وذكر أن منهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن، وذكر أن من اليهود الأمين ومنهم الخائن، وذكر أن في طوائف من النصارى رقة قلوب، وأخبر أن النصارى أقرب إلى الحق مع أنهم من المشركين، وكذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم، كان ينصف إذا تكلم، وإذا تكلم عن أهل الديانات أنصفهم وذكر ما عندهم من المحاسن ثم ذكر باطلهم، وكذلك أئمة السلف كانوا ينصفون الخصوم، بل إن الإنصاف أمر لا بد من التنويه به؛ لأن بعض الناس قد يقول: في ذهني هذه الفضائل ولا أنكرها، ونقول له: ليس المقصود أن الأمر في ذهنك، المقصود أنه إذا تكلمت فاعدل، إذا تكلمت فأنصف، وإذا قلت فاعدل، وإلا فاسكت فالسكوت خير لك، وأنا أقول: أن التنويه بأخطاء الآخرين الذين ينتسبون إلى الإسلام -حتى وإن كانوا من الضلال- دون الإشارة إلى ما فيهم من حسنات هو الظلم نفسه.
الأمر الثالث: لا بد عند الكلام عن الخصوم -كما فعل السلف- من ذكر موافقة المخالف فيما هو حق لتقوية الحق بالاتفاق عليه، وأقصد بذلك أن أئمة الدين إذا ذكروا قولاً من الأقوال في الفقه أو في العقيدة قالوا مثلاً: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، وهو قول المعتزلة والجهمية، وهو قول الأشاعرة إلى آخره، ويذكرون أئمة الضلالة لأنهم وافقوا في هذا الحق، وليس في هذا على المسلم ضير؛ لأن الحق ثابت بهم وبغيرهم، لكن كونك تقيم الحجة على أتباعهم بمثل هذا فيه تقوية للحق، فأنا إذا قلت في أي مسألة من مسائل أصول الدين: أنها قول أهل ا(2/20)
تأسيس التوجه الإسلامي المعاصر على العقيدة التوقيفية سبب من أسباب الاهتمام بها
قال: [ثالثاً: أن التوجه الإسلامي المعاصر نحو العودة إلى الدين يجب أن يؤسس على هذه العقيدة التوقيفية الجامعة، وأن يُرد رداً جميلاً إلى الأصول العاصمة من كل زيغ وضلال، فإن البنيان مهما علا فإنه سينهار، وإن الأفق مهما اتسع فإنه سيعتكر ويظلم، ما لم يؤسس البنيان على العقيدة المنجية، وما لم يستضئ الأفق المتسع بنورها.
إن هذه العقيدة الحقة هي التي تُري الانبعاث الإسلامي الجديد كيف يؤمن؟ وكيف يفهم؟ وكيف يعمل؟ وهي التي تُريهم كيف يدعون إلى الإسلام وفق المنهج الصحيح، فيفتون بعلم، ويدعون برفق، ويوقرون من سبقهم من العلماء والأئمة، ويقتدون بهم ويترضون عنهم.
وكيف يحافظون على وحدة الجماعة، فما أكثر ما كان الإمام الداعية ابن تيمية رحمه الله يقول في كل مجلس حوار ومناقشة تقريباً: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وربنا واحد، ورسولنا واحد، وكتابنا واحد، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف، ولا يحل فيها الافتراق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
ويقول: فالواجب على كل مسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والعلاقة وثيقة في منهج الإسلام بين توحيد الله ووحدة الجماعة، فقد تابع الرسول صلى الله عليه وسلم بين توحيد الله ووحدة الجماعة، فقال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) الحديث].(2/21)
شرح العقيدة الطحاوية [3]
من جملة المسائل المتعلقة بالعقيدة مسألة تجديد الدين، فقد حدد العلماء معنى التجديد بإحياء معالمه المندثرة علماً وعملاً لا بالإحداث فيه، ومن جملة مسائل العقيدة ما يتصل بالإطلاقات الاصطلاحية التي أطلقت على علم العقيدة ومعرفة السلفي منها والبدعي، وصلة الفكر والتصور الإسلامي بمفاهيم العقيدة، كما أن من جملة مسائلها التسليم بعجز درك العقول لتفصيلات الدين استقلالاً، والإيمان بما جاءت به الرسل، واعتقاد أمور الدين على وجه الجملة وعلم ما يلزم علمه على وجه التفصيل.(3/1)
ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فسنعرض بإيجاز ترجمة الإمام الطحاوي وسنقف عند بعض النقاط المتعلقة بشخصية الإمام الطحاوي متجاوزين التفصيلات.
أما اسمه ونسبه فهو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري الطحاوي، نسبة إلى (طحا) قرية من قرى الصعيد بمصر.
ولد سنة 239هـ على الأرجح، وتوفي رحمه الله سنة 321هـ، فعلى هذا يعد من علماء القرن الثالث الهجري، وهو من أئمة القرون الفاضلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [نشأ الإمام الطحاوي في بيت علم وفضل؛ فأبوه كان من أهل العلم والبصر بالشعر وروايته، وأمه كذلك معدودة من أصحاب الشافعي الذين كانوا يحضرون مجلسه، وخاله هو الإمام المزني أفقه أصحاب الإمام الشافعي وناشر علمه.
قال ابن يونس فيما نقله عنه ابن عساكر في تاريخه: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلِّف مثله.
وقال مسلمة بن القاسم في الصلة: وكان ثقة ثبتاً جليل القدر فقيه البدن عالماً باختلاف العلماء، بصيراً بالتصنيف.
وقال فيه ابن النديم: وكان أوحد زمانه علماً وزهداً.
وقال فيه ابن عبد البر: كان من أعلم الناس بسير الكوفيين وأخبارهم وبفقههم، مع مشاركه في جميع مذاهب الفقهاء.
وقال السمعاني: كان إماماً ثقة ثبتاً فقيهاً عالماً، لم يُخلِّف مثله].
عندي: (لم يُخلِّف مثله)، ويبدو أن فيها خطأ، ولعل (لم يُخلَّف مثله)؛ لأن (يُخلِّف) لا بد من أن يكون الضمير المستتر فيها راجعاً إلى مذكور أو معهود، ولا ندري ما المعهود ولا المذكور.
قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان ثبتاً فقيهاً عاقلاً فهيماً.
وكذا قال سبطه.
وقال ابن الأثير في اللباب: كان إماماً فقيهاً من الحنفيين، وكان ثقة ثبتاً.
وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، ثم قال: ومن نظر في تآليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه].(3/2)
ترجمة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [هو الإمام العلامة صدر الدين أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهب الأذرعي الأصل الدمشقي الصالحي الحنفي المعروف بـ ابن أبي العز].
[ولادته: تتفق كتب التراجم على أنه ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ويغلب على الظن أنه ولد بدمشق].(3/3)
المراد بالتجديد في الدين
استوقفتني كلمة في الكلام عن محنته أحببت التعليق عليها مع أنها استطراد، لكن لعل في التعليق عليها فائدة، ففي الكلام عن محنته قال: [كان ينحو منحى التجديد والأصالة]، فهذه الكلمة قد تلفت النظر، فما معنى التجديد والأصالة؟ ربما يفهم بعض الناس أن هناك تناقضاً بين التجديد والأصالة، والحقيقة أن تجديد الدين ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بأن الله سبحانه وتعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها، ولذلك كثر الكلام في التجديد، لا سيما في الآونة الأخيرة عندما ظهرت المذاهب العصرانية العقلانية التجديدية التي تتبنى مذاهب وأفكاراً حديثة وتريد أن تصبغها بصبغة الإسلام، وكان الخطأ ناشئاً عن فهم التجديد وعن مفهوم التجديد، وباستقراء أقوال أهل العلم الذين تكلموا في مفهوم التجديد قديماً وحديثاً ممن يعتد بأقوالهم من أئمة السلف نجد أن التجديد يدور حول معنى متقارب عند جميع من عرفوه ممن يعتد بأقوالهم من المحققين، وهو أن التجديد استئناف الدين لا استبداله، استئناف الدين، أي: تجديده علماً وتأصيلاً، ثم تجديده عملاً وقدوة، وتجديد النهج الذي كان يسير عليه السلف الصالح، بمعنى: اعتقاده من جديد بعد ما اندثر، والعمل به من جديد بعدما اندثر، وليس المقصود بالتجديد استبدال العقيدة بعقيدة ولا الأصول بأصول ولا المناهج بمناهج ولا القواعد بقواعد جديدة، وأرى أن كثيراً ممن تكلموا عن التجديد -خاصة أصحاب الاتجاهات العصرانية من الإسلاميين إن صح التعبير- نكسوا هذا المفهوم وقلبوه، فزعموا أن التجديد هو استحداث مناهج جديدة، واستحداث أصول جديدة، واستحداث أفكار جديدة تتعلق بأصول الدين، وكذلك استحداث مظاهر للسلوك جديدة توائم العصر وتوائم المدنية والحضارة الغربية المعاصرة.
وأقول: هذا فهم منكوس تماماً، بل أرى أن من المعلوم بالضرورة أن هذا الفهم معكوس؛ لأن تجديد الدين هو إحياؤه من جديد، إحياؤه بعدما طرأت عليه البدع والمحدثات، وإحياؤه بعدما تغير في سلوك الناس، وإحياؤه بعدما ترك في التطبيق، فالمقصود بتجديد الدين هو العمل به كما عمل به أئمة السلف عقيدة وعملاً، وليس المقصود بتجديد الدين استحداث قواعد جديدة ولا مناهج جديدة، لا في العلوم ولا في العقيدة ولا في الأعمال.
إذاً: من معاني التجديد نفي ما طرأ وما حدث من البدع والمحدثات، سواء في الأفكار والقواعد أو في الأعمال.(3/4)
حكم التجديد في الوسائل
وأما تجديد الوسائل فليس ممنوعاً، فالوسائل من شئون الدنيا البحتة التي لكل أهل عصر أن يستحدثوا فيها ما شاءوا، بل من ضرورات الحياة أن تستحدث الوسائل بقدر ما يحدث للناس من مستجدات الحياة، والوسائل لا دخول لها في تجديد الدين، بل من تجديد الدين استخدام أحدث الوسائل لإحياء ما اندثر منه ولإماتة البدع ولإظهار السلوك الذي كان عليه السلف الصالح، فهذا من تجديد الدين، وأي منحى للتجديد لا يعتبر الوسائل ولا يعتد بها أو لا يستعملها لا ينجح في الغالب ولا يستقيم؛ لأن هذه سنة من سنن الحياة، فمن سنن الله في خلقه أن تكون الوسائل المعاصرة هي التي بها تقوم الأمم وتستقيم أحوالها، أي: الوسائل الدنيوية البحتة، ومن أراد أن ينقل الأمة في وسائلها إلى الصدر الأول فإنه سيقع في الحرج ويحرج الأمة، والأمة كانت تستحدث من الوسائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة والقرون الثلاثة الفاضلة بقدر ما تحتاج إليه، حتى وسائل الجهاد، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسائل الدعوة، وقد كان الصحابة يستعملون ما لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فتحوا أقاليم جديدة، فدخل في الإسلام شعوب جديدة، وجاءت مفاهيم للناس في الأساليب وفي الأعمال والوسائل لا بد من تجديد فيها، فهذا أمر لا صلة له بالأصول والمناهج، فالدين يقوم على العقيدة والعمل، والعقيدة والعمل إنما يستقيمان بمنهج هو سبيل المؤمنين، والتجديد يشمل الأمور الثلاثة: العقائد، والأعمال، والمنهج الذي به تستقيم العقائد وتستقيم الأعمال، وهذا هو الذي يكون تجديده إحياءه من جديد، وهذه الأمور لا تختلف منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فالدين في أصوله ومناهجه وفي السنن الظاهرة والأعمال التي تتعلق بسنن الدين لا يختلف أبداً، إنما الذي تختلف هو شئون الدنيا، وللناس أن يحدثوا في شئون دنياهم ما يشاءون مما يخدم الدين ويقيم الحجة، وينصر الدعوة.
وليس المراد ارتكاب أي وسيلة، فالوسائل تحكم بالمصالح والمفاسد وتحكم بقواعد الشرع وبالفقه، أي أن الوسائل ليست بمعزل عن رأي الإسلام، بمعنى أنه ليس كل وسيلة يعمل بها البشر لا بد من أن تباح لمجرد أن تكون دنيوية، فهناك أصول في استعمال الوسائل، وهي أصول الاستدلال وأصول الشرع وأصول الاستنباط وقواعد الدين وأصول الفقه، فهذه أمور يحكم بها أهل العلم لمعرفة ما الوسائل المباحة؟ وما الوسائل المحرمة؟ لكن قصدي أن كون الوسيلة جديدة لا يعني أنها بدعة هذا ما أقصده، لا تدخل الوسائل في المبتدعات ولا في المحدثات، إنما الذي يدخل في المبتدعات والمحدثات هو ما يتعلق بالعقائد وما يتعلق بالسنن المنصوص عليها وما يتعلق بالعبادات، فهذه الأمور هي تشريعية توقيفية في أصولها، أو هي توقيفية في نصوصها ولو كانت اجتهادية في الاستنباط، وهي التي لا يجوز الابتداع فيها، وتبقى مسألة الوسائل وعرضها على الشرع وما يجوز فيها وما لا يجوز، هذا هو مجال أهل العلم وأهل الاجتهاد.(3/5)
بيان شرف علم أصول الدين
قال رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم، حسبي الله ونعم الوكيل، الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم -إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع؛ ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر- وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه].(3/6)
أسماء ومصطلحات علم العقيدة(3/7)
الأسماء الشرعية الواردة في علم العقيدة
نحتاج هنا إلى بيان بعض المقدمات الضرورية في أول الكلام عن العقيدة، فأول ذلك مناسبة إشارة الشارح إلى علم أصول الدين والفقه الأكبر، فهذا يقودنا إلى معرفة أسماء علم العقيدة، أعني الأسماء الشرعية التي وردت عن السلف في وصف هذا العلم أو في تسميته، ثم الأسماء المبتدعة التي سادت عند كثير من المسلمين وهي لا تصح، بل لا يصح إطلاقها على هذا العلم، بل إن إطلاقها يعتبر من الابتداع.
أما الأسماء الشرعية الواردة على ألسنة السلف والتي اصطلحوا عليها، وهي أسماء تدل بمفهومها ومدلولها وألفاظها على عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فهي كثيرة، لكن يمكن بالاستقراء أن نلخصها في سبعة أسماء لهذا العلم: أول هذه الأسماء وأهمها وأكثرها أصالة وأقربها إلى مفهومات النصوص وأكثرها استعمالاً على ألسنة السلف، وفي مصنفاتهم في القرون الثلاثة الفاضلة: كلمة (السنة)، بمعنى أنهم كانوا يطلقون على العقيدة: السنة، وعلى هذا غالب مصنفات أئمة الدين في القرون الثلاثة الفاضلة، بل لا نكاد نجد مصنفاً يخرج عن هذا الاسم إلا القليل النادر جداً، فأغلب ما صنفه أئمة الدين في العقيدة جعل تحت مسمى (السنة)، والسنة تعني العقيدة، وتعني الإيمان بمفهومه الشامل، وتعني أصول الدين، وتعني -أيضاً- هدي السلف الصالح، فالهدي الذي عليه أهل السنة والجماعة بعد الافتراق يسمى السنة؛ لذلك كان يطلق بإزاء البدعة وبإزاء الفرق، فيقال: هذا صاحب سنة، بمعنى أنه على عقيدة أهل السنة والجماعة ومقابل صاحب أهل البدعة، وإن كان هذا الاسم قد يطلق أحياناً في تسمية جزئية يدل عليها السياق، فقد تسمى رواية الحديث والدراية له، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سنة، وقد تسمى النوافل سنة، لكن هذه تسمية جزئية مقيدة بالسياق، أما السنة إذا أطلقت عند السلف فإنها تعني العقيدة، فهذا الاسم الأول والأشهر، وهو الأولى بالإطلاق.
والثاني: التوحيد، والتوحيد جزء من العقيدة، لكن سميت به العقيدة لأنه هو أشرف موضوعات العقيدة، وأهم موضوعات العقيدة هو توحيد الله سبحانه وتعالى، فمن هنا سميت العقيدة كلها توحيداً؛ لأن مسائل الاعتقاد كلها تندرج تحت التوحيد المبني على التسليم والتصديق.
الاسم الثالث: العقيدة، وسميت عقيدة لأن المسلم يعقد قلبه بالجزم على أصول الدين، وعلى السنة، وعلى التوحيد.
الاسم الرابع: أصول الدين، وهذا الاسم قد كرهه بعض السلف، لكنه أصبح اصطلاحاً واضحاً، وربما يزول الإشكال إذا وضح مفهومه عند من يطلقونه، فأصول الدين يقصد بها العقيدة والقطعيات والمسائل الكبرى التي تحكم قواعد شرع، والذين كرهوا هذا الاسم أو هذا الوصف من السلف كرهوه لأنه يقسم الدين إلى أصول وفروع، فمن هنا قد يفهم العامة أن الفروع أقل منزلة من الأصول في الاعتقاد والعمل، وأنه ربما يسع الإنسان إذا عرف الأصول واعتقدها الإخلال بالفروع أو ببعضها، وهذا فهم خاطئ؛ فلذلك يرى بعض السلف أن الدين واحد أصوله وفروعه سواء، ولا يجوز أن يقسم إلى أصول وفروع، لكن مع ذلك ساد هذا الاصطلاح عند بعض أئمة الدين المحققين، ورضوه لأنهم يقصدون به العقيدة.
ومن الأسماء التي اشتهرت: الفقه الأكبر، لكن استعماله في أصول الدين أو في العقيدة قليل جداً، وهو -أيضاً- مثل كلمة (أصول الدين)، بمعنى أن الفقه بما يتعلق بالله سبحانه وتعالى وبعبادة الله، وبما يتعلق بمسائل أصول الدين الأخرى القطعية هو الفقه الحقيقي في الدين، فمن هنا سمي الفقه الأكبر، ولا يعنى به الفقه الاجتهادي، أي: فقه الأحكام، ففقه الأحكام يسمى بإزاء هذا الفقه الأصغر، وهذه التسمية يرد عليها تفصيلاً ما يرد على تسمية أصول الدين.
ومن الأسماء المشهورة -وهو السادس-: الإيمان، فقد يسمي بعض السلف العقيدة بمسمى الإيمان، وإن كان الإيمان قد يطلق إطلاقاً خاص، لكنه إذا جاء مطلقاً من غير مفهوم يخصصه في السياق فالغالب أنه يقصد به العقيدة؛ لأنه إذا أطلق يشمل الإسلام ويشمل العقائد الباطنة، يشمل الأعمال الظاهرة ويشمل العقائد الباطنة، فالأصح أن من أسماء العقيدة وإطلاقاتها: الإيمان بمعناه الشامل.
ومن أسماء هذا العلم وإطلاقاته: الشريعة، وهذا إطلاق نادر أيضاً، لكن رضيه أهل العلم، وإن كانت الشريعة في الاصطلاح الدقيق السائد المشهور تعني الأحكام، والعقيدة تعني أصول الدين، ومع ذلك قد يرد في بعض معاني العقيدة إطلاق الشريعة؛ لأن العقائد والأحكام من شرع الله، فهذه أشهر الإطلاقات التي عرفت عند السلف.(3/8)
الأسماء البدعية الواردة في علم العقيدة
هناك إطلاقات خاطئة بدعية لا ينبغي لطلاب العلم وأهل السنة أن يطلقوها أو أن ينساقوا مع من يطلقها فيصف بها أصول الدين، فمن هذه الإطلاقات: علم الكلام، فقد سمى كثير من المتكلمين وبعض الفرق العقيدة بعلم الكلام، ولا تزال في كثير من الجامعات في العالم الإسلامي والمراكز العلمية دراسة العقيدة تحت مسمى علم الكلام، وهذا خطأ؛ لأن علم الكلام هو فضول الكلام الذي قال به المبتدعة زائداً عن كلام السلف، وكلام السلف ليس بعلم كلام، وعقيدة السلف ليست علم كلام بإطلاق، بل لا يجوز أن نطلق على أي شيء من مسائل الاعتقاد أنه من علم الكلام.
فعلم الكلام هو فضول الكلام الذي أطلقته الفرق في مسائل العقيدة وتلفظت به وتكلمت به، ولا يقول به السلف، وليس بتوقيفي.
ومن الأسماء السائدة المبتدعة: الفلسفة، إطلاق الفلسفة على العقيدة، وهذا خطأ فادح؛ لأن الفلسفة حكمها حكم علم الكلام، بل هي أبعد عن الإسلام.
ومن ذلك: التصوف، فبعض الناس -خاصة أهل التصوف والطرق- يسمون العقيدة أحياناً بالتصوف، وهذا الإطلاق كثير عند الغربيين، فالغربيون بحسب مفهومهم يطلقون على عقائد الإسلام: التصوف.
ومن ذلك: الإلهيات، فإطلاق كلمة (إلهيات) على العقيدة الإسلامية الصحيحة خطأ؛ لأن الإلهيات هي الجانب الفلسفي الغيبي المتعلق بالإله عند الغربيين، وهذا اللفظ حكمه حكم الفلسفة وعلم الكلام؛ لأنهم يقصدون بالإلهيات كل كلام في غير عالم الشهادة يتعلق بالله سبحانه وتعالى، سواء في وجوده أو في وحدانيته، أو في أسمائه وصفاته، وأولئك لا يعرفون أي معنى من معاني الإثبات الشرعي فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فلذلك يتكلمون فيها بالغيب وبالفلسفة، ويسمون هذا كله بالإلهيات، ومن هنا صنفوا موضوعات العقيدة وكتب العقيدة الإسلامية تحت مسمى (الإلهيات).
ومن الأسماء التي اشتهرت عند الصوفية أنهم يطلقون على العقيدة (علم الحقيقة)، وعلم الحقيقة عندهم قد يكون أوسع من هذا أيضاً، فهو الأمور الباطنية التي يتذوقونها من أمورهم الباطلة التي تخالف ما جاء في الكتاب والسنة، وهو الذي يسمونه علم الظاهر، أو علم الشريعة، أو علم العوام.
ومن الأسماء التي تعلق بها بعض المثقفين -وهي مستوردة- تسمية العقيدة بـ (ما وراء الغيب)، فـ (ما وراء الغيب) كثيراً ما تطلق عند كثير من المفكرين وبعض الكتاب المثقفين، حتى بعض الإسلاميين منهم، بل بعضهم ينقلها بحروفها أو بلفظها الأجنبي دون أن يعيها هو ولا القراء، مثل كلمة (الميتافيزيقا)، فهذه أيضاً من أكثر ما يطلقونه، ولو أردنا أن يفسروها لما فسروها، ككثير من الكلمات التي يحاكون بها الغرب.
فهذه من أشهر الإطلاقات التي ابتلي بها الناس الآن في إطلاقها على العقيدة، وهي إطلاقات مبتدعة: علم الكلام، الفلسفة، التصوف، الإلهيات، علم الحقيقة، ما وراء الغيب، الميتافيزيقا.(3/9)
الفكر والتصور الإسلامي في العقيدة والموقف منهما
أما تسمية العقيدة فكراً وتصوراً فلا ينبغي، بل هما أيضاً من الأسماء المحدثة، فلا يجوز تسمية العقيدة فكراً إسلامياً، ولا تصوراً إسلامياً، إنما الفكر هو ما يفهمه المفكرون من مستلزمات العقيدة أو مستلزمات النصوص، بمعنى أنه يجوز أن نسمي ما يفهمه المفكر من العقيدة من مستلزمات جانبية أخرى فكراً، فعلى هذا لا تكون عقيدة، ولا تنسب إلى أئمة الدين، بل تنسب إلى صاحبها، مع أن هذا فيه نوع من الخطورة، فانتزاع مستلزمات معينة من قبل بعض المفكرين مما يفهمونه من أصول الدين، أو مما يفهمونه من نصوص، وتسميتها بفكر إسلامي -بمعنى أنها تكون مرجعاً ويبنى عليها فهم وتصور، أو يبنى عليها مناهج تربوية للشباب- أظنه مسلكاً خطيراً، وهو نزعة تشبه نزعة علم الكلام في بداية أمرها في القرن الأول، فقد كانت بهذا الشكل، عبارة عن استنتاجات المفكرين فيما يتعلق بالعقيدة، ثم اختلطت بأقوال أهل البدع، واجتمعت هذه الأمور كلها وتواصلت حتى أوجدت علماً يسمى بعلم الكلام يضاهي علم العقيدة، بل طغى عليه عند المبتدعة وأهل الفرق حتى نسوا العقيدة وتعلقوا بعلم الكلام على أنه هو مراد الله وهو ما يعتقد؛ فلذلك نجد في كتب علم الكلام التي يعتقدها المتكلمون كل شيء إلا العقيدة التي رسمها السلف بألفاظ الشرع، وإذا تكلموا عن شيء من أمور العقيدة تكلموا عليه بأسلوب ملفق، ويسمون هذا: التوفيق بين الشريعة ومناهج الكلام، أو بين الشرعيات والعقليات، وهذا المسلك الجديد هو تعلق بالفكر الإسلامي يشبه تعلق بعض الأولين من أتباع الفرق بالفكر الإسلامي القديم.
ولذلك ينبغي أن تحرر هذه المسألة، وتبين بشكل جيد لطلاب العلم، حتى يعلم ما الذي يؤخذ من الفكر الإسلامي الحديث وما الذي يستغنى عنه؟ فلا بد من وضع ضوابط، أما أن نأخذ كل ما كتب وكل ما قيل فهذا خطأ، فأكثر ما قيل من الفكر الإسلامي يشتمل على حق، ويشتمل على فوائد تفيد هذا الجيل، لكن نخشى أن يكون بديلاً عن العقيدة، بل إني أرى أجيالاً نشأت في بعض البلاد الإسلامية على بعض الكتب الفكرية على أنها هي منبع التصور والاعتقاد، ونشأت على هذا دعوات كبرى تعلقت بمثل فكر سيد قطب رحمه الله وفكر محمد قطب وأفكار آخرين على أنها هي التي يعتمد عليها في التصور الإسلامي، واستغنوا بها عن كتب العقيدة، وهذه الكتب جيدة ومفيدة جداً، لكن بشرط أن نستقي العقائد أولاً من كتب العقيدة، ثم نستفيد من هذه المستلزمات الفكرية الجيدة المفيدة التي قال بها أمثال سيد قطب وغيره رحمهم الله، ووفق الأحياء منهم.
أقول هذه المسألة ولا أعطي فيها رأياً، لكن أثير هذا الإشكال لضرورة الإجابة عليه، فمسألة الفكر الإسلامي والتعلق به تحتاج إلى نظر، والاستغناء بالفكر الإسلامي عن العقيدة، أو تربية الأجيال عليه في التصور والأحكام مسألة خطيرة، وأنا أكاد أجزم بأن بعض الحركات التي مالت إلى التنطع في الدين -كالتكفير والهجرة- كان منشأ ميلها هو تعلقها بفكر بعض المفكرين، ففهمته خطأ بمعزل عن أصول السلف وعقيدة السلف، فلما قرءوا عقائد السلف جعلوا الفكر الإسلامي الحديث هو الميزان، فبذلك انحرفوا، نسأل الله العافية.
إذاً: المسألة تحتاج إلى شيء من التحقيق، وتحتاج إلى شيء من الدراسة.
فالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية إذا كان يقصد بهما أنهما بديلان عن العقيدة، أو يقصد الاعتماد عليهما في إعطاء التصور الإسلامي الأصيل فهذا خطأ ينبغي تصحيحه، وإذا كانا رافدين للعقيدة فلا مانع بشرط سلامتهما، بمعنى أن تكون هناك مادة عقيدة يدرسها الطالب، ويفهم أن هذا الفكر وهذا الاتجاه أو هذه الثقافة إنما هي رافدة وتعطي التصور الصحيح لما يتعلق بواقع المسلمين المعاصر أو الرد على الشبهات والتحديات المعاصرة، فهذا الجانب جيد ومفيد، لكن بشرط ألا يستغنى به عن العقيدة، وأن لا يكون هو منهج التربية الذي تبنى عليه تصورات الأجيال، وأنا أخشى من هذا الخلل، أي: أن يظهر جيل لا يعرف من العقيدة إلا كتب الفكر الإسلامي، أو لا يفهم من أصول الدين والأمور التي تنبثق منها تصوراته إلا هذا الجانب، أقول: هذا أمر يحتاج إلى تحرير، وفيه نوع من الخطورة جدير بالاهتمام.(3/10)
شرح العقيدة الطحاوية [4]
عامة من ضل في باب علم العقيدة كان سبب ضلالهم هو في تفريطهم في اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقع هذا التفريط من الإنسان إما بالجهل، خاصة عند القادرين على التعلم، أو بالإعراض المتعمد، والذي يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال، أو بالابتداع الذي لا ينتج إلا عن تفريط بالسنة، أو بالأهواء التي تمنع المرء من التسليم لله ورسوله.(4/1)
بيان استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها].
تكلم الشارح عن استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل، فالعقول لا تستقل بمعرفة العقيدة ولا بإدراكها على وجه التفصيل، وكأنه بذلك يشير إلى أن من أصول العقيدة ما تدركه العقول على وجه الإجمال، وهذا صحيح في الجملة، ومع ذلك لا تستغني العقول عمَّا يرد من الهداية ومن البيان ومن الأخبار في أمور الغيب عن الله سبحانه وتعالى كما بعث بذلك رسله؛ لأن العقول وإن أدركت بعض الإجماليات إلا أن هذا الإدراك لا ينفع، بمعنى أن تكليف البشر وحسابهم مبني على ما جاء به المرسلون في توحيد الله تعالى، وفي شرعه وأمره وخبره ووعده ووعيده.
وإدراك العقول للأمور الإجمالية هو إدراك فطري يدركه الإنسان بفطرته وعقله السليم، لكن مع ذلك لا يمكن أن يدركه كل البشر، بمعنى أنه لو ترك البشر بلا رسالات ولا أنبياء لأدركت طائفة قليلة منهم قضايا إجمالية عامة من أمور الدين، وهذه القضايا الإجمالية لا ينتفع بها البشر، مثلاً: الفطرة والعقل السليم لا بد لهما من أن يدركا ضرورة وجود الخالق لهذا الخلق، ومع ذلك قد تعمى عقول كثير من البشر عن هذا الإدراك، والعقل السليم والفطرة قد يدركان ضرورة البعث، لكن أكثر البشر لا يدركون هذا؛ لأن هذا أمر خفي لا يدرك إلا بتأمل قوي وبعقول راجحة كبيرة وبذكاء، وهكذا، فالأمور الإجمالية التي تدرك بالعقول والفطرة لا تفيد البشر؛ لأن البشر يحتاجون إلى أمور تفصيلية، سواء ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه، وما يتعلق بتفصيلات الشرع، فمن المحال أن تستقل العقول بمعرفة حقوق الله تعالى وشرعه وما يرضيه على وجه التفصيل.(4/2)
أصول بعثة الرسل
قوله: (وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله).
هذا -في الحقيقة- جزء من عمل المرسلين، وليس هو أول دعوتهم، وليس هو المفتاح وإن كان جزءاً من مفتاح الدعوة؛ لأنا إذا تأملنا آيات الله -كما قال أئمة السلف الذين قرروا التوحيد- وتأملنا الأحاديث وتأملنا سير المرسلين وما جاء به الرسل مما ذكره الله عنهم فسنجد أن أول ما يدعون إليه هو عبادة الله، وهي مفتاح الرسالات، ويتبع ذلك بالضرورة توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لكن لم يكن أول ما جاءوا به هو التعريف بالله فقط؛ لأن معرفة الله يدركها أكثر الأمم حتى الأمم الكافرة والمشركة والأمم الضالة، والله سبحانه وتعالى أرسل المرسلين إلى أمم تعرف الله ولا تنكره، إلا أمماً شذت كفرعون وقومه فقط، فهم الذين ورد في القرآن أنهم جحدوا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يستثنون، أما بقية الأمم فلم يرد دليل قاطع ولا دليل ظني على أنها كانت لا تعرف الله، إنما كانت تعرف الله وتعبد غيره، فالتعريف بالله دخل ضمن الدعوة إلى توحيده، وإلا فالهدف والغاية الأولى ومفتاح الدعوة للمرسلين هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك.
قال رحمه الله تعالى: [ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان: أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم].
عندنا ثلاثة أصول جاء بها المرسلون، وهذه الأصول تندرج فيها أمور الدين كلها، فالأصل الأول -كما أشار إليه ولم يذكره نصاً- هو عبادة الله تعالى، وهو الاعتقاد؛ لأن قمة الاعتقاد هي عبادة الله بتوحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية والأسماء والصفات فإنه من مستلزمات العبادة لله تعالى بحق، فأول الأصول التي جاء بها المرسلون وأعظمها، والذي ينبغي أن يكون أصلاً لكل دعوة ولكل داعية: عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك، وما يتبع ذلك من ضرورة معرفة الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته، وما يتبع ذلك من ضرورة الاعتراف بالربوبية لله وحده، ونتيجة ذلك وأوله وخاتمه هو عبادة الله وحده بما شرعه الله، هذا هو الأصل الأول.
الأصل الثاني: الشرائع التي تبين للناس ما يريده الله منهم على وجه التفصيل، فكل الأنبياء أتوا بشرائع، سواء منهم من أنزل عليه كتاب وشريعة مستقلة ومن كان تابعاً لشرع من سبقه كالكثير من النبيين، فالرسل أتوا بشرائع وكتب منزلة، والنبيون إنما جددوا شرائع من سبقهم من المرسلين وعملوا بها، وربما يكون بعض الأنبياء قد أنزلت عليهم شرائع، والله أعلم، وهذه مسألة خلافية كما هو معروف، والمهم أن الأصل الثاني الذي جاء به جميع المرسلين هو الشرائع الهادية للناس لأن يعبدوا الله على شرعه، وأن يطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه، والأوامر والنواهي التي جاءت عن الله تعالى في الشرائع تفصيلية وليست إجمالية.
الأصل الثالث: البشارة والنذارة، فكل النبيين جاءوا بهذا الأصل، كل نبي بشر قومه المطيعين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وكل نبي توعد قومه الذين كفروا بما توعدهم الله به في الدنيا وبما توعدهم الله به في الآخرة.
إذاً: فجميع الأنبياء جاءوا بهذه الأصول الثلاثة: بالتوحيد أولاً، وبالشرائع ثانياً، وبالوعد والوعيد ثالثاً.
قال رحمه الله تعالى: [فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه؛ ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به، وهو الشفاء كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] فهو -وإن كان هدى وشفاءً مطلقاً- لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به].(4/3)
بيان ما يجب الإيمان به مما جاء به الرسول وعلى أي وجه
قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية؛ فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهو واجب على الكفاية منهم].
يقول المحقق في الهامش مقتبساً من كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: [للإنسان ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده.
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به.
والنوع الثاني: من يعرف الحق لكن يخالف نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته، وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع المعارض، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، وقال تعالى: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من المخالفة والمدافعة، والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد ذم الله تعالى من يجادل بغير علم في غير موضع من كتابه].
قال رحمه الله تعالى: [وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجاتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك].(4/4)
ضوابط في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي
قد يرد تساؤل: ما الفارق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي؟ وقد ذكر ابن أبي العز شيئاً من الفروق جيداً، وكذلك المحقق، لكن يحسن أن نذكر ضوابط كبرى للفارق بين الإيمان الإجمالي ومتى يجب وعلى من يجب، وبين الإيمان التفصيلي ومتى يجب وعلى من يجب؟ الضابط الأول في التفريق بين الإجمال والتفصيل: أن هناك من إجماليات الدين ما لا يعذر فيه أحد، كأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه الأصول بإجمال دون دخول في تفصيلاتها لا يعذر أحد في جهلها، وكل يستطيع الإدراك لها ما دام عاقلاً مميزاً، فلا بد من أن يدرك هذه الأمور على وجه الإجمال.
وفي الجوانب العملية هناك من الدين ما لا يسع جهله، كأركان الإسلام الخمسة، نعم بعضها مبني على الاستطاعة كالحج، لكن إدراكها والإيمان بأنها واجبة، وكذلك القيام بها حال الاستطاعة أمر لا يعذر فيه أحد.
فهذا القدر من الإيمان الإجمالي لا يمكن أن يتخلف عند عاقل إدراكه والعمل بما يستطيع منه.
الضابط الثاني: أن هناك ما تستطيع طائفة من المسلمين العلم به ويبلغهم علمه.
فكل من استطاع أن يأخذ علماً من العلوم الشرعية الضرورية وجب عليه أن يحصله، وعلى هذا فإن طلب العلم على وجه الإجمال واجب، يعني: يجب على المسلم أن يتعلم ضروريات دينه حتى ما يزيد على الإجماليات التي ذكرتها؛ لأن هناك أموراً تفصيلية يجب على من يستطيع تحصيلها علماً أن يحصلها.
إذاً: القاعدة الثانية: أنه يجب تحصيل العلم الشرعي على من يستطيعه بقدر استطاعته.
فالعلم علمان: علم يتعلق بالتبحر في العلم لأجل استنباط الأحكام وتعليم العلم للمسلمين ونشره والدعوة إليه، فهذا ينبغي أن تنبري له طائفة من المسلمين، ولا يجب على الجميع، فمن قامت به الكفاية كفى عن البقية.
وعلم يجب تحصيله على الجميع، وهو تحصيل الأمور الضرورية في العقيدة والأمور الضرورية في الشريعة.
الضابط الثالث: الإدراك بقدر الاستطاعة، بمعنى أنه لا يجب على كل إنسان أن يفهم أو أن يستوعب كل ما بلغه، إنما استيعابه بقدر إدراكه، فبعض الناس قد يبلغه الدليل من الآية أو الحديث لكن لا يدرك فقهه، فمن هنا لا ينبغي له أن يخبط فيه أو يتكلم بغير علم، فالإدراك العلمي والتبحر فيه لا يمكن إلا لطائفة من البشر وهبهم الله مواهب زائدة، وهم أهل الذكر، وهم الذين يستطيعون الاستنباط، أهل الفقه في الدين الذين يملكون إدراك معاني النصوص واستنباط ما يفهم منها على ضوء قواعد الاستنباط الشرعي، وكل درجة لها طائفة من الناس، فالإيمان الإجمالي الذي ذكرته لا يعذر فيه أحد، والعلم بما يمكن تحصيله من ضرورات الدين لا يعذر فيه من يستطيع التحصيل.
أما العلم التفصيلي؛ فهو الذي قد يعذر فيه بعض الناس إذا حصلت الكفاية بالآخرين، وهو التبحر في العلم بالدين.(4/5)
خطر التفريط في اتباع ما جاء به الرسول وبيان ما يدخل تحته
قال رحمه الله تعالى: [وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]].(4/6)
الجهل
مسألة التفريط مسألة جامعة لأسباب ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة الجامعة يدخل تحتها في نظري أمور، أعني: التفريط في اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه يدخل فيها أمور يمكن أن نعرفها باستقراء ما حدث للفرق من تفريط في الدين جملة، فمن هذه الأمور: الجهل، فالجهل هو تفريط، بل هو أول وأكثر وأعظم أبواب التفريط في الدين.
والجهل منشؤه تقصير الإنسان في طلب العلم؛ لأن الجهل جهلان: جهل القادر على التعلم، وهذا عليه أغلب الجاهلين، يعني: كل إنسان -مهما كان عنده من ضعف القدرة- لا بد له من أن يستطيع أن يعرف شيئاً من الفقه في الدين تسلم به عقيدته وتستقيم به أموره ويكون على السنة، فغالب الناس عندهم القدرة على أن يحصلوا شيئاً من الفقه في الدين ولو لم يكونوا من أهل العلم المتمكنين أو من أهل الذكر.
إذاً: الجهل هو العلة الأولى للتفريط، وهو أعظم أبواب التفريط في دين الله سبحانه وتعالى، وأول ما أتي منه المسلمون وآخر ما أتوا منه باب الجهل، والجهل مصيبة.(4/7)
الإعراض المتعمد
الثاني: الإعراض المتعمد، وهو سمة من سمات الفرق، وهو من أعظم أبواب التفريط بعد الجهل، بمعنى أن كثيراً من المسلمين الذين فرطوا في الدين كان سبب تفريطهم هو الإعراض عن دين الله، الإعراض الكائن عن هوى، وهذا الإعراض يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال.
أما إعراض القلوب فهو النفاق، نسأل الله العافية، وأما إعراض الأعمال فهو الفسق والفجور، فكثير من الناس يكره مظاهر الدين ويكره السنة؛ لأنه يحب الفجور والفسق، فيعرض عن دين الله إعراضاً مقصوداً متعمداً.
والإعراض أيضاً كثير، سواء في الفرق وأهل الأهواء والابتداع أو في أهل الفسق والفجور، خاصة أولئك الذين يؤثر فسقهم في الأمة، فهؤلاء الغالب فيهم النزعة إلى الإعراض المتعمد عن دين الله، كما يحصل من بعض الولاة على مدار التاريخ؛ لأن هؤلاء فسقهم يؤثر في الغالب في الأمة، وقد يشرعون له، وقد يبثون فسقهم بوسائلهم التي يملكونها، وهؤلاء قد تكون منهم طائفة إعراضها عن دين الله تعالى -أي: عن العمل بالسنن- وإعراضها عن الهدى إعراض مقصود، بل الإعراض كله مقصود، ولا يسمى إعراضاً إلا إذا كان مقصوداً.(4/8)
الابتداع
الثالث من وجوه التفريط: الابتداع؛ لأن الابتداع لا يحدث إلا بتفريط في سنة، وهذه قاعدة قررها أهل العلم، بل هي مبنية على أحاديث صحيحة؛ لأن الناس لا يعملون بدعة إلا ويتركون سنة، ولا يتركون سنة إلا ويعملون بدعة، وهذه قاعدة مطردة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الشرع يناسب أحوال البشر، يناسب قلوبهم ويناسب جوارحهم ويناسب أوقاتهم ويناسب حياتهم كلها، بمعنى أن الشرع فصل لحياة البشر جميعاً بمختلف أشكالها وأنماطها، فإذا ترك الناس سنة احتاجوا إلى بدعة، وإذا ابتدعوا بدعة استغنوا عن سنة، وهذه قاعدة مطردة ولا بد؛ لأن هذه البدعة إما أن تشغل قلب الإنسان أو تشغل جوارحه أو تشغل القلب والجوارح، والله سبحانه وتعالى وضع من الهدى ما يشغل القلب بالخير ويسعده، ووضع من الهدى ما يشغل الجوارح بالخير ويسعدها، فإذا ابتدع الناس بدعة نزعت منهم سنة؛ لأن هدي الإسلام كالنسيج المحكم تماماً إذا رفعت منه خيطاً اختل بعض النسيج، وإذا أضفت له خيطاً زائداً اختل النسيج، فكذا البدع تفعل بالسنة وتفعل بالناس، فالناس إذا ابتدعوا بدعة فلا بد من أن تنتزع منهم سنة من وجه آخر، سواء أكانت البدعة قلبية أم كانت عملية، وكذلك إذا تركوا سنة فلا بد من أن ينشغلوا ببدعة بمجموعهم وليس بأفرادهم، فقد لا ينطبق ذلك على بعض الأفراد، أما المجموع فلا بد من أن يكون هذا هو حالهم.(4/9)
الأهواء وعدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
الرابع من وجوه التفريط: الأهواء.
ومن وجوهه أيضاً: عدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم التسليم أحياناً يكون نظرياً وأحياناً يكون عملياً وأحياناً يجمع بين الأمرين، بمعنى أن عدم التسليم أحياناً يكون في القلب، فيفرط الإنسان فيما جاء عن الله؛ لأنه لم يسلم بذلك اعتقاداً، فيفرط الإنسان ببعض السنة لعدم تسليمه بذلك، كما نجد من الناس من يشكك في بعض السنن الثابتة، فهذا يختل تسليمه ولو كانت سنناً يسيرة، كالسواك مثلاً، حيث يأتي الإنسان يجادل في أن السواك لم يثبت في السنة، أو يتعلل بأي تعليلات فينفي سنة السواك، فمن فعل هذا فقد اختل تسليمه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يصدق.
فاختلال التسليم قد يكون في القلب بعدم التصديق، وقد يكون في العمل، وقد يشمل الأمرين وكذلك من آمن بسنة ولم يعمل بها وهو قادر عليها اختل تسليمه، مثل إنسان قال: أنا مقر للرسول صلى الله عليه وسلم ومصدق له بأن الصلاة مفروضة.
ولكنَّه لا يصلي ولا يؤدي الصلاة، فهل يصح تسليمه؟! هذا تسليمه نظري ولا ينفعه تسليمه هذا، فهذا مفرط؛ لأنه أخل بالتسليم، إذاً: الإخلال بالتسليم يشمل أمرين: يشمل الإخلال بالتلقي والاستدلال، ويشمل الإخلال بالعمل والاعتقاد، ومعنى الإخلال بالتلقي والاستدلال أن يتلقى الإنسان دينه من غير مصادره الشرعية، من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف، يتلقى الدين بمشربه هو، فقد يكون -مثلاً- متصوفاً فيفرط في الدين بأن يتلقى الدين عن المنامات أو عن أقوال الرجال، أو عما يسمى بالكشف أو الذوق، فهذا فرط في دين الله.
وقد يكون من خلل التلقي التعويل على العقل وعلى الأهواء، وهذا -مع الأسف- كثر في هذا الزمن بشكل مزعج، حيث نجد أناساً قد يكون بعضهم محسوباً من أهل الخير ومحسوباً من الدعاة والمثقفين والمفكرين، فإذا بدأ يتكلم في أمور الدين وأصوله وقضاياه بدأ يتكلم بنزعته هو، ولا يعول على النصوص ولا على أقوال السلف، بل ربما يتنكب لأقوال السلف، فهذا يعتبر مفرطاً في دين الله؛ لأنه اختل منهج التلقي عنده، حيث تلقى دينه من مزاجه.(4/10)
النجاة في قراءة القرآن والعمل بما فيه
قال رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنه: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
ثم قرأ هذه الآية، وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن.
قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على مثل هذا المعنى.
ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينونه إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام].(4/11)
بيان ما نزه الله تعالى عنه نفسه مما يصفه به العباد
قال رحمه الله تعالى: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]].
تجري على ألسنة الناس ألفاظ في أسماء الله وصفاته لم ترد في الكتاب والسنة، وقوله: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد] يعني: من الأقوال التي لا تصح، أو التي هي عبارة عن مقولات إما متوهمة وإما فيها قدح في أسماء الله وصفاته تعالى الله عما يصفه به المبطلون ذوي الأوصاف الخبيثة، فهناك من العباد من وصف الله بأوصاف قبيحة، كالمشركين، فالمشركون وصفوا الله بأوصاف قبيحة، وكذلك اليهود وصفوا الله بالعيوب تعالى الله عما يزعمون، فقد وصفوه باللغوب، وهو التعب، ووصفوه بالعجز ووصفوه بالبخل، بل إنهم يجسمون الله تعالى الله عما يزعمون، فالله نزه نفسه عما يصفه به هؤلاء العباد، وهناك نوع آخر من الوصف قد لا يكون قدحاً مباشراً، لكنه كلام عن الله بغير علم، وهو أخطر على الأمة من الأول؛ لأن النوع الأول لا يقول به إلا مبطل، وتنفر منه الطباع السليمة، ولا يمكن أن يقبله أحد من المؤمنين، لكن النوع الثاني -وهو الكلام عن أسماء الله وصفاته بما لم يرد في الكتاب والسنة بدعوى التنزيه- هو الذي أشكل وأوقع الأمة في الحرج، فأوقع طوائف من الأمة في الخروج عن السنة والابتداع والقول بعلم الكلام الذي شغل المسلمين عن الهدى والحق، وستأتي أمثلة لهذا وسنتكلم عنه على التفصيل، ولعلي هنا أورد ما يتبين به المراد، فأقول: إن قوله: [عما يصفه به العباد] على نوعين: الأول: الأوصاف القبيحة التي وصفه بها المشركون واليهود والمشبهة ونحوهم، وهذه معلومة والنفور منها عند جميع الخلق معلوم، وهناك نوع آخر، وهو الكلام في الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته بأمور قد يقصد بها التنزيه لكنها متخيلة وليست على الحقيقة، ثم إنها مبتدعة، كقول المتكلمين عن الله تعالى: إنه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ولا مباين ولا محايث ولا فوق ولا تحت ولا بحد ولا يتكلم إلى آخر ذلك من المعاني التي هي أشبه بوصف المعدوم كما سيأتي، فهذا سوء أدب مع الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف نفسه، والله وصف به نفسه وله تعالى من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة ما يتضمن كل كمال.
وهذا هو قول الأئمة، وليس من عندي، ولكن أكرره ليتبين خطأ المتكلمين الذين قالوا على الله بغير علم.
أقول: إن أهل العلم أجمعوا على أن ما في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الكمال له تعالى ومن أوصاف الكمال له تعالى يغني عن كل ما يمكن أن يتلفظ به بشر بأي لغة، ويغني عما يمكن أن يتصوره البشر بأي خيال، فكل كمال يمكن أن يتصوره أحد ويتكلم فيه أحد ففي القرآن والسنة ما يغني عنه، فأسماء الله العظمى -الله، الحي، القيوم، الرحمن، الرحيم، العلي، العظيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر سبحانه- أسماؤه هذه أعظم من أن يأتي البشر بأكبر منها، بل لله من الأسماء والصفات ما لا يطيقه البشر في الدنيا، حجبه الله بعلم الغيب عنده، ولذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ربه بمحامد من أسماء لله وصفاته؛ لأنه أفضل الخلق، فيعرف لله في ذلك الوقت من المحامد ما يلهمه الله إياه ولم يكن يعرفه في دنياه، وهذا يدل على أن الله له من العظمة والكمال والجلال ما لا يمكن أن يخطر بخيال بشر، وأن أسماء الله وصفاته التي وردت في الكتاب والسنة تجمع كل كمال يمكن أن يتخيله البشر، فمن هنا كان ما يصفه به العباد من غير ما ورد في الكتاب والسنة رجماً بالغيب؛ لأن الله ليس كمثله شيء سبحانه.
قال رحمه الله تعالى: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثم سلم على المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد].
إذا أردنا أن نعرف مدى خطأ المتكلمين الذين تكلموا بتلك الصفات بغير حق على نحو يدركه الإنسان بعقله وفطرته؛ فإنا سنقارن بين أقوالهم وما أخبر الله تعالى به عن نفسه، فالمتكلمون قالوا بأن الله ليس بجسم ولا بعرض ولا بجوهر، فلو أنهم اكتفوا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 3] ألا يكون هذا أكمل من كلامهم وأوفى وأسلم وأعظم وأسمى وأجل؟! هذه مقارنة يسيرة، فلم(4/12)
حفظ الله لدينه بعد انقضاء قرون الخيرية والاتباع
قال رحمه الله تعالى: [ومضى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر، ويقتدي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كله بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فإن كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] معطوفاً على الضمير في (أدعو)؛ فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان معطوفاً على الضمير المنفصل؛ فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق.
وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم)].
حفظ الدين -كما هو معلوم- يقوم على ركيزتين من خلال استقراء النصوص وأقوال السلف: الركيزة الأولى: ما تكفل الله به من حفظ مصادره بحفظ الذكر وهو القرآن والوحي، وهذا ضمان من الله، فلذلك سخر الله من أهل العلم من حفظ الحديث إلى أن استقر وبان الصحيح من غير الصحيح، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ما كانت تتهيأ لأمة من الأمم في الزمان الماضي.
إذاً: فالحفظ الأول هو حفظ الذكر نفسه، حفظ القرآن، ومعلوم أن الله تكفل بحفظه حتى إنه لم يستطع أحد أن ينال منه ولو بحرف من الحروف، وهذه معجزة.
ثم بحفظ السنة بالأسلوب العلمي الدقيق الرائع العجيب الذي اهتدى إليه السلف في ضبط الحديث درايته وروايته.
والركيزة الثانية من حفظ الدين: بقاء طائفة على الحق ظاهرين، وهذه الطائفة فسرت بتفسيرات، فمنهم من فسر هذه الطائفة بأهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه في الدين، وهذا يعني أن من كان على نهجهم فهو منهم، ولا يعني أنهم المقصودون فحسب، لكن لأنهم هم القدوة وهم الأسوة وهم المثل فسر بهم الحديث، ومن كان من عامة المسلمين على سمتهم ونهجهم فهو منهم.
ومنهم من فسره بأعم من هذا المعنى فقال: هم أهل العلم وعامة من كان على السنة.
والمعنى واحد ولا فرق، لكن أهل العلم نوهوا في تفسير حديث الطائفة المنصورة على ذكر أهل العلم؛ لأنهم هم الجماعة، وهم الذين تقتدي بهم الأمة، وهم الذين يحفظ الله بهم الدين علماً وعملاً، وغيرهم من عامة المسلمين إذا كانوا على هديهم فهم تبع لهم.
إذاً: حفظ الدين يقوم على الركيزتين: على حفظ مصادره وعلى وجود من يقوم به، فلا بد من أن يبقى من أهل العلم من هو حجة على الخلق إلى أن يأذن الله برفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا، وهذا في آخر الزمان.
قال رحمه الله تعالى: [وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي -تغمده الله برحمته- بعد المائتين؛ فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين، ووفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
فأخبر رحمه الله عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين].(4/13)
شرح العقيدة الطحاوية [5]
التأويل هو صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، ومن هنا فلا يتأتى لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعي القدرة على أن يعطي لألفاظ الغيب معاني أخرى لم يسبق إليها.(5/1)
بيان خطأ التأويل في العقيدة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكلما بعد العهد ظهرت البدع وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلا ليقبل، وقل من يهتدي إلى الفرق بين التحريف والتأويل؛ إذ قد سمي صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا، وإن لم يكن ثم قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي إلى الفرق بينهما].
بالنسبة للحديث عن التأويل ينبغي التنبيه على أمر من الأمور التي اختلطت على كثير من الناس خاصة في هذا العصر، وهي دعوى أن التأويل قد يدخل في العقيدة بأي وجه من الوجوه، وهذه دعوى باطلة بإطلاق جزماً؛ لأن العقيدة لا يمكن أن يرد فيها التأويل بأي معنىً من معاني التأويل عند من عرف التأويل من الأصوليين، والذين قالوا: التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة أو لدليل، تعريفهم هذا -مع سلامته عند الأصوليين- لا يمكن أن يسلم به في أمور العقيدة بإطلاق أبداً؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن معنىً إلى معنى آخر، وعن لفظ إلى لفظ آخر، واللفظ المغاير يقتضي المعنى المغاير، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فمن هنا لا يتأتى بأي حال من الأحوال أن يدعي بشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه باستطاعته أن يعطي معنى آخر لألفاظ الغيب، ومنها ألفاظ العقيدة، فألفاظ العقيدة استقرت على ما هي عليه، فعلى هذا يجب أن نقف على ألفاظها، ومعاني الألفاظ هي التي تفهم بما يمكن أن يفهمه البشر، وما لا يفهم يفوض علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الكيفيات، فمن هنا لا يتأتى التأويل في العقيدة أبداً، وما يرد من النصوص التي تشبه التأويل في العقيدة فإنما هو تفسير نص بنص، لا دخول للعقل فيه ولا لاجتهاد البشر، ولا يمكن لبشر أن يصرف لفظاً من ألفاظ العقيدة عن معنى راجح إلى معنى مرجوح؛ لأن الانتقال من معنى إلى معنى آخر يخرج المعنى الأول من اليقين إلى الشك، ثم يكون المعنيان كلاهما مشكوكاً فيهما ومظنوناً، وهذا لا يتأتى في العقيدة، بل ما كان كذلك لا يكون عقيدة، فلذلك اضطربت عقيدة المؤولة، كل من أول في العقيدة بأي نوع من أنواع التأويل فإن عقيدته مضطربة فيما أول فيه؛ لأنه خرج من المعنى الذي يريده الله إلى معنى آخر ليس عنده عليه برهان ولا دليل، والعقيدة غيب، ولو لم تكن غيباً ما صارت عقيدة، فأي أمر ينتقل من الغيب إلى عالم الشهادة لا يصبح من عالم الغيب ولا يكون عقيدة.
إذاً: فالتأويل في العقيدة لا يرد، إنما يرد التأويل في الأحكام؛ لأن أدلة الأحكام فيها الناسخ والمنسوخ، فيجوز صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر بقرينة النسخ، وكذلك ألفاظ الأحكام فيها المطلق والمقيد وفيها العام والخاص، وفيها ما يسوغ الخروج من لفظ إلى لفظ آخر، سواءٌ أكان هذا المسوغ دليلاً آخر أم قرينة أخرى أم قاعدة شرعية كبرى أم ضرورة أم خصوصية أم نحو ذلك.
أما العقيدة فلا يمكن أن يرد فيها تأويل، ولا نعرف أحداً من السلف وأئمة الدين قديماً وحديثاً ادعى أن في العقيدة تأويلاً، إذاً: فينبغي أن يفهم هذا؛ لأن هذه المسألة ستتكرر كثيراً في دروس العقيدة الطحاوية، وسيفرد لها باب إن شاء الله، وسيأتي لها مناسبة، لكن نذكر بها الآن ليفهم هذا.(5/2)
المحرفون ودعواهم الإحسان والتوفيق
قال رحمه الله تعالى: [فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إلى إيضاح الأدلة ودفع الشبه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إلى شبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه والاشتغال به والإصغاء إليه؛ امتثالاً لأمر ربهم حيث قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم.
وكل من التحريف والانحراف على مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين، واتباع ما أنزل الله عليهم، وقد ختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والإنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله، وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبراً وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول -وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا، وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحس الأشياء بحقيقتها -أي: ندركها ونعرفها- ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقة جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة].
هذه الدعوى -وهي دعوى الإحسان أو دعوى الإصلاح ودعوى كل طائفة وكل صاحب منهج أن منهجه هو الأسلم وهو الأصلح- توجد في كل الطوائف التي خرجت عن السنة والجماعة، سواء الطوائف التي خرجت خروجاً اعتقادياً وهي الفرق، والطوائف التي خرجت خروجاً عملياً، وهم أهل الفسق والفجور، فهؤلاء كل منهم يدعي أنه أراد الإصلاح وأراد التوفيق، وهذا من التضليل والإيهام والتلبيس على الناس؛ فإن شرع الله تعالى لا يمكن أن يلفق بغيره، ولا يمكن أن يوفق بينه وبين غيره؛ لأن التوفيق هنا تلفيق، والتوفيق إنما هو بين الأمرين المختلفين على الحق، أما التوفيق بين الحق والباطل فهذا لا يمكن، وكل دعوى توفيق بين الحق والباطل إنما هي تلفيق، وكل الأصناف التي ذكرها الشارح -كالمتكلمة والمتفلسفة- يدعون التوفيق، وعملهم ليس بصحيح، ودعواهم ليست حقيقية؛ لأن دين الله تعالى كامل وشرعه شامل لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، ودين الله -أيضاً- لا بد من أن يتضمن قطعاً ما يحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة، فدعوى أن الناس قد يحتاجون إلى شيء من العقليات تقرر لهم عقائدهم أو تقرر لهم الأصول الكبرى والأحكام القطعية الشرعية؛ دعوى باطلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل الدين، والله سبحانه وتعالى هو المشرع وهو العليم بمصالح عباده، فلا يمكن أن يدعي أحد من الناس أن في دين الله نقصاً، ودعوى التوفيق إنما تعني اتهام دين الله بالنقص وأنه بحاجة إلى أن يسد، وأن فيه نوعاً من الخلل، ولا يمكن أن يكون ذلك في دين الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأمرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة، والتوفيق بينها وبين الشريعة، ونحو ذلك].
وهذه -أيضاً- دعوى عريضة باطلة، دعوى التوفيق بين الشريعة وبين ما يسميه المتصوفة: الحقائق، وهي الجهل والضلال، والمتضادان لا يتفقان أبداً، وعلى سبيل المثال نجد أنهم في حقيقة عقائدهم يعتقدون الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو يعتقدون أن من مصادر دينهم الكشف والفيض والذوق وتقديس الأولياء وعلم الغيب ونحو ذلك، وفي الوقت نفسه يدعون من جانب آخر أنهم على العقيدة الصحيحة وعلى السنة، بل يحرصون على إظهار الشعائر الإسلامية، فشعائر الدين هم من أحرص الناس على إظهارها وإظهار الزهد والتنسك، وهذا مما يَفتِن بهم العامة؛ فلذلك نجد في تقرير غلاة المتصوفة والذين جمعوا بين التصوف والفلسفة للاعتقاد أمراً عجيباً، فمثلاً: نجد أحدهم - كـ ابن عربي على سبيل المثال- يقرر مذهب السلف حتى يظن القارئ أن هذا القائل أو المتكلم من أئمة الدين، ثم لا يلبث أن يعرج على عقيدة غلاة الفلاسفة وغلاة المتصوفة حيث يعتقد أنهم يعلمون الغيب ويعتقد أنهم فوق درجة الأنبياء، ويقرر أن للدين مصادر غير الكتاب والسنة مما عليه المتصوفة ونحو ذلك من الأمور الكفرية الخالصة.
فهذا التلفيق يعتقدون أنه محاولة للتوفيق بين السنة الظاهرة والشريعة وعقيدة المسلمين التي يسمونها الظاهر، وبين الحقيقة في عقائدهم، وهي الزندقة والكفر، ويزعمون أن هذا المنهج هو المنهج ال(5/3)
أصناف العادلين عن شرع الله
قال رحمه الله تعالى: [وكل من طلب أن يُحكِّم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه؛ فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلم ما جاء به الرسول في كثير من الأمور الكلامية والاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الإمارة السياسية، أو نسبوا إلى شريعة الرسول -بظنهم وتقليدهم- ما ليس منها، وأخرجوا عنها كثيرا مما هو منها، فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة].
ذكر الشارح أصناف الذين يعدلون عن شرع الله وعن العقيدة من المتصوفة ومن الفلاسفة وغيرهم من الفئات الأخرى التي تعرض عن دين الله، ففي هذا الكلام إشارة إلى أصناف الذين يعدلون عن دين الله.
فذكر الجهل، وهذا فيه إشارة إلى أن هناك فئة من الناس تعدل عن دين الله جهلاً، وذكر في العبارة الثانية الضلال، فالفئة الثانية من الذين يعدلون عن دين الله هم الذين تعمدوا الضلالة من أصحاب الأهواء والبدع، فهؤلاء ضلوا؛ لأنهم لم يكونوا جهلة، بل الغالب أن ضلالهم عن علم وعن عمل.
والصنف الثالث هم الذين فرطوا، وهم الذين يتساهلون في دين الله، يعلمون أن دين الله حق، ويعترفون بذلك ويصدقون، ويعرفون أيضاً أحكام الشرع، لكنهم يفرطون من باب التساهل أو التقصير أو غلبة الشهوات أو غلبة الهوى، وهؤلاء كثر.
والصنف الرابع: الذين يعرضون عن دين الله عدواناً، وهم أشبه بالصنف الثاني، لكن هؤلاء -في الغالب- يقعون في المخالفة لدين الله بنوع من التحدي للشرع وأهله.
والصنف الخامس هم أهل النفاق، ذكرهم في قوله: [وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم] فأهل النفاق الذين يظهرون الإسلام ويدعون أنهم من أهله ومن أنصاره ويبطنون الكيد؛ هم أخطر الفئات كلها، وربما يوجدون في جميع الفئات الأخرى.(5/4)
الخلل في التسليم وأثره على دين الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة، بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهراً وباطنا، فيكون قد تلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء، وإن كان العبد عاجزاً عن معرفة بعض ذلك أو العمل به؛ فلا ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك، ويود أن يكون قائماً به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه، بل يؤمن بالكتاب كله وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله اعتقادا أو عملا، كما قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]].
كأنه يشير إلى الذين يقعون في الإعراض عن دين الله بسبب الجهل أو التقصير، فهؤلاء جاء إعراضهم عن دين الله بسبب العجز عن المعرفة، والعجز عن القراءة، وقلة الفقه، وهذه إشارة إلى أن الذين يعرضون عن دين الله أو يلفقون في دين الله منهم من لا يتعمد الإعراض عن دين الله، لكنه أتي من قبل تقصيره في فهم الدين وفي إدراك مراد الله، أو عجزه عن العمل بالشرع لأي سبب من الأسباب، فالمسلم قد يعجز أو يضعف أو يجبن أحياناً لأي سبب من الأسباب عن العمل بشرع الله، ولا يسعى إلى أن يقوى الدين وأن يعتز بالإسلام، فهذا يعتبر من المقصرين أو العاجزين، وإلا فالأصل في المسلم إذا أسلم لله سبحانه وتعالى أن يسلم لدينه وشرعه، وألا يتعلل بالعجز وأن لا يتعلل بعلل أخرى؛ لأنه قد لا يدرك علل التشريع، بل الغالب أن البشر لا يدركون جميع العلل في التشريع؛ فلذلك قام الدين على التسليم لله تعالى والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداءً.
ثم بعد ذلك العمل، لا بد من أن ينتج عن التسليم العمل بشرع الله تعالى، فمن اختل عمله لا بد من أن ينقص تسليمه، ومن اختل تسليمه لا بد من أن يختل عمله، والأمران مترابطان، فلا فرق بين العقيدة والشريعة، العقيدة التي هي التسليم والشريعة التي هي العمل، ومن فرق بينهما تفريقاً اعتقادياً ربما يخرج من الملة.
إذاً: سبب هذا العجز هو الخلل في التسليم ابتداءً، فليسلم لله تعالى وليثق بدين الله وبنصر الله، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يقع في الإخلال بدين الله تعالى بدعوى العجز؛ لأن من اتكل على الله فإن الله يسدده ويرشده ويهديه.
فالتسليم لله تعالى هو المقصود، التسليم لله تعالى بالعبادة والطاعة والامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم بحبه وتصديقه واتباع هديه، هذا هو التسليم؛ لأن من مقتضى التسليم التصديق، ومن مقتضى التصديق الاتباع؛ لأن من سلم لله تعالى وسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم سلم بالكتاب والسنة، ومن سلم بالكتاب والسنة علم أن الكتاب والسنة يتضمنان الأمر والنهي، فإذا ادعى إنسان أنه مسلم ولم يتبع الأمر اختل تسليمه، ومن ادعى أنه يسلم لله تعالى ولم ينته عما نهى الله عنه اختل تسليمه، ومن ادعى أنه مصدق لله تعالى ولرسوله وبكمال الدين ثم ابتدع انتقض تسليمه؛ إذ كيف تقول بأنك سلمت لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ثم تأتي بدين لم ينزله الله، فمن مقتضى التسليم ترك الابتداع.(5/5)
التحريف وأنواعه
كذلك التحريف في الاعتقاد والتحريف القولي والتحريف العملي، لكن تحريف الاعتقاد هو المقصود بالدرجة الأولى، ومنه ما هو كفر، مثل تحريف أصول الدين عن معانيها إلى معانٍ أخرى، كتحريف أسماء الله وصفاته بالتحريف الذي يؤدي إلى إنكارها إنكاراً تاماً، أو صرف معاني كلام الله تعالى إلى معان كفرية، وهذا يسمى تحريفاً كفرياً، كتفسير (الرحمن الرحيم)، بأنه المبدأ الأول والمبدأ الثاني، أو الإله الأول والإله الثاني كما يقول الزنادقة تبعاً للمجوس، أو تفسير (رب العالمين) بأنه علي بن أبي طالب كقول غلاة الرافضة، والدروز والعبيدية وغيرهم، هؤلاء يقولون: رب العالمين علي بن أبي طالب.
وهذا تحريف مكفر، ومنه -أيضاً- إنكار صفات الله تعالى، فهذا تحريف مخرج عن الملة.
ومن التحريف ما هو كفر لا يصل إلى الخروج عن الملة، وهذا راجع إلى عقيدة المحرف، فإذا وقع في أمر مكفر لم يقصده ولم يقصد مناقضة كتاب الله تعالى؛ فقد يكون كفره غير مخرج من الملة.
ومنه ما هو فسق، كتحريف الأحكام، أي: تحريف أدلة الأحكام عن معانيها الحقيقية إلى معان أخرى.
ومنه ما هو خطأ، وهو التحريف الذي يقع فيه المسلم دون قصد، كما وقع فيه بعض أئمة العلم، كتأويل بعض صفات الله، فهو لم يقصد أصل التأويل، إنما وقع فيه عن اجتهاد، فهذا يعتبر خطأً لا يقر عليه، لكنه لا يفسق به ولا يكفر.(5/6)
موقف السلف والتابعين لهم وأئمة الدين من أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين، ثم من بعدهم، ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة.
فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـ بشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة.
أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره؛ فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله، فيكون علماً بهذا الاعتبار، والله أعلم.
وعنه أيضا أنه قال: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب].
يقصد بمن طلب المال بالكيمياء طائفة من الذين كانوا يحترفون الكيمياء قديماً، فالكيمياء علم من العلوم، لكن هناك طائفة من الدجالين ومن المحترفين قديماً كانوا يتعلمون الكيمياء من أجل أن يراهنوا به العامة، فيأتون للعامي الذي لا يدرك أسرار هذا العلم فيقولون له: نحن نستطيع أن نقلب هذا العنصر من نوع إلى نوع أو من لون إلى لون، فيراهن على ذلك ظناً منه أن هذا مستحيل، فيحولون له السائل إلى جامد والجامد إلى سائل، ويحولون له لون كذا إلى لون كذا وهو يرى ولا يدرك سر التحول من هذا العنصر إلى هذا العنصر، فيغلب ويدفع المال بغير حق، فكانوا -أي: أصحاب الكيمياء أو طائفة منهم- في ذلك الوقت يستعملونها فيما يشبه القمار، يقامرون بها مقامرة ويراهنون بها ويأكلون أموال الناس بالباطل، فكان هذا من الكسب الحرام، وصاحبه في الغالب أنه يفلج في النهاية.
وكذلك طلب غريب الحديث، فبعض الناس لا ينظر من الحديث إلا إلى الغرائب والشواذ، أو إلى الحديث الضعيف أو الموضوع، ويقول: أريد أن أخدم الحديث من هذا الجانب، وهذا مسلك خطير؛ لأن من تعلق بالغريب أو تعلق بالموضوع والضعيف أو تعلق بأمور تضر قلبه فإنه في الغالب لا بد من أن يتأثر بهذا المسلك.
وربما كان في عهد أبي يوسف طائفة من الوضاعين يهتمون بهذه الأمور يلبسون على الناس ويخلطون الأحاديث الصحيحة بالضعيفة وغيرها.
قال رحمه الله تعالى: [وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام].
المصيبة أنه في الآونة الأخيرة -بل بعد القرن الثالث الهجري وبعد كلام أبي يوسف والشافعي هذا بمدة- انقلب الحال، فصارت أغلب الفرق التي تدعي السنة تبدأ في تعلم العقيدة بعلم الكلام، فأول ما يبدءون به في تعليم الناشئة والمتعلمين من العقيدة هو علم الكلام، فيقرءون أمثال كتاب الجوهرة، ومقدمات علم الكلام قبل أن يفهموا من العقيدة شيئاً، فمن هنا ظهرت أجيال من المسلمين كثيرة لا تعرف من العقيدة إلا ما كان على نهج أهل الكلام، حتى ظنوا أن هذا هو السنة، والتبس الأمر على كثير من المسلمين إلى يومنا هذا، كما سيأتي تفصيله -إن شاء الله تعالى- في درس قادم.
قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين].
قد يفهم بعض الناس من مثل هذه الأبيات أن الشافعي وغيره من أئمة الدين لا يرون تعلم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وغيرها التي تنفع المسلمين، وهذا فهم خاطئ؛ فإن كلام الشافعي هذا وكلام غيره من أهل العلم الذين قصروا العلم على (قال الله وقال رسوله) يقصدون به العلم الشرعي إذا تلقي وأخذ من غير الكتاب والسنة، فإن هذا مهلكة؛ نظراً لأن السلف كانوا يطلقون العلم على العلم الشرعي، فإذا وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة وعلى ألسنة السلف فإنما يعنون بها العلم الشرعي، فكأن الشافعي وغيره يقولون: من طلب العلم الشرعي من غير الكتاب والسنة -كأن أخذه عن مجرد العقول أو عن الفلسفة أو عن علم الكلام أو عن آراء الرجال أو عن أهواء الأشخاص أو عن مصادر التلقي عند الآخرين، كتلقيه عمن يسمون بالأئمة المعصومين عند الشيعة، أو الأولياء عند المتصوفة، أو تلقيه عما يسمى بمصادر الكشف والذوق والأحلام وغيره- من طلبه من غيرهما فطلبه ليس بعلم، إنما هو مهلكة.
إذاً: الكلام لا يندرج تحته ما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي تنفع المسلمين أو العلوم التطبيقية؛ لأن تلك ليست علوماً إلا إذا قيدت، فلا يقال في الطب -مثلاً-: علم دون تقييد، بل يقال: علم الطب، علم الفلك، علم الكيمياء، علم الفيزياء، فيقيد.
أما العلم المطلق الذي ورد ذكره في القرآن والسنة بالثناء على أهله والأمر بتحصيله، والأجر على تحصيله؛ فهو العلم الشرعي.
أما غيره من العلوم فإن الإنسان يؤجر فيه بقدر نيته، كما يؤجر طالب التجارة، وكما يؤج(5/7)
نصوص الحنفية في إخراج الكلام وأهله عن دائرة العلم
قال رحمه الله تعالى: [وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون].
الأصحاب هنا هم الأحناف، فـ ابن أبي العز حنفي، وكذلك الطحاوي -رحمه الله- حنفي، فهنا يقصد الأحناف.
قال رحمه الله تعالى: [وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام.
ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية].
كلام الشيخ واضح، وهو يعني أن أئمة السلف -وقد أشار إلى طائفة منهم، وهم علماء الأحناف في وقته- وقبل وقته كانوا لا يعدون علم الكلام من العلوم، بل يعدونه خارجاً عن معنى العلوم، ولذلك قالوا: إنه لو أوصى إنسان بأنه إذا مات فإن كتبه العلمية توقف على كذا؛ فإن ما يدخل من هذه الكتب في علم الكلام لا يعد من ضمن العلم الذي أوصى به، ولا من كتب العلم، ويخرج من مفهوم كتب العلم.(5/8)
هدي السلف في تقرير الاعتقاد ومخالفة المتأخرين لهم
قال رحمه الله تعالى: [فكيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل: أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول تطلب الفرع كي تصحح أصلاً كيف أغفلت علم أصل الأصول ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل كثير البركة].
لعلنا نورد مثالاً على كلام المتقدمين وكلام المتأخرين، أقصد بالمتأخرين أولئك الذين سلكوا مسلك علم الكلام في تقرير العقيدة، الذين انتهجوا علم الكلام في تقرير العقيدة، فنجد أن الفرق بينهم وبين السلف في تقرير العقيدة واضح جداً، فنأخذ صفة من صفات الله وهي صفة الاستواء، فالسلف يقولون: (الرحمن على العرش استوى) ولا يزيدون، كلمة هي لفظ كلام الله تعالى لا يزيدون فيها ولا ينقصون، وكذلك أتباعهم إلى يومنا هذا، لكن المتكلمين الذين أولوا الاستواء خاضوا في تأويله بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة وتزيد المتكلم شكاً وريبة، بل تلبس على المعتقد وتجعله لا يستقر على عقيدة، فنجد في كتبهم في تقرير الاستواء أنهم يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، ثم يقولون: إن الاستواء يكون بغير مماسة ولا اعتماد، وبغير مكان وبغير زمان، ولا هو مباين ولا محايث، هذه كله في تقرير الاستواء، كلام لا طائل تحته إلا مرض القلب وإدخال الشبهات على الناس، وكل ذلك لم يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا على ألسنة السلف، فالسلف يقررون -كما قال الرازي في آخر حياته- أن الرحمن على العرش استوى فقط، بدون خوض؛ ولا يمكن أن يدرك أكثر من معاني الألفاظ الظاهرة، فالله ليس كمثله شيء، لكن نجد في تقرير الاستواء عند بعض المتكلمين أنه قد يكتب عشرين أو ثلاثين صفحة في تقرير معنى الاستواء، فتأتي في ذهنه هذه الشبهات، ويكون عنده الاعتقاد هو النفي وليس الإثبات، فكأنه يصف معدوماً ويزعم أنه ربه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال رحمه الله تعالى: [لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم وإن طريقتنا أحكم وأعلم.
وكما يقوله من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه: إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالاً منهم بغيره، والمتأخرون تفرغوا لذلك، فهم أفقه! فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا].
ذكر الشارح أن ضُلاَّل المتكلمين يقولون بأن طريقة الصحابة والتابعين وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة أسلم في الاعتقاد، لكن طريقة المتكلمين -زعموا- أعلم وأحكم، وهذه دعوى فيها تلبيس وفيها إيهام، فهم يقولون بأن السلف في صفات الله عندهم شيء من طيبة القلوب وسلامة الصدور وعدم القدرة على التعمق في العلوم، فقالوا: غاية ما يقال عن السلف أنهم سليمو القلوب، قلوبهم سليمة، لذلك ما استطاعوا أن يخوضوا في معاني صفات الله وأن يقولوا بذاك الكلام الذي قال به المتكلمون، وهذه شبهة من شبهات ودسائس الشيطان؛ لأن الصحيح الذي نعتقده جزماً أن دين السلف وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم، وأن دعوى المتكلمين بأن طريقتهم أعلم وأحكم دعوى باطلة؛ لأن هذا يعني أنه بقي علم لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بقيت حكمة لم يظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل في أمر الاعتقاد.
قد يقال هذا في بعض مسائل الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد متجدد، وقد يدرك الآخر ما لا يدركه الأول إذا آتاه الله علماً وقدرة، فهذا في أمور الاجتهاد قد يرد في بعض المسائل، أما في الجملة فلا شك في أن اجتهاد السلف من الصحابة والتابعين أعلم وأسلم وأحكم من جملة اجتهاد المتأخرين، لكن قد يرد في مفردات المسائل أنه يأتي المتأخر فيعي ما لا يعيه المتقدم في بعض الجزئيات، وهذا في الأمور الاجتهادية.
أما في الأمور العقيدية فلا يمكن، ولا يتأتى أن تكون طريقة المتأخرين أعلم وأحكم؛ لأن الأسلم لا بد من أن يكون أعلم، والأسلم لا بد من أن يكون أحكم، لاسيما في الاعتقاد، وإذا فصلنا بين السلامة والعلم والحكمة فهذا يعني أنا جعلنا للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة، والباطن هو ما أدركه المتأخرون، وهذا هو بعينه الباطل والضلال، نسأل الله العافية.(5/9)
منهج السلف ومنهج المخالفين في التأليف
قال رحمه الله تعالى: [وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلى أهل الكلام المذموم واستمد منهم وتكلم بعباراتهم].
الذين شرحوا الطحاوية أغلبهم من المتكلمين، ومن جملة أسباب ذلك أن أغلب شراح الطحاوية من الأحناف المتأخرين، وأغلب الأحناف المتأخرين من أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، مع أن متقدمي الأحناف ابتداءً من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والطحاوي كانوا من سلف الأمة وعلى هدي السلف.
وزخم كتب المتكلمين وكثرتها ليس فيما يتعلق بشرح الطحاوية فقط، بل في سائر العلوم، حتى التبس ذلك على كثير من المسلمين وجعلهم يختلط عليهم الأمر، فقد ابتليت الأمة بأن تعرض كثير من المتكلمين لشروح الكتب والتأليف والتصنيف، بل كانوا أحرص من غيرهم من أئمة الدين على التأليف والتصنيف؛ لأن من منهج السلف أنهم لا يكتبون إلا ما يدينون بأنه حق وأن فيه فائدة.
أما المتكلمون فإنهم يكتبون ما هب ودب، وقد يتكلم أحدهم عن الجزئية المتوهمة الخيالية في مجلدات على أنها حقيقة وأنها عقيدة، ككلامهم عن الأمور التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلامهم عن الجوهر والعرض والمباينة والمفاصلة والجسمانية والحركة والأعضاء والأدوات والجهات وغير ذلك من المعاني البدعية التي لم ترد في الكتاب والسنة، فنجد أنهم يكتبون في هذا مجلدات، وهذا جعل كتبهم أكثر من كتب السلف عدداً وزخماً، وابتلي بها المسلمون حتى ظن طائفة من الناشئين ومن شباب المسلمين أن هؤلاء هم على الحق وحدهم، وأنه لا يمكن أن يكون الحق مغموراً ومصنفات أهل السنة مغمورة، والعكس صحيح؛ فإن مؤلفات أهل السنة والجماعة قد تكون أقل نظراً لأنهم لا يكتبون إلا الحق، وأهل البدع كتبهم كثيرة، فلذلك كان أهل البدع أكثر تصنيفاً من أهل السنة وأقدم تصنيفاً، فلو نظرنا إلى أول من ألف في القرن الأول الهجري والثاني وأكثر من التأليف لوجدنا أنهم المعتزلة والجهمية والقدرية، وأما أهل السنة والجماعة فيقررون العقيدة بإيجاز ويقررون الدين بإيجاز ويقررون ما تحتاجه الأمة، ولا يكتبون الفلسفات، ولنعمل مقارنة واحدة بين كتب أهل البدع وكتب أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة مع أنهم عنوا بجميع السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح منها وغير الصحيح؛ نجد أن كتب الصحاح عندهم تعد مجلدات محدودة، في حين أنه عند الرافضة كتاب واحد من الكتب اللي يعتبرونها مصدراً من مصادر الدين -وهو بحار الأنوار- في مائة وعشرة مجلدات؛ لأنه كذب، والكذب سهل.
أما السلف فكانوا من المقلين، ولا يؤلفون إلا عند الحاجة، وإذا ألفوا كتبوا بالحق، والحق قليل؛ لأنه لو كثر الحق على الناس ما استوعبوه، فالله سبحانه وتعالى أنزل للبشر في نصوص الكتاب والسنة ما يكفي لمداركهم وما يصلح أحوالهم، وما زاد على ذلك من الفلسفات والخيالات والكذب والفجور فلا حاجة للناس إليه.
فمن هنا نعود ونقول: إن كثرة مصنفات أهل الكلام وأهل البدع ليست ظاهرة صحية، بل هي ظاهرة مرضية، وكثرتها الآن والاهتمام بطباعتها دليل على نشاط أصحاب البدع، وأنهم يكادون أن يكونوا أنشط من أهل السنة -مع الأسف- في إخراج تراثهم.
قال رحمه الله تعالى: [والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا -أيضاً- الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم.
ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه).
وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم وأنسج على منوالهم متطفلاً عليهم لعلي أن أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم وأحشر في زمرتهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار آثرته على التطويل والإسهاب {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] وهو حسبنا ونعم الوكيل].(5/10)
شرح العقيدة الطحاوية [6]
أجمع أئمة الدين قديماً وحديثاً على أن أول ما يعنى به المسلمون جماعات وأفراداً هو توحيد الله جل وعلا، وهذا ما قطعت به أدلة الكتاب والسنة، وما أرسلت به الرسل؛ لأن العباد إذا صحت عقائدهم وتخلصوا من البدع والشركيات صلحت أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية وسائر شئونهم.(6/1)
بيان أول ما يجب على المسلم اعتقاده والدعوة إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له).
ش: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله)].
هنا يقرر ابن أبي العز تبعاً للطحاوي رحمه الله ولسائر السلف أصلاً عظيماً أجمع عليه أئمة الدين المقتدى بهم قديماً وحديثاً من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو أن أول الأمور التي يجب أن يعتقدها كل مسلم والتي ينبغي أن يعنى بها المسلمون جميعاً جماعات وأفراداً قضية توحيد الله، وهذا الأصل -كما أشار الشارح- لم يستنبط باجتهاد، بل هو قطعي من خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة؛ فإنا نجد أن الله تعالى ذكر أن جميع الأنبياء أول ما يبدءون بدعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وليس بالمقصود بالتوحيد -كما يزعم المتكلمون، وكما يزعم بعض المُحدَثِين الذين لا فقه لهم في الدين- معرفة الله وإثبات وجوده؛ لأن هذا أمر فطري بدهي -كما سيأتي- لا يحتاج إلى تقرير عند عامة البشر، وإن وجد من البشر شذاذ يعمون عن الحقيقة، فلا ينبغي أن تخضع لهم أصول العلم وأصول الاعتقاد، بل من أصول الاعتقاد وأصول الدعوة الضرورية الأساسية القطعية المعلومة بالضرورة أن أول ما ينبغي أن يدعى إليه -كما هو منهج الرسل- هو توحيد الله تعالى بالعبادة، وليس هو توحيد المعرفة؛ لأنه لا يعرف على الإطلاق في تاريخ البشر أن أمة من الأمم التي بعث فيها أنبياء أنكرت وجود الله أو أنكرت توحيد الربوبية، لا يعرف هذا، وما حدث من فرعون فإنه من باب الجحود لا من باب الإنكار، والجحود لا يعد إنكاراً، ثم إن جحود فرعون لا يعني أن جميع الأمم في وقته -حتى الكفار المشركين- كانوا ينكرون وجود الله أو ينكرون توحيد الربوبية.
فلا يصح القول بأن التوحيد إنما المقصود به إثبات وجود الله فقط أو توحيد الربوبية فقط، بل التوحيد إذا ورد في الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية.
فأول ما يدعو إليه الداعية تبعاً للمرسلين هو توحيد الله تعالى، وهذه المسألة حتمية قطعية، ولم يحدث الجهل بها إلا بعدما قل الفقه في الدين.(6/2)
خطر التساهل في الدعوة إلى التوحيد
ولعلي بهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، ومن أخطر هذه الأخطاء التساهل في الدعوة إلى التوحيد، والتساهل في النهي عن الشرك والبدع، حتى صار هذا التساهل أصلاً من أصول بعض الدعوات، وهذا خطر عظيم، بل هو بوادر انحراف، وسببه قلة الفقه في الدين عند هؤلاء الدعاة، وسببه -أيضاً- اللبس عندهم فيما ينبغي أن يبدأ به وما هو أجل شأناً في الدعوة إلى الله وما هو دون ذلك.
وكثير من الدعوات المعاصرة تأخذ الواجبات في الدعوة بالعكس، فأخذت ما هو أدنى درجة مما ينبغي أن تعنى به الدعوات وجعلته هو الأول، وجعلت الهدف الأول هو الهدف الأدنى، حتى قالوا: لا ندعو إلى التوحيد وإلى نبذ الشرك، حتى نؤلف قلوب الناس ونجمعهم على الشعارات السياسية وعلى أمور أخرى.
وهذا خطأ وخطر عظيم، بل هو انحراف في مفهوم الدعوة وفي غاياتها وفي مناهجها، فينبغي أن يسدى لمثل هؤلاء النصح؛ فإن أي دعوة لا ترتكز على الدعوة إلى التوحيد فإنها إما فاشلة أو ضالة، وأي دعوة لا يكون أهم أهدافها وأول أهدافها الدعوة إلى التوحيد فإن مصيرها إلى الفشل أو الضلال، ودعوى أن المسلمين ليس فيهم شرك وانحرافات وبدع دعوى ساذجة أو مغرضة، فإما أنها دعوى تدل على عدم الفقه في الدين وعدم التمييز بين الشرك والتوحيد وعدم التمييز بين البدعة والسنة وهو الغالب، وإما أنها مغرضة، وهذا قليل، فدعوى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن تصحح عقائدهم ولا أن ينهوا عن البدع التي هم فيها، وأن هذا يؤجل إلى حين فيها خطورة عظيمة، بل هي انحراف في مسالك الدعوة، وقد يقول قائل: إن دعوة الناس إلى التوحيد وترك الأمور الأخرى تعني أن الداعي سيهمل أمور المسلمين والمشكلات الكبرى التي يعانون منها، وأقول: العكس هو الصحيح؛ فإنه ينبغي للمسلم أن يدعو وأن يهتم بكل أمور المسلمين، لكن أول ما يهتم به ويدعو إليه هو ما يتعلق بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك ونبذ المبتدعات، وبعد ذلك يهتم بالأمور الأخرى، ويهتم بالأصول حتى بترتيبها، يهتم بأصول الإيمان وأركان الإسلام، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شعائر الإسلام الظاهرة، كما يهتم في نفس الوقت بأصول الأخلاق، ويهتم بقضايا المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وهذا كله حق، لكن لن تصلح أحوال المسلمين ولن تستطيع الدعوات المعاصرة أن تصحح أمور المسلمين على نهج قويم إلا إذا جعلت أول أهدافها عملياً ونظرياً الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك والبدع، وما لم تفعل ذلك فإنها محكوم عليها إما بالفشل وإما بالانحراف، وأنا أظن أن من أعظم أسباب فشل كثير من الدعوات التي قامت منذ عشرات السنين وتخبطها في تيه التجارب الفاشلة أنها تساهلت في التوحيد وجعلته بدرجة أدنى، وإن ادعت نظرياً أنها تدعو إلى التوحيد، لكنها عملياً لا تتساهل فيه فقط، بل إنها تلمز الدعاة إلى التوحيد، تلمزهم وتجعل من أخطائهم ومما تنتقدهم به أنهم يدعون إلى توحيد الله وينبذون القبوريات والشركيات.
وبناءً على هذا نعرف أن القاعدة القطعية عند سلف الأمة وعند أئمة الهدى إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة أن أول ما ينبغي أن تعنى به كل دعوة شاملة في المسلمين هو توحيد الله تعالى ونبذ الشرك والبدع، ثم بعد ذلك تهتم بالأولويات بحسب درجتها في الشرف، ولتساهل بعض هذه الدعوات في التوحيد نجدها تتساهل حتى في أركان الإسلام وحتى في أصول الإسلام الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب هذا التساهل هو الإخلال بالأصل الأول.
ثم إنا نعلم قطعاً أنه إذا صحت عقائد المسلمين بتوحيد الله تعالى، وإذا تخلصوا من البدع والشركيات صلحت أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وهذا لا شك فيه ولا ريب، فإذا صلحت أحوال المسلمين وصلحت قلوبهم وعباداتهم واستقامت على التوحيد الخالص ونبذ الشركيات والبدع والقبورية وغيرها، فإنه لا بد بالضرورة أن تصلح أحوالهم الأخرى، والله يهيئ لهم من أمرهم رشدا، وهذا أمر قطعي يجب أن يعلمه كل طالب علم وأن يفقه غيره فيه.(6/3)
بيان مذهب السلف في أول واجب على المكلف وزلل أهل الكلام في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم].
في هذه الكلمات يشير الشارح إلى مذاهب الناس في أول واجب على المكلف، مع أن هذه المسألة محسومة شرعاً عند أهل السنة والجماعة، لكن مع ذلك تنازعت فيها الفرق، ولا شك في أن أول واجب على المكلف هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا أمر بدهي، وإنما النزاع: هل يلزمه إذا بلغ أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أم يكفيه إذا كان في بيئة مسلمة أن يكون مع المسلمين ويظهر الإسلام ويصلي ويصوم ويقيم الأركان؟ وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأنه لا يلزم الإنسان في الدقيقة التي يبلغ بها سن الرشد أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا كان بين ظهراني المسلمين، هذا لا يلزم؛ لأنه مسلم في الأصل، ونشأ في المسلمين، فإذا صلى وصام وأقام شعائر الإسلام فهو مسلم، ولو لم يسمع نطقه بالشهادتين؛ لأنه عمل بالمقتضى الذي هو أقوى من النطق، عمل بمقتضى الشهادتين الذي هو أقوى من النطق، ومع ذلك قد يقال من باب التكلف: لو نطق لكان أفضل وإنما يلزم النطق بالشهادتين من دخل في الإسلام بعد الكفر، فهذا يلزمه النطق بهما؛ لأنهما مفتاح الدخول في الإسلام.
فكون الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أول واجب على المكلف أصل لا يختلف فيه أهل العلم المحققين من أئمة الدين، إنما النزاع جاء بعدما ظهر علم الكلام وظهرت القدرية والمتكلمة من الجهمية والمعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أتوا ببدع عظيمة في هذا الأمر، فقالوا: أول واجب على المكلف أن ينظر، فما معنى ينظر؟ يعني: يشك: من ربك؟ وما أدلة التوحيد؟ ثم كيف يعبد الله؟ ثم يشهد الشهادتين، وهذا إخراج للناس عن الفطرة وإدخال لهم في التيه والضلال والشك، بل هو دعوة إلى الإلحاد والانحراف؛ لأن الإنسان إذا شكك فقيل له: أين رأسك؟ فذهب ليلمسه؛ فإن تشكيكه في الله يؤدي لإثبات وجوده إلى طلبه بالحس! فلا ينبغي أن يكون النظر هو طريق الوصول إلى معرفة الله ووجوده وتوحيده ثم إلى عبادته ثم الخضوع والتسليم له، لا يجوز هذا؛ لأن مقتضى الفطرة أن الإنسان على التوحيد، ومقتضى الفطرة أنه مسلم لله تعالى، فإذا نشأ مسلماً بين المسلمين فهو -بالضرورة- عارف للإسلام وعارف لوجود الله ووحدانيته.
ثم إن الدخول في إثبات الوحدانية والتوحيد بالأدلة العقلية لا يستوعبه كل الناس؛ لأنهم ينشئون على الفطرة التي هي الإيمان بالله، ومن حاول أن يزداد يقيناً عن طريق الشبهات العقلية فإنه لن يزداد إلا شكاً، إلا قلة من المتمكنين الذين يريدون أن يثبتوا لبعض الملاحدة أو من في قلوبهم شبهات هذه الأمور؛ أما أن يكون ذلك مسلكاً لكل مسلم يسلك فيه إلى الإسلام أو الإيمان؛ فهذا من الباطل قطعاً، بل يؤدي إلى الشك؛ ولذلك وردت قصة صحيحة رواها كثير من الكتاب في الملل والنحل وغيرهم للرازي المتكلم، وذكرتها أكثر من مرة، لكن لها في هذا الموطن مناسبة.
يقولون: إن الرازي مر ذات مرة بعجوز كانت تتشمس أمام بابها ومعه حشد من طلاب علم الكلام وراءه يكتبون ما يقول، فعجبت من هذا الرجل فسألت سؤال الساذج، فقالت: من هذا؟! قالوا: أما تعرفينه يرحمك الله؟! قالت: لا، أهو الملك؟ أهو السلطان؟ قالوا: لا، قالت: أهو الوالي؟ أهو القائد؟ أهو فلان؟ قالوا: لا.
ثم قالوا: هذا من يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: تباً له، والله تعس، إن كان ذلك ففي قلبه ألف شك، أفي الله شك؟! وهذا نداء الفطرة، فهذه ما عندها شك في وجود الله، وكذلك غيرها من عامة المسلمين، بل إن المتعلمين وطلاب العلم إذا بقوا على فطرتهم فما جاءتهم الشبهات والأهواء فالأصل فيهم التسليم لله تعالى بالجملة، ويحتاجون إلى تفصيل الشرائع فقط وتفصل العقائد التي وردت، وهي غيب لا يعلمه إلا الله.
أما مسألة وجود الله فالباحث عنها كمن يجلس في الشمس ثم يقول: اثبتوا لي أن الشمس طالعة، فماذا يقال عنه؟ أهو عاقل؟! بل غير عاقل، ففي عقله خلل.(6/4)
بطلان اعتماد الشك قبل اليقين في التوحيد
وهناك نظرية خطيرة عند الفلاسفة، وإن كانت قليلة في المتكلمين الذين يدعون الإسلام، لكنها توجد عند فلاسفة ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ووجدت أيضاً في العصر الحديث، جاءتنا عن طريق النظريات الغربية، وقال بها بعض الكتاب المحدثين من المسلمين، وهي قضية الشك قبل اليقين، فهذا مبدأ هدام، ويرتكز على القول بأنه لا ينبغي للمسلم أن يسلم بكل شيء، فإن قيل له: محمد رسول الله فينبغي أن يتثبت من كون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قيل له: لا إله إلا الله؛ فينبغي أن يتثبت، وإن قيل له: هناك شيء اسمه بعث فينبغي أن يتثبت، فيخضع القضية أولاً للبراهين العقلية والعلمية، فإن وصل إلى يقين آمن وإن لم يصل إلى يقين فهو في حل من الإيمان، وهذا هو الإلحاد بعينه وهو الزيغ والزندقة، وقد تبناها بعض الكتاب المحدثين حتى كتبوا كتباً مثل (الشك قبل اليقين) وغيرها من الكتب الهدامة التي دخلت على شباب المسلمين وأوجدت عندهم زعزعة في العقيدة وعدم الثقة بالإسلام.
فالحاصل أن هؤلاء المتكلمين بعضهم يقول: يجب النظر على كل إنسان، سواء تمكن أو لم يتمكن، فلا بد من أن ينظر، بمعنى: أن يفكر في خالقه، فيفكر في توحيد الله، ولا بد من أن يصل إلى النتيجة بعقله، وبعضهم قال: لا يلزم ذلك كل الناس، وهذا المذهب الثاني هو مذهب القصد إلى النظر، وعليه من يسمون بمعتزلة المتكلمين، وليس بمتكلمي المعتزلة، فالمعتدلون من المتكلمين يقولون: لا يلزم أن نقول: يجب النظر، إنما يجب القصد إلى النظر، فما معنى القصد؟ معناه: محاولة النظر، يعني: أن العاقل إذا بلغ يختلف ذكاؤه، فإن كان ذكياً فعنده القدرة على النظر، فينبغي أن يقصد النظر، فإن توصل إليه فبها ونعمت، وإن لم يكن ذكياً فقد لا يستطيع، فالمهم أن يحاول، هذا معنى القصد، أن يحاول النظر، فيتفكر في أدلة وجود الله وفي وحدانيته، فإن تمكن وإلا كفاه ذلك، فالمهم أن يشرع ويقصد النظر، ويتعمد الشك، وهذا مؤدى الكلام، وهم ما قالوا كذا، لكن قالوا: لا بد من أن يقصد البحث عن أدلة وجود الله وتوحيده، فإن استطاع فبها ونعمت، وإن لم يستطع فهو معذور، والسلف يقولون: لا يجب عليه النظر، فإن كان عاقلاً ذكياً ملماً بدين الله وفقيهاً فله النظر في ذلك بعد اعتقاده توحيد الله ومعرفة ما جاء في الكتاب والسنة.
وإن لم يملك هذه الأصول فلا نكلفه ما لا يستطيع، أما إذا أراد ذلك بعقله دون اهتداء بشرع الله فسيهلك؛ لأنه لن يصل إنسان إلى الغيب، ولا سبيل للعقل إلى الغيب أبداً، ولو كان العقل يستطيع أن يعلم الغيب ويصل إليه ما صار غيباً، لو استطاعت العقول أن تتمكن من معرفة الغيب على وجوهه التفصيلية ما سمي غيباً، بل يصير شهادة، حيث صار مدركاً، والمدرك ليس بغيب.(6/5)
بيان محمل قول إبراهيم الخليل في النجم والقمر والشمس: هذا ربي
وأما قصة إبراهيم عليه السلام حين نظر في ملكوت الله فلا تحمل على أنه كان يبحث عن وجود الله، وليس عنده شك في أن الله واحد وأنه وحده المعبود؛ إذ ربما كان في ذلك الوقت لم ينزل إليه الشرع، وقد كان موجوداً في بيئة وثنية، فهو رفض الأصنام، وكان يبحث عن طريق صحيح إلى عبادة الله، فبعقله بحث عن هذا الطريق فوصل إلى أن الله لا يعبد من خلال مظاهر ناقصة، إنما يعبد من خلال الكمال، ولا يعبد من خلال الوسائط، إنما يعبد سبحانه وتعالى بدون وسيط، بطريقة شرعية، فتوصل بفطرته إلى أن تلك الأشياء نظراً لنقصها -حيث أفل النجم والقمر والشمس- لا يمكن أن تكون هي الله أو الموصلة إلى الله، فعرف أن الله يعبد دون هذه الأشياء؛ لأنها ناقصة والناقص لا يستحق العبادة، فلم يكن عنده شك في توحيد الله تعالى ولا في وجوده، وإنما لم يكن عنده الشرع، والله أعلم بالذي به يعبد، فكانت هذه تهيئة له ليتنزل عليه شرع قويم، وهو دين الحنيفية، وقد ورد أيضاً أن ذلك كان من باب إقامة الحجة على الآخرين، لكن هذا تأويل قد يصح وقد لا يصح، والحاصل أن إبراهيم عليه السلام توصل إلى أن هذه مخلوقات ناقصة، وتوصل إلى توحيد الله الخالص، وهذا لا يقاس عليه؛ لأن إبراهيم في ذلك الوقت لم يكن عنده شرع منزل ولا رسالة، فلا يقاس عليه المسلمون الآن، فقد قامت عليهم الحجة بالقرآن والسنة وإقامة البراهين، بل جميع البشر قامت عليهم الحجة بالإسلام وبأدلة الإسلام المتمثلة في الكتاب والسنة والحجج العقلية التي رسمها القرآن.(6/6)
مذهب أئمة السلف فيما يؤمر به الصبي حال البلوغ
قال رحمه الله تعالى: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك].(6/7)
حكم من أتى بخصائص الإسلام دون النطق بالشهادتين
قال رحمه الله تعالى: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)، فهو أول واجب وآخر واجب].(6/8)
شرح العقيدة الطحاوية [7]
ينقسم التوحيد في التقسيم العلمي إلى: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، والمراد به في باب الأسماء والصفات إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على الوجه اللائق بالله جل جلاله؛ وقد ظهر في هذا الباب من يقول بنفي الصفات واعتبار ذلك توحيداً، فأفضى بهم ذلك إلى اعتقاد لوازم كفرية وإن لم يعتقدها بعضهم، وأما توحيد الربوبية فإن تقرير القرآن الكريم له يراد به إثبات توحيد الإلهية، ودلائله متعددة بتعدد المخلوقات الشاهدة على وجود خالقها جل جلاله، وقد جانب الهدى فيه أهل الكلام وأتباعهم من الصوفية، حيث اعتبروه الغاية التي يفنى فيها الباحثون.(7/1)
توحيد الأسماء والصفات وعقيدة النفاة فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية: وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له].
مما ينبغي التنبيه عليه في هذا التقسيم -وسيرد كثيراً في ثنايا الطحاوية، بل في كثير من كتب العقيدة المتأخرة- أن هذا التقسيم لا يعني تنوع التوحيد، ولا يعني أن التوحيد يتجزأ، فالتوحيد واحد لا يتجزأ، لا من حيث العمل ولا من حيث الاعتقاد، ولا يسع أي مسلم أن يعتقد نوعاً ويترك الآخر، أو أن يقول: هذا هو المعتقد والباقي يمكن أن يتساهل فيه، إذاً: فتقسيم التوحيد إلى توحيد أسماء وصفات وربوبية وإلهية، أو توحيد خبر وتوحيد طلب، ونحو هذا من التقسيمات؛ تقسيم علمي توضيحي تفسيري فقط من أجل تمييز مباحث التوحيد الذي اختل مفهومه عند الفرق؛ لأن منشأ هذا التقسيم العلمي هو أن الفرق المفترقة فرقت بين أنواع التوحيد، فوقفت عند قسم واحد وتركت الأقسام الأخرى، فغاية ما يهتم به أغلب أتباع الفرق هو توحيد الربوبية الذي يعترف به المشركون، فهؤلاء إذا فسروا ألفاظ التوحيد ومعاني التوحيد وحقائق التوحيد ومطالب التوحيد قصروها على توحيد الربوبية، فمن هنا اضطر السلف إلى تنويع معاني التوحيد العلمية الفنية كما يسمى في العصر الحديث، فهذا تقسيم فني تقريبي فقط وليس تقسيماً ذاتياً حقيقياً، لأن التوحيد واحد لا يتجزأ، وهو أيضاً من حيث الاعتقاد والعمل لا فرق فيه، فهذه الأنواع الثلاثة كلها لا يمكن أن يكتمل الإسلام والدين والتوحيد إلا بها جميعاً.
قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كـ الجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب!].
الواجب هنا معناه: الموصوف، فقولهم: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب يعني: تعدد الموصوف؛ لأنهم قسموا الوجود إلى واجب وجائز، أو واجب وممكن، وهذا تقسيم فلسفي عجيب.
وسبب ذلك الفرار من أسماء الله وصفاته، لا يرغبون في أن يسمى الله الأول والآخر والصمد ونحو ذلك مما ثبتت في النصوص، بل يقولون: واجب الوجود، يعني: أن وجوده أمر أزلي قطعي ضروري من أجل أن يكون هو مصدر الموجودات، وكأن هذا التزام عقلي فقط.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل].
هذه فلسفة تقوم عليها أكثر أصول الفرق المؤولة والمتكلمة، فلسفة تعدد الواجب، أو الكلام عن واجب الوجود وجائز الوجود، أو عن نفي أسماء الله وصفاته، وأنها لا بد من أن تنفى دفعاً لتعدد الموصوف إلى آخره، هذه كلها فلسفة قديمة قبل الإسلام موجودة إلى الآن في الأمم، وإلى الآن تدرس في المدارس الغربية على أنها فلسفة ثابتة مستقرة عندهم، فهذه الفلسفة تقوم على تصور وجود الله وجوداً خيالياً فقط، لأنهم ظنوا أن الذات لا بد من أن تشبه ذوات المخلوقات، فمن هنا نفوا ذات الله، ونفي الذات كاد يتفق عليه الفلاسفة وغلاة المتكلمين كالجهمية وغلاة المعتزلة، يكادون يتفقون على إنكار ذات الله، حتى المتكلمين من الأشاعرة تكلموا في الصفات بطريقة تؤدي إلى إنكار الذات، لكن ليس بطريق مباشر كما يقول الجهمية، فالجهمية لا يتورعون عن إنكار الذات، فلما أنكروا الذات تبعاً للفلسفة القديمة -حيث إنهم يتشبعون بالفلسفة قبل أن يأخذوا الكتاب والسنة- وردت عليهم ألفاظ الشرع التي فيها أسماء الله وصفاته، فألزمهم هذا بأن يكون لله ذات موصوفة ومسماة، فلما وجدوا هذا الإلزام قالوا: هذه الألفاظ ألفاظ مجردة لا تدل على موصوف فقيل لهم: لماذا لا تثبتون أسماء الله تعالى؟! فقالوا: لأنها متعددة، وتعدد الصفة يدل على تعدد الموصوف، والله لا يمكن أن يتعدد، مع أن هذه بدهية لا يصح أن تقال؛ فالمخلوق ألا تتعدد صفاته؟! أليس الإنسان فيه حلم وعلم وإرادة وحكمة وكلام وسمع وبصر وهو إنسان واحد؟! فهم قالوا: إذا تعددت الصفات دل هذا على تعدد الموصوف، فقيل لهم: ما دليلكم؟ فلم يكن لهم دليل، وليس عندهم من دليل إلا أنهم يعتمدون على الفلسفة التي تقول: إن تعدد الصفات يدل على تعدد وجوه الموصوف.
وربما لا يجرءون على أن يقولوا بأن تعدد الصفات يدل على أن الموصوف لا بد من أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً مبايناً منفصلاً عن المخلوقات، وأن وجوده لا بد من أن يكون في العلو وفوق خلقه إلى آخره، فهذه المستلزمات كلها توصلهم إلى الإقرار بالاستواء والإقرار بالرؤية، فهروباً من هذه الأمور كلها قالوا: هذه الأسماء والصفات لا تدل على موصوف، وإنما هي ألفاظ افتراضية تقال من أجل ضبط سلوك الناس، ومن أجل تعلق الناس بشيء غيبي يضبط سلوكهم، لكن أن يكون هذا الموجود له وجود ذاتي مستقل وأسماء وصفات غير حاصل، هذا زعمهم، وهذه مقولة فلسفية قديمة اعتمدت عليها(7/2)
لوازم القول بنفي الصفات(7/3)
القول بالحلول والاتحاد
قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد].
الحلول والاتحاد بينهما بعض الفرق، وبعض الناس -أيضاً- يفرق بين ثلاثة ألفاظ ستأتي، فبين هذه المعاني وجوه تشابه ووجوه اختلاف، وسنقف عند الحلول والاتحاد، فالحلول يقصد به عند كل الأمم التي تقول به وعند حلولية الباطنية وحلولية الفلاسفة والفرق التي ظهرت في الإسلام: أن الله حال في كل شيء، وأنه ممتزج بالأشياء كامتزاج الروح بالجسد، وكامتزاج الماء بالعجين، تعالى الله عما يقولون، وهذا يؤدي إلى القول بأن الله خلق الخلق في الله، فيؤدي إلى وحدة الوجود.
أما كلمة الاتحاد فتعني ما هو أبلغ من ذلك، تعني: أن الخالق متحد بالمخلوق، فهو هو لا فرق بينهما، تعالى الله عما يزعمون.
قال رحمه الله تعالى: [وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات].
كفر الحلولية والاتحادية - كـ ابن عربي ومن نحا نحوه- أكبر من كفر النصارى؛ لأن النصارى زعموا أن واحداً من البشر حل فيه الله فقط، فالنصارى قالوا: عيسى هو الذي حلت فيه روح الله، أما هؤلاء الزنادقة فقالوا: الله حل في جميع المخلوقات حتى ما لا يليق ذكره، تعالى الله عما يزعمون.
قال رحمه الله تعالى: [ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة!].
يقصد بالفروع هنا اللوازم، فهو بدأ باللوازم، يعني: لوازم القول بأن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، ومن هنا أنكروا الصفات، فقولهم بإثبات ذات مجردة عن جميع الصفات، أو قولهم بإثبات وجود غير وجود الذات أدى إلى لوازم: اللازم الأول: هو الذي ذكره بقوله: إنه يؤدي إلى الحلول والاتحاد؛ لأنه -كما قال السلف- من ادعى أن الله ليس له أسماء ولا صفات، أو قال ببعض الأسماء، أو أنكر الأسماء وأثبت الصفات أو العكس، أو قال بأن الله موصوف بالصفات لكن هذه الصفات ليس لها معان، كأن يقول بأن الاستواء لا يقصد به الاستواء، أو قال بأن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالفوق، ولا بأنه داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث، وليس له وجود ذاتي، ولا هو غير المخلوقات ولا هو هي، وليس بعرض ولا بجوهر؛ فإلى أي شيء تؤدي لآته هذه؟!
و
الجواب
إلى لا شيء، وهذا ما يريده الفلاسفة، فالجهمي لا يتورع عن أن يقول: إن الله لا شيء! بل قال الجهم بن صفوان: إن الله ليس بشيء! فهم لا يتورعون، وإنما الكلام فيما يلزمهم من لوازم.
يقول: إن من لوازم هذا القول: أنهم إذا قالوا بأن الله ليس كذا ولا كذا ولا كذا؛ فهذا يعني أنهم إن اعترفوا بوجود الله فأين سيكون؟! فهذا يؤدي إلى الحلول والاتحاد ولا بد، فإنكارهم أن يكون الله القاهر فوق عباده، وأنه سبحانه العلي بذاته، وأنه مستو على عرشه مع قولهم بوجود الله يعني أنه لا مقر لهذا الوجود إلا المخلوقات، فيكون الله عندهم حل بالمخلوقات أو اتحد بها تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.(7/4)
اعتبار فرعون وقومه كاملي الإيمان
ومن اللوازم أن فرعون وقومه كاملو الإيمان؛ لأن فرعون حينما زعم أنه هو رب الناس ما قال إلا الحقيقة؛ فحينما ألزمناهم بالقول بالحلول والاتحاد كان مؤدى ذلك أن الله حل في فرعون وغيره، فحينما قال: أنا الله فقد قال الحقيقة، والعجيب أن هذه المقولة انتصر لها أبرز حلولية المتصوفة، وهو ابن عربي، يقول بأن فرعون مؤمن، وله كتاب في هذا اسمه: (إيمان فرعون)، وهذا الكتاب موجود مطبوع، وأرجو -إن شاء الله- ألا تروه ولا تقرءوه، وقد حصلت عليه، وفلسفته موجودة إلى اليوم في فلاسفة الصوفية، كـ مصطفى محمود ومن نحا نحوه، يقولون بأن فرعون والحلاج وأمثالهما الذين ظهروا في التاريخ هم عباد لله، لكنهم شطحوا وتهوروا حينما أعلنوا الحقيقة، فالحقيقة لا يدركها إلا الخلص من البشر الذين يعرفون أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، وأنهم هم الله والله هم! هذه الحقيقة لا تدركها العامة، فحينما أعلنها فرعون تهور فعاقبه الله بالغرق، وهذه عقوبة شكلية فقط، وإلا فهو مؤمن.
والحلاج حينما قال: ما في الجبة إلا الله بزعمهم؛ قالوا: لأن الحلاج هو الله، لكنه أعلن الحقيقة أمام العامة، وسبب ذلك أنه ما استطاع أن يلغي الحقيقة حينما وصل إليها، فتهور وأعلنها أمام العامة، وهم لا يقصدون بالعامة العوام، فبعض الناس يظن أنهم إذا قالوا: العامة يقصدون العوام الجهلة عندنا، وليس كذلك؛ بل يقصدون بالعامة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فهؤلاء هم العامة عندهم وليس العوام، بل بعض العوام هم وإياهم على حال واحدة؛ لأنهم قد يطيعونهم ويسلمون لهم بغير شعور، وارجعوا إلى كتبهم فستجدون هذا المفهوم عندهم، يقصدون بالعامة علماء الشريعة، لذلك يسمون علم الشرع علم العامة، وهذا اللفظ موجود في كتب الصوفية إلى يومنا هذا، ومن الذي جاء به؟! أليس الأنبياء؟! يسمونه علم العامة، وعلم المساكين يقصدون بهذا أن الحقائق لا يدركها إلا الخلص الذين هم من الملاحدة والزنادقة.(7/5)
اعتبار صحة مذهب عباد الأصنام
قال رحمه الله تعالى: [ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره! ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة].
ذلك لأن من لم يفرق بين الخالق والمخلوق فمن باب أولى أن لا يفرق بين المخلوقات، أليس كذلك؟! فالفاسد والصالح واحد، والحلال والحرام واحد؛ لأن الأعيان واحدة، فهذا يؤدي من باب الإلزام إلى هذه النتيجة.(7/6)
اعتبار الرسالات تضييقاً على الناس
قال رحمه الله تعالى: [ومن فروعه أن الأنبياء ضيقّوا على الناس، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً]؛ لأنهم حينما أحلوا أشياء وحرموا أشياء، وقالوا: هذه الأعيان فاسدة محرمة، وهذه الأعيان صالحة حلال، وهذا ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، والله له حقوقه على عباده، فكأن الأنبياء ضيقوا على الناس حين جاءوا بأمور ليس لها أصل، كذا يزعمون، ويؤدي قولهم إلى هذه المزاعم؛ لأن من زعم أن الأعيان واحدة وأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق فمعنى هذا: أن ما جاء به الأنبياء من أن الله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، وله حق العبودية والطاعة والتسليم، وأن ما أحله الله هو الحلال، وما حرم الله هو الحرام، كل تلك الأحكام التي جاء بها الأنبياء -إذا قلنا بأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق- تكون من باب اللغو والتكلف والتضييق على الناس، وهذا من باب الإلزام العقلي، وإلا فهم قد لا يدعون هذا؛ لأنهم يخافون على رقابهم، وقد لا يصرحون بالكفر، لكن يلبسون الحق بالباطل.(7/7)
توحيد الربوبية
قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية].
يعني الثاني من أنواع التوحيد، فالأول: التوحيد في الصفات، والثاني: توحيد الربوبية.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية.
وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع: فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ولهذا قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24 - 28]].
في هذه النصوص دلالة على أن فرعون لا يجهل في الحقيقة أن الله هو الخالق، وأنه هو الرب، وإنما يتجاهل، ولذلك قال موسى عليه السلام لفرعون: ((لقد علمت))، وهذا كلام الله حق، فهو علام الغيوب سبحانه، وهو أعلم بما في القلوب، فهذا الكلام لا يكون من موسى إلا لوصف الحقيقة؛ لأن موسى قال لفرعون: (لقد علمت) وكلام موسى حق؛ فهو نبي معصوم، وهذا -أيضاً- كلام الله مقرر في القرآن، فموسى حينما قال: (لقد علمت) يخاطب فرعون دل قوله على أنه عالم بالله، لكنه أنكر وجحد.
وكذلك في الآية الأخرى -وهي صريحة- قال تعالى في وصف فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فهم في حقيقة الأمر من المستيقنين، لكنهم جحدوا وستروا وغطوا وكفروا ظلماً وعلواً.
أحب أن أنبه على كلمة في عبارة الشارح، وقد ترد أيضاً في عبارات تالية، وهي إطلاق كلمة الصانع على الله تعالى، وهذا من التساهل في التعبير، وإلا فلا ينبغي أن تطلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وربما أخذها بعض أهل العلم من قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، فلعله يقصد ذلك، فهذا على سبيل الوصف لا مانع من أن يقال، فـ (الصانع) على سبيل الوصف لا مانع منه، لكن أن يقصد بكلمة الصانع أن تكون اسماً لله تعالى؛ فليس من أسماء الله الصانع، إنما الله هو الخالق البارئ؛ لأن الصنع أقل وأضعف معنىً من الخلق؛ لأن الصناعة: هي إظهار المصنوع على مظهر يراه الناس وهو مظهر الإبداع في الخلق، وأما الخلق فهو الإيجاد من العدم، فالإنسان يصنع ولا يخلق.
وقوله: [ولهذا قال -يعني: فرعون-: وما رب العالمين؟!] ولم يقل: ومن رب العالمين، وهذه لغة الفطرة التي نطق بها فرعون وهو لا يدركها، ففرعون لم يقل: من رب العالمين؛ لأنه يعرفه في حقيقة الأمر، إنما قال: وما رب العالمين من باب الاستهانة والاستهتار؛ وما قال: (من)؛ لأنه لو قال: (من) لورد احتمال أنه لا يعرف الله، لكن نظراً لأنه يعرف الله في الحقيقة نطقت فطرته بغير هذه الكلمة، فهو سؤال تجاهل وسؤال استخفاف، وأما قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]، فسؤاله كان هنا عن الربوبية، بمعنى: من الذي تطيعون أمره ونهيه؟ ولكن ما سأل عن الله، بل قال: يا موسى! من تطيعونه ومن تعبدونه؟! كأنه بهذا يقصد الربوبية، لكن حينما جاء سؤال الإلحاد ما قال: من رب العالمين؟ بل قال: وما رب العالمين؟ وهذا دل على أنه مستهتر يتجاهل وليس بجاهل؛ لأن السؤال عن المعلوم يدل على التجاهل والاستهتار.
قال رحمه الله تعالى: [وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم يكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب!].
هؤلاء يرون أن السؤال كان عن الماهية، أي أن فرعون سأل موسى: كيف هو ربك؟ مم يتكون؟ هذا ما افترضه الفلاسفة والمتكلمون الذين ينزعون إلى إنكار وجود الله تعالى وجوداً ذاتياً، والذين يقولون بعدم المباينة والمفاصلة بين الخالق والمخلوق، فإنهم قالوا بأن فرعون سأل موسى عن الكيفية التي عليها الله، وأن موس(7/8)
الاعتقاد بوجود صانعين للعالم متماثلين في الصفات والأفعال(7/9)
انتفاء اعتقاد إلهين خالقين عند المجوس القائلين بإله الخير وإله الشر
قال رحمه الله تعالى: [ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال.
فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما؛ متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين].
يقصد بهذا أن المجوس الذين اعتقدوا بوجود إلهين اثنين ما قالوا بأن الإلهين كلاهما خالق، بل قالوا: الخالق واحد، والأول واحد، وألهوا الشر نظراً لخطورة الشر، فألهوا الشيطان أو إله الشر كما زعموا؛ نظراً لخطورة الشر وخوفاً منه، فيعبدون إله الخير طمعاً في ثوابه بزعمهم، ويعبدون إله الشر خوفاً من عقابه بزعمهم، وهذه شبهة الشيطان إلى يومنا، فمن أعظم شبهات الشيطان أنه يأخذ البشر بالخوف والرجاء، فإذا رجوا أحداً من دون الله عبدوه، وإذا خافوا من أحد من دون الله عبدوه، وعلى ذلك أغلب أهل الأهواء الذين يصرفون شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، وينزعون في ذلك نزعة الرجاء الخالص لغير الله، أو الخوف من غير الله، ولا يزال الناس يتعبدون لغير الله رجاءً وخوفاً وهم لا يشعرون، وليس من شرط العبادة كونها كعبادة الصنم في التوجه بالطقوس، بل من العبادة الاستجابة فيما لا تجوز الاستجابة فيه لغير الله، أو الخوف من غير الله إلى حد الهلع الذي يضر بدين المسلم أو يضر بالمسلمين، فهو نوع من عبادة الخوف من غير الله، بل عبادة بالخوف.
فالمجوس تقوم فلسفتهم في عبادة الإلهين الاثنين على أساس أن إله الخير هو الأصل، لكنه منزه عن أن يخلق الشر، فعلى هذا لا بد عندهم من أن يكون للشر خالق، فقالوا: خالق الشر هو إبليس، أو قوى شريرة أخرى، وخالق الشر لا بد من أن يعبد خوفاً منه، فعبدوا إلهين اثنين.
فالشارح يقول: مع أنهم عبدوا إلهين اثنين وهم من المشركين ما قالوا بأن كلاً منهما خالق للكون ومبدئ ومصور، بل قالوا: الأول الخالق المبدئ الذي خلق الخلق ابتداء هو واحد، والآخر جاء بعد، فلذلك عندهم فلسفة أنه عندما تنتهي الدنيا ينتصر الخير على الشر، وتكون الإلهية لواحد، وعلى كل حال هذه فلسفة مشركين، ومن الخير ألا نخوض فيها، لكن نظراً لأنها وردت كان لا بد من الإشارة إليها وإلى معناها.(7/10)
ضلال مسلك معتبري توحيد الربوبية غاية مقصودهم
كأن الشارح يرد على الذين قالوا بالمبالغة في إثبات توحيد الربوبية، هذا هو المقصود بهذا الكلام، فطوائف المتكلمين -ولا يزالون إلى اليوم- غاية ما عندهم في تقرير التوحيد أن يثبتوا أن الخالق موجود وأن الخالق واحد، وهذه بدهية، فالعوام كفوهم هذا، فكل إنسان يدرك أن الخالق واحد وأن الرب واحد، لكن المشكلة التي فيها النزاع بين البشر منذ أن بدأ الشرك إلى يومنا هذا هي أن الناس يعبدون مع الله غيره، هذه هي المشكلة، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بوجود الله، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بأن الله هو الخالق وحده، فالمشركون أخبر عنهم الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنهم إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض؛ يقولون: الله، وما ورد في القرآن أنهم أنكروا أن يكون الله هو الخالق، والله سبحانه وتعالى هو العليم بأحوال البشر، وهو الذي حكى لنا أحوالهم في القرآن، فالمشركون لم ينكروا توحيد الربوبية من أجل أن تتعب فيه عقول المتكلمين، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا غاية ما يريدون الوصول إليه إثبات الخالق، ومع ذلك عندهم شك في إثبات الخالق وهم لا يشعرون؛ لأنهم يثيرون من الشبهات ما يقتضي الشك، لكنهم ينسون التوحيد المهم الضروري الذي لتقريره ثمرة، وللقول به فائدة، ولنصح الأمة فيه فائدة، وهو توحيد الإلهية وتوحيد العبادة، فلذلك أغلب المتكلمين لا يعرفون توحيد الإلهية ولا توحيد العبادة، ويستنكرونه على أهل الحق إلى يومنا هذا، وهذا هو السبب في استنكار كثير من المسلمين الذين يذهبون مذاهب المتكلمين على الذين ينكرون على المسلمين الشركيات وينكرون البدع، سبب هذا أنهم يعرفون أن غاية التوحيد توحيد الربوبية، وأن هذه الشركيات إنما هي ممارسات سهلة يمكن حلها فيما بعد.
فمنشأ التساهل -حتى عند كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة- في توحيد الإلهية أنهم تربوا على أن التوحيد هو توحيد الربوبية، هكذا عرفوا، فلذلك يعدون الشركيات من الأمور اليسيرة التي يمكن أن يصبر عليها أو يسكت عنها حتى تحل مشكلات المسلمين السياسية وغيرها، وتحل مشكلة انحراف البشر في الربوبية، وهذا خطأ؛ لأنه خلل عظيم.
وما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الشارح ذكر أنه لا يقول أحد بأن للعالم صانعين، وإنما القول الذي ورد أن الثنوية من المجوس والمانوية وغيرهم قالوا بأن للخير إلهاً وهو الخالق الأول، وأن للشر إلهاً آخر وهو خالق الشر، وهذا المبدأ هو نفسه الذي قالت به المعتزلة، لكن بطريقة مهذبة، فهذا هو رأي القدرية، والقدرية نشأت في بيئة المجوس، القدرية في الإسلام نشأت في بيئة المجوسية، وتكونت من المجوس الذين اندسوا في المسلمين، وربما يكون كثير منهم أظهر الإسلام وأبطن الكفر، فدسوا على المسلمين هذه العقيدة، فلذلك قالت المعتزلة بأن الله هو خالق الخير، ولا يليق بالله أن يخلق الشر، فالشر من الإنسان، وهي نفس الفلسفة التي قال بها الثنوية وقامت عليها عقيدة القدرية الأولى ثم قدرية المعتزلة، قالوا بأن الله هو خالق الخير وهو مقدر الخير كله، لكن لا يليق بالله أن يخلق الشر ولا أن يقدره، إنما الإنسان هو الذي كسب الشر وفعله وخلقه، فقالوا: إن الإنسان هو خالق أفعاله، وظنوا بذلك أنهم ينزهون الله، وهذا غلو في التنزيه، بل بهذا قدح في علم الله وقدرته.(7/11)
عدم إثبات النصارى القائلين بالتثليث لثلاثة أرباب منفصلين
قال رحمه الله تعالى: [وأما النصارى القائلون بالتثليث؛ فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد.
وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين].
هذه العبارات في الكلام على عقيدة التثليث، والكلام عن التثليث لا يحتاج إلى مزيد بيان؛ لأن الشارح بينه، لكن هناك بعض العبارات هي مظنة الإشكال.
وأما قول النصارى بأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؛ فهذا أمر يصادم العقل، لذلك تقوم عقيدتهم على تنشئة النصراني على أن يطفئ سراج عقله، وهناك قاعدة ترجمتها: أطفئ سراج عقلك واعتقد، اعتقد ولا تستعمل عقلك؛ لأن الإنسان إذا استعمل عقله لا يمكن أن يعتقد الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة مهما كان الحال، وهذا لا يتأتى بكل المعاني العقلية والحسابية، ولكنهم أحياناً يوهمون الآخرين بتفسيرات أخرى، فيقولون: هو واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم، ويقصدون بهذا: أن الله يمكن أن يكون واحداً، لكن يظهر بثلاثة مظاهر، وهذه المظاهر قد تكون خصائص تركيبية، كأن يكون ينقسم الإله إلى الإنسانية وهي الناسوت، أي: الجانب الإنساني، والإلهية، وهي اللاهوت، أي: الجانب الإلهي، والمزج بينهما، وهو روح القدس، وهو الجمع بين الإنسانية والإلهية، وهذه فلسفة لا تعدو أن تكون تسويغاً للشرك.(7/12)
نشأة قول النصارى بالتثليث
ومما ينبغي أن يشار إليه أن عقيدة التثليث ليست هي عقيدة النصارى ابتداءً، فالنصارى أخذوها عن غيرهم؛ إذ التثليث كان موجوداً في الوثنية اليونانية قبل ظهور النصرانية المحرفة بمئات السنين، ودخل التثليث على النصارى بالتدريج عن طريق بولص اليهودي المسمى شاول حينما اعتنق النصرانية بعد عيسى عليه السلام مباشرة؛ لأن بولص هذا كان من أشد المحاربين لعيسى عليه السلام، فهو يهودي حاقد متعصب، فلما مات عيسى استعمل طريقة اليهود، وهي نوع من الماسونية التي يستعملها اليهود إلى اليوم، أسلوب ماسوني، فادعى أنه صار نصرانياً ملهماً يوحى إليه، وأن عيسى يتصل به، وأنه يأخذ التشريع من لدنه، وأن عيسى أمره أن يبلغ رسالة الله من بعده، وفي ذلك الوقت كان النصارى يخفون دينهم، حتى الإنجيل يخفونه خوفاً من اليهود، فصار بولص زعيماً في النصارى؛ لأنه ادعى بين عشية وضحاها أنه صار نصرانياً، فأدخل فلسفة التعدد في الآلهة عليهم، وما قال بالتثليث الصريح، لكنه قال بالإنسانية والإلهية في عيسى عليه السلام بهذه الصيغة، قال: عيسى هو ابن الله وفيه إنسانية وفيه إلهية.
ثم بعدما دخل الملك الروماني قسطنطين النصرانية فرحت به طائفة من فرق النصارى التي صنعها اليهود؛ لأن اليهود بثوا الافتراق في النصرانية، فالفرق النصرانية التي صنعها اليهود فرحوا بدخول قسطنطين النصرانية وجعلوه إماماً في الدين، فبمجرد أن دخل النصرانية جعلوه زعيماً يتحكم في الدين ويعقد المجامع ويحكم ويقول ويؤصل ويضع العقائد للنصارى؛ لأنه نصراني وهو ملك، ففرح به هؤلاء وقالوا: ليقرر من الديانة ما يشاء.
فأخذ يقرر ما يشاء، مع أنه لا يفقه من الدين شيئاً، وإنما تحول من اليهودية إلى النصرانية فجأة فصار نصرانياً، لكن نظراً لأنه ملك قالوا: نستعطفه وليدخل في الديانة ما يريد، وبعد ذلك نناقش المسألة، فأدخل عقيدة التثليث، وتقديس الصليب الذي كان أول من أشار إليه بشكل صريح هو قسطنطين.
وبولص أشار إلى الصلب والصليب، لكن ليس على نحو ما عند النصارى الآن، فعقيدة النصارى في الصلب الآن التي هم عليها هي عقيدة وثنية يونانية، وكذلك التثليث عقيدة وثنية يونانية.
قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع، والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته، فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.
والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد ف(7/13)
شرح العقيدة الطحاوية [8]
لقد جاءت الأدلة النقلية من كتاب وسنة لإثبات توحيد الربوبية، وجاءت كذلك الأدلة العقلية مصدقة بما جاء به الكتاب والسنة، ودالة على وجود الله عز وجل وتوحيده بالفطرة السليمة وميلها إلى التصديق بوجود الخالق، واستعدادها للإقرار بتوحيد الألوهية تبعاً لتوحيد الربوبية، إذا سلمت مما يحجبها عن الحق، ولم يحصل لها المفسد الخارجي الذي ينحرف بها عن طريقتها السليمة.(8/1)
الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به رسول الله من توحيد الربوبية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً].(8/2)
الميل بالفطرة إلى التصديق بوجود الخالق المقتضي للانتفاع
قوله: (وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد له الأدلة العقلية) يقصد به الإخبار عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وطاعته وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبدو لي أن العنوان الذي وضعه المحقق هنا ليس بدقيق، حيث قال: (الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس مراده الأدلة على صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أراد الأدلة العقلية على توحيد الربوبية وأنه مستلزم لتوحيد الإلهية الذي هو ضرورة طاعة الله واتباع شرعه، بناءً على دلالة العقل السليم والفطرة السليمة على وجود الله وكماله وقدرته، كما سيأتي تفصيله.
قال رحمه الله تعالى: [وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما].
هنا سيقرر الشارح ابن أبي العز أدلة وجود الله تعالى وتوحيده -أي: توحيد ربوبيته وإلهيته- من الفطرة السليمة والعقل السليم من وجوه متعددة كلها ترجع إلى أصل واحد في الاستدلال، وهو أن الفطرة السليمة والعقل السليم يدلان قطعاً على ضرورة توحيد الله تعالى في الربوبية والإلهية دون تفريق بين هذه الأمور.
قال رحمه الله تعالى: [ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر؛ مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول].
بناءً على القول بأن فطرة أي إنسان تميل إلى الصدق والانتفاع بالصدق وإلى ما ينفع إطلاقاً، وتنفر من الكذب وتتضرر به؛ فإن الإنسان بفطرته إما أن يصدق ما ينفعه -وهو الإقرار بوجود الصانع- أو لا يصدق، وإذا كان الإنسان قد فطر على التصديق والانتفاع، والتصديق والانتفاع هو في الإقرار بوجود الله تعالى وبعبادته وإلهيته؛ فحتماً لا بد من أن يكون هذا هو الافتراض اللازم؛ لأن الثاني قطعاً فاسد، أي: الميل إلى الكذب وإلى التضرر، فإذا كان كذلك تحتم الأول، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى النافع الضار.
قال رحمه الله تعالى: [فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].(8/3)
الفطرة على جلب المنافع ودفع المضار حال قيام السبب عند حصول الشرط وانتفاء المانع
قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].
الشرط هنا يعني: الشرط الذي يتوافر لإثارة الفطرة الكامنة التي هي فطرة التوحيد والفطرة على الخير، وتوافر الشرط يكون بالتعليم السليم وبالهدى وبما أنزله الله من الوحي ومن الخير على ألسنة الأنبياء، هذا هو الشرط.
والمانع: هو ما يحجب فطرة الإنسان عن الخير من الهوى، والشهوات، والشبهات، والتعليم المنحرف وهو أخطرها، فأكثر هذه الأسباب إضلالاً للبشر هو التعليم المنحرف، كما جاء في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنسان: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وقوله: (بحسبه) علق عليه المحقق فقال: إنها في جميع النسخ (بحسبه)، وكذلك في (درء تعارض العقل والنقل)، وفي بعض النسخ (بحسه)، وكله جائز، و (بحسه) كأنها أقرب، لكن نظراً لأن النسخ توافرت على (بحسبه) فهي جائزة، أي: تجوز في السياق، يعني: أن الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، أي: بحسب مداركه، فبعضهم يدرك المنافع إدراكاً بيناً إذا كان إدراكه جيداً، وبعض الناس يدرك المنافع إدراكاً ضعيفاً بحسب إدراكه.(8/4)
القوة الكامنة في النفس لقبول الحق إذا لم يحصل ما يفسد الفطرة
قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علّم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا.
ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض؛ فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها؛ كانت مقرة بالصانع عابدة له].
المقتضي السالم: هو الفطرة السليمة، والسالم عن المعارض يعني: عما يحجب هذه الفطرة عن الاستدلال على الخير، فالفطرة الأصل فيها أن تقتضي الدلالة على الخير والدلالة على الهدى والدلالة على الصلاح والإصلاح، هذا هو المقتضي للفطرة، فإذا سلمت هذه الفطرة من المعارض فإنها تبقى دالة على وجود الله تعالى وعلى طاعته وعبادته، ليس على الوجود فقط؛ لأن الوجود قل أن تنزع إلى إنكاره، لكن قد تنكر ما بعد ذلك من عبادة الله تعالى ومن طاعته واتباع أوامره، والمعارض: هو التربية السيئة أو الهوى أو الشهوة أو الشبهة أو وساوس الشيطان أو نحو ذلك، هذه كلها قد تحجب الفطرة عن الحق، فإذا سلمت الفطرة وبقيت على نقاوتها بقيت مستعدة للإقرار بتوحيد الإلهية تبعاً لتوحيد الربوبية.(8/5)
اقتضاء الفطرة للصلاح بغير مؤثر خارجي
قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج؛ ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف].
الكلام على المفسد الخارج والمصلح الخارج ينطبق على ما سبق، ويقصد بذلك: أن الأصل في الفطرة الصلاح، والمفسد آت من الخارج، وكذلك المصلح الخارج الذي يضيف إلى الفطرة شيئاً من معرفة الهدى، بمعنى: أن الفطرة عبارة عن قوة كامنة مستعدة للحق، فإن جاءها مفسد خارج من تربية أو شهوة أو شبهة أو ضلال أو تقليد أو غير ذلك أو شبهات الشيطان ووساوسه؛ فإنها قد تنحرف، وإذا جاءها مصلح من الخارج -وهو الوحي الذي أنزله الله على رسله وما يتفرع عن هذا الوحي من أمور أخرى دالة على الخير- فإن الفطرة تستقيم.
قال رحمه الله تعالى: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].(8/6)
تقرير القرآن لتوحيد الربوبية وجعله ذلك مستلزماً لتوحيد الإلهية
قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون الأول، وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك؛ فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟! كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59 - 60]، يقول الله تعالى في آخر كل آية: ((أإله مع الله))، أي: أإله مع الله فعل هذا؟! وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام].
يقصد بهذا الكلام أن الاستفهام هنا ليس لإنكار وجود إله آخر بمعنى: رب وخالق، إنما كان الاستنكار استنكار أن يكون هناك معبود مع الله: أإله مع الله؟ أي: أمعبود مع الله؟ ما دمتم تقولون بأن الله هو الخالق وحده.
وهذا هو قول المشركين حينما قرر القرآن قولهم بأن الله هو خالق السموات والأرض وهو الذي خلقهم ورزقهم، فقال لهم: ((أإله مع الله))، إذا كنتم تقولون بأن الله هو الرب وهو الخالق وهو الرازق وهو المدبر، أتعبدون معه غيره؟! هذا هو وجه الاستفهام، وليس وجه الاستفهام: أرب مع الله؟ لأنه لا يمكن، فهم قالوا: كل شيء لله، وكل شيء من أفعال الله تعالى قالوا: الله هو الذي فعله، فبقي ما بعد ذلك، ولا يمكن أن يرد الاستفهام لأمر نفوه من قبل؛ لأنهم هم وكل الأمم التي أشركت وضلت قرر القرآن أنهم لم يقولوا بأن هناك خالقاً مع الله، ولا بأن مع الله رباً، ولا رازقاً، بل قالوا: هو رب السماوات والأرض، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي خلقهم، فلا يمكن أن يرد السؤال مرة أخرى: أرب مع الله؟ لأنهم نفوا الربوبية لغير الله، فالمراد بالاستفهام الإنكاري: إذا كان الأمر كذلك أمعبود مع الله؟! وهذا يفهم من كلمة (إله) لغة؛ لأن الإله هو الذي تألهه القلوب وتقدسه وتعبده وحده، هذا معنى الإله، فقوله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] ليس معناه: أرب مع الله؟ أخالق مع الله؟ إنما معناه: أتعبدون غير الله؟! أتتألهون لغير الله؟! هذا هو معنى السؤال، وكثير من المتكلمين إلى يومنا هذا يقررون تفسير هذه الآيات على المعنى الذي يقول به الفلاسفة، وهو أن معنى (أإله مع الله) أي: أرب مع الله؟ أي توحيد الربوبية، وهذا خطأ فادح وبعيد عن معنى ألفاظ كلام الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى].
أي: يجعلون مع الله معبودين آخرين.
قال رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19]، وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهاً جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات.
وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وكذلك قوله في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46]، وأمثال ذلك].(8/7)
الرد القرآني على أهل الكلام في اعتبار توحيد الربوبية غاية
قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد].
يقصد بالنظار: الفلاسفة والمتكلمين الذين أخذوا بالقواعد العقلية الفلسفية في تقرير التوحيد، وكثيراً ما يطلق عليهم النظار؛ لأنهم ينظرون لهذه الأمور العقلية ولأمور العقيدة بمجرد هذه القواعد العقلانية البحتة.
قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب؛ فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه.
والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه].
يقصد بقوله: [وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها] أن هناك من البدهيات العقلية والفطرية ما لا يحتاج إلى استدلال، إنما تكون هي بنفسها أدلة، فمثلاً: من البدهيات أن الخلق لابد له من خالق، ومن البدهيات أن هذا الخالق سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف وهو الرازق وهو الذي يحيي ويميت، فهذه البدهيات هي التي يستدل بها على الأمور الأخرى من مستلزماتها، كعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسله واتباع شرعه.
فيستدل بكون الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض وكونه هو الذي يحيي ويميت، وكونه هو الذي خلق البشر، يستدل بهذه الأمور على أنه هو وحده المعبود.
إذاً: فالبدهيات الضرورية لا تحتاج إلى أدلة، إنما هي تكون أدلة على غيرها، وهذه هي قاعدة القرآن، لذلك نجد أن القرآن ليس فيه تكلف في الاستدلال على وجود الله تعالى، إنما نجد أكثر ما فيه من البراهين الاستدلال على ضرورة عبادة الله وحده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة، وقرر هذه الأدلة على أنها بدهية عند البشر حينما سألهم: من خلق السموات والأرض، ومن خلقهم؟ من يرزقهم؟ فقرر أنهم يقولون: إنه الله، ثم بعد ذلك استعمل هذه الأمور دليلاً على غيرها وعلى مستلزماتها، وهي عبادة الله وحده، وعدم الشرك، وأنه ما دام الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت، وهو خالق السموات والأرض؛ فإذاً: لا يجوز أن يعبد غيره، ومن عبد غيره فقد أشرك.(8/8)
إبطال القرآن اعتقاد بعض المشركين وجود خالق آخر خلق بعض العالم(8/9)
إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)
قال رحمه الله تعالى: [ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدهرية في حركة الأفلاك، أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه.
كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره، فلا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان، فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية].(8/10)
إبطال الشرك في الربوبية بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
قال رحمه الله تعالى: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلى آخره، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب].
أي: لو كان فيهما معبود، هذا معنى تقرير القول، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة، يعني: من يعبد غير الله أو يستحق العبادة غير الله، ولم يقل: أرباب؛ لأن مسألة الربوبية بدهية عند سائر العقلاء حتى الذين لا يقرون بالنبوات قد يقرون بضرورة وجود الرب الخالق، لكن المسألة التي هي محل نزاع، وهي التي خالف فيها البشر هي مسألة العبادة.
فإذاً: معنى الآية: لو كان فيهما معبود يستحق العبادة غير الله لكان الأمر كذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا، وأيضاً: فإنه قال: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا.
ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض.
وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد، وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس؛ فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]].(8/11)
إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً)
قال رحمه الله تعالى: [وكذا قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42].
وفيها للمتأخرين قولان: أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، والثاني -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـ قتادة وغيره- وهو الذي ذكره ابن جرير لم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]، وذلك أنه قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42]، وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، بخلاف الآية الأولى].
القول بأن معنى: (لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً): لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، هذا القول -في الحقيقة- بعيد كل البعد؛ لأنا نجد أن هذه الآية تقرر مسألة العبادة، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، والإله هو المعبود المألوه الذي تألهه القلوب وتعبده وتتجه إليه.
إذاً: لا يصح -بل يبعد كل البعد- أن يكون المقصود: سبيلاً إلى المغالبة؛ لأن ذا العرش هو ذو العظمة سبحانه، والقلوب إذا اتجهت إلى العظيم اتجهت إليه محتاجة لا مغالبة، ويبعد أن يقصد القرآن هذا؛ لأن البشر مهما بلغوا لا يمكن أن يغالبوا الله سبحانه وتعالى أو يغالبوا ذي العرش عقلاً ولا شرعاً، حتى وإن وصل الأمر ببعض الملاحدة إلى المغالبة كما فعل فرعون، فإن هذه المغالبة لم تكن حقيقة، إنما كانت من باب المراء والجدل للبشر ومن باب مغالبة الأنبياء لا مغالبة الله سبحانه.
فمسألة المغالبة التي هي محاولة التغلب بعيدة كل البعد، إنما الصحيح: {لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42] إلى طاعته والتقرب إليه؛ لأنه ما دام هو الأولى والأجدر، وما دام هو الأعظم وهو الرب وهو الخالق سبحانه؛ فإنه هو الذي يتخذون إليه سبيلاً ليتقربوا إليه ويلجئوا إليه سبحانه، هذا هو المعنى الصحيح، وهو الذي قال به السلف.(8/12)
شرح العقيدة الطحاوية [9]
لقد جاءت الرسل بتوحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب، كما قرر ذلك القرآن في غير ما آية، حيث أخبر عن شهادة الله تعالى لنفسه بوحدانيته وشهادة الملائكة والأنبياء له بذلك، وأقام تعالى الدلائل على ذلك، وبينه بطريق السمع لآياته المتلوة في كتابه الكريم، والتي تبين السنة وتقرر المراد من هذه الآيات، وكذلك بطريق النظر لآياته العيانية الخلقية، ثم يأتي العقل فيجمع بين هذه وهذه، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.(9/1)
بيان نوعي التوحيد الذي دعت إليه الرسل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول الحديد وطه وآخر الحشر وأول (الم تَنزِيلُ) السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك].
هذا النوع الأول من التوحيد هو توحيد الإثبات والمعرفة، ويسمى التوحيد العلمي، ويسمى أيضاً التوحيد الخبري؛ لأنه الذي جاء به الخبر، وهو توحيد الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى، وسمي معرفة؛ لأنه أتى بوسائل المعرفة التي تعرف بها الأمور، وأعرف المعارف معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعرف شيء، وغيره يعرف به، فلذلك نجد أن طرق الإثبات والمعرفة في توحيد الله سبحانه وتعالى ليست مقصورة على الخبر، كما يظن بعض الناس أن الوحي هو الذي جاءنا بمعرفة الله، بل وسائل معرفة الله تعالى كثيرة جداً، منها: الفطرة، ومنها العقل السليم الذي عليه المعول؛ لأن العقل المنكوس لا يعول عليه، فالعقل السليم يعرف الله، والفطرة السليمة تعرف الله، وهناك أيضاً وسائل أخرى لمعرفة الله تعالى، مثل الآيات البينات، وهي وسيلة من وسائل إعلام الله لخلقه بمعرفته، فالله يعلم خلقه بآياته في الآفاق وفي الأنفس وبآياته المتعلقة بدلائل وجوده سبحانه وتعالى.
إذاً: فوسائل المعرفة كلها تدل على توحيد الله تعالى الذي هو توحيد الربوبية وتوحيد الإثبات.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني -وهو توحيد الطلب والقصد- مثل ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام].(9/2)
الفرق بين توحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب
قد يرد تساؤل: ما الفرق الدقيق بين التوحيدين: توحيد الطلب والقصد، والمعرفة والإثبات؟ وأقول: إن الفارق من خلال تعبير الشارح هنا وتعبير أئمة الدين أهل العلم في مفهوم كل واحد منهما، فتوحيد المعرفة والإثبات توحيد يرد على الإنسان من خارج ذاته، يرد بدلائل العقل ودلائل الفطرة وشواهد الكون، وآيات الله المنزلة، وكلام الله الوحي المنزل، وغير ذلك من الأمور، بمعنى: أن توحيد المعرفة هو ما يرد على الإنسان مما يدله على معرفة الله، فهو توحيد قصري فطري، لا ينفك عنه أحد من المخلوقات العاقل منها وغير العاقل، لكن قد ينكره بعض العقلاء الذين تنتكس فطرهم وعقولهم جحوداً، وإلا فالأدلة واردة بشتى وسائل الإثبات.
وأما توحيد الطلب والقصد فهو التوحيد الصادر من العقل، فالأول وارد إليه، وهو المعرفة التي ترد، ومصادر المعرفة التي ترد إلى ذهنه وإلى سمعه وإلى بصره وإلى فطرته وإلى عقله، فذاك يسمى توحيد المعرفة والإثبات.
وأما توحيد الطلب والقصد فهو ما يصدر من الإنسان ابتداء من التأله لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء منه، والحب له سبحانه، وانجذاب القلب إليه انجذاب التأله، لذلك نجد أن أعظم أسماء الله تعالى وأجمعها كلمة الجلالة (الله)؛ لأنها تجذب القلب لله سبحانه وتعالى بكل معاني الجذب، وتجذب الإنسان المتأله لله تعالى بقلبه وأعماله وجوارحه بكل معاني الجذب.
فلذلك نجد أن هذا اللفظ لا يشترك فيه الخالق والمخلوق، إنما هو لفظ خالص، فلا يسمى (الله) إلا الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأسماء فمنها ما يكون مشتركاً، فإذا أطلقت على المخلوق فهي له بحسب ضعفه، وإذا أطلقت على الخالق فهي له سبحانه بحسب كماله، كالعلم، فالإنسان عنده علم، لكنه علم محدود، علم ضعيف تعتريه كل جوانب الضعف، وإذا أطلق على الله سبحانه وتعالى فهو العلم الكامل، لكن كلمة الجلالة (الله) لا يمكن أن تنطبق على غير الله أبداً، فلذلك نجد أنها تجمع معاني انجذاب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى توحيد القصد والطلب، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الله تألهاً، ثم بعد ذلك بعمله وجوارحه، فالإنسان عندما يسعى في هذه الدنيا ويحتسب سعيه إلى الله فإنه يطلب المثوبة من الله تعالى.
إذاً: فهو الطالب المؤله لله، وإذا قام بالفرائض وأمور الدين وقام بالجهاد وقام بما أمر الله به من الأعمال فإنما يقصد وجه الله سبحانه، إذاً: فتوحيد الإلهية توحيد القصد، أي: قصد العبد لله وانجذاب العبد إلى الله سبحانه وتعالى الانجذاب الحقيقي الذي يجعله يؤله الله في قلبه وفي عمله تأليه تسليم ورضا وتصديق واتباع.(9/3)
تضمن سور القرآن لنوعي التوحيد
قال رحمه الله تعالى: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد].(9/4)
شهادة الله تعالى لنفسه بوحدانيته وشهادة الملائكة والأنبياء له بذلك
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19]، فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به، وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار].(9/5)
دلائل شهادة الله لنفسه بوحدانيته
هنا يتكلم عن معنى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، فهنا يقرر معنى (شهد الله) وماذا تعنى شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وأيضاً مصادر هذه الشهادة ووسائل هذه الشهادة، وكيف يتبين للخلق أن الله شهد لنفسه، وما الوسائل والأمور التي تبين فيها الأمر للخلق بأن الله لا إله إلا هو، فسيذكر هذه الأمور تفصيلاً، وقبل أن يذكرها أحب أن أشير إليها إجمالاً لتكون في الأذهان، فأقول: الدلائل المعبرة عن شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو سبحانه تتلخص -حسب ما قرره الشارح- في ست دلائل، وهي الطرق التي تبينت بها الشهادة: الأولى: دلالة الفطرة: وهي دلالة ضرورية يعبر عنها الإنسان إذا تجرد من الهوى والتقليد الأعمى والتربية السيئة والانحراف والشهوات، يعبر عنها بلسانه وقلبه وبأفعاله وتصرفاته.
والدلالة الثانية: دلالة العقل السليم، وهي معنى زائد على الفطرة، فالعقل السليم يرتكز على الفطرة لكنه يزيد عليها؛ لأن العقل نتيجة تفكير الإنسان بعوامل أخرى ومؤثرات داخلية وخارجية، أما الفطرة فهي أمر كامن في الإنسان ركبه الله فيه، وقد تنطق الفطرة أحياناً من غير شعور الإنسان، مع أن الأصل أن يشعر بما يقول ويتكلم، فالفطرة هي طاقة كامنة قد يعبر عنها الإنسان وقد لا يعبر، أما العقل السليم فهو إرادي من قبل الإنسان، وهو دليل من الدلائل على شهادة الله لنفسه.
والدليل الثالث: آيات خلق الله تعالى في الأنفس والآفاق، آيات الخلق في الإنسان نفسه، فإذا تفكر الإنسان في نفسه وجد دليلاً على شهادة الله بأنه لا إله إلا هو من خلال خلق الإنسان.
وكذلك إذا نظر في آيات الكون من حوله، وهي المعبر عنها بالآفاق؛ لأن الآيات ليست محصورة في الإنسان المحدود، بل هناك ما هو أبعد من محيط الإنسان في الكون الواسع.
الرابع: آيات الله المنزلة، وهي كلامه، والإنسان إذا سلمت أدواته الأولى -العقل السليم والفطرة السليمة- عرف الدلائل من آيات الله تعالى واستوعبها، لكن إذا غطيت الفطرة بالمؤثرات الخارجية وانتكس العقل فقد لا يستفيد الإنسان من كلام الله، فإذا توافرت العوامل الأولى فإن الإنسان يجد من كلام الله تعالى -وهو القرآن المنزل والوحي- آيات صريحات دالات على أن الله شهد أنه لا إله إلا هو سبحانه.
الخامس: شهادة المخلوقين الناطقين لله تعالى بالشهادة، وشهادة المخلوقين من أقوى الشهادات، ذلك أن الإنسان يسمع من غيره من المؤمنين ما يقتضي الشهادة لله أنه لا إله إلا هو، وهذا السماع هو بإذن الله وقدرته وبإرادته وحكمته وبتوفيق الله وهدايته، فإذا كان كذلك فالله هو الذي وفق الناطقين المؤمنين بالشهادة، فعلى ذلك يكون نطقهم حجة على الخلق؛ لأن الله شهد أنه لا إله إلا هو وأشهد أولياءه، وهذه أقوى حجة ظاهرة على الإنسان؛ لأن البشر لابد من أن يكون فيهم من يشهد أن لا إله إلا الله، فأي مؤمن لابد من أن يكون شاهداً تقوم به الحجة على الآخرين.
الدلالة السادسة: شهادة الواقع، وهي شهادة تشمل جميع الشهود على أن الله لا إله إلا هو في كل شيء، في الإنسان وفي الآفاق وفي الوحي المنزل وفي الدلائل والأحداث وفي المصائب وفي كل أمر من الأمور التي تحدث للبشر وفي المخلوقات الأخرى وما يحدث لها وما يحدث منها، كل ذلك -وهو الواقع الذي يعيشه الإنسان- فيه شهادة أنه لا إله إلا الله سبحانه، وهي شهادة من الله؛ لأن الله هو الذي ألهم وأنطق، وهو الذي أقام الحجة.(9/6)
انطباق معاني الشهادة ومراتبها على شهادة الله عز وجل لنفسه بالوحدانية
قال رحمه الله تعالى: [وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها؛ فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وقال صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد، وأشار إلى الشمس).
وأما مرتبة التكلم والخبر؛ فقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها، وأفرزها بطريقها، وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنه وقف، وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار، يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول: ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله؛ فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه: أنه لا إله إلا هو.
وقال آخر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]، فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.
والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله.
وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه؛ فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وقال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31]، وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]، والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.
وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة؛ فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة؛ تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضاً: فلفظ (الحكم) و (القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:151 - 154]، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأ(9/7)
الشهادة لله بالوحدانية بطريق السمع والبصر والعقل
قال رحمه الله تعالى: [ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها؛ لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة، وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها؛ فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل: أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها].
الحديث الآن يتعلق ببيان الطرق التي أقام الله بها الحجة وبين بها أنه تعالى شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو سبحانه، فذكر من هذه الطرق السمع.
قال رحمه الله تعالى: [أما السمع فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات تُوقِع في الحيرة تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان ووجْدِهِ في أصول ديننا، ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم)].
انتهى من طريق السمع، والآن انتقل إلى الطريق الثانية، وهي البصر.
قال رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية].
وبعد هذه يذكر الطريق الثالثة، وهي دلالة العقل.
قال رحمه الله تعالى: [والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة، فهو سبحانه -لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة- لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43 - 44]، وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183]، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].
فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر له(9/8)
دلالة اسمي الله (المؤمن) و (الشهيد) على وحدانية الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن)، وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لابد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]].
المقصود بالآيات الأفقية هي آيات الآفاق التي هي الآيات الكونية، آيات الله الظاهرة التي ترى وتسمع وتلمس الآيات أو البراهين والمخلوقات التي تدركها الحواس هي آيات الله الأفقية، أما الآيات النفسية فهي آيات الله في الإنسان نفسه، فينبغي أن يتأمل نفسه، سواء عقله وروحه وجسده، فالإنسان فيه من آيات الله الباهرات والدلائل القاطعة على عظمة الله سبحانه وتعالى وتدبيره وإلهيته وربوبيته ما يكفي الإنسان لو نظر في نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه المتقدم في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت:52]، ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله: إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء؛ فإن من أسمائه (الشهيد) الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء، مشاهد له، عليم بتفاصيله، وهذا استدلال بأسمائه وصفاته].
أسماء الله تعالى كلها لها معاني الكمال، بمعنى أن أسماء الله تعالى لا يوقف عند ألفاظها، بل لألفاظها معان عظمى تستنبط منها، فمثلاً: من معاني (الشهيد): الشاهد الذي يشهد الأمور بعلمه سبحانه وتعالى، وبسمعه وبصره، فالله عالم سميع بصير، وهذه شهادة للأشياء بالعلم والسمع والبصر، كما أن الله شهيد أيضاً بإشهاده الخلق على ما يشهد به من الحق، كما أنه -أيضاً- شهيد بإقامة ما تقوم به الحجة وبإقامة ما تقوم به الشهادة، وشهيد بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يشهد بالحق للحق.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته].
الاستشهاد بمثل (المؤمن) و (الشهيد) استدلال بأسماء الله وصفاته، والاستدلال بالسمع والبصر والعقل والمخلوقات المنظورة وغير المنظورة وبالنفس كالاستدلال بقول الله وكلماته، فالاستدلال بقول الله كالاستدلال بالقرآن والوحي، وكذلك منه الكلمات، والاستدلال بالآيات الأفقية التي هي آيات الكون المخلوقة، والنفسية التي هي آيات الله في نفس الإنسان، كما قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وكذلك بأفعال الله تعالى، أي: بما يحدث في هذا الكون من أفعال الله تعالى التي تدل على عظمته سبحانه.(9/9)
دلالة أسماء الله وصفاته على وحدانيته وصدق ما أخبر به الرسول عنه
قال رحمه الله تعالى: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته؛ فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟! ف
الجواب
أن الله تعالى قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه].
هذا الكلام لـ ابن القيم، فهذه عدة مقاطع من كلام ابن القيم في مدارج السالكين، فهو ينقل أحياناً بإيجاز وأحياناً ينقل بعض المقاطع بكاملها، فالكلام هنا أراد أن يبين فيه معنى أن الله هو المؤمن والشهيد، وأن هذا المعنى لا يمكن أن ينصرف إلا إلى إثبات وحدانية الله تعالى من خلال ما ذكر؛ لأنا إذا قلنا بأن من أسماء الله المؤمن ومن أسماء الله الشهيد -مثلاً- فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يؤمن بغيره؛ لأن كل المخلوقات بحاجة إلى أن تؤمن بما هو أعظم منها، أليس كذلك؟ كل المخلوقات تميل وتنزع بفطرتها السليمة أو بغريزتها التي خلقها الله عليها إلى أن تؤمن بما هو أعظم وأكمل، فإذا كان الله هو المؤمن فلا يمكن أن يؤمن بما هو أعظم منه وأكمل؛ لأنه لا أعظم ولا أكمل من الله، فلابد من أن يكون معنى (المؤمن): الذي يجعل التصديق والإيمان في مخلوقاته لنفسه سبحانه، وكذلك الشهيد، وهذا ما أراد ابن القيم أن يقرره في هذه المقاطع.
قال رحمه الله تعالى: [ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء، واطلاعه عليه بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، وَمنْ هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته، والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص].
الخواص دائماً يطلقها ابن القيم رحمه الله وبعض الأئمة المتأخرين ويقصدون بها خواص المؤمنين الذين كمل إيمانهم مع فقه في الدين وعلم، أو الذين عندهم رسوخ في العلم مع قوة في الإيمان وقوة في اليقين، فهؤلاء هم الذين يدركون من مسائل الدين وفقه الإسلام ما لا يدركه عامة الناس ولا كثير من طلاب العلم، فالخواص هم الذين تجتمع فيهم صفات الإيمان مع صفات الفقه في الدين، وليس المقصود به مفهوم الخواص عند الصوفية أو الخواص عند أصحاب الأهواء أو المصطلحات الأخرى التي تنزع إلى أن تعطي الخصوصية لطائفة لا يستحقون هذه الصفة من أهل البدع.
إذاً: الخواص هم عباد الله المخلصون الذين اجتمع عندهم الفقه والعمل والإخلاص والتقوى والاستقامة.
قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله ولا يفعله.
قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
ويُستَدل أيضاً بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23]، وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها].
يقصد بالطريق هنا: الاستدلال على الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهذه طريق لا يدركها إلا الخاصة من أهل التقوى والاستقامة والفقه.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره؛ فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]].(9/10)
شرح العقيدة الطحاوية [10]
لقد صنف بعض الصوفية والفلاسفة التوحيد إلى ثلاثة أنواع: توحيد العامة الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، وتوحيد الخاصة الذي يثبت بالحقائق، وتوحيد خاصة الخاصة وهو توحيد الفناء أو الوحدة أو الحلول والاتحاد، وهذا النوع من التوحيد عندهم يؤدي إلى الإلحاد؛ لأنهم به يزعمون أن أئمة الكفر على مر العصور هم أشد الناس توحيداً، وهذا مزبور في سائر كتبهم ومصنفاتهم.(10/1)
بيان ضلال الصوفية في تقسيمهم للتوحيد باعتبار الموحدين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب -كما تقدمت إليه الإشارة- فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة].
هذا كله من توهيمات الصوفية وألغازهم ودجلهم وتلبيسهم على الناس، فتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام على هذا النحو من تلبيس المتصوفة والفلاسفة الذين ورثوا الفلسفات الهندية واليونانية وغيرها وأرادوا أن يلبسوها لباس الإسلام، فلو نظرنا إلى أنواع هذا التوحيد عند الصوفية في كتبهم لوجدناها تؤدي إلى الإلحاد، فتوحيد العوام عندهم وتوحيد السذج الذي لا يأبهون به هو توحيد الأنبياء والصالحين وعباد الله الذين هم في قمة العبودية، فهؤلاء عند الصوفية عوام، وكل ما جاء عن الله تعالى عن طريق الأنبياء من الوحي والشرائع والكتب والأوامر والنواهي والتوحيد يعتبرونه من توحيد العوام، وهذا مسطور في كتبهم، بمعنى أنهم قلبوا المفاهيم تماماً، فجعلوا الإلحاد هو قمة التوحيد وجعلوا التوحيد، هو قمة الشرك.
والتوحيد الثاني عندهم توحيد الخاصة، ويقصدون به توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد الربوبية، أي: إثبات توحيد الله تعالى بالحقائق الكونية أو بالحقائق النفسية أو بالأدلة العقلية.
والتوحيد الثالث عندهم -أي: عند الصوفية- توحيد خاصة الخاصة، وهو توحيد الفناء أو الفيض أو الإشراق أو الوحدة أو الحلول أو الاتحاد، وكلها تؤدي إلى الإلحاد؛ لذلك يزعمون أن أئمة الكفر في قمة التوحيد، وهذا موجود في كتب الصوفية، ومن أراد أن نطلعه على ذلك أطلعناه، ولكن العافية له في ترك ذلك، فهم يقولون: إبليس في قمة التوحيد؛ لأنه أبى أن يسجد لغير الله، ويقولون: فرعون في قمة التوحيد، لكنه تهور وأظهر الحقيقة، فأخطأ بتهوره حينما قال: أنا ربكم.
لكنه في قمة التوحيد، حتى إن ابن عربي بث هذا في كتبه، وله رسالة موجودة اسمها (إيمان فرعون)، يقول: فرعون في قمة الإيمان، لكنه تهور حينما أظهر هذه الحقيقة للعوام، يعني: موسى وأتباعه، نسأل الله العافية، ولذلك فعند الصوفية من وصل إلى توحيد خاصة الخاصة لابد من أن يهلوس، كـ الحلاج مثلاً، لما وصل إلى هذه المنزلة قال: أنا الله، ونوقش، وقام له طائفة من السلف يقنعونه ويقيمون عليه الحجة ويتثبتون من عقله هل هو عاقل أم لا، حتى ثبت أنه عاقل؛ لأنه مصر، فحكموا عليه، وأمهلوه مدة طويلة فأبى إلا أن يقول: أنا الله، إلى أن جاءوا إليه وهو أمام الخشبة ليقتل يقولون: تب إلى ربك، تب إلى الله، فيقول: ما في الجبة إلا الله، كأنه كان لابساً الجبة، وكان أتباعه حوله يظنون أن السيف لن يناله ولن يموت، فلما سال دمه في الأرض وتلطخت ثياب بعضهم به صعقوا، واستغربوا كيف انفكت رقبته عن جسمه؟! إذ ما كانوا يظنون أن هذا يحدث.
إذاً: فالصوفية بلية من البلايا، وهي خط من خطوط الزندقة، بل أصبحت زبالة كل فكرة فاسدة وكل إلحاد؛ لأنها انصبت فيها جميع المذاهب الموروثة عن الأمم الضالة، فنجد مظاهر الديانة الهندوسية موجودة في بعض طرق الصوفية، ونجد مظاهر الديانة المجوسية موجودة في طرق أخرى، ونجد الديانة الباطنية الشيعية الرافضية الموروثة عن المجوس موجودة في بعض الطرق الصوفية، ونجد الفلسفات الإغريقية والفلسفات اليونانية موجودة في الصوفية.
فما من فلسفة وكفر وإلحاد إلا ويوجد له في الصوفية طرق ومذاهب واتجاهات، والصوفية اتجاهات كثيرة.(10/2)
الحداثة قسيم للصوفية المتزندقة
لما نفقت سوق الصوفية في العصر الحديث ظهر اتجاه جديد قام بدور الصوفية، لكن على شكل آخر وبمؤثرات وأسباب أخرى وتحت شعارات أخرى، وهو اتجاه الحداثة، فالحداثة حينما نتأملها نجدها وجهاً آخر للصوفية وإن لم يكن هذا مقصوداً، لكن هذه أساليب الشيطان في العبث بالأمم.
فالحداثة الآن مصب للزندقة، فلذلك لا نرى مذهباً شاذاً في الغرب الآن أو في الشرق -سواء أكان منهجاً فكرياً شاذاً أم أخلاقياً شاذاً أم عقدياً شاذاً أم إلحادياً- إلا وقد وجد له في مدارس الحداثة من يتبناه، فأصبحت الحداثة معلماً جديداً من معالم الصوفية، فلذلك نجد أن أغلب الحداثيين يشيدون برموز الصوفية ورموز الباطنية أعظم إشادة.
إذاً: فالصوفية وإن قلنا: إنها بدأت تتبين للناس ويتبين أمرها إلا أننا بلينا بعدها ببلية أخرى، وهي الحداثة التي الآن دخلت فينا إلى العظم وتمكنت وتوغلت عندنا في وسائل الإعلام وفي الاتجاهات الأدبية والفكرية حتى صارت الآن شوكة نحتاج في نزعها إلى جهود عظيمة.(10/3)
الأنبياء أكمل الناس توحيداً
قال رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين].
لا شك في أن الرسل يتفاوتون، وإن كانوا في حقوقهم، لا فرق بينهم، فكلهم سواء في الحب والإيمان بأنهم رسل وأنبياء، والإيمان بعصمتهم وأنهم بلغوا رسالة الله إلى آخره، لكن من حيث درجتهم عند الله سبحانه وتعالى وفضلهم يتفاوتون.
وكون بعضهم أكمل في التوحيد لا يعني أن بعضهم أكثر توحيداً، لكن في جانب العبودية لله سبحانه وتعالى، ففي عبوديتهم لله تعالى قد يكون بعضهم أفضل من بعض.
قال رحمه الله تعالى: [وأكملهم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه؛ فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفة، وحالاً ودعوة للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسول ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، فملة إبراهيم: التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم: ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام: هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة.
فهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130 - 131].
وكل من له حس سليم وعقل يميز به لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد].(10/4)
الكلام في أبيات الهروي في التوحيد
هذه الأبيات -في الحقيقة- من الأمور المعضلة؛ لأن ظاهر الأبيات ينزع إلى مقولة الصوفية، فلذلك نحتاج إلى أن نتكلف لنحسن الظن بالقائل، وهو الهروي رحمه الله، وهذه قد تحدث من بعض الأئمة، فيحصل منهم بعض المخالفات في المسائل الاعتقادية، بمعنى أنه قد يشذ إمام له قدره في الدين في مسألة من المسائل عمَّا عليه جمهور السلف، فهذا لا يضيره في صلاحه واستقامته، لكن مع ذلك لا نقر الخطأ حتى ولو كان من عالم كبير إذا لم نجد لكلامه المتأول إلا أن نحسن الظن به هو، أما كلامه وقوله فنعرضه على موازين الشرع، فمن هنا نقول إن هذه الأبيات في ظاهرها هي تأييد لمقالات الصوفية الخطيرة، لكنا إذا نظرنا إلى القائل فإنا نجد أن له في ذلك متأولاً، ونستطيع أن نفسرها بتفسير نحمله محملاً حسناً وإن تكلفنا، وتفسير آخر يؤيد الصوفية، وهو التفسير الظاهر، فلذلك حاول ابن القيم رحمه الله أن يعتذر في هذه الأبيات للهروي وأن يفسرها بالتفسير الحسن، وبعد ذلك سلم ابن القيم بأن فيها معاني إلحادية، فقال كلمته المشهورة في مدارج السالكين: لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه إليه الاتحادي، وأشار في المدارج أيضاً إلى أن في هذه الأبيات معنى إلحادياً، لكن الهروي بريء منه.(10/5)
المحمل الحسن المتكلف لبيان معناها
نرجع إلى تفسير الأبيات، على المحمل الحسن، وسنتكلف وأمرنا إلى الله.
فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) على التفسير الحسن يقصد بذلك: أنه لا يوجد أحد من المخلوقات وصل إلى حقيقة توحيد الله تعالى الكاملة، أي: ما وحد الله أحد من خلقه التوحيد الكامل الحقيقي الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فتوحيد البشر مهما بلغ أقل من أن يصل إلى كمال الله تعالى، فلم يوحد الله على الحقيقة سوى الله، أي: التوحيد الكامل الذي لا يمكن أن ترتقي إليه مدارك البشر.
(إذ كل من وحده جاحد) يقصد أن من حاول أن يقول بالتوحيد الكامل؛ فإنه لا يزال يخفى عليه جوانب أخرى من توحيد الله، فهذه الجوانب هو جاحد لها لم يصل إلى حقيقتها.
ثم قال: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعارهم الوسائل التي عرفوا بها التوحيد، فعرف الإنسان توحيد الله بفطرته وعرف توحيد الله بعقله، وعرف توحيد الله بآياته، وهذه الأمور كلها من مخلوقات الله ومن مواهب الله التي وهبها للخلق، فهو استعارها من الله ليتعرف على الله.
إذاً: فهي عادية موقوتة تزول، وتبقى شهادة الله لنفسه بالتوحيد هي الشهادة العظمى.
وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: أن التوحيد الحقيقي لله تعالى هو شهادة لله لنفسه، فهي التوحيد الحقيقي الذي يوقف عنده، أما توحيد المخلوقات فهو توحيد لا يمكن أن يبلغ كمال الله تعالى، فكمال الله تعالى لا يتناهي ولا يرتقي إليه ولا إلى إدراكه مخلوق على وجه التفصيل.
وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني بذلك أن من تطلع إلى وصف الله تعالى بالنعوت الكاملة؛ فإنه لا يستطيع، ويلحد بذلك، إنما يستطيع البشر أن يصفوا الله تعالى ببعض نعوته، لذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا أن من أسمائه وصفاته ما لا يخطر على بال بشر.
إذاً: فمن ادعى أنه يستطيع أن ينعت الله بجميع كمالاته؛ فهو بذلك لاحد، أي: خارج ومائل عن الحق.
هذا هو التفسير المتكلف؛ لئلا نتهم إماماً من أئمة المسلمين -وهو الهروي - بالإلحاد، وقد تنطوي بعض المعاني على بعض البشر -وإن كان إماماً في الدين- ليثبت للبشر أنه لا عصمة إلا للأنبياء.(10/6)
محمل الأبيات على طريقة الصوفية
أما معناها على منطق الصوفية، فإن قوله: (ما وحد الواحد من واحد)، أي: ما وحد الله أحد، (إذ كل من وحده جاحد) أي: إذ كل من سعى إلى توحيده على طريقة الشرع والعبادة فهو عندهم جاحد لله؛ لأنه لا يصل إلى توحيد الله إلا بأن يتحد مع الله أو يحل أو يفنى في الله تعالى أو نحو ذلك من المعاني.
وقوله: (وتوحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) أي أن من عبد الله تعالى بصفاته، أو تعبد الله بأسمائه وصفاته؛ فإنه بذلك واقف على ألفاظ الشرع، وألفاظ الشرع عندهم هي دين العامة أو توحيد العامة، وهم يزعمون أنهم وصولوا إلى أسماء الله وصفاته باتحادهم مع الله، فلذلك مثلوا أسماء الله وصفاته بصفات بشر من البشر من أوليائهم.
وقوله: (توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد) هو على نفس ما مر، أي: أنهم يقصدون بذلك أن من حاول أن يوحد الله بصفاته أو بنعته بصفات الكمال على نحو ما جاء به الأنبياء؛ فإنه بذلك لاحد عن توحيد الخاصة، أو خاصة الخاصة، الذي هو الاستغناء عن النص على أن صفات الله وأسمائه غير خلقه، فهم يرون أن الله هو الخلق والخلق هو الله، وعلى الإنسان أن يصف نفسه بصفات الكمال ليوحد التوحيد الكامل، لذلك قال أحدهم كلمة شنيعة، قال: سبحاني ما أجل شأني.
يقصد نفسه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(10/7)
وجود الخيرية في بعض المتصوفة لا يمنع من فضح المناهج الصوفية المتزندقة
وحكاية الكفر أحياناً تكون ضرورية للتنبيه على مزالق هؤلاء؛ لأنا نرى الآن أعناق الصوفية بدأت تظهر، وكثر المتعاطفون مع المتصوفة جهلاً بهذه الأمور.
نعم نحن ندرك أن هناك عدداً كبيراً ممن ينتسبون للتصوف من العامة قد لا يعتقدون هذه الاعتقادات، وأمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، لكن الصوفية بطرقها وبمدارسها، وبأقطابها كلها إلحاد وزندقة، وخروج عن مقتضى الدين، فيجب أن نتنبه، ويجب أن لا يغرنا المغفلون بمسألة التعاطف مع المتصوفة، بدعوى أن المتصوفة أخيار، نعم فيهم أخيار، لكن هل يعني هذا أن ننجذب إلى أناس فيهم الكفر والزندقة لمجرد وجود أخيار بينهم ينتسبون إليهم؟! إن كل طائفة من طوائف المسلمين قد يوجد فيها من السذج والمغفلين أخيار، لكن الكلام على حقيقة المذاهب والاتجاهات، وبيان ما هي عليه من كفر، وأنا بجهدي المحدود استقرأت كل ما حاولت أن أتوصل إليه من كتب الطرق الصوفية القديمة والجديدة، فما وجدت طريقة نزيهة ولا قريبة من التوحيد، ومن وجد فليعطني جزاه الله خيراً، وقد قرأت عن أكثر من أربعين طريقة من طرق الصوفية المعاصرة، فوجدتها تتفق على كثير من هذه الأصول الكفرية مع تفاوت في الاتجاهات العقدية، فلذلك من وجد طريقة على مذهب أهل السنة والجماعة فليخبرنا لئلا نظلم أحداً، وأحمل المسئولية كل من له اطلاع.
أما أن يوجد من عوام المسلمين أو من طلاب العلم أو من المشايخ من ينتصر للصوفية وهو سليم المعتقد؛ فنعم قد يوجد هذا، لكن هل سلامة البعض تعني سلامة المذاهب وتعني سلامة الكل؟! هذا أمر لا يصح أن ننخدع به، وهذا هو مصدر اللبس الآن عند كثير من طلاب العلم، ومصدر اللبس عند كثير ممن حاروا في الأمر؛ لأنهم قد يجدون من الثقات والصالحين والعباد والزهاد من ينتسب إلى الصوفية ويقول: أنا صوفي، لكن هل تتمثل فيه الصوفية في مذاهبها وعقائدها؟! لا، فما عليه الصوفية من أوراد ومن أحوال ومن سلوك ومن شطحات كائن في كتب ومؤلفات، وهي موجودة، وهي محل الحكم.
إذاً: فيجب أن لا ننخدع بدعاوى الصوفية أو دعاوى المتعاطفين مع الصوفية، ومن لديه برهان على أن طرق الصوفية -أو بعضها- فيها خير؛ فأرجو أن يسعفني بذلك وأنا أحمله المسؤولية؛ لأني ما وجدت إلى حد الآن طريقة سليمة تخلو من الكفريات فضلاً عن البدعيات والشركيات.(10/8)
آثار غلو الصوفية في الدين
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة، أو ما يقرب من هذا المعنى، أو أشار إليه؟ ! هذه النقول، والعقول حاضرة، فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها وهذا التقسيم عن أحد منهم؟! وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم، وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه].
بذور الصوفية بدأت تحت شعار التعبد والزهد، والمبالغة في التعبد والزهد، فالغلو في الدين أوجد بيئة مناسبة لنشر المذاهب الباطلة تحت مسمى الزهد والورع والتصوف فلذلك إذا استعرضنا تاريخ التصوف نجد أنه بدأ في القرن الثاني على شكل نزعات، ولم يكن على طرق الصوفية، إنما كان نزعات مبالغة في العبادة على غير السوية، وأغلبها من أناس من الصالحين لا يتهمون في عقيدتهم وليسوا أصحاب بدع، لكنهم تعبدوا على غير فقه، فمنهم من نزع إلى تغليب الخوف على الرجاء، ومنهم من نزع إلى تغليب العبادة والانقطاع عن الدنيا، ومنهم من نزع إلى البكاء مثل البكائين، ومنهم من نزع إلى تغليب جانب الحب وترك جوانب العبادة الأخرى، ومنهم من نزع إلى العزوف عن كل شيء، ومنهم من نزع إلى الهيام في البراري والمشي في الأرض على غير قصد، ومنهم من نزع نزعات أخرى.
فهذه النزعات في التعبد المغالي أوجدت بيئة مناسبة لدخول الباطنية ودخول المتصوفة في القرن الثالث الهجري، فلذلك اعتمدت الصوفية على هذا الاتجاه، اتجاه الغلو في العبادة، فزعمت أنها امتداد للزهاد الأوائل، وزعمت أنها امتداد لأهل الورع والتقى والصلاح، وهذا هو التلبيس والكذب والدجل بعينه، فالمتصوفة استغلوا هذه البيئات، وأوجدوا فيها ما يسمى بالشطحات أولاً والتعلق بالسماع ونحو ذلك من الألفاظ الموهمة التي تشبه ألفاظ الحداثيين الآن، ثم بعد القرن الثالث خرجت عن سمتها، وبدأت تقول بالكفر الصراح بدون مداهنة.
قال رحمه الله تعالى: [وقد ذم الله الغلو في الدين ونهى عنه، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم؛ فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود.(10/9)
شرح العقيدة الطحاوية [11]
لقد اعتمد السلف في باب الأسماء والصفات قاعدة القرآن الكريم الحاكمة بإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه، وقد خالف في ذلك سالكو مسلك التأويل أو التعطيل فيما يخص الإثبات؛ إذ توهموا أن الاشتراك اللفظي في صفات الخالق وصفات المخلوق يقتضي المشابهة، وذلك غير مسلم؛ فإن المشترك اللفظي ليس له إطلاق كلي على الأعيان الخارجة ليشملها في آن واحد حال الخطاب، بل هو في الخارج لا يوجد إلا معيناً مختصاً، فإذا وصف به الخالق اختص به على ما يليق بجلاله وكماله، وإذا وصف به المخلوق اختص به على ما يليق بنقصه.(11/1)
بيان ما ينفى عن الله عز وجل من الصفات وما لا يجوز نفيه منها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء مثله): اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن، ودل عليه العقل من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الممثلة المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النصارى في كفرهم].
من جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم، وهو نظير اليهود -كذلك- في كفرهم وفي تشبيههم لله بخلقه؛ لأن اليهود حينما حرفوا التوراة وضعوا فيها اعتقادهم في تشبيه الله تعالى بخلقه، فزعموا أن الله سبحانه وتعالى له أعضاء كأعضاء المخلوقات، وأنه ينزل إلى الأرض ويصارع ويتحداهم ويتحدونه، تعالى الله عما يزعمون.
فلذلك نجد التشبيه حينما ظهر في الأمة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ظهر على أيدي الرافضة الذين هم ورثة اليهود، فالرافضة ورثوا كثيراً من عقائد اليهود كما هو معروف عند المحققين، ومن ذلك التشبيه، فالمشبهة الأوائل المجسمة كـ هشام بن الحكم وداود الجواربي وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهم كلهم رافضة، بل التشبيه الشنيع الذي كفر أهل السنة من قال به أغلبه في فرق الرافضة الأولى.
قال رحمه الله تعالى: [ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك].
هو بهذا يريد أن يقرب مسألة بناها على قاعدة نفي التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهو أولاً أراد أن يبين معنى نفي التشبيه هنا، وما حدث عند المتكلمين والنفاة من اللبس والتلبيس في معنى التشبيه، فقاعدة: (ليس كمثله شيء) تعني أن الله سبحانه وتعالى تثبت له الصفات، لكن على غير صفات المخلوقين؛ لأن الله قال في الآية نفسها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالآية تضمنت قاعدتين متوازنتين ترد كل واحدة إلى الأخرى، ولا بد من رد كل واحدة إلى الأخرى.
لكن أصحاب الأهواء انقسموا في هذا الأمر إلى قسمين، وأهل السنة وسط بين الفريقين، فأخذوا بالحق، حيث أخذوا بقاعدة: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقاعدة: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، قاعدة نفي المشابهة وقاعدة الإثبات، والله سبحانه وتعالى بدأ بنفي المشابهة قبل الإثبات لئلا يستقر في ذهن السامع لصفات الله تعالى ما يتخيله من المعاني التي لا يعرفها إلا في عالم الشهادة، فنظراً لأن الإنسان إذا سمع: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ينطبع في ذهنه ما يشهده وما يعلمه من السمع والبصر؛ فكأن الله أراد أن ينفي المشابهة قبل الانطباع في الذهن، فما ينطبع في الذهن منفي عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فحقيقة صفات الله تعالى تثبت والمشابهة منفية قطعاً، فلذلك بدأ بنفي التشبيه لئلا يستقر في الذهن ما يتخيله الإنسان عندما يسمع اللفظ، فلذلك أهل السنة سلمت عقيدتهم، أما أهل الأهواء فانقسموا إلى قسمين: قسم وقف عند الشق الأول، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فظن أن إثبات الصفات مماثلة، فنفى الصفات، وطائفة أخرى وقفت عند: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) وقالوا: لا نعرف إلا السمع بالأذن والبصر بالعين، إذاً: فالله جسم كالأجسام.
تعالى الله عما يزعمون علواً كبيراً.(11/2)
مناقشة المؤولة والمعطلة في بيان أن الإثبات لا يستلزم التشبيه
وأراد هنا أن يناقش المؤولة والمعطلة؛ لأن تلبيسهم أشد من تلبيس المشبهة، التشبيه تنفر منه النفوس والفطر، ولا يحتاج التشبيه إلى تقعيد فلسفي ولا إلى قواعد عقلية ولا إلى قواعد كلامية، وتنفر منه جميع النفوس، فلا يحتاج إلى تكلف في رده؛ لأن تشبيه الخالق بالخلق تنفر منه فطرة كل إنسان، فلذلك لا يحتاج إلى مزيد كلام، لكن المشكلة في تلبيس المؤولة والمعطلة الذين نفوا أسماء الله وصفاته بدعوى أنها توهم المشابهة، أو الذين نفوا الصفات بدعوى أنها توهم المشابهة، أو الذين أولوا بعض الصفات بدعوى أنها توهم المشابهة، كل هؤلاء يناقشون على قاعدة واحدة، لكن كل واحد منهم نناقشه بقدر ما نتفق وإياه على الأمور الأولية التي يسلم بها، فكلهم لا بد من أن يسلموا بشيء كما سيأتي، فلذلك سنعرف من خلال الكلام أن الشارح سيتدرج في مناقشة المؤولة والمعطلة تدرجاً يأخذهم فيه دفعة دفعة، فيبدأ بالمؤولة الذين تأويلهم خفيف، ثم يثني بمنكري الصفات، ثم يثلث بمنكري الصفات والأسماء جميعاً، فيأخذهم بأسلوب واحد على قاعدة واحدة.
قال رحمه الله تعالى: [وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم، قدير، حي، والمخلوق يقال له: موجود، حي، عليم، قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه].
هنا يناقش الأشاعرة والماتريدية، يعني: بدأ بالفرق التي هي أقل خروجاً عن السنة في التأويل، أو الذين يمكن أن يكون بيننا وبينهم شيء من الالتزام بالنصوص وظاهرها وبعض القواعد التي تستنبط من النصوص، وهم الأشاعرة والماتريدية، فهو هنا يناقش المؤولة المتكلمين من الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى، فسمى نفسه حياً، عليماً، قديراً، رءوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً، بصيراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً، متكبراً، وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95]، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم} [الصافات:101]، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ((فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [الإِنسَان:2]، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79]، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} [السجدة:18]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي، ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء.
وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه} [البقرة:255]، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [السجدة:15].
وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به.
قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري.
وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)].
الخلاصة في هذا الكلام كله أن الشارح قرر طريقة السلف في إلزام المؤولة أو منكري الأسماء والص(11/3)
مناقشة الأشاعرة ونحوهم
قال رحمه الله تعالى: [فقد سمى الله ورسوله صفات الله علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54]، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68]].
هذا في وصف المخلوقين، يعني بذلك أن الله كما سمى صفات نفسه سبحانه وتعالى وكما سماها رسوله صلى الله عليه وسلم بالعلم والقدرة والقوة؛ كذلك سمى الله المخلوقين ووصفهم بهذه الصفات.
قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء؛ فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه].
هنا بدأ يرد على المؤولة قبل أن يرد على المعطلة، فبدأ بالرد على أقل الفرق انحرافاً في صفات الله تعالى، فهو يرد على المؤولة وعلى أهل الكلام الذين يمثلهم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم.
قال رحمه الله تعالى: [فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه -كالرضا والغضب، والمحبة والبغض ونحو ذلك- وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم؛ قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر! مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثْبتَهَ الله ورسوله مثل قولك فيما أثْبَتَّه؛ إذ لا فرق بينهما].
خلاصة قوله أنه يقول لمن أول بعض صفات الله تعالى وأثبت البعض الآخر، وهم المؤولة الذين يثبتون لله تعالى صفات العلم والإرادة والقدرة والحياة والسمع والبصر ولا يؤلونها، لكنهم في الوقت نفسه لا يثبتون صفة الرضا والنزول والمجيء والمحبة والبغض ونحوها من الصفات الفعلية، يقول لهم: الشبهة التي بها نفيتم الصفات هي موجودة فيما أثبتموه، وأيضاً: السبب الذي به أثبتم الصفات التي ذكرتموها هو موجود في تلك الصفات التي نفيتموها، فإذا قلتم في صفة الإرادة والكلام والسمع والبصر بأنكم تثبتونها لله تعالى وليست كصفات المخلوقين، فكذلك المحبة والغضب واليد والوجه قد أثبتها الله لنفسه، وليست كصفات المخلوقين، فلم نفيتم هذا وأثبتم هذا؟! ليس عندهم جواب.(11/4)
مناقشة المعتزلة
قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه].
هنا بدأ يرد على المعتزلة، فالمعتزلة يثبتون لله الأسماء مثل: عليم، قدير، حي، لكنهم ينفون عن الله الصفات مثل الحياة والعلم والقدرة، فيقولون: حي بلا حياة، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وهذه فلسفة، لكن الشارح يقول لهم -وهذا مبدأ عند أهل السنة والجماعة-: إن السبب الذي أثبتم به الأسماء موجود في الصفات، والسبب الذي نفيتم به الصفات موجود في الأسماء، فلا داعي للتفريق بينهما، فهم يقولون -مثلاً- في نفي الحياة والعلم والقدرة: لأنها من صفات المخلوقين، فيقال لهم: أيضاً المخلوق يقال له: حي، ويقال له: عليم، ويقال له: خبير بحدود ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من هذه الأسماء والصفات، فالتفريق بين أسماء الله وصفاته كالتفريق بين الصفات بعضها مع بعض، والقاعدة عند النفاة وعند المؤولة قاعدة واحدة، وإذ رد عليهم بقواعدهم نفسها، فما أثبتوه لا حجة لهم في نفي ما عداه، وما نفوه لا حجة لهم في إثبات ما عداه.
إذاً: لا بد في القاعدة الشرعية أن تطرد، فإذا قال الأشاعرة -مثلاً- بأن لله صفات -كالسمع والبصر- ليست كصفات المخلوقين، فيقال لهم: كذلك تثبت لله المحبة والرضا والنزول والمجيء على غير ما عليه المخلوق، إنما تثبت على ما يليق بجلال الله تعالى، لا لأننا استنتجنا ذلك بخيالاتنا وعقولنا، لكن لأنها ثبتت في النصوص، فصفات الرضا والعَجَب والغضب واليد والوجه ثابتة بنصوص الشرع، وهي تثبت لله تعالى على ما يليق بجلاله، ودعوى المشابهة أو دعوى الالتباس بصفات المخلوقين دعوى باطلة؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وكما أنه ليس كمثله شيء في بعض صفاته التي أثبتوها؛ فكذلك ليس كمثله شيء في الصفات التي نفوها، وكما أن الله تعالى ليس كمثله شيء في أسمائه؛ فكذلك ليس كمثله شيء في صفاته، فلا داعي للتفريق بين الصفات، ولا للتفريق بين الأسماء والصفات.(11/5)
مناقشة الجهمية والباطنية والمتفلسفة
قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة].
هنا يرد على الباطنية والمتفلسفة والجهمية، فانتقل من المعتزلة والمتكلمين إلى فئة ثالثة أشد غلواً، وهي الجهمية والباطنية والمتفلسفة.
قال رحمه الله تعالى: [قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له].
هذا رد على الدهرية الملاحدة، ثم انتقل من الرد على الجهمية الذين ينكرون الأسماء والصفات جميعاً إلى الرد على الملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الله، فرد عليهم بنفس القاعدة.(11/6)
مناقشة الملاحدة
فقال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه].
كلمة واجب وغير واجب فلسفة اضطر أهل العلم للتعبير بها لإلزام الخصوم من الملاحدة، وإلا فهي من العبارات المبتدعة التي لا يجوز أن تطلق على الله سبحانه وتعالى، لا باسم ولا بوصف، لكن قد يعبر للخصم الذي لا يؤمن بالكتاب والسنة، أو ألحد في كتاب الله وفيما ورد فيه من النصوص الثابتة بمفاهيمه ومصطلحاته لإلزامه بالحجة، فلذلك قد يحاج هؤلاء الذين ينكرون الأسماء والصفات، أو ينكرون وجود الله بمثل هذه الألفاظ من باب الإلزام العقلي.
إذاً: لا بد من فهم كلمة واجب الوجود وممكن الوجود، والقائم بنفسه والقائم بغيره، فواجب الوجود معناه: الذي يلزم وجوده ويضطر العقل لإثباته، وتفتقر إليه الموجودات، اللازم عقلاً بالضرورة، فيسمى واجب الوجود بنفسه؛ لأن الوجود خلاف العدم، فلذلك الله سبحانه وتعالى موجود، بمعنى أنه سبحانه وتعالى له وجود ذاتي، وكذلك المخلوقات موجودة، لكن المخلوق مفتقر إلى موجد، فيقال له: ممكن الوجود، أو: جائز الوجود، أو قائم بغيره؛ لأنه لا بد في وجوده من موجد، وهذا الموجد -وهو الله سبحانه وتعالى الخالق- واجب الوجود، بمعنى: لا يمكن أن نتصور أنه يحتاج إلى موجد ثان، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن الموجد الذي أوجد المخلوقات القائم بنفسه الواجب الوجود -في تعبيرات الفلاسفة- محتاج إلى موجد ثان؛ لأنه لو قيل بموجود ثالث موجب لغيره لاحتاج الموجود الثالث إلى موجود رابع، والرابع إلى الخامس، وهذا يؤدي إلى التسلسل الذي لا يتناهي أبداً، فلا ننتهي إلى نتيجة، إذاً: لا بد عقلاً من الإقرار بواجب الوجود، أي: لازم الوجود الذي لا بد من أن يكون وجوده أزلياً لا بداية له، كما قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ} [الحديد:3]، والأول -كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم- الذي ليس قبله شيء، فإذا كان ليس قبله شيء فليس له موجد، ولا بد من أن يكون هو الموجد، فالفلاسفة تعبر بواجب الوجود الذي يضطر العقل للقول بوجوده أزلاً، وليس قبله شيء.
قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه].
يعني أن الذي لا يوجد نفسه لا بد له من موجد، فالمخلوقات نعلم قطعاً أنها لا تستطيع أن توجد نفسها، فلا بد لها من موجد، والموجد هو اللازم وجوده بالضرورة أزلاً، وليس قبله شيء.
قال رحمه الله تعالى: [وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك، وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن].
يعني أن المخلوقات التي نراها ونحسها علم بالحس والضرورة أنها موجودة وكائنة وحادثة بعد أن لم تكن.
قال رحمه الله تعالى: [والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.
ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته؛ إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق، والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير].
هذا القاعدة العقلية المعلومة بالضرورة تسري على كل من خالف النصوص الشرعية فيما يتعلق بصفات الله تعالى، ليست فقط في المنكرين لأسماء الله وصفاته أو الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود الله، إنما هي سارية على كل من خالف النصوص الشرعية، فالمؤولة الذين أولوا صفات الله فأثبتوا بعضها وأولوا بعضها، والمعطلة الذين أنكروا الصفات وأثبتوا الأسماء، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات، هؤلاء كلهم يجمعون على أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد الغني عما سواه، وهو القيوم القائم بنفسه القائم على خلقه، وهو سبحانه وتعالى مغاير للمخلوقات في كل شيء، -وهذه بدهية يعترفون بها، لكنهم نسوها عند الإثبات، فكان الأولى حينما أخبروا بصفات الله جل جلاله كصفة العين واليد والغضب والرضا والضحك والنزول- أن تستمر القاعدة معهم بأن يقولوا: هذه الصفات تليق بالله سبحانه وتعالى على خلاف صفات المخلوقين، بل هي مغايرة حتماً؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، وكل صفة لله تعالى فهي كمال مطلق مغايرة(11/7)
الاشتراك اللفظي لا يعني تشبيه الخالق بالمخلوق
قال رحمه الله تعالى: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم].
يقصد بهذا ما يسمى بالاشتراك اللفظي، والاشتراك اللفظي هو الذي خفي أمره على كثير ممن خالفوا أهل السنة والجماعة، فخالفوا هدي الأئمة في إثبات صفات الله تعالى وإثبات أمور الغيب، والاشتراك اللفظي هو أن هناك ألفاظاً معلقة في الأذهان لا يمكن أن نفهم معانيها على الحقيقة إلا إذا أطلقت على الموصوف أو المسمى، فهذه الألفاظ المشتركة تطلق على الله تعالى على وجه الكمال، وتطلق على المخلوقات على وجه النقص، وهذا معلوم بالضرورة، فمثلاً: اسم (الحي) لفظ مشترك، فكلمة (حي) قبل أن نصف بها أحداً كلمة معلقة في الأذهان وفي الخيالات، لكن إذا قلنا عن الله تعالى: إنه الحي القيوم؛ فهم السامع بفطرته وعقله السليم أن لله الحياة الكاملة، فالله سبحانه وتعالى له البقاء، وإذا أطلقت كلمة (حي) على مخلوق فهم منها الحياة المقيدة التي يعتريها النقص والفناء، وكذلك كلمة (عالم) مثلاً، فهي كلمة مجردة تبقى في الخيال وفي الذهن عالقة، فإذا قيل للإنسان: عالم عرف أنها كلمة تطلق على هذا الإنسان بحسب معلوماته، أي: ليس عالماً بما كان وما يكون وما وراء الأرض، إنما هو عالم بمعلوماته التي في ذهنه، وإذا قيل في حق الله سبحانه وتعالى: عالم، فالله هو العالم على وجه الكمال، وهذا الأمر يجري على كل الصفات والأسماء، والذين نفوا الأسماء أو أولوها بدعوى أنها تشبه أسماء المخلوقات وصفاتهم يقال لهم: كما أنكم تقولون: إن الله موجود والمخلوق موجود، وتقولون بأن وجود الله يليق بجلاله، ووجود المخلوق يليق بنقصه؛ فكذلك الصفات الأخرى -اليد والعين والقدرة والضحك والرضا- تطلق على الله تعالى على ما يليق بجلاله على وجه الكمال، وتطلق على المخلوق على ما يليق بنقصه، فاتفاق الألفاظ من وجه واختلافها من وجه هو الذي التبس على كثير ممن حادوا عن الحق، سواء المشبهة الذين ما فهموا من صفات الله إلا أن تكون مثل صفات المخلوقين، وهو فهم خاطئ أدى بهم إلى الضلالة والكفر، وكذلك المؤولة الذين فهموا من هذه الألفاظ مثلما فهم المشبهة، لكنهم فروا من التشبيه فعطلوا وأولوا، فوقعوا في الضلالة وحادوا عن الحق حيث أردوا الإحسان، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الفرق أرادت الإحسان أولاً لكنها لم تهتد إلى الحق في النهاية، فالمشبهة أردوا الإحسان بالإثبات، لكنهم ما اهتدوا بهدي السنة في معنى الإثبات، فوقعوا في التشبيه، والمؤولة والمعطلة أردوا الإحسان بالنفي، بأنهم أرادوا تنزيه الله، لكنهم زادوا على الحد فعطلوا -أي: أنكروا أسماء الله وصفاته، أو صفات الله أو بعض صفات الله-فحادوا عن الحق حينما أرادوا الإحسان، وسبب ذلك تقصيرهم في العلم وعدم اهتدائهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة، وإلا فلو اهتدوا لما ضلوا.
قال رحمه الله تعالى: [وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه؛ فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه.
وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة].
أي: اتفق الخالق والمخلوق في المسمى المجرد، وهو الوجود والعلم والقدرة.
قال رحمه الله تعالى: [فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه].
يعني أن هذه الأسماء -الوجود والعلم والقدرة- كلمات مجردة لا تعدو أن تكون في الذهن ومفهومها غير مرتبط بعين معينة، أو بشخص معين، أو بموصوف معين، فإذا أطلقت على أحد أطلقت على من أطلقت عليه بحسب ما يليق به، فالوجود والعلم والقدرة إذا أطلقت على المخلوق عرف أنه وجود وعلم وقدرة محدودة، وإذا أطلقت على الخالق سبحانه عرفنا أنه علم وقدرة ووجود كامل يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار؛ حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد].(11/8)
مدلول الاشتراك اللفظي وصلته بالأعيان الخارجية
قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أن لفظ (الوجود) يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث.
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ (المشتري) الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ (المشتري) يقال: على كذا أو على كذا، ومثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به.
فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيها غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.
فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساءوا بزيادة التشبيه.
واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له بلفظ المفرد له ويشار له إلى معناه إن كان مشهودا بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، ولا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه، وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن، مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده استنزله إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.
وإذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا يكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم تحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9]، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر، وكذلك لما خبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من(11/9)
بيان وجه الإحسان ووجه الخطأ عند المعطلة والمؤولة
القضية الثانية: ذكر الشارح وجه الإحسان والخطأ عند كل من المؤولة والمعطلة، وأن مرادهم الإحسان أولاً لكن على غير هدى، فوقعوا في الضلالة، وسبق أن أشرت إلى هذا.
يعني بذلك أن المعطلة حينما عطلوا ونفوا الأسماء والصفات عن الله تعالى أو أولوا بعضها، أرادوا بذلك ابتداء الخروج مما يتوهمونه من تشبيه لله بمخلوقاته، لكنهم لم يهتدوا للحق الذي جاء عن أئمة الهدى، وهو الإثبات على ما يليق بجلال الله تعالى، فلم يهتدوا إلى الصواب، فإحسانهم حينما لم يكن على صواب ولم يكن على دليل ولا على هدى أدى بهم إلى الإساءة والضلال.(11/10)
حكمة التعبير عن الغيب بالألفاظ المشتركة
القضية الثالثة التي تكلم عنها الشارح: وجوه فهم المخاطب للألفاظ الشرعية، ولماذا عبر الشارع بالألفاظ المشتركة؟ إذ ربما ترد هذه الشبهة على المعطلة والمؤولة والمشبهة، فيقولون إذا كان الله سبحانه وتعالى لصفاته وأسمائه كيفيات غير ما للمخلوقين، فلماذا عبر بهذه الأسماء والصفات؟ فيقال لهم: هذا على وجه التقريب؛ لأنه ليس عند المخاطب قدرة على الفهم أكثر مما يدركه في الموجودات، فالأمور الغيبية لا يمكن أن يصل إليها، ولو وصل إليها ما صارت غيباً، فالله تعالى عندما أخبرنا عن نعيم الجنة عبر بألفاظ عن هذا النعيم تشبه الألفاظ التي تطلق على أنواع النعيم في الدنيا، لكن الحقيقة غير الحقيقة، فلذلك قد يعبر عن بعض أمور الغيب بأقرب لفظ يقرب إلى الذهن فهمها، وإن كانت في الكيفيات على غير ما يعهده السامع؛ نظراً لأنه لا يمكن أن يطلع على الغيب.
فلذلك جاءت النصوص الشرعية في ذكر أسماء الله وصفاته وغير ذلك من أمور الغيب بما يمكن أن يفهمه المخاطب من خلال مشاهداته وحسه، وضبطت هذه النصوص بقواعد أخرى تنفي التشبيه وتنفي التعطيل، وهي مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فالله وصف نفسه بأنه العلي العظيم، وأنه حليم وأنه حي قيوم، وفي نفس الوقت قال الله لنا عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؛ لئلا ترتبط الصفات التي نسمع الألفاظ عنها بالمحسوسات المتخيلة في أذهاننا، حتى لا نشبه أسماء الله وصفاته بما نعرفه مما يشبه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، فعلى هذا تثبت الحقائق الواردة في النصوص، أي: حقائق الألفاظ، لكن لا يمكن أن تثبت الكيفيات، والحقائق غير الكيفيات، فلذلك أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة هي حقائق، لكن الكيفيات التي هي عليها كيفيات كاملة تليق بجلال الله تعالى، ولا يمكن أن يدركها بشر؛ لأن الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وهذا أيضاً في سائر أمور الغيب التي أخبرنا الله بها، فشبهها بما عندنا من المحسوسات شبه لفظي، وهي حقائق، لكن الكيفيات غيبية، ولو كانت معلومة أو تشبه المشاهدات عندنا لما كانت غيباً.
وما أخبر الله به من أمور الغيب على نوعين: نوع يمكن أن يرتسم له في الذهن ما يقرب من الحقيقة والكيفية، وهو ما أخبر الله به مما يوجد مثله، كإخبار الله تعالى عن الطوفان، أو عن غرق فرعون أو عن قصص النبيين، فهذه الأمور تفهم مما يقرب من كيفياتها، وربما نرى بعض أثارها وأعيانها، فهي غيب من حيث أحداثها، لكن ليست غيباً من حيث كيفياتها التي هي عليها.
والنوع الآخر من الغيب هو الغيب الآخر الذي لا يوجد مثله في الدنيا، فهذا كيفياته في نطاق الغيب، ويستحيل لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية؛ لأنه لو أمكن لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية لما صارت غيباً، ولما سماها الله لنا غيباً، والغيب ما غاب عن الذهن والعقل والحس على السواء.
هذه أهم القضايا التي وردت في بقية النص.(11/11)
شرح العقيدة الطحاوية [12]
من جملة القواعد المقررة عند السلف الصالح رضوان الله عليهم الإثبات التفصيلي لكل صفات الكمال لله تعالى، فيما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والنفي الإجمالي لصفات النقص نفياً يتضمن إثبات كمال ضده لله تبارك وتعالى، واطراح النفي الصرف الذي لا يتضمن ثبوت كمال ضده، وقد اتبعوا في ذلك منهج القرآن الكريم، مخالفين بذلك طريقة أهل الكلام المذموم الذين يعتمدون تقرير العقائد بالسلوب، ويجملون الإثبات ويفصلون النفي الصرف.(12/1)
بيان كمال قدرة الله عز وجل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء يعجزه)].
في هذه العبارة تقرير عقيدة السلف؛ إذ عندما كثر الخوض في أمر الاعتقاد وظهرت الفرق، وظهر أهل الأهواء والبدع، ودخلت على الناس المسائل الفلسفية، وكثر الكلام والخوض في العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته؛ اضطر السلف إلى تقرير البدهيات، ومنها ما ذكره الطحاوي هنا، فقوله: (ولا شيء يعجزه) أي: لا شيء يعجز الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر بدهي تقتضيه جميع العقول السليمة، حتى عقول الكفار الذي يعترفون بالله، كاليهود والنصارى وسائر أهل الملل الذين يؤمنون بالله إذا لم تخالطهم فلسفات، فإنهم بالبداهة مقتنعون عقلاً وفطرة بأن الله لا يعجزه شيء، فضلاً عن المسلمين عامتهم وخاصتهم، فإنه من البدهي أن يقال: إن الله لا يعجزه شيء سبحانه؛ لأن هذا مقتضى كونه إلهاً ورباً وخالقاً، ولا تنفك عن ذلك العقول السليمة، ولا الفطر المستقيمة، لكن اضطر السلف لتقرير هذه البدهيات؛ لأن أهل البدع تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بقواعد عقلانية فلسفية هي أقرب إلى الترهات والخيالات التي هي شبهات من الشيطان.
فالجهمية مثلاً -وهم أول من تجرأ على الكلام في ذات الله- طعنوا في حكمة الله تعالى وفي قدرته، ورسموا لله -تعالى عما يقولون وعما يزعمون- صلاحيات، فقالوا: إن الله يقدر على أن يفعل كذا ولا يقدر أن يفعل كذا، وإذا قرر الله بعدله أن يعذب الكافر فلا يقدر على أن يخرجه من النار! عياذاً بالله من ضلالهم.
ومن هنا قالوا بعدم خروج أهل الكبائر من النار؛ لأن هذا طعن في قدرة الله، وكأن الله يعجز عن أن يخرج أحداً من النار بعد أن يعذب، وهكذا في سائر القضايا التي هي من سنن الله تعالى أو أحكامه، أو مما حكم الله به وقضاه، فإنهم يزعمون أن الله إذا قضى قضاءً لا يقدر على أن يتخلى عنه.
ولم يفرقوا -بل أقول: إنهم ما أدركت عقولهم التفريق- بين قدرة الله تعالى وبين إرادته، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد هذه الأمور، لكنه قادر على غيرها، فلم يفرقوا بين هذا وذاك، فلذلك اضطر السلف -ومنهم الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة- إلى قول هذا الكلام، وسيأتي مزيد شرح لذلك.(12/2)
النفي في الكتاب والسنة يتضمن ثبوت كمال ضده
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء يعجزه)؛ لكمال قدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، {لا يَئُودُهُ} [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه، فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]؛ لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3]، لكمال علمه، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، لكمال قدرته، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، لكمال حياته وقيوميته، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]؛ لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه].(12/3)
النفي الصرف لا يقال في حق الله عز وجل
النفي الصرف هو النفي الذي لا يتضمن ما يقابله، النفي الذي لا يتضمن الضد، أو ضده المعدوم، فهذا النفي لا يعد كمالاً، كنفي الوجود، فغلاة الفلاسفة ينفون عن الله الوجود، والذي لا يوجد هو العدم، فنفي الوجود ليس صفة كمال، بل صفة نقص؛ لأنه نفي صرف لا يتضمن الكمال الذي ضده، لذلك نجد في الأمثلة السابقة أن الله سبحانه وتعالى نفى عن ذاته المقدسة نقصاً لابد من أن يتضمن نفيه ويستلزم إثبات كمال، ولذلك يجتنب النفي الصرف، ككونه لا يرى، وليس في جهة، ونحو ذلك من العبارات التي سيوردها الشارح عن المتكلمين والفلاسفة، فإنهم نفوا نفياً سلبياً لا يتضمن شيئاً من الإثبات، وهذا النفي السلبي لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى.
فالنفي الذي لا يتضمن ضده كنفي الوجود، أو نفي ما يمكن أن يوصف به الكامل؛ فإن هذا النفي الصرف لا مدح فيه.
فإذا قلت: هذا الشيء لا يوجد؛ فهذا يعني المعدوم، أو: هذا الشيء لا يرى؛ فالذي لا يرى هو إما الصغير المتناهي في الصغر، أو الذي لا يوجد أصلاً، فالمعدوم لا يرى والصغير المتناهي في الصغر لا يرى.
أما الله سبحانه وتعالى فهو يرى، لكن الناس في الدنيا لا يمكن أن يروه؛ لأنهم غير قادرين على الرؤية، فلذلك ثبتت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، أما الذي لا يرى فهو المعدوم، وذلك -أي: نفي الرؤية عن الله جل جلاله- هو مذهب المعتزلة وبعض المتكلمين.
وكذلك قولهم: إن الله ليس في جهة، وهذه كلمة تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن الذي ليس في جهة بإطلاق هو المعدوم، أما ما يوجد فلابد من أن يكون في جهة، لكن الجهة يفصل فيها في حق الله تعالى، فإن أريد بالجهة في حق الله العلو والفوقية؛ فالله تعالى هو العلي: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وإن أريد بالجهة المخلوق -أي أن الله يحويه مخلوق- فهذا ليس وارد في حق الله تعالى.
وقد سألني أحد الإخوان سؤالاً يتعلق بهذا الموضوع، فقال: إنه سمع أحد الذين كانوا يفسرون بعض آيات القرآن من أهل التأويل يقول بأن الله لا يقال: إنه فوق ولا عالٍ ولا يشار إليه لا بالفوقية ولا بالعلو؛ لأن العلو -بزعمه- ذاتي، وعلو الله معنوي.
وأقول: هذا هو مذهب المتكلمين نفاة الصفات أو مؤولة الصفات.
أما مذهب السلف -وهو مقتضى الآيات والأحاديث الصريحة الصحيحة- فهو أن الله سبحانه وتعالى في العلو، فإن سميناه جهة فهو جهة، وإذا لم نسمه جهة بالمعنى المخلوق؛ فهذا حق، فلا يسمى العلو جهة بالمعنى المخلوق، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالعلو والفوقية، وعلوه وفوقيته ذاتيان، بمعنى أن الله بذاته فوق مخلوقاته، وأن الله مباين ومنفصل عن مخلوقاته بحد، لكن الكيفيات لا نعلمها، ويشار إلى ذلك بالإشارة عند التفهيم، فإذا قيل: قال طفل أو إنسان جاهل: أين الله؟ فلا مانع أن يشار له إلى الفوق، والإشارة تعني الإشارة إلى العلو والفوقية لا الإشارة إلى الذات بمعنى إشارة الرؤية، لكن يشار إلى الذات وإلى العلو بالإشارة العامة التي لا تعني الكيفية، فلا مانع من الإشارة؛ لأن الله فوق، والفوق جهة واحدة لا تتعدد.
فالله سبحانه وتعالى لا تحكمه الجهات الست أو الأربع، فهذه الجهات محكومة بها المخلوقات، بل الأرجح -والله أعلم- أن هذه الجهات تحكم بها الأرض فقط.
أما ما فوق الأرض؛ فلن يجد الإنسان إلا العلو، ولو ارتفع إنسان عن الأرض مئات الكيلو مترات لما وجد إلا العلو، ولو طار من هذه الأرض وهي تحته فإنه بعد برهة من الوقت سيجد الأرض وكأنها الشمس والقمر فوق، فلا يجد إلا الفوق؛ لأن الأفلاك مستديرة كلها، فعلى هذا عندما يتحرر الإنسان والمخلوق من وجوده في هذه الأرض لا يبقى أمامه إلا العلو.
فالله سبحانه وتعالى بكل شيء محيط، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو العليم، ولا حرج على الإنسان في أن يقول هذا، بل يقرره كما قرره السلف، وكما هو مقتضى النصوص الشرعية.
أقول هذا لأن بعض الشباب يتلقون أحياناً عن بعض من نشئوا في بيئات مؤولة، فيسمعون منهم ما يشكك في هذه القضية، فأحببت التنبيه عليها بمناسبة الكلام عن صفات الله.
قال رحمه الله تعالى: [ألا ترى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبَيِّلة)، علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم].
لأن وجه الكمال في أي مخلوق هو قدرته على الشيء، فإن كان هذا الشيء حسناً ففعله له كمال، وإن كان هذا الشيء سيئاً فتركه له كمال.
فلذلك الإنسان قد يمدح بأنه قادر على الظلم ولكنه لم يظلم، فيمدح بذلك.
أما إذا كان لا يقدر على الظلم أصلاً فلا يمدح بذلك؛ لأنه عاجز.
فالقادر على فعل الشيء يمدح بتركه إذا كان هذا الشيء مذموماً، كما أن القادر على الشيء الممدوح إذا فعله يمدح به.
إذاً: فالنفي أحياناً قد يقتضي نقصاً، وإن أراد النافي بذلك التنزيه كما سيأتي في ذكر الصفات التي ذكرها المتكلمون نفياً عن الله(12/4)
تفصيل الإثبات وإجمال النفي قاعدة قرآنية خالفها أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل].
طريقة السلف -كما هو معروف- إثبات صفات الله تعالى كما وردت في القرآن والسنة على جهة التفصيل، بمعنى: أن عدد مفردات صفات الله تعالى وأسمائه الواردة في الكتاب والسنة كثيرة جداً، فمثلاً: ورد لأسماء الله تعالى أكثر من تسعة وتسعين، وورد في صفات الله ما هو أكثر من ذلك.
إذاً: فإثبات الصفات لله تعالى ورد على جهة التفصيل في الكتاب السنة، فالإشارة إلى العلم والقدرة والقوة والحياة والقيومية وغير ذلك جاءت تفصيلاً.
لكن النفي -أي: نفي النقائص- جاء مجملاً؛ لأن الإجمال في نفي المعايب يدخل فيه جميع المعايب.
وذكر المعايب بنفيها عن الله تعالى تفصيلاً يعتبر إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يليق في معرض نفي النقائص عن الله تعالى أن نعدد النقائص، إنما تنفى إجمالاً، وهذا هو مقتضى الأدب كما سيأتي في المثال الذي سيضربه الشارح.
إذاً: فأهل السنة والجماعة هم على ما جاء في الكتاب والسنة، يثبتون ما أثبته الله تعالى وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم لله من أسماء وصفات تفصيلاً؛ لأنها وردت مفصلة، لكنهم ينفون نفياً مجملاً، لذلك لو قارنا بين عدد مفردات الأسماء والصفات مع عدد العبارات التي ورد فيها نفي النقائص لوجدنا أن نفي النقائص قليل؛ لأنه إجمالي، كنفي السنة والنوم، ونفي اللغوب، ونفي الولد والوالد ونحو ذلك؛ لأن الكلمة الواحدة في النفي تكفي في نفي جميع النقائص، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل].
يعني بالإثبات المجمل أنهم عندما يتكلمون عن صفات الله تعالى يزعمون أنهم يتورعون عن وصف الله تعالى باليد والوجه والفوقية والعلو والنزول والاستواء، ويصفون الله بصفات مجملة للكمال والتنزيه والتقديس، وهذا حق، لكنهم تورعوا عن الحق أيضاً فوقعوا في النفي والتعطيل أو التأويل.
فلذلك لم يثبتوا ما أثبته الله، إنما كان إثباتهم في صفات الله تعالى مجملاً، وعند التفصيل ينكرون أو يؤولون، في حين أنا نجد أنهم إذا نفوا عن الله تعالى النقائص ينفون على جهة التفصيل على وجه تشمئز منه النفس، كما سيأتي.(12/5)
أمثلة للنفي التفصيلي عند أهل الكلام المذموم
قال رحمه الله تعالى: [يقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مِجَسَّة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة، ولا يبوسة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة].
يقصد بالجملة جملة المفردات، ففي جملة هذه الألفاظ حق وباطل، فهم قد ينفون عن الله تعالى النقائص، لكنهم عن طريق ذلك ينفون عن الله تعالى الصفات الثابتة له، فمثلاً: قولهم بنفي الحركة، وهذا حق في الحركة التي تشبه حركة المخلوقات، لكنهم يدخلون فيها ما يتعلق بأفعال الله تعالى وصفاته التي ثبتت، كالنزول والاستواء.
فحينما زعموا أنه لا يتحرك أدخلوا في هذا الحق والباطل، أما الحق فنفي الحركة التي تشبه حركة المخلوق، وأما الباطل فنفي ما أثبته الله تعالى لنفسه على ما يليق بجلاله، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وكذلك أدخلوا تحت كلمة (جوارح وأعضاء) حينما نفوا عن الله الجوارح والأعضاء ما ثبت عن الله تعالى في كتابه، كاليد والوجه، وزعموا أنهما أعضاء وجوارح، فمن هنا نوهما عن الله تعالى بسبب قياسهم العقلي الفاسد؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق وقاسوا الخلق على الله، وهذا قياس فاسد، فالأولى لهم أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه، لكن على ما يليق بجلاله.
فهم حينما نفوا الجوارح والأعضاء أحسنوا من ناحية، وأساءوا من ناحية أخرى، فأحسنوا حينما نفوا عن الله تعالى الجوارح التي كجوارح المخلوقين، والأعضاء التي كأعضاء المخلوقين، لكن في النهاية انتهى أمرهم إلى الإساءة حينما أدخلوا في ذلك نفي ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، فأنكروا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وأنكروا الوجه، وأنكروا غير ذلك من الصفات التي ثبتت لله.
وكذلك قولهم: (وليس بذي جهة، ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت).
فنفي الجهة اشتمل على حق وعلى باطل، فإن قُصِد بنفي الجهة نفي أن الله سبحانه وتعالى يحويه مكان، بمعنى أن الله غير موجود في مكان من مخلوقاته فهم محقون في نفيه، لكن هذا معنى تنفيه الفطر والعقول السليمة، لكنهم أيضاً زادوا وانتهى أمرهم إلى نفي الفوقية والعلو لله تعالى بذاته.
فهم هربوا من التشبيه ووقعوا في التعطيل، مع أنه بإمكانهم أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه من غير تشبيه، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وكأنهم نسوا، أو عاقبهم الله بخضوعهم للعقليات والفلسفات بأن أنساهم هذه القاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومقتضاها، ومع ذلك هو مستو على عرشه على ما يليق بجلاله، وكذلك قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] على ما يليق بجلاله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) على ما يليق بجلاله؛ لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
والنزول ليس كنزول المخلوقين، مع أنهم نفوا النزول؛ لأنهم يقولون: لا نعرف من النزول إلا الحركة وتخلية مكان وإشغال مكان آخر.
وهذه من لوازم المخلوقين، والله ليس كالمخلوقين، تعالى الله عما يظنون.
إذاً: فهم خضعوا لخيالاتهم، ووقعوا في شر مما هربوا منه.(12/6)
موقف أهل السنة تجاه الألفاظ الشرعية وألفاظ أهل الكلام فيما يوصف الله تعالى به
قال رحمه الله تعالى: [وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه فيه إساءة أدب؛ فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك؛ لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب.
والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة، والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة].
يشير بهذا إلى أن ما ذكره الله تعالى، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وأفعاله مشتمل على كل كمال وتقديس وتنزيه لله تعالى.
ولذلك فإن كل لفظ يطلق على الله تعالى لم يرد لابد من التفصيل فيه؛ لأنه لا يمكن عقلاً وشرعاً أن يتصور أن يأتي الناس بألفاظ كمال لله تعالى أعظم مما جاء في القرآن والسنة، بل يستحيل أن يأتي الناس -بأي لغة نطقوا وبأي خيال تخيلوا، وبأي عقول فكروا- بكمال أعظم مما ذكره الله عن نفسه.
بل لله تعالى من الأسماء التي ذكرها والصفات التي ذكرها ما يشمل كل كمال متخيل أو متصور، فضلاً عن أن ينطق به.
فإذا كان الأمر كذلك فعلام الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته؟ هل سيأتي الناس بصفات أعظم مما أخبر الله به عن نفسه، أو بأسماء أعظم مما أخبر به الله عن نفسه؟! يستحيل هذا.
وهل الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى أن يعظم ويقدس بأعظم مما قدس وعظم به نفسه وعظمته به رسله؟! وبناءً على هذه القاعدة وعلى هذا التصور السليم لأهل السنة والجماعة الذين وقفوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بناءً على هذا فكل لفظ يرد على ألسنة البشر أو يتوهمونه في خيالاتهم في الصفات والأسماء لابد من التفصيل فيه، فلا يمكن أن يقبل بإطلاق، ولا يرفض بإطلاق؛ لأنه قد يشتمل على بعض كمال يثبت لله تعالى بعد التفصيل، لكنه لن يخلو من النقص.
فلذلك توقف السلف في كلمات هي حق في أسماء الله وصفاته، لكنها قد توهم، توقفوا فيها لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلمة (القديم)؛ لأن كلمة (القديم) أطلقها السلف في معرض الرد وصفاً لاسم الله تعالى الأول، فقالوا في وصف اسم الله تعالى الأول: قديم بلا ابتداء، لكنهم لا يفردون كلمة (قديم) نظراً لأنها تتضمن معنيين: أحدهما يعني الكمال، والآخر يعني النقص.
أما الكمال فالقديم هو الأول الذي ليس قبله شيء.
وأما النقص فقد يكون القديم معناه: المتهالك الذي مضى عليه الزمن فأصبح بالياً، فهذه الكلمة التي يعتز بها الفلاسفة والمتكلمون هي كلمة ناقصة، لا يمكن أن ترقى إلى درجة ما تكلم الله به أو تكلم به رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته.
وعليها تقاس جميع الألفاظ التي ترد على ألسنة المتكلمين، فلذلك ينبغي على كل مسلم وكل طالب علم أن يحرص على أن يتشبع بعقيدة السلف قبل أن يقرأ كتب المتكلمين إذا قُدِّر أن يبتلى بحكم التخصص أو حاجة المسلمين، فعليه أن يتشبع بمذهب السلف في العقيدة قبل أن يقرأ أو يتعرض لقراءة كتب المتكلمين وأهل الافتراق، خاصة في الجوانب التي خالفوا فيها السلف، سواءٌ المعطلة كالجهمية والمعتزلة، والمؤولة كالأشاعرة والماتريدية فيما أولوا فيه وخالفوا فيه السلف؛ فإن عقائدهم -أي: المؤولة من الماتريدية والأشاعرة- تشتمل على نوعين: نوع يوافقون فيه السلف، ومن ذلك ما يتعلق بالصحابة وكثير من مسائل الإمامة، وبعض مسائل القدر، والكفر، والفسق، وأهل الكبائر، والشفاعة، والحوض، والميزان، والصراط، والرؤية ونحو ذلك، يوافقون السلف فيه، وهم في هذا من أهل السنة والجماعة.
لكنهم يخالفون في جوانب أخرى، مثل بعض مسائل صفات الله وأسمائه، أو بعض مسائل القدر، أو بعض السمعيات، فعلى المسلم ألا يتلقى عنهم ذلك وإن كانوا يعدون من الأئمة، فلا يتلقى عنهم ما خالفوا فيه السلف في التأويل.(12/7)
السلب والنفي منهج بارز في عقائد المتكلمين
قال رحمه الله تعالى: [والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهو أنه عالم قادر حي، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات؛ فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي)، وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى].(12/8)
توجيه النفي في قول الطحاوي: (ولا شيء يعجزه)
قال رحمه الله تعالى: [وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى: (ولا شيء يعجزه) من النفي المذموم؛ فإن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44].
فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة؛ فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير.
وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز لما بينه وبين القدرة من التضاد؛ ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً].(12/9)
شرح العقيدة الطحاوية [13]
لا يعلم كيفية الله وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وما خاض الناس فيه بغير ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة فإنما هو أوهام وتخرصات، وإثبات الصفات لله هو منهج أهل السنة والجماعة، لكنه إثبات لها بما لا يشابه صفات المخلوقين، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وصفاته جل وعلا صفات كمال لا يلابسه نقص، وكما أنه سبحانه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته فكذلك لا يشبهه شيء من مخلوقاته.(13/1)
بيان معنى كلمة التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا إله غيره): هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره.
وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر؛ فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163]، قال بعده: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]].(13/2)
ذكر ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد
قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن)، فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية؛ فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود، و (إلا الله) مرفوع بدلاً من (لا إله)، لا يكون خبراً لـ (لا)، ولا للمبتدأ.
وذكر الدليل على ذلك].(13/3)
سبب الخلاف في تقدير الخبر في كلمة التوحيد
هناك كلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أورده المحقق في الهامش، وأحب أن أشير قبل ذكره إلى السبب في الخلاف في تقدير المضمر أو في تقدير الخبر في مسألة لا إله إلا الله، أو: لا إله غيره.
فسبب الخلاف في هذه التقديرات ناشئ عن مذاهب الناس في التوحيد.
فالباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين يقدرون العبارة هكذا: لا إله موجود، وهذا تقدير ناشئ عن تصورهم أن غاية ما يمكن أن يثبت لله من التوحيد هو إثبات الوجود، وما يستلزمه من لوازم أخرى عند المتكلمين.
وطائفة أخرى -ومنهم أغلب المتكلمين، وبعض من ينتسب للسنة- قدروا التقدير الثاني، ولم يذكره هنا ولكنه أشار إليه، فقالوا بأن المقصود تقدير الخالق، أي: لا إله خالق وموجد أو رب غير الله.
وهناك تقدير ثالث أيضاً قال به بعض المتكلمين، وهو: (لا إله إلا الله) بلا تقدير، فقالوا: لا داعي للتقدير، فنفوا الإلهية عن غير الله تعالى مطلقاً، وهذا قريب من الحق، لكن لا يتم به المعنى اللغوي؛ لأنه لا يتم المعنى اللغوي إلا بتقدير.
فلذلك الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن تقدير الكلام: لا إله بحق، أو لا إله حق، أو معبود بحق، فكلها عبارات متقاربة صحيحة، لا إله معبود بحق، أو لا إله حق، أو لا إله بحق إلا الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد نفي الآلهة؛ لأنه يوجد في البشر من يعبد آلهة غير الله، وإن كانت آلهة لا تستحق العبادة، لكنها موجودة، إذاً: فنفي الوجود لآلهة غير الله ينافي الواقع؛ لأن هناك من يعبد غير الله ويزعم أنه إله.
وكذلك نفي الماهية، وهو نفي الإلهية مطلقاً دون أن تقيد لا معنى له ولا يتم به المعنى اللغوي.
وكذلك تقدير المتكلمين بأنه لا إله خالق أو رازق أو مدبر، أو لا إله يستحق الربوبية غير الله، فهذا تقدير ناقص؛ لأنه ليس المقصود نفي الربوبية؛ لأن نفي الربوبية عن غير الله مما يعترف به المشركون، يعترفون بأنه لا رب -أي: لا رزاق ولا خالق- إلا الله، إنما جاء النفي في الرد على المشركين، أي: نفي المعبودين من دون الله سبحانه، وهذا هو الذي نزل من أجله القرآن؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأول ركائز الهدى: الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، وهو الذي نازع فيه المشركون، بل نازعت فيه جميع الأمم التي خالفت الأنبياء، نازعت في طاعة غير الله وفي عبادة غير الله، وجعلت غير الله معبوداً من دون الله، وجعلت غير الله مطاعاً من دون الله، فلذلك جاء القرآن للرد عليهم، ولتقرير الإلهية بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى.
إذاً: إذا قيل: لا إله غيره.
فالمعنى: لا إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.(13/4)
تعليق ابن باز على ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد
وقبل أن نستكمل بقية الشرح يناسب أن نقرأ ما نقل هنا من تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعليقاً على هذا الكلام من شرح الطحاوية: [ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد، وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود)، ليس بصحيح؛ لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ (في الوجود) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، وقوله سبحانه: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] الآية؟! فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة (حق)؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده، كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.
ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات.
واتضح بذلك أنه المعبود الحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله): {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وقالوا أيضاً: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36].
وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب.
والله ولي التوفيق].
قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: في الوجود ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، ولا يقال: ليس قوله: (غيره)، كقوله: (إلا الله)؛ لأن (غير) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا)، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا].(13/5)
بيان أن الله عز وجل هو الأول والآخر
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء): قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ رحمه الله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء) هو معنى اسمه الأول والآخر].
يقصد بذلك أنها شرح للفظتي (الأول) و (الآخر)، لا يقصد أن المعنى يثبت به اسم، إنما هو شرح لمعنى (الأول) ولمعنى (الآخر).(13/6)
الدليل العقلي على ثبوت اتصاف الله تعالى بالأول والآخر
قال رحمه الله تعالى: [والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لابد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل].
قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل.
ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا.
قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]].
هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق.
وفي الشق الثاني يقول تعالى: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟! فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه.
إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه.
فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب.
وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب.
قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].(13/7)
بيان حصول الغنية بطريقة القرآن عن طريقة المتكلمين في إثبات انتهاء المخلوقات إلى موجدها جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية؛ وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33].
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة الطويلة؛ فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى].
الملحد الذي ينكر وجود الخالق أو ينكر أمراً من الأمور القطعية التي جاء بها الوحي قد يحتاج إلى المقدمات المنطقية والعقلية من أجل أن يقر إذا أراد الله له الهداية، أما المسلم فلا يتأتى منه أن يحتاج إلى المقدمات؛ لأنه مسلم ابتداء، والإسلام معناه الخضوع والتسليم لله سبحانه وتعالى بالتصديق أولاً، ثم بالالتزام والامتثال ثانياً، فإذا كان كذلك فلا يتأتى لمسلم أن يظن أنه يحتاج إلى مقدمات طويلة منطقية تقوي ثقته بوجود الله، أما في الأمور الأخرى فقد يحتاج المسلم إلى أن يعرف بعض العلل وبعض الحكم ليزيد إيماناً.
أما فيما يتعلق بوجود الله فالمسلم مُسلِّم بفطرته وعقله بوجود الله، ولا يحتاج إلى الأدلة المنطقية المعقدة، وإن لجأ إليها فلا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لديه مما يسميه أدلة، كل مسلم يلجأ إلى الأدلة العقلية والمنطقية المعقدة في إثبات وجود الله فإنه لا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لجأ إليه من الأدلة والبراهين، وكلما سَلَّم بفطرته وعقله سلم إيمانه ووقر في قلبه الإيمان.
أما غير المسلم أو الشاك أو المضطرب فقد يحتاج إلى الأدلة المعقدة بقدر مستوى تفكيره، وقد يهتدي وقد لا يهتدي، فإنما الهداية بيد الله؛ فإن البراهين لا تغني عمن ختم الله على قلبه.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية].
استعمال كلمة (الصانع) -كما أسلفنا في درس سابق- إنما هو مجاراة المتكلمين من باب الرد عليهم أو إلزامهم بألفاظهم وقواعدهم، وإلا فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأن كلمة (الخالق) أصدق وأقرب، فهي من ألفاظ الشرف وهي أقرب إلى الفطرة والعقل السليم، فالخالق هو المبدع الموجد، وأما الصانع فلفظ مشترك بين الخالق والمخلوق، وإن كانت في حق الخالق إذا أطلقت عليه تليق بجلاله سبحانه، لكنها من الألفاظ التي لم ترد في الشرع، بمعنى أن من أسماء الله الصانع، وإن وردت بمعنى فعل الله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من أسماء الله، فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأنها من الألفاظ الخاصة بالله سبحانه وتعالى.(13/8)
خطأ المتكلمين في إدخال: (القديم) في أسماء الله جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى: القديم، وليس هو من أسماء الله تعالى الحسنى؛ فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعمل هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الحديث قيل للأول: قديم، وقال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:57 - 56] فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى، وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعديا، كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه.
ومنه سميت القدم قدماً؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان.
وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم، ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم؛ فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى.
وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم.
والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة.
قوله: (لا يفنى ولا يبيد): إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء)].
سنترك الكلام عما ذكره المؤلف في القدر؛ لأن البحث فيه صعب ومتكرر، وسننتقل إلى قوله: (لا تبلغه الأوهام).(13/9)
تنزه الله جل جلاله عن أن تبلغه أوهام المتوهمين وأفهامهم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام): قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، قال الجوهري في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته.
فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم.
قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به.
والله تعالى لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23 - 24]].
هذه الإشارة التي أشار إليها الإمام الطحاوي رحمه الله ثم شرحها الشارح، وهي قوله: (لا تبلغه الأوهام) فيها تصريح بأن كل ما خاض فيه الناس من أسماء الله وصفاته بغير ما ورد في الكتاب والسنة والآثار الصحيحة إنما هو أوهام، وهذا هو الحق.
فكل خوض في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي سائر أمور الغيب بما لم يرد في الكتاب والسنة، ولا فيما فهمه أئمة السلف من المفاهيم القطعية لهذه النصوص؛ إنما هو أوهام، والأوهام لا تعتقد، بل هي رجم بالغيب، وهي إساءة أدب في حق الله سبحانه وتعالى، بل هي اتباع للمتشابه وإلحاد في كلام الله وأسمائه وصفاته.
فما تكلم به المتكلمة من الجهمية والمعتزلة، ثم من متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية، ومن نحا نحوهم من الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير ما قاله السلف بناءً على النصوص الشرعية، كل ذلك إنما هو خوض بالأوهام، حيث توهموا أموراً في أذهانهم فجعلوها عقيدة، ولذلك نجد أنهم يسمون أوهامهم علم التوحيد، وهذا هو السائد عند أغلب هؤلاء، تجدهم إذا عرفوا علم التوحيد قالوا: هو الكلام.
ويقصدون بالكلام أوهامهم التي توهموها وقالوها بغير حق في الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الإشارة إلى الأوهام هنا فيها تأكيد على أن ما قاله الناس في الله تعالى وأسمائه وصفاته من غير ما ورد في النصوص إنما هو توهمات، والتعويل عليه إنما هو تعويل على الوهم الذي لا أصل له، بل هو الباطل.(13/10)
تنزه الله جل جلاله عن مشابهة خلقه
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه الأنام) هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة -رحمه الله- في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه.
ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا.
انتهى.
وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم.
وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.
وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة؛ فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر؛ يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال: هو مجاز -كغالية الجهمية- يزعم أن من قال: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة؛ فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة؛ قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم.
ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتي الصفات مشبهة ومجسمة].
الرافضة -كما هو معلوم- هم أول من قال بالتشبيه والتجسيم كما قالت اليهود، فأول من أعلن التشبيه والتجسيد الكفري الذي استعاذ منه السلف وكفروا أصحابه هم طوائف من الرافضة، كـ هشام بن سالم الجواليقي وهشام بن الحكم وداود الجواربي ومن نحا نحوهم، هؤلاء كلهم رافضة، بل كان التشبيه في آخر القرن الثاني الهجري وما بعده لا يعرف إلا في الرافضة، ثم بعد ذلك - أي: في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع - تحولت الرافضة إلى جهمية معطلة وانقسمت فيما بينها، فلما تحولت إلى جهمية معطلة سمت أهل السنة بالحشوية والمشبهة؛ لأنهم أخذوا بمذهب المعتزلة والجهمية، أي: صاروا معتزلة في أصول الاعتقاد.(13/11)
رمي الجهمية لأهل السنة بالتجسيم
قال رحمه الله تعالى: [ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم: المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له: مالك بن أنس، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون إلى رجل يقال له: محمد بن إدريس.
حتى الذين يفسرون القرآن منهم -كـ عبد الجبار والزمخشري وغيرهما- يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف].
يشير بهذا إلى أن المؤولة -كمؤولة الأشاعرة ومؤولة الماتريدية والكلابية- يسمون أهل السنة والجماعة بالمشبهة والمجسمة، وقد نبتت نابتة من غلاة الأشاعرة المتأخرين ما فتئت تطلق على أهل السنة لفظ (الحشوية) بأسلوب فيه سخرية ولمز، حتى لأئمة السنة الكبار أهل الحديث المشهورين، بل منهم من تجرأ على متأخري الصحابة وقال: بأن هؤلاء رووا للناس أحاديث الحشوية، ويقصد أحاديث الصفات.
إذاً: ليس الجهمية والمعتزلة الذين يلمزون أهل السنة بذلك فقط، بل المتكلمون من الأشاعرة يقولون لأهل السنة إلى اليوم بأنهم حشوية، ويقولون بأنهم مشبهة ومجسمة، وهذا أيضاً كثر أخيراً عندما بدأت تظهر مؤلفاتهم وبدءوا يقررون مذهبهم مقابل مذهب أهل السنة والجماعة في الآونة الأخيرة.
والخلاصة أن مسألة التشبيه من الألفاظ التي أصبحت تلعب بها الفرق، فالغلاة جداً في التعطيل -كغلاة الجهمية وكالقرامطة والباطنية- يسمون كل من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات مشبهاً، حتى إن غلاة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم أثبتوا الأسماء.
ثم بعد ذلك تأتي في الدرجة الثانية المعتزلة نفسها، فالمعتزلة تثبت الأسماء وتنكر الصفات، وتخالف المعطلة، بمعنى: أنها تثبت شيئاً، فالمعتزلة يقولون لأهل السنة والجماعة وللماتريدية وللأشاعرة وللكلابية بأنهم مشبهة ومجسمة وحشوية.
وفي الدرجة الثالثة من دون المعتزلة، وهم الذين تأثروا بالمقولات الجهمية في مسألة التأويل، أخذوا جانب التأويل من الجهمية والمعتزلة، وهم المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن نحا نحوهم، فهؤلاء -نظراً لأنهم يؤولون بعض الصفات- يقولون لأهل السنة -لأنهم يثبتونها كما أثبتها الله لنفسه وكما أثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم له- بأنهم مشبهة وحشوية ومجسمة.(13/12)
مراد علماء السنة بنفي التشبيه
قال رحمه الله تعالى: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنفى المثل وأثبت الوصف.
وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات؛ تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات].
يعني بذلك أنا إذا قولنا بقول الله تعالى عن نفسه: أنه ليس كمثله شيء؛ فهذا لا يعني أننا ننفي صفاته، بل نثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وإذا أثبتنا صفات الله سبحانه وتعالى فلا يعني أنا نقول: إنها تشبه صفات المخلوقات، بل القاعدة هي التي دلت عليها الآية الكريمة: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))؛ فيقاس على هذا بقية الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.(13/13)
الاستدلال بقياس الأولى في إثبات كل كمال لله ونفي كل نقص عنه سبحانه
قال رحمه الله تعالى: [ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده].
قياس التمثيل هو إلحاق الشيء بنظائره التي هي مثله تماماً، وقياس الشمول هو إدخال الشيء الواحد في حكم عام تدخل فيه أشياء أخرى مشتركة، كالحيوانية بين البهائم والإنسان.
قال رحمه الله تعالى: [فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافؤها، ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للمكن أو للمحدث، ولا نقص فيه بوجه من الوجوه -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به].
الأولى أن يقال: فالله سبحانه وتعالى أولى به.
يعني: أنَّ كل كمال تقرر الفطر السليمة والعقول السليمة أنه كمال؛ فالله أولى به، لكن هذا يندرج تحت ألفاظ كتاب الله وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مما ينبغي أن يعلم؛ لئلا يأتينا جاهل ويقول: أنا أثبت كمالات لله تعالى لم ترد في الكتاب والسنة، فنقول له: لا.
فكل كمال تعترف العقول السليمة والفطر المستقيمة بأنه كمال مما اشتملت عليه ألفاظ القرآن وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالله تعالى؛ فالله أولى به.
قال رحمه الله تعالى: [وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر؛ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه -وهو ما تضمن سلب هذا الكمال- إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات؛ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى].(13/14)
تناقض غلاة نفاة الصفات في نفيهم ما ثبت من صفات الله ودعوتهم للتشبه بالإله على قدر الوسع
قال رحمه الله تعالى: [ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيءٍ يتخلق العبد على زعمهم؟!].
يظهر لي -والله أعلم- أن أصل العبارة: (ويروي)، يقصد أن هذه الطائفة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله)؛ لأن هؤلاء زعموا أن الإنسان قد يرتقي بالارتقاء الكمالي، ويسمون ذلك: الإنسان الكامل تبعاً للفلاسفة اليونانيين وغيرهم الذين زعموا أن الإنسان قد يرتقي إلى درجة توصله إلى الوحدة والحلول والاتحاد بالله تعالى، وهذا ما أشار إليه المؤلف، فهؤلاء جاءوا متأخرين في آخر القرن الثالث الهجري، وكانوا أيضاً لا يعرفون الحديث ولا الآثار، بل هم من أجهل الناس مع شهرتهم عند الناس، من أجهل الناس بالآثار، فكانوا يتلقفون الأحاديث الموضوعة، بل أحياناً يضعون أحاديث من عند أنفسهم كما فعل ابن عربي، فـ ابن عربي يسرد بلا سند -بزعمه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أنه عن الشيطان، ثم يقول ما شاء، وأحياناً يصل الحديث إلى ثلاثين صفحة أو أربعين، أحاديث لم نعرف مثلها في السنة، بل هناك كتب كاملة، مثل كتاب الوصايا الذي قال عنه ابن عربي الهالك -نسأل الله العافية- بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: أخرج هذا للناس.
وقد جعل فيه نوعاً من التلبيس، حيث يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة، حتى إنَّ من يقرأه من الناشئة أو الجهلة أو المثقفين والمفكرين الذين لا يفقهون العقيدة يقول: هذا بقية الصالحين.
حيث يقرر مذهب السلف أكثر مما قرره كثير منهم، ثم يتدرج بالقارئ إلى الكفر الصريح، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بأن يخرج هذا الكتاب للناس.
فهذه الفئة هي التي قالت بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهي التي نزعت إلى هذه النزعة التي تزعم بأن الإنسان بإمكانه أن يرتقي إلى صفات الإلهية ويتخلق بأخلاق الله تعالى، لا بمعنى الفضائل، لكن بمعنى الوصول إلى القداسة.
وهذا كلام الباطنية والفلاسفة المتأخرين الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، وقد نكب بهم الإسلام، وكذلك غلاة الصوفية المتأخرين، فهذا الكلام كثر بعد القرن الثالث في الصوفية وفي الفلاسفة وفي الباطنية على مختلف أشكالهم، كباطنية القرامطة والدروز والإسماعيلية وباطنية إخوان الصفا وغيرهم من فرق الباطنية التي تعددت وكثرت، فكلها فيها نزعات دعوى الارتقاء إلى درجة الكمال الإلهي، أو ارتقاء الإنسان إلى درجة التخلق بصفات الله تعالى، ليس بمعنى أن يأخذ بالصفات الفاضلة، لكن أن يكون على درجة القداسة.
وأول من صرح بمثل هذه المقولات الحلاج حتى زعم أنه هو الله! وأصر على هذا واستحوذ عليه الشيطان، وختم على قلبه حتى أصر على هذه المقولة وهو أمام السيف، وفي آخر لحظة كان يقال له: تب إلى الله، ويلقنه العلماء والقضاة التوبة، ويقول -نسأل الله العافية-: ما في الجبة إلا الله، وكان لابساً جبة.
حتى قتل بهذا وتفرق دمه على المقربين إليه؛ لأنهم جاءوا على سبيل التحدي يظنون أنه لن يأتيه الموت، فأتباعه كانوا يزعمون أنه لن يموت، فلما انقطعت رقبته وتلطخوا بدمه أصيبوا بصدمة، وبعضهم رجع، وبعضهم ارتد، وحصلت لهم أمور عجيبة.(13/15)
بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يشبهه شيء من مخلوقاته
قال رحمه الله تعالى: [وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله].
النصارى تبعتهم الباطنية والرافضة ونحوهم، واليهود أيضاً تبعتهم المشبهة، فاليهود شبهوا الله بخلقه وزعموا أن الله كالخلق، والنصارى أشركوا من جانب آخر، وهو أنهم شبهوا المخلوق بالله، فنفوا عن الله الأسماء والصفات، لكنهم شبهوا المخلوق بالله، فلذلك عبدوا عيسى على أنه روح الله، وزعموا أنه ابن الله! تعالى الله عما يزعمون.
إذاً: فاليهود تشبه الله بالمخلوقين، والنصارى تشبه المخلوقين بالله، والطوائف التي وقعت في الكفر والضلال إما تبع لليهود وإما تبع للنصارى، وبعضها يجمع بين الأمرين، كغلاة المتصوفة وغلاة الباطنية وغلاة الفلاسفة، يجمعون بين التشبيه من جانب وبين التعطيل من جانب آخر، فيعطلون الله من أسمائه وصفاته التي ثبتت في القرآن والسنة، لكنهم يشبهون الله بخلقه بصفات ابتدعوها من عند أنفسهم.
قال رحمه الله تعالى: [ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبه الأنام).
والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان.
وظاهر قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي، والله أعلم].(13/16)
كمال حياة الله جل جلاله وكمال قيوميته
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام): قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته.
وقال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) الحديث.
لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه؛ فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام؛ إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال لكمال ذاته، فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64].
فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم؛ فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القَيَّام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة.
وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك.
وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل -ولا يزال- موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً؛ ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما يرجع معانيها؛ فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته؛ فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام].
الحي القيوم من أعظم أسماء الله سبحانه، وقيل: إنهما اسم الله الأعظم، كما يشملان كل كمال يعلمه البشر أو لا يعلمونه، وهذا يستلزم بالضرورة أن أي كمال يتخيله المتخيلون أو ينطق به الناطقون أو يتصوره المتصورون لا يمكن أن يزيد عما في هذين الاسمين.
وهذا فيه إشارة إلى أن الذين خاضوا بمجرد عقولهم وأفكارهم ليزعموا أنهم أتوا بأسماء وصفات من الكمال لله تعالى بأعظم مما جاء في القرآن أو مثله؛ إنما رجموا بالغيب، وأعظم منهم إثماً من زعم أنه يمكن أن يأتي في نفي النقائص بأكثر مما نفى الله عن نفسه من النقائص؛ لأن (الحي القيوم) جاء بعدهما قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فجاء النفي بعد الإثبات، والإثبات مفصل والنفي مجمل في عموم كتاب الله تعالى.
ومن أسماء الله الجامعة التي يدخل فيها كل كمال يتوهمه المتوهمون ويتكلم به المتكلمون، أو ما استأثر الله بعلمه في علم الغيب عنده؛ اسم الجلالة (الله)، فهو متضمن كل كمال على الإطلاق، وكذلك (العلي العظيم) يتضمنان كل كمال.
وأسماء الله تعالى كلها كمال، لكن بعضها يستلزم جميع الكمال المتصور وغير المتصور، وبعضها قد يفهم له معنىً(13/17)
تفرد الله بالخلق والرزق وبيان كمال غناه جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤونة): قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14].
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر) الحديث.
رواه مسلم.(13/18)
شرح العقيدة الطحاوية [14]
إن تصور وجود الله تعالى وجوداً ذهنياً عقلياً هو تصور نشأ عند الصابئة والمجوس واليهود والنصارى، ومن المتكلمين من قال بهذا التصور عن قصد؛ وذلك ليكيدوا للإسلام ويطعنوا في ثوابته، ومنهم من قال به عن غير قصد بسبب تأثرهم بمنهج تلك الأمم نتيجة لمجادلتهم للمعاصرين لهم منهم وردهم عليهم بكلامهم وأصولهم.(14/1)
تفرد الله تعالى بالإماتة والبعث وكمال قدرته على ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة): الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار)، وهو وإن كان عرضاًَ فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة)، وورد في القرآن (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون)، الحديث.
أي: قراءة القرآن.
وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض.
وورد في سورة البقرة وآل عمران أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وفي الصحيح أن أعمال العباد تصعد إلى السماء، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى].(14/2)
أزلية صفات الله تعالى الذاتية والفعلية
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه؛ لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً).
أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.
ولا يرد على هذا صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا كما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثل)؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة -كالصغر والخرس- ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته للكتابة].(14/3)
تصور وجود الإله الذهني عند الفلاسفة وأثره على عقيدة أهل الكلام
في هذا المقطع نجد أن الشارح ركز على الرد على تصور خاطئ عند أكثر أهل الكلام، بل عند جميعهم، وهذا التصور هو الذي انبنى عليه التعطيل وانبنى عليه التأويل، وانبنى عليه الكلام في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم، بل بمجرد الأقيسة العقلية وبمجرد الأوهام، وبقياس الخالق على المخلوق، أو بمجرد التحكم وافتراض ما لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى.
أقول: منشأ هذا التصور هو أن المتكلمين قالوا في الله سبحانه وتعالى بقول الفلاسفة عن قصد وعن غير قصد.
أما ما كان عن قصد فكثير ممن دخلوا في الإسلام وكادوا له أدخلوا هذه الأفكار عن قصد، وأما ما كان عن غير قصد فإن الذي جرَّ أكثر المتكلمين إلى هذه التصورات الباطلة عن الله تعالى مجادلتهم لأهل الأهواء والأمم المعاصرة لهم في ذلك الوقت، كالسمنية والمجوس والصابئة واليهود والنصارى، وتلك الأمم كلها تنظر في تصورها إلى الله سبحانه وتعالى على أن وجوده وجود ذهني أو عقلي، أي: ليس لله ذات تقبل الاتصاف بالصفات.
فهذه فكرة الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم، وانبنت عليها كثير من التحريفات في الأديان، وانبنت عليها كثير من الفلسفات، وانبنى عليها الحوار الأساسي الذي قام بين جهم ومن جاء بعده وبين الفرق والأمم الضالة التي نشأت بين المسلمين أو كانت مجاورة للمسلمين، كالديانات الهندية.
فالذين جادلوا أولئك لم تكن إحاطتهم بالعقيدة والسنة كافية، وجرأتهم على الجدل في ذات الله وأسمائه وصفاته جعلتهم يسلمون لبعض أوهام تلك الأمم، فمن هنا تصوروا أن وجود الله -تعالى الله عما يزعمون وما يتوهمون ويظنون- وجود ذهني، ووجود كلي عام، وقد يسمونه العقل الفعال، وقد يسمونه المحيط، وقد يسمونه بأسماء أخرى، فهذا التصور أوجد عندهم هذا الخلل في جميع قضايا العقيدة وأصولها، فحينما تصوروا أن وجود الله وجود ذهني لم يتواءم هذا التصور عندهم مع الصفات التي ثبتت لله تعالى.
فإذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، بدليل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ تنافى ذلك مع تصورهم عن الله؛ لأنه كيف يستوي ووجوده عقلي ذهني؟! وكيف يستوي عندهم -كما يزعمون- وهو مجرد تصور كلي؟! فقالوا: إذاً: الاستواء له معنىً آخر، ثم سحبوا ذلك على بقية الصفات، حتى إن بعضهم لا يقر إلا بصفة الوجود لله، وبقية الصفات كلها ينكرها، ومع ذلك يخاصم حتى في هذه الصفة.
فيقال له: الوجود إذا كان في الأذهان فقط هل يكون وجوداً حقيقياً؟ إذاً: الوجود لا بد من أن يكون وجوداً فعلياً، والوجود الفعلي لا بد من أن تلزم منه صفات أخرى لهذا الموجود، فإن كان الموجود هو الخالق سبحانه وتعالى فلا بد من أن يتصف بالصفات اللازمة، ومنها: أن يكون خالقاً، وأن يكون عالماً قديراً سميعاً بصيراً، إلى آخر ذلك من اللوازم التي تلزم الوجود الكامل، وإن كان هذا الموجود هو المخلوق -وهذا ما نراه ونحسه ونشاهده- فله صفات تخصه.
المهم أنهم تصوروا هذا التصور التجريدي الذي هو في الأذهان والأوهام، وخضعوا له وقرب من أذهانهم بحسب درجاتهم، أو رضوا ببعض لوازمه، كالأشاعرة والماتريدية؛ لأنهم لا يرضون بهذا القول، فهم يعتقدون أن لله ذاتاً، لكن بعضهم يفلسف معنى ذات الله سبحانه وتعالى بما يميل إلى قول الفلاسفة، وبعضهم يفلسفه بمعنى آخر.
فهذا التصور هو الذي جعل هؤلاء يعطلون أو يؤولون؛ لأنهم تأثروا تأثراً سلبياً بالأمم التي جادلوها، وكان المفروض أن يجادلوا بالقرآن فقط، وإذا لم يكن المتكلم خاضعاً للقرآن جودل ببراهين القرآن، حتى لو لم نسمها آيات أو نسمها قرآناً، فينبغي أن يكون الجدال في الله سبحانه وتعالى ببراهين القرآن؛ لأننا لا نملك أبداً -ويستحيل أن يملك أحد من الناس- دليلاً من الأدلة على ذات الله وأسمائه وصفاته غير ما ورد في الكتاب والسنة، ولا يملك أن يضع تصوراً يلزم به الآخرين غير ما ورد في الكتاب والسنة.
إذاً: فليس هناك براهين نستطيع أن نقنع بها أو نجادل بها فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى -سواءٌ وجوده وأسماؤه وصفاته، أو عبادته وطاعته- إلا ما له أصل في القرآن، وما عدا ذلك فإنما هو خبط ورجم بالغيب، ومن شاء فليراجع أقوالهم، ولكن عافية الله أوسع له.(14/4)
الموقف من قول أهل الكلام بنفي حلول الحوادث بالرب جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال].
حلول الحوادث أيضاً هو من اللوازم الباطلة التي التزم بها المتكلمون تأثراً بمن خاصموهم من أهل الأهواء من الأمم الأخرى، ويقصد الفلاسفة بحلول الحوادث: ما يطرأ من أفعال الله تعالى مما له صلة بأسماء الله وصفاته، كقولهم: إن الله -سبحانه وتعالى- صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً؛ لأنه خلق الخلق بـ (كن) سبحانه وتعالى، فيعتبرون هذا من حلول الحوادث.
وأما المتكلمون فيعبرون عن الحوادث بمثل الاستواء وبمثل المجيء والنزول والغضب والرضا، يقولون: هذه حوادث.
وهذه كلمة مجملة، فهي حوادث بتعبيرنا، والله سبحانه وتعالى ما عبر عنها بـ (حوادث)، فهم عبروا عنها بأنها حوادث حسب تصورهم، فنظراً لأنهم يتصورون أن وجود الله سبحانه وتعالى وجود ذهني فقط؛ فإنه من الطبيعي أن من يُتصَور بهذا الشكل لا يتوقع منه أن تحدث منه تلك الأفعال.
فهذه الأفعال -كالمجيء والنزول والرضا والغضب- لا يتصور أن تحدث إلا من الكامل الذي له وجود ذاتي، وهو مستو على عرشه سبحانه، فهذا هو الذي يتصور منه المجيء والنزول، فنظراً لأنهم أنكروا الوجود الذاتي بمعناه وخصائصه اللائقة بالله سبحانه وتعالى أنكروا لوازمه من الاستواء والعلو والفوقية، ثم أنكروا لوازمه الأخرى، وبعد ذلك أنكروا الصفات الفعلية؛ لأنهم قالوا: إنها حوادث، حتى القرآن قالوا بأنه أزلي بحروفه، وأن الله لم يتكلم بالقرآن؛ لأنه إذا تكلم فهذا يعني أنه حدث منه شيء، تعالى الله عمَّا يزعمون.
ولولا أني أخشى أن يلتبس الأمر بعد طول الكلام لذكرت الأصل الثاني الذي نشأ عنه ضلال أكثر الفرق التي ضلت عن أهل السنة، خاصة الفرق التي تأخذ بالسنة في بعض الأصول، كالماتريدية والأشاعرة ومن نحا نحوهم، ولعله تأتي له مناسبة في درس قادم إن شاء الله، لكن من فهم هذه الأصول التي هي منشأ الانحراف عند المؤولة فإنه بذلك تطرد عنده القاعدة، ويستطيع أن يفسر كل خلاف خالف فيه بعض المؤولة أهل السنة، فيفسره بهذا التفسير ويكون مرتاح الضمير مطمئناً بعقيدته عقيدة السلف، وكلنا -إن شاء الله- مطمئنون، لكن يطمئن بالبرهان، لأنه إذا عرف منشأ الخطأ وأصله فسر كثيراً مما يحدث، فلا يبقى الإشكال الوارد في الذهن، وهو: كيف يقول إمام كـ الأشعري رحمه الله، أو كـ الباقلاني رحمه الله، أو كـ الجويني أو الغزالي رحمهما الله في هذه المسألة بغير الحق وهو عالم يدرك ويعرف؟! أقول: لو عرفنا منشأ الانحراف من أصله لاستطاع كثير من طلاب العلم بناءً على هذا أن يفسروا هذه الأمور بتفسيرات واضحة.
فهم يقصدون بمسألة حلول الحوادث الأفعال التي تطرأ، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن بعد أن لم يكن تكلم به، والله سبحانه وتعالى -كما ورد في النصوص الصريحة أيضاً- يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فهذا أمر سيحدث فيما بعد، وهم يقولون: لا، هذا كله ليس كلاماً، إنما هو صفة أزلية في ذات الله تعالى، والله يصنع من خلقه ما يعبر عنه بأنه كلام.
فيقولون مثلاً: الله كلم موسى، لكنه كلمه بحروف وأصوات صنعها في مخلوقاته، ولازم قولهم أن كلامه من مخلوقاته وإن لم يلتزموا به، فلذلك قالت المعتزلة بخلق القرآن؛ لأنهم زعموا أنهم لو قالوا بأن الله تكلم بالقرآن لصار حادثاً في الله، تعالى الله عما يزعمون.
وهذا كله فلسفة عقلية، وكله خوض ورجم بالغيب، فالمسلم عليه أن يسلم بما جاء عن الله تعالى، فإن فهم فهذا طيب، وإذا لم يفهم لم يطالب بالفهم الذي يعني ضرورة التخلص مما يظهر من الإشكالات، فهذا ليس بضروري، لأن المسلم عليه أن يثق بأن كلام الله حق على حقيقته، وأن ما جاء من أسماء الله وصفاته وأفعاله حق على حقيقته، لكننا لا نفهم الكيفية؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وما دام الله ليس كمثله شيء فلا سبيل إلى فهم الكيفيات، بل لا سبيل إلى الكلام في هذه الأمور بغير علم أصلاً.
إذاً: فكل ما يرد من هذه العبارات -مثل حلول الحوادث أو مثل المباينة والمفاصلة والجهة ونحوها- خبط ورجم بالغيب، وإذا كانت في حق الله تعالى فهي بدعة شنيعة لا يجوز الكلام بها، لكن قد يضطر طالب العلم المتمكن والمتخصص إلى أن يتكلم بها حينما يظهر الإشكال ويوجد في الكتب ويتكلم به المتكلمون ويظهر على ألسنة الناس، فيتكلم لإيضاح الحق وتقريره، لا للانجرار والاستجابة لفلسفة المتفلسفين.(14/5)
صحة حمل نفي حلول الحوادث على نفي حلول مخلوق أو حدوث وصف لذات الله المقدسة
قال رحمه الله تعالى: [فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن؛ فهذا نفي صحيح].
أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية والصفات الاختيارية -كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض، والنزول، والمجيء إلى آخره- لا يقولون بأن الله يحدث في ذاته شيء، تعالى الله عما يظنه الظانون وعما يلزم به الملزمون أهل السنة في ذلك، فأهل السنة برآء من أن يقولوا هذا القول، أي أن الله تحدث في ذاته أشياء، بل أهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو العلي العظيم، والله تعالى هو الحي القيوم، والله تعالى هو الذي لا تدركه الأبصار، وهو بكل شيء محيط، فكيف يتأتى لبشر يعرف الحق ويعرف السنة أن يتكلم في هذه الأمور ويزعم أنه يقول فيها قولاً فاصلاً بنفي أو إثبات؟! لكن ننفي اللوازم الباطلة.(14/6)
بطلان اعتماد نفي حلول الحوادث لنفي الصفات الاختيارية
قال رحمه الله تعالى: [وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته؛ فهذا نفي باطل.
وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله].
المراد السني الجاهل؛ لأن عامة أهل السنة والجماعة الذين هم على الحق والاستقامة لا يخوضون في هذه الأمور، فهم على الفطرة، والله سبحانه وتعالى سلم أفكارهم وعقولهم من الخوض في هذه الأمور، فلذلك قد يستغفل السني وإن كان مثقفاً وإن كان مفكراً وإن كان عالماً إذا لم يكن له إلمام بمثل هذه المسائل، قد يستدرجه المتكلمون بمثل هذه الأمور، فيأتي المتكلم للسني فيقول: الكلام حادث، فيسلم بأنه حادث، ثم يقول: الله سبحانه وتعالى منزه عن الحوادث.
فيقول: نعم، الله منزه عن الحوادث، فيقول: إذاً: الله ليس بمتكلم.
فقد يجر السني إلى هذه الأمور دون أن يشعر، كما قالت المعتزلة وغيرهم في مسألة الرؤية، حيث قالوا: لا ترى الشيء إلا وهو أمامك، فقال لهم بعض الجهلة: نعم.
فقالوا: ولا ترى الشيء إلا وله صورة ولون وشكل، فينطبع في ذهنك عنه صورة ولون وشكل.
فقال لهم بعض الجهلة: نعم.
فقالوا: إذاً: فإذا قلنا: إن الله تعالى يرى فهذا يعني أن له لوناً وصورة وشكلاً، فهو -إذاً- لا يرى.
فرتبوا مقدمات فاسدة وبنوا عليها؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، صحيح أنهم فروا من التشبيه، ولكنهم فروا منه حينما تصوروه، فتصوروه أولاً ثم أرادوا أن يفروا منه، فهم كالإنسان الذي وقع في الشراك ثم أراد أن يخرج، مع أن الأصل أن الله ليس كمثله شيء.
فإذا قال لك قائل: لا نرى الشيء إلا وهو أمامنا فتنطبع في أذهاننا منه صورة، فقل له: هذا في حق المخلوقات، أما الله سبحانه وتعالى فلا؛ إذ ليس هو كالخلق.
وإذا قال: لا يستوي الشيء على الشيء إلا وهو معتمد عليه، فقل له: هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا، فالله مستو على عرشه على ما يليق بجلاله من غير حاجة إلى العرش، لأنه قد يقول لك قائل من الأشاعرة وغيرهم الذين يؤولون الاستواء: إذا استوى المخلوق على شيء فهو معتمد عليه محتاج إليه، فهل تسلم له على الإطلاق؟! والجواب أنه بالنسبة للمخلوق قد يرد هذا، لكن الخالق سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء تعالى الله عما يتوهمون.
إذاً: هم فروا من التشبيه حينما تصوروه، وأهل السنة والجماعة لم يتصوروا التشبيه أصلاً، بل أخذوا بالقاعدة كما ورد في الآية، إذ فيها أولاً: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثانياً: أنه هو السميع البصير.
فهذه قاعدة الاعتقاد؛ لأن اعتقاد الكمال لله سبحانه وتعالى مفطورة عليه الخلائق، فلا يمكن أن يتصور أن عاقلاً من العقلاء يظن أن الله سبحانه الخالق لهذه المخلوقات مثلها؛ لأنه لا بد من أن يكون سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكمل؛ لأننا نرى في المخلوقات كل معاني النقص، فإذا كان كذلك فإن تقرير النفي -أي: نفي المشابهة- لا بد من أن يكون أصلاً متأصلاً في ذهن كل شخص.(14/7)
خطر استقرار التصور الذهني لصفات الله تعالى
وبهذه المناسبة أحب أن أنبه على أمر سبق أن تكلمت عنه في أول الدروس، ومن المناسب أن أكرره؛ لأنه قد يختلط على كثير من ضعاف العلم، أو الذين ليس لهم إلمام بالعقيدة أو ليسوا متخصصين، فيحدث عندهم شيء من الإشكال، وهو التصور في الأذهان الذي لا ينبني عليه اعتقاد، فهذا أمر لا ينفك منه عاقل، فأنت إذا سمعت بكلمة (نزول) (مجيء) (استواء)؛ فإنك لا تفهم الكلمة حتى ينطبع في ذهنك تصور، فإن استقر هذا التصور وجعلته صفة لله صار هذا تشبيهاً، نسأل الله العافية.
فلذلك يجب ألا يستقر التصور، بل يجب أن تعتقد أن هذه الصفة التي تصورتها لله ما هو أعظم منها، وأن الله منزه عن التصورات والأوهام، وأن الله ليس كمثله شيء، وأن الله أعظم وأجل من أن تستقر صفاته بأذهان المخلوقين؛ لأنه لو استقرت عرفنا الكيفيات، ولا سبيل إلى معرفة كيفيات صفات الله وأفعاله، فلذلك أقول: يجب أن نفصل ما نتصوره في الأذهان عن الاعتقاد، فما نتصوره في الأذهان إنما يقرب إلى الحقائق فقط في بعض أمور الغيب، فعندما يقال لك: (جبريل) تتصور شيئاً ما عليه جبريل، أليس كذلك؟! فهذا التصور أعطاك انطباعاً بأن هذا الملك له وجود، لكن هل وجوده هو ما في ذهنك؟!
و
الجواب
لا.
وكذلك في المشاهدات، فلو أن إنساناً -مثلاً- قيل له: هناك مدينة اسمها: نيويورك أو موسكو أو نحو ذلك من المدن الشهيرة، فلابد من أن ينطبع في ذهنه عمارات وشوارع وأعلام وأشخاص ومؤسسات وأشكال، فهل هي الحقيقة؟ فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله أعظم وأجل من أن تنطبع في أذهان الناس عنه صفة.
قلت هذا لأن الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته ونفوا وخبطوا وخلطوا وأحرجوا المسلمين وأوقعوا الأمة في الإشكال؛ إنما وقعوا في ذلك لأنهم استجابوا لأوهامهم وتصوراتهم التي في أذهانهم، والتصورات التي في الأذهان إنما هي أوهام وليست هي الحقيقة في أمور الغيب، فالحقيقة أمر آخر لا يمكن أن يطلع عليه إنسان، ولو اطلع عليه أحد ما صار غيباً.
فالتسليم بأن الله ليس كمثله شيء سبحانه، وأن الله تعالى له الكمال المطلق، وأن الله متصف بهذه الصفة على ما يليق بجلاله به تسلم العقيدة، وإلا فلا يمكن لأحد أن ينفك من التصور، والذين خاضوا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته هم أشنع تصوراً من الذين لم يخوضوا.
إذاً: فالعبرة بما ينتهي إليه الاعتقاد لا بمجرد التصور، فأنت إذا تصورت شيئاً في أمر الغيب وجب عليك أن تعتقد أن حقيقة الغيب غيره، بمعنى: أن ما تصورته من أمور الغيب وهم في ذهنك، لكن هذا الأمر الذي ورد في النص هو حقيقة، والحقيقة تعني أنه حق موجود، لكن هذه الحقيقة نجهل كيفيتها وصورتها، وهذا هو الفارق، أما الحقيقة فلابد من اعتقادها دفعاً لقول الذين يقولون بأن هذه الألفاظ ألفاظ ليس وراءها معانٍ؛ لأنه لا يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بألفاظ ليس لها معانٍ، فذلك لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
إذاً: فلابد من الاعتقاد، لكن تعتقد الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، وأن الله ليس كمثله شيء، وما ينطبع في ذهنك من صورة إنما هو للفظ فقط لا لحقيقة اللفظ، بمعنى: أن اللفظ فقط هو الذي تستطيع أن تقربه إلى ذهنك، وإلا فالحقيقة غيره قطعاً؛ لذلك جاءت الآية بالمبالغة في نفي المشابه لله تعالى؛ لأن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، مبالغة في البعد عما يمكن أن يتوهم الإنسان ويتصوره في ذهنه.
فتصورات الخواطر قد تتعلق بالغيب، وكذلك في أمور الحلال والحرام، كما ورد في الحديث أن الإنسان قد يهم بالشيء ولا يؤاخذ عليه إلا إذا فعله أو تكلم به، فالإنسان إذا تخيل معصية من المعاصي ومالت إليها نفسه، فإن فعلها أو سعى إلى فعلها أثم، وإن تركها ولم يسع إلى فعلها فهو مأجور على طرد هذا الطارئ على ذهنه، وكذلك بالنسبة لما يتعلق بتصورات الغيب، فالإنسان لا ينفك عن أن يضع تصوراً للغيب، بل أحياناً يرد السؤال عن بعض الخصائص المتعلقة بذات الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث الصحيح.
فالإنسان عليه ألا يتمادى في هذه الأوهام، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليعلم ابتداء وانتهاء أن ما في ذهنه من أمور الغيب إنما هو أوهام ومجرد تصور للألفاظ، والحقيقة لا يعلم كيف هي في أمور الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.(14/8)
الموقف من الألفاظ المجملة في وصف الله
قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه].
وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال: فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو؛ إذ كان لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال.
ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الوجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً يتصور هذا وحده وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج، وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.
والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات؛ لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (لا زال بصفاته)، ولم يقل: لا زال وصفاته؛ لأن العطف يؤذن بالمغايرة، وكذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية: لا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره، هو إله واحد سبحانه وتعالى، فإن قلت: (أعوذ بالله) فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه، وإذا قلت: (أعوذ بعزة الله) فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو)، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله.
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات).
وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده ونحو ذلك؛ فهذا المراد به المسمى نفسه، وإن قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله ونحو ذلك؛ فالاسم هاهنا لمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد به أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم؛ فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى].
قوله: [فالاسم هاهنا لمسمى؛ ولا يقال: غيره] هذه عبارة صحيحة، لكن العبارة الموجودة في طبعة أخرى أسلم، والسياق يؤيد هذه العبارة، وهي قوله: [فالاسم هاهنا للمسمى]، وهو قول السلف، يقولون: لله الأسماء الحسنى، فالاسم للمسمى، الاسم الذي أطلقه الله على نفسه هو اسم لله، يقال: اسم لله، فالأفضل ألا يقال: هو غيره، ولا: هو هو، وإن كان قول: (هو هو) يطلق على ذات الله تعالى، لكنه ملبس؛ لأنه يشتبه بقول القائلين بأنه لا فرق بين أسماء الله وذاته وصفاته، وإنما هي ألفاظ لا معنى لها تدل على مسمى واحد وهو الوجود المجرد في الأذهان، تعالى الله عما يزعمون.(14/9)
شرح العقيدة الطحاوية [15]
ربنا تبارك وتعالى متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، وصفات كماله تبارك وتعالى أزلية، سواء الذاتي منها أو الفعلي، فكما أن صفاته الذاتية أزلية، فكذلك صفاته الفعلية، ولا يجوز وصف الله تعالى بقدرته على الفعل بعد أن لم يكن ممكناً له، فهو خالق قبل وجود المخلوق، ورب قبل حدوث المربوب، قادر على كل شيء، فعال لما يريد جل جلاله وعز ثناؤه وتقدست صفاته وأسماؤه.(15/1)
أزلية صفات الله تعالى وضلال من قال بقدرة الله على الفعل بعد امتناعها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي! وعَلَى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه].
كل هذه لوازم التزمها هؤلاء؛ بسبب خضوعهم للجهمية والفلاسفة، فحينما ذهبوا لبعض مقولات الفلاسفة والجهمية وقعوا في هذه البلية، وإلا فلو أخذوا بما أخذ به السلف من الوقوف في أمور الغيب على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخوض في هذه الأمور بغير علم؛ لما وقعوا في هذه اللوازم.
أقول: منشأ هذا الكلام الذي قالوه -وهو قولهم بأن الله تعالى تكلم بعد أن لم يكن متكلماً وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً، وأن الفعل صار ممكناً بعد أن كان ممتنعاً- كل ذلك منشؤه مسألة واحدة، وهي أن هؤلاء المتكلمين صدقوا أسلافهم في أن تجدد القدرة لله تعالى يعتبر من الحوادث، والله منزه عن الحوادث، وهذا كله وهم في أصله وفي فرعه، فالمعتزلة ومن قبلهم من الفلاسفة قالوا بأن تجدد القدرة يدل على وقوع الحوادث في الله تعالى أو به تعالى، وهو منزه عن الحوادث، فإذا كان منزهاً عن الحوادث فكل شيء من أفعال الله تعالى يعتبر مستأنفاً، فهو حادث، وعلى هذا ينفى عن الله.
فلذلك أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن فقالوا -بالمعنى الذي فهموه هم ووقع في أذهانهم تشبيهاً-: إن الكلام يعني حدوث أشياء في الله تعالى لم تكن، وهي الكلام والحروف والأصوات.
وهذه كلها لوازم لا تلزم أولاً، وإخضاع ذلك إلى قاعدة عقلية إنما هو وهم، والله سبحانه وتعالى منزه عما توهموه، فالله تعالى ليس كمثله شيء، فكل هذه الأوهام لا اعتبار لها.
وسيأتي الكلام عن هذا التفصيل في مسألة الحوادث ووقوعها في الله تعالى أو به أو منه إلى آخره، وهذه الأمور إن أمكن طالب العلم أن يكف عنها فهو الأولى، لكن إذا اضطر للرد على مثل هؤلاء فلابد من أن يلتزم الحق ويحترز كثيراً، يجب الاحتراز عندما نتكلم في مثل هذه الأمور، ولا نتكلم في الله تعالى ابتداء، إنما نتكلم فيما يقع بعباراتهم لردها لا لتقريرها.(15/2)
تعليق على نسبة ابن كلاب إلى متكلمي أهل السنة
وللمحقق تعليق على ابن كلاب، حيث قال: [هو رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وقد عده الشهرستاني والأشعري وابن طاهر البغدادي من متكلمي أهل السنة].
وهذه مسألة فيها تلبيس، فالأشاعرة يعدون أصحابهم من متكلمي أهل السنة، بل يعدون الماتريدية والكلابية والأشاعرة كلهم من متكلمي أهل السنة، والحق أن أهل السنة ليس فيهم متكلم، وهذا يجب أن يفهم، ومن تكلم ممن ينسب إلى أهل السنة والجماعة فأخذ بأصول الكلامي جزئية أو عامة؛ فإنه فيما أخذ به ليس من أهل السنة، فمنهجه فيما أخذ به ليس محسوباً على أهل السنة.
فهذه الكلمة في رأيي أنها شنيعة في حق السلف، فلا يجوز قولنا مثلاً: فلان من متصوفة أهل السنة، أو: فلان من متكلمي أهل السنة، أو: فلان من فلاسفة أهل السنة، فهذا كله خلط لا يجوز، وإن كان قد يرد على ألسنة بعض أهل العلم، لكنه يفسر بتفسير آخر غير المفهوم الذي يقوله هؤلاء الذين يبجلون متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية ونحوه.
إذاً: فلا يصح أن يقال: إن ابن كلاب من متكلمي أهل السنة، وإن كان في أمور من أصول الدين وافق أهل السنة والجماعة ولاشك، وله من المقولات المحمودة شيء كثير، لكنَّه مع ذلك خالف أهل السنة في جوانب، ومنها علم الكلام، فنسبته ونسبة كلامه لأهل السنة فيه خطر، فيجب التنبه.
وهناك تعليق آخر يقول عن ابن كلاب: هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، كان إمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها.
ولا أدري هل المعلق تبع غيره أم أنه يعتقد هذا؟! ونحن نقول: هو إمام المتكلمين، وليس بإمام أهل السنة لا في وقته ولا بعد وقته، وأهل السنة قدحوا في جانب التكلم فيه وبدعوه في هذا وخطئوه واعتبروا كلامه من كلام الفرق، وعُدَّ من المفارقين للسنة في المقولات التي انفرد بها، وهي المقولات الكلامية، كقوله في كلام الله، وهو من أشهر مقولاته، وسيأتي.(15/3)
بيان ضلال القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة
قال رحمه الله تعالى: [وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته، وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك؛ لأن القدرة على الممتنع ممتنعة!].
كل هذه الفلسفة لا طائل وراءها، وهي لوازم لا تلزم عقلاً وكلها أوهام وما رتب عليها أوهام، والأوهام خطر في أمور الغيب، بل هي خطأ وانحراف، وقبل أن يبدأ بالرد أحب أن أشير إلى ضعف عقول هؤلاء وإن كان منهم من يشار إليهم بالبنان، خاصة فيما خالفوا فيه السلف.
فأقول: إن منشأ هذه الضلالة -كما أسلفت- أنهم عولوا على عقولهم في أمر الغيب، والعقول مخلوقة وقاصرة وضعيفة، فما عرفت نفسها وما عرفت كيف هي وكيف تعمل، فكيف تعرف ما يتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته؟! وما أشبه هؤلاء بالأطفال الصغار، وإن كان الأطفال الصغار أطهر منهم فطرة، لكن الأطفال الصغار أحياناً يتكلمون بخيال ويصدقون خيالهم، فالطفل إذا تحدى أحداً من الناس فربما قال: سآخذ هذا البيت وأضربك به، أو: سأحمل هذا الجبل وأرميه عليك، بل بعض الأطفال قد يقول: سأنزل عليك السماء، وبعد أن يكبر ويرشد يعلم أن هذه أوهام، أليس كذلك؟! فالمتكلمون على صنفين: منهم من يستمر في أوهامه، فيقول: هذا ممتنع في حق الله، والله يقدر أو لا يقدر، وهذا لا يتعلق بالمشيئة إلى آخره، فيتكلم بكلام هو رجم بالغيب، وكل ذلك لا أصل له في الكتاب والسنة، وما لا أصل له في الكتاب والسنة فهو رجم بالغيب، وإذا كان رجماً بالغيب فليس بحق.
فبعضهم يستمر -نسأل الله العافية- على اعتقاداته حتى يموت على ذلك.
وبعضهم يرشد كما يرشد الطفل، وهذا ثبت عن كثير منهم، بل ثبت عن مثل الغزالي وعن مثل الرازي ونحوهما ممن دخلوا في علم الكلام وكان عندهم شيء من التقوى والصلاح وقصد الخير، لكنهم فتنوا بالكلام في أول أعمارهم، فهؤلاء ثبت أنهم وصلوا إلى حد الاعتراف بأنهم ما استفادوا من الكلام إلا ضياع الوقت والجهد وضياع الدين، حتى قال الجويني: ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وحتى إن الرازي أيضاً تكلم عن علم الكلام بكلام رائع يكتب بماء الذهب، وحتى إن الغزالي انصرف وصرف نفسه وتناسى ما كتبه وما قاله وأكب على كتب السنة يريد أن يصرف ذهنه عما وقع فيه من الكلاميات وغيرها، وغيرهم كثير يعدون بالمئات من الذين رجعوا.
فإذاً كان هؤلاء من أصحاب علم الكلام قد رجعوا عنه وتابوا إلى الله وحذَّروا كل التحذير، كما ثبت عن الجويني وعن الرازي، وحذروا تحذير المشفق على الأمة من الوقوع في علم الكلام دقيقه وجليله؛ فكيف تبقى طائفة من الأمة تتبع هذا النهج وتدين به؟! فنسأل الله العافية.(15/4)
الرد على القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة
ٍقال رحمه الله تعالى: [وهذا فاسد؛ فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.
قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك؛ لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث].
هذا الكلام متناقض لا يدخل العقل، فسليم العقل لا يستطيع أن يجمع بين هذا القول وبين قول الجهمية من جانب آخر بامتناع حوادث لا بداية لها ولا نهاية، وهذه المقولة هي التي أوقعت الجهمية في إنكار كثير من أصول الدين، فإنكارهم لأسماء الله وصفاته مبني على هذا، وإنكارهم للرؤية مبني على هذا، بل قولهم بفناء الجنة والنار، وإنكارهم للحسيات أو للسمعيات الثابتة مثل الصراط والميزان ونعيم الجنة المادي -لأنهم يقولون: النعيم نعيم روحي- كل ذلك مبني على هذه المقولة في مسألة الحوادث.
والذين تأثروا بهم وقعوا في بعض ما وقعوا فيه، فالمعتزلة وقعوا في إنكار صفات الله وإنكار بعض السمعيات؛ لأنهم قالوا ببعض مقولات الجهمية، ثم جاء بعدهم المتكلمون وأولوا الصفات وأولوا بعض السمعيات، وقالوا بعض المقولات التي قال بها الجهمية والمعتزلة؛ نظراً لأنهم أخذوا بعض قاعدة الفلسفة حول الحوادث التي سيأتي الكلام عنها بشكل أكثر تفصيلاً.
قال رحمه الله تعالى: [فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الأحداث أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.
وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين؛ فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه؛ فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].(15/5)
ذكر الأقوال في دوام الحوادث في الماضي والمستقبل
قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم، أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل.
كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف].
هؤلاء المعطلة الذين يعطلون الله عن الأسماء والصفات والأفعال، وبناء على قولهم هذا بنفي دوام الحوادث في المستقبل والماضي نفوا أفعال الله تعالى والأسماء التي هي أسماء له سبحانه وتعالى وأثبتها لنفسه، وكذلك صفاته؛ ولهم في ذلك مأخذان: الأول: يقولون بأنها تشبه صفات المخلوقين ولو لفظاً، وأي اشتباه ولو كان لفظياً بالله تعالى فيلزم تنزيه الله منه لوجود الاشتباه.
والمأخذ الثاني أنهم ظنوا أن الأسماء والصفات والأفعال تشعر بحدوث شيء من الله سبحانه وتعالى، وهم ينفون أن يكون حدث من الله شيء.
وهنا فيه لبس؛ فصفات الله نوعان: صفات ذاتية أزلية، فهذه لازمة له سبحانه وتعالى ولا يتجدد بها شيء؛ كالحي القيوم وغيرهما؛ لأنها من الصفات الذاتية اللازمة.
وصفات تتعلق بأفعاله، مثل: صفة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى الأبد، وصفته سبحانه وتعالى لازمة له من حيث هي نوع من أنواع الصفات، فالله متكلم منذ الأزل، والله سبحانه وتعالى لا يزال متكلماً متى شاء كما شاء، ويتكلم في المستقبل كما يشاء سبحانه.
فالله سبحانه وتعالى تكلم بكلمة (كن)، ويتكلم بها متى شاء، والله سبحانه وتعالى كلم موسى، وهذا كلام متجدد، لكنه لازم من لوازم صفة الله اللازمة الثابتة، وتكلم الله سبحانه وتعالى بالقرآن، وفي المستقبل يتكلم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويكلم عباده المؤمنين ويكلمونه، بل يكلم جميع الخلائق كما ورد في النصوص، فهذا كله ليس من عقول الناس، إنما هو قول السلف من النصوص، فالله سبحانه وتعالى ثبت أنه يكلم عباده بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، والله على كل شيء قدير.
إذاً: فمنشأ المسألة اعتقاد قول الفلاسفة بأن الخالق سبحانه صفاته لابد من أن تكون لازمة له ولا يتجدد في أفرادها شيء؛ لأن الحوادث ينزه الله عنها؛ وهذا كلام مجمل، فقد يكون قصدهم بالحوادث الباطل، وقد يكون قصدهم بالحوادث الحق، فصفات الله الفعلية -مثل صفة النزول- من المعلوم أنها حوادث، وأن معناها المتبادر إلى الأذهان منفي عن الله.
لكن الجهمية والمعتزلة عطلوا بعضها وأولوا بعضها، والأشاعرة ورثوا ذلك عن الجهمية والمعتزلة، فقالوا: ما يدل على وقوع الحوادث -كالاستواء والنزول- لابد أن يؤول.
فالاستواء عندهم: هو الملك، والنزول: هو نزول رحمة الله، في حين أنه صرح الصحابة والتابعون وسلف الأمة بأن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة كما يليق بجلاله، وأنه تعالى يعجب ويضحك كما يليق بجلاله، فهذه الصفات تكلم فيها المتكلمون وزعموا أنها حوادث، وهذا كله من عبث الشيطان، وإلا فأصل مبدأ الإيمان بالصفات مبني على الغيب، وإذا كان مبنياً على الغيب فلم ينفون صفات الله تعالى وهو رجم بالغيب؟! قال رحمه الله تعالى: [وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم، والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.
ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15 - 16]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]].
يريد بهذا أن يثبت أن صفة الكلام لله تعالى أفرادها باقية، والله سبحا(15/6)
شرح العقيدة الطحاوية [16]
إرادة الله عز وجل لا حدود لها، فالله يفعل ما يريد، وكل ما تكلم به المتكلمون من القدرية وغيرهم في مسألة فعل الله تعالى وقدرته إنما هو أوهام في أذهانهم لا تتعدى أن تكون وساوس، أما إرادة الله المتعلقة بفعل العبد فكان خطأ القدر فيها أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين إرادة الله الكونية وإرادته الشرعية، فاعتبرت الجبرية أن إرادة الله كلها كونية وليس فيها إرادة شرعية، بينما اعتبرت القدرية أن إرادة الله كلها شرعية وليس فيها إرادة كونية.(16/1)
أزلية أفعال الله وحدوث المخلوقات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري: ظاهر كلام الشيخ رحمه الله تعالى: أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان)، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولاشك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار؛ لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها من القائلين بحوادث لا آخر لها؛ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما؛ فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد كما وصف بذلك نفسه حيث يقول: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15 - 16]].
ملخص هذا الكلام أنه يجب أن نفرق في التسلسل بين أمرين: بين التسلسل في أفعال الله تعالى وبين التسلسل في الأسباب والمؤثرات، فالتسلسل في أفعال الله تعالى واقع، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أفعاله لا تنتهي، كما أنها في الأزل، ولا يمكن أن نقول: إنها حدثت استئنافاً، خاصة فيما يتعلق بقدرة الله على الأفعال، فالله سبحانه وتعالى خالق قبل أن يوجد الخلق، وحينما وجدت المخلوقات علم أن قدرة الله على الخلق متجددة، وهذا في الأزل وإلى الأبد؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وأوليته أولية مطلقة في أفعاله وأسمائه وصفاته.
وكذلك التسلسل في أفعال الله الأخرى غير مسألة الخلق، كمثل مسألة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متكلم على ما يليق بجلاله، حتى قبل أن يحدث الكلام منه سبحانه فيما يخص الخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمنا بأنه تكلم فيما يتعلق بمصالح العباد، كتكلمه بالقرآن، وندائه لخلقه يوم القيامة ونحو ذلك، فهذا ما نعلمه، وما لا نعلمه لا ينتهي، فالله قدرته مطلقة، وهو متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى ما لا نهاية، وهذا يعني: أن الله يتكلم متى شاء، فهذا معنى التسلسل في أفعال الله تعالى، فأفعال الله تعالى ليس لها بداية وليس لها نهاية، وهذا يعني الكمال المطلق.
لكن الممنوع هو التسلسل في المؤثرات، أي: في المخلوقات، في تأثر المخلوقات، أو تأثير بعض المخلوقات في بعض، فالمخلوقات قد يكون بعضها علة لآخر، فالإنسان مخلوق من طين ثم يعود إلى طين ثم يبعث يوم القيامة، وهكذا تتسلسل أحواله، فهذا التسلسل في المخلوقات لابد من أن ينتهي، بمعنى: أن علة الشيء لا تبقى علة إلى الأبد.
إذاً: فالتسلسل في الأسباب والمؤثرات ممتنع، أما التسلسل في أفعال الله تعالى فلا نهاية له، وهذا أمر لا يمكن أن يدرك على وجه التفصيل والإحاطة، فأفعال الله لا يمكن أن تدرك على وجه التفصيل والإحاطة، وكل ما تكلم به المتكلمون في أفعال الله تعالى إنما هو رجم بالغيب وتوهم لا حقيقة له، فالله أعظم وأجل من أن تحيط عقول البشر بما يتعلق بذاته وأفعاله سبحانه.
فالتسلسل في المخلوقات وربط بعضها ببعض أو انبثاق بعضها عن بعض أمر لابد من أن يكون له نهاية، وإلا وقعنا في الدور؛ لأن كل سبب له سبب إلى ما لا نهاية، وهذا لا يمكن، من أجل أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الفعال لما يريد.
أما أفعال الله تعالى فلا يجوز أن نتصور أن لها نهاية ولا بداية بمفهومنا المحدود بالبداية الزمنية، والأولى ألا نخوض بمثل ما خاض به الخائضون، لكن دفعاً لشبهاتهم التي لا تندفع إلا بمثل هذا الكلام الضروري كان لابد من الكلام، والسلف اضطروا للكلام في هذه المسائل لمقاومة تيار المتكلمين الذي ساد في الأمة، حتى إنا نجد الآن ومنذ زمن بعد القرون الثلاثة الماضية أن أغلب من ينسبون إلى العلم مبتلون بعلم الكلام، فإذا كان كذلك فلابد من البيان.
فالقول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي معناه: أنه يمتنع أن تكون المخلوقات بعضها سبباً لبعض إلى ما لا نهاية له في الماضي، فلابد من أن تكون المخلوقات قد بدأت بخلق الله تعالى بكلمة (كن) أو بما قدره الله سبحانه وتعالى في خلقه وفعله.
وأما في المستقبل فالله أخبرنا بأن هناك أبدية لا تنتهي، وهي أبدية الجنة والنار، فهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا بأن هناك من مخلوقاته ما لا ينتهي، فيبقى احتمال التسلسل في المفعولات في المستقبل وارداً بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي بعض أهل العلم، ومع ذلك فإن أمر المستقبل اللامتناهي أمر لا يمكن أن تحيط به العقول.
لكن نظراً لأن جهماً زعم أنه لا يمكن أن تتسلسل الحوادث مستقبلاً، ومن هنا قرر بزعمه أن الجنة والنار تنتهيان وتبيدان؛ تكلم بعض أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: إن التسلسل في المستقبل ليس له نهاية بقدرة الله سبحانه وتعالى في بعض المخلوقات.
وهذه المسألة لولا أنها في الكتاب والتزمنا أن نقرأ الكتاب لما جئنا بها أبداً، فأنتم -بحمد الله- كلكم عل(16/2)
دلالات قوله تعالى: (فعال لما يريد)
قال رحمه الله تعالى: [والآية تدل على أمور: أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.
الثاني: أنه لم يزل كذلك؛ لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن.
الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله، فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر، فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية وخبطوا في مسألة القدر لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلاً، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى].
ملخص هذه المسألة: أن إرادة الله -كما هو معلوم- لا حدود لها، فالله يفعل ما يريد، وكل ما تكلم به المتكلمون من القدرية وغيرهم في مسألة فعل الله تعالى وقدرته إنما هو أوهام في أذهانهم لا تتعدى أن تكون مجرد وساوس.
أما كلامه في هذه المسألة ففيما يتعلق بفعل العبد وإرادة الله أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً، أراد بهذا التفريق بين الإرادة الكونية العامة وبين إرادة خلقه.
فالله سبحانه وتعالى أراد كل شيء إرادة كونية عامة، وكل ما أراده الله كوناً لابد من أن يقع، لكن هناك إرادة أخرى وهي الإرادة الشرعية الدينية، فهذه الإرادة الشرعية الدينية يريدها الله من العبد، ولكن قد لا يفعلها العبد لأسباب الضلالة التي تسلط على العباد، فالله سبحانه وتعالى جعل من أسباب الضلالة الهوى ووساوس الشيطان.
ومثال ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يريد من العباد الإسلام، والكافر لم يفعل ما يريده الله، فكون الكافر لم يفعل ما يريد الله يعني: أنه تخلف عن إرادة أرادها الله شرعاً، والله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء على العباد، ومن الابتلاء أن أعطى الناس القدرة على تمييز الخير من الشر، ثم القدرة على فعل الخير باختيار وعلى فعل الشر باختيار، وإرادته الدينية متعلقة بما يرضاه ويحبه.
وقد لا يفعل كثير من العباد ما يريده الله ويحبه مما أمر الله به، وهذا هو الفرق بين الإرادتين، فلم يستطع القدرية أن يفرقوا بينهما؛ لأنهم حكموا عقولهم كما هو معروف.
فالشارح يقول: [الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله؛ فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله].
فالله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً إرادة كونية فعله، وهي المشيئة، فإذا شاء شيئاً فعله، هذا معنى الإرادة هنا.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر].
فإرادة الله تعالى المتعلقة بفعل العبد على نوعين.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه] أي: أراد إرادة دينية أن يطيعه العبد -كأن يصلي- ولكن لم يرد سبحانه وتعالى أن يهدي هذا العبد؛ فإن هذه الإرادة تتخلف؛ لأنها أنيطت بفعل المكلف، وهو العبد الذي أمر أن يفعل ما يريده الله أو ما يرضاه الله ويحبه، فلما لم يفعل تخلفت الإرادة، فالله لم يرد في نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً ولم يوجد الفعل، فلو أوجد المعصية في العبد العاصي بغير اختياره صار مجبوراً، والمجبور لا يكلف، فلو أن الله سبحانه وتعالى جعل العباد يصلون قصراً دون إرادة التغت إرادتهم، فصاروا كالأنعام.
فالشارح رحمه الله تعالى يقول: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية] فالجبرية يزعمون أن كل شيء بإرادة الله، ولا يقرون بإرادته الدينية، فيزعمون أن العاصي قسره الله وأجبره على المعصية.
وهذا خطأ يدركه كل إنسان عاقل؛ لأن العاقل يدرك أنه يميز بين الخير والشر، وإذا لم يميز فإنه يجد الهادي إلى الخير والمحذر من الشر وهو الوحي، حتى ولو لم يدركه عقله، فكل عبد عاقل يجد من نفسه الميل إلى فعل الطاعات التي هي بمقدوره، كما أنه يجد من نفسه الميل إلى الهوى والشهوات، فإذا كان كذلك فإن الإرادة الدينية متعلقة بفعل العبد، فإن فعلها وقعت، فإن لم يفعلها لم تقع، لا لأن الله عاجز كما يزعم القدرية، بل لأن الله أناطها بفعل العبد، وهذا هو سر التكليف وهو سر الابتلاء، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق، فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.
الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعا(16/3)
بيان اتصاف الله بكونه رباً وخالقاً قبل وجود المربوب المخلوق
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق).
يعني: أن الله تعالى موصوف بأنه (الرب) قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه (خالق) قبل أن يوجد مخلوق، قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون (الخالقية)؛ لأن (الخالق) هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، و (الرب) يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية، وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية.
انتهى.
وفيه نظر؛ لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضاً].
التفريق بين العبارتين فيه شيء من التكلف، وإن كان الإمام الطحاوي رحمه الله قد يكون راعى أموراً في تعبيره عن الربوبية بالمصدر وعن الخالق باسم الفاعل، ولعل من هذه الأمور: أن الربوبية أشمل معنى، لا على نحو ما ذكره الشارح لكنها (أشمل)؛ لأنها تشمل الخلق وزيادة.
وهناك معنى آخر، وهو أن مسألة الربوبية قد يختلط مفهومها عند الناس، بمعنى أنهم قد يزعمون الربوبية أو شيئاً من بعض خصائص الربوبية لغير الله.
فلذلك جاء بلفظ المصدر ليعم، أما مسألة الخلق فليس هناك من يزعم من الأمم الضالة أن الخالق غير الله، وإن نسبوا بعض الخلق إلى غير الله فإنهم مع ذلك يعترفون بأن الخالق الأول والخالق القادر الباقي سبحانه وتعالى هو الله سبحانه وتعالى.
فعبر بلفظ (الربوبية) ولم يقل: الرب؛ ليزيل ما في ذلك من مفهوم كثير من الذين ضلوا بأن أعطوا بعض الخلق شيئاً من خصائص الربوبية، فحصر الربوبية كلها لله سبحانه وتعالى، أما الخلق فالناس معترفون بأنه وحده الخالق.
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم): يعني: أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه (محيي الموتى) قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه (خالق) قبل خلقهم، إلزاماً للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم، وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء].(16/4)
بيان عموم قدرة الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]): (ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام على (كل) وشمولها وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.
وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم! وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء! وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته -مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة-؛ فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء.
ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج].
هذا كله من باب السفسطة والجدال العقيم الذي لا ناتج وراءه، بل مما هو يمرض القلوب، فالذين تكلموا بهذه الأمور الكلامية تأثروا بكلام الفلاسفة الملاحدة المشركين الذين لا يؤمنون بالوحي أصلاً ولا يهتدون بهدي الله، فهؤلاء خاضوا في أمور الغيب بغير علم فتأثر بهم أصحاب هذه الاتجاهات من المتكلمين المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم.
لذلك تنازعوا في أمورٍ الكلامُ كله فيها تحصيل حاصل، بل هو تضييع للوقت والجهد وإماتة للقلوب، كتنازعهم في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا، فهذا كله من الفلسفة التي لا تثمر؛ لأن المعدوم الممكن في الذهن وليس في الواقع، مثاله: أن يفترض إنسان أن الله سبحانه وتعالى قادر على خلق جنة أخرى غير الجنة التي ذكرها، فهذا ممكن، ويقولون: هذه الجنة المفترضة معدومة؛ لأنها لم توجد، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى أنها ستوجد.
إذاً: ما الذي يترتب على تصورها أو تصور أنها شيء أو غير شيء؟! كل ذلك إنما هو من السفسطة التي لا داعي للكلام فيها أبداً، بل الكلام في مثل هذه الأمور لغير ضرورة ملحة -كالبيان والرد على الشبهات- هو من الإثم، ويجب على المسلم أن يتجنب مثل هذه الافتراضات.
قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق أن المعدوم ليس بشيء في الخارج].
يقصد بالخارج خارج الذهن، وهذه -أيضاً- من مشاكل المتكلمين وعباراتهم التي تموه على الناس، فإذا تصورت معدوماً -كجنة غير الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى- فهذا أمر ممكن، لكن تصوره لا يخرج عن الوهم الذي هو في خواطر الإنسان وذهنه، ومعنى (لا وجود لها في الخارج) كونها غير مخلوقة، أو فيما هو خارج الذهن من الموجودات، أو الحيز الذي فيه الموجودات.
قال رحمه الله تعالى: [ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كان شيئاً في علمه تعالى.
وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]].(16/5)
شرح العقيدة الطحاوية [17]
العلم صفة من صفات الكمال الثابتة لله سبحانه وتعالى، وقد نفى أهل التعطيل هذه الصفة، ويرد عليهم في ذلك بأن الله سبحانه هو موجد الأشياء وخالقها، ويستحيل إيجاد الأشياء وخلقها دون العلم بها، كما أن من مخلوقاته من هو عالم، والعلم صفة كمال، ويستحيل أن تكون هذه الصفة في المخلوق دون خالقه، فلا يصح عقلاً أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه.(17/1)
الرد على المشبهة بنفي المماثلة والمعطلة بإثبات صفات الكمال
قال المصنف المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه.
فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير؛ فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه؛ إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به، ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه، وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم وأقدرهم على البيان؛ فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافراً به.
قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً.
وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه].(17/2)
ثبوت المثل الأعلى لله جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الأعلى، فقال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]، وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27]، فجعل سبحانه مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال لأعدائه المشركين وأوثانهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمال كله لله وحده، فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السوء، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره، ولما كانت صفات الرب تعالى أكثر وأكمل كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان؛ لأنهما إن تكافآ من كل وجه لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير.
واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقال: المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أمور أربعة: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة، الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره، ومحبته وجلاله، وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته.
وهذا معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السماوات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له، مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26].
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة، فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27]، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ويستدل بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] على نفي الصفات، ويعمى عن تمام الآية، وهو قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم -وهو أحمد بن أبي داؤد القاضي - إلى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم! حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وكرمه].(17/3)
ذكر ما قيل في إعراب (كمثله)
قال رحمه الله تعالى: [وفي إعراب (كمثله) وجوه: أحدها: أن الكاف صلة زيدت للتأكيد، قال أوس بن حجر: ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل وقال الآخر: ما إن كمثلهم في الناس من بشر.
وقال آخر: وقتلى كمثل جذوع النخيل فيكون (مثله) خبر (ليس)، واسمها (شيء)، وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جاء عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم: وصاليات ككما يؤثفين.
وقول الآخر: فأصبحت مثل كعصف مأكول.
الوجه الثاني: أن الزائد (مثل)، أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن (مثل) اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
الوجه الثالث: أنَّه ليس ثم زيادة أصلاً، بل هو من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا.
أي: أنت لا تفعله.
وأتى بـ (مثل) للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك، والأول أظهر].(17/4)
إثبات صفة العلم الكامل لله جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (خلق الخلق بعلمه): (خلق) أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي (خلق) أيضاً بمعنى: قدر.
والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق.
وقوله: (بعلمه) في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وفي ذلك رد على المعتزلة.
قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه في كتاب (الحيدة) الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح؛ فإن قولي: هذه الأسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه].
هذه الفلسفة عند المعتزلة ناتجة عن قولهم بأن الله تعالى عليم بلا علم، فلذلك يهربون من إثبات صفة العلم بكل وسيلة، حتى ولو بتكلف وتمحل، كما في مثل هذه المناظرة التي جرت بين الكناني وبشر المريسي، وكتاب الحيدة قد أورد بعض المتأخرين حوله إشكالاً في ثبوته بنصه عن الكناني، فالكتاب الموجود المطبوع الآن قد لا يكون بنصه هو كتاب الكناني، لكن المناظرة جرت وفحواها موجودة في الكتاب، وإنما صياغة الكتاب قد تكون دخلتها الصناعة؛ لأنه في بعض القضايا التي وردت في الكتاب ما لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، أي: في زمن الكناني، وهذه هي الشبهة التي أوردت على الحيدة، ومع ذلك فإن المناظرة واردة فعلاً والحيدة صحيحة، أي: حيدة المريسي، بمعنى: نكوصه عن الجواب ووقوفه وانقطاعه.
ثم إن أكثر قضايا المناظرة نقلت عن الأئمة العلماء، سواء عن طريق كتاب الحيدة أو عن غيره، وإنما يبقى الإشكال في الصياغة، بمعنى أنه قد يكون دخل في صياغة الكتاب بعض الاجتهادات من النساخ أو غيرهم.(17/5)
الدليل العقلي على إثبات صفة العلم الكامل لله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [والدليل العقلي على علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم، ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير عالم، ولأن من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع ألا يكون الخالق عالماً.
وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين أحدهما عالم والآخر غير عالم؛ كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات التي هي المخلوقات فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، والله تعالى له المثل الأعلى، لا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى].
هذا الأمر فطري بالطبع، لا يكاد يغالط فيه أي عاقل، وهو أن الله سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم لابد من أن يكون هو العالم، ولا يمكن أن يكتب المخلوق -وهو الإنسان أو غير الإنسان- علماً من دون الله، فالله سبحانه وتعالى إذا كان هو الذي وهب العباد العلم؛ فمن باب الضرورة العقلية والفطرية أنه سبحانه هو العالم، وأن ما عند المخلوقين إنما هو من علم الله، ولا يساوي مع علم الله شيئاً.
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقدر لهم أقداراً): قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)].(17/6)
شرح العقيدة الطحاوية [18](18/1)
بيان المراد بواجب الوجود عند المتكلمين
السؤال
ما المراد بقولهم: واجب الوجود؟
الجواب
هذا تعبير عن مصطلح المتكلمين والفلاسفة الذين يسمون الله سبحانه وتعالى بواجب الوجود، بمعنى الذي وجوده معلوم بالضرورة، وليس الواجب هنا بمعنى الواجب الشرعي المكلف به، إنما الواجب الذي يسلم العقل به ضرورة.
وبمعنى آخر: الواجب بمعنى اللازم الأزلي الذي لا يفتقر وجوده إلى موجد، بل وجود الموجودات يفتقر إليه، وعكسه المخلوق المحدث، فيسمونه الممكن، وهذا تعبير فلسفي الأولى في الحقيقة تفاديه، فالتعبير بأنه جل جلاله هو الأول الذي ليس قبله شيء -كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم- هو الأولى.(18/2)
بيان ما يوصف به المخلوق من الكمال
السؤال
هل يصح إطلاق الكمال على المخلوق؟
الجواب
الكمال للمخلوق كمال نسبي بحسبه، وليس للمخلوق كمال مطلق، بل كماله كمال نسبي محدود، فقد يقال: هذا الإنسان كامل في أخلاقه أو كامل في علمه، وهذا من باب التساهل في التعبير، وهو تعبير صحيح، بمعنى أنه أدرك أو بلغ الكمال الإنساني اللائق بالمخلوق، وليس المقصود الكمال المطلق الكمال الذي هو كمال الله سبحانه وتعالى.(18/3)
حكم استيقان ما يذكر في كتب الاعتقاد
السؤال
ما هو حكم استيقان ما يذكر من أمور الغيب في كتب الاعتقاد؟
الجواب
الأمور التي ورد فيها، النص تتيقن ولا شك، لكن الأمور الغيبية التي لم يرد فيها، فكلام المتكلمين عن التأويل والتعطيل أمر لم يرد به النص، ولا يمكن أن نتيقن معنى من المعاني التي وردت بإملاء العقل إذا كانت على طريق التأويل أو التعطيل.(18/4)
حكم التعويل على العقل في تأكيد البدهيات في حق الله تعالى
السؤال
هل يعول على العقل في تأكيد البدهيات؟
الجواب
ما يتعلق بالله تعالى يجب أن نأخذه من الشرع؛ حتى لا نصفه تعالى بما قد يظن أنه كمال في حقه بالنظر إلى المخلوقين وهو ليس كمالاً بالنسبة له سبحانه، فما سكت عنه الشرع نفياً أو إثباتاً لم يكن للعقل أن يثبته أو ينفيه، وأما الكمال المطلق أو النقص الذي تدركه العقول بداهة فإنه يعول عليها فيه، فالعدم ينفيه العقل قطعاً، فهنا يجوز التعويل على العقل في هذا الأمر العام المطلق.
وكذلك النقص والعيب ينفيه العقل مطلقاً عن الله سبحانه وتعالى على وجه الإجمال، فالعقل يعول على تأكيده في البدهيات التي لا يسع العقل أن ينفك عن إثباتها أو عن نفيها.(18/5)
علاقة العقل بالأدلة الشرعية وحدوده معها
السؤال
ما هي حدود العقل مع الأدلة الشرعية؟ وكيف نقول: إننا نكتفي بالدليل والعقل تابع له، ونحن لا يمكن أن نفهم الدليل أو نعرف معناه إلا باستخدام العقل، ولو نظرنا إلى الدليل بدون عقل فإن نظرنا لا فائدة منه؟
الجواب
هذا سؤال مهم، وجدير بالعناية، وسيأتي في الطحاوية في دروس قادمة بإذن الله، ولكن نقول في هذا: إن العقل هو وسيلة الفهم، وهو وسيلة الإدراك، وهو مناط التكليف، فلا يكلف إلا عاقل، فمن هنا كان العقل هو الوسيلة لفهم الشرع، بل هو وسيلة لفهم العقيدة بمعنى الإيمان بها، لكن كونه وسيلة لا يعني أنه هو الأصل؛ لأن العقل هو الدليل، لكن المدلول أكبر من الدليل، فنظرك يدلك على الشمس، فهل النظر أكبر من الشمس؟ الشمس موجودة، سواء وجد نظرك أو لم يوجد، وسواء ملكت الوسيلة أو لم تملكها، والخلق دال على الخالق، والخالق سبحانه وتعالى موجود سواء وجد الخلق أو لم يوجد.
فالخلق هو وسيلة لمعرفة الخالق، لكن ليس وجود الخالق متوقفاً على وجود الخلق، والإيمان بالخالق لا يتوقف على النظر في المخلوقات، إنما هو من وسائل الإيمان بالخالق، والعقل كذلك، فالعقل وسيلة إلى معرفة الثوابت واليقينيات بقدر ما يستطيعه.
وقد أورد الشارح مثلاً جيداً للعقل مع النقل يبين أن العقل دليل على الحقائق، لكن الدليل لا يكون أكبر من المدلول، حيث يقول: لو أنا افترضنا أن هناك ثلاثة أشخاص، أحدهم عالم، وهو الذي يملك العلم اليقيني، والثاني: جاهل يحتاج إلى من يرشده، والثالث: دليل يدل على العالم، فلو أن إنساناً من العامة سأل الدليل فقال: في نفسي سؤال أريد أن ترشدني إلى من يدلني.
فهذا المرشد سيدل السائل على العالم، فلو أنه وصل إلى العالم فسأله فأجابه على المسألة بدليلها، فهل يملك الدليل أن يقول: أنا أفتيك بغير فتوى العالم؛ لأني أرشدتك إليه؟! فهذا لا يمكن؛ إذ كونه دليلاً لا يدل على أنه أقوى من المدلول عليه.
إذاً: فالعقل إنما هو وسيلة، والوسيلة ليست هي كل شيء.(18/6)
حكم التماس الحكمة في التشريع
السؤال
هل للعقل السؤال عن حكمة الأمور التعبدية، كالسؤال عن الحكمة من الصلوات؟
الجواب
التماس الحكمة جائز شرعاً في كل أمر، وإذا التمس الإنسان الحكمة فهذا أحياناً يعينه على قوة اليقين والإيمان، لكن يجب ألا يتوقف تصديقه ولا عمله على معرفة الحكمة، فلو توقف تصديق الإنسان وعمله على معرفة الحكمة لترك كثيراً من أمور الدين، كما روي عن علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من مسح أعلاه)، لكن الدين ليس بالرأي، فلا مانع من أن يلتمس الحكمة؛ لأن هذا يقوي إيمانه ويقينه، فتؤيد الأدلة النقلية بالبراهين العقلية، لكن بشرط ألا يتوقف الإيمان ولا العمل على النظر في الحكمة.(18/7)
بيان معنى قواعد النظر العقلي
السؤال
قال المحقق: (وقد استنبطوا من آياته قواعد النظر العقلي)، فما قواعد النظر العقلي؟
الجواب
قواعد النظر العقلي هي قواعد الاستدلال العقلي على الأمور الحسية أو على الأمور الغيبية التي تؤيد النصوص الشرعية، والمتكلمون يستدلون بقواعد النظر العقلي حتى على الأمور الغيبية التي لا يمكن أن يدركها العقل.(18/8)
العقل وإقحامه في معرفة كيفيات البعث والنشور ونحو ذلك
السؤال
ذكر ابن خلدون في مقدمته منع أن يدخل العقل ويحكم في العقيدة والقيامة والبعث والنشور وغيرها كما فهمنا، فهل هذا على إطلاقه في جميع نواحي العقيدة، فيعطل العقل ويكتفى بما جاءنا بالنقل؟
الجواب
هذه الأشياء لا يستقل العقل بإدراكها على التفصيل، فلا يمكن أن العقل يدرك ما يتعلق بالقيامة والبعث والنشور على التفصيل، فلا مجال للعقل في إدراك هذه القضايا السمعية على جهة التفصيل أبداً، وهذا أمر يدركه كل عاقل، ويمكن أن أقول على سبيل الجزم: إني أتحدى أن يكون عقل من عقول البشر من أول الدنيا إلى آخرها قد أدرك مستقلاً شيئاً مفصلاً عن يوم القيامة والبعث والنشور، إنما يظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فكلام ابن خلدون صحيح في هذا المجال، ولا يسمى هذا تعطيلاً للعقل؛ لأنك إذا استعملت الشيء في غير ما يطيقه فهذا إرهاق له، إذا استعملت أي شيء فيك بأكثر مما يطيق فهذا لا يسمى تعطيلاً، بل يسمى إرهاقاً.
إذاً: العقل إذا استخدم فيما يستطيع فهذه وظيفته، والعقل إنما مجاله عالم الشهادة وليس عالم الغيب، وهذا أمر مدرك بالعقل نفسه، فإذا كان العقل نفسه يعرف أنه لا يعقل الغيبيات؛ فترك إقحامه في الغيبيات هو إكرام له وإشفاق عليه، وأنت إذا رحمت إنساناً فمنعته من أن يحمل أكثر مما يطيق كان هذا إشفاقاً عليه، لكن لو أنك حملته ما لا يطيق كان هذا عنتاً عليه، وهذا هو مثل العقل، فالعقل إذا كلفناه البحث في أمور الغيب حملناه ما لا يطيق، وإذا أعفيناه من البحث في أمور الغيب فإنما نكون أشفقنا عليه وكرمناه، فإكرام العقل استخدامه فيما يستطيع.(18/9)
معنى الواحد عند المتكلمين
السؤال
ما معنى قوله: (الواحد عند المتكلمين ما لا صفة له، ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يعرف)؟
الجواب
الفلاسفة والمتكلمون الذين ظهروا في الإسلام -خاصة الغلاة منهم- يقولون: الواحد فكرة مجردة لا حقيقة لها، بمعنى أنه لا أداة له، فالواحد هو جميع الموجودات، فلذلك اعتقدوا وحدة الوجود؛ لأنهم يقيسون الأمور بمقاييس عقلية، فقالوا: إذا قلنا بأن الله له ذات موصوفة ما صار واحداً، بل يصير هو والمخلوقات اثنين، وهذه فلسفة متهافتة؛ لأن المراد بالواحد الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، لا مقارنته بالمخلوقات أو مشابهته أو مساواته بالمخلوقات، فالحق الذي عليه أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى واحد في ربوبيته وأسمائه وصفاته، وله الكمال المطلق، وكل ما سواه ناقص فانٍ.
وأولئك إذا قالوا هذه الكلمة قصدوا بها وحدة الوجود، فمن هنا زعموا أن الله لا يقبل من الصفات غير صفات المخلوقين، فلذلك ينفون الأسماء والصفات عن الله تعالى ويطلقون على الله صفات النقص التي في المخلوقين، كما في أشعارهم وفي كلماتهم وفي كتبهم، ومن الخير لكم ألا تروا ولا تسمعوا من ذلك شيئاً.(18/10)
الكفر بين إرادته كوناً وعدم الرضا به شرعاً
السؤال
إذا قيل: إن الله يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً، فما المراد بذلك؟
الجواب
الإرادة ليست هي المشيئة بإطلاق، فالمشيئة كلها متعلقة بالأمور الكونية العامة، متعلقة بالربوبية، أما الإرادة فنوعان: إرادة كونية -وهي المشيئة-، وإرادة دينية وهي ما يريده الله شرعاً، وما يرضاه وما يحبه، وإذا مثلنا بكفر الكافر انطبقت عليه هذه الدرجات من المشيئة ثم الإرادة الكونية والإرادة الدينية، فالكافر حينما كفر فإنما كفره بمشيئة الله، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء وهو المقدر لكل شيء، ولا يخرج شيء عن قدر الله ومشيئته، لكن لا يعني ذلك أن الله يرضى ذلك ويحبه، بل الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب ذلك لهم ويكره ذلك منهم، وهذا الأمر الفاصل بين الإرادة الكونية العامة والإرادة الشرعية.
كما أن الله سبحانه وتعالى جعل للعبد إرادة، وإرادته هي حريته في أن يختار الخير أو يختار الشر، وذلك متعلق بأوامر الله ونواهيه وببيانه الذي بين للعباد، أعني بذلك أن الله سبحانه وتعالى بين للعباد طريق الخير وأرشدهم إليه وفطرهم عليه، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه ونفر فطرهم منهم، وجعل لهم الإرادة والاختيار، وأرشدهم إلى أن من سلك الخير فإنه يقدره على ذلك ويهديه ويسدده ويرشده ويثيبه، وأن من أراد الشر فإنه سبحانه وتعالى يقدره عليه، لكنه يتوعده ويعذبه، وهذا أمر واضح يدركه كل عاقل، ولو أن الإنسان قسر قسراً على الشر لما حوسب، فلو تصورنا أن إنساناً قسر على الشر قسراً بدون إرادة ولا إدراك؛ فهذا فاقد لعقله وفاقد للتمييز الذي يميز به بين الحق والباطل، ومن هنا لا يكلف.
إذاً: التكليف على حرية الإنسان وقدرته ورغبته، ثم على البيان الذي بينه الله له، فقد بين له طريق الخير وبين له طريق الشر، فهذا داخل فيما يتعلق بإرادة الله الشرعية.(18/11)
الفرق بين الأشاعرة وأهل السنة في إثبات صفة السمع
السؤال
ما الفرق بين إثبات الأشاعرة لصفة السمع وإثبات أهل السنة لها؟
الجواب
هناك بعض الفرق، وكلهم مثبتة فيما يتعلق بصفة السمع، ولكن إثبات الأشاعرة لصفة السمع فيه نوع فلسفة، بمعنى أنه فيه زيادة على ألفاظ الشرع، حيث عبروا عن تعلقها بذات الله سبحانه وتعالى أو بتعبيرات فلسفية، أما السلف فأثبتوها كما جاءت بدون زيادة، ولا يخوضون في كيفية تعلقها بالله سبحانه وتعالى؛ لأن تعلق الصفات بالموصوف -وهو الله سبحانه وتعالى الذي ليس كمثله شيء- لا يمكن أن يدرك على جهة التفصيل.(18/12)
تربية النفس بأسماء الله وصفاته ما يصح منه وما لا يصح
السؤال
نسمع كثيراً أنه ينبغي للمسلم أن يربي نفسه بأسماء الله وصفاته؟
الجواب
التخلق بصفات الكمال التي تليق بالبشر ممكن، بمعنى أنَّ هناك من صفات الكمال ما ألفاظه مشتركة، فهي في حق الله تعالى صفات كمال مطلق تليق بالله ولا تشبه صفات المخلوقين، وهي في حق المخلوق كمال مقيد، بمعنى أنها ليست كمالاً مطلقاً، كصفة الرحمة، فهي من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي لله على الكمال المطلق، والعبد المؤمن المخلص يسعى لأن يكون في منتهى الرحمة التي يقدر عليها العباد، فإذا كان من هذا الوجه فنعم، أما إذا كان كما يقول بعض المبتدعة: إن صفات الله قد يتصف بها بعض من يقدسهم أتباعهم، كالأولياء عند الصوفية والأئمة عند الرافضة، فيجعلون لهم من صفات الله تعالى ما لا يجوز إلا لله من صفات الإلهية والربوبية، فهذا باطل.
وأما التعبد بأسماء الله فهو وارد، بمعنى أن الإنسان إذا استشعر صفة العظمة لله سبحانه وتعالى فهم منها المعاني التي تعينه على عبادته، فذكر أسماء الله وصفاته في كتاب الله وفي السنة لا شك في أن له ثمرة وفائدة، ومن ثمراته أن المسلم يتخلق بما يستطيعه من الأخلاق الفاضلة وأخلاق الكمال وصفات الكمال، لكن هذا بقدر مقيد، والدخول فيه يكون على هذا النحو، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالأخلاق الفاضلة والإحسان بأوامر مستقلة عن مسألة الأسماء والصفات.(18/13)
الموقف من الإفراط والتفريط في التكفير
السؤال
ذكرت أن الشرك سيقع في هذه الأمة، وأنه يجب ألا يكون العطف والشفقة سبباً في عدم وصف من اتصف بصفات شركية بما هو عليه، لكن المرء يحار حين يرى الناس بين مُفرِّط في التكفير ومُفرِّط فيه، فما هو الحل لهذه المشكلة؟
الجواب
هذا أمر واقع فعلاً، وهذه المسألة الآن واقعة بين الناس، وقليل منهم من يتوسط، وأكثرهم ما بين مغال في الاتهامات والتكفيرات حتى باللوازم وبما لا يكفر أو بمجرد الظواهر والحكم على القلوب، وآخر لا يرى التكفير حتى للكافرين، وهذه مسألة لابد من التوسط فيها، والتوسط هو من منهج السلف، فمنهج السلف أمامنا في الكتب، وفي عمل أئمة ومشايخ أهل السنة الموجودين بحمد الله، وهم الذين يرجع لهم في هذه الأمور، وأرى أن من أمثل ما تقوم به الحجة على الناس من أساليب علمائنا المعاصرين أسلوب الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله، فهو بحق يأخذ بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو جدير بذلك، وأراه القدوة الذي ينبغي أن يوجه الشباب إلى مثل منهجه، ولذلك نجد تلك الطوائف قد تقول في أقوال الشيخ أشياء ولا تتورع.
فالمنهج الوسط -بحمد الله- بين بأقوال مشايخنا وبين بمنهج السلف، لكن يبقى كيف نعالج هذه الظواهر، هذا هو السؤال الذي طرح، وفي رأيي أن المعالجة تكون بأمور: أولها: أن نسعى لارتباط الشباب بالعلم الشرعي الأصيل المتعلق بعلاج هذه الأمور المتمثل في كتب العقيدة وأقوال السلف، ونعالج من خلاله هذه الظواهر معالجة عقدية.
الأمر الثاني: لابد من بيان هذا في قواعد واضحة وبالأمثلة الواضحة، ومن خلال المحاضرات والدروس والندوات، فينبغي لهذه الطائفة من طلاب العلم والمشايخ أن يعالجوا هذه المشكلة: مشكلة التكفير، ومشكلة التساهل إلى حد الإرجاء.
والأمر الثالث: أنه لابد من تأليف كتب إضافة إلى نشر المحاضرات في هذا الموضوع بشتى الوسائل، فلابد من تأليف كتب ورسائل صغيرة تعالج هذه القضايا بدقة وبوضوح وبالأمثلة، وإلا فالمسألة بدأت تستفحل، ومما يؤلم أن ظاهرة التكفير أكثر من تصدر عنهم أناس ينتسبون للسلفية، ووجه الفتنة بهم أن عقائدهم سليمة من حيث الجملة، لكن سلوكهم وأعمالهم غير سليمة، فوقعت الفتنة في الشباب، حيث أخذوا بسلامة اعتقادهم وجعلوه مبرراً لسلامة المنهج، حتى وقع كثير من الشباب في تلك المشكلة وجاءوا يسألوننا عن هذه المسائل، فوقع كثير منهم في اضطراب وحيرة، حيث كانوا يعرفون فلاناً من الذين يعنون بعقيدة السلف، وكان مرجعاً في عقيدة أهل السنة والجماعة، فلما وقعت الفتن ولغ في أعراض الناس، ووقع في التكفير، وأحرج الأمة بأحكام ملزمة، وتكلم في طلاب العلم والمشايخ، وتجرأ على الدعاة وألزم بما لم يلزم، ونبز بالألقاب، ووقع في الأسلوب الذي كان يحذر منه، نسأل الله العافية.
ونحن لا نشمت، لكن هذا أمر واقع، ومصدر الفتنة -كما قلت- أن أكثر أحكام التشدد والتكفير والنبز بالألقاب واتهام الدعاة واتهام النيات والصلف -وهذا أمر مؤلم، ولكن أقول ما عندي، وأرجو أن أكون مخطئاً- مصدرها من يعرفون بسلامة العقيدة، وهذه مصيبة، والعكس كذلك، فهناك طائفة كثيرة في المثقفين بالثقافة الأفقية التي هي ثقافة أكثر شباب المسلمين اليوم، الثقافة التي لم تؤخذ عن أصل الشرع، لا يريدون أن يكفروا من المسلمين أحداً، فكل المسلمين عندهم داخلون تحت إطار الإسلام العام، ويتجاهلون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ويتجاهلون الواقع، وكأن إشفاقهم هذا صار إشفاقاً على الناس أكثر من أن يكون إشفاقاً على الإسلام.
وهذا يتزعمه الآن مفكرون كبار، ويؤلفون كتباً تتجه للإرجاء، حتى إنهم يتكلمون في رد حديث الافتراق خشية أن يقع في الأمة المفترقة افتراق.(18/14)
العمل بالعلم حكمة
السؤال
ذكر المعلق أن من يعرف الحق ويعمل به يدعى بالحكمة، فكيف ذلك؟
الجواب
الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، ومن وضع الشيء في موضعه العمل بما يعلمه الإنسان، يعني: أن الأصل في المسلم إذا علم علماً يستطيع العمل به أن يعمل به، بل هو أمر مطلوب، وهذا عين الحكمة، وليس من الحكمة أن يعلم الإنسان العلم الشرعي ثم لا يعمل به.(18/15)
بطلان زعم القائلين بتفصيل الأنبياء الشرائع بعد نزولها مجملة عليهم
السؤال
ما صحة قول بعض القائلين: إن الشرائع التي تنزل من الله سبحانه وتعالى على الأنبياء تكون مجملة، ثم الأنبياء يفصلون فيها؟
الجواب
هذا غير صحيح؛ لأن الأنبياء في عملهم إنما يسترشدون بالوحي، فلذلك الشرائع مفصلة كما أنزلت من الله سبحانه وتعالى، وعمل الأنبياء هو التطبيق في الأمور العملية والأحكام العملية، وكل ذلك بأمر الله، أما أن يقال: إن الشرائع تنزل إجمالاً ثم الأنبياء يفصلونها؛ فهذا مبني على القول بخلق القرآن، والقول بأن القرآن هو معنى نفسي قائم بذات الله، أو نحو هذا من المعاني التي يقول بها المتكلمون، فمؤدى قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل، وإلا فالقرآن نزل مجملاً، وهذه كلمة خطيرة، وبدأت تظهر، فأنا قرأت ما يشعر بها عند بعض الكتاب المحدثين، وهذا يراد به أننا نستغني عن تفصيلات الدين التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في وقته؛ لأنها تناسب وقته، ونرجع إلى جملة الدين -أي: جملة الوحي- كما يقول من يسمون بالقرآنيين ومن يسمون بالعصرانيين ومن يسمون بالعقلانيين الآن.
والدين كله مطلوب، ليس فيه فرق بين تفصيلات وإجماليات، والتفصيلات هي المطلوبة، أما الإجماليات فيدركها حتى الكفار، وينبغي أن يعلم هذا، لكن الكلام على التفصيلات.(18/16)
الموقف من تأويل الحافظ ابن حجر لبعض الصفات
السؤال
ما قولكم في الحافظ ابن حجر رحمه الله في تأويله لبعض الصفات؟
الجواب
أولاً: ينبغي أن يعلم أن ابن حجر رحمه الله إمام من أئمة المسلمين، إمام وقدوة، يجب أن نترحم عليه وأن نواليه وأن نحبه، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يجعل في نفسه أي غل لمثل هذا الإمام، أما كونه أول بعض الصفات فذلك صحيح، وخطؤه في ذلك من الخطأ الذي يغتفر؛ لأننا نعرف أنه على نهج السنة والجماعة، ما أول بطريقة المتكلمين ولا بتعسف المؤولين، إنما حكى أقوال المؤولة أحياناً دون أن يوجهها لا بتأييد ولا باعتراض، وأغلب تأويله من هذا النوع، فهو يأتي بالأقوال وكأنه يحكيها أو كأنه يوافقها، ومع ذلك قد يؤول بعض الصفات، لكن في الأمور الأخرى نهجه نهج أهل السنة والجماعة في سائر أصول الدين.(18/17)
حكم التعميم بتبديع كل مؤول وحكم التأويل أو التشبيه الناشئ عن الجهل
السؤال
هل كل من أول في الصفات من أهل البدع، وما الضابط في ذلك، وهل الجاهل الذي يخطئ في أسماء الله وصفاته بتأويل أو تشبيه أو تمثيل يأثم في ذلك؟
الجواب
من المعروف أنه ليس كل من ارتكب بدعة يوصف بالابتداع، ولا كل من ارتكب كفراً يوصف بالكفر، ولا كل من ارتكب معصية يوصف بالعصيان، إلا بعد ترتيب أحكام أخرى عليه، بمعنى: بعد أن نتأكد من عوارض الجهل وعوارض الإكراه وعوارض التأويل الذي له مسوغ عند من تأول، فمثلاً: من أول الصفات على نحو يشعر بأنه لا يقصد التأويل عند المؤولة الذين منهجهم التأويل؛ فهذا يغتفر له حتى يتبين أنه يقصد التأويل عند المؤولة الذين تعمدوا التأويل ابتداء، فالمؤولة على صنفين: أولهم: الذين جعلوا التأويل قاعدة من قواعد اعتقادهم، كالأشاعرة والماتريدية، وقبلهم الفرق الكلامية الأخرى، فهؤلاء جعلوا التأويل قاعدة من قواعد الاعتقاد فما جاء التأويل عندهم عرضاً أو عن اجتهاد عارض أو عن لبس أو عن اشتباه، فهؤلاء مؤولة وحكمهم حكم المؤولة، ولا يقال أيضاً: إنهم كفار؛ فأهل العلم لم يكفروهم.
الصنف الثاني: من يؤول عن اشتباه أو التباس أو عن اجتهاد، ولا يقصد الأخذ بقاعدة التأويل ابتداء، فهذا يعذر بفعله وإن خالف غيره، فلا يعد من أهل البدع.
أما الجاهل الذي يخطئ في أسماء الله وصفاته بتأويل أو تشبيه أو تمثيل؛ فالأصل فيه ألا يخوض في أسماء الله وصفاته، فإن خاض بغير علم وأدى خوضه إلى أن يقول ما لا يجوز فهو آثم بفعله، لكن لا يكفر إذا كان جاهلاً ولم يقصد المبدأ الكفري الذي عليه الفرق، فهذا غاية ما يقال فيه: إنه لا يكفر، أما الإثم فإنه إذا تكلم في العقيدة وهو جاهل ثم أدى كلامه إلى الخوض أو إلى التلفظ بما هو ممنوع؛ فإنه آثم؛ لأنه خاض فيما لا يعلم، والمسلم محاسب في مثل هذا الأمر؛ فيجب ألا يقول على الله إلا بعلم.(18/18)
الفرق بين البدعة المكفرة والبدعة المخرجة من الملة
السؤال
ذكرت أن من أنواع البدع المكفرة، والمكفرة منها ما هو مخرج من الملة، فما الفرق بين البدعة المكفرة وبين البدعة المكفرة المخرجة من الملة؟
الجواب
البدعة المكفرة المخرجة من الملة هي التي تناقض أصلاً من الأصول القطعية، أو تؤدي إلى الشرك في العبادة، فالبدعة إذا أدت إلى الشرك الصريح فهي بدعة مكفرة مخرجة من الملة، وكذلك البدعة التي تناقض أصلاً ضرورياً معلوماً من الدين بالضرورة، كإنكار اليوم الآخر -مثلاً- أو إنكار أسماء الله، فهذه بدعة مكفرة مخرجة من الملة، وهناك بدع مكفرة لا تخرج من الملة، كبدع بعض الخوارج، كاعتقاد تكفير شخص، بدعوى أنه ارتكب مكفراً، فتكفيره -وإن كان لا يستحق الكفر- قد يكون بدعة مكفرة، لكن لا تخرج من الملة.(18/19)
حكم قول: (بصمة الله على خلقه)
السؤال
ما رأيك في قول: (بصمة الله على خلقه)؟
الجواب
هذا كلام لا يجوز، يقصد بالبصمة العلامة، ففي كل ما يتعلق بالتعبير عن أسماء الله وصفاته أو أفعال الله لا ينبغي أن تترك الألفاظ الشرعية، بل يحسن أن يتقيد المسلم بالألفاظ الشرعية ويتفادى الألفاظ الموهمة التي ربما يكون في إطلاقها سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى.(18/20)
أنواع المعاصي بالنسبة إلى البدع
السؤال
هل يعتبر صاحب المعصية من أهل البدع؟
الجواب
المعصية معصيتان: فهناك معصية هي من الفجور، وأغلب المعاصي من هذا النوع، وهناك معصية يصاحبها اعتقاد، فمثلاً: إنسان يأكل الربا ويستحله، أي: يرى أنه حلال، يقول: الربا ما فيه شيء، والربا كالبيع لا فرق، كما قال أهل الجاهلية، فنقول: قائل هذا القول صاحب بدعة مغلظة، كمن يسجد للقبر أو يدعو غير الله، أما إذا لم يستحل فهو فاجر وعاص مهما كانت ذنوبه، فإن استحل الذنب فقد جمع بين البدعة والمعصية.(18/21)
الموقف من دعوى تقديم الاهتمام بتوحيد كلمة المسلمين على الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك
السؤال
إن أول واجب هو توحيد الله وحده ونبذ الشرك والبدعة، لكن هناك من ينادي بأعلى صوته -خاصة ممن ينتسبون للدين والعلم- بأن نجعل هذه المسائل في المرتبة الثانية بعد اجتماع الكلمة، وحجتهم في ذلك: أننا إذا ما اهتممنا بتوحيد الصف الإسلامي جاءت الفرقة والنزاع بين المسلمين كما هو الحال في أفغانستان وغيرها، فنرجو توضيح الأمر؟
الجواب
الحقيقة أن هذه المسألة فيها لبس، فيجب أن نفرق بين الدعوة إلى توحيد الله تعالى وبين ما يفعله بعض من يدعون إلى توحيد الله، يجب أن نفرق بين الأمرين، فالدعوة إلى توحيد الله هي أساس الدعوة في كل مكان وكل زمان، ولا يمكن أن نفرط فيها علماً وعملاً، ولا أن نخل بها ولا أن تؤجل، لكن يبقى ما بعد ذلك من مستلزمات هذه الدعوة والأمور التي تأتي بعدها أيضاً، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه إذا وجد ممن يدعون إلى السنة من في طريقته شيء من قسوة الأسلوب التي تنفر المسلمين عن جمع الكلمة؛ فهذا ليس بحجة على أصل المبدأ.
وأيضاً يجب أن يفهم أن المسلمين الذين يتلبسون بالبدع والشركيات سيستجيبون للنداء العام لجمع كلمة المسلمين على ما هم فيه من انحراف، وتصعب استجابتهم للدعوة إلى توحيد الله، فهذه حقيقة ولابد من أن نتعامل معها، بمعنى أن نجمع بين الأمرين: بين الدعوة إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك بالحكمة وباللين والشفقة، وبين ضرورة جمع كلمة المسلمين، فلا تعني الدعوة إلى التوحيد التفريق، وإن وجد شيء مما يؤدي إلى التفريق فسببه ممارسة بعض الدعاة الذين يقل فقههم في الدين وفي الدعوة إلى التوحيد، فأسلوبهم في الدعوة إلى التوحيد هو الأسلوب المنفر، أسلوب التفريق، وعدم الشفقة، وعدم التدرج، وعدم الحكمة إلى آخر ذلك من الأمور التي يقع فيها أفراد، فتصرف بعض هؤلاء لا يكون ناقضاً للأصل.
الأمر الثالث: نحن نعلم أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى هي وسيلة جمع كلمة المسلمين، ولا شك في أنها الوسيلة الأولى، وإذا تجاهلناها أو غفلنا عنها؛ فإن أي اجتماع للمسلمين من دونها سيكون اجتماع هشاً وسيتمزق عند كل فتنة تحدث، لكن إذا كان على التوحيد فإنه اجتماع صلب وقوي.
الأمر الرابع: أنا أعتقد أنه ليس بالضرورة أن يكون هدفنا جمع كل المسلمين على غير الحق، فليس بالضرورة أن يجمعوا ما داموا على غير الحق، بل يكفينا أن يجتمع أهل الحق على الحق ولو قلوا، فلو فرضنا أن الناس نفروا من دعوة التوحيد، ولا سبيل لجمعهم إلا أن نترك هذه الدعوة ليجتمعوا؛ فعندنا خياران: أن ندعو الناس إلى التوحيد، وهذا سيؤدي إلى نفور بعضهم، أو أن نترك الدعوة إلى التوحيد وسيجتمعون على شعار دون التوحيد، فأيهما أولى؟(18/22)
حكم التفكر في ذات الله والتفكر في آلائه
السؤال
ما حكم التفكر في ذات الله والتفكر في آلائه؟
الجواب
التفكر في خلق الله تعالى وفي آلائه، والتفكر في نعمة الله تعالى، ومحاولة معرفة بعض حكم التشريع وغيرها من الأمور التي هي مجال التفكر أمر مشروع، لكن ليس سبيل التوحيد والطاعة والإيمان بالله تعالى هو النظر والتفكر، فالتفكر في خلق الله وفي آلاء الله وفي نعم الله، وفي أسرار خلق الله تعالى لاستشعار عظمة الله هذا مطلوب، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالسير في الأرض لننظر ولنعتبر، لكن هذا لا ينسحب على التفكر في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير ما ورد في الشرع، ولا على التفكر في توحيده ووجوده؛ لأن هذا يؤدي إلى الشرك وزعزعة الإيمان، فالمسلم ينبغي أن يربي نفسه وأن يربي أجيال المسلمين الذين تحت ولايته على ألا يقعوا في هذه المشكلات والفلسفات، فلا يفكر في الله تعالى، ويكتفي بالإيمان بأسمائه وصفاته وذاته، ثم بعد ذلك مجال التفكير واسع، بل عند العقل من مجالات التفكير والتفكر ما يكده ويتعبه، وعقول البشر تفكر منذ زمن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ومع ذلك لم تكتشف أنفسها، فالإنسان لم يعرف نفسه إلى الآن، ولا يعرف أين النفس ولا أين الروح، ولا كيف يفكر ولا كيف يعقل، فهذا الفكر الذي تفكر به لا تدري كيف تفكر به، فكيف تتفكر في الله وتتكلم في التفكير في الله تعالى؟! هذا أمر بعيد المنال ولا يمكن الوصول إليه، ومن حاول أن يصل إليه وقع في الشبهة ومرض القلب، نسأل الله العافية.(18/23)
بيان ضرورة سبق الإيمان بالله وتوحيده لما يجب فعله من أمور الشريعة
السؤال
ما معنى قوله: (وجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك)؟
الجواب
يعني: أن وجوب الإيمان بالله تعالى وبتوحيده لا شك في أنه قبل الصلاة؛ لأن الإنسان لا يصلي إلا وقد آمن بالله تعالى وسلم له بشرعه ودينه وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم امتثل الأمر بالصلاة الذي هو أمر الله، فلا يمكن أن يأتمر بأمر إلا وقد عرف الآمر وقدر الآمر، والآمر هو الله، وهذا أمر معلوم من حيث تسلسل الواجبات، فلا شك في أن أول واجب على العبد هو توحيد الله بالتسليم والطاعة والامتثال، فإذا سلم وأطاع وامتثل جاءت الواجبات الأخرى التي منها أركان الإسلام، ومنها الصلاة.(18/24)
شرح العقيدة الطحاوية [19](19/1)
بيان حكم الخواطر والوساوس المتعلقة بالله التي يلقيها الشيطان في قلب العبد
السؤال
يرد أحياناً إلى قلب المؤمن ما يلقيه الشيطان من وساوس، ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما معناه- قوله: (إن الشيطان يوسوس في قلب الرجل، فيقول له: من خلق هذا إلى أن يقول: من خلق الله؟)، فهل هذا من الشك في الله عز وجل؟
الجواب
الحديث حسم الأمر وبين أن هذا إذا لم يستقر في القلب فلا يصل إلى حد الشك ولا نقص الإيمان إن شاء الله، وأن هذا من وساوس الشيطان التي تنتهي، وهذه قاعدة في كل أمور الدين، بمعنى أن الشيطان قد يوسوس بعارض يعرض في الفكر، فهذا العارض إذا ما استقر وصار أصلاً أو صار مساراً للشك والوسواس فهو لا يضر، وعلى الإنسان إذا تعرض لمثل هذه الأمور أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فالشيطان بعد ذلك يخنس، فالإنسان لا تضيره الخواطر ما لم تكن اعتقاداً، أو ما لم يتماد في الخواطر ويقف عندها وقوف الشاك أو المستريب، أما أن ترد فلا يمكن أن يسلم الإنسان من ورود الخواطر، وليدفعها بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وقراءة القرآن واستحضار أسرار معاني الإيمان، وبذلك إن شاء الله تزول ولا تستقر.
إذاً: الخاطر الذي يخطر ولا يستقر لا إثم فيه إن شاء الله ولا يؤثر في الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب الصحابة وهم أكمل الناس إيماناً، وبين لهم أنه يأتيهم الشيطان ويقول لهم كذا وكذا إلى أن يقول: من خلق الله، فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وبذلك -إن شاء الله- لا يضره.(19/2)
بيان أن أسماء الله وصفاته توقيفية وبيان حكم اشتقاق الأسماء والصفات من صفات الأفعال
السؤال
ما هو الضابط والفارق بين الاسم والصفة والإخبار عن الله عز وجل، وهل نثبت صفة الهرولة والسكوت؟
الجواب
أسماء الله وصفاته توقيفية، والأسماء التي وردت في الكتاب والسنة هي التي تثبت، وما عداها لا يثبت، إلا الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى؛ لأن أسماء الله التي وردت في الكتاب والسنة تتضمن كل كمال، وما يرد على أذهان البشر أو على ألسنتهم أو خواطرهم من أي معنى من معاني الكمال بأي لغة وبأي لهجة أو بأي لفظ، فإن في الكتاب والسنة ما هو أوفى منه، وكل معنى من معاني الكمال يرد في أذهان البشر، فلابد من أن يكون في مفردات أسماء الله تعالى ما يفي به وزيادة.
إذاً: لا حاجة إلى ابتداع أسماء جديدة، وإن كان بعض أهل العلم استنبط من بعض أفعال الله تعالى ومن بعض صفاته أسماء، فهذا محل خلاف قد يسع الكلام فيه، لكن ما عدا ذلك لا يجوز.
ومسألة الصفات كذلك، فالصفات هي ما قرر السلف أنه صفات، ويبدو لي أن الخلط عند السائل جاء من بعض أفعال الله تعالى التي وردت، فهل كل أفعال الله تثبت منها الصفات؟ لا، فليس كل فعل يرد عن الله تعالى يثبت منه صفة؛ لأن هناك من الأفعال ما يدل على مظاهر قدرة الله تعالى في خلقه، فلا يعني بالضرورة إثبات صفة، إلا الصفات العامة مثل القدرة والخلق والإيجاد وغير ذلك، فهذه صفات عامة، وترجع إليها كل معاني أفعال الله تعالى، أما أن نثبت من أي فعل صفة -كالهرولة مثلاً-؛ فالصحيح والراجح عند أهل العلم أنه لا يلزم أن نثبت صفة الهرولة صفة مستقلة، وإن كانت هذه محل نزاع لأنها وردت، لكن إن أثبتت فتثبت لله تعالى على ما يليق بجلاله، لكن الأولى ألا نثبت من كل فعل صفة، فبعض الأفعال تثبت منها صفات وأسماء، وبعضها لا يلزم أن نثبت منها صفات وأسماء، كالسكوت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال عن الله تعالى: (وسكت عن أشياء رحمة بكم)، فهذا فعل من أفعال الله، والسكوت هنا بمعنى أن الله لم ينزل فيها تشريعاً، فلا يثبت من هذه اللفظة صفة.(19/3)
بيان سبب سؤال موسى ربه أن يراه
السؤال
عندما سأل موسى عليه السلام الله سبحانه وتعالى أن ينظر إليه، كما قال تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ألم يكن عليه السلام مؤمناً بأن الله موجود؟
الجواب
موسى عليه السلام ما طلب النظر لإثبات وجود الله، فموسى عليه السلام يعرف أن الله يرى يوم القيامة، وأنه يكلم عباده، ويعرف أن هذا من نعيم الله لخلقه، يعرف أن من أعظم النعيم الذي وعد الله به أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- من أن يروا ربهم، وهذا نعيم عظيم لا يعدله أي نعيم، بل هو أعظم من نعيم الجنة، فموسى عليه السلام يعرف أنه يرى ربه يوم القيامة، ويعرف أنه يكلمه ربه يوم القيامة، فلما كلمه ربه طمع في الرؤية، وموسى طماع في الخير فقط، ليس الأمر أكثر من ذلك، ولا يشك في وجود الله، فكيف يشك والله يكلمه؟! فإنه طلب النظر والرؤية عند التكليم، فلما كلمه ربه طلب الرؤية، فلا يمكن أن يرد بحال من الأحوال أن المسألة نتجت عن شك.(19/4)
بيان أن إطلاق (الصانع) على الله من باب وصف فعل الله
السؤال
إذا كان يجوز إطلاق الصانع على الله من باب الصفات، فكيف يجوز ذلك والصفات توقيفية؟
الجواب
أنا ما قلت: من باب الصفات، قلت: من باب وصف فعل الله، فما قلت: إن الصانع صفة لله، ما قلت هذا، أنا قلت: قد جوز بعض أهل العلم إطلاق الصانع من باب وصف فعل الله تعالى، من باب الوصف لا الصفة، ففرق بين الوصف والصفة، الوصف يندرج بألفاظ كثيرة، والصفة لفظة محددة، والأصح أنه لا يطلق على الله من الصفات إلا ما ثبت، ولا من الأسماء إلا ما ثبت، أما الوصف وتقرير وصف الاسم ووصف الصفة، أو شرح الصفة وشرح الاسم؛ فهذا قال به بعض أهل العلم، كشرح الأول بالقديم الذي ليس له ابتداء، فبعض أهل السنة والجماعة شرح كلمة (الأول) من أسماء الله تعالى بأن معناها القديم الذي ليس له ابتداء، فهذا من باب شرح الاسم، وكذلك الصانع لعلها من باب شرح معنى الخالق، أو لمقابلة الكلمة عند المتكلمين.(19/5)
أحاديث الآحاد قطعية الدلالة في العقائد
السؤال
نرى في كثير من كتب الأصول أن أحاديث الآحاد ظنية في الأحكام والعقائد؟
الجواب
هذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة، فأحاديث الآحاد قد تكون ظنية أحياناً في الأحكام وقد لا تكون، لكن في العقائد لا يمكن أن تكون ظنية؛ لأن أحاديث الآحاد إذا ثبتت واعتقدنا صحتها فلابد من أن نعتقد ما جاء فيها، والتفريق بين حديث الآحاد وغيره في العقائد بأنه ظني أو غير ظني تفريق حادث، وهو وسيلة من وسائل المتكلمين ومن معاولهم التي استعملوها.(19/6)
الشك في وجود الله قليل في الناس
السؤال
قلت: إن الشك لا يكون إلا في أفراد من الناس، ولا يكون في أمة أو جماعة، فكثرة العصاة والفسقة من المسلمين أليست دليلاً على شك كثير من المسلمين، أي أن إيمانهم بالبعث واليوم الآخر إيمان ظني ليس إيماناً جازماً؟
الجواب
أنا ما تكلمت عن الشك في اليوم الآخر، إنما قصدي الشك في وجود الله وربوبيته، وأما ارتكاب المعاصي والآثام والجرائم فلا يعني الشك في الله، إنما قد يكون ضعف إيمان، وقد يكون معصية، وقد يكون رفضاً لدين الله حتى ممن يؤمن بوجود الله، فهناك من يرفضون الدين لهوى، أو لشبهات، أو يرفضون الدين لأغراض شخصية أو غير شخصية، أو لمذاهب يعتنقونها أو لأفكار، فقضية رفض الدين موجودة -ولا شك- عند الكثير، حتى في المسلمين لا تزال فئات ترفض الدين، وممن يرفض الدين العلمانيون الذين يهيمنون على السلطات في أكثر العالم الإسلامي، فهؤلاء يرفضون الدين ويؤمنون بوجود الله.(19/7)
أهمية تقوية الإيمان بالله ووسيلة ذلك
السؤال
ألا ترى أن الدعاة يركزون على تقوية الإيمان بالله واليوم الآخر ويزاد التأثر بالنظرية الغربية؟
الجواب
بعض الناس يريد أن يقوي إيمانه، وهذا أمر جيد، لكن لا يكون بمسألة تقرير وجود الله، وتقرير أن الله هو الرب، فهذا أمر بدهي، أفي الله شك؟! لكن يكون الوعظ في مسألة تقوية هذا الإيمان وما يزيده وما يوقظه في القلوب، هذا هو المطلوب.(19/8)
حماية قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
سمعت أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مرفوع وأن عليه قبة حديد، فإذا كان ما سمعته صحيحاً، فهل يجوز هذا؟
الجواب
القبر ليس بمرفوع، قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال في الأرض ولم يرفع منه شيء، إنما بنيت حوله أبنية، والأبنية أنواع، منها ما بني حماية للقبر بعدما همت طائفة من الرافضة في القرون السالفة أن تنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فحفرت خندقاً حتى كادت تصل إلى القبر، فأوقظ بعض الصالحين من المسلمين برؤيا، وتبينت المكيدة، فبعد ذلك حمي القبر بسياج من أسفله من نواحيه البعيدة عنه، ولا تزال هذه الحماية، أما البناء فوقه فلا يعني أن القبر مرفوع، فهذه القبة بنيت فيما بعد.(19/9)
الموقف من دخول قبر رسول الله وصاحبيه في المسجد ومن قبة الحديد فوقه
السؤال
ذكرت أن وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فيه شبهة، فما الحل لهذه المشكلة، هل يهدم المسجد أم ينبش القبر؟
الجواب
هذه مشكلة واجهها المسلمون منذ زمن، وواجهها أيضاً أهل السنة والجماعة، خاصة بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولهم فيها موقف معروف، والقبة من حيث وجودها ليست شرعية، لكن مسألة هدمها ربما ينبني عليها مفسدة أكبر، والله أعلم، وعلى أي حال فالمشكلة كبيرة وتحتاج إلى عرض على أهل العلم.(19/10)
إمكان حصول الضلال بعد الهداية
السؤال
هل يضل الإنسان بعد الهداية، حيث إن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]؟
الجواب
نسأل الله العافية، فقد يضل الإنسان، والمضلات كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من المضلات، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فمسألة الانتكاس بعد الهداية واردة، فلذلك يسأل المسلم ربه دائماً الاعتصام بالحق.(19/11)
تنبيهات في إنكار المنكر
السؤال
متى يجوز الإنكار بشكل علني في الخطابة؟
الجواب
مسألة الإنكار مقيدة بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقواعد الإنكار التي تراعى فيها بالدرجة الأولى القواعد العامة للشرع، وليس جزئيات النصوص، وهي درء المفسدة وجلب المصلحة، وأيضاً ارتكاب أخف الضررين، وترجيح جلب المصلحة أو ترجيح درء المفسدة إلى غير ذلك من القواعد، فالإنسان ينبغي له إذا أراد أن ينكر أن يراعي القواعد العامة ويستشير أهل العلم، لابد أن يستشير أهل العلم، ولا يأخذ بجزئيات النصوص؛ لأن هناك نصوصاً تأمر بالصبر وعدم الإنكار، وهناك نصوصاً تأمر بالإنكار إلى حد أنه لو أخذ بها الإنسان بدون فقه لوصل إلى حد التهور، فلابد من الجمع بين الأمرين، فالمسلم لا يترك الإنكار، لكن ينبغي أن يعرف ما يترتب على إنكاره.(19/12)
حكم قراءة الفاتحة على روح الميت
السؤال
ناقشت أحد الشيعة حول قراءة الفاتحة على روح الميت، فكانت حجتهم أنه ترد روحه فيسمع ويستبشر بذلك، فما الرد عليهم؟
الجواب
هذه بدعة، وليست عند الشيعة فقط، بل عند أكثر أهل البدع من القبورية وغيرهم.(19/13)
نصيحة تجاه أفعال أصحاب محلات الدعايات والتصوير
السؤال
ما هي نصيحتكم لنا تجاه أصحاب محلات التصوير والدعايات؟
الجواب
ينبغي أن ينصح أصحاب الدعايات، خاصة أصحاب المؤسسات الذين يتوسم فيهم الخير، وحتى الذين لا يتوسم فيهم الخير، فينبغي إقامة الحجة عليهم، ويوضح لهم أن هذا باطل، فالفكرة هي من باب الإنكار الذي يجب على الناس.(19/14)
حكم اقتناء التلفاز
السؤال
التلفاز صنم هذا العصر، فما حكم اقتنائه؟
الجواب
جملة ما قيل فيه أنه جهاز من الأجهزة، وهو بحسب استعماله وما يرد فيه.(19/15)
بيان وجه الرد على المتكلمين في استدلالهم بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
السؤال
يذكر في الرد على المتكلمين في استدلالهم بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما بعد وجودهما آلهة إلا الله لفسدتا، فأرجو بيان هذا الرد؟
الجواب
يقول الشارح: إن قوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] دليل على أن الفساد بعد الوجود، وأن الموجد واحد، ولم يرد في الآية أن الموجد أكثر من واحد، إنما افترض فيها ما جادل فيه المشركون من أن المعبود أكثر من واحد، وهذا ما أراد أن يصل إليه، فقوله: (لفسدتا) يعني: السماوات والأرض، فالآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، دليل على أنهما موجودتان من قبل، وأن وجود الإله الثاني طارئ، والإله الأول هو الخالق وهو الذي أوجد، فكأنه يقول: الفساد لابد من أن يكون بعد وجود، ولا يكون الفساد في العدم؛ لأن العدم غير قابل للفساد، فكأنه يقرر بذلك أن الوجود متقرر عقلاً وليس فيه جدال، إنما الجدال في وجود إلهين فقط، والإلهين يراد بهما المعبودان.
فالآية تقرر أمراً بعد الوجود؛ بدليل قوله: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]؛ لأن الفساد لا يكون إلا للموجود، ولو كانت الآية تقرر الوجود ابتداء من العدم؛ فإن المعدوم لا يقبل أن يوصف بالفساد ولا بغير الفساد؛ لأن الفاسد هو الموجود الذي يقبل الفساد بعد الصلاح، فكأن قوله: (لفسدتا) يعني أن وجودهما من خالق واحد ليس محل نقاش ولا جدال، إنما الجدال والنقاش في أن يكون للمخلوقات مدبران أو إلهان، وهذا لا يتأتى بعد الوجود، فإن الموجد الأول لابد من أن يكون هو المدبر، ولو كان هناك من يدبر غير الله سبحانه وتعالى لاختلفا في التدبير وفسدت السماوات والأرض، والفساد لا يكون إلا بعد الوجود، والوجود لا يكون إلا بموجد واحد، ومادام الموجد واحداً فالمتصرف واحد؛ لأنه لو كان معه متصرف آخر لفسدت السماوات والأرض، ومادام أن الموجد واحد والمتصرف واحد؛ فالمستحق للعبادة واحد، وهو الواحد سبحانه.(19/16)
محبة العاصي لله وما له منها
السؤال
هل يمكن أن يكون من أهل المعصية حب لله ولرسوله؟
الجواب
نعم يمكن أن يكون من أهل المعاصي حب لله ولرسوله، ولم لا؟! فالعاصي قد يحب الله ورسوله، والأدلة في هذا متضافرة، والمفروض أن يبحث عن العكس، فإن ورد في ذهن أحد أن العاصي لا يحب الله فليورد الدليل، فالمعصية لا تخرج الإيمان من المؤمن، وكذلك لا تعني إلغاء الحب لله بإطلاق، لكن لا يكون كمال الحب إلا بكمال الطاعة، وهذا صحيح، فكمال الحب لله تعالى لا يكون إلا بكمال الطاعة، ومن أخل بكمال الطاعة نقص حبه لله سبحانه وتعالى بقدر ارتكابه للمعاصي والهوى.(19/17)
حكم إطلاق كلمة (تخليق) على فعل الآدمي
السؤال
ترد كلمة (تخليق) على ألسنة بعض أساتذة الجامعة بقولهم: نستطيع تخليق مادة في مادة.
فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا خطأ لا يجوز، فكلمة (تخليق) و (خلق) لا يجوز أن تطلق على غير الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مهما فعل البشر فأفعالهم لا تتعدى الاستفادة من عناصر الخلق التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن تتعدى ذلك، ولا يوجدون شيئاً من عدم بإطلاق، وهذا باعترافهم، لكن تساهل الناس في هذه الكلمة، فكلمة (خلق) لا ينبغي أن تطلق على غير فعل الله.(19/18)
مرور الكفار على الصراط
السؤال
ما صحة القول بأن الكفار لا يمرون على الصراط، بل يدخلون النار مباشرة؟
الجواب
ليس هذا بصحيح، الكفار يسقطون من الصراط في جهنم، هذا الذي يظهر، لكن إن كان هناك نصوص أخرى تدل على أن طوائف من الكفار يدخلون النار بدون المرور بالصراط فهذا ليس عندي منها علم الآن.(19/19)
بيان معنى أن صفات الله قديمة النوع حادثة الآحاد
السؤال
ما المقصود بأن صفة الله قديمة النوع حادثة الآحاد؟
الجواب
المقصود به: أن بعض صفات الله تعالى -وهي الصفات الفعلية- قديمة النوع، بمعنى: أنها صفات لله لازمة منذ القدم وإلى الأبد، مثل صفة الكلام، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى متصف بالكلام، والكلام كمال، والقدرة على الكلام كمال، فالله متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى الأبد، لكن آحاد الكلام حادثة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى، فهذا كلام حدث في وقت معين، ثم كلام الله بالتوراة وكلام الله بالقرآن أيضاً حادث الآحاد، بمعنى: أنه كان من الله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ثم إن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، وسيتكلم يوم القيامة كما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه ينادي عباده نداء عاماً ونداء خاصاً، فالنداء العام نداء لجميع الخلائق يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، ونداء خاص لكل عبد يناديه ربه ويناجيه للحساب.
إذاً: فالله سبحانه وتعالى يتكلم، وهذا معنى قدم النوع وحدوث الآحاد.(19/20)
بيان سبب طرد بعض أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض
السؤال
هناك من يذاد عن الحوض، لكن لا ندري لماذا؟
الجواب
بل ندري؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا، حيث ذكر أن هناك ناساً من أمته يذادون عن الحوض، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك!).(19/21)
الموقف من تكفير الشيعة
السؤال
هل الشيعة الموجودون الآن كفار جميعاً؟
الجواب
لا نستطيع أن نكفرهم، لكن الشيعة أصولهم أصول كفر، ولا شك في ذلك، وخذ أي أصل من الأصول ابتداء من قضايا الإيمان، ثم مصادر التلقي، ثم الصحابة وغير ذلك فستجد أنهم قالوا فيه بما يلزم منه الكفر، لكن هل كل شيعي كافر؟ هذه المسألة لا يجوز أن نقولها حتى نتثبت.(19/22)
مدى صحة القول بوزن البطاقات والصحف في الميزان يوم القيامة
السؤال
ألا يدل حديث البطاقة على أن البطاقات والصحف توزن أيضاً في الميزان؟
الجواب
هذا صحيح، فالبطاقة تعني البطاقة التي فيها الشهادتان أو غيرهما من الأعمال الصالحة.(19/23)
حكم الشهادة للمسلم بالجنَّة
السؤال
ما معنى قولكم: نشهد للمسلم بالجنة شهادة مطلقة؟
الجواب
يعني: شهادة غير منطبقة على الأفراد، فنشهد للمسلمين بالعموم، بل نشهد لكل مسلم شهادة مطلقة، وهي التي لا تقيد بالجزم أو بالحلف أو بالاعتقاد، فكل مسلم بمفرده نشهد له بالجنة إذا كان من أهل الخير والاستقامة، لكن شهادة عامة؛ لأن الله أشهدنا، وجعل العباد من شهود الله في أرضه، فالشهادة العامة غير الجزم، فلا يجوز أن نجزم بأن فلاناً الذي مات من أهل الجنة، إلا إذا كان ورد ذكره في الكتاب أو السنة باسمه أو وصفه الذي يدل على شخصه.(19/24)
كيفية البعث عند ابن سينا
السؤال
ما هي تقريرات ابن سينا في اليوم الآخر؟
الجواب
ابن سينا فيلسوف أراد أن يقرب بين الفلسفة الإلحادية اليونانية وبين الإسلام، وأن يصوغ الإسلام بصيغة فلسفية، فكان مما تعرض له اليوم الآخر، والفلاسفة لا يؤمنون باليوم الآخر، فأراد أن يقرب المسألة فقرر كلاماً مؤداه أن البعث لا يكون للأجساد، ولا يكون للحسيات وجود يوم القيامة، فكل الأمور في يوم القيامة معنوية والبعث للأرواح، هذا مؤدى قوله.(19/25)
الموقف من القول بأن الحديث في أسماء الله وصفاته مظهر من مظاهر التنطع في الدين
السؤال
من الكتاب المحدثين من يرى أن الحديث في أسماء الله وصفاته وفي القول بأن القرآن منزل أو مخلوق من مظاهر التنطع والغلو في الدين؛ لأنها ظهرت في مناسبات خاصة، ويجب أن تنتهي بزوال مناسباتها الخاصة، فما صحة هذا الرأي؟
الجواب
المبالغة في تقرير الصفات في كل مجلس وعند العوام وعند من يفهمون ومن لا يفهمون، وامتحان الناس بهذه المسألة؛ هذا أمر فيه نوع من التنطع إذا كان القصد المبالغة في الكلام في أسماء الله وصفاته وفي امتحان العامة وغير العامة، وجعله مقياساً لعقائد المسلمين الذين لا يحيطون بهذه العلوم ولا يدركونها على جهة التفصيل، والحديث عن ذلك على المنابر عند من يفهم ومن لا يفهم، فإذا كان القصد هذا فهذا صحيح أن فيه نوعاً من التنطع والغلو في الدين، وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما تحدث الناس عن بعض هذه الأمور في صفات الله تعالى بأكثر مما تدركه عقول العامة نهى عن ذلك وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! فتحميل الناس ما لا تدرك عقولهم، والحديث في أسماء الله وصفاته تفصيلاً عند العوام وأشباه العوام من الأحداث والشباب الذين لم تكتمل مداركهم وعلومهم في الدين، وكذلك الذين ثقافتهم الشرعية ضحلة، حتى وإن كانوا من المفكرين والكبار، كل ذلك لا ينبغي، فهؤلاء لا ينبغي أن يخاض عندهم في أمور لا تستوعبها عقولهم، إنما يعلمون الدين تدريجاً.
وإذا كان يقصد أننا لسنا بحاجة إلى تقرير أسماء الله وصفاته كعقيدة فهذا باطل، فلابد من تقريرها ولابد من تقريرها في الدروس العلمية وفي الجامعات وفي المدارس، وأن يعلم ذلك من يريد أن يتعلم، وأن يبين للجاهل ويخطأ المخطئ، وأن يرد على أصحاب الابتداع والفرق الذين أخلوا بعقيدة الأسماء والصفات وبمسائل العقيدة، كقولهم: القرآن مخلوق، فرد ذلك لابد منه، ودعوى أن هذه مسألة لا تثار ليست صحيحة، فهذه المسائل الآن تثار من قبل أصحاب البدع، وهي مثار تضليل للمسلمين، أما الاستهزاء فهناك من طوائف الحداثيين والعلمانيين وغيرهم من يستهزئون بأسماء الله وصفاته من خلال ما يدور وما يقال وما يعتقد وما يدرس لأبناء المسلمين، وهناك أيضاً من يثير عقائد الفرق في أسماء الله وصفاته بين تأويل وتعطيل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، وهناك أيضاً من يثير قضايا القرآن والرؤية، وقد ألفت في هذا كتب، وظهرت البدع من جديد وأخرجت أعناقها، فلابد من تقرير هذه الأمور عند طلاب العلم، ولابد من تفقيه المسلمين في دينهم في هذه المسائل؛ إذا كانوا ممن يدرك هذه الأمور ويستطيع أن يستوعب أنها أصول الدين، أما من لا يدرك فيعفى من الحديث عنها، وتبين له العقيدة إجمالاً، ويعود التسليم بهذه الأمور تسليماً فطرياً نقياً لا حاجة إلى التفلسف فيه أو الزيادة على مداركه.(19/26)
بيان ما يحمل عليه كلام الإمام أحمد في الثبات على نفي خلق القرآن في حين اشتداد المحنة على الناس
السؤال
في الظرف الذي مر به المسلمون في عهد المأمون ألم يجز لعامة الناس القول بخلق القرآن للضرورة؟ وهل قول الإمام أحمد: (ولا تضعف عن قول: القرآن ليس مخلوق) إلى آخره.
أمر للعامة بعدم القول بخلق القرآن؟
الجواب
مرت ظروف صعبة على العامة وعلى غير العامة، وامتحن في ذلك العلماء وطلاب العلم، ووضع السيف على رقابهم، فكثير من أهل العلم تأول لأجل أن تسلم حياته، وهذه ضرورة هم معذورون فيها، فالعامة من باب أولى، وهذه فتنة عظيمة مرت -بحمد الله- بانتصار السنة، لكنها عظمت في وقتها وفتن بها الناس، أما كلام الإمام أحمد فربما كلم به طلاب العلم، وربما كان قبل أن تصل الفتنة إلى أوجها، والله أعلم.(19/27)
حكم ضرب الأمثال في بعض أمور الغيب لتفهيم السامع
السؤال
نسمع بعض الأمثلة التي تضرب في بعض أمور الغيب من أجل تفهيم المستمع، كمن يضرب المثل لمن أطاع الله بالعبد المطيع لوليه، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا مانع من ضرب الأمثلة لطاعة الله، ولا مانع من تقريب الأمور بالأمثال، ما لم يكن في المثل إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى أو استنقاص للأمر المضروب له المثل، فإذا كان المثل مطابقاً جيداً مفهماً، فيه البيان وليس فيه ما يخل، ولا فيه سوء أدب أو استنقاص لأسماء الله وصفاته فلا مانع منه، لكن الأمثال في أسماء الله وصفاته لا تضرب، فلا تضرب مثلاً لله، بل تضرب الأمثال في الخلق وفي خصائص الخلق، أما في ذات الله وأسمائه وصفاته فلا تضرب الأمثال أبداً.(19/28)
القول بخلو القرآن من أدلة كونه كلام الله مرض وشك
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: إنه لا يوجد لديه أدلة على أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وهو يدرس مادة علوم القرآن؟
الجواب
هذا عنده شيء من الشك، وإذا كان بهذا المستوى فهو مريض يحتاج إلى علاج، فأرجو من السائل أن يدلنا على هذا الشخص لنصحه -إن شاء الله- والبيان له، فكونه لا يجد دليلاً على أن القرآن منزل وهو يقرأ القرآن مصيبة، وكذلك إذا لم يجد ما يدل على أن القرآن ليس بمخلوق! فعلى كل حال ربما هذا اشتبهت عليه أدلة المخالفين، فبعض الناس قد يقرأ في استدلالات المعتزلة وبعض أهل الكلام القائلين بأن القرآن مخلوق، واستدلالاتهم -في الحقيقة- فيها تلبيس عظيم، وفيها فتنة، وقد ظهرت أخيراً على ألسنة بعض الكتاب والمشاهير من أتباع الفرق، وقد قرأنا كتباً متأخرة في هذا، ولا أحب أن أذكر اسم الكتاب لأني أخشى أن أروج له، لكن مثل هذا الكتاب لو قرأه طالب علم غير متخصص في العقيدة لم يسلم من الفتنة؛ لأن فيه تلبيساً عجيباً، وفيه إغفال وإهمال لأدلة الحق، وإبراز وتلميع لأدلة الباطل بشكل عجيب ومؤثر وجذاب، وبأسلوب فيه رقة وفيه إشفاق وفيه نصح، فمثل هذا الشخص أخشى أن يكون قرأ مثل هذا الكتاب، وكتب المعتزلة طافحة بهذه الأمور، فينبغي للسائل -جزاه الله خيراً- أن يبين لنا من هذا الشخص لعلنا إن شاء الله نبين له الحق بقدر ما نستطيع.(19/29)
حكاية كلام الأولين لا تعني نسبة كلام الله إليهم
السؤال
مما لا شك فيه ولا يتنازع فيه عاقلان أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، لكن كيف نرد على من يقول: ما تفسيرك لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [يوسف:4] إلى آخر الآية، أليس أصل هذا الكلام كلام يوسف؟
الجواب
حكاية كلام يوسف هي الواردة في الآية، وليس كلامه بنفسه، فهل يوسف عليه السلام هو الذي نطق بآية في القرآن، أم أن الله حكى عنه كلامه؟! إن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكى عنه كلامه، فما الإشكال؟! وعلى كل حال أرجو ألا يكون عند السائل إشكال، ولعله أراد المزيد استدلالاً على القول الحق.(19/30)
نصيحة لمتعمق في البحث في مسائل القدر وعلله
السؤال
لقد أكثرتُ من البحث فترة من الزمن في القدر وعلله، وأقلقني البحث، وكلما اتضح لي إشكال تولد عنه عدد من الإشكالات، وقد تعلقت ببعض المباحث في كتاب طريق الهجرتين، فأغرق بي في المباحث الكلامية، فأريد منك أن تدلني على كتاب بحث في القضية بشكل مرض ميسر؟
الجواب
أنصح الأخ أن يكف عن القراءة في هذا الموضوع إطلاقاً، وإذا كف فوجوه العلاج لما يجد في نفسه كثيرة جداً، أهمها الانصراف إلى أمور أهم في حياته، والانصراف إلى كتب العقيدة التي تقرر الأصول إجمالاً دون خوض في أمور القدر.
والأمر الآخر: أنه يجب أن يقر بالقواعد الأصلية ولا يتجاوزها، يجب أن يستحضرها مرة أخرى، وهي الإيمان بالقدر من الله سبحانه وتعالى خيره وشره، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن القدر سر الله في خلقه، لا يمكن أن يفسر ولا أن تفسر ألغازه، وكلما تمادى الإنسان في البحث عن مشكلات القدر ازداد إشكالاً.
فأنا أنصحه بأن يأخذ بقواعد التسليم الأولى في القدر التي كتبت عند أهل العلم وسطرت، وهي مقتضى حديث أصول الإيمان، وليصرف النظر عن التمادي في هذا، وبإذن الله ستنحل هذه المشكلات، أما أن يتمادى في البحث عن الكتب في القدر فأنا لا أرى هذا.
وكتاب (شفاء العليل) للشيخ ابن القيم من أحسن الكتب التي تبين هذا الأمر.(19/31)
الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن
السؤال
ما هي الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن؟
الجواب
الفرق بين قول أهل السنة والجماعة: القرآن منزل وهو كلام الله تعالى، وبين القول بأن القرآن مخلوق يترتب عليه أمور كثيرة: أولها: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق؛ فالمخلوق ناقص، ودلالاته ناقصة، وقداسته أقل، فيكون القرآن والإنسان شيئاً واحداً، بل ثبت أن الإنسان أكرم المخلوقات، فعلى هذا يكون القرآن دون الإنسان في الكرامة، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن قداسة القرآن أقل، وأن دلالاته أقل، وأنه يجوز للإنسان أن يتكلم فيه، وإهانته ليست بالقدر الذي يكون لو كان كلام الله، وكل ما يترتب على إكرام القرآن وقداسته وقداسة الاستدلال به واحترام المسلمين له؛ كل ذلك يسقط؛ إذ المخلوق ليس له هذه المكانة والقداسة، هذا أمر.
الأمر الآخر: الدلالة نفسها، فإذا قلنا بأن القرآن مخلوق؛ فهذا يعني أنه كلام البشر، وإذا قلنا: إنه كلام البشر؛ فهو ترجمة لمعاني ما يريده الله، والترجمة لمعاني ما يريده الله ليست هي ما يريد الله، إنما هي تعبير البشر الناقص، والبشر يعتريه السهو والنقص والخلل إلى آخره، وليس بكامل كمالاً مطلقاً مهما كان، فإذا قيل: إنه ليس بكلام الله؛ فهذا يعني أنه كلام الناس، ومن هؤلاء الناس؟ الله أعلم، أو أنه كلام المخلوقين، ومن هؤلاء المخلوقون؟ الله أعلم، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن الاستدلال به أقل، وقوته في الدلالة أقل.
وهناك أمر آخر نتج عن القول بخلق القرآن، وهو اعتبار دلالات كلام الله تعالى أقل من دلالات العقل؛ لأن العقل هو آلة التمييز بين الضار والنافع، وبين الحق والباطل التي يستعملها الإنسان بنفسه، وهي عند المتكلمين أقوى من دلالة القرآن؛ لأن القرآن مخلوق والعقل مخلوق، والقرآن أمر زائد خارج عن الإنسان، وهو مخلوق، والعقل هو عقل الإنسان الذي يستخدمه، فعقله مقدم ومحكم، فنتيجة لذلك قالت المعتزلة: دلالة القرآن ليست قطعية، بل ظنية؛ لأنه مخلوق! بل الذين قالوا بأن العقل أقوى من النقل من غير المعتزلة كانت جرأتهم على القرآن بعد القول بأن القرآن كلام الله، فلذلك قالوا: العقل هو المحكم والعقل هو المقدم والعقل هو الميزان والعقل هو المرجع، وإذا تعارض العقل مع كلام الله تعالى؛ فالعقل هو المقدم؛ لأن كلام الله مخلوق عندهم.
ثم ترتب على هذا أيضاً أن قالوا بأن دلالة القرآن ظنية، فلما جاءت آيات الله في الرؤية قالوا: هذا أمر ظني؛ لأن القرآن مخلوق واعتبار دلالاته كاعتبار المخلوق، فردوا آيات الله الصريحة في الرؤية؛ لأن منزلة القرآن عندهم أقل مما ينبغي، وهكذا؛ كل ذلك إضافة إلى أنه رد صريح لألفاظ كلام الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى نزل القرآن، وآيات الإنزال والتنزيل في القرآن كثيرة جداً، وأيضاً التصريح بأنه كلام الله، كقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فالقول بأنه مخلوق معارضة صريحة لما ورد من أنه كلام الله في كلام الله نفسه، ولم ترد آية ولا دليل في أن القرآن مخلوق أبداً، إنما هي استدلالات في غير محلها.
فالمشكلة أنهم فسروا كلام الله بتفسيرات من عقولهم، فلهذا ينبغي أن نتعفف عن أقوالهم في كلام الله تعالى، ولا نتكلم عنهم بغير حاجة، لكن المهم أن القول بأن القرآن مخلوق أدى إلى تقليل منزلة القرآن والحط منها تقديساً ومنهجاً واستدلالاً، وحصل ما حصل من تخطي القرآن إلى الاستدلال بالعقل.(19/32)
بيان المقصود بشهادة الواقع على وحدانية الله جل جلاله
السؤال
ماذا تقصد بشهادة الواقع على توحيد الله، هل هي السنن الكونية والتغيرات؟
الجواب
أردت بذلك حياة الإنسان كلها وما حوله، فالواقع أشمل من أن يكون وقوفاً عند آيات بينات معينات، فالواقع كله ناطق بالشهادة لله سبحانه وتعالى، حتى ما يجري للإنسان وما يجري للكون وما يجري للمخلوقات من أحداث ومن تغيرات ومن موت ومن حياة، كل ذلك شاهد على أن الله شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وكلمة (الواقع) جامعة لبعض الدلائل التي ذكرت من قبل.(19/33)
تكليم الله لعباده وعلاقة ذلك برؤيتهم له
السؤال
قلت في معرض الكلام عن الرؤية: إنها مصاحبة للكلام، فهل هذا يكون دائماً؟
الجواب
الله أعلم، لكن أنواع الرؤية التي وردت في الشرع مقرونة بالكلام، ولذلك لما كلم الله موسى طمع موسى في الرؤية، والأنبياء يعرفون العقيدة جملة وتفصيلاً، لا كما يظن بعض الهلكى من المتصوفة والمفكرين؛ فالأنبياء يعرفون العقيدة جملة وتفصيلاً، وهم أعرف الناس بربهم، فلذلك لما كلم الله موسى طمع موسى عليه السلام في أمر كان يعرف أنه يصاحب التكليم، وهو الرؤية، وإلا لما كان لموسى أن يسأل أمراً لا يجوز السؤال عنه، فموسى عليه السلام كان يعرف أن الكلام قد يصاحبه رؤية، وأن من كلمه الله فيمكن أن يرى ربه، فلذلك طمع فطلب رؤية الله تعالى، فقال الله له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] إلى آخر الآية، بمعنى: أنك لا تقدر على ذلك في هذه الدنيا.
والنصوص التي ورد فيها التكليم في المحشر ورد فيها ما يدل على الرؤية، وكذلك ورد أن المؤمنين حينما يرون ربهم في الجنة يوم القيامة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم، وأن نرى ربنا ونتنعم بهذه الرؤية- يكلمونه ويكلمهم سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، أما أن يكون ذلك أمراً مطرداً فالله أعلم، بل ورد -التكليم كما في قصة موسى- في الدنيا بلا رؤية، ولذلك فالذين نفوا الرؤية العينية من السلف استدلوا بمثل هذا الدليل، فقالوا: لو جازت الرؤية لجازت لكليم الله تعالى وقد كلمه ربه في الدنيا، أما ولم يكن ذلك مع وجود التكليم؛ فهذا دليل على أن الرؤية بالعين مستحيلة، أما الرؤية القلبية فهي رؤية بمعنى آخر الله أعلم بها.(19/34)
الجمع بين نص رؤية الناس ربهم في المحشر ونص حجب الفجار عن الرؤية
السؤال
كيف يجمع بين ما ذكر من رؤية جميع البشر مؤمنهم وكافرهم ربهم في المحشر، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟
الجواب
السلف أجابوا عن مثل هذه الآية، وقالوا: إن الاحتجاب لا يكون إلا بعد رؤية، والاحتجاب يكون حينما يفصل الله بين الخلائق، ويذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، فهنا يحتجب الله عن الكافرين فلا يرون ربهم، وتكون الرؤية خاصة للمؤمنين، وهي رؤية التنعم، فلذلك قال الشافعي ما معناه: إنه إذا احتجب عن الكافرين في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه تعالى في حال الرضا.
فالسلف قالوا: بأن الاحتجاب لا يكون إلا بعد رؤية أو إمكان رؤية، وإلا فلماذا يكون الاحتجاب؟! فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يره الكفار في المحشر لما كان لمعنى الاحتجاب مفهوم، ولو كانت الرؤية مستحيلة بإطلاق لما كان لمعنى الاحتجاب مفهوم.
فهذه الآية يجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة التي وردت في الكتب الصحيحة وفي غيرها بأن الناس يرون ربهم في المحشر، فلابد من الجمع بينها وبين الآية، والجمع يعني: أن الناس يرون ربهم أولاً جميعاً، ثم بعد ذلك يراه المؤمنون ويحتجب عن الكافرين، هذا الجمع بين الأدلة.(19/35)
الجمع بين كون الدجال في جزيرة في البحر وكونه سيولد من أم
السؤال
في حديث تميم الداري: أن الدجال مكبل في البحر في جزيرة، وذكر في حديث آخر أنه يولد من أم ذكرت صفاتها، فهل في هذا تعارض؟
الجواب
مسألة الدجال من المسائل الغيبية، والدجال لا شك في أن أمره أمر خارق للعادات، ولا يخضع لمقاييس البشر وموازينهم في أمور الدنيا؛ لأنه ورد من صفاته أنه يأتي بأمور خارقة ليفتن الله به الناس، وكونه موجوداً في البحر لا يتعارض مع كونه يخرج في آخر الزمان، ولا يتعارض مع الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ذكر أنه لا يبقى بعد مائة سنة أحد على الحياة، فهذه محصورة بمكان معين وعلى فئة معينة من الناس، فذلك أمر مستثنى، فلا يمنع من كونه وجد في جزيرة أن يخرج على الناس في آخر الزمان في طور آخر من أطواره، ولا يمنع ذلك -والله أعلم- أن يكون للدجال صور أخرى بين البشر، لا على أنه هو الدجال الذي يخرج في آخر الزمان، فلذلك تنازع الصحابة والمحققون من أهل العلم في مسألة ابن صياد: هل هو الدجال أو هو غيره؟ وهذه مسألة مشهورة لا تزال من المشكلات، فأئمة الدين الأعلام يعدونها من المشكلات التي تحتاج إلى نظر، ومع ذلك لم يصلوا فيها إلى نتيجة؛ لأن أمرها أمر غيبي، وابن صياد ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطبقت عليه صفات الدجال، فإذا قيل: إنه هو الدجال فهذا يعني أنه تشكل بشكل آخر أراد الله أن يختبر به جمهور الصحابة فنجحوا في الاختبار؛ لأنهم عرفوا أنه دجال وهجروه، لكن هل هو الدجال المشهور أو دجال من الدجالين؟ فبعض الصحابة يرى أنه هو الدجال بعينه ظهر بصورة من الصور، والله قادر على ذلك، ومن هؤلاء ابن عمر وحفصة أخته، وأبو هريرة وغيرهم من أئمة الصحابة؛ يرون أنه هو الدجال بعينه، لكن ليس هو الذي سيظهر في آخر الزمان بالصورة الأخرى، إنما هو شخصه ظهر في ذلك الزمان كدجال من الدجالين، فلذلك لما حصل بينه وبين ابن عمر مشاجرة وضربه ابن عمر حصل منه أمر مرعب؛ حيث انتفخ حتى كاد أن يسد السكة، وارتعب منه الناس، فلما علمت حفصة أنَّبَت أخاها، وقالت: أتريد أن تخرجه علينا؟! أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال في غضبة يغضبها)؟! أتريد أن تغضبه فتخرجه علينا؟! فما أنكر ذلك ابن عمر ولا أنكره الصحابة الذين سمعوا كلامها.
ولما علم الصحابة بأمره كادوا أن يقتلوه، حتى قال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أقتله، وكذلك غير عمر، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه، فقال لـ عمر: (إن يكن هو فلن تسلط عليه)، وفعلاً ما سلط عليه.
ولما بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبذه الصحابة وكانوا يكرهونه، ولذلك لما قيل: إنه تزوج؛ قال بعض العلماء: لا يعرف أنه تزوج زواجاً شرعياً، ولما قيل: إنه جاءه ولد، قالوا: إنه ولد ليس بشرعي، ولما قيل: إنه مات ودفن، مع أن الدجال لا يموت ويدفن في المدينة؛ قالوا: إنه لم يعرف مصيره، ولم يمت ولم يدفن، ولما حج أظهر الإسلام، وكأنه بذلك يريد أن يستريح من أذى المسلمين وهجرهم له، فذهب إلى مكة، ولما قرب من مكة خلا بـ أبي سعيد الخدري فشكا عليه حاله، وقال: إني أكاد أقتل نفسي، حتى رق له أبو سعيد، وقال: إن الناس يتهمونني وأنا بعيد عما يقولون؛ لأنهم زعموا أني الدجال، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الدجال لا يدخل المدينة ولا مكة، وهأنذا جئت من المدينة وأدخل مكة، أما تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدجال لا يولد له ولد، وها قد ولد لي ولد، والدجال ليس بمسلم، وأنا مسلم، يقول أبو سعيد: فرققت لحاله.
ولكن بعدما انتهى من هذا الحديث نكص على عقبيه، فقال: ومع ذلك -يا أبا سعيد - والله إني أدري من هو الدجال وأين هو.
والخلاصة: أن موضوع الدجال موضوع غيبي الله أعلم به، ويمكن أن يكون مكبلاً في الجزيرة، وفي الوقت نفسه يظهر للناس بصور أخرى؛ لأنه من أعوان الشيطان، لكن الدجال المعهود الذي يكون في آخر الزمان بصفات معينة وعلى وضع معين لم يظهر إلى الآن.(19/36)
الدليل على رؤية جميع الناس ربهم في أرض المحشر
السؤال
ما الدليل على أن جميع الناس -المؤمن منهم والكافر- يرون الله تعالى في المحشر؟
الجواب
حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم، وهو حديث طويل ورد عن أبي هريرة وعن أبي سعيد وعن غيرهما، والحديث صحيح لا غبار عليه، ومعروف عند أهل العلم، فيرجع إلى الصحيح ففيه نص الحديث ظاهراً، وللعلماء في شرحه كلام طويل، وهناك من قال بأن الرؤية العامة في المحشر ليست رؤية حقيقية كرؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ومع ذلك هناك رؤية، وكونها حقيقية أو غير حقيقية أمر غيبي، وهذا كله مما لا فائدة في البحث فيه.(19/37)
الجمع بين كون الحياة في القبر بالجسد والروح وما علم من كون الجسد يبلى ويفنى
السؤال
كيف تكون الحياة في القبر بالجسد والروح، والمعروف أن الجسد يبلى ولا يكون له أثر بعد سنوات من الدفن؟
الجواب
نعم الجسد يبلى، ومع ذلك يجعل الله سبحانه وتعالى للميت جسداً وروحاً، وربما يخلق جسده بخلق آخر، فالله أعلم، وهذه مسألة غيبية لا نعلم بها، وكوننا نرى آثار الرفات لا يدل على أنه ليس للميت حياة جسدية وروحية؛ لأن الأدلة في هذا قطعية، وأمور البرزخ لا تقاس بمقاييس الدنيا أبداً، وإلا لقيل: كيف نقول بأن الميت يضرب حتى كذا يكون عليه، وأن الميت إذا كان من أهل الجنة يفسح له مد بصره مع أن المقبرة كلها بأمواتها أقل من مد البصر؟! فهذه أمور لا تقال؛ فحياة البرزخ لا تخضع لمقاييس الدنيا أبداً، إنما هي خاضعة لقدرة الله تعالى، وقدرة الله لا حدود لها، ويجب علينا أن نصدق ونؤمن، وهذا معنى الإيمان بالغيب، ولو لم تكن هذه الأمور الغيبية مما لا يطيقه البشر ولا يدركونه لما صارت غيباً، ولما مدح المؤمن بها، فلو كانت مما يدرك بالعلم والمقاييس العلمية ما صار للإيمان بها أي أهمية، ولكان المؤمن وغير المؤمن فيها سواء، لكنها لا تخضع للمقاييس العلمية ولا لمقاييس الدنيا، ولا لأحكامنا نحن ولما نراه من آثار.(19/38)
شرح العقيدة الطحاوية [20](20/1)
اسم الله الشهيد وما تضمنه
السؤال
هل إطلاق اسم (الشهيد) على الله سبحانه وتعالى من باب وصف الفعل؟
الجواب
هذا اسم من أسماء الله تعالى، لكن يتضمن وصف الفعل.(20/2)
بيان حقيقة رؤية الله في المنام
السؤال
هل من الممكن أن يرى الله تعالى في المنام في الدنيا، وهل صحت رؤية الإمام أحمد كذلك؟
الجواب
رؤية الله في المنام ليست رؤية حقيقية، لا هي من مثل رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ولا هي من مثل رؤية الناس لربهم في المحشر، ولا هي من مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، ولا هي رؤية قلبية ولا رؤية عينية، إنما هي أضغاث أحلام، فإذا رأى الإنسان ربه في المنام، أو ادعى أنه رأى ربه فلا يصدق ولا يكذب، فربما تضرب له الأمثال، فالله سبحانه وتعالى قد يضرب لعبده مثلاً من باب الموعظة أو الرؤيا الصالحة، وأحياناً من باب الفتنة، فيبدو له في منامه أنه رأى ربه، وهذا مثل يضرب وليس رؤية حقيقية كبقية الأحلام، فالإنسان قد يحلم بأنه رأى يوم القيامة والمحشر وأنه رأى الجنة، لكن هذه أمثال تضرب، فهو لم ير الجنة على حقيقتها ولا على قريب من حقيقتها، وقلبه لم يقرب من الحقيقة، فكذلك رؤية الله في المنام أمر لا يقرر على أنه رؤيا حقيقية.
إذاً: فالخلاف فيها لا ثمرة له؛ لأنها أحلام، والأحلام لا حجر عليها، ومع ذلك ينبغي أن يتنبه إلى أنه قد يبدو الشيطان للإنسان في منامه على أنه هو الله، وهذا مما يفتن به أهل البدع، يتدرج بهم الشيطان فيزعم أنه ربهم، ونظراً لعدم فقههم في الدين، ولتأسيسهم دينهم على البدع؛ قد يشرع لهم الشيطان ويأمر وينهى على أنه هو ربهم، وقد يرون عرشاً على الماء، كما رأى ابن صياد، فيظنون أنه عرش الرحمن، وقد يرون جالساً على العرش وهو الشيطان، ويظنون أنه الرحمن، فهذه أمور كلها من باب الدجل، وهي فتنة لضعاف الدين ولأهل البدع، ومسألة أن الإمام أحمد رأى ربه وردت، لكنها محمولة على أنه رآه في الحلم، وليست رؤية حقيقية، لا قلبية ولا عينية.(20/3)
لزوم اعتقاد رؤية النبي ربه ليلة المعراج
السؤال
أليس القول والجدل في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه من الترف العلمي الذي لا فائدة فيه؟
الجواب
لا، ليس من الترف العلمي، فكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المعراج حق ولابد من الإيمان به، وتبقى مسألة الخلاف في هل هي رؤية عينية أو قلبية، فهذه من المسائل التي يسع الناس الاختلاف فيها، لكن هل لها ثمرة في الاعتقاد؟
الجواب
لا، فلا فرق بين أن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده -وهذا هو الراجح- وبين أن نقول: إنه رآه بعينه، والله سبحانه وتعالى قادر على ذلك، وإن كان هذا القول ضعيفاً وشاذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج رأى ربه في حالة خرق الله بها نواميس الكون، وليست على قواعد سنن الله في الكون، فلذلك صارت معجزة، ولولا هذا ما صارت من المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم.(20/4)
الجمع بين قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ونصوص إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً قط
السؤال
كيف نجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وما روي من أن الله يخرج من النار برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط؟
الجواب
أولاً: قاعدة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] سليمة ليس عليها مأخذ، وكون الله سبحانه وتعالى يأخذ قبضة من أهل النار فيخرج منهم من لم يعمل خيراً قط بعد أن تنتهي شفاعة الشافعين ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين مسألة توقيفية لا تخرق القاعدة الأولى، بمعنى أنه قد يكون هؤلاء ممن لم يعملوا خيراً قط، لكنهم ليسوا بمشركين، أو أن هؤلاء ما خرجوا باستحقاق يستحقونه، إنما برحمة الله سبحانه وتعالى وليس بالمغفرة، والرحمة غير المغفرة، وهناك توجيهات أخرى، وقد قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن الذين يخرجون من النار أناس من ذريات المشركين، أو ممن تابوا في آخر لحظة ولم يعملوا خيراً قط، وماتوا على أمر هو أقرب إلى الكفر، لكنهم استأنفوا حياة جديدة في حال الغرغرة، وغير ذلك من المعاني التي استنبطوها، وعلى أي حال فهذا بأمر الله وبقدرة الله، ولا تعارض بين هذا وذاك.(20/5)
الحكم على المعين بأنه من أهل النار
السؤال
الحكم على المعين بالنار يقع فيه الكثير، فمثلاً يقولون: فلان كافر أو هو في النار، فهل هذا جائز؟
الجواب
إذا كانوا قصدوا معيناً، فالمعين إذا كان كافراً خالصاً كاليهودي والنصراني والمشرك يقال: إنه من أهل النار، لكن ليس على سبيل الجزم، وهناك فرق بين الحكم وبين الجزم، فنحن نحكم بأن الكافر من أهل النار، فإذا مات يهودي نقول: هذا اليهودي مات كافراً وهو من أهل النار، لكن لا نجزم، لا نشهد شهادة قطع، أما الحكم العام على جملة الكفار وأفرادهم دون الجزم واليقين فهذا جائز، والحكم على جملة الكفار والمشركين بأنهم في النار أمر قاطع، لكن على أعيانهم لا يجوز القطع وإن جاز الحكم العام دون جزم، فهذا أمر معلوم؛ لأن الكافر ورد أنه من أهل النار، فنقول هذا القول، فإذا مات فلان من الناس على الكفر فنقول: إنه من أهل النار، لكن لا نجزم بذلك، ففرق بين الجزم وبين الحكم، وهذا فيمن مات، أما من كان حياً فربما يتوب ويسلم.(20/6)
حكم وصف العلمانيين جملة بالنفاق والكفر
السؤال
هل يوصف العلمانيون بأنهم منافقون وكفار؟
الجواب
العلمانية مصطلح جديد، وهو يجمع بين صفات الكفر والنفاق، فمن العلمانيين من هو كافر يعلن كفره، كرموز العلمانيين المشاهير الذين يعلنون كفرهم، وليس في هذا تردد، ولو وصفناهم بغير الكفر لما رضوا هم، بل إنهم يمقتون الانتماء للإسلام، فكيف يرضون بأن ينتموا للدين؟! وهناك طائفة من العلمانيين والحداثيين وغيرهم دون ذلك، فالعلمنة حالة من رفض الدين أو جزء من الدين، فالرفض الكلي للدين كفر، والرفض الجزئي للدين حالة من حالات العلمنة قد تكون خصلة من خصال النفاق، وقد تكون نفاقاً خالصاً، لكن لا نستطيع أن نحكم به.
إذاً: فالعلمانيون درجات، وأقرب الصفات للعلمانيين هي صفات النفاق، لكن العلماني المعلن للكفر كافر، لا يقال: إنه منافق خالص؛ لأن المنافق لا يحكم بكفر بعينه إلا بدليل قاطع.(20/7)
مصير من مات مصراً على الشرك الأصغر
السؤال
من مات مصراً على الشرك الأصغر هل يدخل الجنة؟
الجواب
الشرك الأصغر كبيرة، وهناك من أنواع الشرك الأصغر ما يلحقه بعض أهل العلم بالكفر، لكنه كفر غير مخرج من الملة، فإذا كان مخرجاً من الملة فهو شرك أكبر، فالكفر الأصغر أو الشرك الأصغر إذا قصد به الكبيرة التي لا تصل إلى التكفير فحكم صاحبه حكم أهل الكبائر.(20/8)
حكم إقامة الأفراد الحدود
السؤال
قلتم: ليس للأفراد إقامة الحدود، فكيف نجيب عن إقامة بعض الصحابة حد السحر في بعض السحرة، كما ذكر ذلك الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد؟
الجواب
الحدود لا تقام إلا من قبل سلطة تقيمها، والسلطة أنواع، فمنها سلطة يملكها إنسان مفوض من قبل ولاة الأمر أو من قبل أهل الحل والعقد، كإنسان محتسب أو مسئول عن بلد أو عن إقليم، أو هو أمير جيش مفوض في أن يقيم الحد نيابة عن الإمام الأكبر أو عن ولي الأمر أو عن السلطة العظمى، أما من عداه ممن لم يفوض من قبل ولي الأمر أو من قبل أهل الحل والعقد الذين لهم حق الطاعة على الأمة؛ فإنه لا يجوز له أن يقيم الحد الشرعي بنفسه، أما ما دون ذلك من التعزيرات فهذه مسائل فيها خلاف كبير، وفيها كلام مفصل، فالفرد قد يملك أن يعزر بعض التعزيرات في أبنائه أو من يعوله، أو في الذين تحت إدارته وسلطته، والتعزيرات درجات، منها ما يتعلق بالحق العام، ومنها ما يتعلق بالحق الخاص، ومنها ما يتعلق بالذنوب والأخطاء الشخصية، ومنها ما يتعلق بالأموال والأعراض وغير ذلك.
المهم أن إقامة الحد الأكبر الذي هو حد من حدود الله لا يملكه إلا السلطان، كحد الزنا وحد السرقة وحد الحرابة ونحو ذلك، فهذه الحدود لا يقيمها إلا السلطان أو من ينوب عنه أو من فوض من قبل أهل الحل والعقد.(20/9)
حكم التماس علل التوقيفيات وافتراض بدائلها
السؤال
قلت: إن (لِمَ) و (كيف) إذا كانت للاستزادة من العلم فلا بأس، فهل من ذلك قول بعض الناس في القرآن: لو كان بدل هذه الكلمة هذه الكلمة الأخرى لكان كذا؛ لأن ذلك منتشر عند المفسرين المهتمين بالناحية اللغوية؟
الجواب
السؤال
بـ (لِمَ) و (كيف) عن الأحكام، والتماس علل التشريع، وعمَّا يمكن أن تدركه أفهام البشر من النصوص جائز، وأما إذا كان السؤال عن أمر يتعلق بالأمور التوقيفية، مثل كلام الله تعالى وترتيب سوره وآياته وغير ذلك؛ فهذا أمر توقيفي لا يجوز السؤال عنه، بحيث يقال: لم كانت الآية الفلانية في موضع كذا؟ إلا على سبيل التماس العلة، وتبقى القناعة والتسليم على كمالهما، أما إذا اختلت القناعة والتسليم فلا يجوز هذا السؤال.
كما أن السؤال بـ (لِمَ) و (كيف) إذا كان فيما يتعلق بأمور الغيب، أو في النصوص المتعلقة بأمور الغيب أو القدر؛ لا يجوز كذلك.
إذاً: (لم) و (كيف) لا يجوز الاستفهام بهما إلا في حالة واحدة، وهي الاستفصال عما يمكن أن تدركه أفهام المخاطبين أو أفهام الذين يطلعون على النصوص، وهم درجات، منهم الراسخون في العلم، ومنهم أهل الذكر، ومنهم دون ذلك، فالسؤال لمن يستطيع الجواب جائز بـ (لم) و (كيف)، أما على سبيل التشكيك أو سبيل الاعتراض أو على سبيل التعجيز فهذا لا يجوز.(20/10)
تعدد فرق الباطنية
السؤال
المعلوم من مذهب الباطنية أنهم يؤلهون علياً، فما هو التوجيه السليم لتخصيص الغلو ببعض الباطنية؟
الجواب
الباطنية ليست فرقة واحدة ولا مذهباً واحداً، والباطنية تطلق في الدرجة الأولى على باطنية الرافضة وما تفرع عنها فيما بعد، كالإسماعيلية والدروز والعلويين والنصيرية والقرامطة والصفوية وغيرهم.(20/11)
حكم إطلاق الفعل على الخلق
السؤال
ما حكم إطلاق كلمة الفعل على الخلق؟
الجواب
إطلاق كلمة (الفعل) على الخلق مسألة قد تجوز أحياناً، لكنها فيما يتعلق بأفعال العباد فيها تفصيل، أما فيما يتعلق بالمخلوقات الأخرى فلا مانع من أن نقول بأنها من فعل الله، بمعنى أنها من خلقه؛ لأن الخلق هو فعل من أفعال الله تعالى، وأفعال الله كثيرة منها الخلق وغيره، فأفعال الله كثيرة أوسع من مجرد الخلق، لكن قد ترد هذه الكلمة في نفي نسبة أفعال العباد إليهم، فالمسألة فيها اشتباه، فأفعال العباد كلها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، ولا يلزم أن نقول: هي من فعل الله؛ لأن الله هو الذي خلق، وفاعلها هو العبد، لا استقلالاً بفعلها، إنما لأن الله أقدره على ذلك، فأفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لكن العباد هم الذين فعلوها، وفعلهم لها لا يعني أن لهم استقلالاً في الخلق والإيجاد، أو خروجاً عن مشيئة الله وقدره، إنما يعني ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقدرهم على فعلها اختياراً، فمن هنا لا يقال فيها: إنها فعل الله؛ لئلا يلتبس الأمر فيقال بمقولة الجبرية، الذين يقولون بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وأفعاله هي أفعال الله! فالأولى اجتنابها فيما يتعلق بأفعال العباد، أما ما يتعلق بخلق الله الآخر الكوني أو بأفعال العباد التي لا إرادة لهم فيها؛ فكل ذلك من فعل الله تعالى.(20/12)
الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود
السؤال
هل هناك فرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؟
الجواب
الفروق في ذلك ناتجة عن فلسفة المثلثة في الوثنية اليونانية ومثلثة المجوس، ومثلثة الهندوس، ثم مثلثة النصارى الذين يزعمون بأن الله ثلاثة، وهناك بعض الفروق اليسيرة بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
فالحلول: هو -بزعمهم- حلول الله في المخلوقات كحلول الروح في الجسد.
والاتحاد: هو اتحاد الله تعالى -بزعمهم- مع المخلوقات كاتحاد الجسم مع الجسم.
ووحدة الوجود تعني: أنه ليس هناك خالق ولا مخلوق، فالكل واحد، والتمييز بين الخالق والمخلوق عندهم إنما هو تعبيرات عن الشيء الواحد، وهي وحدة الوجود التي قال بها ابن عربي.
فالحلول والاتحاد بينهما بعض الفرق، ووحدة الوجود بينها وبين الاثنين فرق كبير، فالذين يقولون بالحلول والاتحاد قد يقولون: لله وجود، لكن وجوده -على نحو ما قالوا- إما أن يكون حل بالمخلوقات كحلول الروح في الجسد، أو اتحد بالمخلوقات كاتحاد الأجساد بعضها مع بعض، كاتحاد الماء مع العجين بزعمهم، وأما الذين يقولون بوحدة الوجود فليس عندهم خالق ولا مخلوق، فالله هو الخلق والخلق هو الله! تعالى الله عما يزعمون.
وكلها أوهام وشرك من عبث الشيطان ببني آدم.(20/13)
القائلون بخلق القرآن في الوقت الحاضر
السؤال
هل يوجد في وقتنا الحاضر من يقول بخلق القرآن؟
الجواب
من حسن الحظ أن هذه المسألة لم تثر، وأرجو ألا تثار، ولولا أنا عرفنا من نهج السلف الصالح ضرورة تقرير هذه المسألة لئلا يقع فيها المسلمون مرة أخرى؛ لما تكلم بها طلاب العلم، لكن لو تحدث عنها بعض الناس الذين لا يفقهون العقيدة -ونرجو ألا يتحدثوا- فربما يظهر شيء آخر، ولكن أرجو أن تبقى الأمور مستورة.
وكثير من المثقفين والمفكرين والمتعلمين والمتفلسفين والمتفيهقين الذين يخوضون في قضايا الفكر والثقافة ولا يعون هذه المسألة قالوا بمقولة المعتزلة، وقد بقيت طوائف من الأمة التي افترقت عن السنة والجماعة تقول بخلق القرآن حتى الآن، ومنهم جزء من الإباضية وليس كل الإباضية، فالإباضية منقسمون في هذه المقولة، فبعضهم يقول بقول المعتزلة والجهمية، وبعضهم يقول بقول أهل السنة والجماعة، ومنهم -أيضاً- أكثر طوائف الرافضة الإمامية والإسماعيلية والجعفرية وغيرهم، أكثرهم يقولون بخلق القرآن.(20/14)
حكم قول: مادة القرآن الكريم
السؤال
ما حكم قول: مادة القرآن الكريم، وهل القرآن مادة؟
الجواب
كأن في هذا إشارة إلى الإطلاق في المدارس، كما يقال: مادة التوحيد، ومادة الحديث، ومادة القرآن الكريم، وهذه الكلمة فيها اشتباه، والأولى اجتنابها، لكن المتكلم بها قد يقصد حصة القرآن الكريم، أو يقصد مقرر المنهج الذي يدرس فيه القرآن الكريم، ونحن لا نبدع من قالها، لكن الأولى اجتنابها دفعاً للشبهة، والأولى ألا يقال: مادة القرآن الكريم، بل يقال: درس القرآن الكريم، أو: حلقة القرآن، أو: الحصة المخصصة للقرآن الكريم، أو نحو ذلك.(20/15)
حكم تكفير الشيعة
السؤال
جاء في اعتقاد أبي زرعة وأهل السنة والجماعة من قبله عدم تكفير أهل القبلة، والشيعة -كما نعلم- من أهل القبلة، فكيف ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى تكفير الشيعة؟
الجواب
كلمة (أهل القبلة) كلمة مشروطة بقواعدها وأصولها، ومشروطة بأصول الإسلام نفسه، فالرافضة يتوجهون إلى القبلة لكن بقلوب مشركة، فلا ينفعهم توجههم، وكانت طوائف من المشركين تتوجه إلى القبلة ولم ينفعهم ذلك، فليس المقصود بأهل القبلة من توجه إلى القبلة ليصلي، بل المقصود الذين تجمعهم القبلة على الإسلام، أما الرافضة فنظراً لأصولهم التي قالوا بها يخرجون من الإسلام ويبقى لهم الشعار، فهم يدعون الإسلام، ودعواهم بالنسبة لهم لا نستطيع أن نلغيها، لكن بالنسبة لنا نحكم بحكم الله، بالحكم الشرعي الذي أجمع عليه سلف الأمة، وهو أنهم ليسوا على الإسلام ما داموا يقولون بأصول الشيعة التي اتفقوا عليها، وهي قولهم بتكفير الصحابة وردتهم، ثم رفضهم للسنة التي رواها الصحابة رضي الله عنهم إلا ما يهوونه، حيث يأخذون بضعة أحاديث تناسبهم، مثل حديث غدير خم، والأحاديث المتعلقة بحقوق آل البيت، وحديث العترة ونحو ذلك، حتى لو رويت عمن يكفرونهم، وأكثرهم لا يأخذ حتى الروايات التي تناسبهم ما دامت عن الصحابة الذين كفروهم، وكذلك يقال: إنهم ليسوا على الإسلام ما داموا يقولون بعصمة الأئمة، فهذا كفر صراح، وما داموا يقولون بالتقية التي هي النفاق، وما داموا يقولون في أصول الدين التي أشرنا إليها بهذه المقولات الكفرية التي أقل ما فيها إنكار الرؤية، وإن كان بعضهم لا ينكر الرؤية، لكن يكفر بالأصول الأخرى، كقولهم بخلق القرآن ونحو ذلك.
وما داموا أيضاً يعتقدون المهدية على نحو ما يزعمون، وما دام إيمانهم بأشراط الساعة على نحو ما يزعمون، وكذلك سائر الأصول الأخرى التي لا يمكن تعدادها الآن، فكل واحد من أصولهم الكبرى التي خالفوا فيها السنة يقتضي التكفير، فكيف بمجملها وهي تزيد على اثني عشر أصلاً من الأصول الكبرى التي خالفوا فيها الإسلام؟! ناهيك عن قولهم في القرآن القول الشنيع، وناهيك عن قولهم في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها، وناهيك عن قولهم في أهل السنة والجماعة وأئمة الهدى، وغير ذلك مما هو معروف عنهم.
وهم أكثر الطوائف جهلاً وأكثرهم كذباً وأكثرهم زندقة، وأضرهم على الإسلام في التاريخ، وأخطرهم على الأمة إلى قيام الساعة بإجماع أهل العلم المعتبرين، وهم أبعد الناس عن الحق وأكثرهم ضلالاً وأكثرهم اعتماداً على الكذب، وأكثرهم تكذيباً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم تمادياً في التأويل الفاسد للقرآن الكريم، والباطنية ما دخلت إلا من خلالهم، وغلاة المتصوفة ما دخلوا إلا من خلالهم، وغلاة الفلاسفة ما دخلوا إلا من خلالهم، والزنادقة ما دخلوا إلا من خلالهم، بل النكبات الأخرى التي حدثت في تاريخ الإسلام كانت على أيديهم، فما دخل الصليبيون بلاد الإسلام إلا عندما حكم الرافضة العبيدية الفاطمية ديار المسلمين، وما دخل التتار بغداد إلا على أيديهم، وكانوا دائماً مع الكفار ضد المسلمين، ولا يعرف أن لهم معركة ضد الكفار حتى في الوقت الذي قامت لهم فيه دول، ولا معركة مع أهل البدع، بل معاركهم مع أهل السنة.
إذاً: فحكم أئمة الهدى على الرافضة لم يكن جزافاً، حتى وإن قالوا بأن أهل القبلة كلهم من المسلمين، فأهل القبلة يقصد بهم من ادعى الإسلام واتجه إلى القبلة وهو مستور الحال، أما من لم يكن مستور الحال -كالرافضة- فأعلن كفره فقد خرج من أهل القبلة.
وهم في ظاهرهم ما داموا لم يدعوا إلى بدعة ولم يعلنوا كفرهم يعاملون معاملة المنافقين، وإن كانوا بدءوا يرفعون رءوسهم، لكنهم إلى الآن يشعرون بالذلة ويتظاهرون للمسلمين بالمظهر العام، ويتأدبون ويتكلمون بكلام حسن، ويتوددون إلى الناس، ولا يدعون إلى بدعهم علناً، ولا يملكون الوسائل للدعوة إلى بدعهم في الغالب، وإن كانوا في مواطنهم الآن قد بدأت تظهر رائحتهم، وهذا شر، لكن مع ذلك أرى أنهم يعاملون معاملة المنافقين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المنافقين، حتى إن بعضهم كان يعاملهم بهذه المعاملة ولا يعرف أنهم من المنافقين.
وقد رفعوا الآذان على طريقتهم، وهذه بدعة يجب أن ينبه لها المسئولون، وأن ينكر هذا المنكر، وقد أظهروها في بلادهم، ويجب على من حولهم من أهل السنة والجماعة أن يحاولوا أن يقمعوا هذه البدعة، ويناصحوا ويبلغوا المسئولين ويبلغوا المشايخ وطلاب العلم؛ لئلا يتمادوا في إظهار البدعة؛ لأنهم لن يقفوا عند مجرد إظهار الشعائر، فهم -كما قال السلف- شر من وطئ الحصى، هم شر الفرق على المسلمين، ولا يمكن أن يستريح الرافضي إذا وجد فرصة حتى يفسد بأي نوع من الفساد، هذه عقيدة عندهم، ولا نقول ذلك بمجرد توهماتنا أو بمجرد أحكام ظنية، أو بمجرد كلامهم، بل نتكلم عن أفعالهم وعقيدتهم التي يعتقدونها، وقد لا يفقه هذا كثير من عوامهم، وهذا أمر ينبغي أن يفهم، فعوامهم قد ل(20/16)
بدعية القول بفناء النار
السؤال
هل القول بفناء النار من أقوال السلف؟ وهل القائل به يبدع؟ وما صحة نسبته لـ ابن القيم في حادي الأرواح أو لشيخ الإسلام ابن تيمية؟
الجواب
يجب أن نفرق بين مسألة فناء النار وبين مسألة انقطاع العذاب، فلم يقل أحد ممن يعتد بهم من أئمة الدين بأن الجنة والنار تفنيان، بل عقيدتهم أنهما باقيتان ولا تفنيان بناءً على النصوص الثابتة في ذلك، إنما نسب إلى بعض أهل العلم أنه يقول: يحتمل أن ينقطع عذاب النار والله أعلم، وهذا أيضاً ليس هو قول الجمهور، فجمهور السلف على غيره.
حتى شيخ الإسلام ابن تيمية له قول يناقض ما قاله في بعض كتبه وأشار إليه، وكذلك ابن القيم له قول يناقض ما كان ذهب إليه، فلعل هذا هو القول الذي استقر عليه، ومع ذلك فالمسألة داخلة في باب الاجتهاديات؛ لأنها لا تعارض النصوص الصريحة، فهم لم يقولوا بفناء الجنة والنار كما يقول به بعض أهل البدع، فمسألة نفي الفناء من أصول العقيدة، وأما مسألة انقطاع العذاب فالله أعلم بها.(20/17)
حكم التعمق في بحث مسائل القدر
السؤال
ما رأيكم في التعمق في مسائل القدر؟ وبماذا تنصح في هذا الموضوع؟ وما فائدته وضرره على كل طالب علم؟
الجواب
الله سبحانه وتعالى نهانا عن الخوض في القدر، والرسول صلى الله عليه وسلم ورد عنه في أحاديث صحيحة صريحة كثيرة النهي عن الخوض في القدر، وقصة زجر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة ونهيهم عن ذلك ثابتة؛ فإن الصحابة أخذوا يتجادلون في بعض آيات القدر عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، (فخرج إليهم وقد اشتد غضبه حتى احمر وجهه وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان عليه الصلاة والسلام، فأخذ يحثوهم بالتراب ويقول: أبهذا بعثتم؟! أبهذا أمرتم؟! تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟!) فأمرهم أن يسلموا بما جاء، وأرشدهم إلى ما فهموه من النصوص يعملون به، وما لم يفهموه يكلونه إلى عالمه، فهذا التوجيه قاعدة شرعية درج عليها سلف الأمة، وهي التي ينبغي أن تسود في حياة المسلم، فلا يخوض في القدر لغير ضرورة تلجئه، كالبيان عند بعض المستشكلين أو الذين عندهم شيء من الوساوس، مع أن سلف الأمة -أيضاً- يفرقون بين من عنده وساوس أصلية ومن عنده وساوس عارضة، فالذي عنده وسواس أصلي ليس له إلا درة عمر أو الهجر وما يملكه العالم من الزجر والتبديع، أما الذي عنده وسواس عارض فإنه يجاب في مسائل القدر على ضوء النصوص الشرعية.(20/18)
الحكيم الترمذي وقوله بختم الولاية
السؤال
هل الحكيم الترمذي من أهل الحديث المنسوبين إلى أهل السنة؟
الجواب
الحكيم الترمذي ينسب إلى أهل الحديث، لكنه في العقيدة يخالف أهل الحديث، وأشنع ما ثبت عنه قوله بختم الولاية، وقد سبق ابن عربي الهالك، فهو يزعم أن هناك خاتماً للأولياء، وعنده نزعة صوفية شديدة في هذا الجانب، هذا الذي يعرف عن الحكيم الترمذي، وبدعته هذه شنيعة، أما فيما عدا ذلك من الأمور الأخرى فلا نعرف عنه شيئاً.
والحكيم الترمذي غير الإمام الترمذي صاحب السنن، فـ الحكيم الترمذي متأخر عن الترمذي صاحب السنن، والأمر الآخر أنه يختلف عنه، فالإمام الترمذي صاحب السنن من أئمة السنة لا يتهم ببدعة أبداً، أما الحكيم الترمذي -وإن كان له تعلق بالحديث، وخدم الحديث كثيراً في كتبه- فقد قال بهذه البدعة، وعنده نزعة تصوف، وهو الذي مهد بالقول بختم الولاية للصوفية الباطنية.(20/19)
حكم منع الدعاة عن الدعوة
السؤال
هل يعد فصل الدعاة من نواقض الإسلام؟
الجواب
أحياناً يكون فصل بعض الدعاة من الحكمة، وأحياناً يكون خطأ وظلماً، ولا نفترض دائماً أن كل شيء يحصل على الدعاة لا بد من أن يكونوا هم المصيبين فيه؛ فقد يخطئ بعض الدعاة وقد يتجاوز بعض الأشياء التي لا تنبغي شرعاً، وقد يكون مظلوماً، والأصل في الدعاة الخيرية، والأصل فيهم أنهم على استقامة، وإذا حدث من خصومهم أو من حسادهم أو ممن يظن بهم ظناً سيئاً شيء تجاههم فلا يعني أنهم يكفرون بذلك، فهذه مسألة صعبة؛ حتى لو كان ظالماً، كما حدث من الحجاج وغيره.(20/20)
حكم الأسابيع والأيام التي تقام فيها الاحتفالات وتسمى أعياداً
السؤال
ما حكم الأسابيع والأيام التي تقام فيها الاحتفالات أو ما يسمى أعياداً ونحو ذلك؟
الجواب
سبق أن تكلمت عن هذا كثيراً، وخلاصة القول أن كل ما يتكرر في حياة الأمة والمجتمع ويحتفى به بشكل سنوي أو شهري أو دوري وهو لم يرد في الشرع فهو بدعة، لكن مع ذلك يجب أن نفرق بين الأمور التي هي تعبدية، أو تصل إلى حد التعبد بها، أو لها علاقة بالأمور العبادية، وبين الأمور الأخرى، فقد تكون أخف حكماً إذا كانت ليست لها صلة بالعبادة أو بالأعياد الحقيقية، فالأيام الوطنية هذه أعياد، والعبرة ليست بالألفاظ، العبرة بالحقائق، فحقيقتها أعياد، إذاً: فهي محرمة قطعاً وشرعاً، وهذا ما عليه أهل العلم، وما عليه مشايخنا المعاصرون ومن سلفهم، لكن هناك إشكال في الأسابيع، ما يسمى بأسبوع كذا وأسبوع كذا، فالذي يظهر لي -والله أعلم، والمسألة لا بد من أن تناقش على مستوى أهل العلم- أن الأسابيع إذا تعلقت بأمر ديني أو بشعائر دينية أو بأماكن دينية فهي لا تجوز، مثل أسبوع المساجد، وهذا -فيما يترجح لي- بدعة مغلظة، لكن أما إذا كانت لا تتعلق بهذه الأمور -مثل أسبوع الصحة، وأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور- فهذه أقرب إلى البدعة، لكن الحكم بالتغليظ فيها أمر أتوقف فيه، ويجب أن نرجع فيه إلى علمائنا ومشايخنا الذين يعايشون هذه المسائل ويعرفون خلفيتها.(20/21)
صلة خطبة الجمعة بالأمور الدنيوية
السؤال
هناك من يقول بأن خطبة الجمعة يجب أن يقتصر فيها على الأمور الدينية، وأن لا تبحث فيها الأمور الأخرى من حياة الناس؟
الجواب
فصل الأمور الدنيوية عن الدينية فيه نظر، وخطبة الجمعة لها شروط -لا شك- معروفة عند أهل العلم، ولها أركان، ولا بد من الإتيان بشروطها وأركانها، لكن مقولة أن الخطبة لا تعرض فيها للدنيا مسألة موهمة؛ إذ ما هو مفهوم الدنيا؟! أو ما هو مفهوم غير الأمور الدينية؟ هذه مسألة أخشى أن تختلط بمفاهيم العلمانيين والحداثيين والمرجفين والمنافقين، فلذلك أقول: يجب ألا نقول هذا الكلام، بل على الخطيب أن يتحرى ما يفيد الناس في دينهم ودنياهم، والدين لا ينفصل عن الدنيا، والدنيا لا تنفصل عن الدين في الإسلام، فالخطيب عليه أن يعالج ما يهم الناس ويصلح حالهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يعالج أمور الناس بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في خطبة الجمعة، لكن لو اتخذت الجمعة وسيلة لعرض الدنيا والإعلانات عنها فهذا لا يصح، لكن هذا أمر آخر ليس هو الواقع، فيجب أن يفهم أنه لا فرق بين أمور الدنيا والدين فيما يهم الأمة ويهم المجتمع، كل ما كان للناس فيه مصلحة قدرت شرعاً بأنها مصلحة؛ فلا حرج على أي خطيب أن يتكلم فيه ويستوفي ذلك على ضوء الكتاب والسنة.(20/22)
الهوى الذي لا يشعر به صاحبه
السؤال
ذكرت فيما سبق أن الإنسان قد يكون عنده هوى وهو لا يشعر، فما حقيقة ذلك؟
الجواب
الإنسان ليس بمعصوم، وأغلب أصحاب الأهواء لا يعرفون أنهم أصحاب أهواء، بل قد لا يتعمدون الهوى، فأغلب أصحاب الأهواء لا يشعرون بأنهم على هوى، بل يظنون أنهم على الاستقامة، فلذلك الإنسان قد يقع في الهوى وهو لا يشعر، لكن الميزان هو الكتاب والسنة، فإذا سار على نهج السلف الصالح وحكم الكتاب والسنة ونصوص الشرع ولم يتعصب ورجع إلى أهل العلم وأهل الذكر دون تمييز أو تحيز لشخص أو طائفة؛ فإنه -إن شاء الله- يسلم من الهوى، أما إذا تحيز لشخص أو طائفة فقد لا يسلم حتى وإن كان من أهل الاستقامة، والله أعلم.(20/23)
الموقف من الفلاسفة الإسلاميين الحائزين قصب السبق في علوم الطبيعة
السؤال
نرى في مجتمعنا أسماء أعلام حازوا قصب السبق في مجالات شتى في العلوم الطبيعية وغيرها، ونظرة الكفار بأن للمسلمين السبق في مجالات العلوم الطبيعية كائنة، وعند البحث والقراءة في أحوال بعض أولئك نجد أنهم من الفلاسفة الهالكين، فهلا كان هناك بيان لتلك الأسماء وأحوال أصحابها؟
الجواب
سيأتي الكلام عن مثل هؤلاء كـ ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الفارض والحلاج وغيرهم، وهؤلاء ملاحدة في الأصل، وهم ينتمون إلى أسر تنتمي للإسلام، وأكثرهم من الفرق الهالكة، كـ ابن سينا، فهو باطني الأصل، وهو من أسرة إسماعيلية باطنية قال فيها أهل السنة والجماعة وأهل الحق: إنها أكفر من اليهود والنصارى، وهذا أمر معروف، وهؤلاء من الهلكى في العقيدة، وقد يكون لهم إسهام في الطب وإسهام في الهندسة وإسهام في بعض العلوم الطيبة وكذلك الخبيثة كالموسيقى وغيرها، فبعضهم برع في الموسيقى، لكن هذا لا يعني أنا نضع لهم اعتباراً في الشرع وفي الدين، فاعتبارهم في العلم كاعتبار كثير من الكفار فيما أتوا به من علوم دنيوية، فيؤخذ عنهم ما جاء من الطب وما جاء من الهندسة وما جاء في علم الفلك، كل ذلك يؤخذ، لكن في الدين يجب ألا ننازع في أنهم على غير الحق، فهؤلاء هلكى، وعقائدهم تالفة، ولا داعي لأن نتناقش في أمرهم، وأرى أن من العيب واستهلاك الوقت وتضييعه أن يتناقش طلاب العلم مع الآخرين في هؤلاء، لا سيما أنهم ليسوا أئمة في الدين، فلا داعي للوقوف عند مثل هؤلاء، أما ما أفادوا فيه من علم بسبب اعتزاز بعض المسلمين بأنهم ينتمون للإسلام؛ فهذا فيه نوع من العصبية، لا سيما أننا نعتز بعلم ليس له علاقة بالهدى ولا تفضل فيه أمة على أمة، فالعلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية مشاعة بين البشر والأمم، وحجرها على أمة من الأمم لا يجوز، إنما قد تستثمر هذا العلم أمة من الأمم في يوم من الأيام، والدليل على هذا أن المسلمين أبدعوا في العلوم التطبيقية والإنسانية في ظل الإسلام، ثم بعد ذلك تخلوا عن الإسلام فأبدع غيرهم، ولا شك أن المحدثين خطوا في العلوم التطبيقية والإنسانية خطوات ما وصل إليها المسلمون، ولا ينبغي للمسلمين أن يعتزوا بمثل هذه الأمور، بل يعتزوا بالهدى الذي فضلهم الله به، وما عداه فهو مشاع لا فضل فيه لأحد على أحد، وكل سابق عنده من الفضل على من لحقه في مثل هذه الأمور، وكل لاحق أبدع في شيء فإنه ينوه به، لكن في أمور الدنيا، وينبغي ألا يقع اللبس بحيث نجر فضائل هؤلاء في العلوم إلى تفضيلهم في الدين، فهذا منهج خطير.(20/24)
شرح العقيدة الطحاوية [21](21/1)
الدعوة والابتلاء
السؤال
يشكو بعض الإخوة مما يعترض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في سائر بلاد المسلمين من عقبات ومضايقات للدعاة، وغير ذلك مما هو معروف، ومن ذلك ما يحدث من إيقاف لبعض الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى عن ممارسة الدعوة في بلاد المسلمين عموماً، وفي بعض البلاد على وجه الخصوص، وما يستتبع ذلك من التضييق على القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسميه بعضهم محاولة إغلاق بعض سبل الخير، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
هذا أمر معلوم، لكن ما ينبغي أن نفهمه جميعاً أن هذا كله من الابتلاء الذي جعله الله سبحانه وتعالى من لوازم الدعوة إلى الله، بل من لوازم الإيمان بالله سبحانه وتعالى الابتلاء في عمومه، مع العلم بأن الابتلاء في الدعوة إلى الله والابتلاء للدعاة آكد وأكثر، بل هو أمر محتم، فلا يعرف في الدنيا أن دعوة من الدعوات تمكنت وأدت رسالتها دون أن يتعرض أصحابها لشيء من الأذى والبلوى، هذا أمر لا يعرف أبداً، بل هو خلاف سنن الله في خلقه، فدعوات النبيين ورد فيها من الابتلاء والمحن شيء عظيم، ودعوة نبينا صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص ما قامت إلا بعد شيء من الابتلاء، فلذلك أوصى الله بالصبر، والله تعالى يقول: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، ولذلك يرد الأمر بالصبر كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وفي هذه الآية نجد أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والمصابرة، وبالمرابطة بعد الصبر، ثم بعد ذلك علق الفلاح على هذا الصبر.
فالذين يتعرضون لشيء من الأذى أو يوقفون عن الدعوة لا يضرهم ذلك، ويجب أن نتواصى ونوصيهم بالصبر، وألا نجزعهم أو ندخل عليهم اليأس والجزع والتذمر، حتى لو كان إيقافهم بغير حق، أو بأمور يلتبس فيها الحق بالباطل، أو كان بظلم صريح؛ فإن ذلك أعظم لأجرهم، وعلى أقل الأحوال برئت ذمتهم، فإنهم بذلوا ما يستطيعون، وعلى كل من يرى هذه المضايقات التي يتعرض لها الدعاة في ديار المسلمين ألا ييأس، بل يجب أن يناصح ويبين جميع السبل المشروعة، ويدرأ السيئة بالحسنة.
ثم بعد ذلك وقبله يجب على كل مسلم ألا يتوقف عن الدعوة؛ لأن سبل الدعوة كثيرة، ومهما بلغ الأمر في إغلاق سبل الدعوة فلن تنتهي أبداً، فالمسلم يجب عليه أن يصبر ويصابر ويرابط ولا يفتر عن عمل الخير، ذلك أن وجوه الخير والنفع ووجوه البر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح لا حصر لها، فإن أوقف داعية أو سدت سبيل من سبل الخير، فإن المسلم يجب عليه ألا يعجز وألا يتخاذل ولا يفتر ولا يقعد عن فعل الخير، وإذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذاً: فالتحسر والجزع والتصرفات المتشنجة التي يفعلها بعض المتعجلين والمواقف الاستفزازية التي تحدث لسبب ما ذكر ليست مما يخدم الدعوة، وليست من الوسائل المشروعة، إنما المشروع هو الصبر والحكمة والحلم مع العزيمة والمضي في الدعوة إلى الله سبحانه، ومع بذل الجهد والاجتهاد وبذل الوسع.(21/2)
كيفية التخلص من الحرج في الإلقاء
السؤال
هناك من يحرجه الوقوف أمام الناس إذا أراد أن يدعو إلى الله أو يتكلم ويأمر بما أوجبه الله عليه، فما نصيحتكم له؟
الجواب
كل أحد لا بد من أن يهاب أي موقف جديد عليه، خاصة الموقف الذي يعرضه لنقد الآخرين ولنظراتهم، كالموقف للكلام والخطابة، لكن على من يشعر بذلك أن يبدأ بالتدرج، فيبدأ -مثلاً- بنصح أهله وذويه الذين ليس بينهم وبينه شيء من الكلفة، ثم مع زملائه الأقربين، ثم يتدرج فيقصد الأرياف ويتكلم في المساجد التي يكون الناس فيها قلة، وهكذا، وأهم من ذلك كله أن يعلم أن ما يشعر به يشعر به غيره، وإنما ينتهي هذا الشعور بالجرأة.(21/3)
حكم التحذير من بعض الأخطاء التي تقع فيها الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة
السؤال
إحدى الجماعات الإسلامية العاملة لها جهد ملحوظ، وفيها بعض الأخطاء في المنهج الذي تسير عليه، وخطر هذه الجماعة على أهل البلاد لا يكاد يذكر، فهل لي أن أحذر منها المجتمع وأشهر بدعاتها أم لا؟ وإذا اهتدى رجل على أيديهم فهل لي أن أحذره منهم حتى ولو أدى ذلك إلى انحرافه مرة أخرى؟
الجواب
السؤال يتضمن الجواب، والسؤال عام ويعرض بجماعة معينة من الجماعات، لكن أقول: إذا كنت تعرف من حال المدعو أن ذهابه وتأثره بهذه الجماعة أصلح في دينه فلا مانع من تركه ليستفيد، لا سيما إذا كانت هذه الجماعة لا تكاد بدعها توجد في البلاد التي هي فيها، فأقول: إذا كانت حالة الشخص حالة رديئة -كأن يكون من أصحاب الفجور والفسق المعلن وترك الفرائض وترك شعائر الإسلام- ورأيت أن دينه وإيمانه يزيد مع هذه الجماعة؛ فالأولى أن تتركه، أما إذا كان العكس -بمعنى أنك تجد عنده من الصلاح والتقوى واستقامة العقيدة ما يغنيه عن مثل هذا الاتجاه- فلا بأس أن تنصحه، ولكن تعدل في الكلام في الجماعة، بأن تذكر ما فيها وتذكر ما لها من حسنات وما يوجد في أهلها من خير.
وهذه المسألة تتعلق بجميع الجماعات ليس بجماعة بعينها؛ فإني لا أعرف أن جماعة من الجماعات يمكن أن يحكم عليها حكماً قاطعاً، أي: على جميع الأشخاص، بل لا بد من التفصيل عند الكلام عن هذه الجماعة، نعم قد يوجد من الجماعات جماعات في أصولها انحراف، لكن ليس هذا انحرافاً شاملاً لجميع من ينتمي إليها، فلذلك لا بد عندما نتكلم في الجماعات أن نفصل.(21/4)
حال السنة وأهلها في عمان
السؤال
ما هو حال أهل السنة في عُمان، وما الذي يواجهه علماء السنة وشبابها من الإباضية؟
الجواب
ليس عندي في ذلك معلومات مفصلة، لكن المعروف أن أهل السنة والجماعة في عُمان كثيرون، وليسوا أقلية في عرف الدول، وكونهم بين الأباضية وعاشوا زمناً طويلاً بينهم يعني أن كلاً منهم يعرف الآخر على الجملة وليس على التفصيل، وربما يكون هناك من العوام من لا يعرف حقائق الأمور، فالإباضية لا شك في أنها فرقة من فرق الخوارج، لكنها من أكثر فرق الخوارج اعتدالاً، وأصولها معروفة، فعندها أصول كلامية تشبه أصول المعتزلة، بل تأخذ بكثير من أصول المعتزلة، وعندها ما عند الخوارج من التكفير بالذنوب، والخروج بالسيف عند المقدرة، ومع ذلك فإن الذي نعرفه أن الدولة في عمان دولة إباضية، لكنها -فيما أعلم- لم يصل الأمر بها إلى أن تعلن وتشهر محاربة السنة حرباً صريحة، فلذلك الذي أراه وينبغي اعتباره أن أهل السنة والجماعة هناك أحوج إلى التعقل والهدوء، وعلى كل داعية أن يوصيهم بذلك؛ نظراً لأنهم بحاجة إلى ألا يقفوا مع تلك الفرقة موقفاً معادياً صريحاً يؤدي إلى فتنة ربما يكون ضررها على أهل السنة أكثر من غيرهم.(21/5)
تعلق قدرة الله وعلمه بالمستحيلات
السؤال
ما معنى أن قدرة الله تعالى عز وجل لا تتعلق بالمستحيلات بخلاف علمه سبحانه وتعالى؟
الجواب
هذه كلمة لا أدري بمدى صحتها، غير أني أرى أن نقتصد في التفصيل في الكلاميات، ولولا أنها وردت في الكتاب لمناقشة قضايا أساسية عند المتكلمين للرد عليهم لتجاوزناها، ومع ذلك كنا نتجاوز بعض المقاطع المعضلة.
وحاصل ما أعلق به على ما فهمته من ظاهر السؤال أن المستحيل كالعدم المحض، لا يتصور عقلاً ولا يفترض أن له حكماً، فالعدم ليس له أحكام، وكذلك المستحيل الذي يحيل العقل وجوده ليس له أحكام، وأما ما يتعلق بالقدرة فقدرة الله سبحانه وتعالى ليس لها حدود، لكن تعلقها بالمستحيل أمر وهمي، أما العلم فيشمل ما حدث وما لم يحدث، وعلم الله تعالى -كقدرته- علم كامل.(21/6)
الباطنية وما يدخل في معناها
السؤال
هل القرامطة والصفوية هم الباطنية؟
الجواب
القرامطة والصفوية وغيرهم باطنيون، وهناك فرق أخرى هي باطنية من وجوه أخرى، فمثلاً أغلب المتصوفة باطنية؛ لأنهم يقولون بأن علم الحقائق غير علم الشرائع، ويجعلون علم الحقائق الذي هو أوهامهم وخرافاتهم فوق علم الشرائع، ويزعمون أن للنصوص ظاهراً وباطناً كما تزعم الباطنية، فهؤلاء باطنية من وجه، والباطنية فيهم غلاة وفيهم معتدلة، والمعتدل منهم كافر كما أن المغالي كافر، لكن قد توجد نزعة باطنية عند إنسان ليس هو على الكفر، وهذه النزعة تكون لها أسباب أخرى ولا تشمل الاعتقاد، فلذلك الباطنية ليست فرقة واحدة، ولا مذهباً واحداً، ولا اتجاهاً واحداً، بل هي تعبير عن كل من أبطن شيئاً يخالف الشرع، سواء أكان هذا الإبطان تفسيراً للنصوص أم اعتقادات أخرى فيما يتعلق بالعقائد، ومن ذلك النفاق نفسه، فالنفاق باطني، ولذلك قامت الرافضة على النفاق الذي يسمونه التقية، فهي باطنية من هذا الوجه، وباطنية أيضاً من حيث تفسيرها للنصوص، وباطنية من حيث اعتقادها العقائد الباطلة التي يتوهمونها.(21/7)
الموقف من القول بالمجاز في القرآن الكريم
السؤال
أشكل علينا موضوع المجاز في القرآن، فهل هناك آراء تقول بجواز المجاز وآراء تقول بمنع المجاز؟
الجواب
مسألة المجاز مسألة طارئة لم تكن تعرف في القرون الثلاثة الفاضلة، وهي مصطلح أدبي اصطلح عليه أهل اللغة، ويجوز أن يعبر به عن بعض كلام البشر؛ لأنه قد يكون مجازاً على اصطلاح اللغويين في مفهوم المجاز، أما فيما يتعلق بكلام الله تعالى وهو القرآن، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحي؛ فالمجاز غير وارد، لا بمفهوم اللغويين ولا بمفهوم المتكلمين، ولا بمفهوم المؤولة لصفات الله تعالى، فالمجاز إن ورد لغوياً في بعض كلام البشر؛ فإنه لا يمكن أن يرد في كلام الله تعالى؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب في فهم كلام الله تعالى والتفريق بين المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة، ويؤدي إلى التأويل الباطل، فكلام الله كله حقيقة، وينبغي أن يعبر عما يفهم بأنه مجاز بتعبير آخر غير كلمة (مجاز)؛ لأن كلمة (مجاز) هي من معاول المؤولة والمعطلة في تأويلهم لبعض الأمور الغيبية من صفات الله تعالى أو غيرها، ويكفي أنها كلمة طارئة لم يكن يعرفها السلف ولا يستعملونها، والذين استعملوها استعملوها في تأويل صفات الله ولم يستعملوها في نصرة الحق، فهي -وإن جازت في كلام الناس- لا تجوز في كلام الله تعالى؛ لما تؤدي إليه من اختلال في العقيدة.(21/8)
توجيه شفاعة رسول الله لعمه على شرطي الشفاعة
السؤال
في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه كيف يتحقق الشرط الثاني من شروط الشفاعة، وهو أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد ممن رضي الله عنه؟
الجواب
هذه مسألة توقيفية، فشروط الشفاعة صحيحة، ولا بد من رضا الله تعالى عن المشفوع له وإذنه للشافع، لكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ليست مخرجة له من النار، فهو -نسأل الله العافية- من أهل النار، وإنما يخفف عنه من عذابها، فليست كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه قد يرد في الأمور التي فيها شروط أمر يخالف هذه الشروط شرعاً، فيكون هذا الأمر مسلماً به وتبقى الشروط لغيره، وهذا يرد في كثير من الأمور الغيبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بخبره الصادق بشفاعته لعمه، فهذه الشفاعة نؤمن بها بعينها ولا يقاس عليها غيرها، ولا يقال: إنها تشمل أحداً من الناس غير هذا الشخص، ثم إنها ليست شفاعة كاملة إنما هي شفاعة ناقصة، ولا يخرج بها من العذاب، والشفاعة التي وردت شروطها هي الشفاعة التي تنجي من النار وتدخل الجنة.(21/9)
أنواع الغيب من حيث الشبه الوجودي
السؤال
ذكرت أن الغيب نوعان: النوع الأول: غيب يمكن قياسه بالموجودات كالطوفان وأخبار النبيين، النوع الثاني: غيب لا يمكن قياسه لعدم وجود مثله في الدنيا، وعللت بأنه لو كان كذلك لما سمي غيباً، مع أنك في النوع الأول ذكرت أنه يمكن معرفة كيفيته، ومع ذلك يسمى غيباً؟
الجواب
النوع الأول لا يمكن معرفة كيفيته، إنما كيفية ما يشبهه، أو يقرب من أذهاننا بعينه، أما الثاني فلا يمكن أن يقرب من أذهاننا بعينه، وهذا هو وجه الفرق، وذاك غيب لأنه سبق لا لأنه غيب لذاته تغيب أمثاله عن أذهاننا، إنما لأنه غاب بأحداثه عنا؛ لأنه حدث قبلنا.
فأقول: إن الغيب على نوعين: فهناك من أخبار الغيب ما نعرف كيفياته من خلال ما يشبهه من الموجودات، كالطوفان، وهو ماء يغرق به الناس، أو غرق فرعون، أو غير ذلك من الأحداث والقصص التي تشبه أفعال الموجودين الآن، فهذه عرفنا كيفيتها لا بأعيانها، لكن بأعيان ما يشابهها.
أما النوع الآخر فلا يمكن الوصول إلى كيفياته لا بذاته ولا بشبيهه ولا بمثيله ولا بنظيره، وهو ما يتعلق بأمور الغيب الأخرى، كأمور القيامة وصفات الله وأسمائه ونحو ذلك.(21/10)
الموقف من التعبير بالقديم ونحوه
السؤال
هل التعبير بقدم الله صحيح، أم أنا نقول: قديم أزلي؟
الجواب
كلمة (قدم) و (قديم) ليست واردة في الشرع إلا على سبيل شرح الاسم لله تعالى، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه الأول وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الأول بالذي ليس قبله شيء، وهذا هو الذي يجب أن نقف عليه عندما نعبر عن أسماء الله وصفاته، لكن عندما نشرح معاني هذه الأسماء والصفات، أو عندما نجادل من يعبرون عن هذه المعاني بألفاظ أخرى، نشرح لهم هذه المعاني بألفاظ أخرى، أما على سبيل الإثبات للعقيدة وتقريبها وبيانها وتفهيمها للناس فلا يجوز أن نستعمل كلمة (قديم) ولا (القدم)، ولا (واجب الوجود) ولا نحوها، إنما يجب أن نعبر بألفاظ الشرع، وفرق بين التقرير والبيان والشرح وتعليم العقيدة، وبين المجادلة وإقامة الحجة على من يستعمل تلك الألفاظ، ففي المجادلة تستعمل الألفاظ التي يعرفها الخصم مع تقييدها بمعاني النصوص الواردة.(21/11)
الموقف من اعتبار ألفاظ أسماء الله وصفاته من قبيل المتواطئ لا المشترك اللفظي
السؤال
ما قولكم فيمن قال بأن أسماء الله وصفاته ليست من قبيل المشترك اللفظي، ولكنها من قبيل المتواطئ ونحو هذا؟
الجواب
عبارة (المشترك اللفظي) أو (المتواطئ) عبارة لا يمكن أن نطلقها على سبيل الجزم إلا على ما نعرف كيفياته، أما ما يتعلق بأسماء الله وصفاته فألفاظها التي تشبه ألفاظ صفات المخلوقين وأسمائهم يقال لتلك الألفاظ قبل أن تطلق على المخلوق أو على الخالق: ألفاظ مشتركة، والاشتراك اللفظي يعني أن اللفظ قبل أن يطلق يمكن أن يطلق على هذا ويطلق على هذا، فهذا معنى الاشتراك اللفظي، أما إذا أطلق على عين فينتفي الاشتراك في الكيفية ويبقى الاشتراك اللفظي في العبارة المطلقة في الذهن فقط، فعند إطلاق الكلمة على الموصوف أو المسمى ينتهي الاشتراك الحقيقي ويبقى الاشتراك اللفظي، أما مسألة التواطؤ فهذه مسألة ليست واضحة عندي الآن.(21/12)
وصف الله بالرحمة حقيقة لا مجاز
السؤال: للمحقق تعليق منقول عن ابن عابدين رحمه الله تعالى يتعلق بوصف الله تعالى بالرحمة هل هو مجاز عن الإنعام أم حقيقة، فنرجو توضيح ذلك؟
الجواب
يقول المحقق: [قال العلامة الفقيه ابن عابدين صاحب الحاشية رحمه الله في رد المحتار (1/ 7): وهل وصفه تعالى بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام أو عن إرادته؛ لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة عليه تعالى، فيراد غايتها؟ المشهور الثاني، والتحقيق الأول؛ لأن الرحمة التي هي من الأعراض القائمة بنا ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً، كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض، ولم يقل أحد: إنها في حقه تعالى مجاز.
انتهى كلامه.
فجعلها على احتمالين: الاحتمال الأول أن تكون حقيقة، والثاني أن تكون مجازاً عن الإنعام أو عن إرادته تعالى؛ لأنها من الأعراض النفسية، ثم قال: المشهور الثاني، والتحقيق الأول.
أي: المشهور عند أهل الكلام والمفسرين من المؤولة؛ لأن أغلب من تعرض للتفسير هم أهل التأويل الذين يؤولون صفات الله تعالى، فالمشهور عند أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية -وربما كان المراد الأكثرية من أصحاب ابن عابدين رحمه الله- هو تأويل رحمة الله تعالى بأنها مجاز عن الإنعام، هذا هو المشهور عند المتكلمين أو عند أصحاب ابن عابدين، وهم أغلب الأحناف المتأخرين، والتحقيق الأول، يعني: والصحيح الأول، وكأنه بذلك رحمه الله يثبت مذهب السلف، وهو أن صفة الرحمة حقيقة على ما يليق بجلال الله تعالى، وليست مجازاً.(21/13)
بيان معنى كون العلم أعم من القدرة وكون القدرة أعم من المشيئة
السؤال
ما معنى: العلم أعم من القدرة، والقدرة أعم من المشيئة؟
الجواب
هذا صحيح في الجملة؛ لأن القدرة غير العلم، فإذا كان المقصود بها ما يتعلق بمراتب القدر فالعلم أعم؛ لأن العلم سابق وشامل للموجود والمعدوم، فالله عالم بكل شيء، والقدرة متعلقة بالمقدورات بالنسبة لأثرها، ومتعلقة بصفة من صفات الله تعالى، فالله على كل شيء قدير، ومن آثار قدرة الله تعالى وجود هذه المقدورات المحدثات، إذاً: فالقدرة أخص من العلم من جانب، وكذلك المشيئة، فالله سبحانه وتعالى مشيئته متعلقة بما شاءه من الأشياء التي أوجدها أو قدرها، أما قدرة الله تعالى فهي أعم من ذلك، وإن كانت المشيئة لا تحد بحد، لكن المشيئة متعلقة بما أراده الله سبحانه وتعالى إرادة كونية، أي بما هو كائن بمشيئته سبحانه.(21/14)
حكم التسمي بعبد الأول
السؤال
ما حكم التسمي بعبد الأول؟
الجواب
يظهر لي أنه لا مانع من هذه التسمية.(21/15)
الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن
السؤال
ما هي الآثار المترتبة على بدعة القول بخلق القرآن بالتفصيل؟
الجواب
أول ذلك أن القول بخلق القرآن خلاف النصوص الصحيحة الصريحة بأن القرآن كلام الله، فأول ما يترتب على القول بهذه البدعة هو مصادمة كلام الله تعالى وإنكاره، والقول بخلاف مقتضى الكتاب والسنة.
الأمر الثاني: أنه خروج عن إجماع السلف.
الأمر الثالث: أنه يؤدي إلى تنزيل قدر القرآن؛ لأنه إذا قيل بأن القرآن مخلوق؛ فهذا يعني أنه تعتريه صفات المخلوق من العدم والفناء، والضعف والسهو، واحتمال الخطأ واحتمال القصور؛ لأنه مخلوق، ولذا كان أكثر من تجرأ على كتاب الله تعالى هم الذين قالوا بأنه مخلوق من المعتزلة والجهمية، والرافضة حينما تقمصوا هذه المقولة؛ لأن الرافضة صارت هذه مقولتهم فيما بعد، وإن كانوا لا يزالون مختلفين، لكن هذا القول هو الذي يعتمدون عليه عملياً.
ويترتب على القول بخلق القرآن اعتقاد أن كلام الله -وهو صفته- مخلوق، والقول بأن صفة الله مخلوقة يجعل صفات الله في مصاف صفات المخلوقين تشبيهاً وتمثيلاً، والله منزه عن ذلك.(21/16)
تقييم كتاب تهذيب شرح الطحاوية
السؤال
ما رأيكم في تهذيب شرح الطحاوية لـ محمد بن صلاح الصاوي، وهل تصلح المراجعة فيه؟
الجواب
ما قرأت هذا التهذيب، وأحسبه جيداً إن شاء الله؛ لأن الصاوي -بحسب ما قرأت له من كتابات- طالب علم متمكن.(21/17)
بيان ما يصنع حال ورود الوساوس المتعلقة بالعقيدة
السؤال
تراود الإنسان أحياناً الشكوك القهرية في السؤال عمن خلق الله تعالى، وعن نهاية الحياة الآخرة، فهل يأثم بذلك؟
الجواب
الخواطر التي تخطر للإنسان لا يأثم عليها، ولا يسلم إنسان من خواطر، إنما العبرة بما بعد الخواطر، فيجب أن يبقى في المسلم أصل التسليم لله سبحانه وتعالى ابتداءً وانتهاءً، وإذا تواردت عليه الخواطر فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن اندفعت وإلا فليلجأ إلى الذكر والصلاة والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، فإن اندفعت وإلا فليلجأ إلى أهل العلم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا بقيت بعد ذلك فإن النية الصادقة والإخلاص واليقين والثقة بالله تعالى تطرد هذه الأوهام، المهم أن الإنسان يحرص على طردها، أي: على التخلص منها، ويشغل نفسه بمشاغل أخرى هي أهم، وكلما ورد هذا الخاطر يجب ألا يقف عنده لكن قد ينسيه الشيطان فيقف معه، فإذا وقف فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم.(21/18)
الموقف من زيادة (في الوجود) في كلمة التوحيد
السؤال
هل هناك من بأس إن قلت: لا إله بحق في الوجود إلا الله؟
الجواب
كلمة (الوجود) ليس لها معنى ولا فائدة؛ لأنه لا يمكن أن ننفي أو نثبت بشكل عملي إلا ما هو موجود، خاصة ما يتعلق بالأعمال الثبوتية، والتأله من الأعمال الثبوتية التي لا بد من أن تقع في عمل القلب وعمل الجوارح، فإذا قلنا: لا إله إلا الله؛ فالمعنى: (لا إله) أي: تألهه القلوب وتتوجه إليه المخلوقات (بحق) أي: يعبد بحق (إلا الله)، فهذا كاف، أما كلمة (الوجود) فهي كلمة زائدة لا تزيد إلا الوسواس والتيه، فالأولى في نظري اجتنابها.(21/19)
حكم ترك الصلاة
السؤال
جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فهل يمكن أن يكون الكفر من باب الوعيد، أي: هو كفر دون كفر؟
الجواب
هذه مسألة كثر فيها كلام أهل العلم، وخلاصتها أن ترك الصلاة على نوعين: فإن كان ترك الصلاة من باب جحد وجوبها وجحد أن تكون ركناً من أركان الإسلام عن علم؛ فهذا كفر مخرج من الملة باتفاق الأئمة، فإذا كان تارك الصلاة قد جحد أن تكون من الإسلام أو من أركان الدين فإنه -ولو عملها كما يفعل المنافقون- كافر كفراً مخرجاً من الملة.
من تركها ولم يجحدها، أو ظن أنها ليست بواجبة جهلاً، أو تركها كسلاً؛ فالخلاف فيه مشهور، وأئمة السنة فيه على قولين: منهم من يكفر فاعل هذا الأمر، أي: المصر على ترك الصلاة بعد بيان الحجة وبعد أن يؤمر بها، ويرى أن كفره كفر أكبر، وبعضهم يقول: كفره دون الكفر الأكبر.
والذي يترك الصلاة غير جاحد، وإنما يتركها كسلاً أحياناً ويصليها أحياناً؛ فهذا عمله كفر دون كفر على قول أكثر أهل العلم.(21/20)
معرفة المشركين الأولين حقيقة كلمة التوحيد وجهل بعض المسلمين المعاصرين لحقيقتها
السؤال
ما صحة هذه العبارة: المشركون عرفوا حقيقة لا إله إلا الله فلم يقولوها، وكثير من المسلمين جهلوا حقيقة لا إله إلا الله فقالوها؟
الجواب
إذا كان المقصود بذلك المشركين الذين تنزل عليهم القرآن، فهذا صحيح؛ فالمشركون الذين تنزل عليهم القرآن عرفوا حقيقة لا إله إلا الله فلم يقولوها عناداً واستكباراً، والله ذكر ذلك عنهم، وكثير من المسلمين اليوم جهلوا حقيقة لا إله إلا الله، فقالوها دون أن يعملوا بلوازمها، وهذا صحيح.(21/21)
رد النصوص إلى بعضها ليس تأويلاً
السؤال
كيف نرد على من قال: إنكم إذا فسرتم الكفر أو النفاق الوارد في بعض النصوص بأنه كفر غير مخرج عن الملة، وإنما هو كفر دون كفر؛ فقد أصبحتم مؤولين، ولم تمروها كما جاءت؟
الجواب
ليس هذا بتفسير تأويل، بل هو إرجاع لنصوص الشرع بعضها إلى بعض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أشد النهي عن أن نضرب آيات الله بعضها ببعض، فالنصوص لا بد من أن يرد بعضها إلى بعض ويفسر بعضها ببعض، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مفسرة للقرآن، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مفسر لقوله، وعمل الصحابة مفسر لعمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل أهل القرون الثلاثة الفاضلة أئمة الهدى مفسر لأعمال الصحابة، فنحن لا نخرج عن هذه الأطر أبداً، فلذلك لا بد من أن يقال: ذلك كفر دون كفر من باب اللزوم الشرعي لا العقلي.(21/22)
حكم الاحتفال باليوم الوطني
السؤال
ما رأيكم في مقال نشر في مجلة الدعوة حول اليوم الوطني، فحواه أنه ليس من المبتدعات، والاحتفال به جائز شرعاً؛ لأنه من الاحتفال بالأيام الدنيوية لا الدينية؟
الجواب
القول بأن اليوم الوطني ليس من المبتدعات قول غريب شاذ جداً، وأرجو أن يكون من قاله جاهلاً أو لا يعرف معنى اليوم الوطني، وإلا فالاحتفال باليوم الوطني بدعة مغلظة، وهو عيد من الأعياد التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أبدلنا خيراً منها، ولو سمي يوماً وطنياً أو بأي اسم آخر، فهو عيد من الأعياد التي تضاهي أعياد الشرع، وهو تشريع لغير ما أنزل الله، وإقراره لا يجوز، فيجب على أهل العلم أن يبينوا لولاة الأمور أن اليوم الوطني مخالفة لدين الله وشرعه، وحكومتنا وفقها الله التزمت في النظام الصادر في العام الماضي بأنه لا عيد لهذه الدولة إلا عيد الفطر والأضحى، ونرجو -إن شاء الله- أن يتبع القول بالعمل، وعلى أي حال قد يرد الجهل عند بعض المسئولين في حكم هذا اليوم، فينبغي لطلاب العلم أن يبينوا وأن يقيموا شرع الله تعالى بالبيان للناس وأن ينصحوا للمسئولين، وأنا واثق -إن شاء الله- من أن المسئولين في هذه الدولة إذا عرفوا أن اليوم الوطني عيد بدعي مغلظ فسيكفون عنه إن شاء الله.(21/23)
معنى إقامة الأسبوع الخاص بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
السؤال
ما رأيكم في الاحتفال الأسبوعي الذي يقام كل سنة ويسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟
الجواب
هذا لا وجود له، وأنت واهم، وأرجو أن ترجع عن وهمك، فأسبوع الشيخ أقيم مرة واحدة في مؤتمر سمي أسبوعاً؛ لأنه أقيم في سبعة أيام فقط، فلم يكن قصد القائمين عليه أن يكون أسبوعاً متكرراً، ولم يتكرر، ولن يتكرر بهذه الصيغة بمعنى الأسبوع إن شاء الله، إنما قد تعقد مؤتمرات في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ندوات أو مناسبات علمية تشرح فيها الدعوة، وهذا أمر حق، لكن لم يتكرر ولن يتكرر بالمعنى الذي ذكره الشخص إن شاء الله، ما دام أن القائمين على مثل هذا المؤتمر من أهل الخير، والمؤتمر قامت به جامعة الإمام، ونحسبها إن شاء الله ممن يدري بهذه المخاطر.(21/24)
دلالة القيومية على الأزلية
السؤال
ما معنى قول الشارح: (ويدل القيوم على معنى الأزلي)؟
الجواب
يقصد بذلك أن كلمة (القيوم) بتفسيرها الشرعي واللغوي المعروف، والذي اتفق عليه السلف أنه تعالى القائم بنفسه، يعني: الذي لا يحتاج إلى ما يقوم به، ولا يحتاج في وجوده سبحانه وتعالى إلى شيء آخر، بل هو القائم بنفسه القائم على غيره، فهو رب المخلوقات ومدبرها وبيده كل شيء سبحانه.
وهو دليل على الأزلية، بمعنى أنه تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فالقيومية التي تعني القيام بالنفس والقيام على الغير يلزم منها الأولية المطلقة؛ لأن الأولية المطلقة ضرورة للقيومية، وإلا فسيحتاج الموجد إلى موجد وهكذا، وذلك يؤدي إلى التسلسل.
إذاً: فالقيومية التي هي قيام الله بنفسه وقيامه على خلقه تعني أنه تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا معنى (الأزلي).(21/25)
المآخذ العقدية على ابن حزم رحمه الله تعالى
السؤال
ما صحة القول بأن ابن حزم جهمي جبري؟
الجواب
ابن حزم رحمه الله له مقولة تشبه مقولة الجهمية في الأسماء والصفات، وذلك أنه يرى أن الأسماء أعيان لا تدل على صفة، ولا يشتق منها صفة، وهذا هو مؤدى قول الجهمية، وهو يؤدي بالإلزام -لا بالالتزام- إلى التعطيل؛ لأن الأسماء التي لا يفهم منها صفات إنما هي مجرد أسماء في الأذهان، وهذه لا يمكن أن تؤدي إلى وصف الكمال لله سبحانه وتعالى منطقياً، وإن كان ابن حزم يفلسف الأمر ويزعم بأنها أسماء لله تعالى، لكنه يقول بأن الأسماء والصفات لا نتعدى ألفاظها ولا نستمد منها معاني أبداً، فنقف عند الاسم ولا نستمد منه صفة، ونقف عند لفظة الصفة ولا نستمد منها معنى، فهو يرى الوقوف على الألفاظ بما يؤدي إلى إلغاء المفهوم الضروري عند العقول السليمة والفطر المستقيمة.
وقوله قريب من قول المفوضة، لكنه لا يقول بلوازم قول المفوضة، بمعنى أنه لا يلغي معاني الألفاظ، بل يثبت معاني الألفاظ لكنه يجمدها ولا يخرجها عن حروف النص، حتى اللوازم التي تلزم عقلاً وتفهم من أسماء الله تعالى أو من صفاته لا يقول بها، فلذلك قيل بأنه جهمي، بل قال بعضهم: إن قوله أشد من قول الجهمية.
ومع ذلك لا يمكن أن يقال بأنه جهمي لجلالة علمه وعظيم قدره وحرصه على السنة.(21/26)
مدى صحة تفسير الأزلي بالذي لا أول له
السؤال
ما صحة تفسير الأزلي بالذي لا أول له؟
الجواب
إذا كان عند من يفهم الأزلية فصحيح؛ إذ ليس كل من أطلق الأزلية من المتكلمين والفلاسفة يقصد الأزلية التي لا أول لها؛ لأنهم أحياناً يجعلون التقادم في القدم إلى حد بعيد جداً في الأذهان شبيهاً بالأزلية، أو يعطونه وصف الأزلية، ومع ذلك فمفهوم الأزلية الذي تقتضيه العقول هو الشيء الذي لا أول له، فلذلك الذين قالوا بأزلية المخلوقات من الفلاسفة وغلاة الصوفية وغلاة الباطنية هم الذين قالوا بوحدة الوجود؛ لأنها مؤدى قولهم بأن الوجود أزلي، بمعنى: لا أول له، وإذا كان لا أول له؛ فالموجد والموجد واحد، والخالق والمخلوق واحد، بل إنهم لا يرون أن هناك مخلوقاً، ويرون كلمة (مخلوق) كلمة مجازية تعني مظهراً من مظاهر الخالق، وأحياناً يصل الحد بهم إلى أن يقولوا بأن مسألة التفريق بين المخلوق والخالق ومشاهدة حركات المخلوقات تخيلية، فهي في الأذهان وليست في الأعيان، وهؤلاء يلغون عقولهم، وهذا القول تدرك العقول والبديهة أنه باطل حتماً.(21/27)
بيان ما يحمل عليه تبديع الإمام أحمد للكرابيسي رحمهما الله تعالى
السؤال
كيف يبدع الإمام أحمد الكرابيسي ونترحم عليه؟
الجواب
هذه المعضلة قد ترد كثيراً عندما نتأمل أمور السلف، وعلى أي حال فنحن عندنا موازين شرعية عن السلف أنفسهم، هذه الموازين هي أن نزن الرجال بمجموع أعمالهم وأقوالهم، وبما مات عليه الشخص منهم، فالمعاصرون للشخص الذي تكلم ببدعة قد يكون لهم منه موقف شديد وصعب، كموقف الإمام أحمد من بعض السلف الذين قالوا ببدع جزئية، وكذلك غير الإمام أحمد من الأئمة الذين وقفوا موقفاً فيه نوع من الهجر أو السب أو التحذير من الشخص، فهذا المقصود بذلك سد الذرائع، والمقصود به محاصرة البدعة لئلا تنتشر، خاصة إذا خرجت من شخص ينسب للسنة، فكانوا يشددون عليه ويهجرونه إذا أصر على قوله، لكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم يكفرونه أو أنهم يحجرون على الآخرين أن يكون لهم رأي آخر فيه، فلو قرأتم -مثلاً- أقوال المترجمين للرجال -كـ الذهبي وغيره- لوجدتم أنهم يحكمون على مثل هؤلاء الذين تكلم عنهم السلف وهم ليسوا من أصحاب البدع الأصليين بتوازن، فينقلون ما قال فيهم النقاد وما قال فيهم المزكون، ثم يخرجون بنتيجة، فنحن لا نلغي موقف الإمام أحمد رحمه الله، لكننا نفسره، ولا شك في أن الكرابيسي ليس بصاحب بدعة مغلظة في غير هذه المسألة التي جرت بينه وبين الإمام أحمد، وهي قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو في بقية أمور السنة يعتبر من أنصار السنة ومن الذين نافحوا عن السنة ودافعوا عنها وقرروها وكتبوا فيها، إلا في هذه المسألة، فالإمام أحمد معذور في وقفته ضده فيها خشية أن تنتشر فتفضي إلى القول بأن القرآن مخلوق إذا تساهل الإمام أحمد فيها وفيمن قالها.
فهذه المواقف مواقف فردية جزئية، لا تلغي اعتبار الشخص في الجوانب الأخرى، وأمثالها في التاريخ كثير عند أئمة السلف ورواة الحديث وأئمة الهدى، خاصة في المتعاصرين والأقران، حيث يحدث بينهم من الكلام ما يكون لهم عذر فيه لكونه لحماية الدين وسد الذريعة، وهذا يحدث في كل زمان، فوطنوا أنفسكم على حدوث مثله في زمانكم.(21/28)
أهل السنة أعلم بظواهر النصوص ومفهوماتها
السؤال
يقال: إن أهل السنة أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها، فما صحة ذلك؟
الجواب
هذا صحيح، فهم أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها، لا أقصد بـ (بواطنها) التفسير الباطني، لكن النصوص دائماً يكون لها معنى متبادر، ومعنى آخر يفسر به النص لنص آخر أو قاعدة أخرى، فهذا قد يسمى معنى باطناً من حيث المفهوم، فالنص له مفهوم ومنطوق: فالمنطوق هو الظاهر، والمفهوم هو الذي يستنبطه العلماء.
ولا أعني بالبواطن التفسير الباطني الذي يبعد عن معاني النصوص الحقيقية ويفسرها بتفسير على الأهواء والقواعد العقلية أو الباطنية، فهذا لا يقصد في هذا المقام؛ فنحن نقول ذلك لأنه إذا لم نقل بأن السلف أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها جاء من يدعي أن السلف سطحيون، وأنهم أهل ظاهر لا يفهمون معاني النصوص ومفهوماتها ومحاملها على القواعد، وحمل الخاص على العام والعام على الخاص، والمطلق على المقيد ونحو ذلك؛ إذ هذا كله قد يدخل في معنى الباطن.(21/29)
بيان ما تعنى به أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية السعودية
السؤال
علماء السلف يحذرون من تعلم علم الكلام ومن كتبه، وفي قسم العقيدة تطرح أقوالهم وشبهاتهم للتوسع، وفي بعض الأحيان يكون الرد عليهم هزيلاً يثير بعض الشكوك عند بعض الشباب، ألا يكون الأولى أن تعرض عرضاً ليس بهذا التوسع؟
الجواب
هذا كلام مجمل قد لا أوافق عليه، فأقسام العقيدة عندنا في المملكة في جامعة أم القرى والجامعة الإسلامية وفي جامعة الإمام كلها تقوم على منهج ثابت واضح، وهو تقريب مذاهب السلف وتقويم المذاهب التي تجمع بين السلفية وغير السلفية، والرد على المذاهب الكلامية والبدعية بشكل واحد، لكن مع ذلك قد توجد بعض جوانب الضعف عند بعض الباحثين، وليس الذنب فيها ذنب الأقسام، لكن هذه المسألة ينبغي ألا تؤثر في الأصل، فأقسام العقيدة كلها تقوم على تقرير العقيدة أولاً، وتقويم إنتاج الناس في هذا الموضوع ثانياً، والرد على أهل الكلام ومن نحا نحوهم قديماً وحديثاً، وهذه مهمات القسم، وحسبها أنها تناقش وتعالج في الأقسام نفسها، ولا يخرج منها إلا ما يصلح، أما مناقشة قضايا الكلام وعلم الكلام والفلسفة والمنطق ومناقشة أهل الأهواء والبدع القديمة والحديثة وشبهات الملحدين فذلك من أهم واجبات الأقسام، لكن الكلام فيما يخرج للناس وما يخرج للعامة، فهذا هو مسئولية الباحثين والمؤلفين الذين يخرجون إنتاجهم.(21/30)
خلق الله للعباد وأفعالهم
السؤال
كيف نقول: إن الله خلق أعمال العباد، ولا نقول: إن الله خلق العباد، وأعمال العباد كائنة باختيارهم؟
الجواب
الله خالق كل شيء سبحانه، وكل شيء بقدره، فالله سبحانه وتعالى لا يخرج عن خلقه وعن قدرته وعن تدبيره شيء، لا من أفعال العباد ولا من أفعال سائر المخلوقات، لكن مثار الخلاف عند الفرق الذين خالفوا أهل السنة والجماعة هو أفعال الإنسان المكلف المختار القادر على التمييز، فهل أفعاله مستقلة ليس لله فيها علم سابق ولا قدر ولا خلق -وهذا قول باطل- أم هي داخلة في علم الله وقدره؟ وهذا هو القول الحق، فلا يخرج عن علم الله وقدرته شيء، لكن الإنسان هو الذي يفعل ما هو في مقدوره، وأفعاله داخلة في خلق الله، بمعنى أن ما يفعله الإنسان بقدرته واختياره الله هو خالقه وهو مقدره وهو العالم به سبحانه.(21/31)
أبو الحسن الأشعري وعلم الكلام
السؤال
هل كان ميل أبي الحسن الأشعري إلى علم الكلام أم إلى مناظرة أهل الكلام؟
الجواب
هذا مفرق في الفهم، فـ أبو الحسن رحمه الله حينما رجع إلى السنة قرر مذهب أهل السنة والجماعة بأصول السنة جملة وتفصيلاً، ولكن نُمي إلى بعض أئمة السنة أنه لا يزال عنده قناعة ببعض علم الكلام، فنوقش في هذا وطلب منه أن يتراجع، وأن يعلن أنه بريء من علم الكلام، وأنه لا يقول به، فأصر على أن من علم الكلام ما هو مفيد، وحبذ دراسته وتحصيله على أنه علم من العلوم التي يفاد منها، وكان السلف يخالفونه في ذلك؛ لأن علم الكلام كلمة تعني القواعد العقلية التي يعتمد عليها المتكلمون، ولا تعني مجرد استعمال العقليات البدهية في نصر الحق على ضوء القواعد الشرعية وفي مصب النصوص، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه السنة، بل هو نهج القرآن، فالقرآن يثير عقول البشر والبدهيات عندهم وما استقر في الفطرة ليقرر به الحق، وهذا أمر وسيلته العقل لا شك في ذلك، لكن إذا قلنا: علم الكلام؛ فعلم الكلام المقصود به الخوض في أسماء الله وصفاته، وفي مسائل القدر وأمور الغيب الأخرى بمجرد القواعد العقلية مع التلفيق بينها أو التوفيق بينها وبين النصوص، وهذا هو أساس علم الكلام، ولو لم يكن هذا أساسه لما اختلفنا مع الذين يقولون باستخدام العقول في نصرة الحق، فنحن لا نختلف معهم في ذلك، بل نرى أن الأصل عند أهل السنة والجماعة استخدام العقول في نصرة الحق، وهذا أمر بدهي، إنما إذا أرادوا الأمر الآخر -وهو التلفيق بين النصوص والقواعد العقلية، أو استخدام القواعد العقلية البحتة في تقرير قضايا الغيب-؛ فهذا هو مكمن الخطورة، وهو المقصود عند المتكلمين، وإذا كان هذا هو المقصود عند المتكلمين فنحن نقول بقول السلف، ولذلك استنكر الأئمة على الأشعري هذه المسألة، وبقيت مما عابه عليه الأئمة.(21/32)
حكم تعليم العامة العقيدة بنحو سؤال: (أين الله)
السؤال
هل يجوز سؤال العامة بقول: (أين الله) لتعليمهم العقيدة؟
الجواب
لا يجوز تعليم العامة العقيدة في مثل هذا السؤال، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟)، فهذا السؤال إنما جاء لمناسبة، وهي التأكد من أن هذه الجارية مؤمنة فقط، ليس على سبيل تقرير العقيدة، إنما على سبيل التأكد من إيمانها، فمن تعرض لمثل هذه الحالة فإنه يستعمل معه هذا الأسلوب، أما أن يكون السؤال بـ (أين الله) من أمور التربية التي يربى عليها الناس فلا، بل يكفي عرض العقيدة على ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعوام لا يتمادون في الكلاميات، ولو أخذوا العقيدة بأسلوب المتكلمين لضلوا كغيرهم، ولعل من حظهم أنهم لا يفهمون أساليب المتكلمين، وإلا فلو فهموها لفتنوا بها، فلذلك لا نجد متكلماً إلا وهو ذكي وعبقري، أما الذي هم أقل في الذكاء وأقل في العبقرية فهم إما مقلدون وإما من السالمين من عقائد المتكلمين، بمعنى أنه ليس في رءوس أهل الكلام عوام، بعكس البدع العملية، فالبدع العملية يكون فيها عوام ويكونون دعاة ضلالة، أما البدع الاعتقادية التي تخضع لمناهج المتكلمين والعقليات والفلسفات فليس فيها عوام ولا من دعاتها عوام.(21/33)
شرح العقيدة الطحاوية [22]
جميع العقلاء يفرقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات، أو لم يدركوا معناها، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بأدلة وبراهين عقلية تدل على نبوته، كإخباره بما سيحدث من أحداث، ووقوع هذه الأحداث بعد إخباره بها على ما قال، وكحاله صلى الله عليه وسلم وحال أمته ودينه مما لا يرده إنسان إذا استعمل عقله مجرداً من الهوى والمكابرة.(22/1)
الدلائل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم(22/2)
ذكر خبر سؤال هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: [وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام؛ طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا، وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه، فقالوا: يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال: سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم.
وهم أتباع الرسل، يعني: في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون.
وكذلك الإيمان حتى يتم].
يعني بذلك أن الإيمان بدين الأنبياء -وهو دين الفطرة ودين التوحيد- لا يدخله في الغالب إلا من هو مقتنع به، ثم إنه ينسجم مع الفطرة ومع العقل السليم ومع حاجة البشر، فالإنسان إذا استجاب وهداه الله للإيمان وذاق حلاوة الإيمان؛ فإنه لا يمكن أن يخرج منه أبداً، فمن هنا لم يعهد أن أحداً ممن دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام عن قناعة وعن يقين وإيمان ارتد، خاصة في أول الإسلام، أما بعد ذلك حينما دخل الناس رغبة ورهبة فقد وجد من ارتد؛ لأن من أسباب دخول كثير منهم إما التقليد واتباع الكبار، وإما الرغبة حينما بدأت الأطماع في الغنائم والمصالح، وإما الرهبة من السيف، وهذا كان بعد أن أثخن النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، أما قبل ذلك فلا أحد كان يدخل في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تلك الحال إلا عن قناعة، فمن دخل عن قناعة وذاق حلاوة الإيمان لا يمكن أن يعدل عنها إلى غيرها.
قال: [وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق؛ فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.
وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون؛ علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
] قال رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، الآيات، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، الآيات.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول].
هذا فيه إشارة إلى أن من سنن الله تعالى في النبيين وأتباعهم أنهم لا بد من أن يبتلوا على قدر إيمانهم، والابتلاء أنواع، وأشده أن يواجهوا من أقوامهم وممن حولهم الصدود والإعراض، وربما يصل الأمر إلى القتال، كما حصل لجمع من الأنبياء الذين ما انتشرت دعوتهم إلا بقتال.
إذاً: فال(22/3)
توارد ما يقطع بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر].
السياق يدل على أن مقصود الشارح رحمه الله الاستدلال على أن النبوة تعرف بالقرائن، وأن أي نبي يعرف صدقه بالقرائن، وأن أي مدع للنبوة يعرف كذبه بالقرائن، يقول: إن من علامات ذلك أن الإنسان فيما دون النبوة من الحالات العادية الكائنة في سلوك البشر ترد عليه أمور تتوارد واحداً بعد الآخر -يعني: قرينة بعد قرينة- حتى تجعله يجزم بالأمر بمجرد خواطر وقرائن، فكيف بأدلة تدل على أن النبي صادق؟! فالإنسان إذا كان جائعاً وأكل طعاماً قليلاً يشعر بسد بعض حاجته، فإذا انضاف إلى هذا الطعام طعام آخر شعر بشيء من سد الحاجة أكثر، فإذا أكل طعاماً يسد جميع حاجته شعر بالشبع، أليس كذلك؟! هذا في حالة الإنسان العادية، فكذلك مسألة التصديق، فالعقل مثل حاجات الإنسان الأخرى، فإذا توارد عليه من القرائن ما يدل على صدق خبر من الأخبار صدق، كأن يأتي إنسان من الناس يظهر عليه أنه ثقة فيخبر بخبر، فيترجح عندنا أن هذا الخبر صدق، فيأتي آخر يظهر عليه أنه ثقة فيقول الخبر، فيترجح عندنا بشكل أقوى أنه صدق، فيأتي ثالث نعرفه يقيناً أنه صادق وأنه من الثقات بنفس الخبر ويقول: إنه شاهد عيان.
فمن هنا يحصل الجزم بأن الخبر صادق، فإذا توارد الخبر من مجموعة أشخاص فمئات فآلاف صار جزماً، وهذا في أحوال الناس العادية، فكيف بأخبار الأنبياء التي تتوارد على الناس من كل وجه فتصدقها قلوبهم وعيونهم ومسامعهم، فالأنبياء يحدث لهم من الأحوال والأقوال والتصرفات والأوامر والنواهي والتشريعات والعقود والعهود والتعامل مع الآخرين والأخبار التي يخبرون بها ثم تقع بمجموعها ما يوجب اليقين بأن النبي صادق، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحقق له الوحي الذي نزل عليه -وهو القرآن والسنة-، ثم إخباره عما يحدث، ثم ارتفاع شأنه بين الأمة وكثرة أتباعه، واستقرار دينه وتمكنه في الأرض، كل هذا الأمور توجب عند كل عاقل لو تجرد من الهوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن إذا حجب الهوى قلبه -نسأل الله العافية- فقد لا يهتدي، فالمشركون الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه بالصدق ويسمونه الأمين، ولما جاءهم بالوحي من عند الله ما استطاعوا أن يكذبوه لذاته، إنما بحثوا عن عوامل أخرى، ومع ذلك بقي عندهم صادقاً وكانوا يشهدون له بالصدق بعد أن جاءهم بالوحي، ومع ذلك لم تنفعهم هذه القرائن، لكن نفعت المؤمنين وزادتهم إيماناً.
إذاً: فمسألة الاستدلال على النبوة لا يلزم أن تكون بمعجزة فقط، بل أدلة النبوة وأدلة صدق النبي تتضافر عليها عوامل وقرائن كثيرة توجب اليقين لكل عاقل منصف.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك].(22/4)
الآثار الدالة على ما فعل بالأنبياء وأتباعهم وما فعل بالمكذبين
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة: كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء: كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]].
القصص المشهورة للنبيين معروفة عند الأمم إلى يومنا هذا، فمثلاً: قصة الطوفان نجدها عند كل أمة من الأمم، فكل أمة من الأمم تتحدث عن الطوفان، يعني: أصل الطوفان ومبدؤه وحدوثه معترف به عند جميع الأمم، وأنه عقوبة لأمة كذبت رسولها، هذا هو أصل القصة وإن نسجت حوله خيالات وحكايات كاذبة، لكن أصل القصة معروف، وكذلك قصة فرعون وغرقه معروفة عند جميع الأمم، فكل أمة ذات حضارة نجد أن قصة فرعون مسطورة في كتبها، فما من أمة حدث لها أمر هائل أو عقوبة شاملة إلا ونجد قصتها عند أكثر الأمم أو عند كل الأمم، وهذا مما تقوم به الحجة على الأمم، حيث تجعل تلك القصص كل إنسان يعرفها يقول: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟ وما نتيجته؟ إلى آخر ذلك، فإذا كان هذا في القصص السابقة؛ فكيف بقصص النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الآن مدار حديث الأمم جميعاً، وهي مسطورة ومكتوبة، ولا يستطيع أن ينكرها إلا مكابر؟! قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين وجعل العاقبة لهم وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها، ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب، كـ أبو قراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه.
ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم.
ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه -كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم- عرف صدق الرسل.
ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.
ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات، كـ البيهقي وغيره].(22/5)
بيان مذهب المعتزلة فيما تثبت به النبوة
فدلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكلها تثبت صدق نبوته، وليست هي المعجزات فحسب كما قال المعتزلة وبعض أهل الكلام الذين قالوا بأن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، وأهل السنة قالوا: النبوة تثبت بالقرائن والمعجزات، وثمرة هذا الخلاف تظهر على جزئيات بعض المباحث في العقيدة فقط، فالإيمان بالنبوات والرسالات واحد عند الجميع، سواءٌ الذين اعترفوا بأن القرائن دالة على النبوة والذين لم يعترفوا، كلهم قولهم في النبيين في الجملة واحد، لكن انعكس الخلاف في بعض المسائل الأخرى، فمثلاً: المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء، بناءً على قاعدتهم في أن الخارق لا يحدث إلا لنبي، فأنكروا أن يكون للأولياء كرامات، وإنكار الكرامات قدح في الشرع وقدح في العقل وقدح أيضاً في الناس أنفسهم، فالناس يدركون الكرامات ويدركون ما يحدث لأولياء الله تعالى من خوارق هي من باب الكرامات.
فالمعتزلة -بناءً على قولهم لأجل أن تسلم قاعدتهم أنه لا يكون خارق إلا لنبي- ادعوا أنه ليس هناك شيء اسمه كرامات الأولياء، وينبني على هذا قيمة الوحي عندهم، فإذا عولوا على أنه لا يتم الإيمان بالرسل إلا بالمعجزة انعكس هذا على مسألة في القرآن، فإن المعتزلة قالوا بأن القرآن مخلوق، وإذا كان مخلوقاً فهذا يعني أنه ضعيف؛ إذ لا يتم الإعجاز من خلال مخلوق، فيبطل إعجاز القرآن بقولهم: إنه مخلوق، فإذا بطل إعجاز القرآن بطلت دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد بعده منها شيء.
فالذين يولدون بعد انقضاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدون من معجزاته إلا القرآن، فمن قال بخلق القرآن ألغى إعجاز القرآن، ومن ألغى إعجاز القرآن فقد ألغى المعجزة، وإذا التغت المعجزة كان الناس في حل من أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو لا يؤمنوا.
وهكذا نجد للمسألة فروعاً كثيرة خطيرة لا يتسع الوقت لإحصائها.(22/6)
إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الذات الإلهية
قال رحمه الله تعالى: [بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحد للرب بالكلية وإنكار].
وهذا من باب الإلزام، وليس هو قول الخصم، فالذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد ينكرونها مكابرة وجحداً، ومع ذلك يعترفون بهذه اللوازم، لكن هذا من باب الإلزام العقلي، وتقرير الحق بالإلزام من الوسائل التي استعملها السلف.
قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم].
هذا القول -أي: الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ظالم- قال به طوائف من أهل الكتاب، طوائف من اليهود وطوائف من النصارى، ولا يزال هذا القول موجوداً في طائفة كبيرة من الغربيين من المستشرقين وغيرهم، يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ملك ظالم، وأنه من ملوك العرب، وأنه مدع للنبوة، ويستدلون على ظلمه -بزعمهم- بأنه أشرع السيف في الأمم.
قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع منه الوتين!].
فالله تعالى قد توعد على ما هو أقل من ذلك، فكيف بهذه الأمور كلها يفعلها ثم الله تعالى ينصره ويؤيده ويرفع ذكره ويعلي أمته في الدنيا ويمكنها من جميع الأمم؟! فالله سبحانه وتعالى توعده على ما هو أقل من ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فإذا كان الله يتوعده في بعض الأقاويل؛ فكيف في أمر أكبر من مجرد الأقاويل؟! أمر هيمن فيه على الأمم، ورفع شعار لا إله إلا الله، وقاتل عليه، وجاء بشرع من عند الله، ووعد بأن الله سينصره، ثم نصره الله ومكن له وأظهر أمته، فلو كان هذا كذباً لما تمكن هذا التمكن وصار له ولدينه هذا الشأن.
قال رحمه الله تعالى: [فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!](22/7)
هلاك مدعي النبوة دليل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه، هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30 - 31].
] من المعروف أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لمتنبئ كذاب في الأمة، وهذا ما حصل فعلاً، فإنه في تاريخ الإسلام ظهر مدعون كثر يدعون النبوة، لكن أمرهم كان ينتهي بالفشل، والناس الذين يغترون بهم ينقمون عليهم في نهاية المطاف ويحقدون عليهم، هذا أمر.
والأمر الآخر: أن كل الذين ادعوا النبوة في تاريخ الإسلام كانوا ينتهون بنهاية مؤلمة تدل على كذبهم، إما بقتل غيلة أو نحوه، ثم إن الذين ادعوا النبوة في التاريخ الإسلامي لم يبق لهم دين محترم، فالدين الحق هو الدين الظاهر، والذين كذبوا على الله تعالى انتقم منهم بأي نوع من أنواع الانتقام، بالفشل وبالنهاية المؤلمة وبعدم التمكين في الأرض وإن تمكنوا زمناً، فإنهم ينتهون في النهاية إلى أمر يدل على الفشل الذريع، والناس لا يستجيبون للمتنبئ الكذاب ولو اغتر به بعض الغوغاء بعض الوقت لعصبية أو لغيرها؛ لأنه قد يبيح لهم بعض الشهوات أو يخفف عنهم بعض الأعباء أو بعض العبادات ونحوها، فما من متنبئ كذاب إلا وانتهى أمره -بحمد الله- بما يدل على فشله وكذبه، فهذا من تمكين الله لهذا الدين، ودليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الكفار لو نظروا هذه النظرة لوجدوا في ذلك ما يدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، فقد ظهر المتنبئ الكذاب من هذه الأمة، ومن الأمم الأخرى، فقد ادعى النبوة أناس من النصارى وفشلوا، وادعى النبوة أناس من اليهود وفشلوا، وادعاها أناس في هذه الأمة فلم يفلحوا، بل انتهى أمرهم إلى ما هو معروف.
قال رحمه الله تعالى: [أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره].
انتهى الشارح إلى خلاصة، وهي: أن جميع العقلاء في الأرض يفرّقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات أو لم يدركوا معنى المعجزة، مع أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة ولنبينا صلى الله عليه وسلم معجزة القرآن ومعجزات أخرى، وهي نبوءاته صلى الله عليه وسلم الباقية إلى قيام الساعة، التي هي إخباره بما سيحدث، فمنها ما حدث وكان دليلاً قاطعاً على صدقه عليه الصلاة والسلام، ومنها ما ينتظر، ولا تزال الأمة ترى ما يصدق أخباره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وهذا مما تقوم به الحجة، وهو من القرائن.
ومن القرائن ما ذكره، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم توافر له من الأدلة ما يدل على صدقه، أي: الأدلة العقلية والبرهانية والأدلة التاريخية التي هي واقع هذه الأمة ودينها المحفوظ، فلا يسع أحداً من الكفار الذين يسمعون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون عن الإسلام ويسمعون عن هذه الأمة إلا أن يصدقوا إن استعملوا عقولهم مجردة من الهوى، لكن الناس تحجبهم عن الحق أهواؤهم، وتحجبهم عن الحق رغباتهم وشهواتهم وأمور أخرى من نوازع البشر التي تحجبهم عن الهدى، ومن لم يهده الله فلا هادي له.(22/8)
شرح العقيدة الطحاوية [23]
الفرق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي ولا عكس، وهذا هو قول جمهور السلف، ولكنهم اختلفوا في سبب التفريق، فمنهم من أرجع ذلك إلى وجود شريعة جديدة يبعث بها الرسول، بينما النبي يكون متبعاً لمن قبله، ومنهم من جعل الفرق في الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي، وغير ذلك من التفريقات.(23/1)
الفرق بين النبي والرسول
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها: أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس برسول].
التفريق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور السلف، فالأنبياء غير الرسل وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي، لكن ليس كل نبي رسولاً، فالقول بالتفريق بين النبي والرسول هو الراجح، وهو الذي تقتضيه ظواهر الآيات والنصوص، بل ورد من الأحاديث ما يدل على التفريق، وإن كانت أحاديث قد لا تصل إلى درجة الصحة، لكن ما ورد من ظواهر النصوص يوصلنا إلى الجزم بأن هناك فرقاً بين النبي والرسول، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر وأبو أمامة أيضاً، وأخرجه أحمد في المسند والحاكم وغيرهما -وهو حسن، وصححه كثير من أهل العلم- (أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم عدد النبيين؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
ثم سأله: كم عدد المرسلين؟ فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر).
إذاً: فالتفريق يدل قطعاً على الفرق؛ لأنه حينما سأل أبو ذر رضي الله عنه عن عدد النبيين أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بعدد معين، ثم لما سأله عن عدد المرسلين أجابه بذكر عدد معين، فتنويع السؤال دليل على التفريق، ثم لما أجابه عن عدد المرسلين دل ذلك قطعاً على أن الرسل غير النبيين، فالمرسلون يصطفون من النبيين، لكن ليس كل نبي يصل إلى الرسالة.
فأقول: إذا صح الحديث فهو دليل قاطع، لكن لم يصل إلى درجة الصحة عند بعض أهل العلم، وإن كان روي بطرق حسنة، وقد اختلف الناس في التفريق بين النبي والرسول على أقوال كثيرة: فمنهم من نظر إلى الشرائع فقال: الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول يأتيه شرع، والنبي لا يأتيه شرع، وإنما يكون متبعاً لشرع من قبله.
ومنهم من قال: الفرق هو الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي.
ومنهم من نظر إلى مسألة المعجزة فقال: من حصلت له معجزة كبرى فهو رسول، ومن لم تحصل له معجزة كبرى فهو نبي.
ومنهم من نظر إلى فعل الأنبياء، فمن دعا إلى الدين بالقوة واستعمل القتال والسيف ضد خصومه فهو رسول، ومن لم يفعل ذلك فهو نبي.
ومنهم من نظر إلى كيفية الوحي فقال: من نزل عليه جبريل بالوحي فهو رسول، ومن لم ينزل إليه جبريل فليس برسول، بل هو نبي، كمن يلهم إلهاماً أو يوحى إليه بأنواع الوحي الأخرى.
ومنهم من نظر إلى نوع الوحي فقال: من أوحي إليه يقظة ومناماً فهو رسول، ومن أوحي إليه مناماً فقط فهو نبي.
وكل هذه الأقوال لا تصمد أمام النظر والاستقراء لأحوال الأنبياء والمرسلين ولمن سماهم الله أنبياء وسماهم الله مرسلين.
وهناك تفريق مشهور عند أهل العلم، وهو أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أبعد من الفروق الأخرى، لكن هناك تفريق أحسن من هذه التفريقات كلها، وهو أن يقال: إن النبي من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من المرسلين وأمر بتبليغه؛ لأنه لا يتأتى أن يوحى إليه بشرع ولا يؤمر بالتبليغ، بل الله سبحانه وتعالى كلف بالتبليغ أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء من المصلحين والدعاة، فكيف لا يؤمر بالتبليغ من هو أعلم منهم؟! إذاً: فيقال: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من الرسل لأقرب رسول إليه وأمر بالتبليغ، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه، سواء أكان هذا الشرع الجديد شرعاً كاملاً كما أوحي إلى موسى، أم شرعاً مكملاً كما أوحي إلى عيسى عليه السلام، فهذا أسلم تعريف، وهو الذي استقر عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال بأن النبي: هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه وأمر بتبليغه، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه.
قال رحمه الله تعالى: [فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة؛ إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها].
يقصد بذلك: أن الرسالة من حيث قدرها أخص؛ لأنها أعظم قدراً، وكذلك من حيث عدد المرسلين تعتبر الرسالة أخص؛ لأن عدد المرسلين أقل، لكنها أعم؛ لأنها أرفع درجة، فالرسالة أعم من النبوة من هذا الجانب، فهي تشمل النبوة وزيادة، والعكس بالنسبة للنبوة، فالنبوة أعم من جهة أهلها، أي: أن عدد النبيين أكثر، وأخص من جهة نفسها؛ فإنها جزء من الرسالة، فالنبوة مرحلة سابقة للرسالة، فهي أخص، يعني: أقل رتبة وأدنى درجة من الرسالة؛ فلذلك كل رسول نبي؛ لأن كل رسول ينبأ أولاً، ثم يصطفي الله من النبيين رسلاً، فيكون كل رسول نبياً، ولكن ليس(23/2)
عظيم نعمة الله على عباده بإرسال الرسل
قال رحمه الله تعالى: [وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]].
يشير بهذا إلى أن إرسال الرسل من نعم الله تعالى؛ لأن البشر لو لم يأتهم رسل لما اهتدوا إلى ما يريده الله سبحانه وتعالى وما يرضاه، وهذا معلوم قطعاً بالضرورة؛ فإن الشرائع تشتمل على ما لا يحيط به البشر من الحكم والمقاصد الشرعية والغايات التي لا تتعلق بجيل دون جيل، ولا تتعلق بشخص دون شخص، فلو فرضنا أن إنساناً أدرك مصالح نفسه فلن يدرك مصالح الآخرين، ولو فرضنا أن جيلاً أدرك مصالحه فلن يدرك مصالح من سبقه ومن يلحقه، إذاً: فالبشر بحاجة إلى شرع من الله تعالى، هذا أمر.
والأمر الآخر: أن الأديان تنبني بالدرجة الأولى على العقائد ثم على الأحكام، والعقائد بجملتها لا يدركها البشر، فكان لا بد من بعث المرسلين؛ ليبينوا للناس التوحيد أولاً ثم الأحكام ثانياً.
والأمر الآخر: أن الرسالات جاءت لإنقاذ طائفة من البشر ممن كتب الله لهم الهداية وليس لجميع البشر؛ لئلا يظن أن من مقتضى الرسالة أن يؤمن الناس جميعاً، فإن الله كتب على الخلق الابتلاء، ومن مقتضيات الابتلاء أن تهلك طوائف من البشر وأن تنجو طوائف، فعلى هذه قد يحرم من هذه النعمة طائفة من خلق الله تعالى، وهم الذين يتنكبون الصراط المستقيم، ويعصون الأنبياء ولا يطيعونهم، مع أنه لا يمكن أن يتأتى من عاقل من البشر أن يعصي الرسول إلا بعد إقامة الحجة عليه، وهذا أمر ضروري يجب أن يفهمه كل إنسان، لا يمكن أن يتأتى عصيان الرسل عصياناً مباشراً إلا بعد إقامة الحجة على العصاة، بمختلف أنواع الأدلة التي تكون لكل أمة بحسب ما يصلح لها، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة ظاهرة لجميع البشر الذين يبلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ظاهرة بوجود دينه وبوجود المسلمين وبوجود السنة، وظاهرة بوجود القرآن أيضاً، والتمكين لهذا الدين، ووجود المسلم في أي بقعة من الأرض حجة على البشر؛ لأنه يمثل دين الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلا يلزم من إقامة الحجة وجود شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى إدراك تفصيل سيرته، بل مجرد وجود مسلم تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض يعتبر حجة، ويعتبر من النعمة التي أسداها الله إلى الخلق تبعاً لما أنعم الله به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، أي: أن من لم تبلغه الرسالة لا يعذب حتى تقام عليه الحجة، فلذلك اختلف أهل العلم فيمن مات من البشر ولم يسمع برسول ولم تبلغه رسالة، وهذا وارد في طوائف من البشر في كل زمان، فقد يوجد الآن في الأرض على كثرة وسائل انتشار الأخبار والتبليغ من لم يسمع برسول، فهذا -كما قال أهل العلم- حكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وأرجح ما قيل -وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار صحيحة- أن الله يبتلي هؤلاء بابتلاء في الآخرة على نحو ما ابتلى الناس في هذا الدنيا، فيختبرهم فيشقى من شقي ويحيا من حي عن بينه، والله أعلم.(23/3)
شرح العقيدة الطحاوية [24]
جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تمنع من التفضيل بين الأنبياء، بينما هناك نصوص أخرى وردت بإثبات التمايز بينهم في الفضل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم، والجمع بين ذلك بأن يقال: إن النهي عن التفضيل بين الأنبياء يكون إذا جاء في مقام العصبية والحمية والتفاخر على الآخرين، وإذا جاء ذلك في معرض التنقص والحط من قدر بعض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.(24/1)
ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأنه خاتم الأنبياء): قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل)، خرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي).
وفي صحيح مسلم عن ثوبان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)، الحديث].(24/2)
المراد بظهور ثلاثين كذاباً يدعون النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
في هذا الحديث ذكر عدد المتنبئين الكذابين الذين سيخرجون في هذه الأمة، وقد يرد في ذكر العدد بعض الإشكالات عند من لم يتأمل معنى الحديث، أو لم يتأمل أيضاً قصص التاريخ التي ذكر فيها أحاديث وقصص المتنبئين الكذابين، فالإشارة إلى الثلاثين مقيدة بأمور، منها: أن هذا العدد المقصود به بعض الذين يتنبئون وليس كلهم، فالبعض هم الذين تتوافر فيهم صفات المتنبئ الكذاب؛ لأنا لو نظرنا إلى عدد من خرجوا في التاريخ فنجدهم بالآلاف، ولا يخلو شهر أو سنة من سنين هذه الدنيا إلا ويخرج فيها متنبئ كذاب، لكنه قد لا تتوافر فيه الشروط التي بها يسمى متنبئاً، فالذين تتوافر فيهم الشروط قلة، وربما لم يبلغ عددهم إلى الثلاثين، والله أعلم.
والذين ظهروا في تاريخ المسلمين من المتنبئين الكذابين الذين كانت لهم شوكة ولهم أثر وبقي ذكرهم؛ لا يصلون في الحقيقة إلى هذا العدد، وهذا يعني -والله أعلم- أنه لا يزال المجال مفتوحاً لخروج كذابين، لا سيّما أنه وردت أحاديث أخرى -أظنها بأسانيد حسنة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المتنبئين الكذابين أربع نسوة، ولا يعرف في التاريخ من النساء من كان لها أثر وشوكة إلا سجاح التغلبية، وهذه ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وبعدها لم نعرف أن متنبئة كذابة ظهرت، فبقي منهن -إذا صح الحديث- ثلاث، وعصر المرأة الآن يمهد لظهور كذابات، والله أعلم؛ لأن نفخ المرأة بأكثر مما تستحق يجرئها على أن تدعي النبوة، وأظن أن الأمور الآن من خلال ما يحدث في العالم الآن من إعطاء المرأة أكبر من قدرها تهيئ لظهور متنبئات كذابات، وعلى أي حال لا نتنبأ بالغيب، لكن إرهاصات ذلك واضحة، ومع ذلك يبقى الأمر معلقاً على صحة الحديث، وأنا لم أتثبت من صحة الحديث، إلا أني أعرف أنه رواه الإمام أحمد، وأنه -أيضاً- بإسناد حسن، لكن يحتاج لمتخصصين يرجعون إلى الحديث، والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أمتي كذابون ودجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة)، وأرجوا من الإخوة المهتمين بالحديث أن يفيدونا بصحة حديث السبعة وعشرين متنبأ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك بعدما ظهر في آخر عهده ثلاثة من المتنبئين الكذابين، وهم: الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي، هؤلاء كلهم تنبئوا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالثلاثون هنا المقصود بهم: الذين لهم شوكة ولهم أثر، أما المجانين وأشباه المجانين والمهلوسون الذين عندهم نوع من حب الشهرة؛ فهؤلاء لا يحسب لهم حساب، وإلا فهم كثرة كاثرة لا يكادون يحصون، لكن ما ثبت من هؤلاء وأصر وصار له أتباع إلا عدد قليل، وأولهم أو الأربعة الذين ظهروا قبل حروب الردة ثم قضي على دعواتهم مع حروب الردة ما عدا العنسي؛ فقد اغتيل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليالٍ، وقد بشر بقتله قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.
فالذين تنبئوا في التاريخ وكان لهم أثر وكان لهم أتباع وبقي لهم ذكر وصارت لهم مبادئ وعقائد نقلت عنهم ورويت عنهم هؤلاء قلة في التاريخ.(24/3)
مزاعم أهل الضلال في معنى ختم النبوة
قال رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)].
في هذا الحديث أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه ختم به النبيون، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم خص بهذه الخصيصة، وهذا دليل قاطع على أنه لا نبي بعده، والذين ظهروا في التاريخ منهم من يجهل هذه الأمور أصلاً، ومنهم من يدري لكن يتأول، فيقول بأن المقصود بالختم الأفضلية، ومنهم من زعم بأن المقصود ختم النبوة فقط وليس ختم الرسالة، ومنهم من زعم أنه في مستوى فوق الرسول كما قال ابن عربي، وفوق النبي أيضاً، فدعواه لا تتعارض مع ختم النبوة والرسالة؛ لأنه قال: إنه خاتم الأولياء، وزعم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء ومن خاتم المرسلين.
فالمبطلون الذين يجرون وراءهم غوغاء أهل الباطل يتأولون مثل هذا النصوص إن علموا بها، وبعضهم لا يعلم بها أصلاً، وبعضهم يدعي أن هذا للعرب وليس للعجم، وبعضهم من عجمته وجهله يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نبي بعدي)، ثم يقول: إن (لا) اسم شخص أو وصف، فقال: أنا (لا)، إذاً: فأنا النبي من بعده! وهذا لا يفقه العربية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: (لا) نبيٌ.
إنما قال: (لا نبيَّ بعدي)، وعلى كلٍ فطرائف المتنبئين الكذابين ومضحكاتهم كثيرة.(24/4)
إمامة رسول الله للمتقين وكونه سيداً للمرسلين
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وإمام الأتقياء).
الإمام: الذي يؤتم به، أي: يقتدون به؛ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء.
قوله: (وسيد المرسلين): قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع).
رواه مسلم، وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)].(24/5)
الجمع بين إخباره صلى الله عليه وسلم بكونه سيد المرسلين ونهيه عن تفضيله على بعض الأنبياء
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟) خرجاه في الصحيحين].
يقصد بذلك: أنه قد يشكل الأمر عند بعض الناس: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بأن لا يفضلوه على غيره من الأنبياء الآخرين كما ورد في عدة أحاديث، ثم هو بعد ذلك يذكر أنه أفضل من غيره، ويذكر أنَّه سيد الناس جميعاً حتى الأنبياء، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟ هذا ما سيجيب عنه الشارح.
قال رحمه الله تعالى: [فكيف يجمع بين هذا وبين قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)؟! ف
الجواب
أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول.
وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى، وهو في البخاري وغيره، لكن بعض الناس يقول: إن فيه علة، بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى)، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد، لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك.
ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار.
وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس)، وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج.
وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وآخرهم وأفضلهم وخاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي)، إلى آخره: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت)، إلى آخر الحديث.
وكذا قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16].
وأيضاً: فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [ا(24/6)
ثبوت أعلى مراتب المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وحبيب رب العالمين): ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة، وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وقال: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، والحديثان في الصحيح، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه.
وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته)، والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت].(24/7)
مراتب المحبة
قال رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب].
هذه المراتب التي سيذكرها الشارح هنا ذكرها ابن القيم، وهذه المراتب اجتهادية ليست توقيفية، وابن القيم رحمه الله له في المسائل التعبدية طرق وأمور جيدة ومفيدة، لكن ذكره للمراتب لا يعني أنها توقيفية، بمعنى أن هذه المراتب تقرر على أنها مراتب شرعية يوقف عندها ولا يتعداها أو أنها لا تناقش، بل هي توسع من ابن القيم رحمه الله واستقراء لمعاني المحبة الشرعية واللغوية، فصنفها على هذا النحو، فترتيبها ليس بلازم، وتعدادها ليس بلازم، إنما هي نوع توسع أشبه بالموعظة.
قال رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة: وهي تعلق القلب بالمحبوب.
والثانية: الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصبابة: وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور.
الرابعة: الغرام: وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم لملازمته، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].
الخامسة: المودة والود: وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].
السادسة: الشغف: وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب.
السابعة: العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم.
واختلف في سبب المنع فقيل: عدم التوقيف.
وقيل غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة.
الثامنة: التتيم: وهو بمعنى التعبد.
التاسعة: التعبد.
العاشرة: الخلة: وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه.
وقيل في ترتيبها غير ذلك، وهذا الترتيب تقريب حسن، يعرف حسنه بالتأمل في معانيه.
واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص.
وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً وجفاءً، وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد: كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك].(24/8)
بطلان دعوى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل دعوة نبوة بعده فغي وهوى): لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب.
ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين؛ فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا تظهر إمارة كذبه في دعواه.
والغي: ضد الرشاد.
والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي: أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة].
هنا يشير إلى أن دعاوى النبوة التي تأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو جاءت بما يشبه المعجزات من بعض الخوارق؛ فإنها لا بد من أن تكون كاذبة؛ لأنه لا بد من أن يتبين لعقلاء الناس ما يدل على كذب الكاذب، ومن هنا فإنه قد تظهر دعوى نبوة كاذبة ويظهر معها بعض الخوارق، أو بعض الأمور التي يراها بعض الناس وكأنها معجزة، فإن عند البشر من الوسائل -كالسحر والاستعانة بالشياطين والاستعانة بعفاريت الجن ونحو ذلك- ما يظهر للآخرين، فيتصورون أنهم يأتون بأنواع من المعجزات، وقد حدث شيء من هذا كثير، فليس المعول على مجرد جنس المعجزة؛ لأن المعجزات الكبرى والكونية لا يمكن أن تأتي لكذاب غير من جاء الخبر عنه، وهو الدجال، فـ الدجال له معجزات كبرى، لكن ورد التحذير منه وورد بيان ذلك للأمة، فكل من كان صاحب أثر من هذه الأمة فإنه لا بد من أن يعرف الدجال من الآثار والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فـ الدجال مستثنىً، فهو الوحيد الذي يأتي بمعجزات كبرى تشبه معجزات الأنبياء، والله سبحانه وتعالى هو الذي سلطه بهذا التسليط على البشرية؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وهذا أمر معلوم.
أما من عدا الدجال فلا يمكن أن يأتي بمعجزات كبرى، لكنه يأتي بخوارق وبأمور هي أشبه بالمعجزات عند كثير من البشر، لكنها مما يقدر عليه الشياطين ومما يقدر عليه الجن، وما يقدر عليه الشياطين والجن أكثر مما يقدر عليه البشر، فقد يطلع على أمر من الغيب الذي يسترق، ويطلع على أمر من عالم الشهادة الذي لا يعلمه الناس، لكن يعلمه الجن والشياطين، فكأنه غيب عند الناس.
وقد يتمادى الكذاب بعض الشيء في مسألة الخوارق فيدعي النبوة، ولكن لا بد من أن يظهر من سلوكه ومن أقواله ومن أفعاله ومن عهوده ومواثيقه ووعوده للناس ما يدل العقلاء -ولو لم يكونوا مسلمين- على أنه كاذب حتماً، فكل مدع للنبوة وإن جاءك بخوارق فلا بد من أن يظهر من تصرفاته ما يدل على كذبه، والتاريخ يشهد بذلك، فما من مدع للنبوة إلا ويظهر الله من عيوبه ومن تناقضاته ومن علامات كذبه الشيء الكثير، فيدل ذلك قطعاً على كذبه عند العقلاء، فضلاً عن المؤمنين.(24/9)
شرح العقيدة الطحاوية [25]
من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي اختصه الله بها على سائر الأنبياء أن بعثه بالرسالة الخاتمة، التي هيمنت على كل ما سبقها من رسالات، وبالكتاب الذي نسخ كل ما سبقه من الكتب، ثم ميز هذه الرسالة بأن جعل المخاطبين بها كافة الإنس والجن، وتولى الله حفظ كتابه واستمرارية رسالته حتى تقوم الساعة.(25/1)
إشارة إلى ما تضمنه كلام الشارح في النبوة من إثبات العلو
وقبل الشروع فيما بقي من كلام المؤلف فيما يتعلق بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أشير إلى مراد الشارح بقوله: [وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى على خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه].
فهذا الكلام متصل بالحديث الذي أخرجه البخاري، وقد سبق له ذكره، حيث قال: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس)، وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله تعالى وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً].
فكأنه هنا قصد الإشارة إلى أن المعراج ثابت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى ربه حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه قرب من ربه، فكل ذلك ثابت بصرف النظر عن كلام هذا المبطل من شيوخ الصوفية، فثبوت المعراج وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج -بمعنى: صعد إلى فوق-، وأنه قرب من ربه سبحانه وتعالى؛ هذا فيه إثبات العلو.
إذاً: فالعلو لله تعالى علو حقيقي، وليس مجرد علو القدر، وهو كمال لله سبحانه وتعالى، فله علو القدر وعلو الذات، فأراد بهذا أن يستدل على نفاة العلو بالمعراج؛ فإنه دليل قاطع على إثبات العلو، ولا يمكن تفسيره ولا تأويله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بروح وجسمه إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.(25/2)
عموم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء): أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]، وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً].(25/3)
ذكر ما قيل في حصول الرسالة في الجن
قال رحمه الله تعالى: [قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله، وهذا قول بعيد؛ فقد قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف].
كلام مقاتل له احتمال آخر غير ما فهم من كلام الشارح، فكلام مقاتل له احتمالان: احتمال أن يقصد أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل إلى الجن رسولاً أبداً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم.
واحتمال أنه يقصد أن الله تعالى لم يرسل إلى الجن رسلاً من الإنس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبلغون بطرق أخرى، فإذا كان هذا قصده فهو وارد، وهو قول بعض أهل العلم كما يأتي فيما بعد؛ لأن الكلام هنا مبهم.
فالحاصل أن مقاتلاً ربما لا ينفي الرسالة إطلاقاً، إنما ينفي الرسالة المشتركة بين الجن والإنسان قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر].
هذا القول لا يختلف مع القول الذي قبله، إلا أنه أكثر تفصيلاً وأرجح، فقول مجاهد ما أشار فيه إلى النذر، إنما أشار إلى أن الرسل من الإنس، وعلى هذا فإن الجن تبع للإنس، بمعنى: أن الجن مكلفون بأن يسمعوا رسل الإنس ويطيعوهم ويأخذوا تعاليمهم ويأخذوا الدين الذي جاءوا به كما أرسلوا إلى الإنس.
هذا مفهوم قول مجاهد.
وأما ابن عباس فقد ذكر زيادة هي مقتضى النصوص، وهي أنه ليس الجن مكلفين باتباع رسل الإنس فحسب، بل إن الله جعل منهم نذراً بمثابة المصلحين، يسمعون كلام رسل الإنس ثم يبلغون أقوامهم، كما أشارت إليه آيات الأحقاف.
قال رحمه الله تعالى: [وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] يدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً.
والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد: من أحدهما].
قول الضحاك بن مزاحم -إن ثبت- ليس عليه دليل، والآية تشير إلى أن الرسل بعثوا للجميع، والآية لها مفهوم قاطع ومفهوم محتمل: أما المفهوم القاطع فهو أن الرسل أرسلوا إلى الثقلين، وأن الثقلين مكلفون جميعاً باتباع الرسل، وأن الجن أيضاً محاسبون على ما يأتي به الرسل كالإنس، هذا المفهوم القاطع من النصوص، فظاهر قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يفهم منه أن الجميع جاءهم الرسل، لكن هل يفهم من الآية على وجه القطع أن قوله تعالى: (منكم) يعني: من كل صنف منكم بعث الله رسلاً؟ أو أن المقصود: منكم جميعاً، أي: من أحدكم، كما قال تعالى في ذكر البحرين: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] واللؤلؤ إنما يخرج من البحر المالح؟ وهذا تفسير ظني أيضاً؛ لأنه ثبت في العصور المتأخرة أن اللؤلؤ والمرجان وجدا حتى في البحر العذب، فيكون التفسير هذا غير قاطع، فيبقى الاحتمال وارداً في أن قوله تعالى: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يعني: من جنسكم جميعاً، أو من جنس كل صنف منكم.
والظاهر -والله أعلم- أن المقصود بها: من جنسكم جميعاً؛ لأنه خاطبهم بخطاب العموم ثم قال: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ولا نعرف في نص قاطع أن الجن فيهم رسل يخصونهم، بل الظاهر عكسه، حيث يفهم من خبر الجن الذين جاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرع لهم، وإشارتهم إلى السابقين قبل، وإشارتهم إلى موسى عليه السلام، وأنهم سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يشبه الكلام الذي جاء به موسى، كل ذلك يفهم منه بقرائن قوية أن الرسل في الإنس، وأن الجن تبع ويسمعون رسالات الرسل، وأن الجن فيهم نذر، ويؤخذ من ظاهر قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أن هذه الطائفة من الذين سمعوا أنذروا، وهذا الإنذار بمثابة عمل المصلحين الذين ينوبون عن الأنبياء وهم ورثة الأنبياء.(25/4)
أدلة عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعاً
قال رحمه الله تعالى: [وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى؛ فقد قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: وأنذر من بلغه.
وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه مسلم.
وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة].
يعني بذلك أن هذا أمر قطعي بتواتر النصوص، فالنصوص في كتاب الله تعالى وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إجماع السلف قاطعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للناس جميعاً، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه معلوم بالضرورة من خلال واقع البشرية أن الله سبحانه وتعالى -وهذا ما يلزم كل عقل سليم- لا يمكن أن يترك البشر بلا إقامة الحجة، فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً لجميع البشر لبعث في الأمم الأخرى أنبياء، ولو لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً إلى قيام الساعة لما بقي الناس بلا رسالة إلى يومنا هذا، خاصة الأمم التي ضلت وانحرفت، أو الأمم التي لم تدخل في الإسلام أصلاً ولا تزال تحتاج إلى إقامة الحجة لو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجة على الجميع.
ثم إن بقاء القرآن وكونه معجزاً إلى قيام الساعة دليل قاطع على بقاء الرسالة إلى أن تقوم الساعة، وغير ذلك من الأمور التي تدل بالضرورة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للناس جميعاً.
هذا أمر.(25/5)
أقوال الأمم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأمر الآخر: أن الناس كثر كلامهم قديماً وحديثاً في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر الأقوال التي قالت بها الأمم ولا يزال يقول بها طوائف من الكفار يمكن أن نلخصها في أربعة: القول الأول: الذي عليه أكثر الأمم المشركة والكافرة، وهم الذين يقولون بإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقاً، ولا يلتفتون إلى هذا الأمر، مع أنه يأتيهم من البينات والدلائل ما تقوم به الحجة عليهم، كوجود الإسلام والمسلمين والقرآن، ولكن مع ذلك لا تزال أمم كثيرة من هذه الأمم في الدنيا تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن سمعت به.
القول الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلح من المصلحين، وبه قالت طائفة في الآونة الأخيرة من المستشرقين ومن نحا نحوهم، يقولون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هو رجل مصلح من المصلحين.
وهذا يكثر في المستشرقين الذين درسوا تاريخ الإسلام ودرسوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم وجدوا في شخصه ما بهرهم، فلذلك عزوا هذا الدين إلى عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا رجل عبقري مصلح داهية توصل بعبقريته ودهائه وذكائه وحسن خلقه ونهجه في الإصلاح إلى هذا الدين الذي زعموا أنه وضعه، وهذا عليه كثير من الغربيين الذين يطلعون على الإسلام اطلاعاً مجرداً من الحقد والعصبية.
وهذا ما تأثر به كثير من الكتاب المحدثين مع الأسف، فأبرزوا جانب العبقرية في النبي صلى الله عليه وسلم زعماً منهم أن هذا انتصار للإسلام، وأنه -أيضاً- تعظيم للرسول عليه الصلاة والسلام، وأغفلوا جانب النبوة، كما فعل العقاد في (عبقرية محمد)، وكما فعل أمثال أحمد أمين وغيره في كتبهم، فإنهم ينزعون إلى هذه النزعة، ويزعمون أنهم بذلك يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم حينما يعزون هذا الدين إلى عبقريته وإلى خلقه القوي.
والقول الثالث: قول الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وصحابته ما هم إلا مجموعة من هواة التسلط والملوك الظالمين الذين تسلطوا على رقاب الأمة، وهذا يوجد في طوائف من اليهود وبعض متعصبة النصارى وبعض المشركين في الأمم الأخرى الذين يحقدون على الإسلام، فلا يعترفون بأنه دين، ويزعمون بأنه ما هو إلا وثبة عربية تزعمها هذا الرجل، فهو عندهم ظالم تسلط على البشر وهيمن دينه على البشرية بهذا الأسلوب.
وهناك قول رابع يقول به طوائف من النصارى، خاصة نصارى العرب، ولا يزالون يقولون به، وهم الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكنه للعرب خاصة، ولا يزال هناك من الغربيين طوائف كثيرة من النصارى وبعض اليهود يقولون بهذا القول، خاصة دعاة تقريب الأديان ينزعون إلى هذا القول ويدعون إليه، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكنه للعرب خاصة.
والعجيب أن هذه النظرة يقول بها بعض نصارى العرب من نصارى لبنان ونصارى مصر، يقولون بهذا القول، وهو حجة قاصمة ترتد عليهم؛ لأنه إذا كان النبي أرسل إلى العرب وهم عرب فلم لا يؤمنون؟! وهذه مقولة يلغيها العقل ولا تعتبر من الناحية الموضوعية.
وهذه المقولات كلها يناقشها الشارح ضمناً، لكن سيناقش قضيتين على التفصيل، سيناقش النصارى، وسيناقش الذين قالوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس برسول، بل هو ملك ظالم غشوم، سيناقشهم ويقف عندهم طويلاً فيما بعد.
قال رحمه الله تعالى: [وأما قول بعض النصارى: إنه رسول إلى العرب خاصة فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال: إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام].(25/6)
الأقوال في إعراب (كافة) في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس)
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى): في جر (كافة) نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالاً، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حال من الكاف في (أرسلناك)].
معنى أنها حال من الكاف أنها راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكاف ضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: أنت كافة للناس على سبيل المبالغة، كما يقال: داعية، ويقال: داهية، ويقال: راوية، بمعنى داع وراو.
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أنها حال من الكاف في (أرسلناك)، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل.
وقيل: هي مصدر كف، فهي بمعنى (كفاً)، أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير].
على التقديرين المعنى واحد، يعني: أن تكف الناس، وهذا التقدير مرجوح، والراجح سيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أنها حال من الناس.
واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة].
هذا هو الراجح، وهو مقتضى ظاهر النص، والخروج عنه تكلف، أعني: الظاهر أن المعنى: وما أرسلناك إلا للناس كافة، أي: للناس جميعاً، وإنما قدم وأخر زيادة في التأكيد، ولو تأملنا تأملاً طويلاً في الآية لوجدنا أن تقديم (كافة) فيه مزيد تأكيد للعموم، لكن يحتاج إلى شيء من التأمل.
إذاً: فتقديم (كافة) وإن كان غير معهود عند جمهور اللغويين لكنه معهود عند العرب، ثم إنه هو الوصف الذي يناسب سياق الآية، لأن المقصود بيان عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] يعني: للجميع، والبشارة والنذارة هما من غايات الرسالة بعد تحقيق التوحيد.
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: إرسالة كافة.
واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.
وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة.
والضياء: أكمل من النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5]].(25/7)
شرح العقيدة الطحاوية [26]
اختلفت الناس في إثبات صفة الكلام لله تعالى إلى تسعة أقوال، مردها إلى أربعة رئيسية: أولها: منها أنه مخلوق منفصل عن الله، والثاني: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، والثالث: أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، والرابع: أنه تعالى ما زال متكلماً بصوت وحرف يسمع متى شاء وكيف شاء وبما شاء، وهذا هو القول الصحيح الذي يقول به أهل السنة والجماعة.(26/1)
كون القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة وليس بمخلوق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر].
قبل أن نبدأ بالشرح أحب أن أشير إلى المقصود ببعض العبارات التي بدأ بها، وإن كان سيشرحها شرحاً عاماً ثم سيشرع في ذكر أقوال الفرق على وجه التفصيل.
فقوله: (إن القرآن كلام الله) هذا معروف، لكن قوله: (منه بدا) معناه أن الله سبحانه وتعالى تكلم به، ومنه بدا القرآن، أي: الكلام، وهذا رد لقول من قال بأن القرآن إنما خرج من مخلوق، أو بدا من مخلوق.
فبعضهم يقول بأن القرآن بدا من جبريل ثم سمعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يقول: إن القرآن بدا من مخلوقات أخرى خلقها الله، وبعضهم يقول بأن الله خلق الحروف والأصوات، فكانت بداية القرآن من تلك الحروف وتلك الأصوات.
وبعضهم يقول بأن الله سبحانه وتعالى خلقه على لسان مخلوق آخر، سواء أكان هو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم أم غيرهما، أي: نطق به ناطق من العقلاء الناطقين ونحو ذلك.
فالذين زعموا هذه المزاعم ادعوا أن القرآن بدأ من المخلوقين أو من المخلوقات على اختلافات بينهم كثيرة.
وقوله: (بلا كيفية) يرد التوهم الذي يحصل والذي خاض به الخائضون فقالوا: إننا إذا قلنا بأن القرآن بدأ من عند الله تعالى فهذا يعني أنه نطق به كما ينطق المخلوق.
فهذا مردود بأن الله ليس كمثله شيء، وبأننا لا نعرف كيف تكلم الله، لكن الله تكلم به ومنه بدأ.
وقوله: (بلا كيفية قولاً) المعنى: أن الله قاله، ما بدأ منه خلقاً كما يزعمون، ولا بدأ منه معاني ثم ترجمت هذه المعاني على ألسنة بشر، ولا بدأ منه كلاماً نفسياً، إنما بدأ قولاً، ولذلك يسمى قول الله، فيقال: قال الله تعالى، فالقرآن قول الله، وليس بفعل مستقل عن ذات الله سبحانه وتعالى، وليس بخلق، وليس بمعان نفسية، وليس أموراً معقولة حولها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ كما يزعمون، أو نحو ذلك مما قالوه.
وقوله: (وأنزله على رسوله وحياً) بمعنى: أنه حينما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل على قلبه بمجرد العلم اللدني كما يزعم كثير من أهل التصوف وأهل الفلسفة، فهم يزعمون أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل على القرآن، وأنه نطق به من معان موجودة في قلبه، وأهل السنة يقولون: المنصوص أن الله أنزله، ولم يشتمل عليه قلب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، إنما وعاه قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه، لكن أيضاً سمعه منزلاً عليه صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن الله أوحى به إليه بأنواع الوحي المعروفة شرعاً، ولم يكن ذلك بمعان انصبت ولا بفيض ولا بنتيجة العقل الفعال ولا باشتمال قلب النبي صلى الله عليه وسلم على العلم اللدني ولا بنحو ذلك من الأمور التي قال بها المبطلون، إنما كان منزلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الوحي الشرعية.
وقوله: (وصدقه المؤمنون حقاً) بمعنى: على الحقيقة، والحقيقة نوعان: منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، فما يعلم هو حقيقة الصفة وحقيقة الكلام وحقيقة التنزيل وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه، وما لا يعلم هو كيفية الوحي، وكيفية كلام الله تعالى به، أما كيفية الوحي فهي معلومة عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة].(26/2)
أقوال الناس في مسألة الكلام(26/3)
قول الفلاسفة والصابئة بأن الكلام ما يفيض على النفوس من المعاني
قال رحمه الله تعالى: [وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال].
هذه التسعة تعود إلى أربعة أقوال رئيسة، سأذكرها بعدما ينتهي من سرد الأقوال التسعة.
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم أو من غيره.
وهذا قول الصابئة والمتفلسفة].
هذا القول قالت به طوائف من الفلاسفة الإسلاميين الذين ظهروا في الإسلام، وكلمة الإسلاميين أدق في وصفهم من (المسلمين)، فكلمة (الفلاسفة المسلمون) لا تصح، إما (إسلاميون) فتصح، وإن كان الناس استعملوا هذه العبارة الآن على غير وجهها الصحيح، فالإسلامي من ينتسب للأمة الإسلامية أو الحضارة الإسلامية أو التاريخ الإسلامي أو إلى زمن فيه مسلمون أو إلى دولة إسلامية وإن كان كافراً، فيسمى إسلامياً بمعنى أنه عاش في عصر الإسلام، كما يقال: جاهلي حتى لو كان من النصارى أو اليهود أو من الذين على الحنيفية، يقال: هذا رجل جاهلي، أو شاعر جاهلي، بمعنى أنه منتسب لفترة الجاهلية.
وكذلك كلمة (إسلامي) أرى أنها لا تدل على الإسلام، إنما تدل على الانتساب للتاريخ الإسلامي أو للحقبة الإسلامية، فكذلك الوصف بالنسبة للفلاسفة، فالفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام أغلبهم ما دخل الإسلام، والذين دخلوا الإسلام أغلبهم اعتقد اعتقادات توجب إخراجه من الإسلام، فلذلك ينبغي أن نقول: الإسلاميون.
فالفلاسفة الإسلاميون هم على هذا القول، أي: القول بأن الكلام من العقل الفعال أو نحو ذلك، ويعبرون عن هذا أحياناً بالفيض، ويعبرون عنه أحياناً بتعبيرات أخرى، فقول الصابئة المتفلسفة أظهره الفلاسفة الإسلاميون الذين ظهروا بعد القرن الثالث في تاريخ الإسلام.(26/4)
قول المعتزلة بأن كلام الله مخلوق منفصل عنه
قال رحمه الله تعالى: [وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا قول المعتزلة].(26/5)
قول الكلابية وأغلب الأشاعرة بأن الكلام معنى واحد قائم بذات الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [وثالثها: أنه معنىً واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.
وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وغيره].
أغلب الأشاعرة المتكلمين على هذا القول، ولا يشذ عنهم إلا بعض الأشاعرة من أهل الحديث وبعض الفقهاء وبعض الأصوليين؛ فإنهم قد يقولون بقول أهل السنة، لكنهم قليل، أما غالبية الأشاعرة فإنهم على هذا القول، أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى، يقصدون به نفي أن يكون الله تعالى تكلم به بحرف وصوت على ما يليق بجلال الله تعالى، هذا المقصود به، فكأنهم يقولون: إن القرآن أشبه بقوالب أو معان عامة إذا ترجمت إلى اللغات تتحول إلى الألفاظ التي يتكلم بها الناس، فهي أشبه بالمعاني العامة التي تنقسم إلى: أمر ونهي، وخبر واستخبار، فإذا جاءت إلى قلوب الأنبياء ثم تكلموا بها تحولت إلى حروف وأصوات.
هذه فلسفتهم، وما ذلك إلا انهزام أمام الجهمية والمعتزلة، هذه انهزامية أمام الجهمية والمعتزلة؛ لأن جميع المعتزلة يقولون: إنكم إذا قلتم بأن الله تكلم بحرف وصوت لزمكم أن تثبوا بقية الصفات؛ لأن هذا يعني قيام الأفعال به، وأنتم تنكرون قيام الأفعال به، فلذلك اضطروا إلى القول بأن القرآن معنى واحد قائم بذات الله، ومعنى أنه قائم بذات الله أن الله متصف به، وهذا المعنى إذا عبر عنه البشر بلغاتهم تحول إلى الكتب التي نزلت، فإذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم باللغة العربية عن المعاني التي أرادها الله صارت قرآناً، وحينما عبر عنها موسى عليه السلام صارت توراة، وحينما عبر عنها عيسى صارت إنجيلاً، وهذا هروب من الإثبات.
وفي الحقيقة لو تأملناه لوجدنا أنه يؤول إلى القول بأن القرآن مخلوق وليس منزلاً، لكنهم ما جرءوا على أن يصادموا السلف؛ لأن السلف كان لهم قوة وهيمنة، وكانت كلمتهم في هذه المسألة واضحة جداً، ولا يستطيع أحد أن يقاومهم، وإلا فلو تأملنا هذا القول لوجدنا أن مؤداه إنكار أن يكون الله تكلم بالقرآن، وإثبات أن القرآن مخلوق غير منزل.
فإذا قلنا: إن القرآن ما صار قرآناً إلا حينما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يعني أنه مخلوق، وإذا قلنا بأن التوراة ما صارت توراة إلا حينما نطق بها أو كتبها موسى عليه السلام فهذا يعني أن الله لم يتكلم بها.(26/6)
قول طائفة من أهل الكلام بأن الكلام حروف وأصوات مجتمعة في الأزل
قال رحمه الله تعالى: [ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث].
وهذا أيضاً قول عجيب، وهو أيضاً هروب من الإثبات وانهزام أمام هجوم المعتزلة والجهمية في مسألة كلام الله تعالى؛ فإن الأزلي هو الأول الذي ليس قبله شيء، هذا معنى الأزلي، فالأزلي يعني: الذي ليس له بداية، ونحن نعلم أنه ليس هناك شيء ليس له بداية إلا الله سبحانه وتعالى، فهم حينما قالوا بأنها حروف أزلية كأنهم ألحقوها بخصائص الله، فإذا ألحقوها بخصائص الله فإنهم بذلك يلزمهم أحد أمرين: إما أن تكون كلام الله تعالى، وعليه فلا داعي لمثل هذا الكلام، ولمثل هذا اللجوء إلى التعبير الموهم، وإما أن يقولوا: إنها غير كلام الله تعالى، وبذلك يثبتون أزلياً غير الله، فيلزمهم أحد الإلزامين بالضرورة، فإذا قالوا: هو حروف وأصوات أزلية ليست هي كلام الله فهذا يعني أن هناك مع الله أزلياً غيره.
وإذا قالوا بأنها حروف أزلية تكلم الله بها في الأزل فلماذا لا يتكلم بها الآن كما يليق بجلاله؟! فالأمر فيه إعضال، وما ألجأهم إلى ذلك إلا الاستجابة لهجوم المعتزلة الفكري أو لهجومهم الفلسفي، وكذلك هجوم الجهمية.(26/7)
قول الكرامية بأن الكلام حروف وأصوات تكلم بها الله بعد أن لم يكن متكلماً
قال رحمه الله تعالى: [وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم].
هذا قول ناقص، فهو يشمل بعض قول السلف، لكنه ناقص وفيه انحراف أو حيدة عن إثبات الحق، فإنه إذا كان تكلم الله بعد أن لم يكن متكلماً فما الذي يمنع أن يكون الله قد تكلم؟! أليس الأكمل أن يكون الله تكلم من قبل ويتكلم من بعد ويتكلم متى شاء على ما يليق بجلاله؟! إن هذا أكمل من أن يقال بأن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً.
فهذا القول يعتبر إخلالاً بالكمال، فكلام الكرامية إخلال بالكمال، فإن من كان قادراً على الكلام في الأزل إلى الأبد أكمل ممن قدر على الكلام بعد مدة.(26/8)
القول بأن الكلام يرجع إلى ما يحدثه تعالى من علمه وإرادته القائم بذاته
قال رحمه الله تعالى: [وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية].
هذا تعبير عن القول الثاني تماماً كما سيأتي، فالسادس ما هو إلا تعبير آخر عن القول الثاني.(26/9)
قول الماتريدي بأن الكلام يتضمن معنى قائماً بذاته خلقه في غيره
قال رحمه الله تعالى: [وسابعها: أن كلامه يتضمن معنىً قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي].
هذا تلفيق بين القول الثاني والقول السادس.(26/10)
قول أبي المعالي الجويني بأن الكلام مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه تعالى في غيره من الأصوات
قال رحمه الله تعالى: [وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه].
أيضاً هذا تلفيق آخر للقول الثاني.(26/11)
قول أهل السنة والجماعة
قال رحمه الله تعالى: [وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة].
هذا هو الحق، وهذا الذي تقتضيه النصوص، فإن الله تعالى لم يزل متكلماً، بمعنى: أنه يتكلم كما يشاء إذا شاء، فمشيئة الله لا راد لها، وعموم المشيئة ثابت بالنصوص القطعية، وعموم المشيئة أيضاً يشمل جميع ما يتعلق بأفعال الله تعالى، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ومن أفعال الله تعالى الكلام.
و (متى شاء) بمعنى: في أي زمن، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق بكلمة (كن)، وخلق الله لا ينتهي، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى كلم أنبياءه السابقين، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى يكلم عباده يوم القيامة، كما ورد في النصوص الصحيحة أن الله سبحانه وتعالى ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد.
وهذا ثابت في النصوص، وهذا في المستقبل، والكلام في الماضي ثبت من خلال تكليم الأنبياء وغيرهم، ومن خلال كلمة (كن)، فإن كلمة (كن) خلق الله بها الخلق ولا يزال يخلق بها، فإذا أراد شيئاً قال له: كن.
و (كيف شاء) معناه أن الكيفية التي يتكلم الله بها راجعة إلى مشيئته، فلا يقال: كيف يتكلم؟ فما دام أن مشيئته عامة فالله يتكلم كيف يشاء، وهذا يعني أننا لا نخوض في الكيفية.
وقول أهل السنة: (يتكلم بصوت يسمع) ليس من عندهم، بل ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فالقريب والبعيد يسمعون كلام الله تعالى على نحو واحد.
فالسلف في تقرير العقيدة يستندون على النصوص الشرعية ولم يأتوا من عند أنفسهم بشيء.
ومعنى (أن نوع الكلام قديم) أنه صفة من صفات الله تعالى في الأزل، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، فكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن لا يعني أن القرآن قديم من حيث الكلام به، لا يلزم ذلك لئلا يقال بأن الكلام أزلي مع الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه منفصل عن الله أو عن أفعال الله، وهذا القول هو المأثور عن أئمة السلف.
قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله): (إن) بكسر الهمزة، عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى)، وكسر همزة (إن) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله].(26/12)
مرد الأقوال في مسألة الكلام إلى أربعة أقوال
نرجع إلى تصنيف تلك الأقوال، فتلك الأقوال التسعة ترجع إلى أربعة أقوال: فالقول الأول: أنه مخلوق -بزعمهم- خلقه الله منفصلاً عنه.
وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ثم تابعهم عليه متأخرة الخوارج ومتأخرة الرافضة وكذلك الزيدية، والزيدية معتزلة وشيعة، وتابعهم على ذلك أفراد من المتكلمين وبعض الفلاسفة ومن نحا نحوهم.
وقد تركنا قول الفلاسفة لأنه قول خامس، لكن لا يرجع إليه غيره، فهو قول منفرد، فإذا أفردنا أقوال أهل الأهواء فهي أربعة، وإذا جمعنا معها قول أهل السنة والجماعة تكون خمسة.
والقول الثاني: أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار.
وهذا قول الكلابية، وهو قول بعض الأشاعرة وبعض الماتريدية وكثير من المتكلمين، وهو القول الثالث بترتيب المؤلف.
وهذا القول يرجع إليه القول السادس، فهو تعبير آخر عنه، ويرجع إليه القول السابع والقول الثامن، فالسابع والثامن ما هما إلا جمع ومحاولة توفيق بين القول الثاني والقول الثالث والقول الرابع كذلك.
والقول الرابع يرجع أيضاً إلى الأول، فما هو إلا تعبير آخر عن القول الأول بترتيبنا، وهو الثاني بترتيب المؤلف، فالرابع يرجع إلى ما سماه ثانياً، وهو القول الأول بالنسبة لاعتباره عند أهل الأهواء.
وما سماه خامساً هو القول الثالث، وما سماه تاسعاً هو القول الرابع، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو القول الحق.
والخامس الأخير هو قول من زعم أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس، وهذا القول ما ظهر إلا متأخراً جداً، يعني: ظهر في آخر القرن الرابع وما بعده.
أما الأقوال الأربعة السابقة فالقول الأول منها هو القول الحق، وبقية الأقوال قيلت في القرن الثاني والقرن الثالث.
فالقول بأنه مخلوق ظهر في القرن الثاني، والقول بأنه معنى واحد قائم بالذات لم يظهر إلا في القرن الثالث، وكذلك القول بأنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ما ظهر إلا في القرن الثالث وما بعده، وإن كان بعض الجهمية قد قال بنحوه، لكن لم يكن على هذا النحو.
والقول السادس إنما قال به الرازي وقال به أبو البركات بن ملكا الطبيب الفيلسوف.(26/13)
شرح العقيدة الطحاوية [27]
أجمع أهل السنة والجماعة على أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن كلامه بصوت يسمع، وقد خالف المعتزلة منهج أهل السنة في ذلك، فقالوا بخلق القرآن، واستدلوا على ذلك بنصوص من كتاب الله؛ لكنها استدلالات واهية، لا تقوم في نظر أقل الناس علماً في هذا الشأن.(27/1)
إثبات أن كلام الله بدا منه والرد على المعتزلة في ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً.
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، فكان عباد العجل -مع كفرهم- أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً.
وقال تعالى عن العجل أيضاً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] فعلم أن نفي رجع القول ونفي التكليم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم، فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى يقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف].
يقصد بذلك أن هؤلاء الذين اشتبهت عليهم الصفات -مع أنها محكمة بكلام الله تعالى- جاءتهم الشبهة من حيث إنهم قاسوا الله على خلقه وشبهوا الله بخلقه، فحينما وردت إليهم ألفاظ الصفات لم يوفقوا إلى الأخذ بالقاعدة الشرعية التي بدأ الله بها حينما تقررت قاعدة الإثبات والنفي، فالله سبحانه وتعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ثم قال بعد ذلك: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) ينفي ابتداءً توهم التشابه، فمجرد التوهم والخيال منفي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وبعد نفي التوهم والخيال وما يمكن أن ينقدح في الذهن في حق الله تعالى يأتي الإثبات، وهذا إذا عمله الإنسان بهذا التدرج لا يمكن أن ترد إليه أوهام المتكلمين وشبههم، فإن شبهتهم أنهم يقولون: لا نفهم من هذه الصفات إلا ما نعرفه في المخلوقات، ويرد عليهم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في المخلوقات نفسها، فإنهم يقولون: لا نفهم الكلام إلا بالجارحة، والجارحة: الفم واللسان ووسائل وأدوات الكلام، فيرد عليهم بأن هناك من يتكلم من مخلوقات الله تعالى بغير الوسائل والأدوات التي مع الإنسان، كالحصى والجمادات كلها، فكلها تسبح ولكن لا نفقه تسبيحها، فإذا كانت كلها تسبح ونحن لا نرى لها ألسنة ولا حناجراً ولا رئات ولا نفساً يخرج ويدخل ولا نرى شفاهاً؛ فمعنى هذا أنها تتكلم كما أقدرها الله سبحانه وتعالى على الكلام من غير أن نعرف الكيفية، فالله وصفها بصفات تشبه صفاتنا من حيث اللفظ، ومع ذلك لا نرى وجه التشابه أبداً، بل نرى التباين كل التباين بين صفات مخلوق ومخلوق، ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه وتعالى يتكلم كما يليق بجلاله، وليس كلامه ككلام المخلوقين؛ لأنه ليس كمثله شيء، وإذا تكلم سبحانه وتعالى تكلم بما يليق بكماله وعظمته، وليس بما يتوهمون من أوهامهم التي ركزوها في أذهانهم ثم بنوا عليها أحكاماً.
إذاً: يقال لهم: ما دمتم توهمتم التشبيه فارجعوا إلى ما هو في عالم الشهادة؛ لتعرفوا أن توهم التشبيه لا حقيقة له، فإن هناك من المخلوقات ما هو موصوف بالكلام ومع ذلك لا يوجد الشبه بيننا وبينه، ولا توجد فيه الوسائل التي يتكلم بها المخلوق ككلام المخلوقين.(27/2)
بيان معنى قول الطحاوي: (منه بدا بلا كيفية قولاً)
قال رحمه الله تعالى: [وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً)، أي: ظهر منه].
أي: أن الله تكلم به، هذا معنى (منه بدا)؛ لئلا يقال: إنه بدا الكلام على لسان جبريل، أو بدا الكلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لسان موسى بالنسبة للتوراة أو عيسى بالنسبة للإنجيل أو نحو ذلك، أو: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن كلام مخلوقاته بأنه كلامه، أو أنه خلق أصواتاً فصارت كلاماً، كل ذلك يتنافى مع القول بأنه منه بدا، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قاله وتكلم به على ما يليق بجلاله، وليس هذا من عند هؤلاء من أهل العلم، بل هو من النصوص الشرعية.
قال رحمه الله تعالى: [أي: ظهر منه، ولا يدرى كيفية تكلمه به.
وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!].
يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى فسر وبين الكلام هنا، فما قال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى) ثم انقطع الكلام، بل أكد الأمر فقال: {تَكْلِيمًا} [النساء:164] لأنه قد ينشأ في الذهن: هل الله كلم الله موسى وحياً أو إلهاماً أو مناماً أو خيالاً؟! وتحتمل هذه الاحتمالات عند من لا يفقه الأمور الشرعية أو لا يفقه حقائق النصوص المتعلقة بصفات الله، فلذلك جاء التأكيد في الآية نفسها بما يرد التعطيل ويرد التأويل؛ فإن قوله تعالى: {تَكْلِيمًا} [النساء:164] يعني: على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.(27/3)
عجز المؤولة للصفات عن تأويل الصفة الواردة في نصوص معينة بنفس التأويل في كل مرة
قال رحمه الله تعالى: [ولقد قال بعضهم لـ أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أريد أن تقرأ: (وكلم الله موسى)، بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟! فبهت المعتزلي].
وهذا يرد في كثير من الصفات، حيث نجد أن الصفات ترد على أوجه عديدة، فلو أولوا وجهاً من الوجوه ما أولوا الآخر، وإذا أولوا الجميع تناقضت تأويلاتهم، فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كثير من المؤولة يقولون: (على العرش) بمعنى: على الملك، أي: استولى على الملك، لكن تأتيهم آية أخرى، مثل قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فلو أولوها بتأويل فإنه يناقض التأويل الآخر، وهكذا، وقد ورد لفظ الاستواء في القرآن في أكثر من ست آيات، وفي المفهوم في آيات كثيرة، وكذلك في الأحاديث الثابتة.
وكذلك بقية الصفات، فإنا نجد أن كل صفة يؤولونها في نص تنقضها آية أخرى أو حديث آخر، مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، فهذا من الصعب تأويله، فإن أولوه أتاهم مثل قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
فما من صفة يؤولونها إلا وينقضها تأويلهم الآخر للصفة الأخرى، ولو أولوا الصفة في موضع فإنا نجد النص الآخر ينقض تأويلهم فلا يستقيم عليه، وهكذا.(27/4)
أدلة تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم
قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم.
قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره].
هذا الحديث ضعفه المحقق في الهامش، لكن معانيه ثابتة في أحاديث أخرى، منها ما في صحيح البخاري، وقد أشار إليه إجمالاً أيضاً، فقد ورد في صحيح البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة كذا فيقولون كذا، فنسب إلى الله صفة القول، وصفة القول تثبت صفة الكلام، فصفة القول مرادفة لصفة الكلام، فإن الكلام لا يكون إلا بقول، والقول لا يكون إلا بكلام.
قال رحمه الله تعالى: [ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً؟! وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً].
أي: إذا كان الله لا يكلم هذه الفئة، وهم الذين توعدهم الله بحرمانهم من كلامه؛ فيقتضي هذا بالضرورة أنه يكلم غيرهم من المؤمنين المنعمين المستحقين للكلام، وهذا أمر مفهوم بالضرورة، كما أننا نقول مثل ذلك في الرؤية، وهو ما قاله الشافعي، وهو أنه لو لم يكن المؤمنون يرونه ما كان للاحتجاب عن الكافرين معنى، فلما حرم الله سبحانه وتعالى الكفار من أن يروه واحتجب عنهم دل هذا بالضرورة العقلية والشرعية وبالمفهوم والمقطوع به أن المؤمنين يرونه، وكذلك الكلام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يكلم هؤلاء عقوبة لهم فإنه في المقابل يكلم غيرهم، ولو كان سبحانه وتعالى لا يتكلم أبداً ما كان لحرمان هؤلاء الذين عوقبوا من الكلام فائدة، فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم إلا بالحق.
ثم إن ذكر الكلام والنظر في سياق واحد يدل على أن كل واحد منهما يثبت الآخر، فلو أولوا الكلام هنا دحضوا بالنظر، ولو أولوا النظر دحضوا بالكلام، فكلام الله محكم، ومهما أتوا من باب فإن الأبواب الأخرى تسد عليهم باب التأويل والتعطيل.
قال رحمه الله تعالى: [وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة.
وساق فيه عدة أحاديث].
ساق فيه حديثين، وفي هذين الحديثين ما أشرت إليه سابقاً من أنه ذكر في البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة، ثم يقولون ثم يقول، كما ورد في الحديث، فالقصد بالسياق هنا أن البخاري أورد في الصحيح أن الله تعالى يقول، والقول كلام.
قال رحمه الله تعالى: [فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].(27/5)
الرد على استدلالات المعتزلة على قولهم بخلق القرآن(27/6)
الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (الله خالق كل شيء)
قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، والقرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم كل فيكون مخلوقاً! فمن أعجب العجب.
وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل، وأدخلوا كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]، ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً لزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل، وهو باطل، وطرد باطلهم: أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق.
وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21]، ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا!! تعالى الله عن ذلك.
وقد طرد ذلك الاتحادية، فقال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه! ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره، والأعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.
وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون، بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين، ليدع مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: اسأل أنت، وطمع في فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن، وهو عندي أنا كلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها.
وحاد عن الجواب.
فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة، ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز: إن قال خلق كلامه في نفسه، فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون فيه شيء مخلوق، وإن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه، فهو محال أيضاً، لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره -هو كلام الله! وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال: لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه متكلم.
فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً، علم أنه صفة لله.
هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في (الحيدة).
وعموم كل في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير.
وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام.
إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك، غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102]، أي: كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة، لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديما بصفاته قبل خلقه).
بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم.
فإذا كان قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً، لا يصح أن يكون دليلاً.(27/7)
الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً)
قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] فما أفسده من استدلال].
يقصد هنا استدلال الذين قالوا بخلق القرآن وعلى رأسهم المعتزلة والجهمية، وكل من تكلم في خلق القرآن ممن جاءوا بعد هاتين الفرقتين عالة عليهما، حتى المحدثين إلى يومنا هذا، وقد انبرى أحد رءوس البدعة في العصر الحاضر وألف كتاباً قال فيه بخلق القرآن وأنكر الرؤية والشفاعة، وكفر فيه أهل الكبائر، وهذا الكتاب متداول بين طلاب العلم، أسماه الحق الدامغ، وقد حشاه صاحبه بشبهات المعتزلة في خلق القرآن، بل نقل أقوالهم ومصطلحاتهم بحروفها وجعلها مستنداً له في القول بخلق القرآن.
فالشاهد: أن الذين قالوا بخلق القرآن بعد المعتزلة هم عالة على المعتزلة، ولم يأتوا بجديد، وكل أقوالهم وشبهاتهم وردهم للأدلة واستدلالهم الباطل كله مبني على أصول المعتزلة الباطلة من كتبهم ومما قالوه وناظروا به، فالذين أنكروا نزول القرآن وأنه منزل من الله عز وجل وأن الله تكلم به وقالوا بخلق القرآن هؤلاء هم المعتزلة والجهمية، وكل من جاء بعد المعتزلة والجهمية في مسألة القول بخلق القرآن عالة على الجهمية والمعتزلة فيما قالوه، حتى صاحب الكتاب الذي ألف كتاب (الحق الدامغ) وزعم أن القرآن مخلوق وأنكر أن يكون كلام الله، فقد جاء بأدلة المعتزلة على نحو ما قلته في مسألة الرؤية.
فالمسألة واحدة، فكما أنه أنكر الرؤية في كتابه، كذلك زعم أن القرآن مخلوق، وحشد أقوال المعتزلة، ولم يكن يخرج عنها في استدلالاتهم العقلانية ولا في ردهم للنصوص وإيرادهم للشبهات.
وهذه المسألة أعطاها من حجم هذا الكتاب أكثر من حجم الكلام على الرؤية والكلام عن مسألة الشفاعة والقول بأن مرتكبي الكبائر كفار.
قال رحمه الله تعالى: [فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:30 - 31] وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق)، قال تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، وقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:39]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] ونظائره كثيرة.
فكذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]].
(جعل) تأتي على معنيين، فإذا جاءت متعدية إلى مفعولين فهي بمعنى صير وحكم، وإذا جاءت متعدية إلى مفعول واحد فإنها تعني الخلق، وكل ما ورد في شأن القرآن بلفظ (جعل) فهو بمعنى (صير)، لا بمعنى (خلق).(27/8)
الرد على استدلالهم في مناداة الله موسى بقوله: (من الشجرة)
قال رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها، فإن الله تعالى قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30] والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] أي: أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] وهل قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] غير رب العالمين؟! ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله! وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد: أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى].(27/9)
نسبة القرآن إلى الرسول الكريم إنما هو نسبة تبليغ لا نسبة إنشاء
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم؛ قيل: ذكر الرسول معرف أنه مبلغ عن مرسله، لأنه لم يقل: إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه.
وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر.
وأيضاً: فقوله: (رسول أمين) دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسله بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به، يبلغه عن مرسله.
وأيضاً: فإن الله قد كفر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد - بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلا يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قال: هذا شعر امرئ القيس، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن سمعه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5] قال: هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذبه.
ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام من؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟].
هناك فرق بين مسألة القول ومسألة الكلام، فإن الكلام لا ينسب إلا إلى المتكلم به الذي صدر عنه، لكن في القول قد يقول الإنسان بقول غيره، كما ذكر في بيت الشعر والحديث والآيات، فإن من نطق بهذا الحديث أو أتى بذكر هذا الشعر نقول: ما قلته كلام من؟ فيقول: هذا البيت لـ امرئ القيس، وهذا الحديث كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه أسند الكلام إلى المتكلم، أما القول فقد يقول الإنسان بقول غيره، وأحياناً ترادف كلمة قول كلمة كلام، لكن السياق هو الذي يحكم بذلك.(27/10)
اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق وبيان ما تنازع فيه المتأخرون
قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات].
وهذا كلام الكلابية وكثير من المتكلمين الذين جاءوا بعد.
قال رحمه الله تعالى: [أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً].
هذا أيضاً قول بعض المتكلمين من أهل الحديث، فهو قول لطائفة من أهل الكلام، وليس قول أكثرهم، فأكثرهم يقولون بالقول الأول أو بنحوه، أي أنه معنىً قائم بالذات، أو هو حديث النفس، أو هو معنىً قائم بالنفس، أو نحو ذلك مما يدور حول أن الكلام عندهم معان وليس حروفاً وأصواتاً، إنما تكلم به جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم.
أما كونه صدر عن الله فهم يزعمون أنه صدر عن الله معاني ترجمت، فلما تكلم بها موسى صارت توراة، ولما تكلم بها محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية صارت قرآناً، ولما تكلم بها عيسى صارت إنجيلاً، كذا زعموا، وهذا نوع من الانجذاب إلى قول الفلاسفة والمتكلمين، وإن كان بعض من قال بها يدعي أنه يثبت كلام الله، لكن على تأويل فاسد.
إذاً: القول الأول قول أكثر الكلابية ومن تابعهم من المتكلمين، والقول الثاني قول متكلمة أهل الحديث أو محدثة أهل الكلام.
قال رحمه الله تعالى: [أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم].
هذا كلام السلف، وهو أن الله عز وجل متكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه، وأن كلامه من صفاته، وهذا معنى أنه قديم، فكلامه من صفاته، وصفات الله عز وجل كذاته أزلية، لكن صفات الله عز وجل على نوعين: منها صفات ذاتية، ومنها صفات فعلية، ومنها ذاتية وفعلية، فبعض أهل العلم قال: إنها ثلاثة أنواع، وبعضهم جعل الذاتية الفعلية داخلة في الفعلية، وبعضهم جعلها داخلة في الذاتية.
أما الصفات الفعلية فهي كالنزول والمجيء، وأما الصفات الذاتية فهي كالحياة والعلم والقدرة، أما الصفات التي قد تكون ذاتية فعلية فهي كالكلام، فمن حيث إن الله عز وجل متكلم تكون صفة ذاتية، لكن من حيث حدوث الكلام تكون صفة فعلية، فالله عز وجل يتكلم إذا شاء ومتى شاء، كما كلم موسى وكما كلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما يكلم الناس يوم القيامة، يكلم الخلائق جميعاً بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، كما أنه يكلم كل عبد ويحاسبه على أعماله ليس بينه وبينه ترجمان، فيحاسب العباد جميعاً حساب رجل واحد ويكلمهم جميعاً وكأنه يكلم رجلاً واحداً، على ما يليق بجلاله، وهذا أمر غير مفسر بالنسبة لقدرة عقول البشر.
فهذا دليل على أن الله يتكلم متى شاء، فهذا النوع داخل في أفعال الله، فالله يفعل الكلام متى شاء، لكن صفة الكلام -وهي أن الله عز وجل قادر على الكلام متى شاء وأنه متكلم- صفة لازمة، بمعنى: أنها أزلية، وهذا معنى القديم.
والسلف كانوا يكرهون كلمة (قديم)، لكن أحياناً يعبرون بها بناءً على أنها عمت بها البلوى، خاصة بعد القرن الرابع إلى وقت قريب، فصار الناس يتكلمون بها لإيضاح العقيدة اضطراراً.(27/11)
تقريرات المعتزلة ونحوهم من أغاليط الشيطان
قال رحمه الله تعالى: [وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب، بل هو حق وصدق، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين.
والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه.
ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]].
الأغلوطة هي الأمر العقلاني المحير، فكل أمر ينبني على التعجيز والتعقيد العقلي والتحيير فإنه يسمى أغلوطة يغالط بها الإنسان من غير أن يفقه، فكل ما غالط به أهل الكلام والفرق أمور الشرع يعتبر أغلوطات، ولهذا نجدهم لا يتفقون على شيء منها، فكل واحد يتكلم بفهمه، وكل واحد له فهم غير فهم الآخر، وكل واحد يعتقد ما لا يعتقده الآخر، فهم يتجادلون على لا شيء، وهذا أمر بدهي، كلما تجادلوا في أمر الغيب تجادلوا على أوهام، فهذا خصمه يتوهم شيئاً وهو يتوهم شيئاً آخر، فيتنازعون على أوهام، وكل واحد ينازع في غير محل النزاع عند الآخر، فلذلك إذا قيل للمتكلمين أو أهل الأهواء في أمر خالفوا فيه الدين: حرروا مسألة النزاع أو موطن النزاع لا يمكن أن يحرروه.
أما الاجتهادات في الأحكام فيستطيع الناس بسهولة أن يحرروا موضع النزاع فيها ويتفقوا على شيء وينطلقوا من هذا الاتفاق، أما أصحاب الأغلوطات فلا يمكن أن يتفقوا إلا على أوهام.(27/12)
شرح العقيدة الطحاوية [28]
كلام الله تعالى صفة من صفاته المتعلقة بمشيئته وإرادته؛ إذ هو تعالى فعال لما يريد، ومن نفى ذلك واعتقد خلافه فقد افترى على الله تعالى فيما أخبر به عن نفسه عز وجل، كمن قال بأن كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه والمتلو منه عبارات مخلوقة، وفساد هذا القول لا يخفى على ذي بصيرة، فكلام الله تعالى صفة من صفاته لا يشابهه فيها البشر، ومن زعم أنه قول البشر فقد كفر بنص الخبر.(28/1)
موقف الأحناف المتقدمين والمتأخرين من صفة الكلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر؛ فإنه قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا.
انتهى.
فقوله: (ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته) يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى، كما يفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره].
كثير من الأحناف قالوا بهذا القول، حتى قبل أن يقول به الأشاعرة، ثم قال به الماتريدية تبعاً للماتريدي، والماتريدي كان في القرن الرابع، أما هذا القول فقد ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري، وكأنه تلفيق بين قول الجهمية وبين قول أهل السنة، تلفيق قصد به إثبات الكلام لله عز وجل لكن مع إنكار الأفعال لله، كفعل الكلام أو الصوت المسموع أو نحو ذلك مما يرى هؤلاء أنه منفي عن الله بزعمهم، فكأنهم أرادوا أن يثبتوا أصل الكلام وينفوا الفعل لله، فهو يقول: إن هؤلاء يرد عليهم أبو حنيفة بقوله الذي سبق، والذي يفهم منه أن الكلام لا يمكن أن يكون معنى دون أن يكون بصوت مسموع؛ لأنه لو كان معنى لكان كلام الله تعالى لموسى كأنه ما حدث في وقت، إنما هو قائم إلى يومنا هذا؛ لأن المعاني إذا لم تترجم إلى حروف وأصوات تبقى دائمة، فكون الله عز وجل كلم موسى تكليماً دل على أنه كلمه في زمن معين محدد، وأن هذا الكلام انتهى بوقته، ولا يعني أن كلامه تعالى ينتهي، إنما هذه الكلمات المعدودات جاءت من الله عز وجل في وقت، كما أن القرآن جاء من الله عز وجل في وقت، وكما أن الله عز وجل يتكلم يوم القيامة ويكلم عباده بصوت في وقت، فهذه دلالات قاطعة على أن الله يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن الله عز وجل متصف بصفة الكلام على ما يليق بجلاله، وهي صفة دائمة لا تنقطع، ولم تستأنف كما يزعم بعضهم أن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وأنه تكلم ولا يتكلم بعد ذلك، كذا زعموا، وهذا استنقاص لله عز وجل، بل الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وكلامه لعباده -سواء لموسى أو لمن سبقه من المرسلين أو لمن لحق أو للعباد يوم القيامة- جزء من كلامه سبحانه، وليس هو كل كلامه، فكلمات الله لا حد لها أبداً، فمن هنا يقرر أبو حنيفة ما يرد به على ما يعتقده كثير من الأحناف منذ أن اعتقدوا هذا الاعتقاد إلى يومنا هذا من أن كلام الله معنى قائم بالنفس؛ لأن المعنى القائم بالنفس فقط لا يترجم إلى فعل، فلا يكون كلاماً محدداً كالقرآن والتوراة والإنجيل وككلام الله لموسى.(28/2)
تعلق كلام الله تعالى وسائر أفعاله بمشيئته والرد على من خالف ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (الذي هو من صفاته لم يزل) رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً].
هذا كلام موهم، وكأنه يفهم منه أن المعتزلة يقولون بأن الله يتكلم إذا شاء شيئاً بعد شيء، والمعتزلة لا يقولون هذا اعتقاداً، بل يقولون هذا على سبيل الرد، يقولون: إنكم إذا قلتم بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا قلتم بأن التوراة المنزلة على موسى قبل تبديلها كلام الله غير مخلوقة، وإذا قلتم: إن ما كلم الله به موسى وغيره غير مخلوق؛ لزمكم أن الله يتكلم بالمشيئة والقدرة، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فيزعمون أن هذا باطل لأنهم يقولون: إن هذا يعني أن الله تقوم به الحوادث، تعالى الله عما يظنون، فهم يزعمون أنه إذا قيل: إن الله يتكلم متى شاء؛ لزم من ذلك بزعمهم وظنهم الفاسد أن الله حدث له شيء، والله منزه عن الحوادث.
وكلامهم الذي ذكره الشارح كلام مجمل، قد يقصدون به حقاً وقد يقصدون به باطلاً، ولا نرده لمجرد أنهم قالوه، بل نفصل فيه على نحو ما يأتي، لكن لكي يتضح الكلام الآتي ولا يلتبس نقول إجمالاً: مسألة أفعال الله تعالى مسألة متعلقة بمشيئته وقدرته عز وجل، فالسلف والذي عليه أهل الحق جميعاً أن جميع أفعال الله تعالى متعلقة بمشيئته، ومنها الكلام، ومعنى (متعلقة بمشيئته) أنه عز وجل فعال لما يريد، فإذا شاء تكلم متى شاء وكيف شاء، كما أنه ينزل عز وجل إلى السماء الدنيا متى شاء، ويجيء متى شاء سبحانه، فهذه الأفعال يسميها المعتزلة قيام الحوادث به، وهو تعبير فلسفي جاء به فلاسفة اليونان والصابئة الذين يرون أن ربهم فكرة مجردة، وهذه شبهة المعتزلة التي دخلت عليهم، حيث اقتنعوا بقناعة الفلاسفة الوثنيين الذين يقولون بأن الله فكرة مجردة، والفكرة المجردة لا يمكن أن يكون لها وجود ولا أن تكون في العلو ولا في الفوقية ولا أن تنزل ولا تجيء ولا تفعل، فجاءت هذه الأفكار إلى المعتزلة والجهمية فسحبوها على الغيب فقالوا: الله متصف بالأسماء الحسنى، لكن الصفات الفعلية التي تدل على الأفعال لا تمكن؛ لأن الله عندهم فكرة، والفكرة لا تفعل، وعبر بعضهم بأن الله مجرد عقل، وبعضهم عبر عنه بأنه روح، فهذه المعاني الباطلة حينما تشربوها ثم سمعوا النصوص الواردة في الصفات اصطدمت مع قناعاتهم ومع اعتقاداتهم، فزعموا أنهم يلزمهم أن ينزهوا الله عن الأفعال؛ لأن الله لا يقبل أن يفعل، فجعلوا الكلام على هذه القاعدة، فالكلام عندهم كلام معنوي نفسي قائم بالنفس؛ لأن فكرة وجود الله عز وجل أيضاً معنوية نفسية عقلية، فسحبوا هذه على هذه.
فمن هنا إذا أقروا بأن الكلام يتجدد أقروا بأفعال الله تعالى المتجددة على ما يليق بجلال الله تعالى، يعني أن الله يفعل متى شاء، وأن هذا الفعل يرى ويسمع، فالفعل الذي يرى ويسمع لا يمكن إلا أن يكون ممن تمكن رؤيته وسمعه على ما يليق بجلاله عز وجل، فمن هنا وصل الأمر عندهم إلى إنكار أفعال الله تعالى من أجل أن تسلم قاعدتهم الأولى في الاعتقاد في الله عز وجل وأسمائه وصفاته.
وليس الأمر في الكلام فقط، بل كل أفعال الله تعالى كذلك، فالكلام والاستواء والنزول والمجيء والعجب والضحك والرضا والسخط، كل هذه الأمور قالوا: لا تتعلق بالمشيئة، لأنه لا يمكن أن نقول: إن الله إذا شاء غضب، وإذا شاء لم يغضب، بل الغضب يعبرون عنه بإرادة الانتقام، أو يعبرون عنه بالعذاب الذي توعد الله به، والرضا هو الرحمة والجنة؛ فليس هناك صفة لله اسمها الرضا أو الغضب، كل هذا من أجل أن تسلم أصولهم.
وعلى أي حال الموضوع جاء في مناسبة الكلام عن كلام الله تعالى؛ نظراً لأن أول باب دخلوا فيه في التأويل هو مسألة كلام الله تعالى، فأول ما دخل التأويل على الفرق المتكلمة التي تابعت الفلاسفة وجميع المعتزلة في مسألة كلام الله تعالى، وأول من شق هذا الكلام وفتقه الكلابية، ثم تبعهم عليه الأشعرية والماتريدية وسائر أهل الكلام إلى يومنا هذا، فزعموا أن كلام الله تعالى معنى، فمن هنا لم يقولوا بالصوت ولم يؤمنوا بتعلق الكلام بمشيئة الله تعالى.(28/3)
دليل تعلق كلام الله بمشيئته ولزوم قبول ما وافق الحق من قول المخالف
قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء؛ فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما].
الصحيح ألا نقول: قائم به ولا: غير قائم به؛ لأن هذا كلام فيه ابتداع من ناحية، وفيه إيهام من ناحية أخرى، لكن نظراً لأنهم اتخذوا كلمة (قائم به) ذريعة لإنكار الصفات؛ ألزمهم بها ليقول بأنه لا يمتنع أن الله سبحانه وتعالى تكون صفته متعلقة بمشيئته وقدرته، ومعنى (متعلقة بمشيئته وقدرته)، أن الله فعال لما يريد، وأن الله إذا شاء فعل، وأن الله قادر على أن يفعل هذه الأفعال، قادر على أن يتكلم متى شاء، وأن ينزل متى شاء، وأن يجيء متى شاء سبحانه، والنصوص جاءتنا بذلك، ولسنا نتكلم من عقولنا، وهذا هو الذي يميز أهل السنة عن غيرهم حينما يقولون: إن أفعال الله بقدرته ومشيئته، فليس هذا مجرد تقرير عقلي، صحيح أن العقل يصدقه، لكن ليس مجرد تقرير عقلي، بل هو مقتضى النصوص، فقد ثبت في النصوص أن الله ينزل، وثبت في النصوص أن الله يعجب ويضحك عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يرضى، وأنه يتكلم، ونحو ذلك من الأفعال، وإذا ثبت في النصوص قررناه، أما قولنا: متعلق بالمشيئة والقدرة؛ فإنه مأخوذ من مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، ولذلك لم يتورع بعض المعتزلة حتى عن نفي القدرة، فقالوا: إن الله تعالى لا يقدر على أن يتكلم بصوت وحرف، وقولهم: (لا يقدر) يتفلسفون فيه، فيقولون: ليس معنى هذا العجز، بل إن معنى (غير قادر) أنه غير قابل لأن يتكلم بصوت وحرف، وهذا كله رجم بالغيب، وافتراء على الله بغير علم، وكله إثم، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يحترز من مثل هذه الكلمات حتى على سبيل التقرير والتدريس، إلا إذا جاءت في عرض تقرير العقيدة في مثل هذا الكتاب أو غيره مما قرره السلف والأئمة، وردوا به بدع الأهواء التي انتشرت وخيف على الناس منها، وتكلم فيها طلاب العلم المأمونون الذين لا يخشى عليهم من الالتباس، أما إذا ظن الإنسان أن يلتبس الأمر على السامع؛ فالأولى أن لا تقرر هذه الصفات، لذلك أرى من الضرورة أن ننبه إخواننا الذين يتكلمون في المساجد وفي المحاضرات أن لا يتعرضوا لتفاصيل الرد على الفرق بمثل هذه الأمور أبداً، حتى لو جاء سؤال، ما لم يكن هناك درس متخصص فيه طائفة من طلاب العلم والمقبلين على درس العقيدة ويستوعبونها، فلا مانع، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي في المجالس أن تثار هذه القضايا، أقول هذا لأني سمعت ونمي إلى علمي من أكثر من مصدر أن هناك من طلاب العلم من بدأ يمتحن الناس في هذه الأمور، ويمتحن العوام وأشباه العوام، ويتكلم في كلام الله تعالى وهو القرآن، ويسأل -كما ورد إلى- عن القرآن هل هو محدث أو مخلوق؟! وهذا كلام خطير في الحقيقة لا ينبغي أن يثار بين أهل العلم بغير ضرورة وحاجة، فكيف بغير أهل العلم؟! فمن هنا أقول: ينبغي أن نعود أنفسنا على أن لا نتكلم في تفاصيل الرد على الفرق في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم بأكثر مما ورد في الشرع في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم في الأسماء والصفات إلا على سبيل الفائدة والتقرير العام الذي لا يخرج عن ألفاظ النصوص، ولا مانع من أن يتكلم الإنسان عن الأسماء والصفات لاستنباط المعاني التي تقوي الإيمان ويبين فيها آثار الأسماء والصفات في أفعال العباد، وفي أفعال المؤمنين، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي، ولولا أن هذا الكلام ورد في مثل هذا الكتاب، وكان السلف قد اضطروا إليه اضطراراً لما لجأنا إليه في مثل هذا الدرس، لكن لا بد مما ليس منه بد في درس متخصص.(28/4)
الرد على دعوى قيام الحوادث بالله عز وجل حال إثبات صفة الكلام
قال رحمه الله تعالى: [فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به, قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً، مع صريح العقل.
ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، وكما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى) ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائلٌ متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات].
قوله: [ولا يعرف في لغة ولا عقل قائم متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره]، هذا قول طائفة من المعتزلة وبعض المتكلمين، يقولون: إن كلام الله تعالى المقصود به ما سمعه موسى من الشجرة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، يقولون: المقصود بكلام الله تعالى ما سمعه موسى من الشجرة، وما سمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، أو ما سمعه الناس من محمد صلى الله عليه وسلم، يزعمون بذلك أن الله لا يتكلم، فهو يقول لهم: إذا قلتم: إن كلام الله تعالى هو ما سمعه موسى في الشجرة؛ فأنتم بهذا تزعمون أن كلام الشجرة صار هو كلام الله، فهذا رد عليهم من ناحيتين: من ناحية أنهم نسبوا الكلام إلى الله تعالى حينما كان في غيره، وهذا ليس هو المقصود هنا، والناحية الثانية أنهم زعموا أن كلام غير الله تعالى كلام له، وهذا لا يجوز عقلاً؛ فإنك -ولله المثل الأعلى- لو سمعت كلاماً لإنسان في الشارع، ثم ذهبت إلى آخر في البيت وقلت له: أنت الذي تكلم في الشارع قبل قليل؛ لم يصح هذا منك؛ إذ لا يصح أن تنسب الكلام لغير قائله، فقولهم بأن كلام الله تعالى المقصود به ما خلقه في غيره -ككلام الشجرة أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم أو كلام جبريل- قول باطل من ناحية النسبة، فكيف نثبت لله صفة الكلام، ثم نقول: المقصود بكلامه ما تكلم به غيره؟! فلا يصح هذا عقلاً، هذا هو المقصود.
قال رحمه الله تعالى: [وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك)، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، كل هذه من صفات الله تعالى.
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة].
الاستعاذة بالرضا من السخط، وبالمعافاة من العقوبة فيها رد على فئتين من الناس، وليس الذي تكلموا في الصفات فحسب، بل فيها رد على المبتدعة الذين يعوذون بغير الله، والذين يتعوذون أو يلجئون أو يدعون غير الله، ثم إن فيها رداً على الذين زعموا أن هذه الصفات ما هي إلا تعبير عن مخلوقات الله تعالى الأخرى، فهو يقول للذين ينكرون الرضا والسخط -وهم جميع المعتزلة-، والذين يؤولونهما -وهم الأشاعرة والماتريدية-: إذا زعمتم أن الرضا والسخط ليسا من صفات الله تعالى، وإنما هما تعبير عن الإنعام والعقوبة -وهذا كلام الأشاعرة والماتريدية، حيث يقولون: السخط هو عقوبات الله المادية التي نراها، والرضا هو نعم الله التي نراها، والعقوبات والنعم مخلوقة- إذا زعمتم ذلك فإنه لو كان قولكم صحيحاً ما صح أن نستعيذ برضا الله من سخطه؛ إذ لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، إذاً: استعذنا من صفة الله بصفة الله، فهذا يؤكد جزماً أن هذه صفات لله عز وجل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) فدل على أن الرضا صفة لله؛ لأنه لا تجوز الاستعاذة إلا بالله وأسمائه وصفاته.
إذاً: هذا دليل قطعي على أنهما صفتان لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، وإلا لما جازت الاستعاذة بها؛ لأنه لا يستعاذ إلا بالله سبحانه وتعالى.(28/5)
شرح العقيدة الطحاوية [29]
للناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: الأول: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، وهذا هو قول السلف أصحاب المنهج الحق، ومن عداهم قولهم إما باطل محض أو لا يخلو من باطل، ومن هؤلاء القائلون بأن الكلام اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزءَ مسماه، بل هو مدلول مسماه، ومنهم القائلون بأنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز، ومنهم القائلون بأنه مشترك بين اللفظ والمعنى، ويعنون بذلك أن كلمة (كلام) قد تطلق على اللفظ فقط أو على المعنى فقط.(29/1)
ما عليه أكثر متأخري الحنفية من كون الكلام معنى واحداً والعبارات مخلوقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد].
الضمير يرجع إلى كلام الله عز وجل، ولا يزال الشارح في سياق الحديث عن كلام الله عز وجل، والرد على الذين أنكروا الكلام، ومن أجل أن نربط اللاحق بالسابق أذكر بهذه المسألة بإيجاز، فالشارح هنا يقرر مذهب السلف في الإنكار على الذين تكلموا في كلام الله تعالى بغير الحق، وهم صنفان: الصنف الأول: الذين أنكروا كلام الله مطلقاً وقالوا بأن القرآن مخلوق، وهم المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم من بعض أهل الكلام.
الصنف الثاني: الذين قالوا بأن كلام الله تعالى معنى قائم بالنفس، وفصلوا كلام الله تعالى عن مشيئته، وقالوا بأن الكلام لا علاقة له بالمشيئة، وهذا فرع عن قول الكلابية، أي: قول الأحناف، وهو قول الماتريدية، عبر عنهم بالحنفية هنا؛ لأن الماتريدية أغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم ماتريدية، والأشاعرة وطوائف من المتكلمين قولهم يتشابه وإن اختلف تعبيرهم، فكل قولهم امتداد لقول الكلابية الذين قالوا في كلام الله تعالى بأنه معنى قائم بالنفس، وأنكروا أن يكون لله كلام يتجدد أو أن الله تعالى يتكلم متى شاء، فأنكروا تعلق الكلام بالمشيئة، وبناء على ذلك أيضاً أنكروا أفعال الله الاختيارية مطلقاً، أو تعلق أفعال الله تعالى الاختيارية بالمشيئة، وهو قول لزم إنكار المشيئة، حيث قالوا بأن الله لا يفعل الكلام متى شاء، إنما كلامه معنى واحد، تعالى الله عما يزعمون، فإن عبر عنه بالعبرية صار توراة، وإن عبر عنه بالعربية صار قرآناً إلى آخره.
فالشارح يرد على هذه الفئة، يرد على الذين أنكروا أن يكون الله عز وجل يتكلم متى شاء، وأن الكلام متعلق بالمشيئة، وأنكروا أفعال الله الاختيارية تبعاً لذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزي والتبعض في الحاصل في الدلالات، لا في المدلول، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت (كلام الله) لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً].
على هذا يكون قولهم في كلام الله تعالى مبنياً على خمس قواعد كلها تفرعت عن الأصل الأول، وهو إنكار أفعال الله الاختيارية.
فالقاعدة الأولى عندهم -وقد وافقوا فيها الجهمية والمعتزلة- قولهم: إنه معنى واحد.
والثانية: أن التعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض في الدلالات لا في المدلول.
والثالثة: أن هذه العبارات مخلوقة.
أي: عبارات القرآن، وهذا مؤداه قول الجهمية، لا يختلفون فيه عن قول الجهمية.
والرابعة: قولهم: إن كلام الله سمي بذلك لدلالته على كلام الله، وليس لأنه كلامه بذاته، بل لتأديه به، وفرعوا عن هذا أنه إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة، ثم اختلفت العبارات لا الكلام، أي: أن الكلام أصله واحد.
وقولهم: (اختلفت العبارات) دليل على أنهم يرون العبارة مخلوقة وأن الكلام هو صفة الله، فهم وافقوا الجهمية والمعتزلة في المبدأ ووافقوهم في النهاية.
الخامسة: قولهم: (وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً) وهذا كلام خطير؛ لأن المجاز غير الحقيقة، والمجاز يمكن أن يفسر بأكثر من تفسير، أما الحقيقة فلا تفسير لها إلا تفسير واحد، ومن هنا وقعوا فيما وقع فيه الجهمية من حيث يشعرون أو لا يشعرون.(29/2)
فساد القول بأن كلام الله تعالى معنى واحد وأن ما أنزله إنما هو تعبير عنه
قال رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام فاسد؛ فإن لازِمَه أن معنى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]].
لأنهم حينما زعموا أن كلام الله معنى واحد، وأن التعبيرات عنه مخلوقة؛ يكون معنى ذلك أن الأمر والنهي قبل التعبير شيء واحد، والواجب والمحرم شيء واحد لا فرق بينهما؛ لأن التفريق إنما جاء في التعبير فيما بعد على ألسنة الأنبياء، وليس من كلام الله عز وجل، وهذا يؤدي إلى القول الباطل.
قال رحمه الله تعالى: [ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف.
والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن.
بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك.
وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله.
ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب.
وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) من خط كاتب معروف؛ لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا (كل شيء) حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.
والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وتارة يذكر ويراد به المقروء: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين، فالحقائق لها وجود عيني، وذهني، ولفظي، ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثم تذكر، ثم تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة، وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان.
والفرق بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في رق منشور أو لوح محفوظ أو في كتاب مكنون واضح: فقوله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: ذكره ووصفه والإخبار عنه، كما أن محمداً مكتوب عندهم، إذ القرآن أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينزله على غيره أصلاً، ولهذا قال: في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق؛ لأن (الزبر) جمع (زبور)، والزبر هو الكتابة والجمع.
فقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ويبين كمال بيان القُرْآن وخلوصه من اللبس، وهذا مثل قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ} [الأعراف:157] أي: ذكره، بخلاف قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] أو: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] أو: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78]؛ لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل الكون والاستقرار والح(29/3)
ذكر الأقوال فيما يتناوله مسمى الكلام عند الإطلاق
قال رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن معاً، وهذا قول السلف.
الثاني: أنه اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية].
هذه الأقوال الثلاثة كلها أقوال المتكلمين، أعني الثاني والثالث والرابع، وربما يشتبه الرابع مع الأول، فكأنهما بمعنى واحد، لكن بينهما شيء من الفروق، وهذه الفروق لا تتبين إلا من خلال اللوازم التي تلزم على كل قول.
فالقول الأول هو قول أهل السنة، بل قول جمهور أهل العلم وغالب أهل اللغة من غير المتكلمين، وهو أن كلمة الكلام إذا أطلقت تشمل اللفظ والمعنى جميعاً، وهذا أمر بدهي عند العقلاء قبل أن يأتي تشقيق العلوم والتفلسف فيها، ولو ترك الناس على بديهاتهم دون أن تدخل عليهم شبهات لما فهموا إلا ذلك، وهو أن الكلام يشمل اللفظ والمعنى، وأنه ما من كلام مفيد إلا وله معنى، وما من معنى مفيد يعبر عنه الناطق والمتكلم إلا ويكون التعبير عنه بلفظ.
والإشارة قد يعبر بها، لكن الإشارة تنوب عن الكلام إذا عدم الكلام أو عدمت آلته، وهذا أمر شاذ، وإلا فالأصل في الكلام أنه يشمل اللفظ والمعنى.
والقول الرابع الذي أشار إليه يختلف قليلاً عن القول الأول؛ لأن الذين قالوا به قالوا: إن الكلام مشترك بين اللفظ والمعنى، فقولهم: (مشترك) يعنون به أن كلمة (كلام) قد تطلق على اللفظ فقط وقد تطلق على المعنى فقط، وقد تطلق عليهما.
وهذا القول لجئوا إليه ليخرجوا عن إثبات الكلام لله عز وجل بحرف وصوت، فقالوا: نعم قد يطلق الكلام على اللفظ والمعنى، ولكنَّه أيضاً قد يطلق على اللفظ فقط، وقد يطلق على المعنى فقط.
وأهل السنة والجمهور من أهل العلم وأهل اللغة يقولون: الكلام إذا أطلق فلا بد أن يشمل اللفظ والمعنى، إلا إذا كان هناك ما يقيد، أو كان هناك قرينة، كأن يكون المعبر أخرص، فإنا نعرف أن إشارته ليست كلاماً إنما أراد معنى معيناً، فهذه قرينة، أو كان اللفظ يدل على إطلاق الكلام على أحد الأمرين: اللفظ أو المعنى، أما إذا أطلقت كلمة كلام فإنها تشمل اللفظ والمعنى، ولا يجوز أن تكون مشتركة بمعنى أنها قد تخص بأحد الأمرين بغير قرينة وبغير شاهد.
قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن].
يقصد أبا الحسن الأشعري، وربما يكون هناك في الاسم تصحيف وتحريف، والله أعلم؛ لأنه نقل مثل هذا القول عن أبي الحسين الطبري، لكن روي عن الأشعري وليس هو المشهور عنه، فربما قاله في بعض مراحل حياته، أما المشهور عنه في الكتب الأخيرة فهو أنه ينفي هذا القول، بل إنه ساق في (المقالات) قول من قالوا بأن صفات الله مجازية -ومنها الكلام- بما يشبه الإنكار له ولم يؤيده، مع أنه إذا كان يؤيد الرأي فهو يقول به.
فعلى كل حال يمكن أن يكون هذا قولاً للأشعري، لكنَّه قول مغمور وليس هو المشهور عنه.
قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله، حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه].(29/4)
موافقة أبي الحسن الأشعري لابن كلاب في مسألة كلام الله وغيرها
القول بأن الكلام قائم بالمتكلم بخلاف كلام الله تعالى فإنه لا يقوم به من المسائل التي بقيت عند الأشعري بعد رجوعه إلى السنة، وخالف فيها أهل السنة وتابع فيها ابن كلاب الذي تأول الصفات وأنكر ما يسمونه قيام الأفعال بالله، فهو ومن نحا نحوه يزعمون بأن اعتبار الكلام من الله عز وجل بحرف وصوت يعني قيام الأفعال به، كما أن النزول من قيام الأفعال به، ونحو ذلك، فهم يؤولون هذه الصفات أو ينكرونها، فعلى هذا تكون أقوال الكلابية ثلاثة، وهي أقوال أهل الكلام؛ لأن الكلابية هي أصل أهل الكلام، لكنهم توسعوا بعدها توسعاً عظيماً، حتى أدخلوا على مذهبهم بعض أصول الجهمية والمعتزلة، فأقوال الكلابية ثلاثة: الثالث والرابع بترتيب المؤلف، وثالثها هذا القول المروي عن أبي الحسن، وأبو الحسن كلابي، وهذا أيضاً مما ينبغي أن يفهم؛ كما سيأتي في مسائل كثيرة في بقية مباحث الطحاوية، فـ أبو الحسن رحمه الله كلابي يوافق ابن كلاب في مسألة كلام الله تعالى على الخصوص، وفي إنكار قيام الأفعال أو تأويل أفعال الله عز وجل أو الصفات الفعلية، وهذا ما انحرفت به الكلابية عن مذهب أهل الحديث، هذه المسألة بالذات هي التي انحرفت بها الكلابية عن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة، وصارت بذلك فرقة متكلمة، وأبو الحسن الأشعري في هذه المسألة كلابي، وإن كان يوافق سائر أصول أهل السنة والجماعة كـ ابن كلاب نفسه، فـ ابن كلاب -وهو عبد الله بن سعيد القطان - يوافق أهل السنة في سائر الأصول، لكن يخالفهم في هذه المسألة فقط، ليس في غيرها، وكذلك أبو الحسن الأشعري يوافق أهل السنة في سائر الأصول، لكن يخالفهم في هذه المسألة، وهذا الباب والمنفذ هو الذي دخل من خلاله المتكلمون فيما بعد، كـ الجويني في مرحلته الأولى في حياته، والرازي في مرحلة حياته الأولى ومن جاء بعدهما.(29/5)
ضلال المتكلمين في انتهاج رد خبر الآحاد في الاعتقاد واستدلالهم بشعر للأخطل النصراني
قال رحمه الله تعالى: [وأما من قال: إنه معنى واحد، واستدل عليه بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فاستدلال فاسد].
الذين قالوا: إنه معنى واحد هم من ورثة الكلابية، وهم أهل الكلام.
قال رحمه الله تعالى: [ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به.
فكيف وهذا البيت قد قيل: إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد)، وهذا أقرب إلى الصحة].
مسألة متعلقة بمنهج الاستدلال عند المتكلمين، وأشار إليها هنا الشارح إشارة طيبة وجيدة تحتاج إلى وقفة يسيرة.
فهؤلاء المتكلمون لا يستدلون بحديث الآحاد في مسائل العقيدة، وإن كانت أحاديث الآحاد أصلاً في كثير من مسائل الدين، بل أصل كثير من مسائل الدين القطعية التي عمل بها المسلمون إلى يومنا هذا، سواء كانت اعتقادية أو عملية، كثير منها ثبت بأحاديث الآحاد، بل من ذلك ما هو من قواعد الدين الكبرى، مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات) هذا حديث آحاد، ومع ذلك أجمعت الأمة على العمل به وأنه قاعدة من قواعد الشرع، وهكذا كثير من مسائل الاعتقاد ومسائل الأحكام القطعية، وأهل الكلام يقولون: لا نستدل في العقيدة بحديث الآحاد، والشارح يقول: سبحان الله! إذا جئناكم بحديث صحيح في الصحيحين في أمر العقيدة نستدل به على ما يقوله أهل السنة والجماعة ويخالف أصولكم؛ قلتم: هذا حديث آحاد لا نأخذ به، ثم تأتون لنا ببيت لشاعر نصراني عبر عن عقيدته بكلام لا يفهم، أو يفهم منه غير ما يطابق قول أهل السنة والجماعة، ثم إنه كلام لم يثبت، وهو قول آحاد، لم ينسبه إلى نبي معصوم ولم ينسبه إلى إمام ثقة، فكيف تقولون بأن هذا دليل على قولكم بأن الكلام هو ما في الفؤاد، وهو معنى واحد، وتأتون لنا بكلام شاعر ليس بحجة في الدين؟! فحينما تركوا السنة الثابتة بطريق الآحاد جاءوا ليستدلوا بأمثال هذا، بل استدلوا لكثير من أصولهم بالشعر، مثل نفيهم للاستواء، فقد استدلوا له بقول القائل: استوى بشر على العراق، وهذا كلام لا ندري لمن نسب، وسواء كان لمجهول أو لمعلوم؛ فهو ليس بكلام إمام هدى فضلاً عن أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم في الوقت الذي يردون فيه حديث الآحاد الصحيح يأخذون بأشعار وأقوال لا أصل لها، أو أن أصلها لا يعتمد عليه، فهو هنا يريد أن يستدل على فساد منهجهم في هذه الأمور.(29/6)
خطأ استدلال المتكلمين ببيت الأخطل في مسألة الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به؛ فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟! وأيضا: فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً؛ لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة.
وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت، فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وإنما النظم المسموع مخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه!].
على أي حال هذا وجه من وجوه الشبه بين المتكلمين وأهل الكتاب أو الأمم الأخرى، وإلا فسيأتي من خلال درس الفرق والأهواء ربط كثير من أصول المتكلمين -سواء الفرق الأولى كالرافضة، والذين جاءوا فيما بعد كالقدرية والمعتزلة والجهمية، والذين ورثوهم كالكلابية والأشاعرة والماتريدية- التي خالفوا فيها السنة بالديانات والملل والمذاهب الأخرى بقرائن ودلائل قوية، فمنها ما يوجد له أصل عند اليهود، ومنها ما يوجد له أصل عند النصارى، ومنها ما يوجد له أصل عند الفلاسفة من اليونان والصابئة، وهذا كثير جداً، بل أحياناً تجد كلمات المتكلمين بمصطلحاتها عند الفلاسفة بمصطلحاتها، فأحياناً لا يترجمون الكلمة، بل يأتون بها كما هي عند فلاسفة اليونان، وكما هي عند فلاسفة الصابئة، إضافة إلى شَبَهٍ لبعض أصول المجوس وبعض أصول الديانات الهندية، هذا كله -إن شاء الله- سيأتي من خلال درس الفرق، أي: ربط أصول الفرق المنحرفة بأصول الأمم الضالة، وليس ذلك على سبيل التكلف، إنما هو مصداق لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة -وفي رواية: شبراً بشبر وذراعاً بذراع- حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) وفي رواية: (لدخلتموه).
إذاً: كوننا نربط أصول المخالفين لأهل السنة والجماعة بالديانات الأخرى ليس ذلك على سبيل التكلف والتمحل، إنما على سبيل تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وبقرائن واضحة، وسيأتي لهذا إن شاء الله مزيد تفصيل.(29/7)
ردود على من اعتقد أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس
قال رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام].
هنا يناقش القائلين بأن كلام الله تعالى معنى قائم في النفس، وأن هذه الحروف والأصوات التي هي القرآن الكريم الذي بين أيدينا تعبير عن كلام الله عبر به مخلوق، وأحياناً يقولون: هذا المخلوق أصوات وحروف خلقها الله في الكون، فتمثلت أصواتاً سمعها النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل، وأحياناً يقولون: هو معنى ألقاه الله إلى جبريل فعبر عنه وألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقولون بأنه معنى ألقي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عنه، وكل هذه المعاني باطلة، بل القرآن هو كلام الله عز وجل أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله بالوحي المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من جبريل.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب].
هذا المفهوم لم يكن محل نقاش عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة إطلاقاً، بل كان من المسلمات؛ لأنهم يفقهون معاني الألفاظ بالعربية، وقد تلقى هذا المعنى وهذا المفهوم عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وتلقاه التابعون عن الصحابة، إلى أن جاء المتكلمون الذين تأثروا بالفلسفة، فالفلاسفة مذاهبهم في كلام الله عز وجل كثيرة، لكن منها اعتقاد أن كل ما يصدر عن الله عز وجل معان، ومن ذلك كلامه أو ما يعبر عنه بكلامه، وأكثر الفلاسفة لا يؤمنون بالكتب المنزلة، لكن هناك من أتباع الأنبياء من تأثر بالفلاسفة فأخذ بمفهوماتهم حول تفسير الظواهر من حولهم، تفسير ظواهر الحياة، ومن ذلك تفسير الكتب المنزلة على أنها معان أو معقولات تصدر عن مخلوقات، هذا غاية ما عند الفلاسفة، وهذا التصور انتقل إلى المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، فقالوا بأن كلام الله معنى وليس بكلام حقيقي بحرف وصوت، وفرعوا على هذه الفلسفة أشياء كثيرة، ثم انتقلت في منتصف القرن الثالث إلى الكلابية، فأخذوا بها وقالوا بأن كلام الله معنى قائم بالنفس، أو نحو هذا، لما قامت الفرق الكلامية التي توسعت في الكلام -وهي الماتريدية ومتكلمة الأشاعرة وسائر المتكلمين الآخرين الذي قد لا ينتسبون إلى فرقة- قال أغلبهم بهذه المقولة، وما ذلك إلا استجابة لشبهات الفلاسفة ومن تأثر بهم، وهو الآن يرد عليهم بمقتضى اللغة وبمقتضى فهم السلف، وبمقتضى الأحاديث والنصوص الصريحة في تحديد معنى الكلام، وببيان مفهوم الكلام عند السلف، سواء الكلام مطلقاً، أو الكلام المخصص من الأفراد، أو كلام الله عز وجل عموماً، أو كلام الله بالقرآن على وجه الخصوص.
قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!).
فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى، ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر.
ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك].(29/8)
اعتقاد أن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى لازمه القول بخلق القرآن
قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو هذا إلى المتلو المسموع؟! ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع].
القرآن -كما هو معروف وكما جاء في النصوص- تكلم به الله عز وجل كما يليق بجلاله، ثم سمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل وأسمعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل بطريقة الوحي المعروفة، فالقرآن ليس منه شيء بإلهام، وليس منه شيء مسموع من غير معرفة المسموع منه، أي: لا يسمع من مجهول، وليس في القرآن شيء جاء عن طريق المنام أو عن طريق التخيل، ولا عن طريق الخرافة، فطرق الوحي الكثيرة كلها لم يرد فيها القرآن إلا بالطريقة التي هي عن جبريل عليه السلام، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم منه كما سمعه جبريل من الله عز وجل.
إذاً: فالقرآن بمراحله الثلاث هو كلام الله، لكن المتكلمين خالفوا المعتزلة في بعض المراحل، فالمتكلمون يعترفون بأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وبعضهم يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل بحرف وصوت، لكن ينكرون أن يكون تكلم الله به، ومن هنا يوافقون الجهمية والمعتزلة في المنهاج، لكن يخالفونهم في الطريق الأخيرة وما قبل الأخيرة، ومع ذلك يتردد بعضهم في أن يكون جبريل تكلم به أو نطق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحرف وصوت، فهم مضطربون في ذلك أشد الاضطراب، بل إن بعض المتكلمين يميل إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه بحرف وصوت، إنما عبر عنه، وهذه الفئة توافق المعتزلة والجهمية موافقة مطلقة إلا في الألفاظ، وعادة المتكلمين أنهم يحاولون أن يلطفوا ألفاظهم، فلا يأتون بأمور ترد النصوص رداً صريحاً كما يفعل الجهمية والمعتزلة، إنما يحاولون التلفيق، ويقولون: إن أردنا إلا التوفيق بين السنة وبين المعقولات، وهذه دعوى المنافقين.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه؟! وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه.
فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع، فأما أن يشير إلى ذاته فلا؛ فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة؛ فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود:13]، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13 - 14].
ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.
قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى.
وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه، وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية.
وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه].(29/9)
أدلة عقلية على بطلان القول بأن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى
هذا معلوم حتى في بديهات العوام، أعني مسألة التفريق بين الكلام والمعنى القائم بالنفس، فلو كان القرآن مجرد معنى لكلام الله تعالى وليس هو كلامه لما صح عند الناس وفي عرفهم أن يقال مثلاً: تعال -يا فلان- أقرأ عليك كلام الله، أو: اقرأ كلام الله؛ لأنه لو كان معنى لقيل: تعال لأقرأ عليك معنى كلام الله، هذه ناحية.
الناحية الأخرى فيما يتعلق بترجمات معاني كتاب الله، فلو كان القرآن ليس بحرف وصوت من كلام الله عز وجل لصح أن نترجم القرآن، لكن عند أهل العلم لا يصح إطلاقاً أن نترجم القرآن بذاته، إنما تترجم معاني القرآن؛ لأن القرآن بذاته هو هذا الذي بين أيدينا بحروفه وأصواته، فلو كان كلاماً مخلوقاً ككلام المخلوقين لصح أن نترجم القرآن، فيجوز لأي إنسان من الناس أن يتكلم بالقرآن بأي لغة، ويقال: هذا هو القرآن، فيقرأ بالانجليزية ويقال: هذا هو القرآن، ويقرأ بالأردية ويقال: هذا هو القرآن، لكن عند جميع أهل العلم لا يصح أن يتلو أحد معنى آية بالأردية ثم يقول: هذه آية من كتاب الله، بل العجم كلهم المسلمون اليوم يقرءون كتاب الله بلفظه العربي، وإذا عبروا عن معانيه بغير العربية قالوا: معاني القرآن، ولا يقولون: هذا القرآن، حتى هؤلاء المبتدعة الذين يقولون هذا القول لا يجرؤ أحد منهم على أن يقول إذا عبر عن معنى بغير العربية من معاني آيات الله: هذا هو القرآن، أو: هذا كلام الله، أو: هذه آية، إنما يقول: هذا معنى آية، أو ترجمة معنى آية، أو ترجمة معنى القرآن ونحو ذلك.
إذاً: هذا أمر معلوم بالضرورة، لكن الأمور قد تشتبه على مثل هؤلاء لتعلقهم بشبهات المتكلمين والفلاسفة.(29/10)
كلام الله ليس كلام البشر ولا يشبه كلامهم
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر)، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً.
وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) إن شاء الله تعالى].
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا يشبه قول البشر)].
المقصود هنا قول الله عز وجل، أي: لا يشبه قول الله تعالى قول البشر، أو لا يشبه كلامه قول البشر.
قال رحمه الله تعالى: [يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة- عن الإتيان بسورة مثله؛ تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله.
وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية.
فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن، كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [آل عمران:1 - 3] الآية، {المص} [الأعراف:1] ((كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [الأعراف: 2]، قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1]، وكذلك الباقي، ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه، بل خاطبكم بلسانكم].(29/11)
ما تذرع به أهل الكلام من إثبات الإعجاز في معنى القرآن دون لفظه لنفي تكلم الله به
قال رحمه الله تعالى: [ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبرائيل منه].
يشير إلى أن كثيراً من أهل الكلام يزعمون أن القرآن إنما هو معجز من حيث معناه، من حيث إنه معنى قائم بنفس الله عز وجل، لا من حيث إنه هذا الكلام الذي هو بلسان عربي مبين؛ لأنهم يقولون: لو كان التحدي لمجرد كونه بالعربية لما أعجز العرب ذلك، إنما أعجزهم لأن التحدي متعلق بالمعنى القائم بنفس الله عز وجل كما يعبرون هم، فلذلك يجعلون الإعجاز فيما يتعلق بأصل الكلام عندهم، وهو أنه المعنى القائم بالنفس، أي: بنفس الله عز وجل، وهذا باطل؛ فإن الإعجاز ينصرف إلى القرآن كله بمعانيه وحروفه وكلماته، وليس إلى جزء من هذا فقط، كأن يقال بأنه معجز بحروفه وكلماته دون معانيه، أو بمعانيه دون حروفه وكلماته، فإن هذا باطل؛ فالقرآن معجز من حيث هو كلام الله، ومن حيث كونه بلسان عربي مبين، ومن حيث حروفه ومعانيه، فهو معجز من جميع هذه الوجوه.
قال رحمه الله تعالى: [كما يتذرعون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، كما أن في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ما يرد على من ينفي الحرف؛ فإنه قال: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات].
هذا دليل على أن القرآن معجز بحروفه ومعانيه.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك.
والله أعلم].(29/12)
ما يثبت لله من الصفات لا يعني وصف الله بمعنى من معاني البشر
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، ومن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر): لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة منه بدا نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفياً للتشبيه عقيب الإثبات.
يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم، لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً؛ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً].(29/13)
معنى التعطيل والتشبيه وذكر مواقف الفرق من صفات الله تعالى
هنا يحسن الوقوف عند مسألة مفهوم التعطيل، وكذلك مفهوم التشبيه؛ لأن الكلام في هذه المسألة بعد تفصيل الرد على الذين أنكروا كلام الله عز وجل وقفة جيدة من الشارح ومن صاحب الأصل الطحاوي؛ لأنه بعد الكلام في إثبات كلام الله عز وجل، وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وتقرير مذهب السلف ثم الرد على المنكرين؛ يحسن أن ينبه على ما يمكن أن يخطر ببال بعض الناس، أو ما يمكن أن يثيره أهل الشبهات من المؤولة والمعطلة في مسألة الإثبات، وهو قولهم بأنه إذا أثبتنا أن لله كلاماً أثبتنا مشابهته -بزعمهم- للخلق، والله عز وجل ليس كمثله شيء، إذاً: هذا تشبيه.
ومن أجل أن تتجلى هذه المسألة ويوضح الأمر فيها عرج الشارح على مسألة التعطيل والتشبيه ليبين المقارنة بينهما، ويبين أن المنهج الوسط والمنهج الحق هو الإثبات مع نفي التشبيه من غير تعطيل.
فالإثبات: إثبات صفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام التي كثر الكلام فيها من قبل.
ثم أيضاً نفي التشبيه من غير تعطيل، ولذلك يحسن أن نبين هنا معنى التعطيل بإيجاز، ومعنى التشبيه والتمثيل بإيجاز: فمواقف الناس تجاه الصفات عموماً تنقسم إلى أربعة مواقف رئيسة إلى يومنا هذا، وكل مواقف الفرق في الصفات لا تعدو هذه المواقف الأربعة:(29/14)
موقف السلف وأتباعهم من صفات الله تعالى
الأول: الإثبات من غير تمثيل ومن غير تعطيل.
وهذا هو المذهب الحق مذهب السلف، على قاعدة قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي للمشابهة والمماثلة، وقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) إثبات لصفات الله عز وجل.
هذا هو الموقف الحق الذي عليه سلف الأمة وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا.(29/15)
موقف المعطلة
الموقف الثاني: التعطيل.
والتعطيل يقصد به نفي أسماء الله وصفاته، أو نفي صفاته فقط، أو نفي أفعال الله تعالى وهي من الصفات، فهذا كله تعطيل، فمن نفى أسماء الله عز وجل وصفاته فهو معطل، ومن نفى الصفات فهو معطل، ومن نفى الأفعال فهو معطل.
أما الأسماء فمعلومة، وأما الصفات فكالسمع والبصر والنزول والمجيء وغيرها، وأما الأفعال فتدخل في الصفات الفعلية، كالنزول والمجيء.
فمن نفى هذه الصفات أو بعضها فهو معطل لما نفاه، ومعنى التعطيل: تفريغ الموصوف من الصفات، وتفريغ الموصوف من الصفات يؤدي إلى إنكاره هو؛ لأن كل موجود موصوف، ولو لم يكن من معاني الموجود إلا أن يكون موجوداً -إذ الوجود صفة- لكانت هذه الصفة كافية لإثبات الصفة للموصوف.
فإذا قال قائل بنفي الصفات؛ فإن هذا يؤدي إلى أن يقول بوجود موجود غير موصوف، وهذا يستحيل عقلاً وشرعاً.
وهل يتصور موجود لا يوصف؟! هل يتصور ذلك عقلاً؟! وهل يتصور موجود بلا اسم، لو لم يكن من اسم الموجود إلا كلمة (موجود) لكفى، وهذا ما رد به السلف على الجهمية لما قالوا: لا نعرف من أسماء الله وصفاته ولا نقر إلا بأنه موجود فقط، فقالوا لهم: كلمة (موجود) اسم، والوجود صفة، إذاًَ: سميتموه ووصفتموه، فما دمتم قد قلتم بالتسمية والصفة؛ فأطلقوا جميع الأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه، وأطلقها على نفسه، ولذلك وقعوا في حيرة؛ إذ مؤدى قولهم نفي وجود الله تعالى بالضرورة، وهذا يسمى تعطيلاً، والتعطيل جزئي وكلي، فالتعطيل الكلي هو نفي الأسماء والصفات والأفعال، والتعطيل الجزئي هو نفي بعض هذه الأمور.(29/16)
موقف المؤولة
الموقف الثالث: التأويل، وهو فرع عن التعطيل، لكنه أخف، لا من حيث النتيجة، بل أخف من حيث الإجراء والاستدلال والاستنتاج والتلقي فقط، فالمؤول يقر بالنصوص، والمعطل لا يقر بالنصوص، ولو أقر بألفاظها فإنه لا يقر بدلالاتها، فالمعطل حتى ولو أقر بألفاظ أسماء الله عز وجل؛ فهو لا يقر بدلالاتها، فمن هنا يسمى معطلاً، أما المؤول فهو يقر بالنصوص، لكنه يحرف دلالاتها عن معانيها المفهومة أو المتبادرة أو عن معانيها الحقيقية المطلقة على الموصوف، فالتأويل فرع عن التعطيل، لكنه أخف منه من حيث البداية ومن حيث الاستدلال، ومن حيث الاعتراف بالأدلة والنصوص، لكن من حيث المؤدى يؤدي إلى ما يؤدي إليه التعطيل في النهاية.(29/17)
موقف المشبهة
الموقف الرابع: التشبيه، والوصف الحقيقي الشرعي له: التمثيل؛ لأن الله عز وجل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فبعض أهل العلم يسمي التمثيل التشبيه؛ لأن أهل الأهواء أطلقوا هذه الكلمة فاشتهرت، والتشبيه هو اعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه، أو اعتقاد أن بعض الخلق مثل الله، تعالى الله عما يزعمون، كل هذا تمثيل، وكله موجود في الفرق، فالتمثيل والتشبيه في الغالب هو اعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه في جميع الخصائص أو في بعض الخصائص، سواء أكانت صفات أم أسماء أم ذاتاً أم أفعالاً، فاعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه هذا تشبيه وتجسيم، وهو كفر، سواء في جميع الخصائص وفي بعض الخصائص، من اعتقد أن الله عز وجل مثل خلقه -سواء فصل أو لم يفصل، وسواء جعل ذلك في جميع الخصائص والصفات أو في بعضها- فإنه بذلك يكون كافراً، وهذا التشبيه انقرض -تقريباً- إلا في حالات نادرة، كما انقرض التشيع الأول إلا في حالات نادرة، فالتشبيه وجد في فرق من الروافض الأوائل كالجواليقية والهشامية والداودية والبيانية والمغيرية وغيرها، كل هؤلاء كانوا مشبهة وكلهم روافض، لكن الروافض بعد عراكهم مع الفرق تحولوا إلى معطلة، فتركوا التجسيم وانقلبوا إلى التعطيل، فما وفقوا وسددوا إلى الاعتدال والوسط، فلما تجادلوا هم وخصومهم الذين يعتقدون التعطيل رجعوا إلى التعطيل ولم يوفقوا للسنة، فتركوا التشبيه والتجسيم وصاروا معطلة.
الرافضة وجميع الفرق المجسمة الأولى، ينسب التجسيم إلى الكرامية، لكنَّه الآن لا يوجد، كما لا توجد أيضاً لبعض الفرق التي انقرضت، فالآن لا يوجد إلا نزعات فردية، فلا نعرف التجسيم إلا في نزعات فردية.(29/18)
معنى أن المعطل يعبد عدماً والمشبه يعبد صنماً
أما قوله بأن المعطل يعبد عدماً؛ فكما أشرت إليه سابقاً؛ لأن التعطيل يؤدي للنفي، أي نفي أسماء الله وصفاته وأفعاله أو بعضها، ومن نفى هذه الأمور فقد عطل النصوص عن معانيها، وجعل نصوص الكتاب والسنة ليس لها معان، وهذا يسمى تعطيلاً، ومن جرد الذات الإلهية من الصفات أو من الأسماء أو من الأفعال أو من بعضها؛ فكأنه في تجريده عطل الموصوف عن صفته، وعطل المسمى عن اسمه، أو عطل فعل الله عز وجل عن فاعله، والله عز وجل فعال لما يريد.
إذاً: فالتعطيل معناه النفي، ومعناه التجريد، ومعناه رفع المعنى، ومعناه اعتقاد أن الألفاظ والنصوص ليس لها معان، أي: تعطيلها من معانيها، وتعطيل الموصوف من صفاته، والمسمى من أسمائه، والفاعل من فعله.
إذاً: المعطل يعبد عدماً؛ لأنه إذا زعم أنه يعبد الله، ثم قال بنفي الأسماء والصفات فكأنه يعبد غير موجود؛ لأنه يقال له: إذا كنت تعبد الله عز وجل وتقول: إن الله موجود، فالموجود مسمى وموصوف، وهذا مقتضى الكمال، وإذا قلت: لا؛ فإنك تعبد عدماً، لذلك لما سئل الجهم بن صفوان رأس المعطلة عن ربه تحير وبقي أربعين يوماً لا يدري ماذا يفعل؛ لأنه تشرب أقوال الفلاسفة من قبل حينما حاورهم، فوقعت في قلبه، فلما سألوه ما اهتدى للفقه في الدين وما عرف العلم الشرعي كما قال السلف فيه، فقد قالوا في وصفه بأنه لم يطلب العلم، فنظراً لأنه ليس عنده علم شرعي يعصمه كانت عنده الخلفيات الفلسفية، فأراد أن يطبقها، فما وجد معنى لمعاني النصوص على أساس القواعد الفلسفية، فما خرج من عزلته بعد أربعين يوماً إلا وهو حائر، حتى قيل: أنه لا يصلي، ولما قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: لم أدن بدين حتى أصلي، فإذا دنت بدين صليت، فلما خرج قال: هذا هو في الهواء، هو في كل شيء! بمعنى أنه جرد الله عز وجل من وجوده الذاتي، وجرد الله من أسمائه وصفاته، وزعم أن هذا الكون هو الله.
إذاً: فهذا يعبد عدماً أو يعبد صنماً، بمعنى أنه قلب المسألة، فحينما عطل جعل هذه المخلوقات هي الله أو حل فيها الله، فمن هنا جعل صفة المخلوقات هي صفة الله، وهذا هو التشبيه بعينه.
أما قوله بأن المشبه يعبد صنماً؛ فنظراً لأن التشبيه يؤدي إلى عبادة غير الله عز وجل حينما يتوهم الممثل أن ربه الذي يعبده مثل المخلوق، والله عز وجل ليس كذلك، فهو حين زعم أن الله مثل الخلق تصور لربه صورة مثل صورة المخلوق، فلما تصورها صار يعبد هذه الصورة، فهو يعبد صنماً من حيث يشعر أو لا يشعر.(29/19)
وجه كون التعطيل شراً من التشبيه
قال رحمه الله تعالى: [ويأتي في كلام الشيخ: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه).
وكذا قوله: (وهو بين التشبيه والتعطيل)، أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه لما سأذكره إن شاء الله تعالى].
قوله: [ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه] هذا من وجوه: الوجه الأول: أن التعطيل مصادمة صريحة للنصوص، ومصادمة صريحة للعقول، فمن زعم أن ربه ليس له ذات ولا أسماء ولا صفات؛ فقد صادم نصوص القرآن والسنة مصادمة مباشرة، ورد الوحي رداً صريحاً لا تأول فيه ولا شبهة.
والوجه الثاني أن التعطيل موهم ملبس؛ لأن المعطل يأتي إلى سذج الناس وقليلي العلم ويقول لهم: إني لا أفهم من هذه الصفة أو هذا الاسم إلا ما أعرفه في المخلوقات، وهذا لا يليق بالله عز وجل، وإذا حكمت بأني لا أفهم من ذلك إلا ما أعرفه في المخلوق فسأقع قطعاً في التشبيه، ودفعاً للتشبيه ننفي المعنى إطلاقاً ونقول: هذه الألفاظ ليس لها معان، إنما هي مجرد ضبط لمفاهيم الناس أو مخاطبتهم بظاهر غير الباطن، أو بمعنى غير المعنى الحقيقي إلى آخره، فالتعطيل موهم، بمعنى أنه تنطلي شبهاته على بعض الناس، خاصة الأذكياء الذين ليس عندهم علم شرعي، أما العوام فالغالب أنهم في هذه الأمور على الفطرة ويسلمون من التعمق في هذه الأمور ولا يدركونها، ومن الخير لهم أن لا يدركوها، لكن بعض الأذكياء تنطلي عليهم هذه الشبهات إذا لم يكن عندهم فقه في الدين، فيأتي المعطل ويلبس، فإذا لبس وقعت شبهاته في قلوب الناس، فوقعوا في التعطيل أو التأويل، ومن هنا تكون الفتنة بالتعطيل أكثر، وهذا هو السبب الذي جعل التعطيل والتأويل يبقى إلى يومنا هذا والتشبيه ينقطع؛ لأن التشبيه لا يصادم النصوص مصادمة، إنما هو خطأ في فهم النصوص، فالمشبه لا ينكر أن الله عز وجل له أسماء وصفات، بل يثبتها، لكن يثبتها على وجه مغلوط مبالغة في الإثبات، وذلك عدم فقه لنصوص التنزيه لله عز وجل، وعدم فهم لما في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فهذا فهم ناتج عن قصور وليس ناتجاً عن إلحاد قلب وعن سوء نية أو عن تلبيس، فلذلك التشبيه لم يستمر، لأنه يصطدم بالعقول اصطداماً مباشراً، لكنه لا يصطدم بالنصوص، إنما بعد بيان النصوص يتبين لأدنى من عنده علم أن التشبيه مرفوض بالبداهة وبالفطرة بعكس التعطيل، فإنه وإن كان مرفوضاً بالبداهة وبالفطرة، لكن فيه شبهات تنطوي على ضعاف الفقه وضعاف العلم.
قال رحمه الله تعالى: [وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً، بل صفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
وقوله: (فمن أبصر هذا اعتبر).
أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار].(29/20)
شرح العقيدة الطحاوية [30]
إن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة ثابتة مقطوع بها بنص التنزيل، حيث صرحت بها آيات قرآنية وفسرت بها أخرى، ونطقت بها الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم نعيم أهل الجنة، ولم ينازع في إثباتها إلا عميان البصائر من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، معتمدين في ذلك على زبالات العقول وتوهم دلالات النصوص، وكفاهم دحضاً لقولهم أن معول دليلهم المتكئ على آيتين من كتاب الله تعالى قد قطعت به يد استدلالهم، ولا غرو؛ فالسالك مثل مناهجهم لابد من أن تزل به قدم التسليم.(30/1)
إثبات الرؤية لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه): المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية].
يقصد المخالفين الذين نفوا الرؤية إطلاقاً، الذين كذبوا ما جاء في كتاب الله تعالى وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الآيات فكذبوها تكذيب تأويل وتعطيل، وأما الأحاديث فردوها رداً صريحاً، ولم يتورعوا عن ردها.(30/2)
منكرو الرؤية
وأول من أنكر الرؤية من الفرق الجهمية، أما الأشخاص فإن أول من اشتهر عنه إنكار الرؤية الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان.
وقد نسب إنكار الرؤية إلى غيلان بن مسلم، لكن لم يثبت عنه أنه أنكر الرؤية صراحة كما أنكرها الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وإنكار الرؤية ناتج عن تعلق هؤلاء بالقواعد الفلسفية التي عليها فلاسفة اليونان وفلاسفة الصابئة الذين نهجوا نهج تقرير أمور الغيب وغيرها بالعقليات وجانبوا سبيل الأنبياء، فالفلاسفة في العموم الأصل فيهم عداوة الأنبياء وما جاءوا به من الحق والشرائع.
والجهمية أتباع الجهم بن صفوان أبرز ما عندهم من الأصول إنكار الأسماء والصفات، وإنكار الرؤية، وإنكار كلام الله عز وجل، والقول بأن القرآن مخلوق، والمعتزلة تبع لهم في هذه الأصول، إلا أنهم يختلفون عنهم في التفصيلات، فالمعتزلة تنكر الصفات ولا تنكر الأسماء، لكنها تقول بنفي الرؤية وبخلق القرآن ونحو ذلك من أصول الجهمية.
وقوله: [ومن تبعهم من الخوارج] يقصد بذلك أن كل الفرق التي أنكرت الرؤية أنكرتها اتباعاً للجهمية والمعتزلة، والإمامية يقصد بها الرافضة الإثني عشرية، وعموم الرافضة ينكرون الرؤية، لكن أشهرهم الإمامية، فهؤلاء في إنكارهم للرؤية تبع للجهمية والمعتزلة، ولم يأتوا بجديد حتى في أدلتهم العقلية، فما سموه بالأدلة العقلية من شبهاتهم، والأسلوب الذي ردوا به النصوص أو أولوها لا يخرجون في ذلك عن الجهمية والمعتزلة بشيء من الأشياء، والخوارج الذين أنكروا الرؤية ووقعوا فيما وقعت فيه الجهمية في سائر الأصول هم الخوارج المتأخرون الذين ظهروا في القرن الثاني وما بعده.
أما الخوارج الأولون فلم يكن هذا مشهوراً عنهم، كما أنه لم يكن مشهوراً عن غيرهم، بمعنى أن أصول الخوارج الأولى ليس فيها إنكار الرؤية، لكن -كما هو معروف- تتجارى بجميع أهل الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم تستهويهم الأصول الفاسدة بسبب جدالهم للفرق الأخرى من الجهمية والمعتزلة، فيلزمونهم بأمور عقلية لا ينفكون عنها، وبسبب ما اتسموا به من المخالفة لأهل السنة، كان من عادتهم أن كل شيء يخالف أهل السنة يعتنقونه لوجود أصل المخالفة عندهم وتبييت هذا الأصل واستصحابه في كل حال.
إذاً: فالخوارج اعتنقوا القول بعدما اشتهر عن الجهمية والمعتزلة أثناء الحوار معهم، وعلى هذا فإن الخوارج من القرن الثاني وما بعده يقولون بإنكار الرؤية، ومن أشهرهم الإباضية، فالإباضية ينكرون الرؤية، والإباضية فرقة من فرق الخوارج الكبرى الأربع التي تشعبت عن الخوارج بعد سنة أربع وستين للهجرة، فالخوارج كانوا فرقة واحدة إلى سنة أربع وستين، فافترقوا إلى أربع فرق: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، فالذين بقوا منهم في القرن الثاني من هذه الفرق الأربع كلهم قالوا بإنكار الرؤية ما عدا فئات قليلة منهم، وكذلك الإباضية، وإلى اليوم والإباضية تنكر الرؤية أو أكثرهم، ومنهم من يدعي الآن من مثقفيهم وبعض طلاب العلم فيهم أنهم لا ينكرون الرؤية، ويظهر لي أن هذا منطق جديد قال به بعضهم حينما رأوا قوة أهل السنة وقوة حجتهم، وإلا فالأصل في الإباضية إلى يومنا هذا أنهم ينكرون الرؤية وآخر ما قرأنا عنهم وسمعنا ما كتبه شيخهم أحمد الخليلي في كتاب له يقال له: (حق الدهر) أنكر فيه الرؤية، وساق أدلة الجهمية والمعتزلة في إنكار الرؤية.
أما الإمامية فكذلك ما كانوا يعتقدون هذه الأمور -كإنكار الرؤية- إلا في القرن الثاني وما بعده في أثناء نقاشهم للجهمية والمعتزلة، وعلى هذا أخذوا بمبدأ إنكار الرؤية إلى اليوم، فأغلب الإمامية يقولون بإنكار الرؤية على نحو ما تقول به الجهمية.(30/3)
الفرق بين السلف وأتباعهم وبين المتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة في إثبات الرؤية
قال رحمه الله تعالى: [وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة].
يقصد بطوائف الكلام المنتسبة لأهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية والكرامية والكلابية والسالمية ومن نحى نحوهم، فهؤلاء كلهم يقولون بإثبات الرؤية وكلهم من المتكلمين الذين ينتسبون للسنة والجماعة، لكن إثباتهم الرؤية فيه اضطراب شديد جداً يتمثل في أنهم أثبتوها بشروط زائدة على ما ورد في الكتاب والسنة، ومن هنا وقعوا في اضطراب شديد، حيث قالوا بأن الله يرى يوم القيامة أو يراه المؤمنون بأبصارهم لكن بلا جهة، فيقولون: نثبت الرؤية بلا جهة، أو لا إلى جهة، أو إلى غير جهة، ونحو ذلك من العبارات الفلسفية، فعلى هذا يعدون ممن لا يثبتون الإثبات التام الشرعي، فإثباتهم في المبدأ لكن عند التفصيل لا يثبتون كما يثبت السلف، بل لا يثبتون كما تثبت النصوص الشرعية، فيضعون للرؤية استثناء، وهذا الاستثناء أوقعهم في إشكال، فلا هم الذين قالوا بقول أهل السنة وسلموا، ولا هم الذين قالوا بقول المعتزلة واتضح رأيهم، فوقعوا في اضطراب كما سيأتي تفصيله.
وممن وقع في الكلام في الرؤية الصوفية، وهذا لم يذكر، لكن ينبغي التنويه به في هذا المقام، فالصوفية قولهم بالرؤية على نحو قول أهل السنة في مبدأ الإثبات، لكنهم في النهاية يلحدون في الرؤية كما يلحدون في كثير من أمور التوحيد، بمعنى أنهم يقولون بالرؤية حتى بالعين الباصرة في الدنيا، فغلاة الصوفية يقولون: إن الرؤية تثبت في الدنيا قلبية أو بصرية، وإن الولي إذا وصل إلى درجة الفناء أو الحلول أو الاتحاد أو الوحدة؛ فقد يرى ربه بعينه، وهذا ما صرح به ابن عربي صاحب وحدة الوجود، فيرى أن المرئي هو الله، وأن الإنسان لا يرى إلا ربه في هذا الكون، وحينما يرى نفسه فإنه يرى ربه، وحينما يرى ربه فإنما يرى نفسه، وهذه فلسفة، لكنه أراد بها الخروج عن مقتضى الشرع والقول بقول غلاة الصوفية وغلاة الفلاسفة الذين يزعمون أنهم يرون ربهم عياناً كما يرونه بقلوبهم، فعلى هذا نتحصل في أصل مبدأ الرؤية على أربعة أقوال: الأول: الإثبات كما ورد في الشرع، وعليه أهل السنة والجماعة.
والثاني: الإثبات لكن بشروط زائدة بدعية، وعليه أهل الكلام، يقولون: نثبت الرؤية لكن بلا جهة.
والقول الثالث: قول الذين يثبتون الرؤية لكنهم يزعمون حصول الرؤية لبعضهم في الدنيا بالعين الباصرة وبالقلب، وهذا ضلال مبين وكفر.
والقول الرابع: هو قول الذين أنكروا الرؤية إطلاقاً بدون تفصيل، وهم الجهمية والمعتزلة ومتأخرة الخوارج والرافضة ومن نحا نحوهم من الفرق التي غلت وسلكت طريق الجهمية.(30/4)
فساد طريقة مؤولي نصوص الرؤية
قال رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وهي من أظهر الأدلة.
وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص].
يقصد بذلك أن الذين أنكروا الرؤية وقفوا من نصوص الرؤية، مثل قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ومثل قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، ومثل قوله عز وجل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في الرؤية، وقفوا منها موقف المؤولة، فأولوها وردوا النصوص الأخرى التي في الأحاديث.
ونقف عند مسألة التأويل، فهو يقصد بالتأويل أن الجهمية والمعتزلة لا يجرءون على إنكار آيات القرآن ولا على ردها؛ لأنها لم تأت بإسناد، إنما هي وحي، والله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه، فلم يجرءوا على الإنكار الصريح للآيات، وإن كان بعضهم قال قولاً يؤدي إلى ذلك، مثل قول بعضهم: إني أود أن أحك الآية الفلانية من المصحف، فهذه مجرد عواطف، لكنهم لم يجرءوا على الإنكار، وإنما جرءوا على التأويل، فهذه الآيات قالوا: ليس المقصود بها النظر إلى الله عز وجل.
وأتوا بأقوال كثيرة في المقصود بها ولم يتفقوا في المقصود، إنما فتحوا باب التأويل.
فهنا يقول لهم: إذا فتحتم باب التأويل في هذه المسائل المتعلقة بالله عز وجل والتي لا سبيل إلى القول بتأويلها؛ فتأويل غيرها مما يتعلق بالغيبيات الأخرى والسمعيات الأخرى أهون وأسهل، وإذا قلتم بتأويل الرؤية سهل على الناس أن يؤولوا حتى ما يتعلق بالجنة والنار والبعث واليوم الآخر والحساب ونحو ذلك من أمور السمعيات كالصراط والميزان، فيقول: إذا فتحنا باب التأويل فتحنا لكل مبطل -بل ولكل كافر- أن يتأول هذه النصوص على مزاجه ويقول: المقصود بالآية الفلانية كذا؛ لأن باب التأويل هو فتح لباب الظنون في الغيب، وإذا فتحت باب الظنون في الغيب لم تنغلق؛ لأن كل إنسان له ظنه، وكل إنسان يظن ويتوهم ويخطر على باله من الأوهام ومن الأشياء الظنية أشياء كثيرة، فلذلك لا يمكن أن يقال بتأويل هذه النصوص؛ لأن التأويل باطل أصلاً، وقول بالظنون والأوهام في أمور الغيب، وأمور الغيب لا مجال للظنون والأوهام فيها، ولا مجال للتخرص ولا للعقليات ولا للاجتهاد والرأي فيها؛ لأنها غيب، ولو علمها الناس وظنوا فيها ظنوناً لما كانت غيباً.
الأمر الثاني: أن من أول في أمر غيبي لزمه أن يؤول في الأمور الأخرى، ولو لم يلتزم احتج بتأويله غيره، فلذلك لما أولت المؤولة أفعال الله تعالى قال لهم الذين أولوا الصفات: إذا أولتم في الأفعال جاز لنا نؤول في الصفات، ولما أولوا الصفات قال لهم الجهمية: ما دمتم أولتم الصفات فمن حقنا أن نؤول الأسماء، فلما وصلوا إلى هذا الحد جاءت الباطنية فقالوا: ما دمتم فتحتم باب التأويل فنحن نؤول الدين كله، فالدين له ظاهر وباطن، حتى ما يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان! وهكذا انفتح باب التأويل، وهذا ما أراده الشيخ.
يقول: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل؛ لأن من تأول ما يتعلق بأفعال الله وأسمائه وصفاته ورؤيته ونحو ذلك فقد جرؤ على الله وتأول ما يتعلق بالله، فجرأته على ما يتعلق بالمخلوقات من باب أولى حتى الغيبية منها.
فهذا الرد يرد به أهل السنة على كل من تأول حتى ولو في مسألة صغيرة، يقال له: إذا فتحت التأويل فما الذي يمنع غيرك من أن يزيغ، ثم الثالث يوسع التأويل، ثم الرابع يجعل الدين كله له تأويل، فلا ينغلق باب التأويل، وليس هناك ضابط شرعي ولا عقلي قاطع يوقف الناس عند حد في التأويل، فإذا فتحوا الباب أول كلٌ على مزاجه، كالحال في أدلة الرؤية.(30/5)
التأويل الفاسد وضرره على الدين والدنيا
قال رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين، والحرة، وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!].
توسع الشارح في مفهوم التأويل الفاسد، ويحق له ذلك، ويقصد أن التأويل إذا بدأ انفتح الباب لأهل الأهواء لتأويل كل شيء من الدين ومن مناهج السنة ومن سبيل المؤمنين، وضرب أمثلة تبدو وكأنها بعيدة في المعنى، ولكنها في الحقيقة أمثلة واقعية لمعنى التأويل على بابه الواسع، ليس في الصفات وفي العقائد فحسب، بل حتى فيما يتعلق بمناهج السنة، فضرب مثالاً بقتل عثمان رضي الله عنه، فالذين قتلوا عثمان حججهم الظاهرة لا تستهدف عثمان رضي الله عنه بشخصه، فليسوا ممن قصدوا العدوان أو التشفي الشخصي من عثمان، إنما تأولوا، وتأولهم أنهم زعموا أنه أخل بما كان عليه أبو بكر وعمر، وأنه أخل بمبدأ توزيع الأموال شرعاً، وأنه أخل بمبدأ توزيع المناصب والولايات، ثم بدءوا يعمقون هذه النقمة في القلوب حتى أغاظوا قلوب الناس على أمير المؤمنين من باب التأول وقالوا: إن أردنا إلا الإحسان وإن أردنا الخير وإن أردنا إلا الإصلاح، وكانت نهاية هذا التأول قتل عثمان رضي الله عنه وإباحة دمه على أن هذا دفع للمنكر.
ثم بعده ما جرى يوم الجمل وصفين، وهي الفتنة التي حصل فيها خلاف بين المسلمين، فكل ما حدث فيها من إراقة دماء ونحو ذلك كان بتأول، فالذين قتلوا الزبير بن العوام أو الذين قتلوا طلحة أو الذين قتلوا علي بن أبي طالب بعد ذلك متأولة يقولون: أردنا أن نريح الأمة من هؤلاء؛ لأن اختلافهم أدى لافتراق الأمة واختلافها، وهكذا الفتن أصحابها دائماً يتأولون.
ثم مقتل الحسين، ومقتل الحسين حدث فيه تأول من جهتين: الأولى: جهة أن الرافضة الذين خذلوه تأولوا أنهم يجوز لهم أن يخرجوا به على السلطان زعماً منهم أنهم بذلك يقرون الحق في الإمامة له، وأنهم بذلك يدفعون الشرور والمظالم التي كان عليها بنو أمية.
والثانية: أن الحسين رضي الله عنه بنفسه تأول في جواز خروجه بأنه يستجيز ذلك لمصلحة المسلمين، لكن هذا التأول أدى إلى غير المصلحة كما هو معلوم.
كذلك قصة الحرة، والحرة المقصود بها ما حدث من قيام أحداث وشباب أهل المدينة ضد يزيد بن معاوية مع أن شيوخهم وكبارهم نهوهم، وبعضهم كان معهم؛ لأن الفتنة إذا حدثت عمت الصالح وغير الصالح والكبير والصغير، لكن في أول أمرها لم يشارك فيها إلا بعض حدثاء الأسنان وبعض الغيورين وبعض أصحاب العواطف دون العلماء، فالعلماء نهوهم، فلما واجهوا جيش الدولة الأموية وحدث أن انهزموا انتهكت المدينة ووقع من الشر والفساد في دين الناس ودنياهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وفي عقائدهم ووقع من الفتن والافتراق والأهواء بعد هذه الوقعة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، حتى قال بعض السلف: إن المدينة منذ وقعة الحرة لم تعد هي المثال الذي يقتدى به في السنة، كان الناس يقولون في ذلك الوقت: إذا اختلف أهل العلم في شيء فانظروا ماذا يفعل أهل المدينة.
إلى أن وقعت الحرة، وبعد وقعة الحرة ذهبت ريحهم وأعمت الصالح والطالح ومن شارك فيها ومن لم يشارك، وقتل الأبرياء وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وفسد دين الناس ودنياهم، وما ذلك إلا بالتأول الفاسد من قبل الذين كانوا يقولون: إن يزيد بن معاوية فاجر وظالم، ويحدث منه كذا، ويبذر بالأموال ويفعل ويفعل، ولا يسعنا إلا أن نقوم ضده وأن نزيل المنكر، فالذي حصل ما حصل إلا بالتأويل الفاسد.
وكذلك الخوارج استحلوا دماء المسلمين جميعاً بتأويل فاسد، حيث أخذوا النصوص وطبقوها على غير وجهها واحتسبوا بذلك عند الله عز وجل، فكانوا يقتلون الصحابة تديناً، وكذلك المعتزلة ما فعلوا ما فعلوه إلا من باب التأول؛ لأنهم قالوا: علماء المسلمين لم يكن عندهم من العلم وإدراك الحقائق العقلية والفلسفية، ولم يكن عندهم من إدراك ما عليه أصحاب الملل والنحل ما يجعلهم يدفعون عن الإسلام، فقاموا بمنهج كلامي زعموا أنهم ينصرون به الدين وينصرون الحق، وكذلك الرافضة وبقية الفرق.(30/6)
الآيات القرآنية الدالة على الرؤية
قال رحمه الله تعالى: [وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟! وروى ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، قال: في وجه الله عز وجل).
عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فُنُضِّرت بنوره.
وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل.
وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من النعيم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً.
ثم حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث.
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة).
ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر معناها أن الزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل، وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق وحذيفة، وأبو موسى الاشعري، وابن عباس رضي الله عنهم.
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي.
وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا].(30/7)
الرد على المعتزلة بإثبات الرؤية فيما استدلوا به على نفيها من النصوص
قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم، أما الآية الأولى: فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال].
المتكلمون يقولون: لا يجوز عليه كذا ويجوز منه كذا، ويقصدون بالجواز هنا الإمكان أو الوجود الذي هو الوقوع، فقولهم: (لا يجوز) يعني: لا يقع أو لا يليق ولا يحصل، فالمؤلف هنا أراد أن يقول: إنه لو كانت الرؤية مستحيلة كما يزعم المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم فإنه لا يعقل ولا يقع من موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أعرف الناس بربه في وقته- أن يسأل ما لا يقع ولا يمكن، أو ما يكون مستحيلاً؛ لأن الأنبياء معصومون فيما هو دون ذلك، فكيف بهذا الأمر؟ فلا يظن بكليم الله -وهو موسى عليه السلام- أن يسأل ما لا يمكن أو أن يسأل المستحيل، لاسيما أنه متعلق بالله عز وجل، وهو من أعرف الناس بالله، فلو كانت الرؤية مستحيلة لما سأل موسى هذا السؤال، ولعصمه الله عز وجل من أن يسأل سؤالاً غير لائق بالله عز وجل؛ لأنه سأل سؤالاً متعلقاً بذات الله.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]].
هذا معناه أن الله عز وجل أنكر على نوح عندما سأل نجاة ابنه، مع أن هذه المسألة لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته، ومع ذلك أنبه الله عز وجل ووبخه، كيف يسأل نجاة ابنه وهو يعلم أنه كافر بالله؟! بمعنى أن نبياً من الأنبياء وعظه الله أن يسأل مثل هذا السؤال ونهاه، فلو كان موسى عليه السلام سأل أمراً لا يليق بالله وهو الرؤية، وكانت الرؤية مستحيلة ولا تصح لنبهه الله عز وجل على أن هذا لا يجوز، كما نبه نوحاً على ألا يسأل ما هو دون ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنه تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: إني لا أرى، أو: لا تجوز رؤيتي، أو: لست بمرئي.
والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل.
وأما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى.
يوضحه الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟!].
معنى هذا أن الجواب الذي أجاب الله به سؤال موسى يدل على الإمكان، بمعنى أنه يمكن في الآخرة، لكنه في الدنيا غير وارد، فالجواب يدل على إمكان الرؤية في الآخرة، بدليل أن الله عز وجل حينما سأله موسى الرؤية ما قال: إني لا أرى، أو: لا تمكن رؤيتي، أو: لا تصح ونحو ذلك، إنما قال: (لن تراني)، ومعنى هذا أنه لن يراه بطاقته الموجودة؛ إذ ليس عنده القدرة والاستعداد في الدنيا للرؤية، ولم يقل: إني لا أرى، ولو قال: لا أرى لتحقق هذا في الدنيا والآخرة؛ ولأن (لن) تأتي مؤقتة بحسب الحال، فإذا تغير الحال تغير الجواب.
وضرب الشارح لذلك مثلاً في الفرق بين (لن) و (لا)، فلو أن إنساناً في كمه تفاحة ولقيه إنسان جائع فقال: أطعمني مما معك، وليس في نيته أن يطعمه أبداًَ؛ فالجواب على أحد احتمالين: إما أن يقول: لن تأكله.
بمعنى أنه ما جاء الجواب على أنه لا يؤكل، إنما جاء الجواب على أنه منعه لعارض آخر، إما لحاجة وإما لغيرها.
لكن لو قال: الذي معي لا يؤكل فالجواب غير صريح وغير جيد وغير مناسب؛ لأنه يكون كذب عليه، فإذا قال: لن تأكله فربما أطمعه، فلو كان فيه القوة لاغتصبه وأخذ الذي معه؛ لكن إذا قال: لا يؤكل فربما يتصور أنه حجر أو نحو ذلك.
فالمقصود أن الفرق بين (لن) و (لا) في مثل هذا الجواب أن (لن) يعني الامتناع لأي عارض، و (لا) في مثل هذه الحالة لا تعني الامتناع لعارض، فلذلك لم يأت الجواب بـ (إني لا أرى) أو نحو ذلك، إنما جاء بلفظ (لن تراني).
قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء].
هذه الجملة فيها غموض، وكل كلام المتكلمين فيه غموض ومحارات وألغاز وأوهام، لكن أحياناً قد يضطر بعض أهل العلم إلى أن يخوضوا بمصطلحات المتكلمين للرد عليهم بها، أو رد شبهاتهم، وإلا فمن غير اللائق أن تكون مثل هذا العبارات ومثل هذه الأمثال في كتب أهل السنة والجماعة.
فالشارح في الوجه الخامس(30/8)
وجه إثبات الرؤية في قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)
ثم جاء المعتزلة والجهمية بشبهة أخرى حول آية أخرى لبسوا بمعناها على الناس، وهي قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فقالوا: (لا تدركه) بمعنى: لا تراه، وهذا يشمل الدنيا والآخرة، وفي معرض الرد على استدلالهم بهذه الآية ذكر الشارح جملة من الردود الجيدة التي نقلها عن أهل العلم.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الآية الثانية: فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف وهو: أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية].
المقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تتضمن إثبات كمال، سواء كانت في سياق الإثبات أو في سياق النفي، فالنصوص التي وردت في تنزه الله عز وجل كلها تدل على صفات ثبوتية، مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وقوله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، ونحوها من الآيات التي تنفي عن الله النقص، فإنها لا بد من أن تدل على صفات ثبوتية في المقابل، كما سيبين الشارح، فالمقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تدل على ثبوت الكمال، سواء كانت بلفظ الإثبات أو بلفظ النفي.
قال رحمه الله تعالى: [وأما العدم المحض فليس بكمال، فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً].
يريد بهذا أن يمهد للرد عليهم في قولهم بأن قول الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] معناه: لا تراه.
يريد أن يمهد بهذه القواعد ليثبت أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها؛ لأن قولهم: لا يرى تشبيه له بالعدم، تعالى الله عما يزعمون؛ فقولهم بأن الله لا يرى تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الذي لا تمكن رؤيته هو المعدوم، أما المخلوق فتمكن رؤيته على أي وجه من الوجوه التي يقدر الله بها عباده على الرؤية، فكأنه يريد أن يقول لنفاة الرؤية: قولكم: إن معنى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]: (لا تراه) تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الشيء الذي لا يرى أو لا تمكن رؤيته ولو بما يقدر الله به عباده على الرؤية هو المعدوم، وهو الذي يقبل الوصف السلبي المحض؛ لأنك إن نفيت عنه النفي المطلق قبل، وإن نفيت عنه الإيجاب قبل؛ لأنه لا يقبل الوصف، ومن هنا لا يقبل الرؤية، أما ما يقبل الوصف ويقبل التسمية ويقبل الكمال فلا بد من أن يقبل الرؤية.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً: المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62] فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه].
يعني: لا يتمكن الرائي لأي مخلوق عظيم وكبير من أن يحيط بحدوده، فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله عز وجل أعلى وأعظم وأجل من أن تدركه الأبصار، أي: تحيط به على جهة الإدراك، كما قال أهل العلم وكما قال أهل اللغة: إن الإدراك معنىً زائد على الرؤية؛ لأنك قد ترى الشيء لكن لا تدركه، فقوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لا يعني: لا تراه، إنما تراه ولكن لا تدركه، بل ربما يوحي معنى الآية -كما قال بعض أهل العلم- بأن قوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: أنها تراه، وإلا فلماذا نفى الإدراك؟! فلو تأملتم بحس لغوي لأدركتم فعلاً أن معنى الآية يُفهِم أن المؤمنين يرونه لكن لا يدركونه تعالى، فالله عز وجل تراه الأبصار ولكن لا تدركه، ول(30/9)
شرح العقيدة الطحاوية [31]
لقد تواترت أحاديث إثبات الرؤية عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً للشك في إثباتها، فقد رواها نحو من ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها، ومع هذا فهناك من أنكر الرؤية من الفرق الضالة كالمعتزلة والجهمية وهناك من أول نصوصها، وفسرها بغير ما وردت به النصوص، كالأشاعرة والماتريدية، وكلهم قد جانبوا الصواب، وركبوا البدعة واتبعوا الهوى والشيطان.(31/1)
بعض الأحاديث المتواترة الدالة على ثبوت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة(31/2)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن.
فمنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك).
الحديث، أخرجاه في الصحيحين بطوله].
مثل هذا الحديث صريح في إثبات الرؤية، بل إنه محكم، وكثير من أحاديث الرؤية محكمة في إثبات الرؤية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن عظمة الله عز وجل وعن نعيم الجنة، فسأله بعض الصحابة سؤالاً صريحاً في الرؤية موجهاً إليه صلى الله عليه وسلم، وهو المبلغ عن ربه، فقالوا: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، وهم عرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم ويتكلم بلسان عربي مبين، وليس في سياق الحديث -وكذلك الأحاديث الأخرى- ما يدل على أن المقصود بالرؤية غير رؤية البصر، بل الحديث يشهد آخره لأوله: (هل نرى ربنا؟)، فإذا تكلم المتكلم عن الرؤية في مثل هذا السياق فهل تنصرف لغير الرؤية البصرية؟!
و
الجواب
لا، ثم بعد ذلك تأكيد ذلك بتشبيه رؤية الله عز وجل ووضوحها وتحققها برؤية الناس للشمس والقمر ليس دونهما سحاب، والشمس والقمر بأي شيء يريان سوى البصر؟! وهل يستطيع الأعمى الكفيف أن يدعي أنه رأى الشمس وهو لا يملك الآلة للرؤية؟! وكذلك الإشارة إلى السحاب، فالسحاب شيء مادي يحجب العيون عن الرؤية، ولا يحجب القلوب، ولو كان الأمر كما قالت المعتزلة: إن الرؤية قلبية، لما كان لذكر السحاب فائدة؛ لأن السحاب هو الذي يحجب رؤية العين، لكنه لا يحجب رؤية القلب؛ لأن الرؤية القلبية أمر ليس بمادي ولا يمكن أن يخضع للعوائق المادية المنظورة.
إذاً: فالإشارة إلى السحاب دليل على أن الرؤية بصرية فعلاً؛ لأن السحاب إنما يحجب أبصارنا عن رؤية الشمس والقمر، ومن هنا صار الحديث محكماً ودليلاً قاطعاً على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة على ما يليق بجلاله.(31/3)
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال رحمه الله تعالى: [وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في الصحيحين نظيره، وحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في الصحيحين.
وحديث صهيب رضي الله عنه المتقدم رواه مسلم وغيره].
في هذا الحديث زيادة فائدة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرؤية في معرض نظره بعينه إلى القمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة عنده جلوساً، فنظر إلى القمر، فلما نظر إلى القمر تذكر الرؤية في الآخرة فقال: (إنكم سترون ربكم)، وليس المقصود تشبيه القمر بالله عز وجل، إنما المقصود تشبيه رؤية الله عز وجل في الجزم بها ووضوحها وتأكيدها برؤية القمر ليس دونه سحاب ليلة أربع عشرة، إذ هو أوضح ما يكون، ثم في نفس النص قال: (إنكم سترون ربكم عياناً) وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ومعنى (عياناً): بالعين الباصرة، فهذا تصريح بالعيان الذي هو فعل العين الباصرة.(31/4)
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
قال رحمه الله تعالى: [وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) أخرجاه في الصحيحين].
هذا أيضاً فيه تصريح بإمكان الرؤية، وقد أورد هذا الحديث بعض المعاصرين الذين أنكروا الرؤية تبعاً لمن سبقوه، لكنه ذنب، فزعم أن الرؤية غير ممكنة؛ لأن الله عز وجل جعل بيننا وبينها رداء الكبرياء! مع أنه دليل على إمكان الرؤية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نفى رؤية الله عز وجل من قبل عباده، إنما ذكر الحاجب الذي يحجبهم عن الرب، فما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء، وهذا أمر متعلق بقدرة الله عز وجل، فإذا رفع الله عز وجل عنهم هذا المانع رأوه، فهو دليل على أن الرؤية ممكنة لكنها دونها حاجز، وهذا الحاجز خاضع لقدرة الله.
إذاً: الرؤية ممكنة، لكن الله عز وجل حجبهم برداء الكبرياء، والله عز وجل الذي حجبهم برداء الكبرياء قادر على أن يرفع هذا الحجاب إذا شاء، وقد ثبت أنهم يرونه تبارك وتعالى.(31/5)
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه
قال رحمه الله تعالى: [ومن حديث عدي بن حاتم: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب) أخرجه البخاري في صحيحه].
هنا أشار إلى أمرين: إلى مسألة الرؤية والتكليم، فقوله: (ليس بينه وبينه حجاب) يعني: عن الرؤية، (ولا ترجمان) يعني: عن التكليم، وهذا متعلق بلقاء الله عز وجل يوم القيامة في المحشر قبل الرؤية التي تثبت للمؤمنين، متعلق بما يسميه أهل العلم الرؤية العامة، وهي أن جميع الخلائق يوم القيامة يرون ربهم، لكن الرؤية تختلف من شخص إلى آخر، فالمؤمن يرى ربه رؤية المسرور، والكافر يرى ربه وهو حسير البصر نادم كئيب خجل من ربه عز وجل، فلا يتمتع بالرؤية كما يتمتع بها المؤمن، فلذلك قال: (وليلقين الله أحدكم يوم القيامة)، فليس المقصود به مجرد اللقاء العام؛ لأن هذا لقاء خاص لكل فرد، (وليس بينه وبينه حجاب) عن الرؤية (ولا ترجمان) في مسألة سماع كلام الله عز وجل، فيرى الله عز وجل ويسمع كلامه، وهذا على القول بالرؤية العامة، وهل هي بصرية خالصة أو قلبية أو بعضها بصري وبعضها قلبي، أو هي بصرية للمؤمنين ولغيرهم، أو أن الكفار والمنافقين يدركون أن هذا ربهم لكن لا يستطيعون رؤيته مما لقوا الله به من أعمال غير صالحة، هذا مسألة خلافية.(31/6)
دلالة الأحاديث النبوية على إثبات الرؤية والتكليم والمناداة والتجلي وغير ذلك من صفات الله
قال رحمه الله تعالى: [وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية؛ فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق].(31/7)
ذكر ما روي في إثبات الصوت وما قيل في ذلك
أشار المحقق في الهامش إلى أن حديث: (يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ضعيف، وخلص إلى أنه ليس هناك ضرورة لإثباته، وليس من منهج السلف هذا الأسلوب، فالسلف رحمهم الله إذا ثبت عندهم الحديث قالوا به وقالوا بمقتضاه.
وإثبات الصوت لله عز وجل اختلف في أحاديثه، أما مسألة النداء أن الله ينادي عباده، وأنه عز وجل يكلمهم؛ فهي ثابتة بنصوص قطعية، فمسألة الصوت وردت فيها أحاديث صححها الكثير من أهل العلم، وبعضهم حسنها، وبعضهم ضعفها، والضعيف إذا لم يرتق إلى درجة القبول لا يثبت به صفة.
لكن الراجح -والله أعلم- أن أحاديث إثبات الصوت مرتبطة بأحاديث إثبات النداء، وأحاديث إثبات التكليم والنداء ثابتة بأسانيد صحيحة، ولذلك قال كثير من السلف: إنه لا يعقل أن الله عز وجل ينادي عباده ويكلمهم بمجموعهم وبأفرادهم بغير صوت؛ لأنه ورد في النصوص أن العباد يسمعون كلام ربهم، والسماع لا يكون إلا لصوت، هذا قول السلف، فلذلك رجحوا إثبات صفة الصوت بناءً على أن الأحاديث التي وردت فيها حسنة، وبعضهم صححها، وقد أشار الألباني في أحاديث إثبات الصوت إلى هذا الحديث نفسه، أشار إليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة وحسنه وصححه، وأيضاً ذكره في صحيح الجامع الصغير.
إذاً: فمسألة الصوت -كما قال السلف- مرتبطة بمسألة إثبات النداء وإثبات الكلام لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، بغير تكييف ولا تشبيه، فإذا عقل أن يثبت في النصوص النداء والتكليم فكذلك يثبت الصوت إذا ورد بأسانيد صحيحة، فما أدري لماذا جنح المحقق -عفا الله عنه- إلى التنصل من إثبات هذه الصفة، وليته أشار إلى أن الخلاف فيها وارد؛ لئلا يشعر كلامه بالجزم بنفيها، أما أن الخلاف فيها وارد فصحيح؛ لأن بعض أهل العلم قالوا: لا يلزم من إثبات النداء وإثبات التكليم إثبات الصوت، فهؤلاء لم يثبت عندهم حديث الصوت، أما الذين ثبت عندهم فلا إشكال عندهم على الإطلاق.(31/8)
موقف منكري الرؤية تجاه نصوصها
ومما ينبغي علمه أن الذين أنكروا الرؤية صنفان: صنف ينكر الأحاديث إطلاقاً، ويؤول الآيات مثل قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وكقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في إثبات الرؤية، والنبي صلى الله عليه وسلم فسرها في أحاديث صحيحة بإثبات الرؤية، فهذه الآيات يؤولونها، والأحاديث يردونها حتى وإن كانت صحيحة.
وصنف آخر يؤول الآيات ويؤول الأحاديث التي لا يمكن ردها، لكنَّه تأويل متعسف، فهم يفسرون الرؤية بأنها قلبية أحياناً، وأحياناً يقولون: يرى إلى غير جهة مع نفي الفوقية والاستواء والعلو، وهذا مذهب متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فإنهم يقولون بالرؤية لا في جهة، مع أنهم في الجملة لا يعدون من نفاة الرؤية، لكن تفصيلاتهم حول الرؤية تشبه قول المعتزلة، بل يكاد بعض أهل العلم يقول: إنهم يقولون بنفي الرؤية، حتى إن المعتزلة قالوا لهم: أنتم تنفون الرؤية بهذا، فإذا قلتم: يرى إلى غير جهة فهذا نفي للرؤية، لأنه لا تعقل رؤية إلى غير جهة، وإذا قلتم يرى فأثبتوا الاستواء والفوقية والعلو.(31/9)
أصول دين الإسلام لا تعلم من غير كتاب الله وسنة رسوله
قال رحمه الله تعالى: [وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟!].
يشير بذلك إلى أن الذين أنكروا الرؤية لم يكن إنكارهم يعتمد على أدلة من الكتاب والسنة، بل كانت أصولهم معارضة للكتاب والسنة، والذين تولوا كبرهم في ذلك هم الجهمية والمعتزلة، فالجهمية والمعتزلة مصادر التلقي عندهم تتميز بما يأتي: أولاً: لا تنحصر في الكتاب والسنة.
ثانياً: لا يقدمون فيها الكتاب والسنة على المصادر الأخرى، بمعنى أنهم حينما ضلوا فأشربوا قواعد عقلانية قرروا بها العقيدة ووقعوا أيضاً في تقديم هذه القواعد على الكتاب والسنة وتحكيمها.
فالجهمية وكذلك المعتزلة وكل من أنكر الرؤية شبهتهم عقلية فلسفية وليست من الوحي في شيء، فلذلك لما قيل لهم: هذا كلام الله ورسوله جاءوا بداهية أخرى وقالوا: كلام الله ورسوله نعود به إلى العقل، فما صدقه العقل أخذنا به وما كذبه كذبناه أو رددناه أو أولناه، وهكذا الأهواء يجر بعضها إلى ما هو أشد إلى أن يقع صاحب الهوى في كفر صريح وهو يدعي أنه ينصر الحق.
إذاً: هم على أصول غير الكتاب والسنة، بل أخذوها عن آراء وقواعد الفلاسفة المبنية على الأوهام والتخرصات.
قال رحمه الله تعالى: [وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)، وسئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]: ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!].
المقصود هنا أن أمور العقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأن نصوص الكتاب والسنة لا تفسر إلا عن علم، وأتى بكلام أبي بكر رضي الله عنه، حيث توقف في تفسير أمر من عالم الشهادة، فالأب ليس من أمور الغيب، إنما هو من النعم التي أنعم الله بها على عباده، لكن نظراً إلى أن أبا بكر رضي الله عنه وقتها لم يكن يجزم بمعنى الأب -لأن العرب تفسر الأب بأكثر من تفسير- توقف عن أن يفسرها؛ نظراً لأنها من كلام الله، وهو لا يجزم بمراد الله عز وجل، وهذا في أمور تتناولها عقول الناس، وهو من عالم الشهادة، فكيف بالأمور التي لا تدركها العقول وهي أمور العقيدة كالرؤية وكلام الله عز وجل؟!(31/10)
شرح العقيدة الطحاوية [32]
الرؤية ثابتة بثبوت أدلتها وتواترها تواتراً لا يدع مجالاً للشك في إثباتها، ومع ذلك فقد أنكرها طوائف من أهل الكلام والمعتزلة، فبعضهم أنكروها إنكاراً صريحاً، وبعضهم أثبتوها بما يوافق أصولهم العقدية الباطلة، ولازم قولهم هو إنكارها، فإنهم قالوا: يرى لا في جهة، وهذا قول باطل يرده العقل والفطرة السليمة فضلاً عن الأدلة الشرعية، وهؤلاء هم الأشاعرة ومن حذا حذوهم من المتكلمة، وإنكار الرؤية تماماً هو قول الجهمية والمعتزلة ومن حذا حذوهم.(32/1)
خطأ طريقة المتكلمين في إثبات الرؤية ولازم قولهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟! ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة].
في هذه المسألة يرد على المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم الذين أثبتوا الرؤية بكلام لم يعهد عن السلف ولم يرد في النصوص، بل يناقض النصوص، وسبب ذلك جدالهم للجهمية والمعتزلة الذي ألجأهم إلى مثل هذه المقولات، وأي إنسان يصاب بالجدل لا بد من أن يتأثر بأقوال خصومه؛ لأن الجدل -خاصة في أمور الغيب وأمور الدين التي لا تؤخذ إلا من النصوص- لابد من أن يؤدي بصاحبه إلى أن يسلك مسالك عقلية لا يتخلص منها ويأخذ من خصومه ما لم يكن له على بال، بل يلزم نفسه في الخصام والجدل والتمحل بأمور قد تخرج عن أصول العقيدة الصحيحة، فهؤلاء المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية أثبتوا الرؤية؛ لأنهم ليسوا ممن ينكر ما ثبت بنص الشرع، بل يثبتون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من حيث تقرير العقيدة يقررون العقيدة بالعقول، فأصول العقيدة يقررونها بالعقول، فلما لجئوا إلى تقرير الرؤية بالعقل مع الشرع، والعقل لا طاقة له بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن يطلع الغيب؛ اضطروا إلى أن ينفوا أشياء لم تنف بالنصوص وأن يثبتوا أشياء لم تثبت في النصوص، فمما نفوه مما لم يرد في النصوص أن قالوا: إن الله يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، وسبب ذلك أنهم تأثروا بالمعتزلة في نفي العلو بالذات لله عز وجل، ونفوا الاستواء كما يقره السلف، ونفوا الفوقية كما تفهم من الشرع، فلما نفوا العلو أو أولوه ونفوا الفوقية أو أولوها، وكذلك الاستواء اضطروا حين أثبتوا الرؤية إلى أن يقولوا: يرى إلى غير جهة؛ لأنهم لو قالوا: إن الله عز وجل يراه المؤمنون ولم ينفوا الجهة للزم من إثبات الرؤية إثبات العلو وإثبات الفوقية؛ لأن كل ما يرى لابد من أن يرى إلى جهة مقابل الرائي، وليس المقصود بالجهة الجهة المخلوقة، إنما الجهة التوجه، توجه البصر، فالبصر لا بد من أن يتوجه إلى شيء، والله عز وجل شيء، وله وجود ذاتي سبحانه، فإذا رأته أبصار المؤمنين يوم القيامة في الجنة فإنما يرونه فوقهم، تعالى الله عما يزعم الذين نفوا العلو، فالله عز وجل يراه المؤمنون من فوقهم، والفوق كمال، والعلو كمال، لكن لا يلزم من إثبات الفوقية والعلو أن نلتزم لفظ (جهة) إلا على سبيل قصد العلو بذاته أو الفوقية بذاتها.
أما الجهة التي هي من المخلوقات فلا تليق بالله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا يحويه شيء من مخلوقاته، فهو فوق جميع الخلق، ومن هنا تلازم إثبات الرؤية مع إثبات الفوقية والعلو، كما أنه أيضاً يجتمع في الرؤية تعلق القلب وتعلق البصر بالله عز وجل.
فالأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام -لا المحدثون والفقهاء- الذين قالوا: يرى إلى غير جهة.
رد عليهم فقال: هل تعقل الرؤية بلا مقابلة؟! وليس المقصود أن نشبه مقابلة رؤية المخلوق للخالق بمقابلة رؤية المخلوق للمخلوق، بل من المقصود هنا أن هناك أمراً يفهم من النص بالضرورة، وهو أن المؤمنين إذا رأوا ربهم -والله عز وجل فوق سماواته- فإنهم يرونهم من فوقهم.
ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، ويقصد الشارح بقوله: (لا في جهة) إلى غير جهة، ولا يقصد بـ (في) هنا الظرفية، وإلا فالله عز وجل ليس في جهة بمعنى أن هناك جهة تحويه، تعالى الله، إنما جهة العلو، فالعلو جهة والفوقية جهة، فمن هنا لا يصح أن يقال: يرى لا في جهة؛ لأن هذا نفي للعلو والفوقية، وكل هذا الكلام لا يليق بالمسلم أن يقوله في حق الله عز وجل، لكن السلف تكلموا به اضطراراً لنفي شبهات قال بها طائفة من المتكلمين حتى فتن بها العامة، فكان لا بد من الرد من قبل طلاب العلم.
فيقول: إذا قالوا: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته؛ فهذا افتراض جدلي يرده كل من سمعه بفطرته السليمة، أي: يرد بالفطرة بعيداً عن التقعيدات والتفلسف، ويحكى أن الجويني كان يقرر على المنبر تأويل الاستواء لله عز وجل وتأويل الفوقية الذاتية والعلو، فأراد أحد الطلبة أن يرد عليه بأيسر أسلوب، فقال له: أخبرني عن هذه الضرورة التي يجدها الداعي في قلبه إذا دعا الله عز وجل، يعني ضرورة التوجه إلى الله سبحانه، فالإنسان إذا دعا الله مستحضراً ما يقول يشعر بالتوجه إلى فوق، أليس كذلك؟ على أي وضع كان قائماً أو مضطجعاً، فإذا دعا الإنسان ربه دعاءً بقلبه مستحضراً شعر بجميع مشاعره أنه يتوجه إلى فوق، بل هذا في الحيوان، فالحيوان إذا مسته ضرورة شخص بصره إلى السماء.
فالتوجه إلى الفوق فطرة فطر الله الناس عليها حين يلجئون إلى الله عز وجل.
فإثبات فوقية الله عز وجل واستوائه على عرشه إثبات(32/2)
سبب امتناع رؤية الله في الدنيا وسبب حصولها في الجنة
قال رحمه الله تعالى: [وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكملَ الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته، إلا من أيده الله كما أيد نبينا، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]، قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا].
في هذا المقطع بين أن الرؤية يفرق فيها بين الدنيا والآخرة، فرؤية الله عز وجل في الدنيا غير ممكنة، ولما طلبها موسى حينما كلمه ربه، وطمع بعد الكلام في الرؤية بين له أنه لا يستطيع أن يرى ربه في هذه الدنيا؛ لأن الله لم يقدره، وليس بإمكانه وطاقته المحدودة في هذه الدنيا أن يرى ربه.
فمن هنا لما تجلى الله عز وجل للجبل لم يطق الجبل رؤية الله، فالإنسان من باب أولى ألا يطيق؛ لأن قلبه مضغة ضعيفة، هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فإن الله عز وجل يقدر المؤمنين على الرؤية على نحو لا يكون إلا يوم القيامة، ولذلك فأحوال يوم القيامة كلها تخالف أحوال الدنيا في أمور كثيرة، فالشمس تدنو من الخلائق، ومع ذلك لا تحرقهم كما تحرقهم في الدنيا لو نزلت، وعلى هذا فإن الإنسان في هذه الدنيا غير قادر على رؤية الله؛ لأنه لم يقدره الله عليها، أما في يوم القيامة فالله عز وجل يحدث له من القدرة والتحمل ما لم يكن في الدنيا، والإنسان لا يطيق رؤية بعض المخلوقات التي خلقها الله تعالى فكيف يطيق رؤية الله؟! فهذه الشمس إذا حدق بعينه فيها مدة طويلة عجز وربما يعمى، وهي مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل، فكيف يطمع في أن يرى الله؟! وهذا فيه رد على الذين يزعمون أنهم يرون ربهم بأعينهم، وأظن أن الشيطان يتبدى لهم، وهم طائفة من المتصوفة وأهل الضلال، فلا يمكن لأحد أن يرى ربه في الدنيا، بل يستحيل ذلك كل الاستحالة، فالنصوص التي وردت في نفي الرؤية تعني نفي الرؤية في الدنيا، والنصوص التي وردت في إثبات الرؤية تعني إثبات الرؤية يوم القيامة من قبل عباد الله عز وجل الذين ينعمهم الله عز وجل وينعم عليهم بالرؤية، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً منهم.(32/3)
مدخل المعتزلة لإلزام المتكلمين بنفي الرؤية
قال رحمه الله تعالى: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة].
هذه مسايرة اضطرارية لأهل الكلام، والسلف قاعدتهم: أنهم يحرمون مثل هذا الكلام إلا لضرورة، ومن الضرورات التي ألجأتهم إلى هذا الكلام: أن الناس ابتلوا بمثل هذه الشبهات في أيام طفرة المعتزلة وانتشار أفكارهم، ثم بعد ذلك حينما كثر علم الكلام وكثرت كتبه، وصار يدرس ويعلم في حلق التعليم في كثير من البلاد الإسلامية؛ صار الأمر يوجب ويلزم بيان خطأ هؤلاء في هذه المسائل العقدية الحساسة الخطيرة.
وكلامه هنا بقوله: [وما ألزمهم المعتزلة]: يشير إلى متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله عز وجل يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، والعبارة واحدة.
يقول بأن هذه فلسفة أصل منشئها كلام المعتزلة وشبهاتهم وقواعدهم العقلية، والمعتزلة -مع أنهم يعتمدون على القواعد العقلية- يردون هذا الكلام.
وقوله: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام] يعني بالإلزام أنهم قالوا: حينما قلتم: يرى إلى غير جهة جانبتم العقل والمنطق والقواعد وأصول الاستدلال.
وقالوا لهم: إن أخذتم بالقواعد العقلية التي أخذنا بها، وأخذت بها الجهمية، وسائر الفلاسفة؛ فيلزمكم أن تقولوا: لا يرى.
وإذا أخذتم بالنصوص الشرعية التي أخذ بها أهل الحديث فيلزمكم أن تقولوا: يرى، وكلمة: (لا إلى جهة) لا معنى لها؛ لأنه لا يعقل أن يرى إلى غير جهة، فإن أثبتم الرؤية فأثبتوا العلو كما أثبته أهل السنة، وإن نفيتم الرؤية نفيتم العلو، وإن نفيتم العلو نفيتم الرؤية، فهما متلازمان، وهذا صحيح من الناحية المنطقية بالنسبة لقواعدهم التي يتحاكمون إليها.
ثم قال: [لم يلزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه]، يعني: وافقوهم في نفي الفوقية لله عز وجل، ونفي العلو، وقالوا كلاماً ممرضاً للقلوب، ولولا أن المؤلف ساقه ما أجزت لنفسي أن أنطق بكلمة منه.
لكن أقول: ما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه، وهذه فلسفة ليس لها معنى.
ولا يجوز في حق الله عز وجل مثل هذا الكلام، لا يقال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه داخل العالم أو خارجه بالمعنى المفهوم في عالم الشهادة؛ لأن مسألة داخل وخارج، ولا داخل ولا خارج، هذه تصورات مبنية على تخيل الإنسان للمخلوقات، فما هو داخل وخارج إنما هو علم الشهادة، والله عز وجل أعظم وأجل، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهو سبحانه بكل شيء محيط، وهو الحي القيوم.
فلذا لا يجوز مثل هذا الكلام نفياً ولا إثباتاً، بل يثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه الله عن نفسه، ولا يجوز للناس أن يزيدوا على ذلك؛ لأن كل كلام عن الله عز وجل بنفي أو إثبات أكثر مما في النصوص إنما هو قول على الله بغير علم، وتحكم في أمر الغيب، وتشبيه لله بخلقه؛ لأن الإنسان إذا نفى أو أثبت فلا ينفي أو يثبت إلا بناءً على معلومة مستقرة في ذهنه، والإنسان ليس لديه في النفي والإثبات معلومة إلا من خلال علم الشهادة، وما عدا ذلك غيب لا يستطيع أن ينفي فيه أو يثبت إلا ما نفاه الشرع أو أثبته، وإذا كان هذا في سائر أمور الغيب فكيف بالله عز وجل؟!(32/4)
وجه كون قول المتكلمين في الرؤية أقرب من قول المعتزلة
إن الله عز وجل أجل وأعظم من أن يقال فيه: لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة.
ويقصد بذلك: أن قول الأشاعرة الذي ينفون الجهة ويثبتون الرؤية أقرب إلى الحق من قول المعتزلة والجهمية الذين ينفون الرؤية نفياً مطلقاً.
فهم يثبتون أن الله عز وجل موجود وقائم بنفسه حسب تعبيرهم، لكن يقولون بأنه لا يرى ولا في جهة.
وكلمة (الجهة) ينبغي أن نستبعدها، لكن قد يطلقها السلف اضطراراً للتعبير عن العلو والفوقية؛ لأن الذين ينفون العلو والفوقية يقولون للسلف: إذا قلتم بأن الله عز وجل فوق عباده، وأنه العلي؛ فقد قالوا: إذاً أنتم أثبتم الجهة؛ لأن العلو جهة.
والسلف يقولون: لا مانع من أن نأخذ من معنى الجهة المعنى الصحيح، وننفي المعنى الباطل، فالجهة لها معنيان: معنى العلو والفوقية لله عز وجل، فهذا حق.
ومعنى المكان، أو الحيز، كما تقول: الجهة الشمالية من هذا المسجد، أو: الجهة الجنوبية، فهذا المعنى لا يجوز أن يطلق على الله عز وجل؛ لأن المكان وصف من أوصاف المخلوقات، والجهة على هذا الاعتبار وصف من أوصاف المخلوقات، والله عز وجل لا يوصف إلا بما وصف به نفسه.
إذاً: نقول: الله هو العلي سبحانه، وهو القاهر فوق عباده، فإن قال المعتزلة والجهمية: هذه جهة قلنا: سموها ما تشاءون، إنما نحن نثبت العلو والفوقية كما جاءا في النص.(32/5)
مناقشة القائلين بنفي الرؤية لانتفاء الجهة اللازمة لها
قال رحمه الله تعالى: [ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟! فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر.
وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار].
مثل هذا الكلام من الكلام الممرض للقلوب، لكن لما بليت به الأمة وصار في المصنفات والكتب والمؤلفات التي تدرس كان لابد من الدفاع عن الحق.
فقوله: [ويقال لمن قال بنفي الرؤية] وهم: الجهمية والمعتزلة الذين يقولون بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، يقول: نقول لهم: ماذا تريدون بالجهة التي من أجلها نفيتم الرؤية؟! والمعتزلة وأتباعهم إلى اليوم ليس عندهم حجة شرعية، فقد ثبت تواتراً بالقرآن والسنة رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، لكن عندهم شبهات يسمونها حججاً عقلية، يقولون بزعمهم: لا يعقل أن تكون هناك رؤية إلا بجهة، وعلى هذا ينفون الجهة حتى العلو والفوقية بالمعنى المفهوم عند السلف، فمن هنا قالوا: إذاً: لا تعقل الرؤية؛ لأنه يلزم منها الجهة، فلا أحد يرى، ولا شيء يرى إلا ويكون في جهة، إما أن تراه فوق أو تحت أو يمين أو شمال، فعندهم أن الله عز وجل إذا كان يرى فلابد من أن يكون في جهة، وعندهم ممنوع أن يكون الله في جهة؛ لأنهم ينفون العلو الحقيقي، والفوقية الحقيقية.
وأهل الباطل إذا جاءوا بقاعدة فاسدة جرتهم إلى قاعدة فاسدة أخرى، وهكذا، وتكون النتائج فاسدة، وكل مشكلة ينشأ عنها مشكلة، حتى كادوا ينكرون البدهيات، وهذا ما حصل.
فهو يقول: [يقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها: أتريد بالجهة أمراً وجودياً، أو أمراً عدمياً؟!].
ومعنى كلامه: أننا نناقش من نفى الرؤية لأنها تلزم الجهة، فيقال له: تعال لنتفق وإياك على معنى الجهة، فإن كنت تريد بالجهة شيئاً مخلوقاً، فالله عز وجل لا يحتاج إلى مخلوق، هذا معنى الأمر الوجودي، وإن كنت تريد بالجهة مجرد الوجهة حتى خارج المخلوقات؛ فهذا أمر عدمي، فالوجهة في الذهن، وليست في الواقع، فمجرد تصور الوجهة تصور ذهني، فإن وجد شيء في الوجهة صار في الجهة، وإن لم يوجد شيء في الوجهة صارت الوجهة مجرد تصور في الذهن، والذهن ليس له ما يقيده؛ لأنه يتصور العدم، وأما الوجود فإنه إذا رآه علمه، أو إذا اطلع عليه بأي وسائل من وسائل العلم علمه.
أما ما عدا ذلك من الألفاظ المجردة -مثل كلمة جهة أو جنوب أو شمال- فهذا إذا كان مجرداً في الذهن لا ينتهي إلى نهاية، فالإنسان قد يتخيل كلمة شمال إلى ما لا نهاية، حتى ما وراء الوجود.
إذاً: فإذا كان تصورهم للجهة التي نفوا بها الرؤية تصوراً وجودياً؛ فنحن لا نقول بأن الله عز وجل يوجد في مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
لكن نثبت له الرؤية، ولا يلزم أنه يحويه شيء من مخلوقاته.
وإن أرادوا بالجهة أمراً عدمياً، بمعنى: مجرد التصور الذهني؛ فلا داعي لأن نجادل في أمر مجرد في الذهن ليس له وجود، إنما هو خيالات.
ثم قال بعد ذلك: [فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى]، وهذا عند المعتزلة والجهمية، ولا يصح.
ومقصودهم: أنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا إذا كان موجوداً في شيء غيره، وكل هذه فلسفات خيالية جاء بها الفلاسفة قبلهم ثم نقلوها عنهم.
يقولون: كل شيء لا يوجد في غيره لا يرى، هذا معنى هذا الكلام، وأرادوا أن يطردوا هذه القاعدة، فقالوا: ما دمنا نقول: كل شيء ليس في شيء موجود لا يرى؛ والله عز وجل ليس في شيء موجود؛ فالله عز وجل لا يرى! وهذا غير صحيح، وقد يصح جدلاً، وإلا فسينقضه الشارح بعد قليل، فهذه القاعدة لا تصح؛ لأن المخلوقات أحكامها أحكام معلومة عند الناس من خلال المشاهدة، لكن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فلا يقاس بخلقه، ولا يقاس به خلقه.
وقد افترض الشارح افتراضاً صحيحاً فقال: ما دمتم تقولون هذا؛ فإن هناك ما ينقضه من الواقع، وهو: أن هذا العالم المخلوق له نهاية، ونهايته ليست في مخلوق آخر، وإلا فسيلزم التسلسل الممنوع عقلاً، فالمخلوقات تنتهي إلى نهاية، هذه النهاية يجب ألا تكون في مخلوق آخر، وإلا لزم التسلسل.
إذاً: لابد للعالم من نهاية، فالمخلوقات لابد لها من نهاية، إذا كان لابد لها من نهاية ألا يتصور عقلاً أن الإنسان لو أقدره الله عز وجل على مشاهدة نهاية الخلق فإنه يمكن أن يشاهد نهاية الخلق؟! إذاً: قولهم بأنه لا تجوز رؤية الله؛ لأنه لو جاز أن يرى فلابد من أن يكون في مكان يحويه، أو في مخلوق يحصره، هذا غير صحيح، فالقاعدة وهمية من وساوس الشيطان لا أصل لها في العقل السليم والفطرة، إنما هي من خطوات الفلاسفة التي لا تستند على أي أصل علمي صحيح.
يقول: [وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة؛ فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر(32/6)
قواعد سلفية في التلقي
قال رحمه الله تعالى: [وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره].
هذه الجملة قواعد عند السلف يمكن أن نلخصها هنا على النحو الآتي: أولاً: أن الدين لا يتلقى إلا من الكتاب والسنة، وأنه لا يتلقى عن الأشخاص وعن الناس.
ثانياً: تفسير معاني النصوص إنما يتلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ثالثاً: أنه لا يعتمد في الدين من المنقول إلا ما نقل عن الثقات.
رابعاً: أن السلف لم ينقلوا نص القرآن واحده، إنما نقلوا نصه وتفسيره نظمه ومعناه، وجعلوه مصدراً من مصادر تلقي الدين في نظمه ومعناه.
خامساً: أن من لم يسلك في هذه الأصول سبيل السلف فإنما يتكلم في الدين برأيه.
سادساً: من تكلم برأيه في الدين فإنه آثم وإن أصاب، ومن أخذ بالكتاب والسنة -يعني: عن اجتهاد سائغ- فهو مأجور وإن أخطأ.(32/7)
الخلاف في رؤية أهل المحشر لله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والرؤية حق لأهل الجنة)، تخصيص أهل الجنة بالذكر يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون.
الثاني: يراه أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار.
وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف].
والقول الرابع لعله يجمع بين هذه الأقوال، فهناك قول رابع قال به بعض أهل العلم، وهو أن الرؤية في المحشر تأتي بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: يراه فيها جميع الخلائق على ما يليق بجلال الله عز وجل، وهذه الرؤية لكل إنسان بحسبه، فالمؤمن يرى ربه عز وجل رؤية تنعم وتلذذ وسرور، والكافر والمنافق يرى ربه رؤية حسرة، فلا يتمتع برؤية ربه عز وجل.
والمرحلة الثانية: يتبدى الله عز وجل فيها للخلائق فيراه المؤمنون والمنافقون، ولا يراه الكفار، وقالوا: سبب ذلك أن الله عز وجل أطمع المنافقين في الرؤية ليظنوا أنهم نجوا، فيكون ذلك أنكى في العقوبة لهم؛ لأنهم كانوا يمكرون في الدنيا ويخادعون، فأراد الله عز وجل أن يمكر بهم ويخادعهم في الآخرة.
فإذا رأى المنافقون ربهم مع المؤمنين وعلموا أن الكفار لم يروه في هذه المرحلة زاد طمعهم؛ ليكون ذلك أشد لحسرتهم إذا حجبوا في المرحلة الثالثة.
وفي المرحلة الثالثة: يراه المؤمنون دون المنافقين والكفار، قالوا: لأن هذا تقتضيه عمومات النصوص الكثيرة والتي تواردت في سياق الرؤية في المحشر.
ولعل هذا هو الذي يجمع بين ما ورد في النصوص، وعلى أي حال فالرؤية يوم القيامة على نوعين: النوع الأول: الرؤية في المحشر التي ذكرناها هنا، وهذه اختلف فيها أهل العلم: هل هي من نوع الرؤية التي تكون في الجنة أو تكون رؤية بحسب الحال، أو على وجه آخر يختلف؟ وهل هي رؤية حقيقية بصرية أو رؤية قلبية؟ فهذا كله محل خلاف، وإن كان جمهور السلف يقولون: ظاهر النصوص أنها رؤية عينية، لكنها تختلف بحسب حال الشخص وإيمانه.
وهذا النوع أيضاً صح في الأدلة، ولا يجوز لأحد إنكاره، لكن لا يكفر من أنكره؛ لأن النصوص ليست صريحة في رؤية المحشر العينية كما في رؤية الجنة.
أما النوع الثاني -وهو رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم- فهي رؤية بصرية عينية حقيقية أدلتها يقينية قطعية ومتواترة، ولا يسع أحداً بعد العلم بها أن ينكرها، ومن أنكرها فقد اتفق السلف على تكفيره، خاصة إذا كان ممن تقوم عليه الحجة، وعرف معنى الرؤية وأدلتها؛ إذ قد يحدث من الجهلة إنكار الرؤية؛ لأنهم لا يعرفون معناها ولا يفقهون نصوصها، فقد يرد من عامي أو شبه عامي لم يفهم معاني نصوص الرؤية إنكار الرؤية على سبيل الجهل، أما من علم وأقيمت عليه الحجة وأنكر بعد بيان الأدلة فإنه لا شك في كفره.
أما من أنكر الرؤية في المحشر فإن كان إنكاره إنكار تأول؛ فلا يكفر وإن ابتدع وخالف منهج السلف.(32/8)
الاتفاق على عدم رؤية أحد ربه في الدنيا وذكر الخلاف في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه].
هذا هو قول جمهور السلف لم يخالف فيه أحد منهم، لكن في القرن الرابع وما بعده ظهرت طوائف من ضلال المتصوفة، وضلال الفلاسفة والباطنية يزعمون لبعض شيوخهم أنهم يرون ربهم رؤية عينية، وهذا باطل، فالسلف قد اتفقوا بإجماع على أنه لا أحد يرى ربه في الدنيا بعينه، وما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في المعراج على تقدير أنه رآه بعينه على الرأي المرجوح؛ فإن هذا يعد استثناءً، وهو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد غيره بعده ولا قبله.
إذاً: فهذا الإجماع شذ عنه طائفة من المتصوفة، وطائفة من الفلاسفة، وطائفة من الباطنية.
قال رحمه الله تعالى: [ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة: منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم.
وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم].
يعني: في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج.
قال رحمه الله تعالى: [وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لـ مسروق حين سألها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
ثم قال: وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود، وأبي هريرة واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه)، وروى عطاء عنه: أنه رآه بقلبه.
ثم ذكر أقوالاً وفوائد، ثم قال: وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه على آية النجم، والتنازع فيها مأثور، والاحتمال لها ممكن].
آية النجم ليس فيها جزم قاطع بأنه رأى ربه بعينه، بل آية النجم تؤيد الرؤية القلبية، لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وقوله عز وجل قبل ذلك: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، فيفسر أحد النصين الآخر، فإذا قيل في الأولى: إن المقصود بها: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فإنه يكون رأه بقلبه؛ لأن الله عز وجل قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وإن كان بعض المفسرين يقول: ما كذب الفؤاد ما رآه بعينه، لكن ظاهر النص عند بعض المفسرين يدل على أن الرؤية رؤية قلبية: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: ما رأى الفؤاد.
وكذلك يدفع احتمال الرؤية العينية: أن قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] قيل: إنه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بقلبه، وأن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل بعينه؛ لأن قوله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] يدل على أن الرؤية حدثت مرتين، وهذه إنما تنطبق على رؤية جبريل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية مرتين: المرة الأولى: حينما جاءه بالوحي في غار حراء، فقد سد عليه الأفق حتى أصيب بالرعب من منظره، ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى على صورته الحقيقة.
فنظراً لهذه الاحتمالات في تفسير النصوص لا يوجد في آيات النجم ما يدل على أن الرؤية بصرية إلا دلالة بعيدة، في حين أن سياق الآيات يدل على أن الرؤية قلبية، خاصة قوله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].(32/9)
إمكان رؤية الله في الدنيا عقلاً بإقداره عباده على ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق؛ فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام، لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه].
الإشارة إلى الإمكان كثيراً ما تأتي في المسائل التي جرى فيها الخلاف، خاصة المسائل التي جر المتكلمون أهل السنة إلى الكلام فيها، أي: المسائل التي دخل فيها النظر العقلي.
وبعض الناس يظن أن الإمكان معناه: جوازه أو وقوعه، فإذا قال أحد العلماء: إن رؤية الله عز وجل في الدنيا ممكنة، فقد يفهم بعض الناس أنها واقعة.
وليس هذا هو المقصود، بل المقصود الإمكان عقلاً، أي يتصور عقلاً أن الله عز وجل يقدر عباده على أن يروه، لكنه ما أقدرهم، هذا معنى: ممكن، وليس معنى (ممكن) أنه محتمل أن تقع، فلا يمكن أن تقع؛ لأن الله عز وجل قدر ألا تقع الرؤية جزماً، وليس عند السلف في هذا شك، وهو اتفاق بين السلف، فالإجماع قائم على أنه لا أحد يرى ربه بعين رأسه في الدنيا، إنما الرؤية بالعين في الآخرة، لكن عندما يقولون: (ممكن) كما قالوا في الرؤية، وكما قالوا في غيرها؛ فإنهم يقصدون بالإمكان: التقدير العقلي، أي: ليس هناك ما يمنع أن يرى الناس ربهم في الدنيا لو أن الله أقدرهم على ذلك.
وهذه المسألة ما دامت معلقة بقدرة الله عز وجل فهي ليست محل جدال، ولا ينبغي أن تكون محل جدال، لكن السلف ابتلوا باستعمال عبارات المتكلمين، مثل: الممكن والجائز، والواجب إلى آخره، والتي يقصد بها مفاهيم غير مفاهيمها الشرعية، فاضطروا إلى استعمالها دفعاً لشبهات المتكلمين.(32/10)
ما روي مما يدل على نفي رؤية رسول الله ربه بعينه ليلة المعراج
قال رحمه الله تعالى: [لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنى أراه؟!)، وفي رواية: (رأيت نورا).
وقد روى مسلم أيضاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فيكون -والله أعلم- معنى قوله لـ أبي ذر: (رأيت نورا) أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله: (نور أنى أراه؟): النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟! أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟! فهذا صريح في نفي الرؤية.
والله أعلم.
وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك].(32/11)
أهمية التسليم للنصوص وترك الخوض فيما يتعلق بالله عز وجل لغير ضرورة
قال رحمه الله تعالى: [ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى؛ فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة].
هذا الكلام جيد من وجه، يعني: قوله: [نحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه]، بمعنى: لأن نتكلم ونجتهد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل -يعني: هل رآه على حقيقته أو لا، وإن كان هذا أمراً غيبياً- خير لنا من أن نخوض في أمر يتعلق برؤيته لربه عز وجل بغير دليل قاطع، ومعنى هذا: أنه ينبغي أن نسلم بالنصوص التي وردت دون أن نتعدى المعاني المفهومة منها، ولا نخوض في أمر ليس عليه دليل شرعي، وهذا حق، والسلف كانوا عليه، لكن اضطروا لزيادة التفصيل والقول بما لم يرد به الشرع دفعاً لتوهمات وشبهات المتكلمين، فإذا كان لابد للمتكلم من أن يتكلم في أمر غيبي فلأن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بالمخلوقات -كجبريل عليه السلام- خير له من أن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بذات الله عز وجل.
وهذا أصل ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم، فلا يلجأ إلى الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأسمائه وأفعاله إلا اضطراراً حينما تلجئه الضرورة العلمية إلى الدفاع عن العقيدة، أو دفع شبهات الناس وما يقولونه.
أما لمجرد العلم، أو لمجرد افتراض الشبهات، أو الترف العلمي فهذا مما لا ينبغي أن يكون، وألا يعني هذا الاتهام لمخافة الله عز وجل، لكن يعني التورع عن الكلام فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وإن لم نفهم النصوص التي وردت -كنصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه- فإنه ينبغي لنا أن نسلم ولا نخوض بأكثر مما نفهمه من ظواهر النصوص، وعلى هذا فإن المتأمل لمجموع نصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج يجد أنها تتجه من خلال مجموعها إلى أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه رؤية قلبية، وأنه رآه بفوائده، ولذلك لما سئلت عائشة: هل رأى ربه؟ استنكرت السؤال؛ لأنها فهمت أن السؤال عن الرؤية العينية، ولا يشكل على هذا إلا الرواية التي ثبتت عن ابن عباس في البخاري وغيره أنه رآه بعينه، ولولا هذه الرواية لما وجد إشكال والله أعلم، ولربما اتفق السلف على أن الرؤية رؤية قلبية.
ومع ذلك فإن الرواية عن ابن عباس مضطربة، فـ ابن عباس ثبت عنه أيضاً عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، ففسرها بأنها بقلبه، وقد تحمل تلك على هذه، وربما كان مراده -والله أعلم- أنه رأى ذات ربه عز وجل، لا شيئاً آخر فعبر عن الذات بالعين؛ إذ قد يعبر عن الذات بالعين، كما يعبر عن الذات بالوجه.
وفي كلام الشارح وجه آخر لا أحب أن أذكره؛ لتعلقه بأساليب المتكلمين في تقرير الدين، خاصة في تقرير النبوة، وتقرير الوحي.(32/12)
إثبات الرؤية بغير إحاطة ولا كيفية
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (بغير إحاطة ولا كيفية)، هذا لكمال عظمته وبهائه سبحانه وتعالى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يعلم ولا يحاط به علماً، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]].(32/13)
فساد التأويل بغير دليل أو قرينة
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وتفسيره على ما أراد الله وعلمه) إلى أن قال: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) أي: كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه.
فالتأويل الصحيح: هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد: المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بياناً ولا هدى، فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء].
يقصد بذلك أن نصوص الغيب التي وردت في كلام الله عز وجل -خاصة ما يتعلق بصفات الله- جاءت محكمة، وهذا معلوم بالضرورة؛ لأنها ليست قابلة للاجتهاد، ومعنى كونها جاءت محكمة: أنها جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلال الله عز وجل، وعلى ما يليق بالأمور الغيبية التي لا تقاس بعالم الشهادة.
إذاً: فالذين أولوا خرجوا عن مقتضى مراد الله عز وجل، ودليل ذلك: أنهم حينما أولوا أولوا لشبهات خارجة عن منطوق النصوص، بل وحتى عن مفهوماتها، أي: لم يكن التأويل بسبب قرائن ودلالات توجد في النص نفسه، إنما التأويل لشبهات في أذهان المؤولين، فحينما قيل للجهمية: لم أنكرتم الأسماء والصفات؟ ما قالوا: لأنَّا ما فهمنا من النص كذا، بل قالوا: لأننا لا نفهم موجوداً يقبل التسمية والصفة إلا مخلوق محدث، أو نحو ذلك، ولأننا لا نفهم من هذه الأسماء والصفات إلا ما نفهمه في عالم الشهادة، فخوفاً من أن نقع في التشبيه نعتبر هذه الأسماء والصفات مجرد ألفاظ ليس لها معان، وأن الله لا يوصف ولا يسمى، تعالى الله عما يدعون.
وكذلك إذا قيل للمعتزلة: لم أولتم الصفات أو أنكرتموها؟ لا يقولون: لأن النصوص دلت على ذلك، أو: أولنا لقرائن تحف بنصوص الغيب تدل على تأويلها، بل يقولون: أولنا؛ لأننا لا نفهم من هذه الصفات إلا ما في المخلوقات، فمن أجل أن ننزه الله عن صفات المخلوقات نؤولها.
إذاً: جاءوا بأمور هي أوهام في أذهانهم وليست حقائق، ولا تدل عليها النصوص.
قال رحمه الله تعالى: [وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس؛ فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا؛ كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم.
ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]].
المقصود: أن القرينة التي جاءت تدل على إثبات الصفة لله عز وجل، يعني: حف بكلام الله عز وجل ما يدل على أنه أراد حقيقة الصفة على ما يليق بالله عز وجل.
فقوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فيه تأكيد لصفة الكلام، فقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ) يدل على وجود الكلام، وقوله تعالى: (تَكْلِيمًا) يدل على تأكيد الكلام حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله.
قال رحمه الله تعالى: [و (إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)].
هنا دلت القرينة على أن الرؤية رؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين وغيرهما متواتر بمجموع أسانيده وألفاظه، والرؤية لا تفهم إلا برؤية بالعين، لكن جاءت قرينة مؤكدة على أن الرؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، يعني: بالعيون، فالله عز وجل ينعم على عباده في الجنة بأن يروه بأعينهم.
قال رحمه الله تعالى: [فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة؛ كان صادقا في إخباره، وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه؛ فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى.
وحقيقة الأمر: أن قول القائل: نحمله على كذا، أو: نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال: أحمله على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنى آخر لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله؛ استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده، بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن(32/14)
لزوم اعتقاد حقائق ألفاظ الغيب السمعية
خلاصة هذا الحوار: أن النصوص التي جاءت بأخبار الغيب -سواءٌ ما يتعلق بصفات الله عز وجل، والرؤية، وسائر السمعيات التي وردت في القرآن الكريم، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غيبية- لابد بالضرورة من أن نعتقد أن ألفاظها حق على حقيقتها؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بلسان عربي مبين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الدين وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ولم يبق في الدين شيء يحتاج إلى مزيد بيان لا في اللفظ، ولا في المعاني.
فأصول الدين كلها بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فروعه، ومعلوم أن ألفاظ العقيدة غير قابلة للاجتهاد، ولو كانت قابلة للاجتهاد ما صارت عقيدة.
فالذين أولوا لابد من أن يلزم من تأويلهم الاستدراك على الله عز وجل، والاستدراك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما جاءونا بأدلة تثبت صحة التأويل، بل جاءوا بشبهات، قالوا: لا يعقل كذا إلا كذا، إذاً: لابد من أن نقول فيه كذا.
ثم إنهم حينما عدلوا عن ألفاظ الشرع، وعن حقائق ألفاظ الشرع؛ ما سلموا مما فروا منه، بل قالوا على الله بغير علم، وتحكموا في ألفاظ الشرع بغير علم، واختلفوا في المراد، فصار الناس الذين تابعوهم لا تستقر لهم عقيدة، ولا يدرون ماذا يعتقدون، في حين أنهم لو أبقوا -كما فعل السلف- نصوص الشرع على ما جاءت، وأثبتوا لله ما أثبته لنفسه حقيقة على ما يليق بجلال الله عز وجل مع نفي المماثلة والتشبيه؛ لما حصل الإشكال إطلاقاً، ولما وقعوا فيما وقعوا فيه، وكل شبهة أثاروها بسبب التأويل رد عليها السلف بما يكفي ويشفي، وسيأتي نماذج في ذلك مستقبلاً.(32/15)
شرح العقيدة الطحاوية [33]
لقد ضل أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم حين أصلوا لأنفسهم أصولاً فاسدة وقدموها على النص الشرعي، ومن ذلك تقديم العقل على النقل عند التعارض، هذا الأصل الذي ردوا به كثيراً من النصوص الشرعية بحجة معارضتها للعقل، والذي أصل لهم هذا الأصل هو الفخر الرازي، وقد رد عليه شيخ الإسلام في درء التعارض وغيره، مبيناً أنه لا تعارض أصلاً بين العقل الصريح والنقل الصحيح إلا في عقول هؤلاء المتكلمة الذين لم يسلموا للنصوص الشرعية التسليم الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(33/1)
أهمية التسليم لله ولرسوله وفساد معارضة النقل بالعقل
قال رحمه الله تعالى: [(فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه): أي: سلم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقوله: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط.
لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك؛ فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً.
ويُعارَض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه.
وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل؛ لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل].
هذا الكلام الذي أورده الشارح ينقسم إلى نوعين: نوع في تقرير الشبهة أي: شبهة المتكلمين الذين قدموا العقل على الشرع، ونوع آخر هو رد هذه الشبهة، وكل ذلك لخصه الشارح من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: درء التعارض.
وهذه القاعدة هي الفارق بين نهج السلف ونهج المتكلمين من متأخرة الأشاعرة والماتريدية في القرن السادس وما بعده، حينما استقر عندهم علم الكلام بأصول عقلانية مقعدة جعلتهم يأخذون بأصول الجهمية والمعتزلة، وأصول الفلاسفة في الموقف من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، أما في الأحكام فقد لا يختلفون كثيراً مع السلف.
ولعله من المناسب أن نأخذ هذه القضايا التي أشار إليها الشارح قضية قضية حتى لو استغرقت أكثر من درس، فهذا المقطع مهم في نظري وخطير؛ نظراً لأنه يتعلق بأصول مذاهب موجودة، وبقواعد يمكن أن يسلكها كثير من العقلانيين، بل سلكها كثير من العقلانيين المعاصرين، ثم إنها بدأت الآن تخرج أعناقها حينما اهتم خلف هؤلاء المتكلمين من المعاصرين بكتبهم وأخرجوها.
وأرى في السنتين الأخيرتين بالذات حشداً هائلاً من كتب المتكلمين التي خرجت مطبوعة بعناية وبدعاية تفوق دعاية كتب السلف.
وقد انبرى لهذا الاتجاه طائفة من المتكلمين المعاصرين صغاراً وكباراً، فأصبحوا يدافعون عن هذا التوجه العقلاني ويدعون إليه من جديد، وبدأ يتجذر في عقول كثير من شباب الأمة في الآونة الأخيرة.
فمن هنا لعلنا نخرج عن القاعدة التي درجنا عليها، وهي أن الأمور الفلسفية لا نتعمق فيها، فنستثني مثل هذه الأمور للضرورة.(33/2)
قاعدة الرازي العقلية التي اعتمدها المتكلمون
الشبهة العقلية هي قاعدة المتكلمين الأوائل التي استقرت عند الرازي قبل أن يرجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فهو رجع وسلم لمذهب السلف، لكن بعد فوات الأوان؛ إذ ما استطاع أن يلغي ما قاله، ولا أن يقنع الناس بأن يعدلوا عما كتب، وإن كان نصح أصحابه، لكنهم لم يأخذوا بنصيحة الناصحين.
وشأن الرازي وأمثاله ممن وضعوا هذه القواعد ثم تابوا منها أن مثلهم ومثل أتباعهم اليوم كمثل رائد قوم صار في طريق وفجأة رأى أمامه هوة سحيقة، فأدرك الخطر هو فرجع، وأنذر أصحابه، لكن الذين تبعوه أبوا إلا أن يسقطوا في الهوة، وهذا هو شأن المتكلمين الذين يتبعون هؤلاء الكبار الذين رجعوا عن علم الكلام.
والعجيب: أن أغلب كبار المتكلمين رجعوا عن علم الكلام، الأمر الذي يقيم الحجة على أتباعهم إلى اليوم، فيقال لهم: كيف تسلكون مسالك تاب أصحابها منها، وتبرءوا إلى الله منها في حياتهم بحرية كاملة، فلم يكرهوا على ذلك، ونهوا عنها بإشفاق ونصيحة.
وهذه مسألة عارضة، لكن أحببت التنبيه حتى يتبين عوار هذه القواعد من مؤسسيها، وإن كان لها أتباع، فمسألة الأتباع ليست دليلاً، بل الشيطان له من يعبده الآن.
وقاعدة الرازي ذكرها شيخ الإسلام وأجاب عليها في كتب مطولة كما سأشير إليه بعد قليل، وذكرها الرازي في كتابه: (تأسيس التقديس)، وهو مطبوع الآن ومنشور بعناية.
في هذا الكتاب أراد الرازي أن يقرر مسألة مجرد تصورها يصادم الفطرة والعقل السليم، وملخصها أنه يقول: إن دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية، كذا بإطلاقه! فإذا تعارض النقل مع العقل أخذنا بالقطعي وهو العقل.
وظاهر هذه العبارة ينطلي على من لم يفقه في الدين، وهذا ملخص القاعدة الذي انتهت إليه، وإلا فقد صاغها بأكثر من هذا، ثم أيدها من خلال كتابه: تأسيس التقديس.
والعجيب أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية أوقع الأمة في شبهات خطيرة، فصارت قاعدته مذهباً أوجد تشكيكاً عند كثير من مفكري الأمة من وقته إلى يومنا هذا، حتى إنهم وقعوا في الشكوك ولم يخرجوا منها، حتى الرازي نفسه اعترف نظراً لمجاراته لهذه القاعدة بأنه كثيراً ما يثير الشبهة ولا يستطيع أن يجيب عليها.(33/3)
القوادح التي اعتبرها الرازي لامتناع قطعية دلالة الشرع
فالمهم: أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية زعم أن الشرع يتعرض لقوادح تمنع من أن يكون قطعياً، وهو يعترف في الأصل بأن الشرع مقدس، وأن الشرع دين الله، وهذا القدر من الاعتراف يوجد حتى عند طائفة من الكفار الخلص، لكن بعد الاعتراف يأتي بالاعتراض، وهذا منهج المنافقين، ومنهج الكفار، وإن لم يكن الرازي كافراً، لكنّه وقع في منهج الكافرين، ومنهجه منهج الفلاسفة، وإلا فلا نستطيع بمجرد هذه الشبهات تكفيره، إنما نقول: إنه ضل بهذه القواعد.
فالخلاصة: أنه أورد على الشرع قوادح، لعلي أذكر شيئاً منها من أجل أن نتصور القواعد التي سأقولها بعد قليل، فمن هذه القوادح زعمه أن دلالة الشرع متوقفة على الجزم بفهم ألفاظه، ولا سبيل إلى الجزم.
وهذه مغالطة ترد على الرازي نفسه، فيقال له: إذا كنا لا نجزم بصحة ألفاظ الشرع؛ فكيف تجزم بصحة ألفاظك أنت، وصحة ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين؟ وكيف تقول: إن العقل قطعي مع أن العقل لا يعبر عن مراده ونتائجه إلا بلسان العاقل، وهل يكون لسان العاقل أصدق من كلام الله عز وجل؟! ثم قال بعد ذلك: إن نصوص الشرع نقلت إلينا -ويقصد بذلك الأحاديث- عبر الرجال، والرجال يعتريهم السهو والخطأ والنسيان إلى آخره، ثم أورد شبهة خاصة بأحاديث الصفات، فقال: إن أحاديث الصفات أغلبها ما رواه الصحابة إلا بعد سنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ألمح إلى أن الصحابة رووها بسبب أهواء الفرق، فكأنه يشير إلى أن الصحابة تكلفوا في وضعها، أو فهموها من النبي صلى الله عليه وسلم فهماً ولم ينقلوها نقلاً.
فجعل من القوادح أن أكثر الدين جاء عن طريق الآحاد، والآحاد كله ظني إلى آخره.
سيأتي إن شاء الله الكلام على القوادح في الجملة.(33/4)
ذكر ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على قاعدة الرازي
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه القاعدة وما يشبهها بكتابين عظيمين من قرأهما سيتصور فعلاً عظمة منهج أهل السنة في رد شبهات المتكلمين، وسيقتنع فعلاً أن هذه الشبهات لا تعدو أن تكون من وساوس الشيطان.
الكتاب الأول: درء التعارض، ويقع الآن في أحد عشر مجلداً.
وكتاب آخر اسمه: بيان تلبيس الجهمية، هذا طبع منه جزء قليل، جمعه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وابنه محمد الموجود وفقنا الله وإياه، لكنه لا يشمل إلا جزءاً قليلاً من كتاب بيان تلبيس الجهمية الذي هو رد على هذه القاعدة وأمثالها من قواعد المتكلمين، حقق في جامعة الإمام قسم العقيدة، ويقع في ستة عشر مجلداً.
ونرجو -إن شاء الله- أن يطبع في وقت قريب في ستة عشر مجلداً في الرد على تأسيس التقديس الذي هو في قرابة مائة وثمانين صفحة أو مائتي صفحة، بل ما رد عليه كله، إنما رد على ثلثيه، والثلث الأخير لا يدرى هل هو مفقود، أم أن الشيخ اكتفى بالرد على ثلثي الكتاب تقريباً.(33/5)
القواعد التي تضمنها كلام الشارح في التسليم لله ولرسوله وعدم معارضة النصوص بالعقول
والكلام الذي ذكره الشارح يحتاج إلى أن نحوله إلى قواعد من أجل أن نخرج بنتيجة من خلال ذكر قواعد السلف وبيان قواعد المتكلمين بإزائها، ثم الخروج بنتيجة في مقابلة قاعدة السلف بقاعدة المتكلمين.(33/6)
قيام صحة الإسلام على كمال التسليم
القاعدة السلفية الأولى: قوله: [فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم].
هذه قاعدة الإسلام الأولى التي ينبني عليها صحة الإسلام من المسلم، أو كمال الإسلام من المسلم، وذلك أنه لا يسلم أي إنسان حتى يسلم لله عز وجل بالعبودية والتصديق والإذعان للخبر والنهي والأمر، وحتى يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحب والاتباع والتصديق من كل وجه.(33/7)
رد ما أشكل من أخبار الغيب إلى العليم بها جل جلاله
ويتفرع عن هذه القاعدة الثانية التي تعتبر من لوازم القاعدة الأولى، وهي: أنه إذا اشتبه على المسلم شيء مما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم -سواءٌ كان من باب الأخبار كالعقيدة، أو من باب الأوامر كالشريعة- فإنه يرده إلى عالمه، يرده إلى الله عز وجل.
وبالنسبة لما يتعلق بنصوص العقيدة هذه القاعدة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل، فبمجرد أن يشتبه عليه الأمر ولا يجد جواباً، أو لا يجد في ذهنه ولا عند أهل العلم ما يجيب على إشكاله؛ فليسلم بأن خبر الله صدق وحق، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ثم يقف عند هذا الحد ويقول: آمنا بالله.
وإذا كان الإشكال يتعلق بالأوامر والنواهي فعلى المسلم أن يرجع إلى أهل العلم، فإن أجابوه وإلا فليبق أيضاً على نفس القاعدة، فيسلم بالأمر، وبأنه حق من الله عز وجل، سواءٌ فقهه أو لم يفقهه.(33/8)
تحريم إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة في أمور الدين
القاعدة الثالثة: أنه يحرم -بل يتنافى مع الدين- إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة لأي أمر من أمور الدين.
فالأصل في الدين: التسليم والقناعة التامة والتصديق، وهذا هو معنى الإيمان، ومن سلم بأمر فلا يجوز له أن يثير الشك فيه حتى بمجرد الترف العلمي، فهذا أمر محرم، خاصة في قضايا العقيدة، فلا يجوز للمسلم أن يستبيح أن يثير الإشكال أو التساؤل في أمر عقدي، إلا إذا كان الإشكال ينبني عليه فهم أصل من أصول العقيدة، وليس مجرد الإثارة أو الترف العلمي، بمعنى: أن إثارة الشكوك أحياناً تأتي للإنسان من قبل وساوس ترد إليه في ذهنه، فإذا استطاع أن يدفع هذه الوساوس بأن يسلم لله عز وجل ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فهذا هو المطلوب شرعاً، ولا يعرضه هذه الوساوس والشكوك لمجرد انقداحها في الذهن، بل يحاول دفعها بكل وسيلة من الوسائل الشرعية، فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويستغفر الله ويتوب إليه ويتلو القرآن، ويكثر من ذكر الله، ويشغل ذهنه عن هذا الشك أو الشبهة، فإذا استقرت الشبهة ولم يستطع دفعها فلا مانع من أن يثيرها بشرط ألا يثير الشك عند عامة الناس، بل يفضي بسره إلى أحد أهل العلم الذين يثق بهم.
أما إثارة الشكوك والشبه بمجرد الترف العلمي، أو لمجرد الاستعراض الذهني، أو لمجرد إثبات القدرة العقلية كما يفعل بعض الناس، أو لمجرد أن يسمع الشبهة، ويتكلف في هذا؛ فهذا أمر محرم قطعاً، بل ربما يؤدي بالإنسان إلى الكفر وهو لا يشعر، ومثل الشكوك والشبه: التأويلات الفاسدة التي عليها أهل التأويل.(33/9)
الأسئلة(33/10)
بيان حقيقة تأويل أهل السنة لنصوص المعية
السؤال
جرى مرة كلام بين الصابوني المعاصر وبين بعض طلاب العلم، فقال له طالب العلم: إن الصفات تمر كما جاءت، والقول في السبع الصفات كالقول في سائر الصفات، فرد عليه: أنتم تؤولون المعية ولا تمرونها كما جاءت، بل تفسرونها وتؤولونها، فمن الذي يحل لكم تأويل هذه الصفة ويحرم عليكم تأويل السبع الصفات؟! فحار الشاب ولم يجد جواباً، فما الرد عليه؟
الجواب
هذه مشكلة إذا كان الشباب من طلبة العلم تصدوا للحوار، ثم يحارون في هذه المسألة اليسيرة، فمعنى هذا: أنهم أخطئوا حينما دخلوا في حوار يعرفون أنهم قد يصلون فيه إلى طريق مسدود، وهذه الشبهة تذكرني بشبه ظاهرة الآن بدأت تكثر في الحوار، خاصة مع الرافضة، فترى شاباً يأخذه الحماس فيدخل في الحوار مع صاحب هوى بدون استعداد علمي، أو بدون رجوع إلى أهل الاختصاص، وهذا خطأ، فهذا سيترتب عليه إضرار بالسنة وأهلها.
فلا ينبغي لأحد أن يحاور أحداً من أهل الأهواء إلا بعد الاستعداد العلمي الكامل، أو يحيل على المتخصصين، أو يترك، أو يشير إلى الأمور إجمالاً بدون دخول في التفاصيل، أما الدخول في التفاصيل فهو خطر.
أما هذه المسألة فالرد عليها واضح، وقد أثيرت الشبهة من قديم الزمان، وليس الصابوني هو الذي أثارها، وهذا دليل على أن هؤلاء لم يقفوا على أقوال أهل العلم، فأهل العلم قالوا: إن مسألة المعية لا تقاس بالصفات؛ لأمور كثيرة نلخصها في أمرين: الأمر الأول: أننا حينما قلنا بأن معية الله لخلقه معية بعلمه، وهي المعية العامة، أو معية برعايته وحفظه، وهي المعية الخاصة؛ فهذا لا يعني أننا عدلنا عن ظاهر اللفظ إلى معنى آخر لمجرد عقولنا أو بقرائن، بل عدلنا عن ظاهر اللفظ بمقتضى نصوص أخرى، وهي نصوص الفوقية، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وغير ذلك من نصوص الفوقية والعلو والاستواء.
فهذه النصوص تدل على أن الله عز وجل ليس مخالطاً لعباده، ولا مماساً لهم، فكان تفسير النص بناءً على نص آخر، أما الذين أولوا فما أولوا نصاً بنص، بل أولوا النص بعقولهم.
الأمر الثاني: أن المعية ليست صفة مستقلة بذاتها، فالمعية لا تتعلق بذات الله عز وجل مباشرة، وإنما تتعلق بما يمكن أن نسميه الحال بين الخالق والمخلوق، فمعنى أن الله عز وجل مع خلقه أنه معهم بتدبيره وعلمه، وليس هذا من باب التكلف في تفسير النص كما يفعلون هم، إنما من باب تفسير النص بالنص؛ لأنه لو تركت نصوص المعية بدون ردها إلى نصوص أخرى لأدت إلى القول بالحلول والممازجة، وأدت إلى ما يقول به الصوفية من أنهم يجلسون مع الله عز وجل، أو يجالسونه، أو أنهم يكلمونه! أو ما يقوله اليهود من أنهم يعاملون ربهم كما يُعامَل الواحد منهم! فهذا خطأ ينبني عليه انحراف -بل كفر- في الاعتقاد.
ثم إن نصوص المعية عندما فسرها السلف لم يخرجوا عن مقتضى ظاهر النص في إثبات المعية؛ لأن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:5] ونحوه من ألفاظ المعية فسروها بما لا يؤدي إلى المعنى الذي أدى إلى القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
ثم إن مسألة إثبات معية الله عز وجل لخلقه لولا أن الناس تكلموا فيها وجاءوا بمعانٍ باطلة في معنى المعية فقالوا بالممازجة والمخالطة؛ لما تكلم أهل السنة بردها إلى نصوص العلو على النحو الذي صار الآن؛ لأن الناس كانوا مسلمين بمعنى المعية على ما يليق بجلال الله عز وجل، وأنها معية حقيقية.
فأهل السنة ما قالوا في المعية على نحو ما قالوا وردوها إلى نصوص العلو إلا عندما ظهرت شبهات أهل الأهواء، وإلا فالأصل أن تبقى على ظاهرها دون ردها إلى النصوص الأخرى، وذلك أن المعية ما دامت متعلقة بذات الله عز وجل وبعلمه وإحاطته وتدبيره؛ فلابد من أن يفهم العاقل أنها معية حقيقية على ما يليق بجلال الله، وأن الله مع خلقه حقيقة ولو لم يكن بذاته.
وذلك أن عظمة الله عز وجل لا تقاس بالمخلوقات حتى يتصور بعض المتوهمين مسألة المسافات أو القرب الزمني أو القرب المكاني في المعية بين الله وخلقه، فالله عز وجل أعظم من كل شيء، والمخلوقات أمام عظمة الله عز وجل لا تكاد تساوي شيئاً، فالحقير أمام العظيم لا يمكن أن يقارن بالمسافات ولا بتقديرات المخلوقين.
ولكي نقرب مفهوم السلف القديم للمعية نضرب مثلاً بالمخلوقات، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فالمخلوقات نفسها تتفاوت المعية بينها تفاوتاً عظيماً، فلو تصورنا أصغر الشيء من المخلوقات التي يشاهدها المخلوق، كذرات من التراب جعل الإنسان أمامه ذرة منها في أقصى طاولة من جهة، وذرة أخرى في أقصى الطاولة من الجهة الأخرى؛ فنجد أن بينهما بعداً شاسعاً، لكن بالنسبة لك أنت لا يعتبر البعد شاسعاً؛ فبإمكانك أن تمد يدك إلى هذه وهذه وتجمع بينهما.
فمسألة المعية بين العظيم والحقير لا يتكلم فيها، ولا ينبغي للناس أن يخوضوا فيها، ولذلك ينبغي أن نقول: معي(33/11)
شرح العقيدة الطحاوية [34]
من أصول المتكلمين التي ردوا بها النصوص الشرعية: أنهم قدموا العقل على النقل، بعد أن تخيلوا وجود تعارض بينهما، ومن القواعد التي يرد عليهم بها: أنه يستحيل أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، وأن الشرع هو الأصل والعقل تابع له، فليس العقل حاكماً وقاضياً على النقل والنص، وأنه لا يتوهم التعارض إلا لمن كان عنده خلل في عقله، أو كان النص المنقول ضعيفاً لا يصح، وبذلك تبطل حجته ومعارضته.(34/1)
استحالة تعارض العقل الصريح والنقل الصحيح
القاعدة الرابعة: أنه لا يمكن ولا يتصور عقلاً ولا شرعاً أن تأتي دلالة العقل مصادمة لدلالة الشرع، فهذا مستحيل، وقد يرد إشكال عند كثير من الناس، وهو الإشكال الذي أورده الفلاسفة لقصور فهمهم للشرع ولقضايا البدهيات الشرعية، بل حتى العقلية، وهذا الإشكال هو أن يقال: إذاً: ما معنى أن ترد بعض النصوص التي لا يعقلها بعض الناس؟! فنقول: هذا يرد بالنسبة لأفراد الناس، فأفراد الناس قد يرد عند أحدهم نص من نصوص الكتاب والسنة فلا يعقله، أو يشتبه عليه، أو يظنه لا يمكن عقلاً، لكن إذا تأملنا وجدنا أنه ليس العيب في النص، ولا يمكن أن يكون العيب في الوحي، ولا يمكن أن يكون العيب في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجب ويتعين أن نرجع إلى العقل نفسه؛ لأن العقل هو تفكير هذا الإنسان العاقل، وليس العقل شخصية مستقلة مجردة مقدسة أو منزهة عن الخطأ، بل العقل ما هو إلا نتاج التفكير عند هذا الإنسان، والتفكير راجع إلى المفكر نفسه، والمفكر إنسان ضعيف محدود الطاقة، محدود العلم، محدود التصور، محدود الخيال، يعتريه الخطأ والسهو والنسيان والخلل والهوى والوسواس وشبهات الشيطان ونزعات النفس الأمارة بالسوء، كل هذه تعتري العقل.
إذاً: فكيف يقال: إنه عارض النص أو: إنه لا يعقل النص؟! فمسألة تقديس العقل وإعطائه اعتباراً فوق الشرع مغالطة؛ لأنه ليس هناك عقل مجرد بين السماء والأرض يرجع إليه ويقال: إنه معصوم، فالعقل هو نتيجة تفكير العاقل، والعاقل هو هذا الإنسان المحدود الفاني الضعيف المحكوم بعوارض الحياة وعوارض الموت.
إذاً: فلا يتأتى عقلاً ولا شرعاً أن نتوهم أن يعارض العقل الشرع معارضة حقيقية، فلا يصح أن يقال: العقل يشهد بصحة ما دل عليه النقل، فهو الحاكم، كما ذكر عن الرازي وأمثاله.(34/2)
الشرع هو الأصل والعقل تابع له
القاعدة الخامسة: أن الشرع هو الأصل وأن العقل تابع، وهذا رد على عبارتهم: العقل أصل النقل.
وهذه عبارة باطلة، وسبب ذلك أيضاً انتكاس المفاهيم، فـ الرازي والفلاسفة والمتكلمون من قبله يقولون: العقل أصل النقل، يعني: العقل هو الأصل في فهم الشرع، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأننا لا نفهم أوامر الله عز وجل ولا نواهيه ولا نفهم أمور الغيب الواردة في الكتاب والسنة إلا من خلال العقل، إذاً: فما دام العقل هو الوسيلة فهو أصل النقل! وهذه مغالطة انطلت على كثير من صغار المتكلمين وأتباع هؤلاء الفلاسفة، والإنسان قد يغتر بهذه المقولة ويقول: نحن لا ندرك كثيراً من خطاب الله عز وجل وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر والنهي والخبر إلا بعقولنا، إذاً: العقل هو الأصل.
وهذه مغالطة بمقدمة خاطئة بنيت عليها نتائج خاطئة، فالعقل ليس أصلاً، إنما هو وسيلة، والوسيلة لا يمكن أن تكون أكبر من الغاية، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن العقل مرشد إلى ما هو أعظم منه، أو دليل على مدلول أعظم، ولا يمكن أن يكون الدليل أكبر من المدلول، فدليل المبصر على طلوع الشمس عينه وبصره، فالعين دلت على طلوع الشمس، فهل هي أكبر من الشمس؟! وهل هي أعظم من الشمس؟! بل لا يمكنها أن تتصدى للشمس دقائق معدودات، فإذا كانت العين دلت على الشمس فصارت دليلاً؛ فهذا لا يدل على أنها أكبر من الشمس، فكذلك إذا كان العقل قد دلنا على صحة الشرع؛ فلا يعني ذلك أنه أكبر من الشرع؛ لأن الشرع كلام الله عز وجل ووحيه، فلا يمكن أن يكون العقل المخلوق الضعيف أكبر من كلام الله وأعظم، أو حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام رسوله.
وهناك مثل واضح ضربه شيخ الإسلام ابن تيمية وأورده ابن القيم وأورده الشارح في مقام آخر، وهو مثال على أن العقل إن دلنا على معاني الشرع فلا يعني هذا أنه أكبر، وذلك أن الشرع بمثابة العالم المرجع للأمة، والعقل بمثابة العامي الذي يعرف مكان هذا العالم، فلو افترضنا أن إنساناً سأل هذا العامي فقال له: من أسأل في أمر ديني؟ فعندي مسألة في الدين.
فمن البديهي أن العاقل يقول: اسأل العالم وأنا أدلك عليه، فذهب هذا العامي بهذا السائل إلى العالم، فتبين لنا أن هناك دليلاً ومدلولاً عليه، فالدليل هو العامي الذي يعرف بيت العالم ومسكنه، والمدلول عليه هو العالم، فالسائل عندما وصل إلى العالم سأله عن أمر دينه فأخذ العالم يفتي، فلو افترضنا أن العامي قال للسائل: لماذا تسأل العالم، اسألني أنا، فقال: لماذا أسألك؟ فقال: لأني أنا الذي دللتك عليه.
فهل يصح هذا؟!
و
الجواب
لا.
إذاً: فكون العقل دل على النقل لا يعني أنه أعظم منه، بل هو وسيلة جعلها الله عز وجل لمعرفة الشرع.
إذاً: فلا يتأتى أبداً أن يكون العقل أعلم، والمتكلمون قالوا: إذا عارض النقل العقل قدمنا العقل.
فينبني على هذا القاعدة السادسة، وهي أنه إذا توهم أحد من الناس التعارض بين العقل والنقل؛ فإنا نقدم النقل بالضرورة، وكذلك إذا لم نفهم نص الشرع، وبعض الناس يقول: كيف نقدم الشرع في مسألة احتار فيها العقل ولم يصل إلى نتيجة؟! ونقول: إذا احتار العقل في فهم الشرع؛ فالشرع هو المقدم من باب التسليم، بمعنى أن نقول: آمنا بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه حق وصدق ولو ما فهمناه، ولا ننكص -نسأل الله السلامة- كما نكصوا، فنقول: نأخذ بالعقل وندع الشرع.(34/3)
توهم التعارض ناشئ عن خلل في العقل أو ضعف في النقل
القاعدة السابعة: أنه إذا توهم التعارض بين النقل والشرع؛ فهذا يعني بالضرورة أن في فهم العقل وإدراكه خللاً أو ضعفاً.
فالشارح يقول: [لكن إذا جاء ما يوهم من ذلك] أي: ما يوهم التعارض بين الشرع والعقل؛ [فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول].
وهنا مسألة ما تطرقت لها، وهي أننا حينما نقول: الشرع نقصد الشرع الثابت، ولا نقصد الأحاديث الضعيفة أو الأحاديث الموضوعة أو نحوها مما لا يعتقد، لكن الشارح هنا احترز، فهو يقول: [فإن كان النقل صحيحاً] أي: إن كان آية أو حديثاً صحيحاً [فذلك الذي يدعى أنه معقول] أي: يدعي أنه معارضة من العقل، [إنما هو مجهول] أي: أنه جهل من العقل وعدم إدراك [ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة]، وهذا كلام سليم، فإذا كان الحديث ضعيفاً أو موضوعاً فلا يصلح أن نأتي به في هذه القضية ونقول هو يعارض العقل، فهنا ستكون دلالة العقل السليم هي الصحيحة.
فلا يتصور أن يتعارض عقل سليم ونقل صحيح أبداً، وليس هناك عقل في الدنيا سليم من العوارض؛ فلا يوجد العقل إلا مربوطاً بالبشر، والبشر ضعيف مهما كان.
إذاً: الفلاسفة الذين قالوا بتقديم العقل كانوا يتصورون للعقل وجوداً مطلقاً، وأحياناً يعبرون به عن الله عز وجل، ويعتبرون الشرائع من فعل الكهنة، فإذا حصل عندهم تعارض بين العقل وشرائع الكهنة قالوا بتقديم العقل؛ لأنهم يقصدون به شيئاً مقدساً لا يأتيه الباطل، وكأنهم يعبرون بذلك عن قدرة الله عز وجل، لكنهم أخطئوا الطريق، فالفلاسفة الذين جاءوا في الإسلام قلدوهم بدون بصيرة ولا روية، وأولئك أبخر منهم، فالذين قعدوا هذه القواعد لا يقصدون عقل الإنسان المحدود في هذا البشر، إنما يقصدون عقلاً مجرداً ليس له وجود إلا في أذهانهم ويفترضونه افتراضاً، وأحياناً يعبرون عن الملائكة بالعقول، وأحياناً يعبرون عن قدرة الله بالعقول، ففرق بين فهم العقل عند الفلاسفة وبين ما يجب أن يفهم في الإسلام، وبين فهم المتكلمين الذين قلدوا الفلاسفة.(34/4)
تقديم العقل على النقل قدح في دلالة العقل
قال رحمه الله تعالى: [فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونص صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل]، وهذه هي القاعدة الصحيحة، فقلب القاعدة عليهم فقال: [إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع]، وهذا الكلام مبني على مصطلحات الفلاسفة، وبعضها قد يكون مصطلحاً عقلياً صحيحاً يقول به الفلاسفة وغيرهم، يعني: من الأمور المنطقية التي يقول بها كل عاقل، فالجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، وقصده أنا إذا جاءنا خبر يثبت وخبر ينفي في قضية معينة، مثلاً: جاء واحد فقال: فلان مات وآخر قال: فلان لا يزال حياً، فعندنا خبران لهما مدلولان، خبر يفيد الحياة وخبر يفيد الموت، والمدلولان متناقضان؛ إذ الموت ضد الحياة.
فإذا جاء خبر بهذا وخبر بهذا؛ فلابد من الخروج من أحدهما إلى الآخر، ولا يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن الجمع بين الموت والحياة، فنقول: هذا الرجل إما ميت وإما حي، إذاً: اجتمع عندنا مدلولان هما نقيضان، فهذان المدلولان لا يمكن أن نجمع بينهما ولا يمكن أن ننفيهما، فلا نقول: لا يمكن أن يكون حياً ولا ميتاً في وقت واحد، فرفعهما أيضاً مستحيل، وجمعهما مستحيل، إذاً: لابد من أن نرجح الحياة أو الموت، وهذا بتحقيق الخبر.
ومثال ذلك: مسألة شرعية واضحة، فالله عز وجل أخبرنا في كتابه وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة أن الله رفع عيسى إليه، فقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] فرفع عيسى عليه السلام ثابت قطعاً بالكتاب والسنة، فهذا الخبر كثير من الناس يعرضه على عقله فيقول: لا يمكن أن يبقى إنسان حياً منذ آلاف السنين، فهنا اجتمع عندنا مدلولان: مدلول عقول هؤلاء البشر المنكرة الملحدة التي تقول: لا يمكن أن يكون عيسى حياً بزعمهم، ومدلول الخبر الذي جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى حي يرزق في السماء وسينزل في آخر الزمان، فهل يمكن الجمع بين المدلولين؟ إنه -بناء على ما سبق- لا يمكن أن يكون حياً وميتاً في وقت واحد، وهل يمكن أن يقال: لا حي ولا ميت؟! لا يمكن، إذاً: لابد من أحدهما، فجاء الخبر عن الله تعالى عن طريق السمع والنقل يقول بأنه حي في السماء رفعه الله إليه، وعقول هؤلاء التافهة تقول بأنه لا يمكن أن يبقى حياً، فنأخذ بدلالة الشرع، وتقديم العقل هنا ممتنع؛ لأن العقل دل على صحة السمع، وإذا كانت عقول الناس المهتدية السليمة المستقيمة أثبتت أن ما جاء عن الله تعالى حق وصدق؛ فقد سلمت ابتداء، وهذه أيضاً مسألة مهمة كان المفروض أن نضعها قاعدة، ولا مانع من أن نضعها قاعدة، وهي أن العقل السليم هو الذي دلنا على صحة السمع، أي: صحة دلالة الكتاب والسنة، وإذا كان العقل السليم هو الذي دل على صحة الكتاب والسنة؛ فهذا يعني: أنه لابد من أن يسلم لهما بالبداهة، لاسيما أن العقل السليم يثبت عصمة الكتاب وعصمة ما صح من السمع، وإذا أثبت العصمة وجب عليه ألا يناقض هذا، ولذلك قد نأتي إلى بعض المتكلمين، ونقول له: أنت الآن استعملت عقلك في تأمل كتاب الله عز وجل.
فيقول: نعم، فنقول: ألم تدرك بعقلك أن كتاب الله حق؟ فيقول: بلى والله، أدركت هذا.
كما يقول الرازي وأمثاله، يقول: أدركت أن كلام الله حق وصدق لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إذاً: ما دمت تقول: كلام الله حق وصدق، فكيف تقول: إذا تعارضا قدمت العقل؟! فإنك تكون بذلك قد نقضت قاعدتك وتسليمك، فالعقل السليم الذي سلم بأن الحق هو ما جاء عن الله وعن الرسول لو اعترض في جزئية من جزئيات الدين اعتراضاً عقلياً على الشرع يكون بذلك قد انتقض تسليمه كله على طول الخط؛ لأنه أولاً سلم ثم نقض تسليمه، فكذلك المتكلمون الذين قالوا بأن القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حق، ثم جاءوا يقولون: ما تعارض مع العقل من الكتاب والسنة ندفعه أو نؤوله! فهؤلاء تناقضوا ونقضوا قاعدتهم؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، أي: قبول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل.
فالشارح قلب الدليل عليهم، فنقول لهم: عقولكم التي سلمت بصحة دلالة النص ثم عارضت صارت مجروحة؛ لأنها شهدت بصحة الكتاب والسنة ثم بعد ذلك قدحت في دلالتهما، فرجع الجرح عليها، إذاً: فالعقل الذي تزعمون أنه معصوم أصبح مجروحاً بعملكم هذا، ولا يصلح أن يكون معارضاً للنص؛ فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، أي: فكان تقديم العقل على الشرع في الاعتبار موجباً عدم تقديم العقل على الشرع في الدلالة، وكان تقديم العقل على الشرع في الدلالة موجباً عدم تقديمه في الاعتبار.
يقول: إذا أردت أن تكرم العقل وتضع له منزلة فيجب ألا تقدمه على الشرع، فقوله: [فكان تقديم العقل] أي: تكريم العقل [موجباً عدم تقديمه]، أي: عدم تفضيل(34/5)
شرح العقيدة الطحاوية [35]
من أصول الدين وأساسياته التسليم بكل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم معارضة شيء من ذلك بعقل أو رأي أو خيال أو شبهة، كما يجب الاعتقاد بأن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق، وما عداه مما يعارضه فهو باطل، فيجب قبوله والتسليم له، وما جهل منه أو أشكل فهمه رد علمه إلى الله تعالى وحرم الخوض فيه، والتقول على الله تعالى بغير علم؛ فإن ذلك هو الهلاك بعينه، وهو ما وقعت فيه الفرق الضالة التي سلكت مسالك أهل الكلام، فلم تفلح ولم تنجح.(35/1)
توحيد المرسل ومتابعة الرسول أصلان لا نجاة بدونهما
قال رحمه الله تعالى: [فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه بخيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول].
تسمية هذين الأصلين بأنهما توحيدان فيها نوع غموض أو لبس، مع أن المقصود واضح، فهو يقصد وجوب توحيد الله عز وجل بالعبادة، كما أنه لا يطاع غير الرسول صلى الله عليه وسلم في الدين، لكن تسميتهما بالتوحيدين فيها لبس، فالأولى أن يقال: هما أصلان: توحيد المرسل، يعني: توحيد الله عز وجل الذي أرسل الرسل وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التوحيد هو الأصل، أما الثاني فهو توحيد المتابعة، بمعنى توحيد مصدر الدين، فلا يؤخذ الدين إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله.
إذاً: فالأولى أن نسميهما أصلين، ولا نقول: توحيدان.(35/2)
خطر الانحراف في التلقي لأمور الدين
قال رحمه الله تعالى: [فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله].
هذا الانحراف في التلقي نجده واضحاً في كثير من الأمة، والانحراف في التلقي هو أخذ الدين عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم لغيره عليه الصلاة والسلام، أو الرجوع عند التنازع إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نجده واضحاً في عدة طوائف من الأمة، أولها: الفرق عموماً ابتداء من الخوارج والرافضة الشيعة، والشيعة الأوائل انقرضوا، وما بقي إلا الرافضة ومن تفرع عنهم، وكذلك القدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية والمشبهة والجبرية وأهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ثم الفلاسفة والباطنية، كل هؤلاء وإن سلم بعضهم بالمبدأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله إلا أنهم عند التنفيذ وعند تلقي الدين أو الأخذ به أو العمل به نجدهم يتلقونه ممن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم بغير هدى ولا بصيرة، وفي الآونة الأخيرة ظهرت نزعات جديدة تميل إلى هذا الاتجاه، وهي رجوع أصحاب الشعارات إلى شيوخهم وإلى رءوسهم وقاداتهم.
وأقصد بالشعارات الشعارات التي ينضوي تحت لوائها جماعة من الناس، تضع لنفسها مناهج وتضع لنفسها أصولاً تعقد عليها الولاء والبراء وتحكمها عند الخلاف وترجع إليها في بعض أمور دينها أو في أمور الدعوة ونحو ذلك، فهذه الشعارات واللواءات أيضاً وقعت فيما وقع فيه الأولون، فإذا جاء الخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أرجعوه إلى أصولهم، فإن وافق أصولهم أخذوا به وإن خالف أصولهم سوغوا لمخالفته بتأول أو بتفسير شاذ أو باحتجاج بواقع أو بقول شيخ أو نحو ذلك.
كما أن هناك طائفة ثالثة وقعت، لكنها أخف من غيرها، وهي متعصبة المذاهب، فمتعصبة المذاهب وقعوا في التلقي عمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إليه مع تسليمهم للمبدأ، فمتعصبة المذاهب أحياناً يأتيهم الدليل الذي يخالف مذهبهم ويثبت أنه صحيح وأنه غير منسوخ إلى آخر ذلك من القواعد المعروفة في ثبوت الدليل وثبوت دلالته، ثم يعرضون عنه، ويقولون: هذا لا يمشي مع القاعدة التي قال بها فلان، وأحياناً ينسبون القاعدة إلى إمام من أئمة الدين الذين لا يرضون هذا الأسلوب، كالإمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد.
ولذلك وجد في شواذ المذاهب ما يخالف الإسلام أصلاً، وسبب ذلك أن طائفة من متأخري أتباع المذاهب حكموا القواعد ولم يحكموا النصوص أحياناً، وعلى سبيل المثال وليس على سبيل القدح أذكر مثالاً لطائفة وهو مثال واضح من أوضح الأمثلة، وقد يوجد نحوه في كل مذهب، لكن أجده في أحد المذاهب واضحاً جداً، خاصة من بعض المنتسبين إلى هذا المذهب المتعصبين له، وهو مذهب الأحناف، والمذهب الحنفي من مذاهب أهل السنة وفي أتباعه وفي شيوخه خير كثير، وكثير منهم من أئمة الإسلام، لكن وجد عند المتأخرين تعصب شديد، فالمثال هو وجود طائفة منهم الآن نراهم في الحرم وفي غيره لا يتمون الركوع أبداً، بل ركوعهم كبعض الرافضة إذا رفع رأسه من الركوع لا يكاد يتم الرفع، مجرد إشارة إلى فوق ثم يهوي ويسجد، فلا يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يستكمل الدعاء ولا يعتدل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعنا إلى أصل هذا العمل وجدناه يرجع إلى قواعد في المذهب الحنفي، ولا يرجع إلى نص شرعي صحيح؛ والصلاة من أعظم شعائر الدين التي تواتر نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يمكن لأحد أن يخفى عليه شيء من واجباتها وأركانها، فالصلاة من أعظم شعائر الإسلام التي بقيت كما كانت في المسلمين إلى اليوم إلا من حرف وبدل، فهذا مثال لمتعصبي المذاهب.(35/3)
وجوب المبادرة بقبول خبر رسول الله والعمل به واجتناب الخوض فيما جهل علمه
قال رحمه الله تعالى: [فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال، بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟! بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلغى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله على موافقة فلان دون فلان كائناً من كان.
قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، وإنما يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه)].
هذا فيه إشارة إلى قاعدة في التعامل مع النصوص أرى كثيراً من الناس -بل حتى بعض طلاب العلم في هذا الزمان- لا يتأدبون بأدبها، وهي في المراء والخوض في المسائل العلمية غير البينة أو التي تحتاج إلى الاجتهاد بشروطه والكلام فيها بغير علم مع ضرب النصوص بعضها ببعض، أقول: كثير من الناس اليوم يتساهل، فقد تذكر أحياناً أحاديث أو مسائل علمية في بعض المجالس فتجد كل واحد من الحاضرين ينتزع دليلاً من القرآن أو دليلاً من السنة ويضربون الأدلة بعضها ببعض بدون أدب مع كتاب الله تعالى ومع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون اعتبار لأصول الاجتهاد وأصول الأخذ بالنصوص، ودون تورع عن القول على الله بغير علم، مع أن مثل هذه المسائل كثيراً ما تؤدي إلى الخصومات والمراء والجدل والنزاع، وأحياناً تؤدي إلى التشاحن، فابتداء الأمر بهذه الصورة خطأ فضلاً عن أن نهايته تؤدي إلى الإثم، فعلى هذا ينبغي أن يناصح الناس وتثار هذه المسألة كثيراً بين طلاب العلم، فيتواصون بعدم التساهل في أخذ المسائل العلمية بغير نهج سليم وفي ضرب الأدلة بعضها ببعض، فتجد أن كثيراً من الناس من السهولة عنده بمكان أن يأخذ آية ويستدل بها على أمر يراه هو مجرد رأي دون أن يعرف هل وجه الاستدلال صحيح وهل الآية تدل على المراد أم لا، وهل هي ناسخة أو منسوخة، ثم هل هو ممن يملك الاجتهاد ويعرف المسائل والأدلة وكيف يجمع بينها إلى آخره، كل ذلك لا يراعى في كثير من أحاديث الناس اليوم.
فينبغي أن تتواصوا بهذا الأمر؛ لأنه بدأ يستفحل ويكثر في الناس، حتى إنه تجرأ على ذلك العوام والشباب الصغار والنساء؛ لكثرة تعلم الناس وكثرة القراء فيهم وقلة الفهم، فأخذوا يضربون الآيات بعضهما ببعض والنصوص بعضها ببعض، وكل يأتي وينتزع الدليل على هواه، وأحياناً يستدلون بطرق غريبة جداً لا تتناسب مع فهم العربية فضلاً عن أصول الاستدلال.
وتجدهم يفسرون الآيات على أهوائهم، وينقلون الحديث ثم يفسرونه على أهوائهم، وهذا مشهور وواقع، تتبناه بعض الصحف وتنشره علانية، وهذا نوع من انتشار هذه الظاهرة عند الصحافة والصحفيين، حيث ظهرت الجرأة على أحكام الله تعالى وعلى أحكام الشرع، وعلى قضايا الأمة الخطيرة وما هو من أمور العلم الشرعي، وما الصحافة إلا مظهر من مظاهر ما يحدث في المجتمع، وإن كانت الصحافة في الغالب مجروحة العدالة أصلاً وابتداء، لكن الناس الأصل فيهم العدالة، ونحن ننصح الناس، وأما الصحافة فينبغي أن تردع الصحافة ينبغي أن تردع من قبل الولاة عن الجرأة على دين الله تعالى وعلى أحكامه.(35/4)
قواعد من الفقه في الدين(35/5)
تحريم القول على الله بغير علم
قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول.
وقد يكون علم عن غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية؛ فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير].
في هذا المقطع قرر قاعدة من قواعد الفقه في الدين، وهي قاعدة عظيمة، وتشمل عدة مسائل: المسألة الأولى: تحريم القول على الله بغير علم، وهذا يعني: أن من تكلم في أصول الدين وفي مسائل الحلال والحرام وفي الأمور الشرعية فإنه قائل على الله، فإن كان كلامه عن علم وعن دليل وافق الحق وأصاب، وإن كان كلامه عن غير علم ولا دليل فقد أخطأ في قوله وإن أصاب أو وافق الحق، فحينما يوافق الحق تخرصاً لا ينفعه ذلك، فهو قول على الله بغير علم، ولا يجوز القول على الله بغير في مسائل الدين ولا في غيرها، لكن مسائل الدين هي مقصوده هنا، فلا يجوز القول بأن هذا حق أو باطل، أو بأن هذا حلال أو حرام، أو بأن هذه هي العقيدة أو بأن هذا مراد الله إلا بعلم.
ومن وسائل العلم بالنسبة للمسلم: أن يعرف الدليل ووجه الاستدلال.
ومن ذلك: أن يكون الأمر مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الكذب مثلاً وتحريم الزنا وتحريم الربا ونحو ذلك، فهذا كله معلوم من الدين بالضرورة، حتى لو لم يستحضر الإنسان الدليل؛ لأنه نقل بالإجماع والتواتر.
ومن ذلك نقله عن إمام هدى وعالم يقتدى به، فلا مانع من أن يقول: قال العالم أو قال الشيخ، فمن هنا تبرأ الذمة ويسلم الإنسان من القول على الله بغير علم.
أما بغير هذا فإنه إذا قال في مسألة من الأمور الشرعية: إن الله أراد كذا أو حرم كذا أو أحل كذا، أو هذا هو الحق دون أن يكون صادراً عن الدليل مع فهم الدليل، أو عما هو معلوم بالضرورة، أو عن قدوة؛ فإنه بذلك يخطئ.(35/6)
وجوب اعتقاد أن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق
المسألة الثانية: أنَّه يجب على الإنسان المسلم أن يعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق مطلقاً، وما عداه من سائر كلام الناس يعرض على هذا الحق والصدق، فإن وافقه فهو كذلك حق وإن لم يوافقه فليس بحق.(35/7)
وجوب التوقف فيما لم يتبين الحق فيه من الباطل
المسألة الثالثة: أن المسلم إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل فلم يعرف هل هي حق وتوافق الحق أم هي باطل؛ وبذل وسعه وتكلف في البحث عن الدليل وسأل أهل العلم، فلم يتبين له وجه الحق؛ فإنه يتوقف، ويسعه التوقف والإمساك، فلا يثبت ولا ينفي ولا يحلل ولا يحرم، ولا يقول: هذا حق ولا باطل؛ بل يقول: الله أعلم، أو: لم يتبين لي وجه الحق.
وهذا منهج السلامة الذي عليه أهل الحق، إذاً: لا يتكلم إلا بعلم، والعلم لا يكون علماً إلا إذا قام على الدليل، وهذه قاعدة عامة.(35/8)
علم الرسول هو العلم النافع الذي تضبط به علوم الدنيا
المسألة الرابعة: أن النافع من العلوم الشرعية هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أما العلوم الدنيوية فإنها تضبط في عموماتها بالشرع في كونها غايات أو وسائل، وكونها -مثلاً- تفيد أو لا تفيد إلى آخره، فهذه تضبط بضوابط الشرع، لكنها أمور علمية مبنية على عالم الشهادة، وليست من الأمور التي وردت فيها نصوص الشرع تفصيلاً، وإنما وردت فيها نصوص الشرع على وجه الإجمال، فالعلوم الطبيعية والعلوم المادية ليست محكومة بنصوص جزئية، إنما تحكم بغايات الشرع وقواعد الشرع ونصوص الشرع العامة.
ثم إن هناك من العلوم الدنيوية ما يكون فيه نوع اشتباه بالعلوم الشرعية، تختلط مسائله وأصوله وقواعده وجزئياته بالعلوم الشرعية، وهذا لابد أن يكون للشرع فيه رأي حتى في بعض تفصيلاته، وهو ما يسمى بالعلوم الإنسانية، وبعض المفكرين أو بعض المثقفين حتى من المسلمين يزعم أن العلوم الإنسانية لا دخل للشرع فيها، كعلوم الاجتماع وعلوم السياسة وعلوم الاقتصاد وعلوم التاريخ والحضارة وسائر العلوم الإنسانية، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع، فالعلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية والمادية، بل لابد من أن تحكم بالشرع جملة وتفصيلاً، ولابد من أن تنطلق من منطلقاته الأساسية في قواعدها وفي أصولها وفي أهدافها وفي مسائلها الجزئية وفي أحكامها وفي تطبيقاتها، لابد أن تنظم بأصول الشرع والفقه الإسلامي، والفقه ثري بهذه الأمور، بل أغلب الفقه الإسلامي -إذا استثنينا منه العبادات- وجله في العلوم الإنسانية، كعلوم الاجتماع وأحكام الأسرة وعلوم الاقتصاد والبيع وعلوم السياسة، والأحكام السلطانية وغيرها، فالعلوم الاجتماعية في عصرنا الآن مفصولة عن أحكام الشرع التفصيلية، وعزلها عن الفقه يعتبر كارثة أوقعت المسلمين في كثير من الأخطاء والمفاهيم الخطيرة التي أدت إلى الوقوع في انحرافات يصعب علاجها إلا بعد حين.(35/9)
موقف العقل من الشرع هو التسليم والاستسلام
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام): هذا من باب الاستعارة؛ إذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء.
أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وهذا كلام جامع نافع.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال؛ فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت ودللت عليه؛ شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ].
أظن أن المثل -إن شاء الله- واضح، وخلاصته: أن العقل مع الشرع كالعامي مع العالم، وذلك أمر في نظري أنه بدهي، فإن الشرع هو الذي يسمى علماً، والعقل لا يعدو أن يكون وسيلة للعلم، وليس هناك إنسان يشتمل على العلم دون تعلم ودون تعقل.
إذاً: فالعقل لا يتصور إلا أن يكون وسيلة للعلم، بدليل أن غير العاقل لا يعلم شيئاً، وأن الناس علومهم بقدر عقولهم، ثم إن العقل ليس بذاته يشتمل على العلم، إنما هو -كما قلت- وسيلة إلى العلم، وهذا أمر يدركه كل عاقل، فالعقل نفسه يقول ذلك، فالعاقل لا يولد عالماً، إنما يولد بعقله مستعداً للعلم، وهذا الاستعداد يعتبر وسيلة، فإذا وجد علماً حصله، وإذا لم يجد علماً فلا يمكن لعقله أن يكون عالماً، فالعقل لو لم يجد معلومات ما صار عالماً، ولو لم يجد أيضاً وسائل تعينه -من تفكير وبصر وسمع ولمس وغير ذلك من أنواع الإدراكات- ما استطاع أن يعلم شيئاً.
فالله عز وجل جعل العقل آلة ووسيلة، فإذا كان العقل وسيلة، والشرع والوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى أن يجهل أحد من الناس هذا الأمر، وهو أن الشرع هو العلم وأن العقل وسيلة، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتأتى أن تكون الوسيلة أقوى وأقدم وأهم من الأصل نفسه، فتقديم العقل على الشرع عند المتكلمين إنما هو انتكاس في الفطرة ووهم جرهم إليه الفلاسفة، والفلاسفة دائماً إنما يعيشون أوهاماً، فالفلاسفة لا يعيشون عالم الواقع، فالكلام في الواقع لا يعد فلسفة، وإن تجاوز بعض الناس وسماه فلسفة، بل الفلسفة أوهام وخيالات، فلذلك لما خضعوا لهذه الأوهام والخيالات خالفوا البدهيات وقالوا: إن العقل مقدم على الشرع، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنا لا نعرف الشرع إلا بالعقل.
فيقال لهم: الشرع شرع، وهو علم، سواء وجد العقل أم لم يوجد، لكن العقل لا يستطيع أن يدرك بدون الشرع علماً حقيقياً يتوصل به إلى عالم الغيب وإلى أصول الدين وإلى الحق الذي يريده الله عز وجل ويرضاه، فالعقل قد يدرك المدركات في أمور الدنيا ومع ذلك يخطئ فيها ويقع في أخطاء شنيعة قد تهلك البشر، فكيف بأمور الغيب والدين؟! إذاً: فتقديم العقل على الشرع في أمور الدين أمر يعد مناقضاً للعقل السليم ولمقتضي الفطرة، وما هو إلا من خبالات وخيالات الفلاسفة التي تأثر بها المتكلمون.
قال رحمه الله تعالى: [والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره].
يقصد هنا العقل السليم، وإلا فهناك عقول منكوسة قد لا تسلم بالوحي، لكن العقل السليم إذا رزقه الإنسان أدرك بالضرورة أنه يجب التسليم لخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.(35/10)
مثال لمقدمي دلالة العقل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول].
هنا سيضرب مثالاً بحال المتكلمين الذين زعموا أنهم يسلمون للوحي وللقرآن، ثم بعد ذلك وضعوا قواعد يردون بها القرآن ومعاني الوحي.
قال رحمه الله تعالى: [وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدى ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرض منه الرسول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد ألا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به، وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.
فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا؟ والثاني باطل، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة؛ فما بلغ البلاغ المبين! وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين؛ فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم].(35/11)
الاتجاهات العقلية الحديثة وريث للاتجاه الكلامي
هذا إلزام واضح لأصحاب الاتجاهات الكلامية التي نسميها الآن في العصر الحديث الاتجاهات العقلانية، فالاتجاهات العقلية على مذهب المتكلمين تماماً في موقفهم الإجمالي من الدين، ولا أقصد بهم أولئك الذين تزندقوا وخرجوا عن الإسلام إلى تيارات وأفكار لا تنتسب للإسلام، إنما أقصد كثيراً ممن يسمون بالمفكرين الذين يحسبون على المفكرين الإسلاميين، وربما كان بعضهم من رواد الحركات الإسلامية الحديثة، فأصحاب هذا الاتجاه العقلاني هم على مذهب المتكلمين الذين يرد عليهم الشيخ هنا، ورد عليهم أهل السنة في مسألة الموقف من الدين ثم تحكيم العقل والتسليم له حينما يظهر عندهم التعارض بينه وبين الشرع، فهناك الآن مواقف واضحة من أمثال هؤلاء تجاه كثير من قضايا الدين، سواء النصوص أو الأصول الشرعية أو مناهج السلف في العقيدة والولاء والبراء وغير ذلك، فأكثرهم إذا جاء ما يصادم تفكيره أو معلوماته من أمور الشرع -سواء كان في الآيات أو الأحاديث- قال: هذا لا يعقل، ومن ثم يذهب بعضهم إلى التأويل المتكلف، وبعضهم ربما يرد النص ولا يبالي، ومن هنا نادى بعض الذين يسمون بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين بوضع موازين جديدة للنظر إلى النصوص الشرعية غير الموازين التي عمل بها السلف، خاصة في الأحاديث، وقالوا: ينبغي أن نعيد النظر في تصحيح الأحاديث وتقويمها، ومن الضوابط التي يقترحونها لتقويم الأحاديث أنهم قالوا: إن ما لا يوافق العقل ولا يستقيم عند أهل الفكر من الأحاديث يرد، وضربوا لذلك أمثلة من الأحاديث الصحيحة المقطوع بها في البخاري ومسلم وغيرهما.
فجعلوا العقل هو المحكم، ولربما كان المتكلمون الأوائل أتقى وأورع وأكثر أدباً مع النصوص الشرعية من المعاصرين؛ لأن الأوائل تكلموا في معارضة العقل فيما يخفى على بعض من تنطمس فطرهم أو يتأثرون بالفلسفة، ولم يخوضوا في معارضة الواضح الجلي من نصوص الشرع.
أما المعاصرون فقد عارضوا الواضح الجلي من نصوص الشرع، واخترعوا أساليب ووسائل للأخذ بالدين غير الأساليب والوسائل التي ارتضاها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته ثم نقلت عن الصحابة جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا.
إذاً: فالعقلانيون الذين رفعوا لواء تقديم العقل في العصر الحاضر هم امتداد للمتكلمة التي تقدم العقل على الشرع، لكن وسعوا الهوة وجروا هذه الاعتراضات حتى على الأحكام، أما الأوائل فلم يكن عندهم اعتراض على الأحكام، وإنما تكثر مسائلهم في الأمور العقلية.
أما هؤلاء الذين يعيشون الآن بين ظهراني المسلمين فقد ردوا كثيراً من الأحكام المتعلقة، خاصة ما يتعلق بالمرأة وما يتعلق بالولاء والبراء مع الكفار والفساق وأهل البدع وما يتعلق ببعض الأخلاقيات، فاعترضوا على ذلك بدعوى أن هذا لا يستقيم مع أحوال البشرية اليوم، أو لا يساير المدنية الحديثة أو نحو ذلك، وكل ذلك اعتراض عقلي على نصوص الشرع وأمور الدين.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يزال في الأمة، إلا أنه الآن أكثر ضرراً وأوسع في تخطيه لأصول الدين من المذاهب القديمة، وربما تأتي المناسبة -إن شاء الله- للحديث عن بعض هذه الاتجاهات في مقام آخر.(35/12)
شرح العقيدة الطحاوية [36]
الكلام في دين الله تعالى بغير علم خطره عظيم، وقد جاء التحذير من ذلك في آيات وأحاديث كثيرة، تدل بمجموعها على تحريم هذا الأمر، وبيان شناعته وعظيم خطره على الدين، ومما ينتج عن ذلك معارضة الشريعة بالأهواء الفاسدة والسياسات الجائرة، والأذواق والأقيسة الباطلة، وكلها تصب في قالب رد النصوص اتباعاً للهوى والضلالة.(36/1)
خطر التكلم في الدين بغير علم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان): هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين -بل وفي غيرها- بغير علم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:8 - 9]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)، خرجاه في الصحيحين].(36/2)
حصول الفساد بمعارضة الشريعة بالسياسات والأذواق والأقيسة الفاسدة
قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن من لم يسلم للرسول صلى الله عليه وسلم نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول، فإنه قد اتخذ في ذلك إلهاً غير الله، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أي: عبد ما تهواه نفسه، وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله تعالى عليه: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله.
وأحبار السوء -وهم العلماء الخارجون عن الشريعة- بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده وتقييد ما أطلقه ونحو ذلك.
والرهبان -وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع- بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس].
هذا الكلام تفسير لقوله: إنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، وهذا لا يعني أن الفساد لا يحدث إلا من هذه الثلاث، لكن ابتداء الفساد في الأمم في الغالب أنه يبدأ من هذه الأصناف الثلاثة.(36/3)
الفساد الحاصل من معارضة الملوك للشريعة بسياساتهم الجائرة
الصنف الأول: الملوك والسلاطين أصحاب الجور والظلم، فهؤلاء يشرعون ما لم يشرعه الله، فيفتنون الناس عن دينهم ويحدث منهم ما يحدث من السياسات الجائرة كما ذكر.(36/4)
الفساد الحاصل من أحبار السوء
والصنف الثاني: أحبار السوء الذين هم علماء السوء، العلماء الذين يسيرون في علمهم على أهواء السلاطين وغيرهم، أو يسيرون على أصول فاسدة كأصول الكلام وأصول الفلسفة وغيرها، فأحبار السوء هم علماء السوء، ولفظ (علماء السوء) يشمل أصنافاً: الصنف الأول: العلماء الذين يفتون بغير علم أو يفتون عن هوى، فإما أن يتابعوا الظلمة في ظلمهم أو يسايروا الناس فيما يريدونه من الشهوات والملذات، أو يطاوعوا أنفسهم، فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون.
والصنف الثاني: الذين يتلقون العلم من غير مصادره الشرعية، ويزعمون أن ذلك علماً شرعياً وينسبونه للإسلام، وهؤلاء في هذه الأمة طوائف: أولها: الذين أخذوا علم الفلاسفة وزعموا أنه علم يفوق علم الكتاب والسنة، أو يحكم فيما يرد من الكتاب والسنة، وأحياناً يجعلونه هو العلم الفاضل الذي يتطلع إليه العقلاء، ومن هذا الصنف من يضعون القواعد العقلية من عند أنفسهم أو ما يسمى بالرأي أو المعقولات ويجعلونها أصولاً يُرجِعون إليها نصوص الكتاب والسنة ويجعلونها هي المحكمة فيهم.(36/5)
الفساد الحاصل من جهة العباد الجهلة
والصنف الثالث: الرهبان، والمقصود بهم العباد الجهلة، وإنما عبر بالرهبان؛ لأن أفسد العباد الذين ظهروا في الأمم هم عباد النصارى، فقد أفسدوا الدين والدنيا، كما أنه عبر عن الفرقة الثانية بالأحبار؛ لأن أحبار اليهود هم أفسد من ينتسب للعلم من أتباع الأنبياء.
فالرهبان المقصود بهم العباد المتنسكة الذين يعبدون الله على غير هدى، يعبدونه بشرائع وضعوها لأنفسهم وتعبدوا بما لم يتعبدهم الله به، بترك أشياء لم يأمر الله بتركها، أو بفعل أشياء لم يأمر الله بفعلها، فلذلك تركوا ما لا يستقيم بدونه دين الناس ولا دنياهم، سواء رهبان النصارى وغيرهم من رهبان الهندوس والمجوس وغيرهم، وكذلك عباد هذه الأمة الأوائل الذين انبثق منهم المتصوفة، فإن هؤلاء وضعوا لأنفسهم من العبادات ما لم يشرعه الله من الصيام والصلاة والأذكار وغيرها، ثم إنهم أيضاً تركوا ما شرع الله فحرموا على أنفسهم وعلى غيرهم الحلال، بل تركوا ما لا تستقيم الحياة إلا به، وأعرضوا عن العلم الشرعي، بل عن العلوم كلها، وتعبدوا الله بالجهل، وظنوا أن هذا هو الصراط المستقيم، فبذلك ضلوا وأضلوا، فتعبدوا الله بترك الزواج مثلاً، وهذا مما تفسد به الحياة، ولو أن الناس كلهم تركوا الزواج لانقطعت الحياة، وتركوا مخالطة الناس بدعوى الانفراد لعبادة الله عز وجل؛ مع أن مخالطة الناس وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل والصبر على الأذى في هذه الدعوة هو الحق الذي أراده الله، فاعتزلوا الناس بدعوى أن ذلك للعبادة، فكان في اعتزالهم شر عليهم وعلى الأمة، فتركوا الجهاد وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركوا تعليم الناس والتعلم من الناس، وغير ذلك من الأمور التي أدخلها الرهبان والتي أوجدتها الطرق الصوفية التي هيمنت اليوم على أكثر الأمة الإسلامية وأوقعتها في الذل والهوان والانتكاس والجهل والبدع والخرافات، والمتصوفة قرينة الرافضة، تجتمعان على أصول كثيرة من الجهل والحمق والتعبد بغير ما شرعه الله وترك ما شرعه الله وغير ذلك مما هو معروف.
إذاً: هذه الأصناف الثلاثة تشمل جميع فرق الأهواء، وهي الأسباب الرئيسة الأولى في انحراف الأمم عموماً وانحراف هذه الأمة على وجه الخصوص، سياسات جائرة من السلاطين، ثم أحبار السوء الذين يزينون الشر للسلاطين وللناس ويصدون عن الخير باسم الشرع، ثم المتعبدة الرهبان الذين لبسوا على عوام المسلمين وعلى كثير من أبنائهم بما يظهرونه من زهد وتورع، وهو زهد كاذب وتورع كاذب.(36/6)
وجه الإفساد الكائن من ملوك الجور وأحبار السوء وأصحاب الذوق والوجد
قال رحمه الله تعالى: [فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة! وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل! وقال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف].
هذه قواعد لهؤلاء تعتبر فعلاً خلاصة مناهجهم، وقد ذكر الشارح رحمه الله هنا بأسلوب بين جلي وفي إيجاز بالغ مناهج هذه الأصناف الثلاثة، فالأولون أصحاب السياسات الجائرة قد يدعون أنهم يحكمون بشرع الله عز وجل، لكن إذا تعارضت السياسة مع الشرع قدموا السياسة، وهذا أمر واقع فيه أكثر السلاطين الجورة قديماً وحديثاً، خاصة في عصرنا، فإن أغلب الأمة الإسلامية تحكمها أنظمة وتحكمها سياسات تأخذ بهذا المبدأ، وإن اعترف بعضها بالإسلام فإنما يأخذ بهذا المبدأ، وهو مبدأ تقديم السياسة وما يسمونه بمصالح البلد والوطن، وما يسمونه بمصالح الدولة أو بمسايرة الأمم أو بمسايرة أحوال الناس إلى آخره ويقدمونه على الدين وعلى الشرع.
فهذه قاعدة عند الساسة الجورة الذين لا يأخذون بدين الله عز وجل ولا يحكمون شرع الله إلى اليوم، بل هي اليوم قاعدة واسعة أكثر من ذي قبل، فإذا كان هذا الكلام كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم ثم أخذه ابن أبي العز في ذلك الوقت؛ فكيف بوقتنا هذا.
والصنف الآخر: الذين يقوم منهجهم على اعتماد العقل مصدراً من مصادر التلقي، فإذا تعارض مع الشرع أخذوا بالعقل وجعلوا الشرع محكوماً عليه بأحكام العقل الناقص المحدود.
والفئة الثالثة: أصحاب الذوق الذين هم المتصوفة ومن نحا نحوهم كما ذكرنا، فإنهم أدخلوا في مصادر الدين ما لم يشرع، فأفسدوا الدين بهذه المصادر، وهذه المصادر هي الذوق والكشف ونحو ذلك من المصادر التي زعموا أنها تكون هي المرجع عندما تأتيهم النصوص أو الآثار عن السلف، بل إنهم قد لا يعملون بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويعملون بما يقول به شيوخهم وما يقول به سادتهم ومن يسمونهم بالأولياء حينما يهذون بهذيان قد يفسد الدين والدنيا، والعجيب أن المتصوفة حتى اليوم لا يناقشون ما يصدر عن شيوخهم، سواء كان حقاً أو باطلاً، بل ينفذونه مهما كان، حتى لو كان يتضمن الأمر بالفواحش فعلوه وتأولوا، وإذا جاءتهم الآيات لووا أعناقها وصرفوها إما برد وإما بتأول وإما بدعوى أن لها مفهوماً يرجعون فيه إلى شيوخهم.
وكذلك إذا جاءتهم الأحاديث وآثار السلف وقفوا منها هذا الموقف، فإما أن يردوا الأحاديث والآثار، وإما أن يؤولوها، وإما أن يرجعوها إلى شيوخهم ويقولون: لا نعمل بهذا الحديث أو الآية حتى نرجع إلى الشيوخ، فيكون المعول عندهم على الذوق والكشف، والذوق يتضمن أشياء كثيرة، والكشف يتضمن أشياء كثيرة، منها: الرؤى والأحلام، ومنها الهذيان عند الرقص وما يسمونه بالسماع، حتى إن بعضهم يأخذ بهذيان المخبولين، فبعض الناس يكون عندهم شيء من ضعف العقول، وهم عقلاء المجانيين أو مجانيين العقلاء، الذين عندهم نوع من الهلوسة، فهؤلاء عند الصوفية لهم خصيصة، ويزعمون أنهم لا يتكلمون إلا بحق ولا يقولون إلا حقاً، وفي مصر وفي بعض مناطق السودان يسمونهم المجاذيب، وهم أناس فيهم نوع من الجنون أو نوع من خفة العقل، فهؤلاء يتعلقون بهم ويقدسونهم فالمهم أن هؤلاء يعطون الرجال من القدر والاعتبار أكثر مما يعطون الشرع.(36/7)
شرح العقيدة الطحاوية [37]
اختلف الناس في علم الكلام، ومذهب السلف الصالح رحمهم الله والأئمة أنه بدعة وحرام لا يجوز تعلمه ولا تعليمه، وذلك لأن الصحابة تركوه ولم يأخذوا به مع قيام الحاجة إليه في عهدهم، ولكثرة شره ومفاسده، وإضاعة الوقت فيه بلا فائدة، وإثارته للشكوك والشبهات في عقائد المسلمين، ولهذا فإن أساطين علم الكلام والذين خبروه قد حذروا منه ومن تعلمه، بعدما تبين لهم فساده وبطلانه، كالإمام الغزالي رحمه الله وغيره.(37/1)
ما قاله الغزالي في حكم تعلم علم الكلام
قال رحمه الله تعالى: [ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين، وهو من أجل كتبه -أو أجلها-: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف].
قبل أن يفصل الغزالي أحب أن أنبه إلى أنه رحمه الله اضطرب اضطراباً شديداً كعادة المتكلمين الذين لا يستقرون في عقائدهم على شيء، وإن كان أنصف في كلامه هنا، لكنه اضطرب، فكلامه يشعر بوصف مذهب السلف بأنهم غلوا في رد علم الكلام أو أنهم أسرفوا في رده، ثم بعد ذلك رجح قول السلف في رد علم الكلام، ثم يرجع عن ذلك مرة أخرى في بعض عباراته، وكأنه لا يريد أن يستقر على رأي، وإن كان في الجملة -خاصة في آخر حياته، وكما هو ظاهر من غالب كلامه الذي سنقرؤه الآن- قد رجع عن علم الكلام، ورأى أن مذهب السلف هو الصحيح وهو الأسلم والأعلم والأحكم، لكن مع ذلك بقيت عنده لوثات كلامية جعلت نفسه تتعلق بعلم الكلام بعض التعلق.
قال رحمه الله تعالى: [فمن قائل: إنه بدعة وحرام، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام.
ومن قائل: إنه فرض إما على الكفاية، وإما على الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات؛ فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله.
قال: وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف.
وساق ألفاظاً عن هؤلاء.
قال: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة -مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم- إلا لما يتولد منه من الشر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء.
واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه ويثني على أربابه.
ثم ذكر بقية استدلالهم، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر، إلى أن قال: فإن قلت: فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل، فقال: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.
قال: فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل].
قبل أن نعرض كلامه في منفعة علم الكلام نحب هنا أن نستجلي أدلة السلف على تحريم علم الكلام من خلال ما ذكره الغزالي وغيره بإيجاز.
ويظهر أن الغزالي رجح أن قول السلف هو الصحيح، لكنه استثنى استثناءً كما سيأتي، بمعنى أنه يرى أن علم الكلام مضرته أكثر من منفعته، والاستثناء الذي سيورده منقوض بكلامه هو.(37/2)
موقف السلف من علم الكلام وبيان مجمل ما استخدموه في مناظراتهم من ألفاظ كلامية
نرجع إلى قول السلف وأصل هذا القول وأدلته؛ فالسلف رحمهم الله كلهم يحرمون علم الكلام، فلا يظن أحد من الناس أن هناك من أهل السنة من سلف الأمة أئمة الدين وأهل الحديث من يبيح علم الكلام أبداً بإطلاق.
وقد نجد من أقوال أئمة أهل السنة ما يشعر أحياناً باستخدام علم الكلام عند الضرورة، وهذا لا يعد دليلاً على إباحة علم الكلام، بل يعد من اللجوء للضرورة، كاستباحة الميتة عند الضرورة.
وهذا أمر لا يتعلق به واجب أو مندوب، بمعنى أننا لا نستصدر له حكم، بل ولا ينبغي أن نستثنيه بقاعدة فنقول مثلاً: علم الكلام محرم إلا عند الضرورة؛ لأن الضرورة يتفاوت الناس في تقديرها، وقد يتذرع طالب علم أو متعلم بأنه وجد ضرورة لعلم الكلام، كأن يدافع عن العقيدة، ويرد شبهات المبطلين، ثم يدخل في علم الكلام فلا يخرج إلا كما خرج أساطينه بشبهات وشكوك ومرض قلوب وفساد اعتقاد.
إذاً: فلا نُعرِّض المسلمين لما يسمى بالضرورة، وإنما ترد الضرورة في أمر يلجأ إليه العالم دون تبييت مسبق؛ كما حدث لكثير من الأئمة، فـ الشافعي ناظر بعض المتكلمين واضطر إلى أن يستعمل عبارات كلامية في موقف لم يبيته من قبل.
والإمام أحمد رحمه الله استعمل بعض الحجج الكلامية وإن كانت قليلة جداً ونادرة، فقد كان وقافاً على النص، لكن استعملها من باب ضرورة الدفع لشبهة يخشى أن تنطلي على العامة، أو على الناس، أو على الحاضرين أثناء المناظرة.
فكان يدفع شبهتهم بأسلوب كلامي لضرورة طارئة ما بيتها الإمام أحمد من قبل، فقاعدته سالمة وباقية لم ينقضها إلا لضرورة طرأت.
كذلك من جاء بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أكثر من استعمال الأساليب الكلامية ورد علم الكلام بأصول أهله، ورد قواعد المتكلمين بعضها ببعض، وهذا أيضاً ضرورة لم تلجئ الإمام ابن تيمية ولا غيره إلى أن يجعلها فتوى، إنما اضطر إليها حينما احتسب وقته وجهده وعلمه في هذا السبيل، ولم يبح ذلك للناس أو يفتحه كقاعدة أو فتوى.
إذاً: فيبقى الأصل عند السلف وأئمة أهل السنة قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا أن علم الكلام حرام، والاطلاع على كتبه حرام، ولا يلجأ إليه بدعوى الضرورة إلا من متخصص في موقف يعرض له، فيستعمل أساليب كلامية، أو يطلع على كتب أهل الكلام للرد عليها، فهذا أمر يقدره العالم المتمكن، ولا يكون بمثابة الفتوى أو المنهج الذي يقرر كما يميل إلى ذلك بعض طلاب العلم عن جهل في عصرنا الحاضر.(37/3)
أدلة السلف على تحريم علم الكلام(37/4)
سكوت الصحابة وإعراضهم عن علم الكلام مع قيام داعي الحاجة إليه
نرجع إلى أدلة تحريم السلف لعلم الكلام، ونبدأ بما ذكره الغزالي: أولاً: قالوا: لأن هذا الأمر سكت عنه الصحابة، مع أنهم كانوا بحاجة إليه، ولا يظن ظان أن الصحابة لم يحتاجوا إلى علم الكلام، بل احتاجوا إليه إبان الفتوح، واحتاجوا إليه قبل ذلك في جدال اليهود والنصارى والمنافقين، يعني: حدثت أمور تقتضي استعمال علم الكلام فلم يستعملوه، فأقوال النصارى في القدر كانت حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بها، وكان القرآن يتنزل في الرد عليها دون استخدام أساليب كلامية، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين ومع اليهود ومع النصارى من المحاجة كان يلتزم فيه أصول الشرع والوحي، ثم ما فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك في آخر عهد الخلفاء الراشدين واجه المسلمون أمماً كلها عندها فلسفات، وعندها قواعد كلامية، وكان من مقتضى الواقع أن يفتحوا لأنفسهم باب علم الكلام فيجادلوا اليهود بأصولهم الكلامية والنصارى بأصولهم الكلامية، والمجوس بأصولهم الكلامية، والصابئة بأصولهم الكلامية، لكن لم يفعلوا ذلك، إنما كانوا يقيمون الحجة الشرعية، ولا يجادلون إلا بحدود تلتزم بالضوابط الشرعية، ولا يتعمقون في رد أقوال الخصم، بل يردون أقوال الخصم بالأدلة الشرعية والأدلة العقلية المبنية على الأدلة الشرعية؛ لأن الأدلة الشرعية جاءت بالأدلة العقلية كما ذكر أهل العلم، وليست الأدلة الشرعية خالية من الأدلة العقلية، فما من شبهة رئيسة في الأمم قديماً وحديثاً إلا ونجد في القرآن رداً عقلياً عليها، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة.
إذاً: فلا يقال: إن الصحابة لم يواجهوا الفلسفات فيستعملوا علم الكلام، بل واجهوا الفلسفات، لكنهم سدوا باب الكلام والمراء والجدل إلا بالتي هي أحسن وبالأصول الشرعية.
إذاً: فما سكت عنه الصحابة يلزم المسلمين السكوت عنه إلى قيام الساعة، خاصة في الأمور الغيبية العقدية، وقبل ذلك ما سكت عنه الشارع، ما سكت عنه القرآن والسنة، مع أن الصحابة أعرف بالحقائق، يعني: حقائق الوحي، سواء ألفاظه ومعانيه، فالصحابة ليسوا كما يظن كثير من الناس أنهم إنما انشغلوا بالفتوح وليس عندهم تعمق في العلميات، ولا عندهم تعمق في المعارف، هذا ليس بصحيح، بل عندهم من القدرة العقلية والقدرة على التعمق ما ليس عند غيرهم، لكنهم وقفوا حيث أمروا أن يقفوا، والله عز وجل أمرهم ألا يسألوا عن أشياء، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا عن أشياء من ضمنها هذه الفلسفات وهذه الكلاميات، فهم أعرف بالحقائق -أي حقائق كلام الله وحقائق الوحي- وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم.(37/5)
جناية الشرور والمفاسد من علم الكلام
الدليل الثاني: ما يتولد عن علم الكلام من الشر، كالشكوك والشبهات والاستهانة بكلام الله عز وجل، وتعريض الوحي لكثرة الخوض فيه ممن ليسوا من أهل العلم من المجادلين المماحلين والمرائين، ثم ما ينتج عن ذلك من تلويث قلوب الناس بالشكوك والشبهات والريب في دين الله عز وجل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون).
وهذا أمر ثابت، وهو أن التنطع في الدين لا يجوز، ومن التنطع البحث والاستقصاء في أمور الغيب، وأمور الدين وعلل الشرع، ونحو ذلك مما لا يدركه أحد أو لا يدركه إلا الراسخون في العلم.(37/6)
انقطاع صلة علم الكلام بالدين لترك الأمر به
الدليل الثالث: أن بحث المسائل الشرعية بقواعد عقلية وفلسفية لو كان من الدين لأمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون من لوازم الدين، ثم لا يبين لنا ولا نؤمر بالأخذ به، فكيف وقد نهينا عن الأخذ به أشد النهي؟!(37/7)
إضاعة أوقات المسلمين وفتح أبواب الشبهات
وأخيراً: ثبت بالاستقراء التاريخي -وهذا أمر قاطع-: أن علم الكلام لم يأت بخير، فمنذ أن بدأ أهل الأهواء يشتغلون بعلم الكلام فتحوا على المسلمين أبواباً من الشر: أولاً: من حيث إدخال الشبهات والشكوك على طوائف المسلمين، فضلوا وخرجوا عن السنة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ثانياً: أشغلوا أهل العلم بما هو أولى، فكم من الطاقات والجهود -جهود أهل العلم- قد بذل! بل إن مما بذلوه أموالهم وأرواحهم في سبيل حماية العقيدة، والتصدي لأهل الكلام وأهل الباطل وأهل الهوى؛ الأمر الذي صرف المسلمين عما هو أهم من تأصيل العقيدة ونشرها، والاهتمام بتربية المسلمين وإعدادهم، والاهتمام بالجهاد، وغير ذلك.
فالطاقات التي أهدرت في سبيل دفع هذه الشرور من علم الكلام وغيره من السلف وأئمة المسلمين لا تكاد تتصور، فبعض العلماء قد يكون أفنى عمره إلا القليل في سبيل التصدي لهذه الآفات، وهذه المصائب التي جرها علم الكلام على المسلمين.
ولنستعرض على سبيل المثال أنموذج الإمام أحمد في أعظم محنة امتحن بها في حياته، وهي أعظم محنة في تاريخ الإسلام بعد محنة الصحابة، وهي المحنة في قضية خلق القرآن، فهي قضية باطلة من منشئها، وابتليت الأمة بها بلوى عظيمة، فأشغلتهم عن الجهاد، وأشغلتهم عن العلم الشرعي، وأشغلتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشغلتهم عن تحقيق أمر الله ووعده، ووقع بذلك من الشر العظيم ما بقي جراحاً في الأمة إلى يومنا هذا.
ومثال آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ما أعطاه الله من طاقات ومواهب، فقد قضى تسعين في المائة من عمره وحياته في الرد على أهل الأهواء، وقد جاهد الجهاد العملي بعض الوقت، لكن شغله جدال أهل الكلام والتأليف فيهم، والتصدي لأهوائهم، وشغل أكثر وقته، حتى نسي نفسه ونسي شيئاً من الأمور الضرورية، ولو انشغل بتأصيل العلم الشرعي -مع أن الله نفع به في التأصيل نفعاً عظيماً- لأثمر ثمرة عظيمة، مع أنه بذل خيراً، لكن أقصد أن هذا الخير الذي بذله كان في سبيل صد تيارات الشر التي ملأت الدنيا في ذلك الوقت.(37/8)
بيان الغزالي أن علم الكلام عديم النفع طريق إلى الضلال
قال رحمه الله تعالى: [قال: وأما منفعته؛ فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف.
قال: وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا].
وبهذا تعلم أن عدداً كبيراً ممن تلوثوا بشيء من علم الكلام في حياتهم بقيت هذه اللوثة في عباراتهم وفي أحكامهم، فـ الغزالي رحمه الله مع أنه رجع عن علم الكلام والفلسفة والتصوف، وسلم بمذهب السلف في آخر حياته، إلا أنه بقيت عند هذه اللوثة.
ويلحظ هنا الاضطراب في هذه العبارات، فهو حينما قال: (وأما منفعته)، يظن أنه سيأتي بمنفعة لعلم الكلام، ولم يأت بمنفعة، بل رد هذه المنفعة وأبطلها.
ثم إنه ذكرها بصيغة التمريض، أو صيغة التضعيف، فقال: (فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها)، وهذا مما يدل على أنه جازم في قرارة نفسه بأنه ليس في علم الكلام منفعة، لكن نظراً لأنه قضى أكثر عمره في علم الكلام بقي عنده شيء من الاضطراب.
ثم إن قوله هنا: (وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي) من لمز المتكلمين لأهل السنة، وكنا نظن مثل الغزالي حينما تراجع عن قوله في الكلام، وسلم لمذهب السلف ألا يستعمل هذه العبارة التي يستعملها خصوم السلف.
فكلمة حشوي تطلق من قبل خصوم السلف على أهل الحديث أهل السنة والجماعة، ويقصد بها الذين أطلقوها أولاً أن أهل الحديث أهل حشو، ليسوا أهل تعمق ولا تفكير، إنما يهمهم حشو الآثار وحشو الحديث، وحشو الكلام! وهذا ظلم واعتداء وخلل في التصور، فأهل السنة أهل العلم وأهل الحديث ليس فيهم حشوي ليس عنده تعمق في العلم والمعرفة، بل هم أعمق الناس معرفة، لكنهم يتحاشون الفلسفات والمراء والجدل، فلذلك ظن خصومهم أن هذا ناتج عن قصور أو عن تقصير، أو عن غفلة، والأمر ليس كذلك، إنما هو عن تورع ووقوف عند أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(37/9)
تحذير من خبير بعلم الكلام
قال رحمه الله تعالى: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق].
فناقض نفسه هنا.
قال رحمه الله تعالى: [وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور.
انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله].
في الحقيقة هذا كلام عظيم، والرائد لا يكذب أهله، وكنا نتمنى أن يعي هذه النصيحة أهل الكلام الآن من إمام من أئمتهم ممن رجع عن الكلام وتاب منه، وهذا الكلام حقيقة يكتب بماء الذهب، أعني كلام الغزالي، وليت الذين يتمسكون الآن بعلم الكلام ويمدحون أهله، ويستحسنون سبيله كبعض الكتاب المتأخرين الذين ينتصرون للمؤولة وأهل الكلام؛ ليتهم يعون مثل هذا الحكم الذي حكم به الغزالي بعد تجربة طويلة، عاش فيها غمار الكلام وخاض بحاره، بل أسهم في تأسيسه وتأييده، وبذل من الجهود والأوقات الشيء العظيم في الانتصار لعلم الكلام، ثم ينتهي بهذه النتيجة المؤلمة بالنسبة له.
فقوله: (فاسمع هذا ممن خبر الكلام) يقصد به نفسه (ثم قلاه) يعني: اختبره أتم الاختبار (بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل) في علم الكلام (إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك أيضاً إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام)، وهو التصوف وما يتفرع عنه، ثم الفلسفة أيضاً، فقد تعمق في الفلسفة، وجمع كل الوسائل التي تفيد في تأسيس علم الكلام، (وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود)، فليتهم يعون.
وليس هذا كلام الغزالي فقط، بل قاله -كما قلت سابقاً- أكابر المتكلمين الذين أسسوا علم الكلام الذي يعيش عليه المتكلمون الآن من الأشاعرة والماتريدية، كلهم قالوا بهذا النتيجة.
والعجيب أن أسلوبهم يكون في الغالب أسلوباً مؤلماً ومؤثراً ومحزناً، أسلوب الذي أضاع عمره وأشفق على الأمة أن تضيع عمرها في مثل ما فعل، كما سيأتي بعد قليل من كلام الجويني ومن كلام الرازي وكلام الشهرستاني وغيرهم، كلهم يتكلمون بحرقة وحسرة، وبكلام الناصح المشفق.
ولو تأملنا كلامه لوجدنا فعلاً أنه كلام الذي أراد النصيحة لقومه في وقته وبعد وقته، ولكن هل يعون؟! قال رحمه الله تعالى: [وكلام مثله في ذلك حجة بالغة، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق.
ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل: لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر لا المغني ولا العمد يحللون بزعم منهمو عقداً وبالذي وضعوه زادت العقد فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك].(37/10)
من أحسن ما رد به على أهل الكلام
أحسن ما قرأت في الرد على المتكلمين بعد كتاب الله عز وجل وبعد ما عليه السلف من ردود عامة الناس الذين ليس عندهم تعمق، وهو رد فطري يمكن أن يستعمل دائماً في الرد على المتكلمين؛ هو رد تلك العجوز التي رأت الرازي وهو يمشي مع تلاميذه من المغترين به الذين يكتبون ما يقوله من هذيان الفلاسفة، فلما رأته وكانت جالسة بباب بيتها عجبت، وقالت: من هذا؟ قالوا: ألا تعرفينه؟! قالت: أهو السلطان؟! قالوا: لا، قالت: أهو الوزير؟! إلى آخره، تصورته من أصحاب الوجاهة الذين يكون معهم مواكب، فقالوا: هذا الذي يملك على وجود الله ألف دليل! فقالت: تعس وخسر، والله إن كان ذلك فعنده ألف شبهة أو ألف شك، أفي الله شك؟! فالمسألة معناها: أنه تكلف في الشكوك ثم تكلف الرد عليها، وقد قال بنفسه في كتابه (التفسير الكبير)، بأن أكثر معضلات أهل الكلام لا يمكن الرد عليها، وإن ردوا عليها فيستطيع الراد أن ينقض رده.
ولذلك كثيراً ما يورد بنفسه شبهة ثم يرد عليها ثم ينقض ردها، ويقول: ويرد على هذا كذا وكذا، ويشكل على قولنا هذا كذا وكذا، فيقف ولا يرد، مع أن أكثر الشبهات لا يرد عليها ابتداء، لكن إن رد أوقع القارئ في مشكلة أو معضلة، وشك في رده، ثم انتهى إلى الحيرة، وأخيراً اعترف بما سيأتي.(37/11)
شرح العقيدة الطحاوية [38]
علم الكلام علم لا فائدة منه؛ مؤداه إلى الحيرة والاضطراب والتذبذب، وينتهي أمره إلى الإفلاس والضلال في دين الله تعالى، وقد عرف هذا الأمر أساطينه الكبار، ولذلك رجع بعضهم في آخر أمرهم إلى منهج السلف لما انتهوا إلى الحيرة والاضطراب، وعليه فمن المحال أن يحصل بهذا العلم هدى وعلم ويقين، ومن رام ذلك فلن يجده إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(38/1)
وجوب اعتماد كلام الله ورسوله وترك آراء أهل الكلام وأصولهم
قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين].
يقصد بهم أهل الكلام؛ لأنه لا يزال الحديث عن المتكلمين، والمتكلمون هم الذي يخوضون في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته عز وجل، وفي مسائل العقيدة وسائر أمور الغيب والأخبار ونحوها، يتكلمون عنها بمجرد الظنون والأوهام والفلسفات والعقليات، ولا يلتزمون ما ورد في النصوص الشرعية.
قال رحمه الله تعالى: [بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد.
وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أُخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.
مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معان: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك].
الطبائع الأربع في عرف المتقدمين هي الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.
الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهولي والصورة، كالخاتم مثلاً، هيولاه الفضة وصورته معروفة].
الهيولى هنا المقصود بها المادة الأساسية الأولية للشيء في عرف الأولين، أو ما يسمى بالمادة الخام في عرفنا.
قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه.
والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة.
ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً؛ فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً؛ لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟! هذا محال.
فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟! ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
وسبب الضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة.
وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام؛ لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس.
وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول؛ فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً].(38/2)
قياس أهل الكلام ما يتعلق بالله على عالم الشهادة من أسباب خوضهم المذموم
خلاصة هذا المقطع: أن أهل الكلام الذين خاضوا في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته عز وجل وخاضوا في أمور الغيب؛ كان من أهم أسباب خوضهم في هذه الأمور أنهم قاسوا أفعال الله وصفاته وذاته على ما يعرفونه من عالم الشهادة، أي: من المخلوقات، فلذلك جاءوا بمسألة التركيب والجسمية والتحيز والجوهر والجهة.
ويقصد بذلك أن الذين عطلوا أسماء الله وصفاته، أو الذين عطلوها وأولوها لهذه العلل؛ فزعموا أن بعض ألفاظ أسماء الله عز وجل أو صفاته تدل على التركيب فنفوها أو أولوها.
وبعضهم زعم أنها تدل على الجسمية، فبعض أسماء الله وصفاته قالوا فيها: هذه تدل على الجسمية، أو تشعر أو توهم -بتعبيرات مختلفة منهم- فنظراً لذلك تنفى عن الله عز وجل أو تؤول، وكذلك التحيز والجوهر والجهة والعرض وغيرها من الألفاظ.
فالمقصود: أن الذين عطلوا أسماء الله وصفاته -كالجهمية- أو الذين أولوها -كالمعتزلة- ثم الذين ورثوا التأويل عنهم -وهم الأشاعرة والماتريدية- إنما نفوا أسماء الله وصفاته وعطلوها وأولوها بدعوى أنها تنطبق على هذه المصطلحات، وهذا كله رجم بالغيب، بل هو قول على الله بغير علم، فإذا جاز أن تنطبق هذه الأمور على ألفاظ صفات المخلوقات؛ فلا يجوز ذلك في حق الله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
فأسماء الله وصفاته وأفعاله تثبت له تعالى على ما يليق بجلاله، ولا يمكن أبداً بحال من الأحوال أن توهم المشابهة؛ لأن حقائقها تختلف، بل تغاير كل المغايرة حقائق خلق المخلوقات.
والطبائع الأربع التي ذكرها هنا هي الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة، ويقصدون بذلك أن هذه الصفات يتكون منها الحيوان، سواء الإنسان والحيوانات الأخرى ذات الأرواح.
وزعموا أن كل صفة تدل على عضو أو توجد في المخلوق فإنها صفة مركب، فمن هنا نفوها عن الله عز وجل بدعوى أنها تفيد التركيب، كاليد والعين إلى آخره.(38/3)
موقف الغزالي وابن رشد من الفلسفة وعلم الكلام
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً): (يتذبذب): يضطرب ويتردد.
وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله تعالى حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!].
(تهافت التهافت) رد به ابن رشد على الغزالي، فـ الغزالي الملقب بحجة الإسلام عاش في أول نشأته مع الفلسفة والفلاسفة وأعجب بهم، ثم ترك الفلسفة واعتنى بعلم الكلام على مذهب المتكلمين، وفي هذه الأثناء رد على الفلاسفة بكتاب اسمه (تهافت الفلاسفة)، فرد عليه ابن رشد الحفيد بكتاب سماه (تهافت التهافت)، انتصاراً لمذهب الفلاسفة، وكل من الرجلين ترك الفلسفة وأعرض عنها، بل ترك حتى علم الكلام وأعرض عنه، فـ ابن رشد الذي كان ينتصر للفلاسفة ترك الفلسفة، وأعرض عنها وحذر منها، والغزالي الذي كان فيلسوفاً ترك الفلسفة، وبعد أن انتقل إلى علم الكلام وعاش فيه فترة من عمره تركه ونزع إلى التصوف، ثم لما تعمق في التصوف وجد فيه زلات كباراً، وأدرك أن فيه ما قد يوصل إلى الكفر، فأعرض عن هذه المذاهب كلها، وسلم تسليم العجائز، ومات على هذا المذهب.
أما ابن رشد الحفيد فقد أكب على الفقه والعلوم الشرعية، وترك الفلسفة، ولم يكن يوماً من الأيام متكلماً، بل كان يرد على المتكلمين في حياته الأولى الفلسفية، وفي حياته الثانية عندما كان فقيهاً ينزع إلى الفقه، لكن مع ذلك يقول ببعض مذاهب المتكلمين في الصفات وغيرها، بما يخالف أصول المتكلمين التي قننوها وأصلوا فيها بدعهم في التأويل والتعطيل.
وله في ذلك رد عظيم جداً وجيد لا يكاد يوجد عند غيره، حتى كان شيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعده كثيراً ما ينقلون عن ابن رشد في رده على أهل الكلام، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه ما رئي أقوى في رد علم الكلام والرد على أهله من كلام ابن رشد.
والكلام هنا ممتد، وبعضه مرتبط ببعض، لكن سنستعرض بعض المسائل، ولعلنا نعيد الدرس مرة أخرى، فأرجو ألا ننسى؛ لأنه مترابط يحتاج إلى وقت طويل.
والكلام على المتكلمين أمر يحتاج إلى الرجوع إلى أصول أهل السنة والجماعة، وما خالفها من أصول المتكلمين؛ لإثبات التذبذب والشك والحيرة والوسواس والتكذيب والجحود الذي وقع فيه المتكلمون وأشار إليه الشارح هنا.
ومن أراد أن يستفيد ويستعجل الفائدة فليرجع إلى درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة (159) وما بعدها، فسيجد العجب العجاب، فما هذا إلا خلاصة موجزة جداً مما وجد في ذلك الكتاب.(38/4)
تذبذب أهل الكلام وانتهاء أمرهم إلى الإفلاس
قوله: (يتذبذب بين الكفر والإيمان) هذا أحسن وصف لحال المتكلمين كما ذكر الشارح؛ لأن المتكلمين يزعمون أنهم على السنة، وهم يختلفون عن الفلاسفة الخلص كـ ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم ممن لا يتورعون عن إظهار احتقار الشريعة، واحتقار الأنبياء، فهم كالمستشرقين، فالفيلسوف يعترف بجوانب العظمة في الرسالة النبوية، وبما يبهر ظاهراً، ويقوله ويعتز به، لكنه لا يخضع للوحي ولا يسلم له، ويحصر الشرائع في أنها ظواهر تصلح لعامة الناس، وليست على مستوى العباقرة والمفكرين والعباد الكبار، هذا فهم الفلاسفة للإسلام وللدين والوحي.
فهم يعتبرون الوحي مفيداً، والشرائع مفيدة وهامة، لكنها لعامة الناس؛ لأن الأذكياء أمثالهم -كما زعموا- والعباقرة وكبار العباد وكبار الصوفية يستغنون عن الشرائع، وهؤلاء أرقى عند الفلاسفة من الأنبياء، ومذاهبهم أرقى من النبوة، وسلوكهم أرقى من الشريعة، ويصرحون بذلك، وليس عندهم في ذلك أي تحفظ، كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض والفارابي والسهروردي وكذلك ابن عربي، وابن عربي من أفصحهم في هذه المسألة في كتبه التي كتبها في هذه الأمور.
أما أهل الكلام -وهم محل الحديث هنا- فإن عندهم شيئاً من اللبس، فهم يقدسون الشرع ويقدسون الوحي ويقدسون الدين، ويعتبرون للأنبياء منزلتهم، ويعترفون بمبدأ الخضوع للشرع وللدين، لكنهم يزعمون أن الشرع لابد أن يأتي بما يوافق العقل، أي: يضعون للعقل الاعتبار الأول، فمن هنا إذا جاءت بعض المسائل أو النصوص أو القضايا التي يرون أن العقل لا يستوعبها وقفوا فيها حائرين، فلا يثبتونها كما أثبتها الوحي، ولا يستطيعون أن ينفوها نفي التكذيب والجحود كما فعلت الجهمية وغلاة الفلاسفة، فيقفون حائرين؛ إذ لا يعترفون بالنص لأنه يخالف قواعدهم العقلية؛ ولا يستطيعون رده لأنه يخالف عقائدهم في الشرع من حيث إنه عندهم حق وصدق، فمن هنا وقعوا في الاضطراب.
وما من متكلم من المتكلمين الكبار هذا مبدؤه إلا وينتهي أمره بالحيرة وإعلان الإفلاس، والخضوع للشرع الخضوع المطلق، لكن بعد فوات الأوان؛ لأنهم تشبعت أفكارهم وعقولهم بعلوم وافدة طارئة محدثة، فلما أرادوا تصحيحها لم يتمكنوا، فسلموا تسليم العجائز كلهم، الرازي، والغزالي، والجويني، والشهرستاني، والخسروشاهي وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم، كلهم ينتهون بالتسليم الفطري، أو تسليم العجائز الذي ليس فيه قدرة على إدراك التفاصيل.(38/5)
ضرر التشبع بما يخالف الكتاب والسنة من العلوم
وقد يقول قائل: كيف وهم أذكياء وعباقرة، وأخذوا علوماً منها العلوم الشرعية وتبحروا فيها، كيف لا يدركون تفاصيل العقيدة ويستوعبون ما جاء عن السلف؟
و
الجواب
أن المتأمل لحالهم يجد أنهم هم وأمثالهم ممن تشبع بعلم يخالف الكتاب والسنة قبل أن يستوعب العقيدة السلمية ويستوعب نصوص الشرع على نهج سليم، وتشبع بأفكار تخالف الكتاب والسنة أياً كانت، سواء كانت فلسفية أو أدبية أو تاريخية أو فكرية أو ثقافية أو غير هذا، يجد أنهم لابد من أن تؤثر تلك العلوم في أفكارهم وسلوكهم، حتى ولو استقاموا وتابوا، وأن تبقى آثارها فيهم إلى أن يموتوا، إلا النادر، والنادر لا حكم له، مع أن النادر استثناء؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير.
أما التاريخ فلم يثبت لنا أن أحداً ممن تشبع بعلم غير الكتاب والسنة، ثم رجع الكتاب والسنة بقي سليماً أبداً، ولنأخذ مثالاً واحداً: فمن أصدق من رجعوا عن مذاهبهم الباطلة إلى الكتاب والسنة وأبلوا في ذلك بلاء حسناً أبو الحسن الأشعري رحمه الله، من أصدق من قرأنا له، وسمعنا عنه وعرفناه في التاريخ، واعترف له السلف بصدق رجعته، فقد كان معتزلياً تشبع بالاعتزال حتى الثمالة، وفجأة تاب من الاعتزال وتصدى للمعتزلة وأفحمهم، ويعتبر هو الرجل الثاني بعد الإمام أحمد رحمه الله في قمع الجهمية والمعتزلة.
ومع ذلك بقيت عنده آثار كلام المعتزلة إلى أن مات، بقيت في مذهبه حتى إنها صارت تكأة للأشاعرة، فدخلوا من سم الإبرة ووسعوه حتى كان أوسع من الباب، وظهر ذلك في نزعته في أفعال الله عز وجل، وكلام الله عز وجل موافقاً في ذلك ابن كلاب، وكذلك نزعته في علم الكلام، حيث قال: إن علم الكلام قد يفيد في رد شبهات المبطلين فقط.
فهو يرفض أن يقرر الدين بعلم الكلام رفضاً قاطعاً في كتاب (الإبانة) و (الرسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما، فإنه كان يرفض علم الكتاب رفضاً قاطعاً، لكن يقول: إنه قد يفيد في رد شبهات المبطلين.
وقد خالفه السلف حتى في هذه، فقالوا: لا يجوز تعلم علم الكلام وإن كان قد يفيد، لا يجوز أن نضع قاعدة أو فتوى في تعلم علم الكلام، أو أنه مشروع تعلمه.
وهو خالف في هذه المسألة، ورأى أنه يمكن أن يتعلم علم الكلام من أجل الرد على المتكلمين، وحصل له في ذلك موقف مشهور حينما عارضه في ذلك إمام السنة في ذلك الوقت البربهاري مع ضعف القصة المشهورة، فضيق عليه وطرد من بغداد بسبب إصراره على أن علم الكلام قد يفيد، مع أنه يرى من حيث الاعتقاد أن علم الكلام كله باطل.
أقول: هذا شاهد على أنه لا يعرف أن أحداً تشبع بعلم غير الكتاب والسنة ثم رجع إلى الكتاب والسنة، وتاب من ذلك وسلم من أثر وغوائل العلم الذي تشبع به.
وهذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار من المضطربين، مع أن بعضهم من البحور في العلوم الشرعية الأخرى، تجد الواحد منهم في الفقه وأصول الفقه والتفسير إماماً، بل بعضهم أئمة في الحديث، ومع ذلك تجد فيه نزعة الكلام، فإذا رجع عن علم الكلام لا يهتدي إلى مذهب أهل السنة، لنقاوته وصفاوته ووضوحه وبيانه؛ لأنه قد يكون ذلك -والله أعلم- نوعاً من العقوبة على البدعة، وإن تاب وصلحت حاله.(38/6)
شرح العقيدة الطحاوية [39]
منتهى علم الكلام هو الاضطراب والحيرة والتردد، وهذا هو حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، وقد عرف هذا الأمر حق معرفته كبار علماء أهل الكلام كالآمدي والغزالي، ومن الفلاسفة ابن رشد وغيره، وهذا من أقوى ما يدل على بطلان هذا العلم وفساده.(39/1)
وصف حال أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً)].
هذا الوصف وصف حال أهل الكلام، الذين تكلموا في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي قضايا الغيب والأخبار الغيبية والسمعيات وأمور العقيدة التوقيفية بمجرد عقولهم وقواعدهم الفلسفية والعقلية، ولم يلتزموا أدب الكتاب والسنة في التسليم لله تعالى، والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا ما أمر الله به من ترك الجدل والمراء في أمور الغيب.
فخاضوا فصار خوضهم كلاماً، بمعنى: أنه ليس بوحي ولا بحق ولا بسنة، إنما هو كلام، فسموا بأهل الكلام، وهذا وصف حالهم، أي: وصف أوضاعهم الخاصة، وصف نفوسهم واضطراب عقولهم كما سيأتي تفصيله.
قال رحمه الله تعالى: [يتذبذب: يضطرب ويتردد.
وهذه الحالة التي وصفها الشيخ -رحمه الله تعالى- حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك].(39/2)
الرد على شبهة المتكلمين في الجمع بين ما ورد في الكتاب والسنة ومقررات العقول
قبل أن يأتي بالأمثلة نقف عند هذه المسألة وقفة يسيرة حول إشارته إلى أن شبهة المتكلمين الذي خاضوا في أمور العقيدة وأمور الغيب أنهم أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد في الكتاب والسنة، وبين مقررات العقول، زعماً منهم بأنه ما دام الكتاب والسنة لا يعارضان العقول؛ فلابد من الجمع فيما يظهر التعارض بينهما فيه.
وهذا أمر مبني على تصور فاسد أصلاً، وسيأتي سبب هذا التصور الفاسد في ذكر حالهم، فهو مبني على قولهم بأن هناك من مقررات العقول ما يتعارض مع ما ورد في الكتاب والسنة، وأنه لابد من الجمع بين هذا التعارض، فلما أرادوا الجمع ما جعلوا الكتاب والسنة هما الحكم، إنما جعلوا مقررات العقول هي المحتكم، فما وافقها أخذوا به بزعمهم وظنهم، وما خالفها من الكتاب والسنة أولوه.
مع أن الأصل -كما سبق- أنه لا يتوهم أبداً، ويستحيل في ضوء الفطر والعقول السليمة أن يكون هناك تعارض بين ما جاء في الكتاب والسنة وبين العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ لأن هذا من أمر الله وخبره، وهذا من خلق الله، ولا يمكن أن يتعارض خلق الله مع أمره وخبره أبداً.
إذاً: قد يرد التعارض، بمعنى أنه قد يظن ظان أن هناك تعارضاً، فإذا ورد فإنما هو شبهة في ذهن المتوهم، وهذه الشبه تحتاج إلى دفع، وأسلوب دفعها ليس الجمع بين الكتاب والسنة وبين أوهام البشر، بل رد كل ما يرد عن البشر إلى الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب السنة أخذنا به، وما لم يوافقهما رددناه، وما أشكل علينا توقفنا فيه، على أن نسلم بأن ما جاء في الكتاب والسنة حق، وأن سبب الإشكال هو قصور عقولنا عن إدراك معاني الكتاب والسنة.
إذاً: لا يمكن أن هناك تعارض، وإذا تصور أحد من الناس أن هناك تعارضاً بين الكتاب والسنة وبين ما في ذهنه وعقله أو ما يسمعه ويقرؤه؛ فإنما هذا توهم في ذهنه وفي عقله القاصر لا في الوحي، ولا يمكن أن يكون الوحي محكوماً عليه أبداً بقصور البشر وزبالة أذهانهم؛ لأن الله عز وجل كامل، وكلامه كامل، والوحي جاء من الله، وهو معصوم، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يقول، والمعصوم لا يمكن أن يتطرق إلى ذهنه الخطأ والنسيان والسهو، فضلاً عن ضعف الرأي أو القول بما يتعارض مع العقول.
إذاً: فالمتهم هو عقل البشر المحدود قطعاً، ولا يمكن أن يرد النقص أو التقصير في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا سلمنا بهذا المبدأ -وهو مقتضى الإسلام، ومقتضى التسليم والإيمان- فإنا سنحكم بأن كل كلام جاء في هذه الأمور بغير ما ورد في ألفاظ الكتاب والسنة إنما هو باطل قطعاً، وإن التبس فيه الحق بالباطل فهذا الالتباس يفصل فيه، فيرد الحق إلى الكتاب والسنة، والباطل يرد على أهله، ويرد على صاحبه.(39/3)
عظات وعبر من أقوال وأحوال الفلاسفة وعلماء الكلام(39/4)
مقولة ابن رشد فيما قيل في الإلهيات
قال رحمه الله تعالى: [كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه: (تهافت التهافت): ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!].
قول ابن رشد هذا في الحقيقة قاعدة عظيمة، قال بها رجل عاش الفلسفة دهراً من عمره، بل إنه بذل مهجته وخلاصة عمره ووقته في خدمة الفلسفة والدفاع عنها، حتى إنه رد على الغزالي الذي يسمى بالحجة، رد عليه حينما كتب كتابه المشهور: (تهافت الفلاسفة)، فرد ابن رشد عليه بتهافت التهافت؛ انتصاراً للفلسفة ولأهلها وأصحابها، وانتهى به المطاف إلى إعلان إن الفلسفة لا فائدة فيها البتة، بل إنه نفى أن يكون هناك من قول الفلاسفة كله ما يعتد به على الإطلاق، لذلك قال هذه الكلمة العظيمة التي لو قيلت من خصوم الفلاسفة لقيل بأنها مبالغة، ولقيل بأنها تهور وحكم قاس.
لكن قالها فيلسوف عاش الفلسفة وانتصر لها، وكتب فيها وعرفها عن جدارة عند المتخصصين، وأخيراً يعلن الإفلاس ويقول قوله هذا، بل إنه ألف كتاباً عظيماً في الرد على المتكلمين، وهذا الكتاب موجود، ويعتبر أعظم رد على المتكلمين، حتى أفاد منه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ونقلا عنه كثيراً، مع أنَّه فيه ما فيه، لكنه نظراً لأنه مارس الفلسفة وعايشها، ثم مارس علم الكلام وعايشه؛ رد على هؤلاء وهؤلاء، وانتصر للحق، وإن كان لم يوفق في كثير من الأمور، لكنه أجاد في إقامة الحجة العقلية على المتكلمين والفلاسفة ورد عليهم، ونسف أصولهم بمعاولهم التي بنوا بها تلك الأصول؛ وذلك في كتابه المشهور: (الكشف عن مناهج الأدلة)، وهذا الكتاب مطبوع وموجود، ويعتبر في رده على المتكلمين أعظم رد عرف إلى يومنا هذا بعد رد شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول في عبارته المشهورة: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! بمعنى: أن كل ما قيل في الإلهيات غير ما في الكتاب والسنة لا يعتد به، وهذا حق، والإلهيات هي تعبير عن أمور العقيدة التي تتعلق بالله عز وجل في ذاته سبحانه، وأفعاله وصفاته وأسمائه، ومن الإلهيات: الأخبار الإلهية الأخرى التي وردت فيها أمور الغيب.
وابن رشد هذا رحمه الله حسنت حاله في آخر حياته، وانكب على الفقه، وطلب العلم الشرعي، وأجاد فيه وأفاد وصنف، وكان يكتب فيه مصنفات جيدة ومفيدة إلى يومنا هذا، ومن أهمها (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه في المذاهب، وفي ترجيح الأقوال، وهو من أحسن الكتب التي يقرؤها طلاب العلم اليوم.(39/5)
حيرة الآمدي في المسائل الكبار
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر].
الآمدي من أعقل أهل زمانه بأمور المتكلمين، وأفضلهم في علم الكلام، وله أيضاً إسهام جيد في العلوم الأخرى، خاصة في أصول الفقه، له إسهام جيد، وغالب المتكلمين الذين كانوا من الفقهاء كانوا فيما يتعلق بالعلوم الشرعية ممن أجادوا وأفادوا، ولهم إسهام طيب، مع أن عليهم أخطاء وملاحظات، لكن اجتهاداتهم في الغالب توافق اجتهادات الأئمة، كـ الجويني أبي المعالي وابن رشد والآمدي وغيرهم.
كل منهم له إسهام في العلوم الشرعية، لكن حينما أخذوا نفس المقاييس والموازين العقلية التي اجتهدوا بها في نصوص الشرع وطبقوها على نصوص العقيدة أخطئوا وابتدعوا ووقعوا فيما وقعوا فيه.
فـ الآمدي واقف في المسائل الكبار، أي: كبار المسائل الكلامية فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته في العلو والفوقية والرؤية، وما يتفرع عن هذه المسائل، وكذلك بعض مقدمات الكلام التي تكلموا فيها، مثل الكلام عن العرض والجوهر والجسم والمباينة والمفاصلة والحدود والغايات، والجهات إلى آخر ذلك.
كل هذه الأمور تعتبر مسائل كبار عند المتكلمين، تقصوا فيها وتكلموا وتبحروا، وكلما تبحروا ازدادوا إفلاساً وتيهاً، فمنهم من أنقذه الله ورجع، ومنهم من مات على حيرته وأعلن حيرته، ومنهم من هلك ولم يعرف عنه شيء.(39/6)
إعراض الغزالي عن الطرق الكلامية واشتغاله بالحديث في آخر حياته
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره].
الغزالي بدأ حياته بالفلسفة، ثم عرج على علم الكلام، ونقد الفلسفة، وزعم أن عند المتكلمين فيما يخالفون فيه الفلاسفة ما ليس عند الفلاسفة، وأنهم أفضل؛ لأنهم أقرب إلى الكتاب والسنة نوعاً ما من الفلاسفة.
ثم بعد تعمقه في علم الكلام وصل إلى الطريق المسدود الذي وقف عنده الآمدي ووقف عنده الجويني ووقف عنده الشهرستاني وغيرهم، فنزع للتصوف، وغرق فيه، ثم إنه لم يصل إلى ما يشفي غليله في التصوف، فخرج من التصوف وأعلن إفلاسه في هذه الأمور كلها، وسلم تسليم العجائز، ولم يهتد إلى تفصيلات عقيدة السلف، لكنه سلم تسليماً مجملاً بأن السلف هم الذين كانوا على الحق، مع أنه كان في كتبه يقرر المذاهب كلها ولا يذكر عقيدة السلف، حتى إنه مرة من المرات قال: إن الحق لا يعدو أربعة مذاهب، فذكر المذاهب الباطلة كلها إلا مذهب السلف، فذكر الفلسفة وعلم الكلام وذكر التصوف، وذكر مذهباً رابعاً.
ثم تردد وشك في الصحيح من هذه الأربعة، هل هو طريق الفلاسفة، أم طريق المتكلمين، أم طريق المتصوفة، ثم انتهى إلى أن طريق المتصوفة هي الطريق الصحيحة، وما ذكر طريق السلف أبداً لا ابتداء ولا انتهاء، وهذا دليل -بل فيه عظة وعبرة- على أن من تنكب الصراط وخرج عن نهج أهل السنة والجماعة قد لا يهتدي إلى السنة ولا يعرفها، حتى وإن مرت عليه أو سمعها لا يفقهها، ولا يفقه قلبه الحق، وهذا مما يدل على أن أهل البدع إذا أصروا على بدعهم يصرفون عن الحق، فيسمعون الحق فلا يعقلونه، وهذا واقع كثير من أهل البدع، بل واقع كل أهل البدع المغلظة الذين يصرون على بدعهم، واقعهم أنهم لا يهتدون إلى الحق، وإن سمعوا بالحق وعقيدة السلف فإنهم يفهمونها معكوسة، يفهمون أنها هي الباطل، فبذلك يكثر لمزهم للسلف وسبهم لهم وتشنيعهم عليهم.
وفي موقف الغزالي عبرة، فإنه حينما رجع عن هذه الأمور كلها ما اهتدى إلى تفاصيل عقيدة السلف، وإن كان سلم تسيلماً مجملاً، لكنه ما اهتدى إلى التفاصيل، فبقي على ما عليه العوام، فذلك أكب على قراءة كتب السنة، ومن ضمنها صحيح البخاري، حتى قيل: إنه مات رحمه الله وصحيح البخاري على صدره، ونرجو أن يكون بذلك -إن شاء الله- قد تاب توبة نصوحاً.
لكن ينبغي أن نأخذ من مثله العبرة بعد تيه طويل وعمر مديد قضاه في متاهات على شهرته وذكائه وقدرته وإسهاماته في العلوم الكثيرة، إلا أنه ما اهتدى يوما ًإلى أن يعرف تفاصيل عقيدة السلف؛ لأن الله عز وجل صرفه عن ذلك باعتناقه لعقائد أهل الكلام.
ومع ذلك فالرجل فيه خير كثير، ونرجو إن يكون -إن شاء الله- قد تاب وحسنت توبته، وله من العلوم ما هو نافع، وله من العلوم ما فيه شيء من الأخطاء والانحرافات كما هو معروف.(39/7)
شرح العقيدة الطحاوية [40]
الفخر الرازي هو المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقاربه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله التي قررها، هذا الرجل انتهى به الأمر إلى ترك علم الكلام، والنصح لغيره بعدم الانشغال والخوض فيه، وقال في آخر أمره: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.(40/1)
الفخر الرازي وتعبيره البليغ عما ابتلي به من علم الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال، فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا الكلام للرازي يعد من أعظم الكلام في الرد على المتكلمين من لسان واحد من أكابرهم، ولا أظن أحداً ممن لم يجرب علم الكلام ويبتلى به يستطيع أن يعبر هذا التعبير المؤثر البليغ في رد الكلام وفي وصف أهله وحالهم.
فالذي عانى ويعاني غير من لم يعان ولم يجرب، ولو تأملنا معاني هذه القصيدة لوجدنا فعلاً معاني صادقة في الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهي الحيرة والاضطراب والندم الشديد، ولقد -والله- نصح المتكلمين بنصيحة عظيمة من مجرب.
ويعد الرازي -بدون منازع- المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقرب منه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله وعلى مبادئه التي قررها.
وكتبه شاهدة لذلك ومن أبينها (تأسيس التقديس)، فإنه أسس فيه مناهج أهل الكلام التي اعتمدوا عليها بعده، ومع ذلك وبعد عمر طويل أفناه في خدمة الكلام وأهله وفي الكتب المطولة في الفلسفة وعلم الكلام؛ ينتهي إلى هذه النهاية، ثم ينصح قومه، فيقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.(40/2)
وقفات مع تصوير النهاية المؤلمة للمتكلمين في كلام الرازي في قصيدته
نرجع إلى القصيدة، فالقصيدة -في الحقيقية كما قلت- فيها أبلغ تعبير يصور النهاية المؤلمة للمتكلمين والإفلاس الذي يصلون إليه بعد عناء طويل، حينما تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي سائر أمور الغيب والسمعيات بمجرد الفلسفة والعقليات والظنيات، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى الحق بأدلة وبراهين قاطعة، وأخيراً يتبين لهم أنهم لم يصلوا إلى الحق، وأن أدلتهم وبراهينهم ليست قاطعة، بل وهمية، ويتبين لهم أن طريقة القرآن في الإثبات والنفي -وهي طريقة السلف- هي الطريقة السليمة التي تستقيم معها العقول وترتاح لها الفطرة، ويسلم فيها الدين والذمة والضمير.
يقول: (نهاية أقدام العقول عقال): وقصده بذلك أن إقدام العقول وجرأتها على الغيبيات تنتهي في الأخير إلى العقال، وهو الحبل الذي يقيد به الجمل لئلا يتحرك، فكأنه يقول: إن العقول إذا اقتحمت أمور الغيب؛ فإنها تقيد وتصل إلى نهاية تأسرها عن أن تنطلق إلى الحق وصفاء الفطرة.
فنهاية إقدام العقول على ما لا تدركه عقال، يعني: أنها تقف حائرة لا تستطيع أن تمشي خطوة إلى الحق ولا إلى المنهج السليم.
يقول: (وغاية سعي العالمين ضلال): وهذا تعبير عن واقع المتكلمين، يظنون أن الناس كلهم تبع لهم، وأن العالمين ينتظرون من هؤلاء العباقرة المفكرين النتيجة التي يرتاحون إليها في عقيدتهم.
فيقول: وغاية سعي العالمين في هذا المجال من فلاسفة ومتكلمين وغيرهم ضلال، أي: آخر ما ينتهون إليه الضلالة، وهذا فعلاً واقع المتكلمين.
ثم قال بتعبير نفسي لا أظن أحداً ممن لم يجرب يستطيع أن يعبره: (وأرواحنا في وحشة من جسومنا)؛ لأنه جعل روحه تسيح فيما لا طاقة لها به فتقلق وتعيش عيشة النكد؛ لأنه يبحث عن الحق فلا يجده، وأي إنسان ينشد الحق ثم لا يجده لابد من أن يعيش في قلق، إلا إذا اعتصم بالله عز وجل، وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لابد حينئذٍ من أن يسلم تسليم الموقن المرتاح الضمير، أما من لم يفعل ذلك فإنه لا يهدى ولا يستطيع أن يسلم تسليم الموقن؛ لأنه ترك طريق اليقين.
يقول: (وحاصل دنيانا أذىً ووبال).
هذا حاصل ما سعوا إليه في دنياهم، غاصوا في علم الكلام، ثم أخيراً ما وجدوا إلا الأذى والوبال، أذى الضمير وأذى النفس وأذى الروح، ووبال الشكوك ووبال الترهات والظنون والأوهام التي تجعل الإنسان يعيش في حيرة، فربما توصله حيرته إما إلى الكفر وإما إلى الإفلاس، وإما إلى التسليم بالفطرة التي يسلم بها أجهل الناس وعامتهم من العجائز ونحوهم.
يقول: (ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا): يقصد نفسه وأمثاله، وإلا فالذين يطلبون العلم على نور مستفيدون، لكنّه يعبر عن نفسه وعن أمثاله، فيقول: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وهذا والله صحيح، فكتبهم مليئة بهذا، وكان هو من أكثر الناس افتراضاً للقول، إذا ما وجد عند الفلاسفة وعند المتكلمين الذين سبقوه قولاً افترض هو افتراض الظن من عند نفسه، فيقول: فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا إلى آخره، كما تجده في تفسيره.
وكثيراً ما يعتز بهذا، يثير الشبهة ولا يعالجها، بل أحياناً يثير الشبهة ويرد عليها، ثم إذا رد وانتهى من الرد وكاد يقنع القارئ قناعة وهمية، قال: ويرد على هذا إشكال، ثم يورد على القناعة إشكاله.
وهذا معنى قوله: (قيل وقالوا)، فما عند المتكلمين إلا قيل وقالوا، أما (قال الله وقال رسوله) فهذا مما جفوه وابتعدوا عنه.
يقول: فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا هذا شعور كل إنسان، فكل إنسان حينما يستعرض ماضيه يجد أن الدنيا تطوى من ورائه، لكن فرق بين شعور وشعور، فالسليم العقيدة المرتاح الضمير لا ينزعج من انطواء الدنيا خلفه، بل يزداد حباً للخير وإقبالاً على الله عز وجل، ويعرف أن هذا مصير الإنسان، فالدقيقة -بل الثانية- والستون سنة سواء بالنسبة لما مضى، كلها مضت لا تستطيع أن تفرق بينها، فمساحتها واحدة في الذهن، لكن المؤمن الذي ينشد ما عند الله عز وجل، وعمل خيراً واستقام على عقيدة سليمة، ويرجو أن يبلغه الله عز وجل ليزداد خيراً في عمره؛ فإنه يأسف على ما فات، فإن كان ما فاته تفريط، فإنه يحاول أن يستدرك، وإن عمل خيراً فإنه يأمل من الله عز وجل أن يجزيه عليه خيراً.
يقول: وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال هذا تصوير بديع يدل على قوة المعاناة عند هذا الرجل، ويدل أيضاً على صدق الرجعة عنده؛ لأنه رجع عن مواقفه السابقة.
فهو يصور الحق الذي يتمثل في الكتاب والسنة وما جاء الله به وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم بالجبال، فهذه الجبال حاول رجال من الناس أن يقهروها، فارتقوها إما ليهدموها وإما ليزعزعوها وإما ليقهروها بأي نوع من أنواع القهر، وأخيراً زال الإنسان ومات وبقيت الجبال، فإما أن يكون قد عجز عن مصادمة الحقائق وبقي الحق حقاً، وإما أن يكون حاول أن يصل إلى نهاية الحقيقة ولم يصل.
فالجبال بمعنى الحق الذي لا يتزعزع ولا ينقلب، وهناك من حاول أن يشكك فيه،(40/3)
كلام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ودليله على إفلاس أهل الكلام
ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً): والطرق الكلامية هي المسالك التي حاول بها أن يثبت أن طريقة المتكلمين هي الحق، والمناهج الفلسفية: مناهج الفلاسفة، وقد عانى فعلاً، وعايش مناهج الفلاسفة؛ فوافقهم في أشياء وخالفهم في أشياء، لكنه في النهاية ما رآها تشفي العليل، أي: مرض القلب الذي في كثير من الشاكين من المتكلمين، وكذلك لا تروي الراغب والنهم في حب الكلام وأهله.
ذلك أن علم الكلام علم يستهوي صاحبه، فإذا قرأ المبتدئ الذي عنده شيء من الذكاء كتب المتكلمين فإنه في الغالب يعجب وينبهر، ويجد أنه بحاجة إلى أن يصل إلى حقائق ما قالوه، فيشعر بشيء من الاندفاع والتمادي مع الكلام ومع الفلسفات، وتستمر هذه الأمور حتى يظن أنه على الحق أو أنه يكاد يصل إلى الحق، وفي النهاية يجد الطريق مسدوداً.
يقول: (ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، وكأنه اكتشفها! وما عرف أن هذا ما عليه أئمة السلف وأئمة الأمة كلها وأهل السنة الذين لم يعانوا من هذه المشكلات ولم يدرسوا علم الكلام ولا وقعوا فيه.
فكأنه ظن أنه بعد معاناته الطويلة اكتشف أن طريقة القرآن هي الطريقة السلمية، فلذلك لم يوفق إلى معرفة تفاصيل الحق مثل السلف، إنما وفق لأن يعرف أن أسلوب القرآن هو الأسلوب السليم فقط، وهو عدم الخوض، والإيمان بالأمور الغيبية بإجمال.
يقول: (أقرأ في الإثبات)، أي إثبات الصفات وإثبات الغيبيات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيه إثبات الاستواء لله عز وجل، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] فيه إثبات العلو لله عز وجل.
يقول: (وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]).
وهذه بدهيات عند عامة أهل السنة، لكنه ما أدركها إلا بعد مرحلة طويلة من عمره وهو في سن الشيخوخة، وإلا فمن البدهي أن الحق إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، هذا إن وفق، وإلا فنسأل الله العافية، وألا نجرب مثل هذه التجربة.
لكنَّه يقصد من ابتلي، فإنه إذا سلك هذا المسلك، فبحث عن الحق، ولم يصل إليه، ثم وفق وهدي؛ فسيعرف هذه المعرفة، لكن ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة.
ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة، بل الغالبية من الهالكين، نسأل الله السلامة، ودليل ذلك أن أكثر المتكلمين لم يستفيدوا من قول رائدهم وقائدهم وأولهم وعمدتهم وهو الرازي، ما استفادوا أبداً، مع أنه قال لهم: الطريق مسدود، وأمامكم مهلكة، وأنا قد رأيت ورأيت، إلا أن بعضهم أبى إلا أن يسقط في الهاوية، بل أكثرهم إلى اليوم لم يستفيدوا من هذا الكلام مع إجلالهم للرازي وتقديرهم له، فهم لا يزالون يقررون كتبه التي ندم عليها وتراجع عنها وحذر منها، لا يزالون يعتمدنها في مذهبهم وفي طريقتهم، نسأل الله العافية، ونسأل الله السلامة.(40/4)
شرح العقيدة الطحاوية [41]
مما يدل على فساد علم الكلام وبطلانه حيرة أهله واضطرابهم فيه، ووصولهم إلى طريق مسدود لم يعرفوا فيه ما يعتقدون، فبعضهم لا يدري ما يعتقد، وبعضهم يموت على عقائد عجائز نيسابور، وبعضهم ينتهي به الأمر إلى أنه لا يعرف شيئاً، ثم أجمعوا كلهم على النصح لأصحابهم بترك هذا الطريق، وسلوك طريق السلف أتباع الكتاب والسنة، فلله ما أشد حيرتهم واضطرابهم! وهذا جزاء كل من أعرض عن الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة.(41/1)
مقالات لأرباب علم الكلام في تصوير الحيرة والاضطراب والندم الحاصل في حياتهم
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً، فقال: ما تعتقد؟! قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟! أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.
ولـ ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء].
هذا الكلام امتداد لوصف حال المتكلمين، والسعيد من وعظ بغيره، ونسأل الله السلامة والعافية.
وهؤلاء الذين ذكرهم الشارح رحمه الله ليسوا من المغمورين أو من صغار الحائرين الذين قد لا يؤبه بقولهم ولا بكلامهم، بل هؤلاء من أئمة وأساطين علم الكلام الكبار، الذين رسموا علم الكلام لأهله إلى يومنا هذا، ومع ذلك هذا مصيرهم وهذا تعبيرهم عن نهاية خوضهم وعن نهاية كدهم طول أعمارهم، وهو -والله- تعبير فيه العبرة والعظة لمن اعتبر، لكن من لم يرد الله له الهداية فلا تنفع فيه موعظة، نسأل الله السلامة والعافية.(41/2)
الشهرستاني وتعبيره عن النهاية المؤلمة لأهل الكلام
والشهرستاني هو ممن عرفتم في شهرته في تقرير علم الكلام وانتصاره له، وفي استنقاصه للسلف وكلامه فيهم وتجاهله لمذهبهم، وإعجابه بالكلام والفلسفة، ومع ذلك ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي أعلن عنها في آخر المطاف، فقد ذكر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم -نسأل الله السلامة- حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم يعني مدارس الفكر الكلامي والفلسفي والخوض في مثل هذه الأمور، بمعنى: أنه جرب ودرس وتشرب هذه المذاهب كلها، وحاول أن يعرف طريق الحق، وأخيراً عبر التعبير الرائع الذي لا يعبره إلا من عانى، فقال: (فلم أر إلا واضعاً كف حائر)، وهذا تصوير عظيم، (على ذقن أو قارعاً سن نادم).
وكلا الأمرين مؤلم ومؤسف، الحيرة والندم.(41/3)
أبو المعالي الجويني ناصح مشفق ونادم على ما سلكه من علم الكلام
ثم أبو المعالي الجويني، وهو من هو في جلالته وقدره وعلو شأنه في سائر العلوم، إلا أنه زل في بعض مسائل الاعتقاد وترك سبيل السلف إعجاباً بالكلام وأهله، ثم خاض بحر الكلام الخضم، وأخيراً مع علمه وعقله ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي حار فيها ورجع كما رجع غيره، حتى إنه نصح من سبقوه ومن لحقوه، وخاصة اللاحقين والمعاصرين له، نصحهم بأن يستفيدوا من تجربته، وهو رائدهم في وقته، بل وبعد وقته، فـ أبو المعالي يعتبر من الرواد الكبار لعلم الكلام ومن مؤسسيه، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا من أشاعرة وماتريدية ومن نحا نحوهم يعولون على أبي المعالي في الكلاميات التي قررها بعقله وبقواعده الفلسفية التي أنشأها أو قلد فيها غيره، وكذلك بأسلوبه في مخالفة نهج السلف.
ثم بعد ذلك ندم ورجع ونصح قومه لعلهم يتعظون، فقال: (يا أصحابنا!) يعني: يا أهل الكلام، أو: يا من يسمعون منا، أو: يا أهل مذهبي في الفقه! (لا تشتغلوا بالكلام)، وهذه -والله- نصيحة ممن اشتغل بالكلام، لو جاءت من إنسان آخر لقيل: هذا خصم للكلام، ومن الطبيعي أن يقال هذا، لكن الجويني -كما قلت-: رائد من رواده، ثم يقول هذا الكلام! فهذا أمر فيه موعظة.
قال: (لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ) أي: من الحيرة والندم والافتراء (ما اشتغلت به).
ثم قال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم) بحر الكلام ومتاهاته التي لا نهاية لها، (وخليت أهل الإسلام وعلومهم)، وأهل الإسلام أهل السنة ولا شك، وعلومهم علوم الكتاب والسنة التي تقف عند النصوص فيما يتعلق بالعقائد، وهو ما خلى أهل الكلام في غير العقيدة، حيث نجد أنه في الفقه والتفسير وغيرهما سار على نهج الأئمة ونهج السلف، لكن في العقيدة خلى أهل السنة وعلومهم.
قال: (ودخلت في الذي نهوني عنه)، وهذا يدل على أنه كان هناك من يقوم بالحجة على الخلق وينهى عن المنكر، فلا شك في أنه نهي، وهذا دليل على أنه وجد من نهاه وحذره وأشفق عليه.
قال: (والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني).
نسأل الله السلامة (وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور) عقيدة الفطرة، وهذا اعتراف ضمني بأنه مع تركه علم الكلام لم يوفق لفقه عقيدة السلف على جهة التفصيل، ولو وفق لها ما شعر بهذه الحيرة، وأي إنسان يعدل عن الحق بإصرار فإنه ولو تاب قد لا يوفق لأن يرجع إلى الحق كمن عاش في أحضان الحق منذ نشأته.
لذلك ينبغي أن يحذر طالب العلم من أن يؤسس علومه على غير نهج شرعي سليم؛ فإنه يخشى عليه من أن يتأثر فيصعب عليه الرجوع، حتى وإن تاب فإنه يصعب عليه استيعاب مذهب السلف، وقد ذكرت سابقاً -ومن خلال هذه النماذج- أن كل الذين رجعوا من أهل الكلام عن الكلام وسلموا بالسنة واعترفوا لمنهج أهل السنة بأنه حق، كلهم لم يوفقوا بالرجوع إلى السنة كما كان أصحابها عليها، إنما بالتسليم المطلق والقناعة التي عليها العجائز والعوام الذين لا يدركون إلا البدهيات والأمور الفطرية العامة، وهذا اعتراف من واحد من أكابرهم.(41/4)
الخسروشاهي لا يدري ما يعتقد
وقال الخسروشاهي -وهو كذلك من كبارهم، ومن تلاميذ الرازي - لبعض الفضلاء من أهل العلم الذين زاروه، وقد دخل عليه يوماً، ويظهر أن الزائر ممن شرب من علم الكلام، ويظهر أنه من أهل السنة، سواء كان من عوامهم أو من متعلميهم، قال له: ما تعتقد؟ فانظر إليه عند هذه اللحظة الحرجة يسأل هذا السؤال وهو متكلم كبير يزعم أنه هو الذي يقرر حقائق الدين، ثم يسأل سؤالاً لا يسأله إلا مستريب أو جاهل أو شاك أو محتار! وهو فعلاً من المحتارين.
فمن الطبيعي أن يجيب هذا الرجل الفاضل بالجواب العادي الذي يلامس العقل السليم، فقال: ما يعتقده المسلمون، فهو يحسن الظن بالمسلمين، وأن المسلمين -إن شاء الله- كلهم على خير.
وهذا جواب حكيم، يقول: ما عندي إلا ما يعتقده المسلمون، أي: العقيدة الحقة، فقال الخسروشاهي: وأنت منشرح الصدر بذلك ومستيقن به؟! فانظر إلى حاله نسأل الله العافية! فاقد لليقين قلق مضطرب، لا يجد فيما يعتقد من الأمور الكلامية التي خاض فيها وترك بها نهج السلف ما يشفي غليله ولا ما يغرس في قلبه اليقين والثقة بالعقيدة، بحيث يلقى الله عز وجل على ثقة بدينه.
فعبر عن شكه، وقال: وأنت منشرح الصدر لذلك ومستيقن به؟! أو كما قال، فقال المسئول: نعم، فقال الخسروشاهي: اشكر الله على هذه النعمة، أي: لأنك مستيقن ما عندك ريب ولا شك، ثم يقول: لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، نسأل الله العافية، أقسم أيماناً ثلاثة على أنه لا يدري ما يعتقد بسبب الكلام الذي خاض فيه، وقال: إن هذا هو الحق اللازم الذي لابد منه إلى آخره، مع أنه كان قد سب السلف ولمزهم واتهمهم بالتجسيم والتشبيه والحشوية إلى آخره، وأخيراً يرجع إلى هذه الحال التي لا هو رجع فيها إلى القول الذي كان يستهدي به ووفق إليه، ولا هو وجد اليقين الذي كان يسعى إليه، نسأل الله السلامة.(41/5)
ابن أبي الحديد تائه في معرفة ربه وراد على المتكلمين
وكذلك ابن أبي الحديد الفاضل المشهور في العراق، كان على طريقة الفلاسفة والصوفية، والفلاسفة والصوفية مع أنهم يزعمون حينما خاضوا في أمور الاعتقاد وأسماء الله وصفاته أنهم يسعون إلى تنزيه الله عز وجل حتى نفوا ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ذلك يخاطبون الله كأنهم يخاطبون المخلوق، كما في أبيات ابن أبي الحديد، ففيها يخاطب ربه وكأنه يخاطب أحداً من المخلوقات، يقول: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما أي: عقول الفلاسفة والذين أرادوا أن يخوضوا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم.
(فما ربحت إلا أذى السفر) أما المؤمنون الذين علقوا قلوبهم بالله وآمنوا بالله كما يليق بجلال الله عز وجل؛ فإنهم لم يشعروا بأذى هذا السفر، بل تلذذوا بلذة السفر إلى الله عز وجل.
(فلحى الله الألى زعموا): وهنا يدعو على نفسه وعلى أمثاله، فيقول: فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر وكلمة (المعروف بالنظر) تأكيد على أنه يقصد المتكلمين؛ لأن المتكلمين قالوا: إن الله يعرف بالنظر، بمعنى: أنه لا يمكن أن تعرف الله حقيقة المعرفة إلا بفكرك، ولا تعول على الفطرة ولا على الوحي ولا على آيات القرآن والسنة ولا على ما تربيت عليه من نهج الهدى ودين الفطرة الذي نشأت عليه بين والديك والمسلمين، إنما عليك أن تنظر وتتفكر، فلذلك أغلب المتكلمين قالوا: أول واجب على العبد إذا بلغ سن الرشد أن ينظر ويتفكر: من ربه؟ وهل صحيح أن الرب هو الخالق؟ فإن كان هو الخالق فما صفاته وما أفعاله؟ إلى آخره.
ولا يعولون على العبادة، بل يقفون عند قول: هل هو موجود أم غير موجود؟ وإذا كان موجوداً، فهل هو خالق أم غير خالق؟ فينتهون إلى هذا الحد ولا يصلون إلى شيء، فيقولون: أول ما يجب على العبد إذا بلغ أن ينظر ويفكر، فلما قيل لهم: ليس أحد يستطيع أن ينظر ويفكر بتفكيراتكم ويصل إلى نتيجة، بل تتوارد عليه الشكوك فيهلك؛ قال بعضهم: إذاً: لا نقول: الواجب النظر، بل الواجب على العبد إذا بلغ أن يقصد إلى النظر، فيحاول، فإن استطاع وإلا فهو معذور، أي: يحاول أن يشك ويضطرب في عقيدته، ثم يخرج عن دين الفطرة الذي نشأ عليه.
والدين الحق الذي قرره الكتاب والسنة وعليه السلف أن الإنسان المسلم إذا نشأ بين أبوين مسلمين فإنه مستصحب لحال الإسلام، فإذا بلغ خمس عشرة سنة كتبت عليه أعماله، ويكفيه ما عرفه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولوازم ذلك، بل حتى تجديد الشهادة لا يلزمه، فلا يلزم أن يقال له: أنت بلغت، إذاً: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه بفطرته شاهد وبتربيته شاهد وبعيشه بين المسلمين شاهد وعالم، فلا داعي لأن نجدد الشهادتين.
إذاً: فمن باب أولى ألا نلجئه إلى أن يفكر في وجود الخالق ومن الذي خلق ولماذا خلق إلى آخر ذلك من الأمور التي أراح الله عز وجل منها العباد، وكلفهم بفعل الطاعات وترك المعاصي، ولم يجعل هذه الأمور إليهم، بل جعلها من مقتضيات الفطرة السليمة والعقل السليم.
يقول: كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر يعني: النظر، أي: أن الاعتقاد لا يكون بالتفكير، يقول: إن هذا خارج عن قدرة البشر؛ لأن البشر لا قدرة لهم على التفكير في الغيبيات وأمور القدر، والأمور المعضلة التي إن لم توصل إلى التشكيك فإنها لن توصل إلى اليقين.(41/6)
الخونجي لا يهتدي إلى معرفة الحق لغبش علم الكلام
وكذلك الخونجي عبر عن أمثاله من أهل الأهواء وأهل الكلام الذين خاضوا في الكلام يريدون الحقيقة فلم يصلوا إلى أي حقيقة.
قال: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم اعترض على القاعدة على طريقة الرازي والمتكلمين، يضع المرء منهم قاعدة ثم يعترض عليها ويورد عليها الشكوك، ولذلك كل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد عليها من الشكوك ما ينسفها من قائلها ومن مقررها.
فكل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد من قائلها أو ممن كان على هذا المذهب ما يشكك به فيها، أما أمور الفطرة وأمور العقل السليم والشرع؛ فإنه لا يمكن أن يرد فيها التشكيك إلا من مريض القلب.
وقولهم: إن الممكن يفتقر إلى المرجح فلسفة أصحابها ما وصلوا فيها إلى نتيجة، ويمكن أن نعبر بالتعبير اليسير لمفهومها عندهم، فهم يقولون بأن هذا العالم المخلوق ممكن الوجود؛ لأنه لا يعقل أن يكون أوجد نفسه؛ ولأنا نرى من مظاهر الكون ومظاهر الأحياء أن هناك ما يحدث وهناك ما يفنى من هذه المخلوقات، فما يحدث يدل على أنه لم يكن ثم كان، إذاً: هو ممكن، وما يفنى يدل على أنه كان ثم لم يكن، إذاً: هو ممكن، ويمكن أن يحدث مرة أخرى مثله أو هو نفسه.
إذاً: كل الخلق ممكن الوجود، فنشأ عنده إشكال آخر، وهو أن الممكن هذا يحتاج إلى ما لا يمكن أن يخضع لهذا التصور، فلابد من أن يكون لهذا الممكن الذي يوجد ويفنى ويحدث وينقضي موجد، والموجد إذا كان ممكناً وقعنا في الدور، فالممكن يحتاج إلى ممكن إلى ما لا نهاية.
إذاً: لابد من مرجح، وهو الذي وجوده لا يفتقر إلى غيره، يقصدون بذلك الله عز وجل، ويسمونه هم: واجب الوجود، يعني: لازم الوجود، وليس المراد الواجب الشرعي، فهم أقل الناس اهتماماً بالواجبات الشرعية، بل أصحاب مصطلح (واجب الوجود) لا يؤمنون بالشرائع، فهم يقصدون بواجب الوجود اللازم وجوده عقلاً، ويسمونه المرجح.
ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أي: افتقار المخلوقات إلى خالق وصف سلبي، وكأنه يرى أن عظمة هذا الكون تقتضي عدم وجود الوصف السلبي إلى آخره، ثم انتهى إلى لا شيء، نسأل الله السلامة والعافية، فقال: أموت وما عرفت شيئاً.
هكذا قال.
وقال آخر -وذكر أنه الحموي كما ورد في درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية -: أضطجع على فراشي.
فانظر كيف حاله نسأل الله السلامة! فبدلاً من أن يذكر الله عز وجل ويقرأ أوراده وينام نوماً هنيئاً بعقيدته السلمية الصافية يجلس حائراً طول الليل وينتهي إلى لا شيء.
يقول: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء -أي: من المتكلمين- حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء! وهكذا يعيش عمره بهذه الترهات التي الكلام فيها متاهات والخوض فيها متاهات والنهاية منها متاهات، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا تصوير لحال المتكلمين لا يمكن أن يعبر عنه غيرهم، وفي ذلك عبرة وعظة للمتعظين، لكن من يتعظ؟! ومن عافاه الله سيجد في ذلك العبرة والعظة، لكن من ابتلي بالكلام فقد لا يتعظ -نسأل الله السلامة- إلا إن وفق وكان قصده فعلاً أن يبحث عن الحق، دليل ذلك أن كثيراً من المتكلمين المعاصرين الآن بدءوا يرفعون راية الكلام منتصرين لهذا المنهج، ومنتصرين لهذا الاتجاه بمؤلفات وكتب ومحاضرات، ويشنون الحملة تلو الحملة على أهل الحق والاستقامة، ويتهمونهم بالتحجر والتشبيه والتجسيم والحشوية من جديد كما فعل أسلافهم، وبدءوا يهتمون بكتب أهل الكلام خاصة كتب هؤلاء الذين ذكرهم الشارح، فهناك طائفة من المتكلمين المعاصرين بدءوا يعنون بهذه الكتب وينشرونها على أنها البديل ضد التيار السلفي، وهذه مصيبة وداهية؛ إذ لم يتعظوا بمن سبقهم ولم يأخذوا بنصيحة المشفقين من شيوخهم ولا من أهل السنة والجماعة، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.(41/7)
شرح العقيدة الطحاوية [42]
قال أبو يوسف رحمه الله: من طلب الدين بالكلام تزندق، وحكم الإمام الشافعي على أهل الكلام بأن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام، وهذا حكم عادل يليق بأهل الكلام الذين بدلوا وأولوا وحرفوا ما هو معلوم في الكتاب والسنة بالدلائل القطعية، ومن جملة ما أولوه ونفاه بعضهم رؤية الله تعالى في الجنة، مع أنها ثابتة بالدلائل القطعية من الكتاب والسنة.(42/1)
علم الكلام في نظر أعلام أهل السنة(42/2)
طلب الدين بالكلام زندقة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف رحمه الله: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب].
قوله: (من طلب الدين بالكلام تزندق)؛ يقصد: أن من بدأ علمه بأخذ علم الكلام قبل أن يتعلم العلوم الشرعية التي تبني العلم على أسس سليمة، أو كان نصيبه من القراءة في علم الكلام أكثر من غيرها، أو بدأ يقرأ في هذه الأمور قبل أن يشتد عوده وهو حديث السن؛ فإنه في الغالب يزيغ نسأل الله السلامة، وهذا الكلام لم يكن مجرد ظن من أمثال أبي يوسف، بل كان واقعاً يحكي نهج أهل الكلام قديماً وحديثاً، فما من إنسان يؤسس معلوماته على غير العلوم الشرعية في الدين -خاصة العقيدة- إلا تلوث فكره وانحرفت فطرته ونهج غير نهج المؤمنين وغير نهج السلف؛ لأن علم الكلام موضوعاته تتعلق بقضايا العقيدة، فهي تستهوي القارئ، ويظن أن علم الكلام وسيلة لفهم الحق ولفهم العقيدة السليمة، فمن هنا ينجرف من حيث إنه يظن أنه على هدى وعلى طريق مستقيم، وقد قلت سابقاً: الغالب أن علم الكلام يستهوي المبتدئ ويستهوي غير المتفقه في الدين، بمعنى: أنه يجد فيه ما يعجبه، فيعيش في خيالات وأحلام وأوهام يظنها حقائق، وتكبر في نفسه ويملكه الإعجاب بهذا المسلك وهذا المنحى وبكلام المتكلمين؛ لأنه يزينه له الشيطان من ناحية؛ ولأنه يبحث في قضايا غريبة طريفة تستهوي المطلع، فيتمادى معها أحياناً بمجرد حب الاستطلاع والوصول إلى نتائج الكلام، وأحياناً يشربها قلبه فيظن أنها حق فيتمادى فيها، ويصير عنده شيء من النهم، فكلما قرأ أحب الازدياد من القراءة، ولذلك فالذين يسلكون هذا المسلك في قراءة كتب الكلام أو كتب الفلسفة أو كتب الأدب غير المنضبطة يدمنون القراءة على هذه الأمور ولا يستطيعون الخروج منها غالباً، وتستهويهم بحيث لا يستطيع المرء منهم التخلص منها، وإذا قرأ غيرها يشعر أنه لا يستفيد، وأن العلوم الأخرى جافة غير مفيدة، وليس فيها جديد إلى آخره.
فهذه السمة موجودة إلى اليوم في الفلاسفة أو المحبين للفلسفة والمحبين لعلم الكلام وللكتب غير النافعة، ككتب القصص غير الموجهة، وكتب الفن، وكتب الأدب المنحرف، كلها تستهوي القراء في الغالب وتهلكهم أيضاً في الغالب، إلا من عصم الله، وما من أحد يأخذ هذه العلوم بأكثر من قدر العلوم الشرعية إلا صار عنده شيء من اللوثة في دينه وفي سلوكه، إذاً: الغالب أن من طلب الدين بالكلام يصل به الأمر إلى التزندق إما جزئياً وإما كلياً.
قوله: (ومن طلب المال بالكيمياء أفلس) يقصد به ظاهرة كانت موجودة قديماً، وهي أن كثيراً ممن كانوا يتعلمون الكيمياء يستخدمونها في خداع الناس ويراهنون على ذلك، وعوام الناس الذين لا يعرفون هذا العلم يظنون أنه نوع من السحر أو نوع من الدجل، ولا يعرفون أن هذا من الأمور العلمية، فيأتي من عنده شيء من الكيمياء فيراهن على أن يقلب هذا العنصر إلى عنصر آخر، أو هذا الماء من سائل إلى جامد، أو هذا اللون من لون إلى لون، فأكثر الناس الذين ليس عندهم إلمام يقولون له: لا تستطيع، ليس بمعقول، فيراهن، ويجعل هذه وسيلة لكسب الرزق، وكان بعضهم يجلس في الساحات وفي الطرقات من أجل المراهنة مع الجمهور ويكسب بذلك طريقة للعيش يعيش بها على حساب السذج.
فـ أبو يوسف يقول: من فعل ذلك أفلس؛ لأن مصدره غير سليم، والغالب أن من كان مصدره المالي غير شرعي تكون نهايته الإفلاس كما يفعل هؤلاء، وكثير من الدجالين وكثير من المتسولين وإن ملكوا من الدنيا الكثير حالهم حال المفلس، ونهايتهم إلى فقر، ويزيدهم الله فقراً مادام طلبهم العيش عن هذه الطرق غير الصحيحة.
يقول: (ومن طلب غريب الحديث كذب)، يقصد: أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع يلتمسون غرائب الحديث وغرائب النصوص وشواذ الفتاوى وشواذ الأحكام وشواذ المواقف بدعوى أنهم يريدون أن يطلعوا عليها، والحقيقة أنهم في الغالب يريدون أن يلبسوا بها على الناس، ثم إن من دخل هذا الباب فأنه -في الغالب- يصاب بنفس المرض، يعني: إذا طلب غريب الحديث -سواء ما يتعلق بالأحاديث المكذوبة مثلاً أو بالأحاديث التي فيها نوع من الإشكال أو الاشتباه أو غيرها- وولج في هذا الباب وأكثر منه فلابد أن يتأثر على نحو يجعله يتعلق ببعض الإشكالات، فتثير في نفسه الشك، أو تجعله ممن يثيرون الشكوك بدعوى أن عنده علماً وأن عنده طرائف، وأن عنده أشياء ليست عند الناس، فيقع في هذه الظواهر التي تئول بالإنسان إلى الكذب والدجل والشك والريب.(42/3)
حكم الإمام الشافعي في أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام.
انتهى].
كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في عقوبة المتكلمين كلام ثابت، وله -أيضاً- عبارات أخرى تشبه هذه العبارات، وسبب ذلك أن الشافعي رحمه الله ممن تصدى لأوائل الجهمية والمعتزلة، تصدى لهم وناقشهم، مثل: حفص الفرد وغيره، ناقشهم وجرت بينه وبينهم مجادلات ثم قطع باب المناقشة؛ لأنه رأى أن مناقشة أهل الكلام تمرض، حتى إنه نهى عن جدالهم بعدما جرب، وأشار إلى الموضوعات التي يقولونها ويطرحونها على الناس، وأنها موضوعات خطيرة في الدين، بمعنى: أن المتورع -بل المسلم العادي صاحب الفطرة- ينفر من مقولاتهم؛ لأنها تتعرض لقضايا خطيرة فيها أولاً: إساءة أدب مع الله عز وجل، وفيها ثانياً: خوض في القدر، وفيها ثالثاً: خوض في الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
فكل مسائل أهل الكلام تدور حول الكلام في الله عز وجل، وفي ذاته وأسمائه وأفعاله بغير علم وبسوء أدب، وبكلام لا يليق بالبشر مع البشر، فكيف به في حق الله عز وجل؟! والشافعي رحمه الله تورع من أن يذكر شيئاً مما سمعه وناقشهم فيه؛ لأنه يرى أن مجرد حكايته فيه إساءة أدب مع الله عز وجل، بل أحياناً فيه قدح في ذات الله وأسمائه وصفاته وسب لله تعالى، فمن هنا ما مثل ولا ذكر؛ لأنه تورع عن أن يذكر مقولاتهم، وسنجتنب ما اجتنبه الشافعي، لكن أشير إلى قاعدة عندهم تعرفون بها مدى إساءة الأدب مع الله، فالمعتزلة والجهمية كثير من كلاهم يدور على إلزام الله بلوازم، ولن أذكر هذه اللوازم؛ لأنها شنيعة، وأيضاً القول بأن الله لا يفعل كذا، فلن أذكر هذه الأفعال، لكنهم ذكروها، بل أحياناً يقولون: لا يستطيع أن يفعل كذا، ويقولون: يجب على الله أن يفعل كذا! تعالى الله! ويجوز له أن يفعل كذا! ويجب عليه ألا يفعل! إلى آخر ذلك من الأمور التي هي ترهات لو قيلت في بشر لاعتبر هذا من أعظم إساءة الأدب، فكيف وقد قيلت في الله عز وجل؟! هذا مما أشار إليه الشافعي، كما أنه يقصد أموراً أخرى عظاماً يتورع المسلم عن مجرد حكايتها، فلذلك قال: (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله) ولا أظن هذه مبالغة؛ لأنه ترجى له التوبة لو ابتلي بأي شيء مما نهى الله عنه ما خلا الشرك (خير له من أن يبتلى بالكلام)؛ لأن الذي يبتلى بالكلام قل أن يوفق للخير والهداية إلا نادراً؛ لأنه يعيش في أحلام، ثم إنه في الغالب يتمادى به الجدل والخصام إلى أن يمتهن هذا المسلك ويحترفه حرفة ويظن أنه على الحق، ويظن أن هذه عبادة، حتى إنه أثر عن كبار المتكلمين الأوائل من المعتزلة -مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء - أنهم في رحلاتهم كانوا يقصدون العلماء ومجالس العلم في البلاد لمجرد الجدل والنقاش لا لتلقي العلم، كما ورد عن عمرو بن عبيد أنه مرة ذهب إلى مكة، فكان ذهابه مع وجود أيوب السختياني رحمه الله أحد أعلام الأمة وأعلام السنة، فقارن أحد الناس الذين تنبهوا بين سلوك الرجلين، فذكر أن عمرو بن عبيد كان يجلس في البيت الحرام، ثم بعد صلاة العشاء يطلب من يناظره في بدعته، فيجلس يناظر الواحد تلو الآخر إلى الفجر، حتى إنه مرة لما صلى الفجر وانتهى من الصلاة بعد نقاش طول الليل قال لمن ناقشوه: إن بقي عندكم شيء فهاتوه بعد صلاة الفجر! نسأل الله السلامة.
فهذا المقارن ذكر في المقابل أيوب، يقول: كان إذا صلى العشاء يقوم إلى الفجر يصلي! وهذه هي المقارنة الصحيحة التي بها نعرف الفرق بين أحوال القوم، فهذا يجادل ويظن أنه على الحق، ولا تظنوا أنه يعتقد أن جداله بالباطل، بل يظن أنه ينصر الحق، ويظن أن هذا أعظم الجهاد، وأنه أعظم من الجهاد بالسيف، ويرى أنه أعظم أجراً من أيوب السختياني الذي يقوم من العشاء إلى الفجر يصلي، بل يحقر هذا الاتجاه والسلوك، وهذا ما يفعله كثير من المتحذلقين والمجادلين في عصرنا ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وممن قد ينتسبون إلى الدعوة إلى الله، تجد كلامهم ثرثرة ولا يملون من الثرثرة، ولو وجدوا من يسهر معهم ويواصل الكلام في الأمور والإشكالات التي لا يقدر عليها إلا العلماء الفحول، ومع ذلك تجد هذا الصنف من الذين يحبون الكلام وعلم الكلام يضيعون وقتهم ووقت الأمة في صراعات كلامية، وتفريخ عاطفي لا قيمة له.(42/4)
بيان عموم ذم الإمام الشافعي لعلم الكلام ودفع تخصيصه بقوم معينين
وهنا تعليق على كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول المعلق: [ذكره البيهقي في مناقب الشافعي وعلق عليه بقوله: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وأهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده، ثم نقل عن أبي الوليد بن الجارود قوله: دخل حفص الفرد على الشافعي وكلمه، ثم خرج الإمام الشافعي وقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه.
وكان يقول بخلق القرآن، ثم قال: وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا، فكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه].
هذا الكلام محتمل غير واضح؛ لأن بعض الأئمة يدخل في الكلام والمناظرات والجدال بالحق، وهذه مسألة لن نقف عندها كثيراً، وإن كان السياق يشعر بأن علم الكلام الذي عند الأشاعرة جائز، وأنه لا يقصده الشافعي، وهذا غير وارد لأمرين: الأمر الأول: أن الشافعي سبق هؤلاء المتكلمين، فالمتكلمون الذين نعنيهم ما ظهروا إلا في القرن الرابع الهجري وما بعده، والأوائل هم الجهمية والمعتزلة، وهم على طريقة واحدة في الأصول وإن اختلفوا في الجزئيات، فأصول الكلام عند متكلمة الأشاعرة والماتريدية هي أصول الكلام عند الجهمية والمعتزلة، إنما هناك اختلاف في التفصيلات وفي وجوه المسائل فقط.
فعلى هذا فإن ذم الشافعي لا شك في أنه ينصرف إلى علم الكلام جملة وتفصيلاً، وينصرف إلى اللاحقين والسابقين.
الأمر الثاني: أن الشافعي حينما تكلم تكلم بكلام مطلق في أكثر من موقف، تكلم عن حفص وعن غير حفص، ثم إنه بنفسه توقف عن مجادلتهم وهو يجادل باسم الحق، ونصح الناس بألا يجادلوهم، وموقفه هذا دليل على أن قصده علم الكلام مطلقاً.
ومع ذلك نحسن الظن بكلام البيهقي؛ لأن البيهقي ربما يدخل في الكلام مجادلة أهل الأهواء ومناظرتهم بالحق، فبعض أهل العلم فعلاً يجعل ذلك من الكلام الجائز؛ لكن نظراً لأنه اصطلاح تقرر في القرن الرابع وما بعده؛ فلابد من أن يحمل كلام الشافعي على الظاهر الكائن في وقته، أما بعد وقته فمن التعسف أن نجر كلامه عليه.
وليس بصحيح كلام الذين يزعمون أن الشافعي أو غيره ممن ذموا علم الكلام قد لا يقصدون هذا الكلام، مثل الذين قالوا: إن علم الكلام هو مذهب الأشاعرة سواء بسواء، أو قالوا بأن الأشاعرة والماتريدية مذهبهم مذهب فلان وفلان ممن سبقوهم، مع أن هذا المذهب لم يطرأ إلا بعد القرون الفاضلة، فلم يعرف مذهب الأشاعرة في الكلام ولا مذهب الماتريدية إلا في بداية القرن الرابع، فنسبة هذه المذاهب إلى من سبقوا في القرون الثلاثة الفاضلة مغالطة، بل جناية على أهل السنة وعلى أئمة الدين.(42/5)
اللياذ بما قاله طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم طريق إلى عافيتها
قال رحمه الله تعالى: [وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها، ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم إذا سلموا من العذاب بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيبُ القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، خرجه مسلم.
توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبية جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم، وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان].
ينبغي أن يحرص المسلم دائماً على التمسك بمثل هذا الدعاء، فأدعية النبي صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأدعية لمناسباتها، ولذلك نجد أن أكثر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم في الأدعية تناسب ما جاءت له، كدعاء الاستغاثة، واستنزال المطر، ودعاء الكرب، والأوراد التي كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً من القرآن وغيره، والأدعية التي يرقي بها بعض الأمراض أو عامة الأمراض، ومثل هذا الدعاء الذي يتعلق بما يختلف فيه الناس أو ما يشكل على المسلم في دينه وأمور العقيدة، فلذلك ينبغي على كل مسلم وكل طالب علم أن يتعلم ويعلم الناس تعلق قلوبهم بمثل هذه الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمناسباتها، فإنها أفضل من الأدعية التي تنشأ على غير فقه، ولا يعني هذا أن الأدعية الأخرى لا تجوز، بل باب الدعاء مفتوح، وكل يدعو بما يتيسر له، ما لم يعتد في الدعاء، وما لم يدع بألفاظ مشتبهة أو بدعية.
لكن أقول: إن الأدعية المأثورة بمناسباتها لا شك في أنها أعظم وأبلغ، بل إن التمسك بها سنة، ولذا فإن مثل هذا الدعاء من أعظم الأدعية التي تناسب الأحوال التي يكثر فيها اختلاف الناس واختلاف المسلمين في الفتن والخلافات التي تعصف بالناس أحياناً أو يضطرب فيها المسلمون، أو يشكل الأمر والخلاف فيها على الكثير منهم أو على شبابهم، فلذلك في مثل هذا الوقت الذي طرأت فيه بعض الخلافات حول كثير من مسائل الدين ينبغي التمسك بمثل هذا الدعاء والإكثار منه؛ لأنه -بإذن الله- وسيلة إلى الوصول إلى الحق وإلى الطريق المستقيم كما ورد في هذا الحديث.(42/6)
امتناع صحة الإيمان برؤية الله وسائر صفاته حال تأويلها
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم؛ إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)].
قبل أن نبدأ بالشرح نعطي بياناً مجملاً لمعاني هذه الكلمات أو هذه العبارات؛ لأنه سيشرحها الشيخ شرحاً متفرقاً.
يقول: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم)، أي: يخشى على الذين ينكرون الرؤية ألا يروا ربهم؛ لأنهم يحرمون من الجنة بسبب كفرهم بإنكار هذا الأمر القطعي، فهو يقصد أنه يخشى الحرمان على من أنكر الرؤية من دخول الجنة ومن أن يرى ربه سبحانه.
قوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف للربوبية ترك التأويل).
يقول: التأويل الشرعي أو التفسير الحقيقي لهذه المعاني -مثل الرؤية وأسماء الله وصفاته وسائر معاني الربوبية- تفسيرها ترك التأويل، يقصد أن التفسير الحقيقي الذي عليه السلف هو ترك التأويل الممنوع، فهو هنا أتى بعبارة موهمة، كأنه يقول: التأويل ترك التأويل، ويقصد بذلك أن التأويل الحقيقي هو أن أترك التأويل البدعي، بأن نؤمن بها على حقائقها دون أن نلجأ إلى تفسيرها تفسيراً غير سليم.
و (لزوم التسليم) أي: التصديق بأنها حق.
وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)، يقول: من لم يحاذر أن ينفي ما أثبته الله عز وجل من الرؤية والصفات وغيرها؛ فإنه يزل عن الحق، وكذلك من حاول التشبيه، أي: من لم يحاذر من تشبيه الله تعالى بالخلق، فإنه أيضاً يزل ولا يصيب التنزيه.(42/7)
الدلائل القطعية على ثبوت رؤية الله في الجنة
قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، الحديث، أدخل كاف التشبيه على (ما) المصدرية الموصولة بـ (ترون) التي تنحل إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي].
أي أن المعنى: رؤيتكم لله عز وجل يوم القيامة، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك، يقول: رؤيتكم لله عز وجل في الجنة يوم القيامة كرؤيتكم -من حيث الوضوح- للشمس في رابعة النهار، وللقمر ليلة البدر ليس دونهما سحاب، إذاً: (ما) المصدرية ترجع إلى الرؤية، فقوله: (كما ترون) يعني: كرؤيتكم.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها، وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟!].
نصوص الرؤية -كما ذكرت من قبل- واضحة، واحتمالات التأويل -كما ذكر الشيخ- غير واردة، وأشير إلى شيء من نماذج استحالة احتمال التأويل.
فمثلاً: الذين أنكروا الرؤية بعضهم صرفوا الإنكار إلى كلمة: (ترون)، فقالوا: يمكن أن تكون الرؤية بالقلب؛ لأن الإنسان يرى في المنام رؤيا فيقول: رأيت، ويرى رأياً من الآراء فيقول: رأيت أن الأمر كذا.
يعني: هذا رأيي، إذاً: الرؤية قلبية.
وفعلاً لبسوا على الناس بذلك، لكن ترد عليهم نصوص أخرى، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عياناً) فهل العيان منام؟! وهل العيان بالقلب؟! وكلمة (عيان) محكمة ثابتة بالنصوص القطعية، هذا شيء.
الشيء الآخر: أن الله عز وجل ذكر في القرآن -والقرآن مفسر للسنة، والسنة مفسرة للقرآن- ذكر الرؤية بالنظر، إذاً: النظر غير الرؤية من حيث كثرة المدلولات اللغوية وتفريعها، فـ (نظر إلى) تعني: بالعين الباصرة، وكذلك كلمة (رأى) تعني: نظر، فلو قدر أن يؤولوا كلمة (ترون) و (رأيت) ونحو ذلك، فإنهم يرد عليهم بقول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فلا يستطيع من يقول: (رأيت في المنام) أن يقول: (نظرت في المنام)؛ لأن هذه تختلف.
إذاً: نصوص الرؤية وردت متواترة، كما أن الصحابة سألوا سؤالاً بيناً واضحاً، حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور تتعلق بالله عز وجل وعظمته وجلاله من أمور يوم القيامة، فقالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا؟) ولو كانت مسألة حلم أو رؤيا منامية أو كان المقصود أنهم يرون ربهم بقلوبهم، لما كان لهذا السؤال فائدة؛ لأن مسألة رؤية القلب أمر لا يعد رؤية حقيقية.
فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ (نعم)، ومثل لهم بهذا المثل الواضح، وهذا التمثيل برؤية الشمس والقمر ينطبق على رؤية العيون الباصرة لا رؤية القلب؛ لأن القلب ليس لرؤيته للأمور مزية لا في الليل ولا في النهار، بل القلب لا يرى رؤية حقيقية، فالقلب رؤياه إما منامية وإما من باب المعاني التي لا تقبل الحس ولا التفسير بالحس.(42/8)
فساد طريقة مؤولي الرؤية ونفاتها
قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص؛ كيف يستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب؟! ولا شك أن (رأى) تارة تكون بصرية، وتارة قلبية، وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي، وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني؛ لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)؟! فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟! وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟! فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها؛ ف
الجواب
أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال].
يشير هنا إلى التعبير عند المتكلمين، وأراد أن يرد عليهم بمصطلحاتهم، والسلف أحياناً يلجئون لمثل هذه الردود من باب إقامة الحجة وإلزام الخصم بالحق، فقوله: [هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء وليس في العقل ما يحيلها] يعني: أن رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم ليس هناك في العقل ما يحيلها.
يقول: [بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال]، يقصد بذلك أنه لو عرضنا على أي عقل سليم أنه يمكن أن يكون هناك موجود له وجود ذاتي، أو وجود في الأذهان أو وجود في الخيال أو وجود في العقول أو وجود معنوي -لأن الوجود المعنوي أمر افتراضي ليس حقيقياً- وهو قائم بنفسه، يعني: وجوده ذاتي لا يحتاج إلى غيره، ولكن لا تمكن رؤيته لحكم باستحالة ذلك.
وقوله: [لا تمكن رؤيته] يقصد به أنه لا تمكن حتى ولو وجدت الأسباب وامتنعت الموانع، ونحن نعتقد أن الله عز وجل لا تمكن رؤيته في الدنيا؛ لأن الله بين لنا ذلك، وإلا فما عندنا دليل آخر، لكن لو أن الموانع التي تحجب عن النظر إلى الموجود انتفت والأسباب التي تقدر البشر على النظر وجدت؛ فهل هناك من مانع عقلاً من النظر إلى هذا الموجود القائم بنفسه؟! مثلاً: الملائكة نعلم أنها موجودة مخلوقة قائمة بنفسها، بمعنى: أن لها وجوداً ذاتياً مستقلاً، ليس وجوداً معنوياً أو عقلياً أو خيالياً، فهل أحد من البشر غير من استثنى الله عز وجل رأى الملائكة؟! لكن هل يحيل العقل أن نراهم؟ لا يحيل ذلك، فلو أقدرنا الله على ذلك أو هيأ لنا ذلك لرأيناهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، والله عز وجل هيأ له ذلك فرآه، ولكن نحن لا نستطيع أن نرى الملائكة؛ لأن هناك موانع.
فإذا وجدت الأسباب للرؤية وارتفعت الموانع؛ فإنه ليس هناك ما يمنع أن ترى الأبصار ما يمكن رؤيته، هذا أمر.
وأمر آخر بالمناسبة أذكره وهو بدهي، وهو أن الأمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، فلماذا يخوضون في أمر أثبته الله عز وجل وهو راجع إلى قدرته، أليس الله سبحانه هو الذي سيقدر عباده على رؤيته على ما يليق بجلاله سبحانه؟! وليس في ذلك نقص له عز وجل، ولا يحيطون به علماً ولا يحيطون به رؤية.
إذاً: ما المانع إذا أقدرهم الله؟! فالمسألة راجعة إلى قدرة الله وينتهي الجدال، فلا داعي لأن يقال: ذلك مستحيل أو غير مستحيل، بل إذا جاءنا خبر عن الله آمنا به وصدقنا، والله على كل شيء قدير سبحانه.(42/9)
بيان معنى قول الطحاوي: (لمن اعتبرها بوهم أو تأولها بفهم)
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك الوهم فهو جاحد معطل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)؛ فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي، وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟! فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال؛ إذ المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة، كما في العلم؛ فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً.
وقوله: (أو تأولها بفهم): أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي من معناها، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نؤول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلاً تزيينا له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق؟! وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا)، ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية: ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين)، ومراده: ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف.
ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيء من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم، فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو وأنه لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً].(42/10)
شرح العقيدة الطحاوية [43]
التأويل هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، هذا هو معنى التأويل في الكتاب والسنة وعند سلف الأمة، ويدخل تحت هذا المعنى خمسة أنواع تسمى تأويلاً، ومن معانيه تفسير المعاني وبيانها، ومنه تأويل القرآن أي: تفسيره، وأما أخبار الغيب فتأويلها الذي هو حقيقتها لا يعلمه إلا الله، والبشر يعلمون منها معانيها دون حقائقها وكيفياتها، وما عدا ذلك من معاني التأويل فهو التأويل المبتدع الذي هو تحريف لنصوص الكتاب والسنة.(43/1)
التأويل وأنواعه
قال رحمه الله تعالى: [ثم قد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، فتأويل الخبر: هو عين المخبر به، وتأويل الأمر نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل، كقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، إلى قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟!].
هذا السؤال إنكاري، حيث يقول: فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل؟(43/2)
تأويل الخبر باعتقاد عين المخبر به
وفي هذا المقطع ذكر أنواع التأويل عند السلف، يعني: الأنواع الصحيحة للتأويل التي تفهم من النصوص الشرعية والتي عليها السلف، فالتأويل عند السلف على أنواع: النوع الأول: تأويل الخبر الوارد في الكتاب والسنة، سواء كان هذا الخبر يتعلق بعالم الغيب أو يتعلق بعالم الشهادة، فإن تأويل الخبر هو اعتقاد عين المخبر به، كقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذا خبر جاءنا عن الله عز وجل، فتأويله حقيقة الاستواء، تأويله أن الله عز وجل استوى على عرشه، ليس له معنى آخر، وهذا تأويل فطري سليم يناسب الفطرة والعقل السليم، ثم إنه يتناسب مع فهم العرب للغتهم، ثم إنه هو الحق الذي يقتضي صدق خبر الله عز وجل؛ لأن الله أخبرنا بأخبار غيبية وأخرى غير غيبية.
فالخبر لابد من أن يكون هو عين التأويل، والخبر لابد من أن يكون هو عين المخبر به، ومعنى (عين المخبر به): أن هذا الخبر الذي جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأويله هو ذات المخبر به، ليس شيئاً آخر، فلا نبحث له عن تفسير بعيد؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الحق والصدق؛ ولأن الخبر إن كان غيبياً فلا سبيل إلى معرفته إلا من خلال ما تكلم الله به، وما تكلم الله به له معنى يدركه الذهن والعقل، وإن كان من عالم الشهادة فسيراه الإنسان بمداركه وحواسه.
المهم أن هذا النوع الأول -أي: تأويل الخبر-: هو أن تعتقد حقيقة المخبر به كما أخبر الله به، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كإخبار الله عز وجل عن الاستواء، وإخبار الله عز وجل عن أحوال البعث، وإخبار الله عن الرؤية، وإخبار الله عن أشراط الساعة، فإن تأويل هذا الخبر هو اعتقاد عين المخبر به دون زيادة ولا نقص.(43/3)
تأويل الأمر بالفعل والنهي بالكف
النوع الثاني: تأويل الأمر، كقوله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200]، {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فإن تأويل هذا الأمر الذي أُمِر به إيقاعه كما أمر الله، وامتثاله كما أمر الله، وفعله كما أمر الله، فإن كان أمراً بفعله، وإن كان نهياً فبالانتهاء عنه، فقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] تأويله: وقوع الركوع والسجود كما أمر الله تعالى، وقوله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] تأويله: تنفيذ الصبر عندما يأتي له سبب.
إذاً: تأويل الأمر فعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، أي: يتأول قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1 - 3].
فتأويل الأمر كما قالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر صلى الله عليه وسلم بأن يسبح ويستغفر، فصار ذلك عادة له في ركوعه، فهنا أول معنى الآية بالفعل، وكل أمر ونهي يأتي في القرآن والسنة فإن تأويله بامتثاله.(43/4)
تأويل الشيء بوقوعه
النوع الثالث: تأويل الشيء بمعنى: وقوعه، فتأويل خبر الله بمعنى: وقوعه، فتأويل يوم القيامة وقوعه، وتأويل أشراط الساعة وقوعها، وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع فقد وقع تأويله، فإذا وقع الشيء وقع تأويله، فالأخبار التي وردت ولم يقع تأويلها لا يحتاج الناس إلى تكلف في معنى ذلك، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح: (أنه ستخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) أو نحو ذلك، فوقعت هذه النار، فلما وقعت وقع تأويلها، فلا يحتاج الناس إلى أن يؤولوا الخبر، لكن هناك أخبار لم يقع تأويلها، وتأويلها وقوعها، كالخبر عن يوم القيامة، كما جاء في قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} [الأعراف:53]، يعني: هل ينظرون إلا وقوع يوم القيامة؟! هذا هو التأويل.(43/5)
تأويل الرؤيا بما ستقع وتأويلها بنفس وقوعها
النوع الرابع: تأويل الرؤيا، وتأويل الرؤيا على صنفين: تأويلها بمعنى: تفسيرها كما ستقع، وهذا قد يحدث لمن أعطاهم الله عز وجل شيئاً من الفراسة والموهبة في التأويل، كما كان يوسف عليه السلام، وكما كان كثير من أهل الفراسة، فأهل العلم يؤولون الرؤيا، بمعنى: أنهم يفسرونها كما ستقع، فتقع على ما أولوه.
والصنف الثاني: ما لا يمكن إدراكه حتى تقع، فيكون وقوعها تأويلها.
فقد ترى رؤيا فتسأل بعض أهل العلم بها فيفسر لك الرؤيا فتقع كما فسرها، فهذا نوع من التأويل، فتفسير ذلك الشخص لك صار تأويلاً للرؤيا؛ لأنها وقعت على نحو ما فسر.
وأحياناً لا تسأل عنها، أو تسأل فلا تجد من يخبرك، فتصبر حتى يقع تأويلها وهو وقوع ما يصدق الرؤيا، والنوعان متشابهان، لكن هذا يكون بإدراك البشر وهذا لا يدرك إلا بعد الوقوع، فكل ذلك يعد من التأويل الحقيقي الذي لا مجال للعدول فيه عن المعاني الصحيحة إلى التخرصات أو الظنون.(43/6)
التأويل العملي الامتثالي
النوع الخامس: التأويل العملي، كقوله عز وجل: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، يعني: مثل ما نسميه الآن التطبيق، وإن كانت الكلمة -في الحقيقة- فيها نظر، فتطبيق الشيء يعتبر تأويلاً له، وتأويل العمل تطبيقه أو تمثيله.
وقد لا يكون العمل عن سابق أمر، فتأويل الأمر هو العمل به، لكنه أحياناً يكون العمل نفسه تأويلاً، بمعنى: أنه مآل للشيء، وكل هذه المعاني تعود إلى معنى المآل والتفسير.
فهذه أنواع التأويل عند السلف، وما عداها في الأمور الشرعية يعد تكلفاً، وأحياناً يعد إفراطاً، وقد يعد ضلالاً، وقد يعد كفراً، كما سيأتي في أنواع التأويل الأخرى.(43/7)
انتفاء علم البشر بتأويل حقائق أخبار الغيب وكيفياتها دون معانيها
قال رحمه الله تعالى: [وأما ما كان خبراً -كالإخبار عن الله واليوم الآخر- فهذا لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته؛ إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به أو ما يعرفه قبل ذلك؛ لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله، فهذا هو معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له، والتأويل في كلام كثير من المفسرين كـ ابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله].
لعلنا نقف بعض الوقفات عند هذا المقطع، فقوله: (لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته) يعني: الإخبار عن اليوم الآخر، ويقصد بالحقيقة الكيفية؛ لأنه كثيراً ما يلتبس مفهوم الحقيقة عند الناس، فالمنفي هنا هو الكيفية، فالذي لا يعلم تأويله من أخبار اليوم الآخر وأخبار الصفات وأخبار الغيب هو الكيفيات.
أما الحقيقة التي هي إثبات المعنى؛ فهذا أمر يجب أن يقال به، وإلا فستكون ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، فإذا قيل: إن لفظ الشرع لا تفهم حقيقته أو لا نؤمن بحقيقته؛ فكأنا جعلنا ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، لكن المنفي هنا حقيقة الكيفية لا حقيقة المعنى، فكلام الله له حقيقة وهي المعاني، وكلام الله له معان وهي الحقيقة، لكن المنفي هو الكيفية، وهذا ما يقصده المؤلف هنا، لذلك احترز بقوله: [لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى]، وهذا هو الكلام الصحيح، فالعلم بالمعنى معلوم، فقوله عز وجل عن اليوم الآخر وأخباره وتفصيله له معانٍ، وإخباره عن الصراط والميزان والحوض، وإخباره عن الاستواء، وغير ذلك، كله لابد من أن يكون له معان؛ لئلا نعطل ألفاظ كلام الله من المعنى الذي يجب، لكن حقائق الكيفيات هي التي لا نعلمها.(43/8)
المراد بالتأويل عند أئمة التفسير
كذلك قوله عن ابن جرير وعن المفسرين بأنهم يستعملون لفظة التأويل، فـ ابن جرير كثيراً ما يقول: قال أهل التأويل، وتابعه بعض المفسرين وبعض أهل العلم، وظن كثير من المؤولة من المتكلمين وغيرهم أنهم يقصدون تأويل أسلافهم الذين أولوا صفات الله، وهذا خطأ في الفهم شنيع؛ لأن ابن جرير يقول هذا الكلام عن السلف، يقول: قال أهل التأويل، أو قال: ابن عباس في تأويل الآية، وهذا قبل أن يظهر التأويل الباطل الذي هو صرف ألفاظ كلام الله من معانٍ راجحة إلى معانٍ مرجوحة، فهذا لم يظهر في عهد السلف الذين ينقل عنهم ابن جرير.
فـ ابن جرير وأمثاله من أئمة العلم إذا قالوا: قال أهل التأويل، فإنما يقصدون به أهل التفسير الذين يفسرون كلام الله عز وجل، والتأويل عند السلف هو تفسير المعاني بقواعد التفسير الصحيحة، يسمى: تأويلاً على ما ذكرت في الأصناف الخمسة، وكتفسير آيات الله عز وجل باللغة، وكتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن بفهم الصحابة، وهكذا، فهذا يعد تأويلاً لأنه من باب التفسير الصحيح، ولا يعد تأويلاً من باب العدول عن المعنى الراجح المفهوم إلى معنى مرجوح مظنون.
إذاً: فقول ابن جرير وغيره في التأويل يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، لكن قد يفسر الكلام بمعنى لغوي صحيح أو معنى شرعي صحيح، إذاً: فمفهوم السلف للتفسير هو على نحو قواعد التفسير المعهودة عندهم.(43/9)
الأسئلة(43/10)
الفرق بين تأويل الخبر بمعنى اعتقاد عينه وتأويله بمعنى وقوعه
السؤال
ألا ترى أن النوع الأول من أنواع التأويل -وهو كون الخبر نفس المخبر عنه وعينه- يستوي في المعنى مع النوع الثالث، وهو تأويل الشيء بمعنى وقوعه؟
الجواب
بينهما فرق، فالأول يتعلق بالاعتقاد، والثالث يتعلق بالمعاني.
فالأول: يتعلق بأنه يجب على المسلم إذا جاء الخبر عن الله أن يعتقد حقيقته، ويكون هذا تأويله، فإذا جاء قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ فإن تأويله: الإيمان بأنه استواء حقيقي، هذا تأويله، ليس له أكثر من الاستواء.
أما النوع الثاني: فيرجع إلى المآل، يرجع إلى الأمور الخبرية التي تتعلق بالأحداث، كأحداث يوم القيامة، فتأويلها وقوعها إذا وقعت، فالأول يتعلق باعتقادنا الآن، أما الثالث فيتعلق بالمصير الذي سيكون عليه الخبر حين وقوعه، فتأويل اليوم الآخر على النوع الأول: الجزم بأن الله يقصد به حياة أخرى يكون فيها الحساب والجزاء والعمل إلى آخره، هذا يسمى تأويلاً.
وعلى النوع الثالث: يقصد بالتأويل: وقوعه إذا حدث، بمعنى: أن كل الناس حتى الكفار إذا حدث اليوم الآخر وقع لهم تأويله، فقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] يعني: هل ينتظرون إلا وقوع اليوم الآخر؟ وهذا يتبين بالمثال المضاد، فالمبطلون الذين أخطئوا في النوع الأول من التأويل قالوا في الاستواء: إنه الاستيلاء إلى آخر ذلك من المعاني.
فهذا التأويل خرج عن مفهوم السلف للتأويل؛ لأنهم يرون أن التأويل الإيمان بحقيقة اللفظ دون لجوء إلى المعاني الإضافية، أو إلى معان من باب اللوازم وتأكيدها على أنها هي المعنى، والانتقال من الحقيقة إليها، فالتأويل الذي يخرج عن مفهوم اللفظ وحقيقته لا يعد تأويلاً معتبراً عند السلف، إنما يعد تأويلاً مذموماً.
وكذلك النوع الثالث له مفهوم عند السلف ومفهوم عند المخالفين، فالسلف يفهمون من تأويل يوم القيامة وقوعه، وأنه سيقع، إضافة إلى أنهم يفهمون من تأويله الإيمان به.
لكن المبطلين يرون أن مفهوم اليوم الآخر حياة أخرى ليست حياة بعث، إنما هي حياة أخرى تتجدد بالروح في هذه الحياة الدنيا، وهو ما يسمونه بالتناسخ.
إذاً: أولوه بتأويل باطل، وزعموا أن اليوم الآخر حياة أخرى تنتقل فيها الروح من الجسد إلى جسد آخر في الحياة الدنيا، وليس في يوم القيامة، ولذلك زعموا أن أرواح الناس بحسب أعمالهم، فزعموا أن أرواح المؤمنين تكون الحياة الأخرى لها في حواصل طير أو حيوانات أليفة، وأن أرواح الكفار تكون في حشرات وغيرها، فهذا تأويل باطل لليوم الآخر؛ إذ ما عندهم قناعة بأنه سيقع يوم آخر يكون فيه جزاء وحساب، إنما أولوه تأويلاً باطلاً.(43/11)
معنى التأويل عند السلف وصلة أنواع التأويل الخمسة به
السؤال
ذكرت أن المؤلف ذكر أنواع التأويل عند السلف، ثم ذكرت أنها خمسة أنواع، وكأنني -والله أعلم- أفهم من قول المؤلف أن التأويل عند السلف: هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، وأن هذه الأنواع إنما هي أمثلة على هذا التأويل الجامع، فجميع هذه الأنواع نهايتها الحقيقة التي يئول إليها الكلام؟
الجواب
لا مانع؛ إذ الأصل أن السلف يفهمون من التأويل الحقيقة التي يئول إليها الكلام، لكن هذا الكلام قد يكون خبراً، فتأويله وقوعه، وقد يكون أمراً، فتأويله تنفيذه والعمل به، وقد يكون خبراً أيضاً، فتأويله الإيمان بحقيقته، وقد يكون رؤيا، فتأويلها تفسيرها وتأويلها وقوعها، وقد يكون عملاً، فتأويله نفس الفعل وإن لم يسبقه أمر، وهذا يختلف عن الثاني، فالثاني فعل أمر، والثالث: الفعل ولو لم يسبقه أمر صريح، فإنه يعد تأويلاً، والله أعلم.(43/12)
إمامة أبي حنيفة رحمه الله تعالى وضلال طريقة من يطعن فيه
السؤال
رويت في أبي حنيفة مقولات من السلف في ذمه، وأنه ينقض عرى الإسلام وغير ذلك، ويوجد الآن من يتبناها من طلاب العلم، ويفسقونه، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
أما تفسيق مثل أبي حنيفة فهو خطأ ولا يجوز، نعم تكلم فيه بعض أهل العلم المعاصرين له، لكن ما عليه جملة السلف وما استقر عليه أمرهم في شأنه هو الذي عليه المعول، فلا نذهب إلى بعض تصرفات العلماء أو زلاتهم التي قد يكون فيها فتنة للأمة، وقد يكونون رجعوا عنها، وقد تكون مواقف فعلوها لأمور لها ملابسات وظروف، فهذه الأمور كلها لا تخرجنا عن الأصل، وهو أن عامة السلف يترحمون على أبي حنيفة ويرونه -رحمه الله- من أئمة الدين ومن أئمة السلف، هذا ما عليه عامة السلف وجمهورهم، وإن لم يجمعوا على ذلك، فلا يلزم إجماعهم في مثل هذه الأمور، فتفسيقه أو تبديعه أظن أنه نوع من الجناية، ولا ينبغي أن يجرؤ طلاب العلم على هذه المسألة.(43/13)
معنى الصراط
السؤال
وجدت في تفسير الصراط: أنه الحبل من السماء إلى الأرض؟
الجواب
قد يكون من تفسير الصراط أنه الحبل؛ لكن كونه ممتداً من السماء إلى الأرض لا أدري ما المقصود به؛ وقد يكون ما قرأه الأخ أو سمعه مرتبطاً بنص معين له علاقة بهذا المعنى.(43/14)
شرح العقيدة الطحاوية [44]
التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، والصحيح منه ما وافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهو الذي سلكه المبتدعة وأولوا ظواهر النصوص بدعوى دلالتها على معاني باطلة، وهذا كلام باطل يدل على بطلانه الشرع والعقل، ويفتح الباب أمام الزنادقة لتأويل نصوص الدين كلها.(44/1)
القراءات الواردة في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وتوجيه المعنى لكل قراءة
قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، الآية فيها قراءتان: قراءة من يقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله، ولا يريد من وقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] أن يكون التأويل بمعنى: التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد، قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها.
وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله].(44/2)
المراد بالتأويل عند السلف على قراءة الوقف على لفظ الجلالة
في هذا المقطع يشير إلى أمور: أولها: الفهم الصحيح لمعنى قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، على قراءة الوقف، ذلك أن السلف لهم فهم وأهل الكلام والمبتدعة لهم فهم آخر، فالسلف في فهمهم لقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يفسرون التأويل هنا بمعنى: تأويل الكيفيات في أخبار الغيب في صفات الله عز وجل وفي أفعاله وفي أمور الغيب الأخرى، فهذه فيها ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهو الكيفيات التي هي غائبة عن الحواس وعن العقول.
فهنا التأويل يكون بمعنى: معرفة الكيفية لأمور الغيب، وهذه لاشك في أنه لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذا فهم السلف، إذاً: التأويل هنا بمعنى: ما تئول إليه حقيقة الكيفيات، لا بمعنى التفسير.
أما أهل الأهواء المتكلمون ومن سار على سبيلهم فإنهم يفسرون معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، بمعنى: معاني كلام الله عز وجل وحقائقه، يقولون في صفات الله عز وجل: ما يعلم تأويلها إلا الله، بمعنى: لا يعلم حقائقها ولا معانيها إلا الله، وهذا خطأ، فالحقائق والمعاني تعلم، إنما الكيفيات هي التي لا تعلم.
فعلى هذا يجعلون حقائق الصفات والأمور الغيبية ومعانيها من المتشابه الذي لا يعلم أبداً، ولذلك صاروا في تفسير نصوص الشرع في الصفات وغيرها على قولين: منهم من يقول: هذه النصوص لا نفهم منها شيئاً أبداً ونفوضها؛ لأن معناها متشابه وحقائقها متشابهة في ذلك، ومنهم من ضل فذهب يؤولها بما يستقيم عقلاً، فقال: لا نثبت معاني ألفاظها ولا حقائق ألفاظها، لكن نبحث لها عن معان أخرى تئول إليها وهي المعاني المرجوحة، فقالوا في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: الاستواء هنا من المتشابه حقيقته ومعناه، فمنهم من قال: الاستواء لا نعلم له حقيقة أبداً ونفوض أمره إلى الله، وهؤلاء هم المفوضة، ومنهم من قال: نصرف اللفظ -وهو الاستواء- عن معناه الحقيقي، وعن الفهم الذي تفهمه مداركنا إلى معنى آخر نبحث عنه في دلالات اللغة، فبحثوا في دلالات اللغة فوجدوا أن من معاني الاستواء بزعمهم: الملك والسلطان والاستيلاء، مع أن في هذا نظراً، فصرفوا الألفاظ عن معانيها وحقائقها.
فقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] على الوقف على لفظ الجلالة، يقول السلف في معناه: وما يعلم الكيفيات إلا الله، أما المعاني والحقائق فلا شك في أن الله عز وجل قصد بكلامه معاني وحقائق تدركها عقولنا ومداركنا، لكنها تثبت لله عز وجل من غير تشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وتثبت على ما يليق بالله عز وجل وبجلاله سبحانه.(44/3)
المراد بالتأويل على قراءة الوصل
أما على الوصل، وهو قراءة الآية على هذا النحو: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، فإن السلف يقولون: إن الراسخين في العلم يفهمون معاني وحقائق كلام الله عز وجل، أي: يفسرونها التفسير اللفظي المعلوم مع نفي التشبيه.
وأهل الأهواء يقولون في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون صرفه عن معانيه إلى معان أخرى، أي: التأويل المرجوح، يزعمون أن الراسخين في العلم يلزمهم أن يصرفوا كلام الله عز وجل في أسمائه وصفاته عن معانيها المفهومة على ما يليق بجلال الله عز وجل إلى معان أخرى مرجوحة لقرينة دفع التشبيه.
قال رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور.
ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً -وهي المتشابه- كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب.
وأيضاً فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين].(44/4)
بيان ما يصح من التأويل وانتفاء المعنى الفاسد عن ظواهر النصوص
قال رحمه الله تعالى: [والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية.
فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.
وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه؟ فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها ولا نقول: كيف وكيف.
ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم وقيل: علي نحت القوافي من أماكنها وما علي إذا لم تفهم البقر فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذي: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]؟! إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه! هذا حقيقة قول المتأولين].(44/5)
ردود على مؤولة ظواهر النصوص بدعوى دلالتها على المعاني الباطلة
قال رحمه الله تعالى: [والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه.
فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه -وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة- فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي؛ فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟! فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه؛ قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان: أحدهما: ألا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية].(44/6)
تفاوت عقول الناس وانعدام العقل المرجعي في التأويل
خلاصة هذا المقطع أن الذين سلكوا طريقة التأويل من أهل الأهواء لا تستقيم قاعدتهم، ولا يمكن أيضاً أن نقف وإياهم على منهج يمكن أن نتحاكم إليه أو نستند إليه.
وأغلب قواعد التأويل قواعد عقلية، بل كلها قواعد عقلية، بمعنى: أن السبب الذي جعل المؤولة يؤولون دعواهم أن بعض ما يرد في الشرع لا يعقل، فهؤلاء يرد عليهم -كما ذكر الشارح- من وجوه: أولها: أن عقول الناس تتفاوت، بل لا يمكن أن يتفق اثنان من كل وجه على شيء من الأشياء من جميع الوجوه؛ لأن تصورات الناس تختلف.
الوجه الثاني: أن العقل الذي يزعمون أن له قواطع وله دلالات وأنه يحكم ويرد إليه الشرع غير معلوم فعقل من هو؟! فكل واحد يدعي أن عقله هو المحكم، إذاً: فمن نصدق؟!(44/7)
القول بتأويل بعض النصوص فتح لتأويل الزنادقة لنصوص الدين كلها
الوجه الثالث: إنا إذا قلنا: إن العقل هو المحكم كما أشار الشارح؛ فهذا يعني: أننا نفتح باب عدم الثقة بالعقيدة والنصوص، بمعنى: أننا إذا قلنا بهذا القول نزعنا اليقين من قلوب الناس، وجعلناهم يبحثون عن اليقين بوجوه أخرى، وهذا أولاً يوقع الشك في قلوب المؤمنين، ثم إنه ينزع اليقين، ثم لا يستقر أحد على قول، بدليل أن كل الذين أولوا ما اتفقوا على التأويل، ولو اتفقوا لكان هناك شبهة، وإلا فما عندهم دليل؛ لكن لو اتفقوا لقيل: هناك شبهة، وليس لهم شبهة يمكن أن تنطلي على العاقل.
فيقال للمؤولة: أنتم ما اتفقتم على التأويل، ثم لما فتحتم باب التأويل ولجه جميع المبطلين، حتى ألحدوا إلحاداً كاملاً، فالقرامطة فسروا جميع أمور الشرع بتفسيرات غريبة جداً، حتى أركان الإسلام وأركان الإيمان فسروها بأسماء رجال.
ثم من دونهم كالرافضة، فقد أولوا نصوص الشرع، حتى ما يتعلق بالأحكام منها، وفسروها بالتأويل تفسيرات حمقاء وساذجة وغريبة جداً؛ لأنهم فتح لهم باب التأويل؛ حتى الألفاظ التي لا تحتمل المعاني التي قالوا بها من حيث اللغة، جعلوا لها معاني غريبة جداً وشاذة؛ لأنهم يقولون: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا.
فعلى سبيل المثال: قالوا في قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] قالوا: هم بنو أمية، وبعضهم قال: عائشة، والبقرة المذكورة قالوا: هي عائشة، والجبت والطاغوت عندهم أبو بكر وعمر، فإذا قيل لهم: هذا تأويل لا يصح، قالوا: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا وهذا ما تقتضيه أصولنا إلى آخره.
إذاً: انفتح باب التأويل ولم ينغلق، وصارت عقول الناس تتفاوت في هذا، فمنهم من يعقل، ومنهم الأحمق الذي لا يعقل، والذي يعقل أيضاً في عقله قصور.
إذاً: ما هو العقل الذي يحكم؟ إنه عقل وهمي، وإذا كان المراد عقول هؤلاء الناس من البشر؛ فعقول البشر قاصرة، فالعقل الذي نعني به تفكير الإنسان ما فهم نفسه.
فلو قلت لأي عاقل: أين عقلك؟ أين يتمركز عقلك؟ فلن يعطيك جواباً يجزم به، وكذلك لو قلت له: هل عقلك في رأسك؟ هل هو في قلبك؟ هل هو بين الرأس والقلب؟ كيف تعقل؟ كيف تتم عملية العقل؟ إذاً: العقل ما عرف نفسه، فكيف -إذاً- يحكم في شرع الله ودينه؟! المهم أن شبهة المؤولة إلى يومنا هذا زعمهم أن العقل يحيل بعض معاني النصوص، فيقول: إنها مستحيلة، وعلى هذا خرجوا من مقتضى نص الشرع، ولم يصلوا إلى قرار، وكل منهم ذهب مذهباً لا يمكن أن يكون هو الحق؛ لأن الحق لا يتشتت كما تشتتوا هم.
نسأل الله السلامة.(44/8)
الأسئلة(44/9)
صلة الرسوخ في العلم بكبر السن
السؤال
هل يلزم من الرسوخ في العلم أن يكون صاحبه كبيراً في السن؟
الجواب
غريب هذا السؤال، ويبدو أنه من الخلط الذي صار الآن عند الشباب، أو عند طوائف منهم.
فلا يلزم من الرسوخ في العلم كبر السن، لكن الغالب وسنة الله في عباده أن كبار السن أعلم وأرسخ وأكثر تجربة فقط، وقد يوجد عالم صغير إذا أعطاه الله مواهب وقدرة ووفقه الله عز وجل لتلقي العلم الشرعي على أصوله الشرعية، فسيبرز بسرعة، فيكون من صغار السن ويكون من الراسخين، ويكون من أهل الحل والعقد في الأمة، ومن أهل العلم، كما كان ابن عباس رضي الله عنه، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ونحوهم، كانوا علماء يعدون من الراسخين وهم صغار في السن، لكن الغالب أن الأكبر سناً يكون أقدر، وأكثر تحصيلاً، وأكثر تجربة، وأثبت في كثير من الأمور، ولا يمنع ذلك من وجود علماء صغار، فالعالم من توافر فيه العلم والرسوخ مع العقل والحكمة، واقتفاء السنة والاستقامة، فهو عالم راسخ ولو كان عمره عشرون سنة.(44/10)
الفرق بين تأويل الأمر بامتثاله والتأويل العلمي
السؤال
ذكرتم في أنواع التأويل تأويل الأمر وذلك بإيقاعه كما أمره الله، وتأويل العمل كقول الله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فما الفرق بينهما؟
الجواب
الفرق بينهما أن تأويل الأمر -أي: الأمر الشرعي بـ (افعل) أو (لا تفعل) - بالامتثال، أما العمل فمجرد فعله يكون تأويلاً، قبل أن تكون مأموراً به، فقد لا يدخل في هذا المجال، قد يدخل في مجال المباح، فمجرد وقوعه تأويل له.
أما الأمر فيتوجه العمل به لأنه مأمور به شرعاً، فالفرق بينهما خفيف وليس كبيراً، وبعض أهل العلم يعدهما واحداً، بل حتى شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو الذي فرع هذا التفريع- كثيراً ما يذكر أن الأمر والعمل بمعنى واحد.(44/11)
حكم السؤال عما يتوهم التعارض فيه من آيات القرآن الكريم
السؤال
إذا كان الشخص يكثر من السؤال في آيات القرآن، كأن يقول: هذه آية تقول كذا، وهذه الآية تقول كذا، بشيء معارض ظاهراً؛ فهل هذا مما نهى عنه السلف؟
الجواب
السؤال عن الآيات أو عن النصوص للاستعلام ولطلب العلم الشرعي ليس فيه حرج، أما إذا كان للتعنت أو لإظهار القدرة العلمية، أو للكشف عن قدرة المسئول؛ فهذا مما نهى الله عنه، لكن مجرد السؤال عن مثل هذه الأمور لطلب العلم، أو لإشكال لا يزول إلا بالسؤال هذا له ضوابطه، فإن كان السؤال مما يشكل في القدر أو في معاني أسماء الله عز وجل وصفاته مما يشكل على السامعين؛ فلا يجوز علناً، ينبغي أن يكون السؤال بين السائل -طالب العلم- والعالم، وإذا ورد السؤال على العالم على وجه يجهله السائل ووجد أن السؤال غير لائق فينبغي أن ينصرف عن الجواب عنه، ويحيل السائل على وقت آخر يجيبه فيه، إلا إذا خيف الإشكال في السؤال، بمعنى أنه لابد من الإجابة عنه خوفاً من أن يرسخ الإشكال.
المهم أن الأدب في السؤال أن يكون على الضوابط الشرعية، فإذا كان السؤال مما يثير، لكن السائل جاد فينبغي ألا يسأل هذا السؤال المثير علناً فيفتن الناس، وأن يكون قصده فعلاً الوصول إلى الحق، فهذه المسألة ترجع إلى هذا الضابط.
وليس كل من بدا له أمر أثاره، أما ظهور هذه الظاهرة بين كثير من المتعالمين أو طلاب العلم الصغار فينبغي أن يعالج.
يعني: كثرة الأسئلة في أمور قد تكون إما من المعضلات أو تكون من التوافه، وإشغال الناس بها، وأحياناً يعلقون بها الحكم على الناس والولاء والبراء والموقف من السائل والمسئول والسامع إلى آخره، هذه الأمور لا تجوز، وقد كثرت كثيراً أسئلة لا فائدة منها أو تثير إشكالات كبيرة في الدين، أو من التوافه التي لا يجوز التعلق بها وشغل الناس بها إلى آخره.
فهذه كثرت ولا شك، وتحتاج إلى علاج، وهذه الأمور دائماً تصحب كل موجة إقبال على العلم الشرعي، فنحن -بحمد الله- الآن في موجة إقبال على العلم والتدين، وهذا من الأمور التي تبشر بخير، لكن تكون فيها هذه الظواهر ويجب أن تعالج، فدائماً يصحب الإقبال على أي شيء من الأشياء -سواء في الدين أو في غيره- يصحبه بعض الأشياء في بداية الأمر والتجاوزات، فلابد من تسديد الناس وعلاجهم ونصححهم.(44/12)
شرح العقيدة الطحاوية [45]
هناك ألفاظ محدثة أطلقها أهل البدع كالجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته، ولم ترد في الكتاب والسنة، كالحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات ونحوها، هذه الألفاظ موقف أهل السنة والجماعة منها أنه إذا دلت على كمال فإنه يثبت ذلك الكمال الذي دلت عليه ويرد اللفظ؛ لأن دلائل الكتاب والسنة قد تضمنت ذلك الكمال وزيادة، وإن دلت على معانٍ باطلة فإنها ترد مطلقاً معانيها وألفاظها.(45/1)
الموقف من ذكر الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة نفياً أو إثباتاً
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي: أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها، فهو ثابت، وما نفي بها، فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون.
فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه.
والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني].
هذا الكلام كله يتعلق بالألفاظ المحدثة، والمقصود بالألفاظ المحدثة: هي تلك العبارات التي أطلقها أهل الأهواء، خاصة الجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم من أهل الكلام كالأشاعرة والماتريدية، أطلقوها في أسماء الله وصفاته، ولم ترد في الكتاب والسنة، سواء أطلقوها على سبيل الإثبات، ككلمة (القديم) وكلمة (الصانع)، أو أطلقوها على سبيل النفي كنفي المباينة والمفاصلة والعرض والجوهر والجسم إلى آخره، هذه العبارات كلها حينما كثرت وعمت بها البلوى قعد السلف لها بقواعد، هذه القواعد فيها تفصيل وفيها إجمال، أما التفصيل فسيأتي في الدرس القادم؛ لأن هذا الموضوع طويل، أما الإجمال فعلى ما يلي: أولاً: هذه الألفاظ -أي: كلمة الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، والجهات، والأجسام، والجواهر، والمباينة، والمفاصلة ونحو ذلك مما تكلم به المتكلمون- كل هذه الأمور: تعتبر ألفاظاً مبتدعة، لم ترد في الكتاب والسنة.
ثانياً: أنها لا تنفى بإطلاق ولا تقبل بإطلاق، يعني: لا تنفى نفياً مطلقاً ولا تثبت إثباتاً مطلقاً.
ثالثاً: أنه لابد من التفريق بين معانيها وبين ألفاظها، فما كان فيها من معانٍ صحيحة أخذت وقبلت وردت إلى ألفاظ الشرع، وما كان فيها من معانٍ فاسدة فإنها ترد مطلقاً، أما ألفاظها فليست بملزمة، بل ينبغي تجنب هذه الألفاظ البدعية.
رابعاً: أن ما تكلم الله عز وجل به عن نفسه وما تكلم به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه هو الكمال المطلق الذي يدخل فيه كل كمال يمكن أن يرد في أذهان البشر أو على ألسنتهم.
خامساً: أن كل كمال فالله عز وجل أحق به، وكل ذلك راجع إلى ألفاظ الشرع، فلا يمكن لأحد من المخلوقات أن يعبر باسم أو وصف أو فعل لله عز وجل بأعظم مما تكلم الله به عن نفسه وتكلم به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.(45/2)
مواقف الناس تجاه الحد والغاية ونحوهما من الألفاظ المحدثة
الأمر الآخر: أن الناس لهم تجاه هذه الألفاظ المحدثة ثلاثة مواقف: الموقف الأول: موقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، وهو التفصيل الذي ذكرته، بأن أي لفظ يرد يقصد به وصف الله أو تسميته فإنا لا نتعجل فيه، فإن اقتضى كمالاً أخذنا بمعنى الكمال لكننا نستغني عن اللفظ؛ لأنَّه لابد أن نجد هذا الكمال فيما تكلم الله به عن نفسه، بل لله عز وجل من الأسماء والصفات ما هو جامع لكل الكمال، مثل: اسم الجلالة (الله)، ومثل (الحي القيوم)، ومثل (العلي العظيم)، (الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد) إلى آخر ذلك من عبارات الكمال التي يدخل فيها كل كمال.
أما المعاني الباطلة فترد، والألفاظ لا نلتزم بها، بل نردها.
إذاً: هذا الفريق الذي يفصل هم أهل السنة والجماعة.
الفريق الثاني أو الطائفة الثانية: هم الذين يثبتون هذه المعاني ويقصدون التشبيه أو التجسيم أو التمثيل، وهؤلاء هم المجسمة، وسيأتي الكلام عنهم في ثنايا الدرس قريباً.
والمجسمة: هم الذين يطلقون هذه العبارات أو معانيها ويحدونها في حق الله عز وجل، وقد لا يقولون بالحدود، لكنهم يقولون بما يفهم الحدود، بأن يتصوروا لربهم تصورات تدل على الحدود، ويجعلون هذه التصورات عقائد، وكذلك الغايات والأركان والأعضاء والأدوات، فالمجسمة أشكال وأنواع، والممثلة كلهم يقولون بنوع من أنواع التحديد، والغايات والأركان، والأعضاء، والأدوات، وهؤلاء أيضاً جانبوا الحق ووقعوا في الكفر.
وطائفة تنفي هذه الألفاظ وتنفي معها حقائق صفات الله عز وجل وأفعاله، بمعنى أنهم يجعلون هذه القواعد عندهم هي المحتكم ثم يردون إليها معاني ألفاظ كلام الله عز وجل على نهج غير سليم، فيردون هذه الألفاظ كما يردها السلف لكنهم يردون معها معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله، فمثلاً: يقولون بأنه لا يجوز في حق الله الحد، والعلو الذاتي حد، إذاً: فالعلو منفي عن الله، ويقولون: العلو يكون علواً معنوياً، وأحياناً يقولون: الاستواء حد، والحد ممنوع، إذاً: الاستواء له معنى آخر، فيؤولون معنى الاستواء أو ينكرونه، وقد يقولون مثلاً: اليد عضو، والله منزه عن العضو، إذاً: لليد معنى آخر غير حقيقتها التي تكلم الله بها إلى آخره، فيردون هذه الألفاظ ويردون معها حقائق أسماء الله وصفاته وأفعاله.
وهذا الصنف هم المعطلة والمؤولة، وهؤلاء اللبس عندهم أكثر من اللبس عند المشبهة؛ لأن المشبهة أمرهم واضح، فالتشبيه ينفر منه الطبع، حتى العوام الذين لا يدركون تفصيل العقيدة، فإنهم في الغالب ينفرون من التشبيه، أما التأويل والتعطيل فإنه في الغالب يكون بأمور مشتبهات، ويكون بتلبيس، فيقع فيه كثير من الناس إذا لم يتشربوا العقيدة السليمة.
فالمهم أن أصناف الناس تجاه هذه الأمور ثلاثة: الأول: الذين يفصلون ويردون المعاني إلى أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة، وهم أهل السنة والجماعة.
الثاني: الذين يقبلون هذه الألفاظ ولا يتأدبون في إطلاقها على الله عز وجل، وهم الممثلة، وهؤلاء خرجوا عن الحق وكفروا.
الثالث: الذين يردون هذه الألفاظ ويردون معها حقائق صفات الله وأفعاله وأسمائه، وهؤلاء هم الجهمية المعطلة، والمعتزلة المؤولة، وأهل الكلام المؤولة.
ثم قال: [فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه] بمعنى أن هذه المعاني التي وردت بها هذه الألفاظ ما أثبته الله ورسوله منها أثبتناه، فمعانيها الحقة نردها إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نفاه الله ورسوله نفيناه.
يقول: [والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي]، بمعنى: يرد إليها كل شيء، فالألفاظ التي ورد بها النص أولاً تقر وتثبت ويؤمن بها، ثم تكون هي القاعدة والمحتكم والميزان، فما ورد على ألسنة البشر يرد إليها، فما كان فيها من معنى صحيح أخذ، لكن يلتزم اللفظ الشرعي ويرد اللفظ البدعي، فاللفظ البدعي قد يحتمل حقاً وباطلاً، فالحق الذي فيه نأخذه ونرده إلى ألفاظ الشرع، ونستغني عن اللفظ المبتدع، والباطل نرده مطلقاً، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني.(45/3)
الأسئلة(45/4)
إطلاقات الإرجاء تاريخياً
السؤال
ما حكم القول بأن من الصحابة مرجئة بسبب موقفهم من الفتنة التي وقعت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وإن كان إرجاؤهم من جهة اللغة، وهل المرجئة ظهرت في الصدر الأول كما يقول بعضهم؟
الجواب
المرجئة من حيث الإطلاق التاريخي تطلق على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الذين توقفوا في أمر المختلفين بعد الفتنة التي تلت قتل عثمان رضي الله عنه؛ فإن هناك من الناس من توقف في أمر الفريقين الذين حصل بينهم نزاع بعد مقتل عثمان، وهذا التوقف على درجات، منهم من توقف في أن يحكم عليهم في الدنيا من هو المخطئ ومن هو المصيب، ومنهم من زاد وتوقف في الحكم عليهم في الآخرة، وعلى أي حال هذا إرجاء تجاوزه الزمن ولم يعد له وجود، إلا عند بعض طوائف أهل الأهواء، ولم يقل به أحد من الأئمة المعتبرين.
كما أنه لم يعد يطلق في الاصطلاح، فالاصطلاح يطلق على الإرجاء الذي هو النوع الذي ظهر بعد ذلك، وهو إرجاء الأعمال عن الإيمان، أي: إخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا يسمى إرجاء الفقهاء.
ونوع ثالث هو إرجاء الجهمية، وهم الذين يقولون بأن الإيمان هو المعرفة فقط، وأن من عرف الله كفاه ذلك، فلا ينفعه زيادة عمل ولا يضره العصيان، إنما مجرد المعرفة بالله تكفيه وتكون طريقاً للنجاة.
فالإرجاء الأول والإرجاء الثاني لم يعد لهما شهرة، وصار الاصطلاح الغالب أن إرجاء الفقهاء هو القول بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الأعمال لا تزيد ولا تنقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان.
أما الإرجاء الأول: فإنه لم يكن واضحاً أولاً، بمعنى أنه فيه اضطراب في النقل، ثم إنه لم ينسب إلى أحد من المعتبرين، إنما نسب إلى طائفة من الذين توقفوا وليس لهم اعتبار في الدين، إما أئمة الدين من الصحابة الذين حصلت في عهدهم الفتنة، وكذلك كبار التابعين فإنهم لم يستقروا على عقيدة تسمى الإرجاء، إنما استقر قولهم آخر الأمر بعد تمحيص الأخبار على أن المقتتلين أو الذين تنازعوا بعد عثمان رضي الله عنه من الصحابة وغيرهم كلهم مجتهدون، وكلهم مأجورون، وأن الفئة الأقرب إلى الحق هي التي كانت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالجملة، والفئة الأخرى مخطئة لكنها لا تفسق بذلك؛ لأنها مجتهدة، ولأنها مأجورة، هذا ما انتهى إليه السلف آخر الأمر، ولم يعد هناك قول ثانٍ يعتد به.(45/5)
مدى صحة تسمية إرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى الله إرجاءً
السؤال
أحدهم قسم ما وقع في مرجئة السنة إلى قسمين: الأول: إرجاء أمر صاحب الكبيرة إذا لم يتب إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والثاني إرجاء العمل عن مسمى الإيمان، فهل الأمر الأول يسمى إرجاء؟
الجواب
هذا ليس بإرجاء، هذا تعبير عن الحق، كلمة (يرجأ أمره إلى الله) تعبير عن الحق، وليس هذا إرجاءً بالمعنى البدعي، إنما هذا تعبير لغوي عن عقيدة سليمة، أي: أن يقال: إن العصاة يرجأ أمرهم إلى الله عز وجل إذا ماتوا على معصيتهم، فهذا ليس بإرجاء، إنما التعبير بـ (يرجأ) هنا تعبير لغوي سليم ليس بمعنى الإرجاء البدعي.(45/6)
شرح العقيدة الطحاوية [46]
الأصل الواجب في صفات الله تعالى أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها كالجهة ونحوها من الألفاظ المحدثة، فيثبت ما دلت عليه من المعاني الصحيحة اللائقة بالله، وينفى ما دلت عليه من المعاني الباطلة، وأما اللفظ فيرد مطلقاً؛ لأنه لفظ مبتدع محدث، ومعناه قد دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.(46/1)
معنى قول الطحاوي: (وتعالى عن الحدود والغايات)
نعود هنا إلى بيان المصطلحات؛ لأنها ستكون مثار أمثلة في أكثر المقاطع التي ستأتي.
قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
هذا متعلق بما أطلقه أهل الأهواء في زمن المؤلف رحمه الله، وهو الطحاوي صاحب الأصل، ثم إن هذه المصطلحات تتعلق بما اشتهر من كلمات في عهده في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ثم أضاف إليها الذين جاءوا بعد من أهل الكلام في القرن الخامس والسادس عبارات جديدة، فلعلنا نقف عند مفاهيم هذه العبارات وقفة لتكون قاعدة لما سيأتي من أمثلة وموازين على ضوء ما ذكر الشيخ.
فقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات)، يقصد أن الله عز وجل منزه عن أن يحد بأي نوع من الحدود الزمنية، والحدود المكانية، والكيفية، والعمق، والمسافة، ونحو ذلك، كل هذا يسمى حدوداً.
وكذلك الغايات، أي: النهايات، والنهاية تدل على ما ذكرته، والحدود والغايات بينهما ترابط، فإن القول بالحدود يلزم منه القول بالغايات، فبين العبارتين نوع ترادف، وهذه العبارات التي جاءت لم يكن السلف يتكلمون بها، بل كانوا يبدعون من قالها، لكن لما قيلت احتملت معنيين كما سيأتي في الشرح، فالمعنى المتبادر للأذهان هو الذي نفاه الشيخ، فالشيخ هنا قرر ما تقتضيه الفطرة كعادة السلف في ذلك الوقت قبل أن يكثر تشقيق هذه العبارات والتفصيل فيها إلى حد يحتاج إلى مزيد بيان.
فمن البدهي أن الله عز وجل منزه عن الحدود المعلومة في عالم الشهادة، ومنزه عن الغايات المعلومة في عالم الشهادة، لكن لا يعني ذلك أنه تعالى منزه عن الكمال الذي يسميه أهل الأهواء حدوداً وغايات، فلله عز وجل من صفات الكمال، ولله عز وجل من الأسماء والأفعال ما سماه أهل البدع حدوداً وغايات من أجل أن ينفروا فطر الناس من العقيدة السليمة، فمن هنا ينبغي التنبه إلى هذا المعنى الذي سيأتي تفصيله.(46/2)
معنى نفي الأركان والأعضاء والأدوات عن الله عز وجل
وكذلك قوله: (والأركان، والأعضاء، والأدوات)، هذه أيضاً فيها نوع ترادف، حيث يقصد بالأركان الأجزاء الأساسية التي تشكل الشيء، فالغالب أن الذين أطلقوا هذه الكلمات يقصدون بالأركان مثل: الرجل، واليد، والقدم، والوجه ونحو ذلك، وقد يقصدون بالأركان أحياناً مثل العرش والكرسي ونحو ذلك.
وكذلك الأعضاء يقصدون بها الأعضاء المعهودة في المخلوقات، كاليد، والرجل، والوجه وغيرها، والأدوات هي الأمور التي تستعمل عند المخلوقات عادة، لكنهم يدخلون في مفهوم الأدوات الرجل، والقدم، واليد ونحو ذلك.
فهذه الأمور -الأركان، والأعضاء، والأدوات- لا شك في أنها بالفطرة منفية عن الله عز وجل بمفهومها عند البشر، فهي منفية عن الله عز وجل إطلاقاً وحتماً؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وله الكمال المطلق، لكن أهل الأهواء الذين نفوها يقصدون بنفيها نفي ما ورد من صفات الله عز وجل، فيسمون صفات الله الواردة أركاناً وأعضاء وأدوات، فيسمون: اليد، والرجل، والوجه، والنفس أركاناً وأعضاء وأدوات، فمن هنا كان لابد من التفصيل.
وقول الشارح ينبني على النفي الفطري، ففي وقته لم يكن الناس قد تعمقوا في هذه المسائل، لكن بدأت بوادرها، فكان يقصد النفي الفطري؛ لأن الله عز وجل يتعالى عن هذه الأمور التي يفهمها البشر في عالم الواقع والشهادة، وإلا فإن الله عز وجل له من الصفات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي قد يسميها بعضهم من المبطلين أركاناً، وأعضاء وأدوات؛ تمويهاً وتشبيهاً وتلبيساً.(46/3)
معنى قول الطحاوي: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)
ثم قال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
المقصود بالجهات الست: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ثم الفوق، والتحت.
هذا الكلام أيضاً كلام مجمل، فالمسلمون بفطرتهم كلهم -إلا الذين دخلهم شيء من الأهواء- يعرفون أن الله عز وجل لا تحكمه الجهات التي تحكم المخلوقات، لكن قد يدخل في نفي مفهوم الجهة ما هو من كمال الله عز وجل، وهو العلو والفوقية والاستواء، فقد يسميها كثير من المبطلين جهة، ومن هنا ينفون العلو والاستواء والفوقية بدعوى أنها جهة، فكان لابد من التفصيل، لكن الإمام الطحاوي رحمه الله نفاها بالنفي الفطري المعروف عند سائر السامعين قبل أن تتحقق هذه الأمور بالتشقيقات الفلسفية، هذا أمر.(46/4)
بيان ما أحدثه المتكلمون من مصطلحات لنفي ما ثبت لله من الصفات أو تأويلها
الأمر الآخر: أن الذين جاءوا بعد الطحاوي أضافوا أموراً أخرى هي أكثر ما يدور الآن عند المتكلمين المتأخرين، وهي ما يسمونه: الأعراض، والجواهر، والأجسام، يقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأجسام، والأعراض، والجوهر، والتلبيس الذي وجد في هذه الألفاظ كالتلبيس الذي وجد في تلك، لكن استعمالها أكثر، فاستعمال الأعراض والجواهر والأجسام الآن وسيلة لتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله أو تأويلها أكثر من استعمال الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات؛ ذلك أنهم زعموا أن إثبات الصفات يقتضي التجسيم، فقالوا: إن الله عز وجل منزه عن الجسم، وهذا كلام فيه جانب حق لكن أريد به الباطل، نعم الله ليس كسائر المخلوقات التي لها أجسام، لكنهم يدخلون في مفهوم الجسم بعض كمالات الله عز وجل فينفونها بدعوى أنها جسمية، كاليد والعين والنفس ونحو ذلك، يقولون: هذه تقتضي الجسمية، والله عز وجل منزه عن الجسم إذاً: هو منزه عن أن نثبت له يداً ورجلاً وقدماً ونحوها على ما يليق بجلاله، فمن هنا نفوا الصفات بدعوى أنها تقتضي الجسمية، والتمثيل والمشابهة وكذلك الأعراض، يقصدون بالأعراض: الصفات التي يمكن أن يعبر عنها بتعبير يدل على كيفيتها على أي نحو من الأنحاء: فالطول، والعرض، واللون ونحو ذلك كلها أعراض، فيقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأعراض، وهذا الكلام فيه حق، لكنه اشتمل على تلبيس، فيدخلون في الأعراض الصفات، فيقولون: إن هذه أعراض، إذاً: فلابد من تأويلها، وكذلك الجواهر، والجواهر: مفردات الجسم، فجزئيات الجسم يسونها جواهر، فينفون كثيراً من صفات الله عز وجل لأنها -كما يقولون- تقتضي الجسمية، والجسمية ترد إلى الجواهر، والله عز وجل ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، فمن هنا كل ما يدل على هذه المعاني من الصفات الواردة في الكتاب والسنة إما أن ينفوه، وإما أن يؤولوه بدعوى أنه يقتضي الجسمية، أو العرضية، أو الجوهر ونحو ذلك.
فيقولون مثلاً: اليد ركن، أو اليد عضو، أو اليد جسم، أو اليد عرض، أو اليد تتكون من مجموعة جواهر إلى آخره، إذاً: فلا يليق أن نصف الله باليد.
فيقعون ويوقعون في التعطيل والتأويل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، كل هذه الأمور بدأت تظهر من جديد على أساس أنها معاول ووسائل للتأويل والتعطيل الذي سلكه المبتدعة.
وقد ذكر الشارح هؤلاء بقوله: [لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي]، بمعنى أنهم يتفاوتون في المفهوم منها، فكل يفهمها بحسب ما لديه من قواعد وعقائد سابقة وخلفية إن صح التعبير؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، النفاة الذين هم أهل الكلام والجهمية والمعتزلة، هؤلاء كلهم نفاة.
وقوله: [ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به]، يعني أن النفاة الذين يستعملونها لنفي صفات الله وتعطيلها يقولون لمن أثبت الصفات: إنه قال بالحد، أو يقول بالغايات، أو يقول بالأركان، ويرون أنه يقول بالأعضاء، أو أنه يقول بالأدوات، أو أنه يقول بالجسمية، والعرضية، والجوهرية إلى آخره، ولذلك وصف المتكلمون السلف بأنهم حشوية ومجسمة، وحاشاهم.
قوله: [وبعض المثبتين لها] يقصد هنا المشبهة الممثلة [يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف]، حيث يبالغون في الإثبات إلى حد لم يرد في الكتاب والسنة، فيثبتون الحد، والغاية، والركن، والعضو، والأداة بألفاظ بدعية وبمعانٍ لا تليق بالله عز وجل، وتناقض قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهؤلاء هم المشبهة الممثلة المجسمة، وهم -بحمد الله- في الأمة قليل.(46/5)
القاعدة الشرعية فيما لم ترد به النصوص نفياً أو إثباتاً من المصطلحات
ثم ذكر القاعدة في الكتاب والسنة في هذه الأمور بقوله: [ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها]، هذه قاعدة كبرى تحكم جميع هذه الألفاظ وغيرها من الألفاظ التي ترد، فكل ما يوصف به الله عز وجل مما لم يرد في الكتاب والسنة يخضع لهذه القاعدة، سواء في الأسماء أو الصفات أو الأفعال، كل ما يرد على ألسنة الناس -سواء الألفاظ القديمة التي ذكرت نماذج منها، أو الألفاظ التي تحدث الآن من كثير من الناس- فإنه إذا لم يأت في الكتاب والسنة فلابد أن يخضع لهذا الميزان، وهو أنه لم يرد نص من الكتاب والسنة ينفيها ولا يثبتها، إذاً: فلابد من التفصيل على النحو الذي سيأتي.
يقول رحمه الله تعالى: [وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً]، يعني: لا ننفي ولا نثبت، لا هذه الأمور ولا غيرها مما يرد من الأمور المشتبهة.
نعم النقائص المحضة ننفيها دون تردد، والكمال المحض الواضح الذي ليس فيه إشكال نثبته بلا تردد، لكن أغلب الألفاظ وما يثبه الناس وينفونه مما لم يرد في الكتاب والسنة من الأمور المشتبهة التي تحتمل معنى باطلاً وتحتمل معنى حقاً، فهذه لابد أن يتوقف فيها على القواعد التي ستأتي.(46/6)
قواعد شرعية في شأن الألفاظ المبتدعة
قال رحمه الله تعالى: [فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك].
في هذا المقطع أجمل مجموعة من القواعد العظيمة التي قررها السلف؛ أجملها إجمالاً لأنه كان الأمر في عصر الشارح واضحاً عند كثير من أهل العلم، أما الآن فنحتاج إلى أن نستقرئ هذه القواعد الإجمالية بشيء من التفصيل، والتي تحكم ما ذكره سابقاً من الكلام عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء، وسائر الألفاظ المبتدعة، هذه القواعد تتلخص فيما يلي: القاعدة الأولى: أنه في باب الأسماء والصفات والأفعال يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، هذه القاعدة الأولى وهي المرجع، وهي الأصل.
القاعدة الثانية: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما لم يرد في الكتاب والسنة نفياً وإثباتاً بدعة في الأصل، ولم يخالف في ذلك أحد من السلف، لكن قد يضطر العالم إلى الكلام فيما ابتدعه الناس ضرورة من أجل بيان الحق وتثبيته، ونفي الباطل والرد على أهله، هذا أمر قد يضطر إليه العالم، بمعنى: أنه لم يوجد أصلاً من السلف من أجاز لنفسه أن يتكلم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بشيء لم يرد في الكتاب والسنة لغير حاجة ابتداء، لكن ما فعله بعض السلف من الكلام في الأمور التي أحدثها أهل البدع؛ فإنما لجئوا إلى ذلك اضطراراً تقريراً للحق ودفاعاً عن العقيدة؛ لأن البدعة إذا اشتهرت أو عمت بها البلوى لابد من الكلام فيها لتصحيح العقيدة ولنفي الباطل ولإقرار الحق والدفاع عن عقيدة السلف.
إذاً: تبقى القاعدة سليمة، وما حدث من بعض السلف من الكلام في أمر لم يرد في الكتاب والسنة إنما حدث اضطراراً لعموم البلوى.
القاعدة الثالثة: أن هذه الألفاظ التي ذكرها الشارح عن أهل الكلام ونحوها تبين لنا جزماً بالاستقراء أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيها ولا إثباتها، فهذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون، كالحدود، والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات والأعراض والجسم والجوهر والمباينة والمفاصلة والجهة ونحو ذلك، كل هذه الأمور لم يرد في الكتاب والسنة نفيها مطلقاً ولا إثباتها مطلقاً، إذاً: نحتاج إلى أن نرجع إلى القواعد العامة، كقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
القاعدة الرابعة: أن هذه الألفاظ إذا وردت على لسان أحد من الناس فلا تنفى إطلاقاً ولا تثبت إطلاقاً، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن قصد قائلها معنىً صحيحاً يدل على الكمال أخذنا هذا المعنى، ورددناه إلى ألفاظ الشرع، أما اللفظ المبتدع فيرد مطلقاً، وما يحمله من معنى يرد إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما كان فيها من معنى فاسد فإنه يرد مع لفظه.
القاعدة الخامسة: أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء وصفات وأفعال الكمال لله عز وجل يفي بكل ما يمكن أن يتصوره البشر من الكمال، وبكل ما يمكن أن ينطقون به بأي لسان من الكمال لله عز وجل، فأي كمال يمكن أن يتصور وأي كمال يمكن أن ينطق به البشر بأي لغة من اللغات؛ فلابد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يدل عليه وزيادة، بل من أسماء الله عز وجل ما يشمل كل كمال يمكن أن يتصور، كاسم الجلالة (الله)، وكالحي القيوم، والأحد الصمد، وكالعلي العظيم، وكثير من أسماء الله عز وجل تتضمن الكمال المطلق، فلو نطق جميع البشر بأنواع الكمالات لاشتمل عليها هذا اللفظ وهذا الاسم لله عز وجل.
وإنما أردت بهذا أن أقرر ما ذكره السلف من أنه لا يمكن أن يتوهم أن يرد في ذهن أحد من الناس أو على لسانه كمال نحتاج إلى أن نثبته ولم يرد في الكتاب والسنة مثله أو ما يزيد عليه.(46/7)
أمثلة للموقف الصحيح تجاه الألفاظ المبتدعة(46/8)
الموقف الصحيح من لفظ الأعضاء
نعود إلى التمثيل على هذه القواعد جميعها، فلنأخذ من ذلك (كلمة الأعضاء) على سبيل المثال: فإذا جاء إنسان وقال: الله عز وجل منزه عن الأعضاء، فظاهر كلامه أنه حق لأول وهلة؛ لأنه قد يفهم المعنى المباشر، وهو الأعضاء المعلومة عند المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن إن كان المتكلم صاحب بدعة ومعروفاً بالاعتزال أو بالتجهم، أو بالحذلقة والجدال والمراء، أو بالتفلسف والتعالم والغرور، وأطلق هذه الكلمة ونحن نعرف من قرائن أحواله أنه متكلم أو متحذلق أو متعالم فلا يجوز له ولا يجوز لنا أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه، فنقول: نعم كلمة (أعضاء) لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ماذا تريد بالأعضاء؟ إذ يحتمل عندنا مراد من ينفي عن الله الأعضاء -تعالى الله عما يتصوره المشبهة والممثلة وما يزعمه النفاة والمعطلة- احتمالين، فنقول له: ماذا تقصد بالأعضاء؟ فإن قصد بالأعضاء الجسمية المعهودة للمخلوقات فنفي ذلك حق، ولكن ينفى بدون إشارة إلى الأعضاء، فلا داعي لأن نقول: إن الله عز وجل منزه عن الأعضاء التي هي أعضاء المخلوقات لأن هذا أمر بدهي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنقول له: نزه الله بما نزه به نفسه تسلم من هذه الفلسفات، فقل: ليس كمثله شيء سبحانه، أو قل: هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أو نحو ذلك من النفي المجمل الكامل الذي ينفي كل نقص عن الله عز وجل.
إذاً: إذا كان المتكلم يريد المعنى الباطل المعهود في الأذهان فنقره على ذلك، لكن نبين له أنه أخطأ في إطلاق كلمة أعضاء؛ لأنها قد تحتمل المعنى الآخر.
وقد يحتمل أن يقصد النافي للأعضاء نفي صفات الله عز وجل التي توهم أنها إثبات للأعضاء، فقد يكون قصد هذا المتكلم من المتفلسفة أو من أتباع الفرق الذين ابتلوا بالكلام في هذه الأمور -كالأشاعرة والماتريدية، والجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم أو تأثر بالفلاسفة- قد يكون قصده بنفي الأعضاء نفي ما أثبته الله لنفسه عز وجل من اليد والوجه والقدم والرجل ونحو ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة، فنقول له: إن كنت تقصد بهذا نفي ما أثبته الله لنفسه فهذا باطل، لا يجوز لك أن تنفي ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته الله لنفسه حق، فقولك هذا لا تقر عليه، وتسميتك لهذه الصفات أعضاء خطأ.
إذاً: المعنى الذي نفى به كلمة (عضو) إن قصد به ما يتبادر إلى الذهن من مشابهة المخلوقات؛ فهذا منفي عن الله عز وجل، وإن قصد به ما ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل التي يتوهم أنها تشبه صفات المخلوقات فيقال له: عبارتك ليست صحيحة، فنفيك للأعضاء من حيث إنها تشبه أعضاء المخلوقين حق، لكن بهذا التعبير خطأ، ونفيك للأعضاء بمعنى صفات الله عز وجل التي سميتها أعضاء باطل، ولا يجوز لك أن تنفي بهذه الطريقة، بل تنفي ما نفاه الله عن نفسه، وتثبت ما أثبته الله لنفسه.
وبقي المعنى الصحيح لكلمة أعضاء، وهو إثبات الصفات، فنقول: نثبت لله الصفات، وهو المعنى المقصود عند المتكلم حينما أخطأ، لكن نستغني عن كلمة (أعضاء) لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل وصف نفسه بصفات معينة تليق بجلاله، ولأن هذا اللفظ يشتبه الأمر فيه، فننفيه.(46/9)
الموقف الصحيح من لفظ الجهة
ويتبين الأمر بمثال آخر مفرد، وهو كلمة (جهة)، فبعض الناس يأتي ويقول: الله عز وجل منزه عن الجهة، فنقول له: كلامك هذا مجمل، فما قصدك بالجهة؟ فهذه الكلمة لم ترد في الكتاب والسنة وهي بدعة، فأنت تكلمت ببدعة، لكن حينما نفيت الجهة ماذا تقصد؟ فلابد من أن يقصد أحد أمرين: إما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية والاستواء، وإما أن يقصد بالجهة المكان الذي يحصر الموجود.
فإن قصد بالجهة المكان الذي يحصر ويحيط بالموجود؛ فنقول: الله عز وجل لا يحيط به شيء، وهو سبحانه أعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات، فهذا المعنى منفي عن الله فعلاً، لكن لماذا سميته جهة؟! وإما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية، فنقول له: أخطأت في نفي الجهة؛ لأنك حينما سميت العلو والفوقية جهة بهذا اللفظ أخطأت، فالعلو والفوقية والاستواء ثابتة لله عز وجل، لكننا لا نسميها جهة.
وكذلك لو أطلق إنسان الجهة على الله عز وجل على سبيل الإثبات وليس على سبيل النفي، فقال: أنا أطلق على الله الجهة، نقول له: ماذا تقصد؟ فإن قال: أقصد بالجهة أنه تحيط به الأشياء، قلنا: هذا باطل، ونرد اللفظة ومعناها الباطل، وإن قصد بإثبات الجهة إثبات العلو والفوقية والاستواء فنقول له: المعنى الذي قصدته بالجهة -وهو العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل- صحيح، لكننا لا نحتاج إلى كلمة (جهة)؛ لأنها مشتبهة، فأخذنا المعنى ورددنا اللفظ، وهكذا كل مثال يرد من هذه الأمور المشتبهات، فما فيه من معنى صحيح نأخذه، لكن نرد اللفظ؛ لأن اللفظ مشتبه، وما فيه من معنى باطل نرده مع لفظه مطلقاً.(46/10)
بيان ما أراد به الطحاوي من نفي الحدود والغايات والأعضاء والأدوات ونحو ذلك
قال رحمه الله تعالى: [والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـ داود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً].
المشبهة الأوائل كـ داود الجواربي وهشام بن الحكم وما نسب إلى الكرامية وما نسب إلى المقاتلية على درجات، فمنهم من يدعي التشبيه والتمثيل الكامل، حتى إنه يتكلم عن الله عز وجل بالحد والمسافة، ويتكلم عن الله عز وجل بوصف لا يعرف إلا في المخلوقات كالنوع والكيفية، فهذا التشبيه وجد في الرافضة الأوائل كالجواربية والجواليقية ونحوهم، وهناك نوع آخر من التشبيه، وهو المبالغة في الإثبات على نحو ما ذكر سابقاً، مثلاً: يقولون: إن الله عز وجل -تعالى الله عما يقوله الظالمون- موصوف بالحد، أو يقولون: إن الله موصوف بالجهة، ولا يقصدون ما يعنيه السلف من العلو والفوقية، إنما يقصدون المعنى الباطل الذي ذكرت، وأحياناً يقولون: قابل لوصف الأعضاء أو نحو ذلك، تعالى الله عما يزعمون، لكنهم لا يحددون تفصيلاً، إنما يقولون هذا إجمالاً، يعني: لا يتورعون عن القول بالأعضاء والأركان والأدوات والحدود والغايات والجهات ونحو ذلك، لكنهم لا يفصلون، ويقولون: إن إثبات الصفات يدل على هذه المعاني، يعني: يأتون بمعان مبتدعة جديدة، ويقولون: إثبات الصفات يدل عليها، وهؤلاء كالكرامية، وكالمقاتلية، والمشبهة المتأخرة الذين انتهوا؛ لأن التشبيه مر بمرحلتين: المرحلة الأولى في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وكان تشبيهاً شنيعاً بمعاني التشبيه الساذجة التي لا تليق حتى حكايتها، فلما اصطدموا بأقوال أهل العلم وبجهود السلف وما فعلوه تجاههم -حتى إنهم كفروهم وحكموا بقتلهم- تراجعوا عن التشبيه الكامل، فقالوا بالتشبيه المجمل، لكنه أيضاً تشبيه بدعي نفاه السلف وتبرءوا منه، وهو التشبيه الذي لا يتكلم في التفصيلات، لكن يعطي لأسماء الله وصفاته معاني لم ترد في الكتاب والسنة، وتوهم السامعين، مثلما ذكرت، فلا يتورعون عن إطلاق الحدود والغايات والأركان والأعضاء على الله تعالى إجمالاً، وهذا التشبيه انقرض وانتهى، أما المشبهة الأوائل الرافضة؛ فقد انقلبوا إلى معطلة وتحولوا إلى جهمية ومعتزلة مع بقائهم على مذهب الرفض، كما ذكرت في السابق.(46/11)
موقف السلف من لفظ الحد
قال رحمه الله تعالى: [فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته].
أي: لا يعلمون الله كيفية، وإلا فسيأتي التفصيل في معنى الحد، فهناك حد عبر عنه السلف من باب الإخبار لا من باب الصفة لله عز وجل؛ لأن السلف يفرقون بين الإخبار والصفة.
فالإخبار: البيان، وإذا أردت أن تبين فلابد أحياناً أن تزيد، مثاله: إنسان قال لك: ما معنى الأول؟ فتأتي له بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسيره للأول بالذي ليس قبله شيء، وإنسان قال: ما معنى الآخر؟ فتقول: الآخر اسم الله عز وجل جاء خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الذي ليس بعده شيء، فلو أن إنساناً ما فهم العبارة، وقال: هل معنى الأول القديم الذي ليس قبله شيء؟ تقول: نعم.
وليس معنى ذلك أنك أثبت الاسم القديم، لكنه شرح لمعنى الأول، فالشرح إذا لم يتعد الحد اللغوي الصحيح يجوز بحدود المصلحة والحاجة.
إذاً: فالسلف ينفون كلمة (حد)، لكن قد يخبرون عن المباينة والمفاصلة لله عز وجل عن مخلوقاته بالحد، لئلا يتوهم أحد حلول الله عز وجل في مخلوقاته.
فقوله: [أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته].
يعني: لا يقولون بالطول، والعرض، والعمق، والكثافة ونحو ذلك مما خاض به الخائضون، لا يقولون بذلك ويتورعون عن الكلام فيه، ويبدعون من تكلم؛ لأنه نوع من الحد، والله عز وجل ليس كمثله شيء.(46/12)
ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سفيان وشعبة والحمادين وشريك وأبي عوانة
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر].
قصده أنهم لا يشبهون يعني: لا يتكلمون في التشبيه، لا يقولون: يشبه كذا، ولا مثل كذا، ولا فعله يشبه كذا، ولا صفته مثل كذا إلى آخر ذلك مما تورع عنه السلف، ورأوا أنه من الباطل الذي لا يجوز أن يجري على ألسنتهم.
[ويروون الحديث]، أي: يروون الحديث الثابت في الصفات، ونحن نعلم بالبداهة أنهم يروون الحديث إجمالاً، لكن هنا نص على أمر مهم، وهو أنهم يروون الحديث في الصفات حتى وإن إشكل على بعض السامعين، لذلك ذكروا أنه من الفوارق البينة بين السلف وخصومهم أن السلف يروون الأحاديث في الصفات، ولا يجدون في ذلك غضاضة، بل إنهم يجدون في هذا متعة؛ لأنها عن الله عز وجل، وفي تعظيمه وإجلاله، على عكس أهل الأهواء، فإنهم يترددون في رواية أحاديث الصفات، ويكرهون روايتها، حتى إن بعضهم كان إذا وقف وقفاً على مدرسة أو كذا اشترط ألا تقرأ فيها أحاديث الصفات، فإذا وقف مكتبة أو أهدى مكتبة اشترط ألا يكون فيها أحاديث الصفات، وبعضهم كان يسمع البخاري، فإذا جاء إلى آخر أبواب البخاري وبدأت أحاديث الصفات ترك الدرس وتخلى عنه؛ لأنَّه يكره أحاديث الصفات.
فهذا معنى قوله: [ويروون الحديث] فالسلف يروون الحديث وليس عندهم في ذلك شيء، فمادام قد ثبت الحديث في صفات الله عز وجل فإنهم يروونه حتى ولو كرهه بعض السامعين أو بعض أهل الأهواء الذين لا يثبتون الصفات، فلذلك قالوا: من أشد الأمور على أسماع أهل الأهواء أحاديث الصفات، وهذا حق، وإلى اليوم تجدهم إذا رويت أحاديث الصفات لا تسلم من تعليقاتهم ومن لمزهم، وإذا نظرت لتحقيقاتهم أو إلى أعمالهم -كما هو حاصل من كثير من المتكلمين الآن إذا تعرضوا لكتب السلف- تجدهم يعلقون على أحاديث الصفات بتعليقات تدل على أنهم يكرهونها، وهي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(46/13)
ذكر ما أثر في لفظ الحد عن ابن المبارك
قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه)، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم.
سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه، قيل: بحد؟! قال: بحد.
انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد؛ فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة].
هذا يصلح مثالاً لما ذكرته سابقاً، وهذا المثال كله ورد تفصيله على ألسنة السلف، وهو كلمة الحد، فقد يأتينا إنسان متفلسف فيقول: الله عز وجل منزه عن الحد، فنستفصل منه، ونقول له: ماذا تريد بالحد؟ إن أردت بالحد أن الله عز وجل منفصل عن مخلوقاته ووجوده غير وجود المخلوقات وأسماؤه وصفاته وأفعاله غير أسماء وصفات وأفعال المخلوقات فنعم، فالله عز وجل يثبت له الحد بهذا المعنى، ولذلك قال ابن المبارك بإثبات الحد؛ لأنه كان في خراسان، وخراسان في وقت عبد الله بن المبارك اشتهرت فيها مذاهب الجهمية، والجهمية ينكرون أسماء الله وصفاته ويزعمون أن إثباتها يقتضي الحد، بل يزعمون أن إثبات العلو والفوقية والاستواء يقتضي الحد، يقصدون بالحد الذي ينفونه أن الله له وجود غير وجود المخلوقات؛ ذلك أن مذهبهم كما قال الجهم: إن الله في كل شيء وفي كل مكان، قال ذلك حينما أشكل عليه قول سني له: أين ربك الذي تعبد؟ هل تحسه؟ هل تراه؟ هل تعقله؟ إلى آخره فجلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول، ثم خرج ببدعة وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء! تعالى الله عما يزعم.
إذاً: هم لا يعتقدون أن لله وجوداً غير وجود المخلوقات، فمن هنا ينفون الحد، أي: أن يكون لوجود الله حد ينفصل عن وجود المخلوقات، فلما نفوه أثبته ابن المبارك رداً عليهم، فقالوا: بحد؟ قال: نعم بحد.
أي: أن الله وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى الحد في قول ابن المبارك، فهذا المعنى للحد أثبته السلف، وبعضهم أطلق لفظ الحد من باب الإخبار لا من باب الإثبات، وهذه المسألة ينبغي أن نعرف فيها ألفاظ السلف التي أثبتوا بها ما لم يثبت في الكتاب والسنة، فهم يقصدون الإخبار ولا يقصدون الإثبات، فهم لا يقصدون الوصف، كإثبات الصانع، وكالجهة، والقِدَم، والحد، فهذه يتكلم بها بعض السلف من باب التفسير والبيان والإخبار، لا من باب الاسم أو الصفة.
فـ ابن المبارك حينما قال: (بحد)، يقصد أن الله عز وجل وجوده غير وجود مخلوقاته، فهذا المعنى من الحد مثبت، لكن لفظ الحد نستغني عنه.
ثم قال بعد ذلك: [ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره]، فهذا القدر مثبت عند السلف، أما الحد بمعنى العلم والقول، بمعنى أن نحد الله بعلمنا بأن نعلم كيفية وجود الله، أو نقول بذلك؛ فهذا ننفيه.
فقوله: [وأما الحد بمعنى العلم والقول] يقصد الحد بمعنى العلم بالكيفية أو القول عن الكيفية، فهذا منتف بلا منازعة.
إذاً: إذا ورد عن السلف نفي الحد فإنهم يقصدون الكيفية، وإذا ثبت عن السلف إثبات الحد فإنهم يقصدون المفاصلة والمباينة، وأن وجود الله عز وجل ليس كوجود مخلوقاته.(46/14)
ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سهل التستري
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي سمعت منصور بن عبد الله سمعت أبا الحسن العنبري سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول وقد سئل عن ذات الله، فقال: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية].
قوله: (ينظر إليه المؤمنون بالأبصار) يعني: يوم القيامة، وهذا أمر بدهي ما كان يحتاج إلى احتراز عند الأوائل، لاسيما أن القائل من أوائل العباد النساك، فهذا من كلام سهل بن عبد الله التستري، وهو من أوائل العباد النساك الذين ترتكز عليهم الصوفية في بدعها وتنسب إليه ما لم يقله وما لم يفعله، كما أن له رحمه الله بعض الشطحات، لكنها ليس كشطحات الصوفية، ويلحظ في هذا السند أن كل رجاله من أوائل المتصوفة الذين لم تختل عندهم العقيدة، لكن عندهم شطحات في السلوك والعبادة، والمقصود سلوك التصوف وليس سلوك الأخلاق.
فـ أبو القاسم القشيري معروف من كبار المتصوفة الأوائل، وكذلك السلمي من كبار المتصوفة الأوائل، ومنصور بن عبد الله كذلك، وأبو الحسن العنبري كذلك، وسهل بن عبد الله التستري من أكابر العباد والنساك الأوائل الذين حصل منهم الشطحات.
والمقصود أن هذا القول من التستري يدل على أن العباد الأوائل -إذ هو من عباد القرن الثالث- كانوا على عقيدة السلف، فلذلك نجد بالاستقراء أنهم في القرن الثاني والثالث من أقوى الناس دفاعاً عن العقيدة ومن أحسن الناس تعبيراً عن العقيدة وتقريراً لها، ومن أكثر أهل العلم وأهل التقوى والصلاح غيرة على العقيدة ورداً على أهل البدع، وبه نفهم أن الانحراف العقدي العلمي للصوفية ما بدأ إلا في القرن الرابع وما بعده، نعم الانحراف في العبادات وفي المفاهيم بدأ مبكراً، لكن الانحراف العقدي ما بدأ إلا مع بداية الطرق البدعية.(46/15)
بيان تسلط النفاة بنفي الأركان والأعضاء والأدوات على نفي الصفات الثابتة بالأدلة القطعية
قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات؛ فيتسلط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه، قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة.
انتهى.
وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء) الحديث.
ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد بالقدرة؛ فإن قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتيَ مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له علي بذلك! فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية، ولا دليل لهم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71]؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضاف إلى ضمير مفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير، الجمع فلم يكن قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] نظير قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب ألا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً؛ لئلا يثبت معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل.
وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي -وهو ما فوق العالم- فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه].
هذا أمر بدهي، فإذا قصد بالجهة العلو فهذا حق، لكن تسميتها جهة على هذا النحو الملبس فيها نظر، فنفي الجهة نفي للعلو، أما نفي الجهة بمعنى أن ينفى عن الله عز وجل أنه يحصره شيء من مخلوقاته؛ فهذا أمر بدهي ولا يحتاج إلى أن يتكلم فيه أحد؛ لأنه لم يقل به عاقل حتى أجل أن يُنفى.
قال رحمه الله تعالى: [ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل أمر اعتباري].
قوله: (اعتباري) يعني في الذهن، كما نقول في اصطلاحنا: أمر مفترض، والافتراض لا يبنى عليه شيء، فالافتراض توهم، فما يقوله أحد هؤلاء المبطلين من أنه ليس موصوفاً بالجهة يقصد به وجود شيء في ذهنه، والذي في(46/16)
المأخذ على الطحاوي في قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأدوات)
قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى].
هذا ما أشرت إليه سابقاً، فقد ذكرت في القاعدة السابقة أن هذه الألفاظ الأصل أنها مبتدعة وتترك ولا تستعمل، هذا الأصل فيها، لكن إذا اضطر المتكلم من أهل العلم إلى الكلام بها فليتكلم بالحق على جهة التفصيل، ولا يترك السامع أو القارئ في متاهة.
قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى].
يعني: بدل أن نقول: لا يحيط به شيء من مخلوقاته نقول: إنه عز وجل بكل شيء محيط.
وينتهي الإشكال، وبدل أن نقول: لا يحويه شيء من مخلوقاته، نقول لفظ الشرع، وهو أن الله عز وجل بكل شيء محيط، هذا قصده بالألفاظ الشرعية، فنعتصم بالألفاظ الشرعية فهي أولى وأبعد عن الشبهة والفتنة.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن (سائر) بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، وهذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ (السائر) على (الغالب) أدل منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء تعالى الله عن ذلك، ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره.
وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه، فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجُهّال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم- يكون العرش فوقه ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم؛ فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة.
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاد بعد روايته حديث النزول يقول: سئل أبو حنيفة؟ فقال: ينزل بلا كيف.
انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش، ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: محيط بكل شيء وفوقه إن شاء الله تعالى].
قولهم: (لا مباين ولا محايث)، المباين: المفاصل، يعني: المنفصل، والمحايث: الملاصق والمخالط.(46/17)
الأسئلة(46/18)
مدى صحة دعوى تصوف الثوري وإبراهيم بن أدهم
السؤال
سمعت عن سفيان الثوري رحمه الله وإبراهيم بن أدهم وقرأت عنهما أنهما صوفيان، وذلك في كتاب: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، فما صحة ذلك؟
الجواب
لا تصح نسبة سفيان الثوري إلى التصوف، وأما إبراهيم بن أدهم رحمه الله فبعيد عن التصوف في معناه البدعي، لكن عنده بعض مسالك العباد، ومع ذلك فهو بعيد عن التصوف كل البعد، وهو إمام له نهجه الذي هو نهج السلف في العلم والعمل والاعتقاد، أما سفيان الثوري فمعلوم أنه أبعد الناس عن هذه المقولة.(46/19)
توجيه قصد الطحاوي بنفي الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة
السؤال
لقد عبر الطحاوي بنفي الحدود والغايات والأعضاء والأركان ونحو ذلك، فاعتبر بعضهم أن هذا من الأخطاء التي تؤخذ عليه، فما توجيه ذلك؟
الجواب
ابن أبي العز في هذا الشرح وجه كلام الطحاوي على أحسن المحامل، وهكذا ينبغي أن نحمل كلام أئمة السلف على أحسن المحامل، فبعيد أن الطحاوي وأمثاله من أولئك الأئمة في ذلك العصر يقصدون بهذه العبارات ما يقصده المتكلمون من نفي صفات الله عز وجل، فهو مثبت للصفات، ولذلك ينبغي في مثل هذا الكلام أن نحمل قول الطحاوي بعضه على بعض، فـ الطحاوي رحمه الله في نفس هذه العقيدة قرر الصفات كما قررها السلف، إذاً: يمتنع أن يكون قصده نفي الصفات وتأويلها كما يقصد المتكلمون، فعلى هذا فاعتبار ذلك من أخطاء الطحاوي نوع من التجوز والمبالغة، بل هو من العدوان والظلم.
أما أن يقال: أخطأ في التعبير؛ فهذا أمر سهل، فأهل العلم ينبغي ألا يقولوا مثل هذا التعبير، والشارح تمنى أن الطحاوي رحمه الله لم يعبر بهذا الكلام، لكنه حمله على المحمل الصحيح الحسن، ورد كلام الشيخ الطحاوي بعضه إلى بعض، فحمله على أنه لم يرد المعنى الباطن قطعاً، فعلى هذا قد ينفى عنه الاتهام.(46/20)
المراد بالغايات المنفية عن الله تعالى
السؤال
هل في نفي الغايات نفي صفة الحكمة لله؟
الجواب
هو لا يقصد بالغايات العلة والحكمة التي نسميها غاية؛ بل يقصد بالغايات الغايات المادية، وهي الحدود.(46/21)
الجمع بين إثبات الرؤية ونفي الإحاطة
السؤال
كيف نفسر قول التستري: (ينظر إليه المؤمنون بالأبصار)؛ بأن هذا في الآخرة مع أنه قال بعده: (من غير إحاطة ولا إدراك نهاية)؟ ثم هل يكون ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تضامون في رؤيته)؟
الجواب
لا يظهر أن في هذا إشكالاً، فالمؤمنون ينظرون إلى ربهم بأبصارهم يوم القيامة، وهذا من غير إحاطة ولا إدراك، والإدراك على معنيين، لكنه قيده بإدراك النهاية، فكأن تفسيره الإحاطة، فالمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم لكن لا يحيطون به عز وجل، هذا معنى الكلمة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تضامون في رؤيته) بمعنى: لا تتزاحمون في الرؤية من وضوحها، فالله عز وجل لا يحتاج الناس في رؤيته إلى أن يتزاحموا كما أن معنى (ولا تضامون) لا ينكر عليكم، والله أعلم.(46/22)
شرح العقيدة الطحاوية [47]
الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة، فقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء السابعة حتى بلغ سدرة المنتهى، كل ذلك ببدنه وروحه، يقظة لا مناماً، هذا معتقد أهل السنة، وهو ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، ومما دلت عليه النصوص وتواترت به إثبات الحوض لنبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.(47/1)
الإسراء والمعراج(47/2)
الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى)].
ينبغي في مثل هذه الحالات أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، فيجمع بين الصلاة والسلام، وكره أهل العلم إفراد الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة، فالجمع بينهما هو السنة، وربما يكون المؤلف جمع بينهما لكن سقطت من النساخ في ذلك، وذكر أنه في نسخة: (فصلى الله وسلم عليه)، وهذا هو الأولى، وكان الأولى أن تثبت في المتن.
قال رحمه الله تعالى: [المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته].
هذه قاعدة في سائر أمور الغيب، ونحن إلى تقعيدها في هذه المسألة أحوج؛ لأن المعراج حدث في عالم الشهادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه غيب بالنسبة لنا، فمن هنا نحتاج إلى التذكير بهذه القاعدة فيما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، ومن أعظمها بعد القرآن المعراج، فإنها من الأمور التي حدثت فعلاً وهي حق، وحدثت من باب الكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة له، وهي غيب وحكمها الإيمان بها والتسليم، فما ثبت منها يؤمن به ويسلم به ولا يشتغل بكيفيته، لا يقال: كيف صعد؟ أو: كيف عرج به؟ كيف أسري به؟ كيف ركب؟ إلى آخره.(47/3)
ذكر الأقوال في كيفية الإسراء وبيان الحق منها
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة): اختلف الناس في الإسراء].
إذا اختلف الناس هنا فلا يعني ذلك اختلاف أهل الحق، بل يعني الناس عموماً وفيهم الذين شذوا في الآراء أو الذين ذلوا من أهل العلم، أو من نسب إليهم قول ولم يثبت، أو أهل الأهواء يعدون من جملة القائلين عند التفصيل، لكن القول الذي يعارض الكتاب والسنة يرد وإن ذكر.
قال رحمه الله تعالى: [فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه].
هذا القول لم يثبت من طريق صحيحة، وإذا ثبت فإنه محمول -كما سيذكر الشارح بعد قليل- على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، أما القول بأن الإسراء كان مناماً فهو شاذ كما سيأتي تفصيله، لا يصح أبداً، وهو خلاف قول الجمهور، بل اتفق أئمة السلف المقتدى بهم في الدين على أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم والإسراء به كان بجثته وروحه.
قال رحمه الله تعالى: [لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـ عائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات].
هذا القول لا يثبت، فالإسراء إنما كان مرة واحدة، وسبب هذا القول الاضطراب في حديث شريك، وحديث شريك لم يعتد به أهل العلم؛ لأنه فيه نوع اضطراب، وفيه جوانب شاذة عن رواية الثقات، فلا يؤخذ به في أمر غيبي، فالإسراء كان يقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، وإنما حدث مرة واحدة.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين.
ذكره ابن عبد البر.
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله.
انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله].(47/4)
ذكر حديث الإسراء والمعراج
قال رحمه الله تعالى: [وكان من حديث الإسراء: (أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة على الصحيح من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة، ثم عرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما فردا عليه السلام، ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن: نعم إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه) هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق: (فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)].
هذه الأحوال في جملتها واردة في أحاديث صحيحة، فقد حاول الشارح رحمه الله أن يسرد ما صح من قصة الإسراء والمعراج، وترك ما جاء في بعض الروايات الضعيفة، لا سيما أن الوضع حول الإسراء والمعراج كثير جداً، حتى إن بعضهم قد يوصل حكايات الإسراء والمعراج التي لم تثبت إلى مجلد أو أكثر، أما ما ثبت فهو القليل، وما ذكره هنا مما صح.(47/5)
المراد بالرؤية في سورة النجم
قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه].
هذا في المعراج.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبرائيل، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.
وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:5 - 8].
فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى وتدليه].
هذا ورد في البخاري، لكنه من حديث شريك؛ وما زال يعد هذا من مشكلات النصوص ومن مشكلات الآثار، لكنه ينبغي أن يؤخذ بالقبول في الجملة ما دام ورد تصريحاً، وأهل الحديث الذين هم أعلم منا بالرواية والدراية قبلوا ذلك، فالأولى ألا يتكلم فيه، بل يؤخذ بالتسليم، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى؛ فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين: مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى].(47/6)
دليل كون الإسراء بالجسد في اليقظة
قال رحمه الله تعالى: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة، وهو كفر].
هناك أدلة أخرى أيضاً معلومة بالضرورة، وكل عقل سليم يسلم بها، ومنها أنه لو كان الإسراء والمعراج في المنام لما كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا من ناحية.
ولما أنكره المشركون من ناحية ثانية؛ لأنه لو قال رأيت في المنام أني فعلت وفعلت ما أنكروا عليه هذا؛ لأنه من باب الرؤى والأحلام، فلما كان الإسراء والمعراج بالجسم اشتد نكير المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يسلمون ولا يصدقون.
ثم إن الإسراء لو كان بالروح ما احتاج إلى براق، أما المعراج فالصحيح أنه لم يكن بالبراق.
وسائر مشاهد الإسراء التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم يدل سياقها على أنها بالجسد والروح، ولو كانت بالروح فقط لما كان لها اعتبار، ولما كانت إعجازاً ولا حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت فاصلاً بين المؤمنين والكافرين، ولما استعمل المشركون ما استعملوه من تهكم واستهزاء، ولو كانت مناماً لما احتيج إلى أن يسمى أبو بكر بـ الصديق؛ لأن الحلم يصدق به جميع الناس، فمن قال: أني رأيت البارحة أني فعلت وفعلت، لا يستطيع أحد أن ينكر عليه أنه رأى؛ لكن نظراً لأن الإسراء والمعراج كانا حقيقة بالجسد والروح صارت لهما هذه اللوازم ضرورية، والله أعلم.(47/7)
الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب والله أعلم: أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته].
مما ينبغي أن يعلم أن الإيمان بمثل هذه الأمور الغيبية لا يتوقف على معرفة الحكمة، فالإيمان بجميع مسائل الغيب -ومن ذلك الإسراء والمعراج وما حدث فيهما من مشاهد وأحداث- لا يتوقف على معرفة الحكمة أبداً؛ فالإسراء والمعراج هذا أمر حدث وكان على سبيل الإعجاز والإكرام للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة، فلا داعي لأن نقول: لماذا ذهب إلى بيت المقدس؟ ولماذا مر على السماوات السبع على هذا النحو؟ ولماذا تردد بين موسى وربه؟ إلى غير ذلك من الأمور التي هي من باب الترف العلمي الذي لا ينبغي أن يسلكه المؤمن، بل أحياناً تكون من باب ما نهى الله عنه من السؤال، فالتباس الحكمة في هذه الأمور لا يتوقف عليه شيء.(47/8)
دلالة المعراج على ثبوت صفة العلو لله جل جلاله
قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره، وبالله التوفيق].
من هذه الوجوه: أن هذا التفصيل الذي حدث، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم يعرج به إلى السماء وينتقل من سماء إلى سماء، فيكون في سماء الدنيا، ثم في الثانية وهي فوقها، ثم في الثالثة وهي فوقها، ثم في الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة إلى السابعة، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم عند ذلك قربه من ربه عز وجل، هذا كله دليل على العلو الذاتي لله سبحانه، ثم ما ورد من عبارات صحيحة عن المعراج، وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم صعد، وأنه في صعود إلى ربه، فدل هذا بالضرورة على علو الله عز وجل بذاته، وكذلك القرب، وقد ورد في نصوص صحيحة، فهو دليل على علو الله عز وجل الذاتي، وكذلك ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم تردد بين الله عز وجل وبين موسى، فهذا التردد دليل على العلو الذاتي لله عز وجل، وغير ذلك مما هو معلوم في قصة الإسراء ويعد ضرورة في إثبات العلو، وكل ذلك من الأمور التي ترد التأويل في العلو؛ لأن الجهمية أنكروا العلو مطلقاً ووصفوه بمعان أخرى، وكذلك تبعتهم المعتزلة، ثم جاء أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فأنكروا العلو الذاتي لله سبحانه، ومن هنا اضطروا لتأويل الاستواء واضطروا لتأويل النزول واضطروا لتأويل المجيء كما يليق بجلال الله عز وجل، واضطروا إلى لوازم أخرى كثيرة من إنكار أفعال الله عز وجل وتأويلها، وإنكار صفات الله الذاتية وتأويلها، فكثير من ذلك إنما حدث بسبب إنكار العلو والاستواء، ولذلك عد كثير من أهل العلم إنكار الاستواء هو أول بدع الجهمية، وأنه مفتاح التأويل والتعطيل، ومن أنكر الاستواء سهل عليه أن ينكر غيره، وكذلك لوازم الاستواء.
والمتكلمون يقولون: إن العلو هو العلو المعنوي، مع أن العلو المعنوي بدهي لا يحتاج إلى مثل هذه النصوص، إنما العلو الحسي الذي ربما تحار فيه العقول، وهو الذي يحتاج إلى تقرير على نحو إثبات الاستواء وإثبات الفوقية لله سبحانه، وإثبات أفعال الله عز وجل التي لها اقتران بالعلو، كالاستواء والنزول ونحو ذلك؛ فإنها دالة دلالة قاطعة على العلو الذاتي لله على ما يليق بجلاله سبحانه من غير توهم صورة ولا توهم التشبيه والتمثيل، فالله سبحانه يثبت له الكمال المطلق من كل وجه على ما يليق بجلاله دون أن يرتبط بذلك ما في الأذهان في عالم الشهادة وفي واقع المخلوقات.(47/9)
ذكر الحوض وذكر بعض الأحاديث المتواترة على إثباته(47/10)
ذكر أحاديث أنس رضي الله عنه في إثبات الحوض
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق): الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً رضي الله عنهم، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بالبداية والنهاية، فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء)].
الحوض حوض حسي بأوصافه التي ذكرت، وهناك من أنكر الحوض، لكنهم قلة من شذاذ الجهمية وبعض المعتزلة وبعض الزنادقة، فالذين أنكروا الحوض شذاذ؛ إذ كثير من الفرق يثبتون الحوض.
قال رحمه الله تعالى: [وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصيحابي.
فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ورواه مسلم].
واختلف في معنى هذا الحديث اختلافاً كثيراً؛ لأن الرافضة اتخذته ذريعة للقول بتكفير الصحابة، وزعمت أن هذا يعني ردة الصحابة وكفرهم، وقد كذبوا؛ فإن الحديث عند أهل العلم محمول على أن هذا ينصرف إلى أهل الردة الذين كانوا دانوا بالإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رجعوا عن الإسلام، وكثير منهم مات مرتداً، فينطبق الحديث على طوائف منهم.
ومنهم من قال بأن الحديث ينطبق على طوائف من الأمة بعد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الصحابة لم يحدثوا بالأهواء والافتراق، وأن كلمة (أصيحابي) لا تعني الصحبة بمصطلحها المعهود، إنما تعني التبعية والإيمان به، وبعضهم قال: إن هذا يقع في طائفة من الأمة يطردون من ورود الحوض، لكنهم لا يطردون من الجنة؛ فيعني ذلك أنهم لا يطردون من الجنة وإنما يطردون من ورود الحوض فقط لأفعال فعلوها اقتضت ذلك، وغير ذلك مما قاله أهل العلم، وهو بعيد كل البعد عما ذكره الرافضة وغيرهم، لا سيما أن عدالة الصحابة، وأنهم من أهل الجنة بالجملة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض مما اتفق عليه سلف الأمة، وليس محل إشكال.
ثم إن هذا الحديث لم يفهمه أهل العلم على ما قالت الرافضة من أنه يعم الصحابة، إنما كان في أناس قد يكونون من المنافقين الذين كانوا يتظاهرون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكونون ممن خالفوا في بعض الأمور أو أذنبوا ذنوباً أدت إلى حرمانهم من الحوض دون أن يدخلوا الجنة، وقد يكونون من هذه الأمة ولا يلزم أن يكونوا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، إلى آخر ما ذكره أهل العلم في ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت عين آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: وهل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا رب! إنه من أمتي.
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)].
هذا فيه دليل على التفسير الذي فسر به بعض السلف الحديث السابق وأمثاله، وهو أن المقصود أصحابه من أمته؛ لأن كل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب له، وأنه ليس المقصود الصحابة بالضرورة.
قال رحمه الله تعالى: [ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) والباقي مثله.
ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يختلج عنه ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط].
هذا التفسير قد عارضه بعض أهل العلم، أي: استنتاج أن الحوض في العرصات قبل الصراط، وقالوا: إن الاختلاج عن الحوض والردة على الأعقاب لا تعني الردة عن الإسلام جملة، إنما تعني الإحداث في الدين أو ارتكاب بعض الذنوب مما اقتضى حرمانهم من الحوض، ولا يلزم بالضرورة أن يكون المرء منهم من أهل النار أو ألا يكون من أهل الجنة، وهذا ليس فيه دلالة على أن الحوض قبل الصراط، بل قالوا: إن الحوض بعد الصراط، وإن كان الذين تجاوزوا الصراط كلهم من الناجين، فإن نجاتهم لا تعني أنهم بالضرورة يردون الحوض، فقد يكونون من أهل الجنة وينجون من الصراط، لكنهم يمنعون من الشرب من الحوض لأسباب أخرى، والله أعلم.
وهناك كلام في هل الحوض يورد مرتين: مرة في المحشر ومرة بعد الصراط؟ أم أنه حوض واحد ويكون بعد الصراط أو قبل الصراط؟ وكل هذا ليس فيه(47/11)
ذكر حديث جندب بن عبد الله وسهل بن سعد رضي الله عنهما في إثبات الحوض
قال رحمه الله تعالى: [وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فرطكم على الحوض) والفرط: الذي يسبق إلى الماء.
وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم).
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم من أمتي.
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) سحقاً: أي بعداً].(47/12)
صفة الحوض ومكان وروده
قال رحمه الله تعالى: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم ومورد كريم يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع عرضه وطوله، سواء كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث: أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حال من المسك والرضراض من اللؤلؤ قضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء، وقد ورد في أحاديث: إن لكل نبي حوضاً، وإن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان قبل، وقيل: الحوض.
قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل.
قال القرطبي: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم، فيقدم قبل الميزان والصراط.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب (كشف علم الآخرة): حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله.
قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء.
انتهى.
فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر].
نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يرد حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.(47/13)
شرح العقيدة الطحاوية [48]
الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة، وقد تواترت فيها الأدلة، وهي أنواع، منها الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في أهل المحشر لفصل القضاء، ومنها الشفاعة في أهل المعاصي ألا يدخلوا النار، والشفاعة فيمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم، والشفاعة لرفع درجات أهل الجنة، وفي تخفيف العذاب عن بعض أهل النار، والشفاعة في أهل الكبائر وغير ذلك مما ورد في النصوص الصحيحة الصريحة، وهناك شفاعات غير جائزة في الدنيا، كسؤال الله تعالى بجاه النبي، أو بحقه أو بحق غيره، وكذلك التوسل به أو بغيره من الأمور التي لا تجوز في الدعاء أبداً.(48/1)
الشفاعة
قال رحمه الله تعالى: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار].
الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد جاءت أحاديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد.
والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه أنهم لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار.
وكان مقصود السلف - في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث.
وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك؟ وهو أعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني، في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى(48/2)
بيان معنى الشفاعة
الكلام عن الشفاعة يحتاج إلى شيء من التقعيد والعنصرة، وسأشير إلى بعض ذلك.
فأما ما يتعلق بتعريف الشفاعة فإنا نحتاج إلى شيء من ذكر معاني الشفاعة اللغوية لكي يتحدد المعنى الشرعي بشكل أدق.
فالشفاعة في اللغة: من الشفع، وأحياناً يقال: الشفع، وهو ضد الوتر، والشفع هو الزوج من العدد أو من الأشياء، فالواحد وتر وما انضاف إليه يعد شفعاً، ومن معاني الشفاعة: الزيادة والانضمام والإضافة والاقتران والمعاونة والمساعدة.
والشافع هو المعين، والمُشفِّع هو الآذن بالشفاعة، أو الذي يطلب منه الشافع الحاجة، أو ما يشفع به، والمُشَفَّع هو الذي يؤذن له بأن يشفع أو تطلب منه الشفاعة، بمعنى أن يشفع عند غيره، وكذلك الذي يؤذن له بالشفاعة، أما المشَفَّع فهو الآذن الذي تطلب منه الحاجة التي هي موضوع الشفاعة.(48/3)
أنواع الشفاعة
والشفاعة من حيث تفصيلاتها أنواع كثيرة، فهي من حيث الحكم مثبتة ومنفية، ومن حيث الزمان شفاعة دنيوية وشفاعة أخروية، فلها تفصيلات كثيرة سأتحدث عنها بعد قليل.(48/4)
أنواع الشفاعة من حيث الإثبات والنفي
أما من حيث الحكم فهي مثبتة ومنفية، والمقصود بذلك ما يحدث من الشفاعات، وإلا فالشفاعة الشرعية التي ورد بها الشرع كلها مثبتة، بمعنى أنها مقبولة إذا توافرت شروطها، والشفاعة المعنية في الكتاب والسنة هي الشفاعة التي توافرت شروطها، وهي المثبتة، وهي التي تكون يوم القيامة لمن يأذن الله لهم، وتكون لمن يرضى بأن تكون لهم الشفاعة، كما سيأتي تفصيله.
أما الشفاعة المنفية فهي المردودة، وهي الشفاعات البدعية التي يفعلها الكفار والمشركون وأهل البدع، لكنها لا تنطبق عليها الشروط الشرعية، كالاستشفاع بالحي فيما يتعلق بمصير الإنسان يوم القيامة، فإن الأحياء لا يستطيعون أن يشفعوا في الحياة الدنيا فيما يتعلق بمصير الإنسان يوم القيامة، إنما تكون يوم القيامة لمن يأذن الله له.
ومن الشفاعات الممنوعة المردودة الاستشفاع بالأموات فيما يتعلق بمصائر العباد يوم القيامة، ونحو ذلك مما سيأتي ذكر شيء من أصنافه.(48/5)
أنواع الشفاعة من حيث الجواز والمنع في الدنيا والآخرة
أما من حيث أحكامها في الدنيا والآخرة؛ فللشفاعات في الدنيا أحكام، وللشفاعات في الآخرة أحكام.
أما الشفاعات في الدنيا فمنها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع.
فأما الجائز منها فأوله ما يتعلق بشفاعة الناس في دنياهم فيما يتعلق بنفع بعضهم لبعض بما يقدرون عليه، ومنه ما يسمى عند الناس بالوساطة، فهذا أمر جائز إذا لم يكن فيه ظلم ولا تجاوز لحدود الشرع، ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام، فإذا وافق الشرع فهو جائز، بل إنه من أبواب الحسبة، ومن الأمور التي يلتمس فيها الأجر من الله عز وجل؛ لأنها نفع للناس ونفع الناس من أعظم أبواب الخير.
وهذه المسألة تسمى شفاعة تجوزاً، ولا تدخل في الشفاعة الشرعية المعنية بالكتاب والسنة، فليست من الشفاعة الدينية التي تتعلق بمصائر العباد يوم القيامة، أو بأمورهم الغيبية.
أما الشفاعة الشرعية المتعلقة بمصائر العباد فإن منها ما هو جائز، ومن صوره الاستشفاع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، وهذا يدخل في التوسل، فهو إلى معنى التوسل أقرب، لكن تجوز بعض أهل العلم في تسميته شفاعة، كما أن أهل الأهواء سموه شفاعة وأدخلوا فيه شفاعة الآخرة، بمعنى أنهم خلطوا بين الشفاعة الجائزة في الدنيا وتوسعوا فيها حتى أدخلوا فيها الشفاعات الممنوعة في الدنيا والممنوعة في الآخرة، فمن هنا سمي هذا النوع من التوسل شفاعة، أي: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، والمقصود به التوسل بدعائه، وقد يسمي بعض الناس التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم توسلاً أو شفاعة، وهذا فيه تجوز، وفيه أيضاً خروج عن الحد الشرعي لمعنى الشفاعة ومعنى التوسل، وفرق بين التوسل والتبرك، فبينهما وجوه اقتران ووجوه اختلاف، لكن التبرك بمعناه الواسع الذي يفهم عند الناس الآن يدخل فيه كثير من الصور التي تعمل اليوم، وأما التبرك الشرعي فأكثر الصور التي تعمل الآن لا تدخل فيه، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز الاستشفاع به في حياته، بمعنى: طلب الدعاء منه، وهذا حدث كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دعاؤه للأعمى، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة، ودعاؤه لأمته، ودعاؤه لأصناف من الخلق.
ومسألة التبرك سيأتي الكلام عنها، وبمناسبتها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع التبرك بذاته وبأشيائه المباشرة في حياته، لكن بعد مماته لا يجوز التبرك بما انقطع من آثاره، وآثاره كلها انقطعت.
الصورة الثانية من الشفاعات الشرعية الجائزة في الدنيا: الاستشفاع بدعاء الرجل الصالح أو نحوه، بمعنى أنه يجوز أن تقول لغيرك: ادع الله لي، لكن بشرط ألا يكون ذلك على جهة الاعتماد على دعائه، وأن يكون لمناسبة، بمعنى أن لا يكثر منه الإنسان، فإذا أكثر منه اتكل على غير الله، وترك السبب المباشر، وهو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل بعبادته ودعائه التي هي أوجب الواجبات على كل أحد، لكن إذا جاء لذلك مناسبة فإنه يشرع للإنسان أن يطلب من غيره من الصالحين ومن المؤمنين ومن المسلمين أن يدعوا له إذا اقتضى الحال ذلك، كأن يكون المقام مقام ضرورة، أو لمكان فاضل أو لزمان فاضل أو نحو ذلك.
ومن صوره التي هي أعم من ذلك كله الاستشفاع بالحي فيما يقدر عليه، وبعض هذه الأمور تدخل في باب الشفاعة، وبعضها يدخل في باب الوسيلة أو التوسل، وبعضها يدخل في باب الحوائج العادية التي ليست من أمور العبادة.
وعلى هذا فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته انقطع، والاستشفاع بالمسلمين وبالمؤمنين وبالرجال الصالحين بعد وفاتهم -أو فيما لا يقدرون عليه- ممنوع، وكذلك الاستشفاع بأي أحد من الخلق حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه، فهو من الشفاعة الممنوعة.
ويدخل في الشفاعات الممنوعة في الدنيا الاستشفاع بالأحجار والأشجار وغيرها، فإنها لا تشفع في الدنيا ولا في الآخرة، حتى الذين يعلقون الاستشفاع بهذه الأشياء على الآخرة -بمعنى أنهم يقولون: نستشفع بها الآن لتشفع لنا يوم القيامة- فإنهم بذلك يقعون في الشرك.
أما الشفاعة في الآخرة فإن منها الجائز، ومنها الممنوع.
أما الشفاعة الجائزة فهي التي تتوافر شروطها كما ورد في كتب أهل السنة، وهي: أولاً: أن تكون الشفاعة عند الله عز وجل، وهو سبحانه الذي يشفع عنده الشافعون.
ثانياً: أن تكون الشفاعة بعد إذن الله عز وجل، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
ثالثاً: رضا الله عز وجل عن الشافع وعن المشفوع له، وعلى هذا فالكافر لا يشفع؛ لأن من لا يرضى الله عنه لا يشفع، وكذلك الكافر لا يُشفع له ولا يأذن الله بالشفاعة له؛ لأن الله عز وجل بعدما وصف الكافرين بصفاتهم الرئيسة، وهي أنهم لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ قال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، والمقصود أن الشافعين الذين تتوهم شفاعتهم لا يشفعون لهم، وكذلك الذين رضي الله عنهم لا تنفع شفاعتهم لهؤلاء الكافرين، ولذلك ل(48/6)
أنواع الشفاعة من حيث الإطلاق والتقييد
وأما الشفاعة من حيث الأنواع فمنها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد: فالشفاعة المطلقة هي ما ثبت من أن جميع الأنبياء، وكذلك طوائف من المؤمنين، وكذلك جميع الرسل والملائكة يشفعون لطوائف من أهل التوحيد غير مسمين، ولا يعرف أحد منهم بعينه.
والشفاعة المقيدة منها ما قيد بالنوع ومنها ما قيد بالشخص، أما الشفاعة المقيدة بالنوع فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأما الشفاعة المقيدة بالأشخاص فإنا لا نعرف منها إلا ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه من العذاب.
وكذلك بالنسبة للشافعين، فمنهم شفعاء غير معينين، ومنهم شفعاء معينون بوصف، فمثلاً: ورد أن الأنبياء جميعاً يشفعون وأن الرسل يشفعون وأن الملائكة يشفعون دون تحديد لأحد بعينه، وورد أن المؤمنين يشفعون دون أن يحدد أحد منهم بعينه، لكن ورد في بعض النصوص أن طائفة من المؤمنين لهم شفاعة خاصة، وكذلك ورد أن نوعاً من أبناء المسلمين يشفعون، وهم الأطفال الذين يموتون قبل سن البلوغ إذا احتسبهم أهلهم، فإنهم يشفعون، كذلك وردت بعض الشفاعات المقيدة المخصصة مثل شفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، ونحو ذلك من الشفاعات التي لا يجوز إثباتها إلا لمن ثبتت له أو لما ثبتت له، أما ما يدعيه أهل الأهواء وأهل البدع من إطلاق الشفاعة وصرفها لمن يهوون فهذا باطل، وأكثره يدخل في أنواع الشرك، فما كان منه صرفاً للدعاء لغير الله عز وجل وطلب النفع من غيره فهو شرك، وما كان منه يدخل في التبرك فهو على درجات، وما كان منه يدخل في التوسل فهو على درجات، منه ما هو شرك، ومنه ما هو بدعة مغلظة، ومنه ما هو دون ذلك، والله أعلم.(48/7)
حكم الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به وبغيره(48/8)
حكم الاستشفاع بلفظ (بحق نبيك)
قال رحمه الله تعالى: [وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء؛ ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين].
الشارح هنا ذكر صورة من صور الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وكأنه أراد أن تكون هذه الصورة وما يشبهها أمثلة على قاعدة، وهي أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره قد يقصد به الاستشفاع بذاته، فإذا كان باعتبار ذاته وسيطة عند الله عز وجل؛ فهذا لا شك أنه باطل، وإذا كان المقصود به اعتبار ذاته المباركة، فيكون استشفاعاً من باب التبرك، فهذا جائز في حياته صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود بالاستشفاع به الاستشفاع بدعائه وهو حي فهذا حق وجائز، وكذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يستشفع بذاته تبركاً، فلا يتبرك بذات غير النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يتبرك بدعائه بمعنى أن يطلب منه الدعاء فقط.
قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: أنه أقسم بغير الله].
هذا إذا كان المقصود القسم، والغالب على أذهان الناس في مثل هذا الإطلاق أن يُقصَد به الإقسام أو الحلف بحق نبيه، لكن قد يراد بكلمة (بحق نبيك) مجرد الاستشفاع بدون إقسام، بحيث لا تكون الباء باء القسم، بل تكون باء السببية، لكن الشارح غلب المدلول اللغوي العام عند الناس لمثل هذه الألفاظ، وهو أنه يقصد به الحلف.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق، إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه وهو رديفه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم)، فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً].
وعلى هذا يكون قول القائل: (بحق نبيك) أو (بحق فلان من الصالحين أو غيرهم) فيه نوع من الاعتداء في الدعاء من جانب، كما أنه من التوسل البدعي من جانب آخر.
أما أنه اعتداء في الدعاء فلأنه سأل غير حقه، أما الأمر الثاني فلأن حق الشخص المسئول بحقه كائن له؛ لأن الله عز وجل ضمن حقوق العباد، والله عز وجل ضمن إجابة الدعاء إذا انتفت الموانع؛ ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل إنسان عمله، فحق الغير له، فلا يجوز لأحد من الناس أن يسأل الله بحق غيره، لا سيما أن الله عز وجل وعده بأن يفي له بحقه، فالمشروع لكل إنسان أن يسأل بحقه هو، بأن الله وعد السائلين، وهذا الذي يدعوه هو من السائلين، ولأن الله عز وجل جعل حقوق العباد لا تتعداهم، فكل إنسان له عمله وعليه وزره.
فالسؤال بحق الآخرين سوء أدب مع الله عز وجل واعتداء في الدعاء وظلم للآخرين؛ لأن الذي يسأل بحق الغير لم يعرف حقيقة ما وعد الله به العباد، ثم إنه لم يقدر الله حق قدره، ثم إنه اعتدى على حقوق غيره الذين جعلت حقوقهم لهم.
إذاً: لا يجوز، بل لا يشرع، بل من البدعة -وربما يصل إلى الشرك- أن يسأل الإنسان حق غيره أو بحق غيره، أو يعلق إيمانه ورجاءه وطمعه بحق غيره.(48/9)
توجيه الحديث الوارد بسؤال العبد ربه بحق ممشاه وحق السائلين عليه
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: (أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك)، فهذا حق السائلين، هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: (بحق السائلين عليك) وبين قوله: (بحق نبيك) أو نحو ذلك؟ ف
الجواب
أن معنى قوله: بحق السائلين عليك: أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي].
هذه العبارة هي تعليل لجواز مثل هذا الدعاء حتى ولو لم يثبت النص، فالحديث الذي أورده ضعفه الكثير من أهل العلم، وعلى هذا لا يعد الاستدلال به على سبيل الجزم والقطع، إنما يستأنس به، ولكن إذا رجعنا إلى قواعد الشرع في مسألة الدعاء والتوسل والشفاعة وجدنا أن الإنسان إذا سأل ربه بحق السائلين على اعتبار أنه هو من السائلين، وأنه سأل ربه فعلاً؛ يكون هذا التوسل مشروعاً؛ لأنه تعلق بالوسيلة التي شرعها الله، وهي الدعاء لله عز وجل وما وعد الله به الداعي.
فالسؤال بحق السائلين قد يجوز، لكن فيه نوع التواء؛ لأن الإنسان يجب أن يثق بوعد ربه عز وجل، وإذا عمل عملاً صالحاً فإنها وسيلة إلى الله، فعليه أن يدعوه بالأدعية المأثورة، والله عز وجل علام الغيوب، يعرف أن هذا الإنسان له رصيد من الطاعات وله رصيد من فعل الخير، فلا ينبغي للإنسان أن يتكلف في الدعاء بحيث يتعلق بمثل هذه العبارة (بحق السائلين)، هذا إذا كانت ما ثبتت شرعاً، أما إذا ثبتت فلا بد من قبولها، لكن يظهر -والله أعلم- أنها لم تثبت أو أنها ضعيفة، وعلى هذا فتكون جائزة، لكن الأولى أن الإنسان ينصرف إلى الأساليب الواضحة في الدعاء وإلى الأدعية المأثورة.
قال رحمه الله تعالى: [بخلاف قوله: (بحق فلان)، فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق؛ فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟!].
اعتبر هذا التوسل من الاعتداء في الدعاء؛ لأنه توسل بحق الغير، وكأنه ما وثق بوعد الله له، هذا من ناحية.
والناحية الأخرى أن من يفعل هذا يجهل الأصل الشرعي المعلوم، وهو أن لكل إنسان عملاً، ولا أحد ينفع غيره.
فهذا السؤال نوع من الاعتداء؛ لأنه اعتداء على حق الآخرين، وفيه نوع من عدم الثقة بالله عز وجل، وذلك كله اعتداء.(48/10)
السؤال بحق الغير اعتداء في الدعاء وابتداع
قال رحمه الله تعالى: [وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة].
قوله هذا يقصد به ما ضربه مثلاً قبل، وهو (بحق فلان) أو (بحق النبي صلى الله عليه وسلم) أو نحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتداع].
العبادات بخلاف الأحكام، فالأحكام الأصل فيها السعة والأصل فيها الاجتهاد والإباحة، فأمور الحلال والحرام الأصل فيها الإباحة، لكن العبادات مبناها على التوقيف، أي: موقوفة على ما ورد في الشرع.
فلا يأتي المبتدع ويقول: إن العبادات قربات، والله عز وجل أمرنا بالتقرب إليه بكل ما هو من القربات، فأنا سأصلي صلاة أخرى، أو سأقول من الدعاء ما شئت إلى آخره.
نقول: لا، العبادات مبناها على التوحيد، أي: لا نعبد الله عز وجل إلا بما شرع.
ولا يجوز التوسع في باب العبادات والأدعية في أصولها لا في ألفاظها، فالألفاظ إذا كانت صحيحة فهذا أمر آخر، لكن القصد في أصول الدعاء وفي العبادات لا يجوز الخروج عما ورد في الشرع.(48/11)
امتناع الإقسام على الله تعالى بحق فلان في الدعاء والسؤال
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو: بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه].
هذا الأثر ضعيف، لكن القصد أنه هنا سأل الله بواسطة أمر آخر، وهو معقد العز من العرش، وهذه العبارة أيضاً فيها غموض من حيث المقصود، فما المقصود بمعقد العز؟ هذا أمر اختلف فيه أهل العلم، فيبقى من الأمور المجهولة، فمثل هذه العبارات الغامضة لا ينبغي أن يعول عليها.
الناحية الأخرى: أن فيه إشارة إلى تعليق الدعاء بسبب وسيط، وهذا مما لا ينبغي من الإنسان ولا يجوز.(48/12)
حكم التوسل بالجاه
قال رحمه الله تعالى: [وتارة يقول: (بجاه فلان عندك)، أو يقول: (نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك) ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا.
وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه].
السؤال بالجاه أعظم وأكبر ذرائع أهل البدع قديماً وحديثاً إلى الشرك والبدعيات، فتعلقهم بجاه الغير من أعظم الذرائع التي يتعلقون بها ويتذرعون بها إلى أفعالهم الشركية والبدعية، وذلك أنهم زعموا -كما زعم المشركون قديماً- أن عندهم من التقصير والذنوب ما يجعلهم لا يجرءون على أن يدعوا الله مباشرة، وهذه شبهة من شبه الشيطان، فزعموا أن هؤلاء الصالحين والأنبياء والملائكة لهم جاه عظيم، فجعلوا هذا الجاه هو الوسيلة أو الوسيط، وزعموا أنه يدخل في الوسيلة المشروعة، مع أنه هو الشرك بعينه، فالسؤال بجاه فلان معناه أنه يتخذ هذا الجاه وسيطاً بينه وبين ربه، والوسيط هو الشريك وهو الند، وهو الواسطة التي ادعاها المشركون، وعدهم الله بها من المشركين، بل عدهم الله من أعظم الناس شركاً.
فالسؤال بالجاه هو تعلق بالغير، ولو لم يتعلق بشخصه، فالتعلق بالجاه كالتعلق بالشخص لا فرق بينهما، إلا أن التعلق بالجاه أكثر التباساً، فبعض أهل البدع قد لا يجرؤ على أن يجعل ذات فلان أو شخص فلان هو الوسيط بينه وبين ربه فيشرك به، إنما يجعل الجاه وسيطاً، والجاه أمر معنوي.
وهذا أيضاً نوع من الشرك فيه غموض وفيه التباس، فلذلك صار أعظم ذرائع المشركين وأهل البدع الذين يدعون الإسلام في عصرنا هذا وقبله.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك؛ إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس].
هذه الحجة حجة قوية وقاطعة، وتسد باب الاستدلال على أهل الأهواء الذين زعموا أن قصة استشفاع الصحابة بـ العباس دليل على جواز الاستشفاع بالذوات أو دعاء الذوات ودعاء الأشخاص من دون الله والتعلق بهم.
وهذه الحجة التي ذكرها الشارح هي أن الصحابة لو كان مقصودهم الاستشفاع بذات العباس لكانت ذات النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته قريب إليهم، فهو مدفون بين ظهرانيهم، ولذا لما اضطروا إلى الاستشفاع استشفعوا بـ العباس، ثم إنهم حينما استشفعوا عرفنا الصورة التي استشفعوا بها، فالصورة العملية التي استشفعوا بها عرفناها قطعاً من خلال الرواية الثابتة ومن خلال إجماع الصحابة على الفعل، وهي: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا الدعاء من هؤلاء الأشخاص، ولا يقصدون التمسح بذوات هؤلاء الأشخاص كـ العباس أو غيره، إنما طلبوا الدعاء، وهذا أمر معلوم بالروايات القاطعة الدالة على أنهم حينما اجتمعوا دعوا الله وطلبوا من العباس أن يدعو وهم يؤمنون بعده.
فهذه الصورة في الاستشفاع بالأحياء فيما يقدرون عليه، أو بدعائهم، وكل الصور التي وردت عن السلف -سواء في عهد الصحابة أو بعدهم- ترجع إلى هذه الصورة، لم يرد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم أنهم استشفعوا بالذوات.(48/13)
حكم التوسل والاستشفاع باتباع الرسول وتصديقه
قال رحمه الله تعالى: [وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك.
فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل والاستشفاع].
الاستشفاع الذي هو اتخاذ الوسيلة عند الله عز وجل -بمعنى عبادته سبحانه- أعظم الواجبات، وهو الغاية من خلق الخلق، فعبادة الله عز وجل هي أعظم ما يستشفع به، بل هي الوسيلة التي ذكرها الله عز وجل، وهي توحيد الله وعبادة الله، وهي تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه، وهي الإيمان بمعناه الشرعي الصحيح الذي يشمل الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، هذه هي الوسيلة الصحيحة، وهي التي يستشفع بها ويتوسل بها إلى الله عز وجل.(48/14)
صور من التوسل الجائز والتوسل الممنوع
قال رحمه الله تعالى: [فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له مطيعا لأمره مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه].
هنا ذكر ثلاث صور من الصور الكبرى للتوسل: الأولى: التوسل بدعاء الوسيلة وشفاعته يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين الذين يؤذن لهم.
الصورة الثانية: التوسل إلى الله عز وجل بالعبادات المشروعة، وبالأمور الإيمانية، سواء كانت اعتقاداً أم عملاً، فهذه وسيلة مشروعة.
فهنا وسيلتان: وسيلة لكل إنسان، وهي عبادة الله عز وجل، ووسيلة وعد الله بها يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان: شفاعته العظمى وتسمى الوسيلة، وكذلك شفاعته لأهل الكبائر، وهذا لا تطلب في الدنيا، ولا سبيل إلى معرفتها في الدنيا، إنما تكون يوم القيامة بشروطها.
الصورة الثالثة: التوسل بمحبة السائل واتباعه، يعني: محبة السائل لنبيه صلى الله عليه وسلم وبإيمانه به، كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي له، فهذا توسل مشروع؛ لأنه توسل من الشخص بعمله.
وهناك صورة من هذا النوع خفية لم يشر إليها الشارح، وهي أن بعض الناس قد يتوسل إلى الله عز وجل بتقديسه من يقدسه من المخلوقين، ويظن ذلك نوعاً من المحبة، كالذين يقدسون الأولياء أو الذين يقدسون الأئمة، أو الذين يقدسون الأشجار والأحجار، ويزعمون أن ذلك من أعظم الإيمان، فيتوسلون بذلك إلى الله زاعمين أن ذلك من الوسيلة، وهذا نوع من الشرك.
الصورة الرابعة: الإقسام بالمتوسل به، فهو إقسام بغير الله عز وجل، وحلف بغير الله لا يجوز.
أما التوسل بذاته فلا يجوز؛ لأن الذات لا تنفع، والإنسان لا ينفعك منه إلا دعاء الرجل الصالح؛ لأن الله عز وجل وعد بإجابة الدعوة حتى وإن كانت بالغيب، لذلك شرع للمسلم أن يدعو لغيره من المسلمين الغائبين والحاضرين الأحياء والأموات.
فهذه من الوسائل المشروعة التي جعلها الله من المنافع العامة بين المسلمين وبين المؤمنين، فالمسلم يدعو لأخيه في ظهر الغيب، ويدعو لمن سلفه، فهذا أمر من الوسيلة المشروعة، لكن تسميته وسيلة لم تكن معتادة عند الناس، فربما يتعلق به وجه ممنوع، وهو الاعتماد على دعاء الغير.
ونرى هذه السمة موجودة عند بعض الناس أو بعض الفرق والفئات، وهي أن كل من لقي منهم أحداً من المسلمين قال: ادع الله لي.
فهذا قد خرج عن الحد الشرعي في طلب الدعاء من الغير بشروط وضوابط، حيث يؤدي ذلك إلى الاتكال.
قوله: [والتوسل بذاته] أي: بذات الشخص، بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره.
وقوله: [هو الذي كرهوه] يقصد أبا حنيفة وصاحبيه، وصحيح أن السلف حرموه وجعلوه من البدع المغلظة، بل من الشرك أحياناً، فالتوسل بالذوات لا يجوز؛ لأن الذوات لا تنفع.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به التسبب به؛ لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به].
السؤال بالشيء الذي هو العمل الصالح أو نحوه ليس على إطلاقه، فهناك من الأشياء ما لا يجوز السؤال بها، فأمور الغيب هي أشياء، لكن لا يجوز أن تسأل الله بها.
فقوله: [وكذلك السؤال بالشيء] أي: بالشيء الذي يعمله الناس، أو بالشيء الذي هو من عمل الإنسان نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: (فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله].(48/15)
الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر
قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً].
يعني: انضم إليه وانضاف إليه.
قال رحمه الله تعالى: [فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع)، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله.
كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء).
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء)].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) هذه الشفاعة مخصصة تتعلق بأمور الخلق في دنياهم، أي: شفاعة بعضهم لبعض، ولا تدخل فيها الشفاعة عند الله عز وجل؛ لأن الأمر هنا بالتماس الأجر أمر تكليف، والشفاعة المعنية في الآخرة لا تكليف فيها، إنما تحدث بإذن الله عز وجل، وليس فيها طلب الأجر، ولا تحدث إلا ممن ذكرت أوصافهم.
أما الأمر هنا: (اشفعوا تؤجروا) فهو أمر لكل مسلم، إذاً: فلا بد من أن تكون الشفاعة الواردة في هذا الحديث فيما يتعلق بأمور الناس في دنياهم، وفي مصالحهم، وفيما يقدرون عليه، أقول هذا لأن بعض المسلمين قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعم الصالحين والأولياء في قبورهم، وأنهم يتقربون بالشفاعة لمن جاء يستشفع بهم ويدعوهم عند القبور، وأنهم ممن أتيحت لهم الشفاعة وأذن لهم فيها، وأنهم بذلك ممتثلون لأمر الله عز وجل، وهذا خطأ شنيع في فهم النص؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعني: في دنياكم، أما بعد الممات، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا أمر غير وارد، وليس هو من أبواب التكليف ولا مما يلتمس فيه الأجر.
قال رحمه الله تعالى: [في الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء)، فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء صلى الله عليه وسلم يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء)؛ فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة؛ لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].(48/16)
الأسئلة(48/17)
بعض أنواع الشفاعة الممنوعة وتوجيه حديث إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً
السؤال
ذكرت في الكلام عن الشفاعة الدنيوية أنواعاً، منها ما يتعلق بالتوسل، ومنها ما يتعلق بالتبرك، ومنها ما يتعلق بالشفاعة، فنرجو توضيح ذلك؟
الجواب
الشفاعة في الدنيا تختلف مفاهيمها عند الناس، فمنهم من يدخل في الشفاعة في الدنيا التوسل بالأشخاص الأحياء والأموات ويعدها شفاعة مشروعة، أو يسميها شفاعة مع أنها لا تدخل في باب الشفاعة إلا تجوزاً.
ومنهم من يدخل ما يتعلق بالتبرك، وهو التبرك بالأشخاص، فبعض الناس يقول: إنها التبرك بفلان من الناس.
أي: طلب البركة منه والتمسح بذاته، بجسمه، والتعلق بأشيائه، كما يحصل من الصوفية المبتدعة الآن يتعلقون بكل ما يتصل بالأولياء وما فيهم وما حولهم، فيتبركون بثيابهم، وبأجسامهم، وبفضلاتهم، وبكل شيء، ويقولون: هذا تبرك، ويدخلونه في الوسيلة المشروعة، يزعمون أنه من باب الوسيلة التي أمر الله باتخاذها، وأيضاً يدخلونه في مسمى الشفاعة.
ومما يتعلق بالشفاعة الشفاعة عند الله عز وجل، فالشفاعة عند الله عز وجل منها ما هو ممنوع، باتخاذ الوسائط، وكذلك الشفاعة يوم القيامة ممن لا يرضى الله عنهم ولا يرضى لهم الشفاعة.
وأما حديث: (شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط)، فقد اختلف فيه أهل العلم، وليس هناك تفسير قاطع لمعنى هذا الحديث، فمنهم من قال: (لم يعملوا خيراً قط) بمعنى: أنهم ممن أسلموا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل.
لكن هذا منقوض بأن هؤلاء يكونون من أهل الجنة ولا يدخلون النار؛ لأنهم ماتوا على توحيد الله، والإسلام يجب ما قبله.
ومنهم من قال: إن المقصود به أن الله عز وجل يخرج من الناس بعثاً ليس لهم أعمال صالحة إطلاقاً.
وهذا هو الراجح، وفيه إثبات أن الأمور بيد الله عز وجل، وأن العباد لا يحكمون على أحد معين بأنه في جنة أو نار، وهذا يستثنى من القواعد العامة التي فيها تحقيق الوعيد وتحقيق الوعد؛ لأن الله عز وجل فعال لما يريد، فمما سيفعله عز وجل هذا الأمر، وهو أنه يخرج من الناس بعثاً لم يعملوا خيراً قط، وذلك راجع إليه سبحانه.(48/18)
ما ينبغي أن يعلمه الصبي من أصول العقيدة
السؤال
ما هي الأصول العقدية التي يمكن أن توصل إلى من كان في السن الخامسة والسادسة في عمره؟
الجواب
هذا سؤال جيد، فمن كان في مرحلة الطفولة إلى العاشرة ينبغي أن يعلم الأصول العامة للدين الإسلامي، فيعلم أركان الإسلام، ويفهمها تفهيماً فيه شيء من التفصيل، ويعلم أركان الإيمان ويفهمها تفهيماً فيه شيء من التفصيل بدون ذكر الخلافات، ويعلم أصول الاعتقاد العامة التي ليس فيها غموض ولا غرابة، ويقتصر فيها على ما هو واضح بالأدلة، أو مستقر في بداهة العقول، أما الجزئيات والتفريعات أو ما كانت أدلته غامضة أو معانيه غامضة؛ فينبغي أن يجتنب في تعليم الصغار.
ثم إنه ينبغي ألا يكون تعليم الصغار على سبيل الامتحان والسؤال، فيجوز أن يكون من وسائل تعليم الصغار السؤال والجواب في غير العقيدة، إلا في الأمور الكبرى الواضحة، مثل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ لكن الأمور الأخرى لا ينبغي أن تأتي على شكل سؤال، بل ينبغي أن يفهمها الطفل أولاً، ولذلك أرى أن من الأخطاء الشنيعة: سؤال الصغار بمثل: أين الله؟ أو عن الاستواء أو عن الرؤية، فلا ينبغي هذا حقيقة؛ لأن هذا فيه نوعاً من امتحانهم وإلقاء اللبس على أذهانهم الصافية التي لا تستوعب هذه الأمور -وإن كانت من أصول الدين- إلا بتعليم، نعم علمهم أولاً، ثم اسأل بعد ذلك.(48/19)
خطأ جدال أهل الأهواء بغير توافر شروطه
السؤال
قمت بمجادلة أحد المبتدعة من الرافضة، وقد أحدث ذلك أثراً في نفسي، وإني أستغفر الله من ذلك، وأوجه نصيحة لإخواني ألا يجادلوا أهل الأهواء والبدع، وهذه نصيحة مجرب، نسأل الله لنا ولكم الهداية والثبات؟
الجواب
لا ينبغي أن توقع نفسك في جدال المخالفين من أهل الأهواء المغلظة إلا باستعداد علمي جيد، وبضمانات وشروط قل أن تحدث إلا في أجواء قليلة جداً، ومن أهمها: أن تعرف أن صاحبك جاد ويريد الحق، وأن تلم بالقضية التي تريدها، وإلا يصل ذلك إلى حد إضاعة الوقت والمجالس الطويلة، ولا يصل إلى حد تكلف الحجج لمجرد إلزام الخصم، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/20)
شرح العقيدة الطحاوية [49]
لقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بإثبات الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، وهي تدل على تقدير الله تعالى السابق للعباد وأعمالهم، وعلى تمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار، وتدل كذلك على إخراج ذرية آدم من ظهره وإشهادهم وأخذ الميثاق عليهم بأن لا يعبدوا إلا الله تعالى.(49/1)
خلاصة أنواع الشفاعات الدينية والدنيوية وما يثبت منهما وما ينفى
هناك بعض المسائل فيما يتعلق بالشفاعة أحب أن أشير إليها لإتمام الفائدة، وبعضها ورد لكن بشكل غير بين، ويحتاج إلى عنصرة.
فخلاصة ما مر: أن الشفاعة دينية ودنيوية، أما الدنيوية فلا شأن لنا بها؛ لأنها تتعلق بمصالح العباد.
وأما الدينية فهي المقصودة في ألفاظ الشرع، وهي التي وردت في كتب العقيدة، وهي التي يدور عليها الخلاف.
فالشفاعة الدينية هي التي تتعلق بمصائر العباد من حيث أحوالهم يوم القيامة، ومن حيث مصيرهم إلى الجنة أو النار، وهي شفاعة في الدنيا، بمعنى الشفاعة فيما يتعلق بمصير العباد، وهذه لا تحدث أبداً، وكلها منفية، فلا أحد يشفع في الدنيا لأحد فيما يتعلق بمصيره في الآخرة.
أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الشفاعات المثبتة فإنها أمر سيحدث يوم القيامة، فبعض الناس يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع وقبلت شفاعته، بل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء سيشفعون يوم القيامة، ثم يأذن الله عز وجل لمن يشاء.
فالشفاعة المتعلقة بمصير العباد وفي الدنيا لا تكون أبداً، وأغلب همم أهل الأهواء والبدع تنصرف إلى هذه الشفاعة المنفية، يطلبون الشفاعة من الأحياء والأموات في مصيرهم يوم القيامة، وذلك نوع من الشرك أو البدعة المغلظة أو الوسيلة البدعية.
أما الشفاعة في مصير العباد في الآخرة فمنها المثبت ومنها المنفي، أما المثبت فما توافرت فيه شروطه: أن يأذن الله عز وجل للشافع ويرضى منه قوله، وأن يرضى عن المشفوع له، أما ما عدا ذلك فهو منفي.(49/2)
أنواع التوسل(49/3)
التوسل المشروع
أما التوسل فهو ثلاثة أنواع: توسل مشروع، وتوسل بدعي، وتوسل شركي.
والمقصود بالتوسل هو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل، والوسيلة إلى الله عز وجل هي التقرب إليه، فإن كان التقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالعبادة فذلك أمر مشروع، وعلى هذا يكون التوسل المشروع نوعان: الأول: عمل العبد نفسه، وهذا هو الواجب، بل هو أعظم الواجبات، فتوحيد الله عز وجل وسيلة واجبة، وعمل الصالحات من الوسيلة، وكل ما يفعله الإنسان تقرباً إلى الله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو توسل مشروع، سواء العبادة القلبية وعبادة الجوارح والدعاء باللسان، أو عمل الصالحات وفعل الخيرات، كل ذلك وسيلة مشروعة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو سنة، وهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها ورضيها لعباده.
النوع الثاني من التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا مشروع بشروط وضوابط، وصورته: أن يطلب المسلم من أخيه أن يدعو له.(49/4)
التوسل البدعي
أما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل البدعي، وهو التوسل بذوات الأشخاص، والتوسل بما لم يرد به الشرع من الأشياء والأمور التي لا تكون وسيلة من الشخص نفسه، فإذا لم يصل الأمر إلى حد صرف العبادة لغير الله فإن التوسل يكون توسلاً بدعياً، وهو اتخاذ الوسائط أو الأشخاص أو الأشياء وسيلة، أو التبرك بها على نحو يؤدي إلى التوسل.
ويستثنى من ذلك التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فإن ذلك مشروع لورود النص فيه، أما ما عدا ذلك فإن التوسل بالذوات وبالأشياء يعد بدعة.(49/5)
التوسل الشركي
النوع الثالث: توسل شركي، وهو صرف العبادة لغير الله عز وجل واتخاذ الشفعاء والوسائط بين العبد وبين ربه بصرف أنواع العبادة أو أي نوع من أنواع العبادة لهذا الوسيط أو الشفيع أو الوسيلة أو الواسطة أو الولي أو نحو ذلك، فأي نوع من أنواع العبادة -سواءٌ كان دعاء أم استعانة أم استغاثة أم نذراً أم ذبحاً أم طوافاً أم سجوداً أم صلاة أم ركوعاً- يصرف لغير الله عز وجل، أو يدعي صاحبه أنه يريد به شفاعة المصروف له عند الله، بمعنى أن يصرف العبادة لغير الله زاعماً أن هذا الشخص سيشفع له بسبب هذه العبادة عند الله؛ فإن ذلك شرك.
وهذا النوع من الشرك على نوعين: نوع يصرف به صاحبه العبادة البحتة إلى من أشرك به.
ونوع يصرف به العبادة أو الدعاء إلى هذا الشخص زاعماً أنه بذلك يريد منه الشفاعة عند الله، أو يريد منه التوسل عند الله، أو التوسط أو التقرب به إلى الله، كقول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
فهناك طائفة من المشركين زعموا أنهم ما عبدوا الملائكة أو الجن أو الإنس أو الأشجار أو الأحجار إلا لتقربهم إلى الله، ومع ذلك عدوا من المشركين.
وهذا النوع هو الذي عليه مشركة المبتدعة في هذه الأمة الذين اتخذوا الأحياء والأموات وأصحاب القبور أولياء من دون الله، فإنهم زعموا أنهم لا يعبدونهم، وإنما يريدون منهم الشفاعة، وأنهم يدعونهم من دون الله على أن أولئك المدعوين سيشفعون لهم بسبب هذا الدعاء.(49/6)
التبرك والبركة
هناك مسألة تختلط بالتوسل، وهي مسألة التبرك، فقد توسع الناس في مفهوم التبرك خاصة أهل البدع، فأدخلوا بالتبرك الشفاعة الممنوعة، وأدخلوا بالتبرك التوسل الممنوع والتوسل البدعي والتوسل الشركي.
وأيضاً توسعوا في باب التبرك حتى جعلوا البركة فيما لا بركة فيه، وجعلوا البركة مما لم يبارك الله فيه، وطلبوا البركة مما لم يثبت شرعاً أن فيه بركة، فتوسعوا في التبرك بأكثر مما ورد في النص.
فالبركة لا تكون إلا من الله عز وجل، يجعلها فيما يشاء من خلقه، فتكون في الزمان، وتكون في الأشخاص، وتكون في المكان، لكن كل ذلك لا بد من أن يثبت بالشرع، فعلى هذا لا تثبت البركة لشيء ولا لشخص ولا لمخلوق إلا بدليل، وما لم يرد الدليل بأنه مبارك فلا يجوز أن تلتمس منه البركة.
ثم إن الأشياء المباركة على نوعين: فهناك أشياء مباركة تتعدى بركتها، كماء زمزم.
وهناك أشياء مباركة في نفسها لا تتعدى بركتها.
والبركة في الأشياء هي ثبوت الخير ولزومه لهذا الشيء، أو زيادته وكثرة الخير فيه، أما الزيادة وكثرة الخير فهي البركة المتعددة، أما الثبوت واللزوم فهي البركة اللازمة.
والبركة تكون في الأزمان، وتكون في الأمكنة، وتكون في الأشخاص، وتكون في الأشياء وفي الأفعال.
أما البركة في الأزمنة فكبركة شهر رمضان، وبركة ليلة القدر، وليالي رمضان، والعشر الأواخر، وكبركة عشر ذي الحجة، وبركة يوم عرفة، والأشهر الحرم، ويوم الجمعة ونحو ذلك مما وردت البركة فيه، أما في الأمكنة فكالمساجد الثلاثة، فهي مباركة.
وأما في الأشخاص فهناك بركة لازمة وبركة متعدية، أما البركة المتعدية فليس لأحد بركة متعدية تلتمس إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشخاص فإن في المؤمنين منهم بركة، لكن بركتهم لهم لا تتعدى غيرهم، إلا بما شرع، كتعدي البركة بالدعاء، فهذا أمر آخر.
وقد تثبت البركة أيضاً في بعض الأشياء أو بعض الأمور، كالبركة في نواصي الخيل، وبركة السحور، ونحو ذلك من الأمور التي وردت فيها بركة، وهي بركة مفسرة ومعلومة عند أهل الإيمان، كما أن البركة ثبتت في ماء زمرم؛ لأنها وردت، وهي بركة متعدية.(49/7)
إثبات الميثاق الذي أخذه الله من آدم وذريته
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق)].
المقصود هنا الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين خلق آدم، وهو التوحيد الذي ميز به أهل الجنة وأهل النار.
وسيأتي الخلاف -كما سيذكره الشارح- في مفهوم الميثاق، هل هو ميثاق فعلي على نحو ما ورد في الحديث إذا ثبت الحديث أم على خلاف ذلك؟ والحديث ثابت، وفيه أن الله عز وجل أخذ الميثاق من بني آدم من ظهره في أول الخلق وأنطقهم وأشهدهم على أنفسهم وشهدوا، وأن هذا الميثاق بقيت معالمه في الفطرة والعقل السليم وفي اتباع الوحي وفي دلائل خلق الله عز وجل، وعلى هذا فالميثاق على نوعين: ميثاق فعلي أخذه الله عز وجل بالاستنطاق، وهو الميثاق الأول الذي ورد في الحديث الذي سيأتي.
ثم الميثاق الآخر، وهو امتداد للأول وأثر لمكانه، ويكون بإقامة دلائل الفطرة ودلائل العقل ودلائل الخلق الدالة على الله عز وجل، وبدلائل الوحي، وبالحجة، وبالرسل، وبالكتب المنزلة، وبالبراهين الشرعية والكونية.
قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو].(49/8)
ذكر الأحاديث الدالة على أخذ ذرية آدم من ظهره وإشهادهم
قال رحمه الله تعالى: [وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم].
أخذ الذرية وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، إلى أهل الجنة وأهل النار أمر ثابت لا صلة له بمسألة الميثاق إلا من بعض الوجوه، وأعني: أن عندنا في هذه النصوص مسألتين: مسألة أخذ الميثاق، ومسألة أخذ الذرية من ظهر آدم وتمييز أهل الجنة أهل الهداية عن أهل النار أهل الضلالة.
وهذه مسألة مستقلة وردت في نصوص كثيرة، وهي ثابتة قطعاً، ولا خلاف في نوعها ولا كيفيتها؛ لأنها أمر غيبي، فتثبت على هذا النحو كما جاءت بلا تأول.
النوع الآخر الذي ورد في هذه النصوص هو أخذ الذرية من ظهر آدم ثم إشهادهم على أنفسهم، وهذه مسألة أخرى وهي المسماة بالميثاق.
والنصوص اختلط فيها هذا بذاك، وما سيورده الشارح من إشكالات ليس على أخذ الذرية من ظهر آدم ثم تمييز أهل الضلالة من أهل الهداية، وتمييز أهل الجنة من أهل النار؛ فليس الإشكال على هذا؛ لأن هذا ثابت بنصوص كثيرة، إنما الإشكال على الميثاق ما هو؟ وما كيفيته؟ وما المقصود به؟ والصحيح الذي يترجح أن أخذ الميثاق يشمل النوعين: يشمل أخذ الميثاق الفعلي بالإشهاد والاستنطاق في أول الخلق، ويشمل أخذ الميثاق ببقاء معالم هذا الميثاق في الفطرة السليمة والعقل السليم والبراهين على وجود الله عز وجل وعلى ربوبيته وإلهيته، وإقامة الحجة على الخلق بالأدلة الكونية والشرعية.(49/9)
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال رحمه الله تعالى: [فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخذ من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173]).
ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].(49/10)
حديث عمر رضي الله تعالى عنه
قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال: (إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون.
ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه].(49/11)
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت، قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت).
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه].(49/12)
حديث أنس رضي الله تعالى عنه
قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم.
قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً.
وفي ذلك أحاديث أخر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة.
ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد.
وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله ابن حزم.
فهذا لا تدل الآثار عليه، نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفات وهيئات، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق].
مسألة الحديث عن سبق الأرواح أو الأجساد مسألة غيبية، لا سيما فيما يتعلق بالأصل، أما ما يتعلق بأطوار الخلق فالنصوص صريحة وواضحة في أن الله عز وجل خلق الأجساد ثم نفخ فيها الأرواح، بمعنى: أن آدم خلق الله جسده أولاً كما ورد في النص الصحيح، ثم نفخ الله فيه الروح.
وكذلك بنو آدم يخلق الله أولاً أجسادهم كما هو معروف بالنطفة والعلقة والمضغة، ثم بعد ذلك تنفخ في كل إنسان روحه، بمعنى: أن الروح تكون بعد الجسد، وهذا أمر نعلمه.
أما أيهما أسبق في أصل الخلق الأزلي؛ فهذه مسألة غيبية لا داعي للخوض فيها والكلام فيها، إنما هي من الكلام في الغيب وقول على الله بغير علم.(49/13)
ما تدل عليه الأحاديث المروية في أخذ ذرية آدم من ظهره
قال رحمه الله تعالى: [فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة].
هذان هما النوعان اللذان أشرت إليهما قبل، فهذه النصوص تدل على نوعين: النوع الأول: تمييز الذرية بعد أخذهم من ظهر آدم، أي: تمييز المهتدين عن الضالين وأهل الجنة عن أهل النار.
والنوع الثاني: الإشهاد والميثاق.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قوله: {شَهِدْنَا} [الأعراف:172] أي: قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا.
وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب، وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض.
وقيل: (شهدنا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: (بلى).
وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي.
وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم.
والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول].
فرق بين ظاهر الآية لو جردت عن الحديث وبين ما ورد في الأحاديث من تفسير يمكن أن تفسر به الآية، فليس في الآية ما يدل على نوع الإشهاد، لكن الأحاديث مفسرة.
أما قوله: (في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو) فيظهر أنه يقصد بعض ألفاظهما، وإلا فالإشهاد بمعنى: أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته وأشهدهم وقالوا: شهدنا على نحو ما ذكر في الحديث قد ورد في الحديث الذي سبق، وهو ما رواه الإمام أحمد، وفيه: (فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً: ألست بربكم؟)، وهذا مرفوع، وهو أيضاً -على الأصح- صحيح.
وكذلك ورد مرفوعاً في حديث آخر أورده، وهو يؤيد الحديث السابق، بل إنه ورد من طرق مرفوعاً، وليس مقصوراً على هذين الطريقين.
أما تفسير الآية بهذا التفسير فهناك من السلف من جعل هذا شيئاً وذاك شيئاً آخر، فربما فسروا الآية على معنى وفسروا الحديث على معنى آخر، مع ما بينهما من التلازم، لكن لا يعدو أن يكون هذا التفسير رأياً.(49/14)
ما حمل عليه المفسرون آية الإشهاد
قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـ الثعلبي والبغوي وغيرهما، ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كـ الزمخشري وغيره، ومنهم من ذكر القولين، كـ الواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إلى المعتزلة].(49/15)
تصنيف الشارح الأحاديث المروية في الإشهاد
قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني: أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة.
والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل القول الأول موقوف على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله].
الأرجح أن الحديث صحيح وله طرق، وأخرجه غير الحاكم في المستدرك أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر].
بمعنى أن الله عز وجل قدر على العباد في علمه السابق وفيما كتبه عليهم وفيما شاءه سبحانه أن منهم أهل الجنة وأن منهم أهل النار، فمصائر العباد لا تخرج عن هذا.
قال رحمه الله تعالى: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.
وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة].
في الحقيقة أن ما يظهر من الإشكال جاء من جانب واحد، وإلا فلا مجال للخلاف لولا هذا الإشكال، وهو أن الآية جاء فيها ذكر أخذ الذرية من ظهور بني آدم، حيث قال تعالى: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، يعني: من مجموع بني آدم.
وفي الحديث أن الأخذ من آدم نفسه.
ويمكن الجمع بأن المقصود إخراج الذرية من آدم ثم يخرج بعضها من بعض في نفس الوقت، ولعل ذلك من لوازم إخراج الذرية من آدم فيما يظهر، فيحمل الحديث على الآية والآية على الحديث.
فالآية تشير إلى أن الله عز وجل أخذ الذرية من بني آدم، والحديث يشير إلى أن الله أخذ الذرية من ظهر آدم نفسه، فلو قلنا: إن من لوازم أخذ الذرية من ظهر آدم أن تؤخذ الذرية من ظهور بعضهم ثم يجمع بين النصين لكان هذا أولى، وقد أشار إليه بعض أهل العلم.
ويحمل الميثاق على النوعين: ميثاق فعلي حصل به الاستنطاق وأنطق الله به البشر، وأن الله كلمهم قبلاً كما ورد في الحديث ثم شهدوا.
والنوع الثاني: الذي بقي في حياة الناس بعد هذا المشهد، وهو دلائل توحيد الله عز وجل وبراهين وجوده، فهذا أثر من آثار الميثاق باق إلى يوم القيامة.(49/16)
ما نقله القرطبي عن العلماء في تأويل آية الإشهاد
قال رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه، فقال قوم: معنى الآية: أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض.
قالوا: ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]: دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] أي: قال، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، ذهب إلى هذا القفال وأطنب].
أكثر من ينتصر لهذا القول أهل الكلام، وقال به بعض السلف فعلاً، لكنه لا يناقض القول الأول، والأدلة متوجهة على أن نوعي الميثاق موجودان، فالأول وردت به النصوص وهو غيبي، والثاني تدل عليه دلائل الفطرة والخلق، ولا تناقض بين الأمرين؛ لأن هذا تدل عليه النصوص وهذا تدل عليه النصوص، فأصحاب هذا القول الأول فسروا الميثاق ببعض معانيه.
قال رحمه الله تعالى: [وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.
ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إلى آخر كلامه.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي)، ولكن قد روي من طريق آخر: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار) وليس فيه: (في ظهر آدم)، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول].
المقصود بالقول الأول القول بأن الإشهاد إشهاد فعلي، بمعنى الاستنطاق، وأن الله عز وجل كلم هذه الذرية قبلاً، وأنهم قالوا: شهدنا.
هذا هو القول الأول، وهذا الذي تدل عليه ظواهر النصوص.
والقول الثاني في نظري صحيح، وتدل عليه أيضاً نصوص أخرى، فلا تنافي بين القولين، فالإشارة إلى التعجب تنتهي أو تزول إذا أخذنا بهذا الجمع، أي: بالجمع بين النصوص على هذا النحو، بأن يكون الميثاق ميثاقان: ميثاق أول، ثم بقي أثره في فطر الخلق وفي دلائل وبراهين خلق الله عز وجل في الكون والأنفس وفي الشرع.(49/17)
الأسئلة(49/18)
حكم التبرك بالنواصي
السؤال
هناك مقولة مشتهرة تقول: (تبركوا بالنواصي) فما صحتها؟
الجواب
إطلاقها غير صحيح، أما تقييدها بما ورد في الشرع من النواصي المباركة فنعم، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
فإذا ورد الشرع بشيء مبارك فإنا نتبرك به إذا كانت بركته تتعدى، وكذلك البقاع، فإذا قصد بالبقاع البقاع المباركة التي بارك الله فيها وورد الشرع بالبركة فيها فلا مانع.
أما إذا قصد الإطلاق وأن الناس يتبركون بما يريدون وكما يشاءون فهذا غير صحيح، بل ربما يكون من أسباب ظهور البدعة واشتهارها بين الأمة.(49/19)
شرح العقيدة الطحاوية [50]
اختلف الناس في معنى الإشهاد الذي ذكره الله في كتابه عن آدم وذريته، فقيل بأنه إشهاد حقيقي تم ووقع استنطاقاً، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، وهو الصحيح، وهو قول جمهور السلف وأهل الحديث، وقيل بأنه لم يحدث فعلياً، بل المقصود به دلائل الفطرة التي أقام الله بها الحجة على عباده، وهذا قول ضعيف، وهو ما اختاره شارح الطحاوية رحمه الله.(50/1)
خلاصة القولين الواردين في معنى الإشهاد
قال رحمه الله تعالى: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين].
هنا ينبغي أن نستذكر القولين السابقين في الإشهاد: القول الأول: هو القول بأن الإشهاد تم فعلاً على الصورة التي وردت في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخرج بني آدم من ظهره، وأشهدهم إشهاداً فعلياً على كيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنها غيبية، وأنهم نطقوا وشهدوا على أنفسهم، وأن هذا مشهد واقعي فعلي صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا الحديث مفسر للآية، فالآية مجملة وهذا مبين، ولا شك في أن الإجمال يرد إلى التفصيل، والمجمل يرد إلى المفصل.
أما القول الثاني الذي انتصر له الشيخ ابن أبي العز هنا فهو القول بأن الإشهاد لم يحدث بصورة مشهد فعلي، إنما كان تعبيراً عن دلائل الفطرة، عبر الله بذلك عن دلائل الفطرة، وأن الإشهاد يتمثل بالبراهين والأدلة التي أقام الله بها الحجة على العقلاء، وهي خلق الكون، وخلق الإنسان، وآيات الله المنظورة، والوحي، ودلالة الفطرة والعقل السليم، ونحو ذلك من البراهين العلمية والعملية التي تقوم بها الحجة، فهذا بمثابة الإشهاد.
ومال الشارح إلى تضعيف أحاديث الإشهاد، لأن الآية لا تدل صراحة على فعل الإشهاد على نحو ما ورد في الحديث، وهذا فيه تكلف كما سيأتي.
والقول الأول الذي أنكره مال الشيخ إلى سواه هو القول الذي عليه كثير من السلف، وعليه أغلب أهل الحديث، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية، وهو أن الإشهاد تم فعلاً على نحو ما جاء في الحديث، سواء كان ذلك تفسيراً للآية، أم أن الآية لها معنىً آخر على خلاف بين أصحاب هذا القول.(50/2)
رد الشارح للقول بالإشهاد الفعلي
قال رحمه الله تعالى: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة].
سينكر الشيخ هذه الأمور بعدة وجوه كما سيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: ذريته].
هذه الاعتراضات الثلاثة يجاب عليها بجواب واحد، فالإشكال فيها واحد، وهو مسألة مرجع الضمائر، فالأحاديث تشير إلى أن الله عز وجل أخذ من ظهر آدم ذريته وأشهدهم، وأنهم نطقوا، وأن الله كلمهم قبلاً، يعني: كفاحاً.
والآية فيها إشارة إلى بني آدم، فكأنه -أي: الشارح- يقول: إن هناك فرقاً بين آدم وبني آدم، فإذا كان الأمر كذلك فالآية لا تدل على هذا الإشهاد الحقيقي، إنما تدل على أمر معنوي.
والجواب عليه: أنه لا تنافي بين الأمرين، فالآية مجملة والحديث مبين، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن ما يتعلق بالضمائر؛ إذ الأحاديث أشارت إلى آدم بنفسه، وأن الإشهاد حدث عليه وعلى من أخذ من ظهره، والآية أشارت إلى مجموع بني آدم، ما يتعلق بذلك لا تنافي فيه بين الأمرين كما قال أهل العلم؛ لأنه يجوز -بل ربما كان من لوازم أخذ ذرية آدم من ظهره- أن يكون أخذ ذرية بعضهم من ظهور ذرية بعض.
وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل، فما الذي يمنع أن الله عز وجل حينما أخذ من آدم ذريته جعل الذرية تتداخل، وما هناك ما يمنع من هذا، بل شواهد النصوص وقرائن الأدلة تدل على هذا، وهو أن الإشهاد تم بهذه الطريقة: أن الله أخذ ذرية آدم من ظهره هو، ولزم من ذلك أخذ ذرية كل شخص من ظهره، وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل التي لا حد لها، فلا داعي لتكلف إنكار الإشهاد الحقيقي واعتباره مجرد إشهاد معنوي أو ميثاق معنوي مع أنه يمكن الجمع بينهما.
وقد ذكرت وجه الجمع بأنه لا تنافي أبداً في أن يكون الميثاق حدث فعلاً وبقي أثره، والناس في الدنيا لا يذكرون مشهد الميثاق لو لم يأت به القرآن، ونسيانهم له لا يعني نسيان أصل العهد، وهذا مما يحدث في حياة الناس، فالإنسان مثلاً قد تحدث له حادثة في مرحلة من مراحل عمره، حادثة لها شيء من التفاصيل، وينبني على هذه الحادثة مواقف معينة أو عقود أو عهود، ثم يمضي الزمن وينسى الحادثة، فيأتي من يذكره، فقد لا يذكر إلا العهد، ولكن ينسى التفاصيل، فعلى هذا تقوم الحجة بما عرفه الإنسان من ثمار الحادث وما ترتب عليه من عهود وإشهاد ونحو ذلك، ولو نسي التفاصيل.
وكذلك الميثاق، فقد يكون الله عز وجل قدر لبني آدم ألا يستذكروا كلهم تفاصيل الإشهاد، لكن بقي موجبه، وبقيت لوازمه، وهذا أمر يدركه كل عاقل في آيات الله عز وجل الشرعية والكونية.
قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.
ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173]، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدَّعو الغفلة أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.
ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله:(50/3)
إثبات الإشهاد الفعلي استنطاقاً والرد على الشارح في نفيه
يظهر لي أن هذا الكلام الذي وجه به الشارح رحمه الله رد القول الأول فيه نوع تكلف؛ لأمور: منها ما ذكرته من أنه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الإشهاد حدث تفصيلاً وبقيت آثاره.
والأمر الآخر: أن كل ما ذكره من هذه الاعتراضات ينصب على مسألة واحدة، وهي: أن الإشهاد الفعلي الذي تم لا يوجد له ذكر عند البشر الآن، وأنه كيف تقوم الحجة به عليهم وهم لا يتذكرونه، وهذا مردود بما ذكرته وبأمور أخرى: أولها: أنه جاء النص -وهو الحديث الصحيح- في الخبر عن الإشهاد تفصيلاً على نحو ما جاء في الحديث، وعلى هذا فيلزم أن نسلم بالنص، فما دام قد ثبت فلا بد أن نسلم بأن التفاصيل التي وردت فيه حق، وأنها جرت، وهي أمور غيبية لا نستطيع أن نتحكم فيها برد ولا تأويل ولا بتحكم بأي نوع من أنواع التحكم، وإنما لا بد من التسليم والتصديق بأنها حدثت فعلاً.
ثم إن ظهر لنا نوع من التعارض بين ظاهر الآية وظاهر الحديث فلنلتمس وجوه التوفيق بين الأمرين، ووجوه التوفيق ميسورة على نحو ما ذكرت، فلا داعي للتكلف.
الأمر الثالث: أن هذه النزعة -وهي نزعة الهروب من إثبات أمر غيبي- نزعة كلامية ما كان ينبغي أن يقع فيها أحد ممن ثبت لديه الحديث، لكن يظهر أن الشارح -والله أعلم- ما ثبتت عنده أحاديث الإشهاد، فركز على مفهوم الآية.
وقد أشار إلى شيء من هذا حينما أشار إلى أن هذه الأحاديث موقوفة على بعض الصحابة، وإلا فلا يتصور من مثل ابن أبي العز رحمه الله أن يتكلف رد أمور ثبتت بالأحاديث، لا سيما أنه ممكن جداً الجمع بين مدلول الحديث ومدلول الآية.
ثم إن أكثر ما ذكر من وجوه الرد إنما يتماشى مع قواعد العقلانية قديماً وحديثاً، وهذه النزعة نزعة عقلانية جاءت من أهل الأهواء من أمثال القدرية والمعتزلة والجهمية وأهل الكلام، ولذلك نجد أن أكثر من نصر هذا القول -وهو إنكار الإشهاد الفعلي- هم أهل الكلام، وقد قال بشيء من ذلك بعض السلف، لكن بدون تكلف، قالوا به لأنهم وجدوا له تفسيراً وتأويلاً يرون أنه تقتضيه معاني اللغة فقط، وإلا فما ردوا هذا الرد المباشر.
إذاً: فهذه النزعة نزعة عقلية ما كان ينبغي أن يقع فيها أهل السنة أو أهل العلم المقتدى بهم في الدين، وهي نزعة رد النصوص بمثل هذه التأولات والاحتمالات والاستبعادات العقلية التي لا تقاوم الأخبار الغيبية، فالأخبار الغيبية يؤمن بها كما جاءت، فإن لم نجد لها تفسيراً من عقولنا، ولم نجد وجوهاً نجمع بها بين نص ونص، فلنتهم عقولنا، ولا نتهم النص ليرجع الأمر إلى الشك في نص ثابت، ومع ذلك يبقى احتمال أن أكثر الذين ردوا القول الأول من أئمة العلم لا يصححون الحديث، أو لم يبلغهم المسند الصحيح منه، فربما بلغتهم بعض الآثار الضعيفة أو الموقوفة أو نحو ذلك.(50/4)
كرة ثانية للشارح في دفع القول بحصول الإشهاد استنطاقاً
قال رحمه الله تعالى: [وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه].
الشيخ أبو منصور الماتريدي يعتبر من أكابر المتكلمين الأوائل، وله في تأويلات النصوص مواطن كثيرة معروفة في كتابه التوحيد، وعلى هذا لا نستغرب أن ينصر هذا القول، بل من الطبيعي أن ينصره؛ لأنه يخالف القاعدة العقلية التي يسير عليها المتكلمون في بعض أمور الغيب وفي أفعال الله عز وجل، خاصة الذين ينكرون أفعال الرب، فإن الحديث عندهم لا بد أن يؤول، وإذا أمكنهم أن يردوه ردوه، وإذا ما أمكنهم فلا بد أن يؤولوه، فعلى هذا لا يصح أن يرتبط بأقوال هؤلاء، ولا يعتمد عليها كأقوال يرجح بها؛ لأنهم إنما خالفوا السلف في هذه الأمور وإن وافقوهم في أمور أخرى.
قال رحمه الله تعالى: [ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135].
وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به].
هذا فيه محاولة رد الإشهاد الحقيقي، وهذا أسلوب المتكلمين، وفيه تكلف، والشيخ رحمه الله كان من المتوقع أنه يقف عند قوله: [ولهذا تفطن ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث]، فهذا في الحقيقة أمر ينبغي أن يوقف عنده، فهؤلاء هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وحق لهم أن يهابوا، ولماذا لا نهاب أمر غيبياً أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم إن المسألة ليست مجرد هيبة، بل هي مقتضى الإيمان والتسليم والإذعان لله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عليه أن يخشى الله عز وجل ويخافه، ويجب أن يسلم ويذعن، ولا شك في أن المسلم لا يجرؤ على أن يقول في الغيب شيئاً، لكن الأمر أكبر من ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟! بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب؛ فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه -على الصحيح- حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8].
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.
فإن توحيد الربوبية(50/5)
الأسئلة(50/6)
توجيه حديث الضرير في التوسل
السؤال
بالنسبة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كيف نوجه حديث الضرير الذي صححه بعض العلماء، ومنهم الألباني وشيخ الإسلام كما قال السيوطي في كتابه؟
الجواب
هذا الحديث صحيح، ومما ورد في الحديث مما يفسره أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ذلك الضرير الذي جاء إليه أن يتوضأ ويصلي ويطلب من الله عز وجل أن يتقبل دعاء شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيدعو له، وهذا أمر مشروع، فالضرير طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، بمعنى: أن يدعو له، وهذه شفاعة في الدنيا لا تتعلق بشفاعة الآخرة، فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يُكشَف ضره، فهذا معنى الاستشفاع به والتوسل به، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الأمر الشرعي، ولا مانع يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يدعو له؛ لأن هذا حق، والنبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة، لكن عليه أن يصلي لله عز وجل ويتوجه إلى الله بأن الله يقبل هذه الوسيلة، وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، هذا هو المشروع، وهذه الصور الحقيقية لا علاقة لها بما يفعله أهل البدع، فهذه الصورة مشهورة، نبه عليها السلف وأئمة العلم من أهل السنة قديماً وحديثاً ولا إشكال فيها، لكن هل ما يفعله أهل البدع هو على هذه الصورة؟!
الجواب
لا؛ لأنهم يتمسحون بالذوات ويدعونها من دون الله، ويرجون منها النفع والضر بما لا يقدر عليه إلا الله، ويطلبون منها ما لا تستطيع وما لا تملك، فليس في حديث الضرير أي شبهة، فضلاً عن أن تكون دلالة لأهل البدع.(50/7)
ثبوت حادثة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم
السؤال
هل صحيح أن حادثة خالد القسري مع الجعد بن درهم غير ثابتة؟
الجواب
الذي أعرفه أنها ثابتة ومستفيضة، وأهل العلم استندوا على أنها صحيحة، وقد تكون بعض أسانيدها غير صحيحة، لكن قتل خالد بن عبد الله القسري للجعد صحيح، وقتله بموجب فتوى الأئمة؛ لأن شره متعد ومقولته مقولة كفر، وكذلك بقية الأشخاص الذين قتلهم خالد بن عبد الله القسري، ولذلك سماه السلف: قصاب الزنادقة.(50/8)
حكم متبع الهوى
السؤال
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، هل كل من اتبع هواه يكون كعابد الوثن؟
الجواب
إذا اتبع هواه في أمر يخرج به عن مقتضى الدين، أو يخل بالعبادة، بمعنى أنه عبد غير الله بهواه بأي نوع من أنواع العبادة؛ فهذا شرك كفري، وإذا كان هواه دفعه إلى أن ينكر أصلاً من أصول الدين القطعية فهذا كفر، خاصة إذا أقيمت عليه الحجة وبين له الحق، أما اتباع الهوى في المعاصي، وفي البدع الجزئية التي دون الكفر، واتباع الشهوات؛ فهذا أمر يعد من الذنوب، وقد يكون من الموبقات التي ورد فيها الوعيد، لكن لا يخرج به الإنسان من الإسلام.(50/9)
الاشتراكية في ميزان الإسلام
السؤال
هناك من يجعل الاشتراكية مما جاء في الشريعة وحث عليه الإسلام، وهناك من يجعلها مبدأ ماركسياً مما جاءت به الشيوعية، فأيهما الصواب؟
الجواب
الاشتراكية لا شك في أنها مبدأ مادي وبعيد عن الإسلام كل البعد، ومذهب منحرف، وهي مذهب ضال، لكن الناس يعبثون بالألفاظ، فبعض الناس -مثلاً- قد يطلق على وجود التكافل في الإسلام كالزكاة والصدقات ونحوها من الأمور المشروعة أنها نوع من الاشتراكية، وهذا من الناحية اللفظية قد يصح، لكن هذا تلبيس؛ فالاشتراكية مبدأ لا يعترف بالزكاة ولا يعترف بالأصول الشرعية، ولا يعترف بالإسلام أصلاً، فهي مبدأ هدام يقوم على المساواة بين الخلق، والله عز وجل ما ساوى بين الخلق، إنما عدل بينهم، فلذلك يجب أن تتنبهوا لهذا، فكثير من الناس يقولون: إن الإسلام جاء بالمساواة، وهذا غير صحيح، فهل المساواة تعني أن يستوي المؤمن والكافر؟! وأن يستوي الجاد والهازل؟! وأن يستوي العامل والقاعد؟! إذاًَ: ما جاء الإسلام بالمساواة، وإنما جاء الإسلام بالعدل، أما المساواة فظلم، فلو جئنا لأي واحد ممن يدعون المساواة، أو يقول: الإسلام جاء بالمساواة، فأخذنا بعض ماله لجاره الفقير؛ فهل سيعترف بالمساواة أم سينكرها؟! إذاً: المسألة ليست مسألة دعاوى مساواة ولا اشتراكية، فالإسلام دين إلهي وضعه الله عز وجل لخلقه، فلا يجوز أن نقارنه بغيره، ولا نقارن غيره به، ولا يجوز أن ندعي أن هذه الشعارات تقرب من الإسلام ولا يقرب منها، فهذه شعارات باطلة، وما يوجد من وجوه التشابه في بعض هذه المبادئ؛ فهذا لا يقتضي أن بينهما شيئاً من التوافق، فالإسلام يقوم على التسليم لله عز وجل، حتى لو أن إنساناً عمل بالإسلام وما سلم قلبه لله لن ينفعه الإسلام وهو يعمل بالإسلام، فكيف بمن يقول بالاشتراكية؟!(50/10)
شرح العقيدة الطحاوية [51]
القدر سر الله تعالى في خلقه، وكل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، والله تعالى خالق العباد وأعمالهم، قد علم ما يعملون قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وعلم أهل الجنة وأهل النار بسابق علمه بما سيعملون، هذا معتقد أهل السنة، وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، فزعموا أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي، وسبب ضلالهم في ذلك أنهم لم يفرقوا بين المشيئة الشرعية والكونية، فوقعوا في هذا الضلال المبين في هذا الأصل العظيم من أصول الدين.(51/1)
علم الله تعالى السابق بأفعال العباد ومآلهم في الآخرة
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه).
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75]، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]؛ فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة.
قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
ثم قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له؛ أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]) خرجاه في الصحيحين.
قوله: وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله].
هذا الحديث إشارة إلى الحجة القائمة على الخلق في مسألة القدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة المقادير السابقة، وأن مصير كل عبد قد كتب من الشقاوة والسعادة أشكل عليهم ذلك من حيث فائدة العمل، فقالوا: إذاً: فلم العمل؟! فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقاعدتين عظيمتين: القاعدة الأولى: وجوب العمل؛ لأن الله أمر بالعمل، فقال: {اعْمَلُوا} [التوبة:105]، وهذا مقتضى الشرع الذي أنزله الله على رسله.
بمعنى أن مصير العبد -حتى وإن كان كتب عليه تقديره السابق- مرتبط بعمله، وما دام ما كتب عليه غيباً فعليه أن يشتغل بعالم الشهادة، وليدع الغيب، فلا يعلق ذهنه ولا اعتقاده ولا مصيره بالغيب؛ لأن مصيره مرتبط بالعمل، فقوله: (اعملوا) أمر منه صلى الله عليه وسلم، وهو أمر الله الذي أرسل به رسله، فهذا توجيه يخرج معضلة اللغز الذي يحار فيه بعض الناس، فالصحابة حينما عرفوا أن التقدير السابق كتب وجاء عليهم الإشكال؛ أمروا بهذا الأمر، وكذلك جميع الأمة.
إذاً: المصير المقدر السابق المجهول مرتبط بالعمل.
القاعدة الثانية -وهي أيضاً حلقة من الأولى- قوله: (فكل ميسر لما خلق له).
إذاً: فبعد العمل وبعد السعي والتحصيل وبعد بذل السبب الشرعي الذي قامت به الحجة سييسر كل لما كتب له، إلامَ وعلامَ سييسر؟ الله أعلم،، إنما الذي نعلمه أن الله عز وجل كلف العباد وأمرهم بالعمل وأقدرهم عليه وخيرهم فيه، وليس هناك إنسان يقول: أنا مقهور على أن أعمل الشر، أو أنه يعمل بدون إرادته، بل كل إنسان حر عاقل مميز يستطيع أن يعمل كما يشاء، يستطيع أن يعمل الخير بإرادته، وتقوم عليه الحجة بذلك، وأن يعمل الشر بإرادته وتقوم عليه الحجة بذلك.
ثم إن الله عز وجل أعطى العباد عقولاً وفطراً، ثم أنزل لهم شرعاً يتضمن الأمر والنهي، ووعد على امتثال الأمر بالوعد الصادق، وتوعد على فعل الأمر وفعل المنهيات بالوعيد الصادق، وأقدر الإنسان على فعل هذا وهذا، ولم يقصره عليه، لذلك فالإنسان الذي يفقد عقله أو يكره على أمر لا يكلف، فمن هنا يأتي معنى: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، اعملوا بمقتضى ما أمرتم به، وثقوا بأنه لن يضيع عمل العامل، وكل سيسره الله لما قدره عليه في السابق، وليثق المرء بأن الإنسان الذي يعمل خيراً سيجد خيراً، والذي يعمل شراً تقوم عليه الحجة، فهذا أمر ينبغي أن لا يتعداه الإنسان في مسائل القدر، فينبغي لكل مسلم أن يلتزم هذا القدر، وما عدا ذلك من مسائل القدر لا يخوض فيه إلا على سبيل العلم، فنتكلم عن مواطن القدر لنعلمها فقط لا لنعلق عليها أموراً غيبية، بمعنى: لا نتكل على أمر كتب، فإذا عرف الإنسان أن كل شيء مكتوب -ومن جملة ذلك الشقاء والسعادة- فلا يعني ذلك أنه يتكل على المكتوب، بل عليه أن يعمل بالمعلوم، والغيب غيب عند الله، بدليل أنه لا أحد يدري ما مصيره، وإذا كان كذلك فليعلم أن مصيره مرتبط بالعمل أو ترك العمل.(51/2)
الأعمال بالخواتيم
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله): تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم: أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: لا.
بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين، وزاد البخاري: (وإنما الأعمال بالخواتيم).
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق-: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق].
ابن عبد البر رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة، وكتبه عمدة عند أهل السنة، لكن لم تشتهر عندنا؛ لأنه من علماء المغرب، ومع ذلك ينبغي على طلاب العلم أن يعنوا بكتب الإمام ابن عبد البر؛ فإنه -رحمه الله- خدم السنة خدمة جليلة، خاصة في مسألة التأصيل والتقعيد، ووضع واستقراء مناهج السلف، وكتابه (التمهيد) من أعظم الكتب، ولا أظن طالب علم يستغني عنه أبداً، فلا بد لكل طالب علم من أن يقتني هذا الكتاب وأن يعنى به ويدرسه، فقد اشتمل على كثير من أصول السلف، ورد فيه ابن عبد البر على كثير من أصول أهل الأهواء والبدع، ويحتاج هذا الكتاب إلى خدمة علمية لإخراج ما فيه من كنوز.
قوله: [وأكثر المتكلمون من الكلام فيه] يقصد المعتزلة والقدرية والجبرية والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، كلهم تكلموا في مسائل الغيب ومسائل القدر بكلام يخرج عن أصول السلف وعن أصول الحق، وجعلوا كلامهم كأنه أصول السنة أو كأنه هو الاعتقاد، مع أن كلامهم لا يعدو أن يكون تخرصات ورجماً بالغيب.(51/3)