الكنز الثمين
(1)النية و إخلاص العمل
و سئل وفقه الله:
* ما الوسيلة لإخلاص العمل أو إصلاح النية؟ أرشدونا وفقكم الله؟
فأجاب:
من المعروف أن الإخلاص من شروط التوحيد، و معناه أن يعتقد المسلم أن عمله لله، و أن لا يريد به حظاً عاجلاً، و لا مدحاً، و لا ثناءً من أحد، و إنما النية و الدافع الذي في قلبه هو إرادة وجه الله.
وقد وردت الأدلة في ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم في الجهاد: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". يعني أن الذي يقاتل حمية، أو عصبية، لا تكون نيته صحيحة. كذلك نية التوحيد، ففي الحديث: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نَفْسه" بأن تكون نيته الطاعة و القربة إلى الله.
وبين ما يضاد ذلك، ففي الحديث قوله صلى الله عليه و سلم: "من سمّع سمّع الله به، و من يرآئي يرآئي الله به". يعني: من حسّن صوته بالقراءة و نحوها ليمدح، فإن الله لا يمدحه. كذلك من صلّى صلاةً بخشوع و خضوع، أو تصدق بصدقة، أو ما أشبه ذلك، أو أنفق في سبيل الله رئاءَ الناس فإن الله تعالى يفضحه؛ لأن هذا من الرياء الذي يحبط الأعمال.
و بالجملة فالإخلاص هو أن تريد بعملك وجه الله، و أن لا تقصد به مدحاً و لا ثناءً و لا حظاً دنيوياً.
(2)تقسيم التوحيد ثابت عن علماء الأمة
و سئل يحفظه الله:
* يقول أحد الدعاة - و هو ينتمي لجماعة من الجماعات الإسلامية؛ في معرض حديثه في محاضرة ألقيت في إمارة الشارقة بالإمارات المتحدة، يقول-: "التوحيد من ناحية تقسيمه إلى ثلاثة أنواع لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة و السلام، و لم يثبت عن الصحابة، و عليه فهذا التقسيم بمسماه بدعة" انتهى كلامه. ثم سألت أحد طلبة العلم فقال: يمكن أن يقسم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة و هكذا. نرجو توضيح هذه المسألة؟
فأجاب:(1/1)
إن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة جاء عن علماء الأمة، و أخذوه استنباطاً من الأدلة؛ حيث إن النصوص الصريحة تفيد وجوب توحيد الرب تعالى، باعتقاد أنه واحد، قال تعالى: ((و إلهكم إله واحد))(البقرة:163). و قال تعالى: ((و ما من إله إلا إله واحد))(المائدة:73). و في الحديث: "و لا نعبد إلا إياه". و في الدعاء: "و لا إله غيرك".و غير ذلك من الأدلة.
* فإذا قلنا: إن الله تعالى واحد في إلهيته، و أحقّيته للعبادة؛ فهذا توحيد العبادة؛ دليله الآيات المذكورة.
* و إذا قيل: إن الله تعالى واحد في ذاته و أسمائه و صفاته، بدليل قوله تعالى: ((هل تعلم له سمياً))(مريم:65). و قوله: ((و لم يكن له كفُواً أحد))(الإخلاص:4). و قوله: ((ليس كمثله شيء))(الشورى:11). كان هذا توحيد الربوبية، و الأسماء و الصفات، و المعرفة و الإثبات، و هو التوحيد الخبري الاعتقادي؛ فهذا صحيح؛ و دليله الآيات المذكورة.
فكيف يقال: إن هذا بدعة؟!
مع أنه مأخوذ من هذه الآيات و الأحاديث و النصوص الصريحة، و الله أعلم و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.
(3)الألوهية
الشهادتان من توحيد الألوهية
و سئل فضيلته:
* قول "أشهد أن لا إله إلا الله" من أي أنواع التوحيد؟ و أي توحيد يعصم الدم و المال؟
فأجاب:
الشهادتان من توحيد الألوهية، فشهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الألوهية الذي هو الاعتقاد و العمل، و شهادة أن محمداً رسول الله هي مكمّلة لها، و فيها الاتباع، فهي من توحيد الألوهية، و هو توحيد العبادة، يعني النطق بالشهادتين بلفظ الألوهية، من تكميل توحيد العبادة.
و هذا التوحيد هو الذي يعصم الدم و المال، لقول النبي صلى الله عليه و سلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، و يقيموا الصلاة، و يؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها". متفق عليه من حديث ابن عمر.(1/2)
و ذلك أن توحيد الربوبية قد أقر به المشركون و لم يعصم دماءهم و أموالهم حيث عبدوا مع الله غيره، فلذلك أمر الله بقتالهم، بقوله تعالى: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم))(التوبة:5). فإذا تابوا من هذا الشرك و عبدوا الله وحده وجب الكف عنهم. و الله أعلم.
دلالة التضمن في توحيد الألوهية
و سئل حفظه الله:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، و نزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية. هلاّ بيّنتهم لنا دلالة التضمن؟
فأجاب:
كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، نقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الألوهية؛ إلا بعد ما يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف و هذا هو توحيد الربوبية.
فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الألوهية، و توحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الألوهية؛ فالتضمن معناه: الاشتمال عليه، و كونه في ضمنه.
فالأصل في التكليف، أن الله أمرنا بتوحيد الألوهية، و لكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه.
كيف نرد على أهل النظر
و سئل يحفظه الله:
* كيف نرد على أهل النظر "أن للعالم صانعين" عن طريق العقل و النقل؟ .
فأجاب:
أما عن طريق العقل: فبدلالة التمانع، و هي أنه لو كان للعالم إلهان خالقان؛ فأراد أحدهما تحريك شيء، و أراد الآخر تسكينه.
* فإما أن يحصل مرادهما و هو ممتنع عقلاً.
* و إما ألا يحصل مراد أحدهما و هو مستحيل، و يستلزم عجزهما.
* و إما أن يحصل مراد واحد منهما!!
فالذي لا يحصل مراده عاجز؛ لا يصلح أن يكون إلهاً، و لا أن يكون خالقاً، فدل ذلك على أن الخالق واحد ليس له من يزاحمه في التصرف، و هذه هي الدلالة العقلية.
و أما الدلالة السمعية(أي الأدلة النقلية و هي الكتاب و السنة): فالآية الكريمة: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا))(الأنبياء:22). و نحوها من الآيات.
الفرق بين التكلم و الخبر
و سئل وفقه الله تعالى:(1/3)
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية و القيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع.. وذكر منها:
1- مرتبة التكلّم و الخبر.
2- و مرتبة الإعلام و الإخبار.
فما الفرق بين مرتبة التكلم و الخبر، و بين مرتبة الإعلام و الإخبار؟
فأجاب:
التكلم معناه لغة: أن يتكلم حتى يَسْمَعَهُ غيره، بعد ما يعلن بقلبه؛ يتكلم حتى يسمعه من حوله.
و أما الإعلام فمعناه: أن يُعْلِمَ غيره، فيقول مثلاً: اعلموا أن الأمر كذا، و كذا، و هذا أمر زائد على التكلم.
قد يتكلم الإنسان و لا يقول: اعلموا، فهذه مرتبة تكلّم فقط؛ فإذا ما أعْلَمَ غيره فإنه يتعدى بعد ذلك إلى مرتبة أشمل و أوسع و هي مرتبة الإعلام و الإخبار.
فهنا تكلّم للتذكر أو للحفظ، و هنا إخبار للناس و إعلام لهم.
معنى "شهد الله"
و سئل حفظه الله:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": (وعبارات السلف في: "شهد" تدور على الحكم)فما معنى الحكم؟
فأجاب:
فسّر كثير من الصحابة "شهد الله" في قوله تعالى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم))(آل عمران:18). فسّرها الكثير: "بِحَكَمَ الله"، و فسّرها بعضهم: "بِأخْبَرَ الله"، و فسرها بعضهم: "بِأعْلَمَ الله"، كما فسّرها بعضهم "بِأمَرَ الله" ...
فيكون المعنى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أمر الله أنه لا إله إلا هو" ... و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "حكم الله أنه لا إله إلا هو".. و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أخبر الله أنه لا إله إلا هو".. و المعنى أن الآية تشهد بذلك كله، و الله أعلم.
ما معنى الأبيات التالية؟
و سئل غفر الله له ولوالديه:
* نرجو شرح هذه الأبيات التي ذكرها شارح العقيدة الطحاوية(انظر شرح العقيدة الطحاوية،ص97). و هي من شعر أبي إسماعيل الأنصاري يقول:
1- ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد(1/4)
2- توحيد من ينطق عن نعته عارية.. أبطلها الواحد
3- توحيده إياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فأجاب:
فإن ظاهره أن ليس أحد وحد الله و إنما هو وحد نفسه، و ننصحك أن لا تتقعر في معنى هذه الأبيات، و لكن على كل حال هي فيها شيء من الدخول في علم التصوف أو الغلو فيه.
فالبيت الأول: الذي ذكر أنه ما وحّد الواحد من واحد؛ ظاهره أن الناس ليس فيهم موحّد.
و البيت الثاني: ظاهره أن كل من ينطق بتوحيده فإنه جاحد أو لا حد كما في بعض النسخ.
و البيت الثالث معناه: أن ليس أحد وحّد الله تعالى إنّما الله هو الذي وحّد نفسه.
لكن يمكن حمله على أن المخلوقين تلقوا ذلك عن الله تعالى؛ فصار توحيدهم مأخوذاً عن توحيده. هذا أحسن ما حمل عليه.
(4)الربوبية
الرزق تكفل الله به و لكن ...
و سئل عفا الله عنه:
* لقد سمعت من الذين يتلبسون و يتخفون برداء الإسلام؛ دعوة تنادي بأن الرزق تكفل به الله سبحانه و تعالى، و أن من يتقي و يسير في طريق الإسلام الصحيح يأكل من فوقه، و من تحته، و يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب؛ و لكن لماذا يموت الإنسان من جراء الجوع و الجفاف في بعض المناطق؟ أليس هناك تكفل من قبل مشروط بالطاعة؟
فأجاب:
لا شك أن الله تعالى تكفل بالأرزاق لكل المخلوقات، و هيأ لهم أسبابها، لكنه قد يبتلي العباد -و لو كانوا مؤمنين- للاختبار،و إظهار العبر و ضده، و هو سبحانه قد سهل أسباب الرزق،و أعطى الإنسان قوة و قدرة على الاحتراف و التكسب، و طلب الرزق، فإذا لم يستعمل تلك القوة و الملكة، فقد فرّط، فلا يأمن أن يسلط عليه الجوع و الفقر و الألم.
و هكذا قد يسلط الله على البلد بما فيها من الدواب و غيرها، فيعذبهم بسبب الذنوب و الكفر، و ترك الواجبات.
لماذا يعبد الله؟
و سئل فضيلة الشيخ:
* لماذا يعبد الله سبحانه و تعالى؟
فأجاب:(1/5)
ورد في بعض الآثار أن الله تعالى يحضر رجلاً في الآخرة؛ عند الحساب فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول العبد: سمعت بخلق الجنة، و ما فيها من النعيم المقيم، فأسهرت ليلي، و أتعبت نهاري، و أظمأت نفسي طلباً لدخول الجنة، و شوقاً إليها لأحظى بهذا النعيم، و الثواب العظيم، فيقول الله تعالى: هذه الجنة فادخلها فلك ما طلبت، و ما تمنيت.
ثم يحضر رجلاً ثانياً فيسأله: لماذا عبدتني؟ فيقول: سمعت بخلق النار و ما فيها من العذاب و النكال و الوبال و الأغلال و الآلام، فأسهرت ليلي، و أظمأت نهاري، و أتعبت نفسي خوفاً من النار، و هرباً من ألمها و عذابها، فيقول الله تعالى: قد أجِرْتَ من النار فادخل الجنة، و لك ما تتمنى نفسك.
ثم يحضر الله رجلاً ثالثاً، فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول: عرفت صفاتك و جلالك و كبرياءك و نعمك و آلاءك فتعبدت شوقاً إليك و محبة لك، فأنت المستحق للعبادة و التعظيم، لفضلك و إنعامك على الخلق، و لكمال صفاتك، و عظيم جلالك، فيقول الله تعالى: أنا ذا فانظر إليّ، و قد أبحتك ثوابي، و أعطيتك ما تتمناه.
و بالجملة: فالذي يعبد الله لمعرفته بأنه أهل للعبادة، و لأداء حقوقه، و لأنه أهل التقوى، و أهل المغفرة، و خالق العبد و المنعم عليه،و له المن و الفضل والثناء الحسن، هو أكثر أجراً و ثواباً، و الله واسع عليم.
(5)الأسماء والصفات
هل يجوز إطلاق كلمة الصانع على الخالق
و سئل فضيلته:
* نجد أن شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": يطلق كلمة الصانع على الخالق فمثلاً يقول: "فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع و دلائل صدق الرسول"، فهل يجوز إطلاق كلمة الصانع في حق الله سبحانه و تعالى؟.
فأجاب:(1/6)
هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله الصانع، بمعنى أنه المبدع للكون، و هو الذي صنع الكون بذاته، و أبدعه، فلذلك يُكْثَرُ من إطلاقها في الكتب؛ كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: ((اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم))(البقرة:21). و أطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع في الجزء الثاني من مجموع الفتاوى، و نحو ذلك. فإطلاق الصانع معناه: بأنه وصف لله أنه مبدع للكون.
النظر دليل اليقين
و سئل الشيخ:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "استدلاله بالآيات الكونية و النفسية، استدلال بأفعاله و مخلوقاته، و من أسمائه تعالى "المؤمن" و هو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم.." نرجو توضيح هذه العبارة؟
و كذلك يقول في موضع آخر: "و استدلاله بالآيات الأفقية و النفسية استدلال بأفعاله و مخلوقاته.." نرجو توضيح ذلك؟
فأجاب:
معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبّت الدليل، و الله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، و الآيات هنا يراد بها الآيات الكونية، و الآيات النفسية.
أما الآيات الكونية فهي: الآيات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء و ارتفاعها، و انظروا في تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض، و انظروا في هذه الأرض و ما فيها من النبات و ما فيها من الحيوانات، و انظروا في هذه البحار و ما احتوت عليه، و ما أشبه ذلك. فالنظر يعني الاعتبار، و هو يكون دليلاً إلى اليقين، أي يقوي الإيمان.(1/7)
كذلك الآيات النفسية: يقول تعالى: ((و في أنفسكم أفلا تبصرون))(الذاريات:21). يعني في أنفسكم آيات، فلو فكر الإنسان في نفسه لزالت عنه الشكوك و التوهمات. ففي نفس الإنسان أعظم عبرة، و أعظم آية، كيف كان في أول أمره نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً؟! ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة، و حاجاته كاملة؛ فإن ذلك بلا شك مما يلفت نظره، و يوضح له أمره أنه مخلوق و أن له خالقاً؛ قال تعالى: ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون))(الطور:35).
و أما الاستدلال بأنه سبحانه و تعالى من أسمائه المؤمن الذي يصدق عباده، فهذا التصديق في يوم القيامة؛ أما في الدنيا فيصدق عباده المرسلين بما يقيم على أيديهم من الآيات و المعجزات، و يصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم، و يظهر بذلك صدقهم و نصحهم لأممهم.
تسمية المخلوق بصفة الخالق
و سئل حفظه الله:
* إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل يعني ذلك أنها متفقة في المسمى، و مختلفة في المعنى و المدلول؟
فأجاب:
إذا اتفقا فقد اتفقا في الاسم، و اتفقا في المعنى العام، و اختلفا في الكيفية، فالمدلول واحد.. فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع، و أن المخلوق يسمع، فالسمع هو إدراك الأصوات، هذا متفق فيه، و إذا قلنا: إن الله تعالى له سمع، و للمخلوق سمع، فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق، بل بينهما تفاوت، فهي متفقة في الاسم، و متفقة في المعنى العام، و أما الكيفية و الصفة فبينهما تفاوت.
لفظ التشبيه لفظ مجمل
وسئل الشيخ:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية"(انظر شرح العقيدة الطحاوية): "و لكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح".. نرجو توضيح هذه العبارة؟
فأجاب:
كلمة التشبيه: أهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، و المعتزلة يريدون بها نفي الصفات.(1/8)
فأهل السنة يريدون بكلمة: "ليس لله شبيه" أي نحن ندفع عن الله التشبيه، صحيح أن قصدهم أن يقولوا: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، و لا تشبهه المخلوقات، و هذا معنى صحيح.
و لكن تارة يراد به المعنى الباطل، و هو نفي الصفات! فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، و من أثبته فهو مشبه، و ليس لله علم، و من أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، و إثبات القدرة عندهم تشبيه، و إثبات الحياة عندهم تشبيه، و إثبات الكلام عندهم تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً. تارة يراد به المعنى الصحيح، و تارة يراد به المعنى الباطل.
(6)احترام كلام الله و أسمائه و صفاته
حكم الأكل على ورق الجرائد
وسئل فضيلته:
* ما حكم استعمال أوراق الجرائد "كفرش" لموائد الطعام؟
فأجاب:
هذه الصحف و الأوراق غالباً لا تخلو من أسماء الله تعالى، أو بعض آيات القرآن أو الأحاديث الشريفة، فلا تجوز الاستهانة بها، و لا الجلوس عليها، أو جعلها خواناً لموائد الطعام؛ بل تحرق و تتلف بعد الانتهاء من قراءتها.
حكم سماع القرآن و نحن في أماكن الخلاء
و سئل فضيلته:
* استمع في أغلب أوقاتي و أنا في المنزل إلى برنامج "القرآن الكريم" في المذياع، فيصادف أحياناً أن أدخل بيت الخلاء و يكون المذياع مشتغلاً، فما حكم سماع التلاوة و غيرها و إنا داخل بيت الخلاء؟
فأجاب:
لا مانع أن تسمع تلاوة القرآن الكريم إن كنت في بيت الخلاء، و ذلك لأن السماع ليس مثل الإدخال، و الممنوع هو إدخالها مكتوبة في المراحيض، و أماكن التخلي، و أما سماعها و أنت داخل بيت الخلاء فلا مانع.
هل يجوز إدخال ما فيه اسم الله إلى بيت الخلاء؟
و سئل فضيلته:
* هل يجوز دخول بيت الخلاء و معي ورقة مكتوب عليها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"؟ علماً بأن الورقة مهمة جداً و لا يمكن تركها خارج بيت الخلاء؟
فأجاب:(1/9)
ورد ما يدل على النهي عن دخول الأماكن القذرة بشيء فيه ذكر الله، و لكن قد تعم البلوى، و قد يضطر الإنسان إلى استصحاب شيء من ذلك، فحينئذ قد يُرفع عنه إذا كان خفيّاً، مختبئاً غير واضح.
و ضربوا مثلاً بالخاتم إذا كان فيه اسم الله، كعبد الله و عبد الرحمن و نحو ذلك، فإن استطاع أن يخلعه و لا يدخل به فهو أولى، و إن لم يستطع؛ جعل فصه في داخل كفه و قبض عليه حتى يكون خفياً فذلك مما يُستأنس به.
لذا فعليك أن تخبئ الورقة التي فيها كلمة الشهادة، أو اسم من أسماء الله في جيبك، فإن ذلك أخف، فإن تيسّر إخراجها وعدم الدخول بها فهو أولى.
احترام أسماء الله و صفاته
و سئل حفظه الله:
* ما حكم وضع الأوراق التي فيها أسماء الله أو صفة من صفاته في سلة المهملات أو في برميل الزبالة؟ علماً بأن أكثر من وقع في هذا العاملين في الإدارات و المؤسسات الحكومية (المكاتب)؟
فأجاب:
يجب احترام أسماء الله تعالى و صفاته، و من احترامها رفعها عن الامتهان إذا وجدت في الصحف و الأوراق العادية والمعاملات، فلا يجوز إلقاؤها على الأرض تحت الأحذية، و لا إلقاؤها مع الزبالات في سلة المهملات، حيث إنها تلقى في القمامات و يستهان بها؛ بل يلزم إتلافها و إحراقها، و على الكُتّاب أن يحضروا عندهم آلات الإتلاف التي تمزقها قطعاً صغيرة، كما هو معتاد، و الله أعلم.
(7)الشرك و ما يتعلق به
ليس للكواكب طبائع تلائمها
و سئل فضيلته:
* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": و من أسباب الشرك عبادة الكواكب، و اتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها.. ما المقصود: "بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها"؟
فأجاب:(1/10)
يقولون أن هناك من يعبد الكواكب، و الذي يعبدونها يبنون لها الهياكل، و الهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم، أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم، فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: إن من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو من طبيعته البرودة، أو من طبيعته الرطوبة، أو من طبيعته الجفاف و اليبس، أو ما أشبه ذلك ...
فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا و كذا! فيجعلون المطر من طبيعته!
و إذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني، أو النوء الفلاني!
و إذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء.
فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر، أو الجفاف، أو اليبس، أو قلة الأمطار، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب، أو ما أشبه ذلك، يزعمون أنها هي التي تثيرها، و نسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون، و هو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، و هو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: ((و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر والنجوم مسخرات بأمره))(النحل:12).
فإذا كانت كلها مسخرات؛ فكيف يكون لها تأثير؟! و كيف يكون لها طبائع تلاءمها؟
(8)الرقى و التمائم
الاضطرابات النفسية لا تعالج بالتمائم
و سئل وفقه الله:
* هل يجوز لي أن أعلق تميمة، حيث إنني أعاني من اضطرابات نفسية؟
فأجاب:
لا يجوز تعليق التمائم، لورود النهي عن ذلك و تجوز الرقية بالقرآن، و الأدعية، و الأوردة المأثورة و كثرة الذكر، و الأعمال الصالحة، و الاستعاذة من الشيطان، و البعد عن المعاصي و أهلها، فكل ذلك يجلب الراحة و الطمأنينة و الحياة السعيدة.
حديث السبعين المشهور
و سئل فضيلته:(1/11)
* قرأنا في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب في حديث السبعين إنهم (لا يرقون)، و قرأنا في زاد المعاد لابن القيم أن الرسول صلى الله عليه و سلم رقى بعض أصحابه، و قال في ذلك بعض الأدعية؛ فهل فِعْلُهُ صلى الله عليه و سلم نَسْخٌ لما ورد في الحديث، أم أنها من الأفعال الخَاصة به؟
فأجاب:
أنا قرأت كتاب التوحيد، و لم أجد فيه هذه الكلمة و هي كلمة "لا يرقون"، و هذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أنها بنسخة غير معتمدة، و الرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها: "هم الذين لا يسترقون، و لا يكتوون، و لا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون". فإذا كان في بعض النسخ، "لا يرقون" فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة، و ذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: "لا يرقون و لا يسترقون".
و لكن صحح العلماء أن كلمة: "لا يرقون" خطأ من بعض الرواة، و أن الصواب: "لا يسترقون".
فكونك ترقي غيرك و تنفعه مما تثاب عليه، و لا ضرر عليك في ذلك، فقد نفعت غيرك كما في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، و فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
و أما كونك تطلب غيرك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد،/ و دليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله. فالراقي يجوز أن يرقي غيره، و لكن يكره له أن يطلب من يرقيه.
على الجنب المبادرة بالاغتسال
أما الحائض و النفساء فلا بأس
و سئل وفقه الله:
* ما حكم الشرب أو الاستحمام بالماء المقرئ عليه بالقرآن؟ و ما حكم الرقية الشرعية على المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء، و على الرجل إذا كان جنباً؟
فأجاب:
على الجنب أن يبادر بالاغتسال قبل استعمال القراءة ليكون أقرب إلى التأثير، و لو كان ذلك شرباً للماء المقروء فيه، أو غسلاً به.
فأمّا الحائض و النفساء فلها استعمال الماء المقروء فيه زمن العادة، حيث إنها قد تتضرر بتأخير الاستعمال.
الأكمل للمريض أن يكون طاهراً
و سئل حفظه الله:(1/12)
* هل تجوز القراءة و الرقية الشرعية على المرأة المريضة بالمس و العين و غيره، و هي حائض ، و على الرجل المريض و هو جنب؟
فأجاب:
يشترط لقارئ القرآن الطهارة من الحدث الأكبر، الذي يوجب الغسل، كالجنابة و الحيض، و أما المريض فالأكمل أن يكون طاهراً أيضاً، لكن إذا مرضت الحائض و تضررت جازت القراءة عليها زمن الحيض للحاجة، سواء كان المرض بالمس أو السحر أو العين.
(9)الاضطرابات النفسية و الخواطر الشيطانية و الطب الشعبي و الرؤى و الأحلام
وساوس الشيطان في الأمور الغيبية
و سئل فضيلة الشيخ:
* في بعض الأحيان يأتي الشيطان للإنسان، و يوسوس في نفسه في ذات الله، و في آياته الكونية، فما الذي ينبغي على الإنسان فعله حيال ذلك؟
فأجاب:
سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هذا: ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به!، قال: و قد وجدتموه؟! قالوا: نعم! قال: ذاك صريح الإيمان".
و فيه أيضاً عن عبدالله بن مسعود قال: "سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الوسوسة، قال: تلك محض الإيمان".
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله".
و عنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله و لينته".
و عنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الخلق؟ فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك، فليقل: آمنت بالله و رُسُلِهِ".(1/13)
و في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء، لأن يكون حممةً أحبَّ إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".
ففي هذه الأحاديث و غيرها بيان أن هذه الأفكار التي قد تطرأ على الإنسان في الأمور الغيبية، أنها وسوسة من الشيطان ليوقعه في الشك و الحيرة و العياذ بالله.
ثم إن الإنسان إذا وقع في مثل ذلك فعليه أمور؛ كما أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك:
1- الاستعاذة بالله.
2- الانتهاء عن ذلك، و الانتهاء معناه قطع هذه الوسوسة.
3- أن يقول: آمنت بالله و في رواية: آمنت بالله و رسله.
فإذا خطرت لك وسوسة في ذات الله، أو في قدم العالم، أو في عدم نهايته، أو في أمور البعث، و استحالة ذلك، أو في بيان الثواب و العقاب أو ما أشبه ذلك.. فعليك أن تؤمن أإيماناً مجملاً، فالنصوص تقول: آمنت بالله، و بما جاء عن الله، و على مراد الله.. آمنت برسول الله و بما جاء عن رسول الله. و على مراد رسول الله، و ما علمت منه أقول به، و ما جهلت أتوقف فيه و أكل علمه إلى الله.
و لا شك أن هذه الوساوس متى تمادى فيها العبد جرّت إلى الحيرة، أو إلى الشك، و هذا مقصد الشيطان.
أما الذي يتمادى مع هذه الوسوسة يقع في الشك، ثم في الحيرة، ثم يتخلى في النهاية عن أمور العبادة، و أما إذا قطعها منذ المرة الأولى، فإنها تنقطع إن شاء الله.. مع كثرة الاستعاذة من الشيطان، و كثرة دحر الشيطان، لأن هذا من كيْده ليوسوس به الإنسان حتى يشككه في إيمانه و دينه.
تفكروا في المخلوق و لا تفكروا في الخالق
و سئل حفظه الله تعالى:
* هل الأحلام و الوساوس الشيطانية -في ذات الله و نحو ذلك- التي تأتي للإنسان في النوم أو الصلاة و نحوها تؤثر في الإيمان؟ أم هو دليل على قوة الإيمان؟
فأجاب:(1/14)
لا شك أن الأحلام تكثر و تقع في النوم في غالب الأحوال، و لكن لا ينبغي الاهتمام بها، فقد ورد في الحديث: "الرؤيا على رِجْلِ طائر حتى تُعْبَر فإذا عُبِرَتْ وقعت". و ورد أيضاً: "فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، و إذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها و شر الشيطان، و ليتفل ثلاثاً و لا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره".
فإذا كانت أحلاماً غريبة، فهي من الأضغاث، ففي الحديث: "الرؤيا من الله و الحلم من الشيطان".
و لا يجعلها المسلم أكبر ما يهمه، بل عليه أن يتغافل عنها و يحدث نفسه بما يهمه من أمر دينه أو دنياه، و يعلم أن الله تعالى قد عفى عن التخيلات و حديث النفس، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم".
و قد وقعت الأوهام لكثير من الصحابة، حتى قال بعضهم للنبي صلى الله عليه و سلم: "إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يَخِرَّ من السماء أحبُّ إليه من أن يتكلم به". و في رواية: "قالوا إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "و قد وجدتموه؟!". قالوا: نعم! قال: "ذاك صريح الإيمان". و في رواية: أنه سئل عن الوسوسة، قال: "تلك محض الإيمان". و نحو ذلك من الأحاديث، التي في صحيح مسلم و غيره.
و حيث إنها لا تضر الإيمان، فإن على المؤمن أن يجعل فكره و حديثه فيما بين يديه، فقد ورد في الأثر: تفكروا في المخلوق، و لا تفكروا في الخالق. و على المسلم أن يكثر من الدعاء بالصلاح و الثبات والاستقامة، و أن يكثر من ذكر الله و عبادته و تلاوة كتابه، و يبتعد عن الآثام و السيئات التي يتسلَّط بها الشيطان على المسلم، و الله أعلم.
علاج الخواطر الشيطانية
و سئل فضيلته:
* ترد على خاطري أحياناً هواجس و خواطر، أخاف أن تخرجني عن ديني، فماذا أفعل تجاهها؟ و هل علي إثم في ذلك؟
فأجاب:(1/15)
هذه الخواطر و الأفكار من الشيطان فهو الذي يوسوس في صدور الناس، ليوقع المسلم في الحيرة، فإذا أحسست بشيء من ذلك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفثه و همزه و لمزه، و عليك بالانتهاء عن التفكير في الأمور الغيبية، و أمور الصفات و الكون، حتى لا يضعف اليقين.
رؤية الرسول صلى الله عليه و سلم في المنام
و سئل فضيلته:
* يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي". فهل تتحقق رؤية أحد من الأنبياء غير الرسول صلى الله عليه و سلم؟
فأجاب:
فيما يظهر لي أن هذا الحديث خاص بالصحابة الذين رأوا شخصه، و عرفوه و رأوا وجهه، و عاشروه و عرفوه، فإذا رأوه في المنام عرفوه، و قالوا: هذا الرسول صلى الله عليه و سلم.
أما من بعدهم الذين لم يروه، فإن الشيطان قد يتمثل بصورة إنسان، أي إنسان، و يقول: أنا محمدفما يدريك أن هذا محمد! صلى الله عليه و سلم؟
فهل رأيته حتى تحكم أن هذه هي صورته و شخصه؟ فما دامت أنك لم تره فليس هناك يقين بأن هذا محمد صلى الله عليه و سلم.
و بهذا تبطل كثير من المرائي التي يحتج بها الخرافيون. يقول أحدهم: رأيت الرسول في المنام، فإذا هو يقول لي: زر القبر الفلاني، و افعل كذا، و كذافيتمسك هؤلاء بتلك الرؤيا، و يقولون: الرسول لا يتمثل به شيطان!
نقول: و من أدراكم أن هذا غير شيطان؟ قد تكون هذه صورة شخص عادي يتمثل به الشيطان و يتسمى بأنه محمد، و ليس هو.
أما الأنبياء السابقون قبله، فلا أذكر فيهم شيئاً من هذا، و لكن يقرب أنهم مثل النبي صلى الله عليه و سلم لأن الشيطان لا يتمثل بصورهم.
أما إذا كان أحد أصحابهم يعرفون شخص ذلك النبي، بأن هذا هو عيسى، و أن هذا هو أيوب، رؤية عين في اليقظة، ثم رأوا في المنام من يشبههم، مثل رؤية النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأوه في الحياة، فنعم أي قد رآه حقاً.
لم يجد الطب معي..
فهل يعالجني الشيخ؟
و سئل فضيلته:(1/16)
* توجد امرأة أصيبت بمرض لا تعلم ما هو، و لم يجد الطب لها علاجاً، فأتت بشيخ يقرأ عليها، فلما رآها قال: إن الخادمة التي في المنزل وضعت لها إبرة في الفراش، و طلب هذا الشيخ الدخول إلى الغرفة، و تبخيرها و بإذن الله تشفى. فهل قوله هذا صحيح؟ و كيف علم بهذا؟ و هل له اتصال بالعالم الآخر؟ و هل تأذن له بالدخول إلى الغرفة؟
فأجاب:
هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لكن ينظر في حال هذا الشيخ، فإذا كانت أحواله مستقيمة، يعني محافظاً على العبادات، و من حملة كتاب الله، و من العاملين به، و من أهل العلم الصحيح، و أهل العقيدة السلفية السليمة، فقد يكون من باب خوارق العادات، أو من المكاشفات، أو يمكن أنه رأى لذلك علامات، فلا مانع و الحال هذه من تمكينه مما طلب.
أما إذا كان قليل العبادة، و متهماً في ديانته، أو في عقيدته، أو مبتدعاً، أو من أهل المعاصي، أو منحرفاً أو ما أشبه ذلك، أو من أهل الشعوذة و الكهانة و السحر، و تعاطي الأمور السحرية و نحوها.. فلا يجوز و الحال هذه.. لا سؤاله، و لا تمكينه.
و لا مانع من فعل العلاجات و من جملتها التبخير، فإن التبخير بالبخور العادي قد يكون له تأثير، إما تأثيراً في الجن و مردة الشياطين و نحوهم، و إما تأثيراً في الجو، فيحدث بإذن الله شيئاً من الصحوة و من النشاط.
موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين
و سئل فضيلته:
*ما موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين؟
فأجاب:(1/17)
ورد في الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَه من عَلِمَه، و جهله من جهله". فهؤلاء الأطباء الشعبيون قد عملوا بالتجربة على هذه الأدوية، و رجعوا فيها إلى كتب الطب التي جمعها علماء عارفون بذلك، و هذا فن من فنون العلم الكثيرة، قد تخصص فيه أقوام من عهد النبوة، و قبلها و بعدها، و عرفوا تراكيب الأدوية و خواص كل دواء، و كيفية استعماله، مع اعتقادهم أنها أسباب للشفاء، و أن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فعلى هذا لا بأس بتعلم ذلك و العلاج به، و على السائل أن يقرأ كتاب: (الطب النبوي) لابن القيم، و للذهبي، و (الآداب الشرعية) لابن مفلح، و كتاب (تسهيل المنافع)، و غيرها.
العلاج هو: ذكر الله و الصبر وغيره
و سئل فضيلته:
* عن رجل أصيب بداء، فذهب إلى الأطباء و لم يستفد شيئاً، ثم ذهب إلى المشايخ و القراء فإذا قرأوا عليه هدأت نفسه، و بعد فترة تعود حالته إلى ما كانت عليه، ثم هو يقول: ما العلاج في ذلك؟
فأجاب:
العلاج يكون بأمور:
أولاً: الطمأنينة إلى الخير، و محبته.
ثانياً: الصبر على ما تلاقيه نفسك من القلق، و احتساب أن هذا من المصائب التي يبتلي الله بها العباد، و يختبرهم، هل يصبر العبد أم لا؟ فإذا صبر فإن الله تعالى يثبته، قال تعالى: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب))(الزمر:10). هذا من حيث العموم.
أما من حيث الخصوص: فنوصيه بأمور:
أولاً: كثرة الأعمال الخيرة و الصالحة، كالصلوات و العبادات و الأذكار و قراءة القرآن و نحوها.
ثانياً: و نوصيه أيضاً بحضور مجالس الذكر، و مجالس العلم، فإن فيها ما يطمأن نفسه، و بها يشغل نفسه عن تلك الأفكار.
ثالثاً: ثم نوصيه بأن يشغل نفسه بأي شيء مفيد، فمثلاً يشتري الأشرطة و الكتب المفيدة و التي فيها المواعظ و الإرشادات و العلم النافع و الأحكام و القصص والعبر، التي يشغل بها وقته، و تطمئن بها نفسه.(1/18)
فإذا اشتغل بذلك كله، و وطن نفسه على ذلك، وَ أكْثَرَ من ذكر الله، و من قراءة القرآن، و علاج نفسه بالأدعية الواردة في الكتاب و السنة، بعد ذلك نرجو من الله أن يخفف عنه ما يجده.
الوساوس الشيطانية
و سئل أثابه الله:
* ما الأسباب و الوسائل التي تعصم الإنسان و تحصنه من الوساوس و الأوهام الشيطانية، و تجعله سليماً مستقيماً في عقيدته و سلوكه؟
فأجاب:
عليه أولاً: أن يكثر من الاستعاذة بالله من شر الشياطين و أوهامها و وساوسها، و يعتقد أن ربه هو الذي يعيذه و يعصمه و يحميه، وَ يَحُولُ بينه و بين تلك الأوهام و التخيلات.
كما أن عليه ثانياً: أن يذهب من نفسه تلك التخيلات و الواردات، التي تشككه في عقيدته و دينه و طهارته و صلاته سواء في صحتها أو في أصلها، بل يعتقد جازماً أنها عين الصواب و الحق، و أن ما يجول في نفسه من الشك و الريب في صحتها أو موافقتها كله من أوهام الشيطان، ليوقعه في الحيرة و ليكلفه ما لا يطيق، حتى يملَّ العبادة أو يعتقد بطلانها، و هذا ما يريده إبليس من المسلمين، و الله أعلم.
كيفية النفث
عند التعرض لوساوس الشيطان في الصلاة
و سئل حفظه الله تعالى:
* شكا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، تَعَرّض الشيطان و إشغاله لهم في الصلاة، فأمرهم صلى الله عليه و سلم بالتعوذ منه، و النفث ثلاثاً، نرجو بيان كيفية النفث عند التعرض لمثل هذا الموقف في الصلاة و لو تكرر ذلك كثيراً؟
فأجاب:
أولاً: على الإنسان أن يستعيذ من الشيطان عند ابتداء الصلاة والقراءة.
ثانياً: عليه أن يحرص على إحضار قلبه لما يقوله في صلاته، فإذا قرأ تأمل ما يقرأ، و إذا دعا تأمل ما يدعو به، و إذا ذكر الله تأمل معاني الأذكار التي يدعو بها، حتى ينشغل بتأمل ذلك عن وساوس الشيطان.
ثالثاً: إذا ابتلي و وقعت منه هذه الوسوسة، فإن عليه أن يجدد الاستعاذة و لو بقلبه، و ينفث عن يساره ثلاثاً.(1/19)
و النفث هو: النفخ مع قليل من الريق، أي: نفخ مختلط بشيء أو قليل من الريق، هذا هو النفث، و هو الذي يستعمل في القراءة على المريض، بأن ينفث عليه، لعل ذلك يكون مانعاً من الشيطان.
الوساوس الشيطانية في الصلاة
و سئل حفظه الله:
* عن الوساوس الشيطانية في الصلاة و التفكير في أمور الدنيا، حتى إن بعضهم يَشْرُد ذهنه في الصلاة فما يدري ما يقول الإمام، فما علاج مثل هذا الأمر؟ و هل ينقص هذا من أجر الصلاة؟
فأجاب:
لا شك أن هذه الوساوس و أحاديث النفس من الشيطان، لينقص على المسلم صلاته، و لكنها شيء غالب على أكثر الناس، حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". و لأجلها شرع سجود السهو؛ فإن سببه: أن المصلي يشرد ذهنه، فلا يدري ما صلى، فيزيد أو ينقص.
و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن الشيطان يأتي المصلي فيقول: له اذكر كذا و اذكر كذا، -لما لم يكن يذكر من قبل- حتى يَظَّل الرجل، ما يدري كم صلى .. الخ. و قال عمر رضي الله عنه: "إني لأجهر بصوتي و أنا في الصلاة"، و قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص لأبيه في قوله: ((الذين هم عن صلاتهم ساهون))(الماعون:5): أيُّنا لا يسهو؟ أيُّنا لا يحدث نفسه؟ فأخبره أن السهو عنها تأخيرها عن وقتها.
و لكن على المسلم أن يحرص على الإقبال على صلاته.
* فإن كان في قراءتها؛ تدبرها و تأمل معانيها، حتى لا يتحدث بغيرها.
* و إن كان في دعاء أو ذكر؛ تعقله و استحضر ما يدل عليه.
* و إن كان في ركن كقيام و ركوع و سجود؛ تفكر في سببه و حكمة مشروعيته، و احضر قلبه فيه، و بذلك ينشغل بصلاته و يقبل عليها بكليته.
ثم إن غلبه حديث النفس، فليحذر من الحديث بأمر الدنيا و شهواتها و أعمالها، و الله يعفو ويغفر ما شذ عن ذلك، و الله أعلم.
(10)ادعاء علم الغيب
من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت
و سئل فضيلته:(1/20)
* ما حكم من ادعى الغيب؟ و ما هي أنواع الغيب التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها؟
فأجاب:
من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، لقوله تعالى: ((و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو))(الأنعام:59).
و المراد بالغيب: علم ما يكون في الأزمنة القادمة، و علم الآجال و الأعمار، و نحو ذلك.
(11)السحر والكهانة و التنجيم
حقيقة السحر
و سئل عفا الله عنه:
* هل للسحر حقيقة؟
فأجاب:
نعم! له حقيقة، و حقيقته أن السحرة يعبدون الشياطين، و يطيعونهم، و هم يساعدونهم على ما يريدون، و الله تعالى قد أعطى الشياطين من القدرة ما يزاولون به أعمالاً غريبة.
السحر عمل شيطاني و الساحر مشرك كافر
و سئل حفظه الله:
* عن امرأة ساحرة تعمل السحر، و قد تضرر منها أناس كثير، فما الواجب نحو هذه المرأة الساحرة؟ و عن كيفية التخلص من هذا السحر؟
فأجاب:
فإن السحر هو عمل شيطاني، حيث يتقرب الساحر إلى الجن بالذبح لهم، أو دعائهم من دون الله، أو ترك الصلاة، أو أكل النجاسات و نحو ذلك، حتى تخدمه الشياطين و مردة الجن، فيلابسون من يريده، و يقتلون و يعوقون و يعقدون الرجل عن امرأته، و يصرفون أحدهما عن الآخر و نحو ذلك.
و على هذا فالساحر مشرك كافر، لأجل تقربه إلى غير الله بهذه الأعمال الكفرية، فلذلك ورد الأمر بقتله، و ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب ، و بنته حفصة، و جندب رضي الله عنهم.
و على ما ذكرنا فلا يجوز ترك هذه المرأة التي اشتهرت بعمل السحر، فإن كان لديكم بينات و قرائن، فارفعوا أمرها و بما حصل منها من الأضرار، حتى تقتل و يستريح الناس من شرّها، و على رب الأسرة السعي في إزالة ضرر هذه المرأة، و لو كانت والدته؛ حيث إن هذا العمل كفر بالله، و ضرر على عباد الله، و متى قتلت انزجر غيرها، و امتنعوا عن مثل هذا العمل الشيطاني.(1/21)
فإن امتنعوا كلهم من تغيير الحال، و رضوا عن هذه العجوز، و تركوها على هذا الأمر، فإنك أنت مسؤول عن ما تعرف عنها، فاحرص على إثبات الوقائع التي حَصَلَتْ منها، و أثبت ما تقدر عليه من القرائن و البيّنات، و ما يعرفه عنها الجيران و الأهلون، و متى حَصَلْت على المعلومات الكافية فارفعها إلى المحكمة الشرعية، ليجرى فيها حكم الله تعالى، و هو العمل بحديث: "حد الساحر ضربة بالسيف".
و لا يحق لك أن تقيم على هذه الحال التي تعاني فيها من هذه الأضرار، و بعد ذلك نوصيك:
أولاً: بالتحصن بكثرة ذكر الله و قراءة القرآن، و استعمال الأوراد في الصباح و المساء، و ذلك مما يحفظك الله من الجن و السحرة.
ثم نوصيك ثانياً: بعلاج ما أصابك بالرقية الشرعية، عند القراء المعروفين، باستعمال كلام الله و كلام رسوله صلى الله عليه و سلم، و الأدوية الشرعية، وهم كثيرون في البلاد، و قد نفع الله بهم من أراد الله به خيراً، و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.
(12)الحسد و العين و التكبر
إنَّ الله جميل يحب الجمال
و سئل فضيلة الشيخ:
* عن امرأة تحب أن تكون متميزة عن غيرها في لباسها، و لا تريد أحداً مثلها؛ بل و لا تريد أحداً أفضل منها، و لكنها لا تتمنى زوال نعمة أحد من الناس، فهل هذا حسد أم كبر؟ علماً بأنها تكره هاتين الصفتين، الحسد و الكبر؟
فأجاب:
لا ندري ماذا يقوم بقلب هذه المرأة مما يجعلها على هذه الصفات ...
* فإن كان ذلك حسداً فهو محرم.
* و إن كان تكبراً أو استنكافاً عن مشاركة الغير في ذلك الوصف؛ فهو محرم أيضاً، و لكن الكبر المذموم هو بطر الحق و غمط الناس، أي: احتقارهم، و ليس من الكبر من يحب أن يكون ثوبه حسناً و نعله حسناً، فإن الله جميل يحب الجمال.
* و إن كان فعلها هذا حبّاً للتميز و الشهرة، بسمة خاصة، فينظر إلى سبب ذلك، و يمكن أن يكون هذا من الأخلاق التي تتمكن من قلوب بعض الناس دون أن يكون لها دوافع ممنوعة، و الله أعلم.(1/22)
كيف تتقي العين؟
و سئل فضيلته:
* هل للمسلم أن يحتاط من العين، مع ثبوتها في السنة؟ و هل يخالف ذلك التوكل على الله؟
فأجاب:
ورد في الحديث: "إن العين حق، و لو كان شيء سابق القدر سبقته العين، و إذا استغسلتم فاغسلوا".
و العين، هي: عين الإنسان التي تصيب الأشياء فتتلفها، و لا تفسد إلا بإذن الله، وَ بِقَدرِهِ.
أما كيفيتها: فالله أعلم بها؛ إلا أن بعض الناس تكون نفسه شريرة، و تنبعث منها عند تسممها مواد سامة ضارة، تصل إلى ذلك المعين، فتحدث فيه أحداثاً بإذن الله كأن يتألم و نحو ذلك.
و لك أن تحتاط، و لك أن تبذل الأسباب التي تقيك من شره، و من هذه الأسباب:
الاستعاذة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يعوذ الحسن و الحسين ، و كان الرسول صلى الله عليه و سلم يتعوذ من الجان، و عين الإنسان. و كان جبريل عليه السلام يرقي النبي صلى الله عليه و سلم من العين فكان يقول: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك".
فعلى الإنسان أن يأتي بهذه الأدعية، و الأسباب التي تقيه، مع معالجة ذلك إذا وقع، فإنه إذا اتهم إنسان بأنه أصابه بالعين، فيطلب منه أن يغسل له ثوبه أو نحو ذلك، لقوله في الحديث: "و إذا استغسلتم فاغسلوا".
الكافر كغيره يصيب بالعين
و سئل حفظه الله:
* هل صحيح أن الكافر لا يصيب المسلم بالعين -أي بالحسد-؟ و ما هو الدليل؟
فأجاب:
ليس بصحيح؛ بل الكافر كغيره قد يصيب بالعين.
(13)الاستعانة و الاستغاثة و الاستعاذة و التوسل و الشفاعة
الاستغاثة بغير الله
و سئل حفظه الله:
* عن إنسان يستغيث بغير الله، إما بالشيوخ، أو بالأولياء، أو بالأنبياء. علماً بأنه مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، و يصلي، و يصوم، هل تنقص هذه الاستغاثة التوحيد؟ أم توقعه في الشرك الأكبر؟
فأجاب:(1/23)
الاستغاثة بغير الله معلوم أنها من الشرك الأكبر، و ذلك أن الاستغاثة دعاء يكون من الإنسان إذا وقع في كرب و في شدّة. فهذا يسمى استغاثة. و الكفار في الجاهلية كان أحدهم عندما يصيبه الكرب في البحر لجأ إلى الله، فيستغيث بربه و يطلب منه أن ينقذه مما هو فيه من الكرب، قال تعالى: ((و إذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه))(الإسراء:67).
أما الذي يذكر غير الله، و يستغيث بغير الله، في حالة الشدائد، أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن، و الذين كفّرهم الله تعالى، و قاتلهم النبي صلى الله عليه و سلم.
و علينا أن نسأل هذا المستغيث:
هل هو مثلاً يقول: يا ولي الله أغثني! فأنا في حسبك! و لا حول لي إلا أنت! و لا أحد ينجيني إلا أنت! أنا معتمد عليك، يا ولي الله خذ بيدي! نجني مما أنا فيه؟!! و إذا كان مثلاً في البحر، و تلاطمت به الأمواج، أخذ يقول مثلاً كقول الرافضة: يا علي! أو يا حسين! نجني من الكرب! أو ما أشبه ذلك؟!! أو يقول: يا عبدالقادر الجيلاني! أو يا بدوي!
أو ما أشبه ذلك ...
فإن هذا شرك أكبر!! فهذا معنى الاستغاثة: أن يشهد أن لا إله إلا الله، و يصلي، و يصوم، و لكنه يحلف و يستغيث بغير الله تعالى، فهذا شرك أكبر، و لا ينفعه هذا التوحيد مع هذه الاستغاثة، و هو على خطر عظيم.
(14)القبور و ما يتعلق بها
تحريم زيارة النساء للقبور
وسئُل فضيلة الشيخ:
* ما السبب أو العلة في تحريم زيارة النساء للقبور؟
فأجاب:
أولاً: ورد النهي الشديد عن زيارة النساء للقبور، بقوله صلى الله عليه و سلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج". و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن زوَّارات القبور". و قوله لفاطمة -لما زارت أناساً للتعزية-: "لو بلغت معهم الكداء -يعني أدنى المقابر- ما رأيت الجنة".(1/24)
ثانياً: ورد تعليل ذلك، بقوله صلى الله عليه و سلم -للنساء اللاتي تبعن الجنازة-: "فارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي، و تؤذين الميت". فعلَّل نهيهن بعلتين:
الأولى: كونهن فتنة للأحياء، فإن المرأة عورة، و خروجها و بروزها للرجال الأجانب يوقع في الفتنة، و يجر إلى الجرائم.
الثاني: كونهن يؤذين الميت، فإن المرأة قليلة الصبر ضعيفة القلب، لا تتحمل المصائب، و ذلك محرم شرعاً.
هل يرش الماء على قبر الميت و جيرانه؟
و سئل فضيلته:
* يقوم بعض الناس بعد الفراغ من دفن الميت برش الماء على القبور المجاورة، و يقولون: اسقوا جيرانه، أو نحو هذا الكلام، هل لهذا العمل أصل في الشرع، أو أنه بدعة؟
فأجاب:
ذلك لا أصل له؛ إنما يرش قبر الميت بعد أن يدفن، حتى ييبس ظاهر القبر الذي هو من تراب، فيجعل عليه الحصى ثم يرش بالماء حتى ييبس، و حتى لا تذروه الرياح، فإن الرياح قد تثير ذلك التراب، و تحمله عن القبر، و لربما يظهر بعض القبر، فلأجل ذلك يرش الماء.
أما الجيران الآخرون فقد تيبست قبورهم، و قد تصلبت فلماذا يسقى هؤلاء؟! إن هذا العمل لا أصل له في الشرع، و ليس هذا من السقي كما يقولون!
لا إثم في زيارة المقابر يوم الجمعة
و سئل حفظه الله:
* يوم الجمعة يكون بالنسبة لنا إجازة، فلو خصصنا هذا اليوم أو بعض ساعات منه لزيارة المقابر، فهل يدخل هذا في البدع؟
فأجاب:
لا يدخل؛ لأنه وردت بعض الأدلة في زيارة المقابر يوم الجمعة، و أن أهل المقابر يسمعون من يزورونهم يوم الجمعة، أو يوم السبت أو نحو ذلك، و ما دام أنكم لم تقصدوا تخصيص هذا اليوم، و أن هذا هو وقت فراغكم، فلا إثم عليكم إن شاء الله، و قد ورد في تخصيصه و فضله بعض الأدلة، و لكنها لم تثبت .
هدم القبر المرتفع
و سئل حفظه الله:
* توفي أخي، فقام أحد أقاربنا ببناء قبر مرتفع عن سطح المدفون بها، و َكَتَبَ عليه آيات من القرآن، فهل يجوز مثل هذا البناء؟
فأجاب:(1/25)
ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يبنى على القبر، و أن يجصص. و أن يكتب عليه . و أمر عليّاً رضي الله عنه بقوله: "لا تدعن قبراً مشرفاً إلا سوِّيته". أي جعلته كغيره، و لعل السبب أن ذلك مما يلفت الأنظار، و يسبب الفتنة بصاحب القبر، فيعتقد الجهلة أنه قبر ولي، أو سيد صالح، فيحملهم على التعلق به، و اتخاذه مسجداً يصلى عنده، و قد ورد النهي عن ذلك ، و إنما ورد رفع القبر عن الأرض بنحو شبر . ليُعرف أنه قبر، فلا يُجلس عليه، و لا يوطأ بالأقدام، أو نحو ذلك.
حكم البناء فوق المقابر القديمة
و سئل فضيلته:
* هناك مقبرة قديمة جدِّاً؛ و الدليل على أقدميتها أن بعض قبورها موجهة إلى بيت المقدس، فهل يجوز بناء البيوت فوقها لكونها قديمة؟
فأجاب:
لا يجوز البناء على القبور ما دامت واضحة المعالم، و متحقق أنها قبور، و لو كانت قديمة، و ليس كونها موجهة إلى بيت المقدس دليلاً على قدمها، و لا يدل على أن أهلها غير مسلمين، ما دامت البلاد بلاداً إسلامية.
فعليك أن تحوِّط عليها حاطاً منيعاً، و تتصرف في بقية أرضك بالحرث و البناء و نحوه.
زيارة قبور المشركين و آثارهم
و سئل حفظه الله:
* هل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار، و آثارهم للتذكر؟ مثال ذلك: الأهرامات بمصر، حيث يوجد بها مقابر الفراعنة، و آثارهم؟
فأجاب:(1/26)
لا يجوز شد الرحال إليها، و لو كان ذلك للاعتبار و التذكر، و لكن إذا كان هناك في مصر، أي: أتاها من غير شد رحل، للاعتبار و النظر في آثار من قبلنا، و كيف أن قوتهم ما دفعت عنهم؟! و كيف أن ما فعلوه كان عاقبة لهم؟! و ما بقي إلا آثارهم، و أخبارهم، و يأخذ من ذلك العبرة و الموعظة، و يستعد للآخرة، و يعمل عملاً صالحاً، و يعرف أن العمل الصالح هو الذي يبقى، و هو سبب النجاة، فلا مانع من ذلك إن شاء الله ، و لو كان فيها قبور المشركين، لأنه لم يقصد بزيارته تعظيم القبور، أو الطواف بها، و التمسح بها، كما يفعل بعض من يزور تلك القبور.
حول تمييز القبر و زيارته
و سئل:
* هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه، مع زيارة القبور الأخرى؟ و ما حكم تعيين قبر بعلامة، أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟
فأجاب:
زيارة القبور مشروعة لسببين:
الأول: تذكر الآخرة.
الثاني: الدعاء للموتى.
و تجوز مثلاً كل أسبوع، أو كل أسبوعين، أو كل شهر، أو نحو ذلك، أو إذا أحس الإنسان بقسوة قلبه، فإنه يزورهم حتى يتعظ، و حتى يلين قلبه أو نحو ذلك.
و يجوز أن يخص الإنسان بزيارة قبر أبيه، أو قبر أخيه، أو قريبه، أو نسيبه، فيجوز له أن يزور قبراً معيناً، ثم يسلم على القبور جميعاً.
و يجوز أن يعلِّم القبر بعلامات يُعْرَفُ بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً، و قال: "أعرف به قبر أخي، و أدفن إليه من مات من أهلي".
فيجوز أن يجعل علامة كحجر، أو لبنة، أو خشبة، أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها هذا القبر عن غيره، حتى يزوره، و يعرفه.
أما أن يكتب عليه، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد نُهي أن يكتب على القبور، حتى و لو اسمه، و كذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره .
أفضل الأوقات لزيارة المقابر
و سئل فضيلته:
* هل هناك وقت لزيارة المقابر، فقد سمعنا أن زيارتها في الليل سنة؟
فأجاب:(1/27)
ليس هناك وقت محدد لزيارة المقابر، إلا أن بعض العلماء يستحب زيارتها يوم الجمعة، و بعضهم يوم السبت. و لكن متى تيسر لك أن تزورها في أي وقت فافعل، و لا عليك أن تحدد وقتاً من الأوقات.
و زيارة القبر مشروعة لتذكر الآخرة، و الدعاء للأموات، وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن زيارة القبور في أول الأمر، لما كان الصحابة حديثو عهد بالجاهلية مخافة الغلو، و لما اطمأنوا و عرفوا التوحيد، رخص لهم، و قال: "زوروا القبور فإنها تذكّر الموت".
فمتى أحس الإنسان في قلبه قسوة، فإن عليه أن يزورها ليعتبر و يتذكر، و يدعو للأموات متى تيسر له في صباح الجمعة، و هو الأفضل أو غيرها من الأوقات.
أما زيارتها في الليل، فلا أذكر دليلاً عليه، و لا أذكر أن أحداً استحبه، بل قد ورد كراهة الدفن ليلاً عند كثير من العلماء، و الآخرون قالوا: "لا بأس بالدفن ليلاً إن شاء الله".
عذاب القبر
و سئل فضيلة الشيخ:
هل يعذب أهل الكبائر في القبر؟
فأجاب:
لا شك أن عذاب القبر -الذي هو البرزخ بين الدنيا و الآخرة- قد أعد تمحيصاً، أو أُعد عاجلاً، يعني عذاباً معجلاً، فإذا مات الإنسان و هو مصر على كبائر و ذنوب كثيرة، كترك الصلاة، أو ترك الجماعة، أو شرب الخمر، أو قتل النفس، أو ما أشبه ذلك.
فإن هذه من الذنوب الكبيرة، فلا يأمن أن يعذب.
و قد رويت أحاديث كثيرة فيها وعيد شديد لمن اقترف ذنباً من تلك الذنوب، وعيد في البرزخ، و وعيد في الآخرة.
و بكل حال فإن عذاب القبر يناله العصاة المصرون على الكبائر، كما يناله الكفار و المنافقون و نحوهم.
و ما روي في بعض الأحاديث من أنه للمنافق، و الكافر، و للمرتاب، و نحو ذلك. فهذا هو العذاب الغليظ، و العذاب المستمر لهؤلاء، و يكون للذين ماتوا و هم مصرون على الكبائر، و يلزمون بقدرها، كما أنهم يدخلون النار بقدر سيئاتهم و كبائرهم حتى تمحص، ثم يخرجون من النار بعد ما تمحص.(1/28)
فكذلك يكون هذا العذاب في البرزخ تمحيصاً و تكفيراً لما اقترفوه من سيئات.
(15) رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق
رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدِّل الحقائق
المقدمة
الحمد لله وحده، و صلى الله و سلم على من لا نبي بعده، محمد النبي الكريم و على آله و صحبه.
و بعد:
فلقد قرأت النصيحة الصادرة من أحد علماء مصر، و التي بعث بها المرسل المسترشد محمود عبدالله راشد، من الجمهورية العربية المصرية، إلى مفتي مكة المكرمة، و بعد أن قرأت فيها عنوانها تفاءلت به، و لكن اتضح أنه قد أخطأ الحق في بعض المواضيع فيما يتعلق بالصفات، و فيما يتعلق بالأعمال، فأحببت أن أعلق عليها ببعض التنبيهات على ما ظهر لي أنه خطأ، و أوضِّح الصواب في ذلك حسب ما وصل إليه علمي، و أستشهد على ذلك ببعض أقوال العلماء الصالحين المخلصين، و أقدم ما يتعلق بالصفات، مرتباً ذلك حسب أسطر الصفحات.
في صفات الله
أولاً: طريقة السلف إثبات الصفات حسب ورودها:
في السطر الحادي عشر من الصفحة الأولى قال في إثبات بعض الصفات:
[يسمع بغير أصمخة و آذان، و يرى بغير حدقة و أجفان، و يتكلم بغير شفة و لسان.. الخ].
فأقول:
إن طريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها، و اعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، و نفي التشبيه عنها، و إبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه و ما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي و الإثبات على ما وردت به النصوص، فنحن نثبت صفة السمع و البصر و الكلام، مع إثبات الحقيقة و نفي التشبيه، فأما ذكر الأصمخة و الآذان، و الأحداق و الأجفان، و الشفة و اللسان، فلا نتعرض لها بنفي و لا إثبات، و ننكر على من أثبتها، و على من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، و قد فسر الصمد بأنه المصمت، الذي لا جوف له، أو بالسيد الذي كمل في سؤدده، و كلاهما معروف في اللغة.
ثانياً: الوهابية متبعون للسلف في إثبات الصفات:(1/29)
قال في السطر الحادي و العشرين من الصفحة الأولى ما نصه:
[كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن لله جسماً محدوداً، مُؤَلَّفاً من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها، و رجل يمشي بها، يجلس و يقوم، و يغدو و يروح، و ينزل و يرتفع، فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت و اللاهوت، لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم و أخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء ... الخ].
و الجواب أن يقال:
مراده بالوهابية: أتباع أئمة الدعوة السلفية، التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب مجدد القرن الثاني عشر، و هو و أتباعه رحمهم الله ليس لهم مذهب خاص؛ بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح و الأئمة الأربعة و من تبعهم بإحسان، و هم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة و الحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، و إذا تبين لهم الحق و الصواب في غير مذهب إمامهم، تبعوه مع من كان، و قد ذكرنا آنفاً أننا متبعون للنص و الدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء:
الأول: تسميته لهم بالوهابية:
بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء و لم يبتدعوا جديداً، و أن كل ما قالوه: إنهم متبعون للنصوص و للسلف الصالح، و لأن القائم بالدعوة ليس هو عبدالوهاب، و إنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلاً و فرعاً، و لأن الوهَّاب اسم من أسماء الله تعالى، فهو الذي وهبهم الهداية و العلم والعمل.
الثاني: رميه لهم بالتجسيم:(1/30)
فهم لم يقولوا بذلك أبداً، و لم يستعملوا هذه اللفظة إثباتاً و لا نفياً، فمن قال: إن الله جسم فهو مبتدع، و كذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضاً، حيث إن هذه اللفظة لم ترد في النصوص، و لم يستعملها السلف و الأئمة، و لو كان خيراً لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة و نعتقد حقيقتها، و ننفي عنها التشبيه و التمثيل، و لا يلزم أن يكون مجسمة إذا قلنا: بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا: إن له يداً و وجهاً و عيناً كما يشاء، أو قلنا: إنه ينزل و يجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات و نحوها قد وردت بها النصوص، فنحن نعتقد حقيقتها و لا نمثلها بخصائص المخلوق، و لا نثبت لها كيفية أو مثالاً، فكما لم ندرك كُنْهَ الذات و ماهيتها، فكذا نقول في هذه الصفات، فإنّا نثبتها إثبات وجود لا إثبات تكييف و تحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة. فكيف يلزم من ذلك أن نكون مجسمة؟!.
و هكذا قوله: [محدود]. نفضل ترك الخوض في الحد، مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف و نفاها البعض، و لكن الأفضل التوقف؛ حيث إن البحث في ذلك مُبْتَدَع، و إن اللفظ لم يرد في الأدلة، و مع ذلك فعذر من أثبت الحد و من نفاه أن لكل منهما مقصداً ظاهره الصحة.
و بالجملة: فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا، و لكن هذا الكاتب مزجى البضاعة في عقيدة السلف و أقوالهم، و كان الأولى أن يوجه طعنه و لومه على علماء السلف و أئمتهم، فإن هذه الأقوال و المذاهب المأثورة عنهم مدونة في مؤلفاتهم الموجودة المشهورة!!
الثالث: قوله عن الوهابية:
إنهم يصفون الرب تعالى بأنه:
[مؤلف من أعضاء: يد محسوسة يبطش بها، و رجل يمشي بها.. الخ].
و الجواب:
إن هذا من جنس ما قبله قول عليهم بلا علم، فإن التأليف جمع المتفرق، أو تركيبه من أدوات مختلفة، و هذه اللفظة محدثة في العقيدة، لا نقول بها و لا نستعملها في عقائدنا و لم ترد في النصوص؛ حيث إن لازمها قول باطل كما ذكرنا.(1/31)
فأما إثبات اليد و الرجل حيث وردت فإنا نقتصر على ذلك، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات اليد بما لا يدع مجالاً في أنها يد حقيقية، لكنا نقول: إنها لا تشبه خصائص المخلوق، و إن الله يقبض بها السماوات و الأرض كما أخبر عن ذلك(و ذلك كما في قوله تعالى: ((و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عمّا يشركون))(الزمر:67).
و أما الرِّجل: فقد ورد في السنة أن الله يضع رجله أو قدمه على النار، و ورد في القرآن ذكر السّاق و وُضِّح في الحديث، فإذا أثبتنا ذلك لم يلزم أن نكون مجسمة، و لم يلزم أنّا نقول: إن الله تعالى مؤلف من أعضاء؛ بل نقول: إن ذاته حقيقية، و صفاته حقيقية؛ كما يليق به، كما أنا لا نقول بالبطش و المشي الذي رمانا به؛ بل نقتصر على الوارد في الكتاب و السنة.
الرابع: زعمه أنهم يصفون الله بأنه:
[يجلس و يقوم، و يغدو و يروح، و ينزل و يرتفع.. الخ].
الجواب:
إن هذا قول لا حقيقة له، و لا عمدة له في هذا النقل، فهذه مؤلفاتهم و عقائدهم مطبوعة شهيرة، و لا يوجد فيها هذه الألفاظ، فإنهم ينفون الصفات التي لم ترد في الوحيين و يتقيَّدون بالأدلة، و لكن أعداءهم يلزمونهم بلوازم باطلة، فإذا أثبتوا الاستواء كما يليق بالله أو فسروه بالعلو و الارتفاع -كما قاله السلف و أهل اللغة- لم يلزم أنهم قائلون بالجلوس و القيام، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات العلو الحقيقي بكل معانيه، و على إثبات العرش. و أن الله تعالى مستو عليه كما يشاء، فليس لنا إنكار ذلك أو تسليط التأويلات التي هي تحريف للكلم عن مواضعه على تلك الأدلة واضحة الدلالة، فمتى ألزمنا أعداؤنا بلوازم باطلة زاعمين أنها تلزم من قال بموجب تلك النصوص، لم نلتفت إلى تلك الإلزامات و أوضحنا خطأهم في هذا الإلزام.(1/32)
فأما إثبات النزول و المجيء فليس لنا إنكاره، و قد صرحت به النصوص و تواردت على إثباته الأدلة التي لا تحتمل التأويل، و مع ذلك نتوقف عن الكيفية و نكلها إلى الله، و لا نقول: إنه إذا نزل يخلو منه العرش، أو تحصره السماوات ... الخ؛ بل نقول: إن الرسول الناصح لأمته صلى الله عليه و سلم قد أخبر بهذا النزول. و أن الله تعالى قد أخبر بالمجيء يوم القيامة، فنحن نثبت ذلك كما ورد و لا نضيف إليه شيئاً من عند أنفسنا، فما ألزمونا به غير لازم.
الخامس: قوله:
[فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت و اللاهوت.. الخ].
فنقول:
هذا تشبيه باطل و بعيد عن الصواب فما وجه الشبه؟!، فإن النصارى زعموا أن اللاهوت و هو: (الإله) اتحد بالناسوت و هو: (الإنسان) أو: (عيسى)، و قالوا: ((إن الله هو المسيح ابن مريم))(المائدة:72). ((و قالت النصارى المسيح ابن الله))(التوبة:30)، و ذلك هو عين الكفر و الضلال، فأما أتباع السلف و الأئمة فما قالوا شيئاً من قبل أنفسهم، و إنما وصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به أعلم الخلق بربه، و هو محمد صلى الله عليه و سلم، فإذا أثبتوا لله الصفات الواردة، و اعتقدوها حقيقة لتواتر النصوص بها، ثم نفوا عنها كل أنواع التشبيه و خصائص المخلوقين، و اعتقدوا أنها تليق بالله كما يشاء، لم يلزم أن يكونوا كالنصارى في قولهم باللاهوت و الناسوت.
و بكل حال فإن هذا الكاتب عليه أن يوجه عيبه و لومه إلى الأئمة المتبعين!! كمالك، و الشافعي، و أحمد، و إسحاق و نحوهم، فهل يتجرأ أن يقول عليهم: إنهم وهابية، و إنهم إخوان النصارى؟!!
هذا ما لا يستطيعه لما لهم عند جمهور الأمة من المكانة الراقية، فلو رماهم بذلك لأنكر عليه الخاص و العام، و سددت إليه سهام الملام.
السادس: قوله:
[لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم و أخرجهم من دائرة الإسلام.. الخ].
فنقول:(1/33)
هذا تهور و جرأة على الله و على المسلمين و أهل الدين، و استهزاء و تمسخر بشعائر الإسلام، و تكفير لأهل العقيدة السليمة، و إخراج لهم عن دائرة الإسلام، و تلك مصيبة عظمى لو يعلم أثرها هذا الكاتب لم يتجرأ على ذلك. فإنه:
أولاً: زعم أنهم قد أطاعوا الشيطان مطلقاً، و أنه هو الذي أوقعهم في هذا الاعتقاد السلفي، الذي قد سار عليه جمهور سلف الأمة و أهل القرون المفضلة، فإذا كان إبليس قد لعب بهم، فقد لعب أيضاً بأولئك الأئمة و القادة الأجلاء.
ثانياً: إخراجه لهم من الإسلام، و هي إحدى الكِبَرْ. فبأي خصلة أخرجهم من الدين؟! أما كانوا يدينون لله بالتوحيد؟! و يعملون بمعنى الشهادتين؟! و يحافظون على إقامة أركان الإسلام؟! و يبتعدون عن كل المحرمات؟! و يحذرون منها؟! و يحرصون على إخلاص دينهم لربهم وحده؛ فلا يجعلون منه شيئاً لغيره كائناً من كان؟! فمن كفَّرهم فقد أنكر حقيقة التوحيد، و أباح الكفر و الشرك، فهو أولى بما قال، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم: "و من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه". أي: رجع إليه تكفيره.
و في حديث آخر: "أن رجلاً ممن قبلنا قال: و الله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان؟! إني قد غفرت له، و أحبطت عملك". فهل ينتبه هذا الكاتب، و يرتدع عن مثل هذا التهور و التسرع في التكفير!!
السابع: قوله:
[لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء.. إلخ].
فنقول:(1/34)
و نحن نبرأ إلى الله أن نصفه بالتشبيه، أو التمثيل بشيء من المخلوقات، و لقد أوضحنا أن أئمة الدعوة بريئون من وصمة التشبيه، أو التمثيل الذي يرميهم به أعداؤهم قديماً و حديثاً، و أنه لا يلزم من إثباتهم صفة الاستواء و النزول و المجيء و سائر الصفات الذاتية و الفعلية، أن يكونوا مشبهة، فإنهم تابعون للنصوص الصريحة في الإثبات، و مصرحون بنفي مشابهة المخلوقات، كما يثبت غيرهم الصفات العقلية، و ينفون عنها التشبيه، و كما يثبت الباقون الذات الحقيقية، و يتوقفون عن معرفة ماهيتها و كنه حقيقتها، و قد يكون النافون أولى بالتشبيه؛ لأنه لم يبادر إلى أذهانهم سوى دلالة النصوص على التشبيه، و لم يفهموا منها إلا هذا المعنى الباطل، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص غير مراد؛ لأنه بزعمهم يدل على مماثلة الله للمخلوقات، تعالى الله و تقدس.
ثالثاً: آيات الصفات محكمة جليّة ظاهرة المعاني مفهومة الدلالة:
قال في السطر الثاني من الصفحة الثانية:
[أما الآيات المتشابهات فلابد فيها من التأويل، خوف التجسيم و التشبيه.. الخ].
و الجواب:
إن هذا قول خاطئ مخالف لقول الراسخين في العلم، الذين يقولون في المتشابه: ((آمنا به كل من عند ربنا)). فقد ذم الله الزائغين الذين: ((يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله))(آل عمران:7).
إن هذا الكاتب اعتقد أن آيات الصفات فقط هي القسم المتشابه وحده، و هو خاطئ من حيث العموم؛ فإنها محكمة جلية، ظاهرة المعاني، مفهومة الدلالة، فسرها السلف و الأئمة، و أوضحوا معاني ما اشتملت عليه، و لم يفوِّضوا لفظها كما يزعم أهل الكلام، و لم يحرفوا معانيها كما يدعي هذا الكاتب و نحوه: أن تأويلها لازم خوف التجسيم.. الخ.
* فأما قوله: [لأن القرينة تصرف اللفظ عن ظاهره.. إلخ].(1/35)
نقول: ليس ثمَّ قرينة يحتاج معها إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فمتى قلنا: ((آمنا به كل من عند ربنا)) و اعتقدنا أن الألفاظ دالة على معاني صحيحة مفهومة للمخاطبين، و أنها دالة على صفات تناسب الموصوف، و تباين صفات المحدثات و نحو ذلك، لم نحتج إلى صرف اللفظ عن ظاهره، حيث يتكلف في هذا الصرف، و حيث يكون المعنى المصروف إليه بعيداً عن السياق و عن المفهوم المتبادر للسامعين، فإن المخاطبين به عند نزوله لم يحرفوا معانيه و لم يفهموا منه شيئاً من خصائص المخلوق؛ بل أثبتوا كل الصفات الواردة و اعتقدوها لائقة بالموصوف، فلما جاء من بعدهم و فشت فيهم المذاهب الكلامية توسعوا في البحث، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص يقتضي التجسيم و التشبيه، فسلطوا عليها أنواع التأويل كأضراب هذا الكاتب هداهم الله.
رابعاً: لا يلزم من إثبات الصفات القول بأنه جسم محدود:
فأما قوله:
[فمن كان هذا شأنه لا بداية و لا نهاية، كيف تعتقد أنه جسم محدود مؤلف من أعضاء، يتحرك، و ينتقل من مكان إلى مكان آخر، و يترك وراءه فراغاً؟]
هذا عليه فيه ملاحظات:
منها قوله: [لا بداية و لا نهاية]:
قال ذلك بعد الآية الكريمة: ((هو الأول و الآخر))(الحديد:3). و هو تفسير مبتدَع، فإن هذه الأسماء قد بيَّن معانيها النبي صلى الله عليه و سلم و وضحها بقوله في دعاء الاستفتاح: "أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شيء، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، و أنت الباطن فليس دونك شيء".
و منها قوله: [كيف نعتقد أنه جسم محدود]:
والجواب:
إنه لا يلزم من إثبات الصفات على ما يليق بها القول: بأنه جسم محدود، ثم قد سبق الرد على قوله: جسم محدود مؤلف من أعضاء، و بيَّنا أن هذه ألفاظ بدعية، لا يجوز الخوض فيها إثباتاً و لا نفياً.. إلخ.
و منها قوله: [يتحرك و ينتقل من مكان ... الخ]:
فنقول:(1/36)
اتهم بالقول بذلك أئمة الدعوة السلفية و هو كقوله آنفاً: يجلس و يقوم، و يغدو و يروح، و ينزل و يرتفع، و قد ذكرنا الجواب عنه آنفاً، و أوضحنا أنه لا يلزم من إثبات المجيء و النزول الذي وردت به الأدلة أن نقول بالحركة و الانتقال المحسوس، الذي هو من خواص المحدثات و المركبات، بل مجيء الله و نزوله هو كما يليق به، و هو حق حقيقي ليس بمجاز، و لا يصح نفيه بعد ثبوته في النصوص التي دلالتها قطعية.
ذكر الكاتب أمثلة على تأويل بعض الآيات المتشابهة:
المثال الأول: تأويل قول الله تعالى: ((و جاء ربك)):
ثم إن هذا الكاتب ذكر مثالاً لتأويل بعض الآيات المتشابهة، كما زعم و هي قوله: ((و جاء ربك))(الفجر:22). فأقحم فيها لفظ: (أمر)، فقال: [و جاء أمر ربك و الملك.. إلخ].
و هذا تفسير الجهمية و من تبعهم، و لا عبرة بكثرة من قاله من المتقدمين و المتأخرين، فإننا متبعون للأدلة، فقد ذكر الله الإتيان و أضافه إلى ذاته، و فرق بين إتيانه و إتيان بعض آياته، فقال عز و جل: ((هل ينظرون إلى أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك))(الأنعام:158). و قال تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام))(البقرة:210) ... الخ.
و متى قلنا: إن الله يجيء كما يشاء إتياناً يليق به؛ لم يلزم القول بالحركة الموهومة، مع أن تأويله بالأمر لم ينقل عن أحد من السلف و هم الأسوة و بهم القدوة.
المثال الثاني: تأويل حديث النزول:
ثم ذكر مثالاً ثانياً للتأويل الذي التزم سلوكه خوفاً من التشبيه، فقال في السطر الثامن من الصفحة الثانية:
[(النزول) معناه: الهبوط من أعلى إلى أسفل، ثم الرجوع ثانياً إلى مكانه و هذا أيضاً مستحيل، إذاً لا بد من التأويل، نزول مَنّ و إفضال، و قبول توبة، بمعنى التنزل، لا كنزول الأجسام و الصور .. الخ].(1/37)
و الجواب: أن يقال: وردت أحاديث كثيرة صحيحة، عن النبي صلى الله عليه و سلم في أن الله تعالى ينزل كل ليلة، و ذكرت بلفظ النزول و بلفظ الهبوط، و الذين نقلوها هم نقلة أحكام الشريعة و لم ينكرها أحد من السلف، و لم يقولوا: إن المراد نزول فضله أو منِّه أو قبوله التوبة.. الخ. كما أنهم لم يكيفوا ذلك و لم يشبِّهوه بنزول الأجسام، و اعتبروه مثل المجيء و الإتيان الذي أثبته الله لنفسه، و لم يلزم من إثباته ما هو مستحيل؛ بل الجميع نصّ على حقيقته، و هو من خصائص المتصف به لأنه تعالى: ((ليس كمثله شيء))(الشورى:11) في ذاته و لا في صفاته.
2- ثم قال في نفس السطر:
[((و يبقى وجه ربك))(الرحمن:27) أي: ذاته. ((و لتصنع على عيني))(طه:39) أي: عنايتي و رعايتي لك].
فنقول:
هذا تأويل خاطئ، حيث أنكر ما أثبته الله لنفسه من صفة الوجه و العين، و قد وردت أدلة متنوعة في الكتاب والسنة بذلك(و من الأدلة على إثبات صفة الوجه، قول الله تعالى: (0و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام))(الرحمن:27). و في الحديث الذي رواه مسلم برقم179 في الإيمان، باب "في قوله عليه السلام: بإن الله لا ينام.. الخ". من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
أما الأدلة في إثبات صفة العين فمنها: قوله تعالى: ((فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا))(الطور:48). و في الحديث الذي رواه البخاري كما في الفتح، 6/199 برقم 3057 في الجهاد، باب "كيف يعرض الإسلام على الصبي". من حديث ابن عمر رضي الله عنه، في وصف الدجال)، و من طلبها وجدها في كتب الحديث و العقائد، و لم يزل السلف يأثرونها من غير تكبر، و لم يقولوا: إنّها تشبه خصائص المخلوق؛ بل إنها صفة للرب تعالى كسائر صفاته، نؤمن بها و لا نكيِّفها حيث لم يخالفها عقل سليم، و لا نقل صحيح؛ بل النقول المتكاثرة المتواردة على حكم واحد يتعذر تأويلها.(1/38)
3- ثم قال في السطر الذي يليه:
[((و السموات مطويات بيمينه))(الزمر:67) أي بقدرته. ((يد الله فوق أيديهم))(الفتح:10) "و يد الله مع الجماعة". أي: يؤيدهم بنصره ... الخ].
و هذا تأويل باطل من جنس ما قبله، فقد تكرر ذكر اليد و اليدين للرب تعالى في العديد من الآيات و الأحاديث و التصريح بذكر اليمين، و نحو ذلك من العبارات الصريحة، فإن تأويلها بالقدرة بعيد عن الصواب، و قد ذكرها الله في قوله لإبليس: ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَيَّ))(ص:75) بلفظ المثنى، و لو كان المراد القدرة لما حسن ذكر التثنية، و لقال إبليس: و أنا خلقتني يا رب بقدرتك. ثم إنه ادعى الإجماع على تأويل اليد بالقدرة و التأييد، و النصر و الرعاية، و الحماية و العناية، و ليس كذلك؛ فإجماع الصحابة و التابعين سابق لهؤلاء، على أن يد الله صفة من صفاته، و تبعهم على ذلك سلف الأمة و الأئمة الأربعة، وَنَصَرَهُ ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: ((بل يداه مبسوطتان))(المائدة:64) فأين الإجماع على ما قال؟! و من الذي حكاه كما قال هذا الكاتب؟! ثم إنه أورد بيت شعر اعتمده فيما قال، و نص البيت:
و كل نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها
و هذا البيت مذكور في منظومة لبعض الأشاعرة.
و نحن نقول:
أولاً: إن صاحب النظم لا ينبغي اتخاذه عمدة؛ فإنه إنما بنى كلامه على معتقده الذي اعتنقه عن مشائخه، الذين تلقى عنهم هذه العقيدة السيئة.
ثانياً: لا يُظَنّ أن نصوص الشرع من الكتاب و السنة توهم التشبيه أبداً، فإن السلف و الأئمة لم يكونوا يفهمون أو يتوهمون أن النصوص توهم التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فالله تعالى أعلى و أجل من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.(1/39)
ثالثاً: إلزامه بالتأويل و التفويض، و يعتقد أن السلف يفوِّضون النصوص، أي: يسكتون عن المراد بها مع الاعتقاد أنها لا تدل على صفات حقيقية في نفس الأمر، فألزم إما بالتأويل و هو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، لكن ينفي دلالته على الصفات في نفس الأمر، و إما بالتفويض الذي هو السكوت المراد مع روح التنزيه و هو اعتقاد أنها لا تفيد صفات لله في نفس الأمر. و كلا الأمرين خطأ، و إنما الصواب: ترك التأويل و إثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص، مع تفويض العلم بالكيفيات و الماهيَّات، و مع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين، فلا تشبيه و لا تعطيل.
خامساً: نسبة الجلوس إلى أهل السنة كذب عليهم:
ثم قال في السطر الخامس عشر من الصفحة الثانية:
[فمن هذا شأنه لا بداية و لا نهاية، كيف يجلس و يستقر على مخلوق ضعيف تحمله الملائكة؟! و تحفه من كل جانب ملائكة؟! هذا مستحيل ... الخ].
فيقال:
* تكرر قوله: (لا بداية و لا نهاية)، و ذكرنا أن الصواب التفسير النبوي الأول و الآخر.
* فأما قوله: [كيف يجلس ... الخ]:(1/40)
فالجواب: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه على العرش استوى في سبعة مواضع من القرآن، و فسر العلماء الاستواء بما يدل على العلو و الارتفاع و الاستقرار، و التزموا نفي العلم بالكيفية و تفويضها إلى الله، و لا أذكر في كتب السلف التفسير بالجلوس، فنسبته إلى أهل السنة أو أئمة الدعوة كذب عليهم؛ بل منهم من فوض و قال (استوى): استواء يليق بالله تعالى، و منهم من قال: علا و ارتفع كما يشاء مع عدم العلم بالكيفية، و ليس في ذلك محذور و الحمد لله، و قد أنكروا على من توسع في الخوض في ذلك بذكر أنه أكبر من العرش، أو مثله أو دونه، و كذا بذكر المماسة و كون الرب محمولاً على العرش كحمل الراكب على المركوب و نحو ذلك، فلا نقول بهذه التقديرات، و لا نخوض في هذا الأبحاث لعدم النقل فيها، و لما فيها من التدخل فيما لا يعني.
سادساً: تفسير السلف الاستواء: بالاستقرار و العلو ... الخ:
ثم قال بعد سطرين:
[و (استوى) لغة معناها: استقر. فالاستقرار هنا بصفة الرحمة على العرش و ما قواه .. أما من اعتقد بأنه جلس و استقر على العرش فقد أشرك، لأنه توهمه جسماً محدوداً محمولاً على عرشه.. إلخ].
و الجواب:
قد تقدم أن السلف فسروا الاستواء بالاستقرار و العلو و الارتفاع و الصعود، و لم يقولوا ما قاله هذا الكاتب؛ من أنه الاستقرار بصفة الرحمة على العرش فإنه بعيد. بل قالوا: استقر كما يشاء لا كاستواء المخلوق، و لم يعتقدوا: أنه جلس أو استقر على العرش كاستقرار المخلوق، و لم يقولوا: إنه محتاج إلى العرش أو غيره،و لا توهموا ربهم: جسماً محدوداً محتاجاً إلى خلقه، فكل هذا تقوُّل عليهم بلا علم، فإن كان يقصد أئمة الدعوة فليوقفنا على موضع من كتبهم فيه ما ذكر، و إلاّ فليسند القول إلى قائله، و الذي يقول بتلك الأقاويل الكفرية يصدق عليه أنه حمار كما وصفه به الكاتب.
(16) في دعاء المخلوقين والتوسل بالأشخاص
أولاً: تفسير معنى دعاء العبادة و دعاء المسألة:(1/41)
قال الكتاب في الصفحة الثالثة في السطر السابع:
[(النداء) لغة معناه الدعاء، و هو لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز و جل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر و ينفع و يعطي و يمنع من غير إذن الله فقد أشرك ..الخ].
والجواب:
لقد خبّط هذا الكاتب، و خلط، و أخطأ في الكثير مما قاله أو تعمده، فأنبِّه على أهم أخطائه فيما يأتي:
أولاً: ذكر أن الدعاء لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز و جل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي .. الخ.
و هذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء و بحقيقة العبادة، و بالأدلة الواردة على ذلك، و أنا أشير إلى شيء من ذلك:
فأقول: أما الدعاء: فهو لغة: النداء، و يطلق شرعاً على: دعاء العبادة و دعاء المسألة، و هما متلازمان:
* فدعاء العبادة هو: فعل كل الطاعات، و أداء جميع القربات امتثالاً لأمر الله، و تقرباً إليه، و هو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داع بلسان الحال، فكأنه يقول: إنما أصلي طلباً لرضى الله، و جزيل ثوابه، و هكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله و جنته، فهو سائل في نفس الأمر.
* أما دعاء المسألة فهو: السؤال و الطلب، كسؤال الجنة و التعوذ من سخط الله، و من النار و نحو ذلك، و هو و لابد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل و الخضوع، و التواضع و الإذعان، فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل و خشوع و إنابة و إخبات، فالسؤال: دعاء، و الذل: عبادة، و هكذا المصلى، و الصائم، و المتصدق، و الذاكر، و القارئ، و الطائف، والعاكف، و الراكع، و الساجد. فإن كلاً من هؤلاء حال فعله يكون راغباً في فضل الله طالباً لمنه و عطائه، و يكون مع ذلك متذللاً و مذعناً، منقاداً لأمر الله، خاضعاً مخبتاً له، و ذلك هو حقيقة العبادة.(1/42)
و متى كان كذلك و رأينا من يسأل ربه من فضله و يمد إليه يد الافتقار و يلهج بالدعاء مستمطراً من فضل ربه، فإنّا نسميه داعياً سائلاً لله، فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع و خشع و تذلل، و تواضع حال سؤاله، فهو لذلك عابد لربه ظاهراً، نحكم بذلك حسب ما رأينا، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ قوله تعالى: ((و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي.. الآية))(غافر:60). و وجه الدلالة من الآية أنه تعالى أمر بدعائه، و ذم المستكبرين عن عبادته، و القرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي و قال تعالى: ((قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون))(غافر:66). فجعل دعاءهم عبادة، و قال عن الخليل عليه السلام: ((و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله))(مريم:48). ثم قال: ((فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله))(مريم:49). فعبر بالعبادة عن الدعاء.
و بعد أن عرفت حقيقة الدعاء و حقيقة العبادة و تلازمهما فإن الأدلة واضحة على أن الدعاء حق الله، لا يُصرف منه شيء لغير الله، قال تعالى: ((فلا تدعوا مع الله أحداً))(الجن:18). و قال ((و لا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك))(يونس:106). و قال: ((و من أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة))(الأحقاف:5). و نحوها من الآيات.
ثانياً: أما قول هذا الكاتب: [أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه؛ أنه يضر وينفع، و يعطي و يمنع، من غير إذن الله فقد أشرك].(1/43)
نقول: إن دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك مطلقاً؛ سواء كان المدعو ملكاً، أو نبيّاً، أو ولياً، أو جنِّيّاً، أو صالحاً، أو شريفاً، أو سيداً، أو شجراً، أو قبراً، أو غير ذلك، فأما إن دعى إنساناً حيّاً حاضراً قادراً و طلب منه ما يقدر عليه، كقوله: يا فلان اسقني، أو أطعمني، أو احملني، أو احمل رحلي، و نحو ذلك فهذا جائز، و هو من الأفعال المحسوسة، التي لا يزال الناس يفعلونها و يعين بعضهم بعضاً على فعلها. و كذا إن قال: يا فلان ادع الله لي بالمغفرة و الجنة، أو أشركني في صدقاتك، أو وقفك، أو دعواتك و نحوها، فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مما يثيبه الله عليه، و هذا بخلاف ما إذا قال: اغفر ذنبي و أدخلني الجنة، أو: خذ بيدي عن النار و نحو ذلك، فإن هذا لا يجوز فعله مع الحي فضلاً عن الميت؛ لأنه مما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا منه تعالى.
فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصاً وقف عند قبر إنسان معظَّم في نفسه، و خضع برأسه، و تذلل، و أهطع، و أقنع، و خشع، و خفض صوته، و سكنت جوارحه، و أحضر قلبه و لبّه، أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز و جل، و هتف باسم ذلك المقبور، و ناداه نداء من وثق منه بالعطاء، و علق عليه الرجاء و نحو ذلك، فإننا لا نشك أنه و الحالة هذه يعتقد أنه يعطيه سؤله و يدفع عنه السوء، و أنه يستطيع التصرف في أمر الله، ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر و ينفع من غير إذن الله؟ فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، و إنما نأخذهم بموجب أفعالهم و أقوالهم الظاهرة، و هذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: ((و لا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين))(يونس:106).(1/44)
و قد رأينا خشوعه و تذلله أمام هذا المخلوق الميت، و ذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله و قوله؛ بأنه قد أشرك بالله و تأله سواه، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب و تعظمه، و تحبه و ترجوه، و تخافه و تعامله بما لا يصلح إلا لله، و لو لم يسمه الفاعل إلهاً، و لو لم يسم فعله تألهاً و تعبداً؛ فإن العبرة بالحقائق و ما في نفس الأمر بخلاف الأسماء، فأهل هذا الزمان لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله و الدعاء و نحوه الذي هو من حق الله و لم يعرفوا معانيها و أصل وضعها صرفوها لغير الله، و سموا ذلك توسلاً و استشفاعاً و تبركاً و احتراماً و هو عين عبادة ذلك المخلوق، و عين الشرك الذي توعد الله عليه بالنار و حرمان الجنة.
ثالثاً: ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع: [أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء، و ما ملك إلا بتمليك الله، و لا يتصرف إلا بإذن الله فهو موحد ... الخ].
فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده، الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، و قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فنحن نأخذه بالظاهر، فإن أفعاله تعبر عن ما في ضميره و لو حاول تغييره لم يستطع.
ثم نقول أيضاً: كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء، أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة، و رزقاً، و مالاً، و ولداً، و صحة، و غنى،.. الخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده، كما وصفه نبيه صلى الله عليه و سلم بقوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت".
و قد أخبر الله عن كل ما يُدْعَى من دونه بأنهم: ((ما يملكون من قطمير))(فاطر:13).(1/45)
و إن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء، أي الذين أعطاهم الله نوعاً من التصرف و الملكية، فهذا لا دليل عليه، و إنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم و تكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم، و لم يعطهم شيئاً من حقه الذي هو الدعاء و العبادة و التأله، و لا ملكهم رزق العباد، وهبة الأولاد، و شفاء الأسقام البدنية، و غفران الذنوب و نحوها، و على هذا فمن اعتقد في نبي، أو ملك، أو ولي، أو مخلوق، أنه مفوّض من الله في إهلاك من شاء، أو إعطاء من أراد، أو إدخال جنة أو ناراً، فقد صادم النصوص، و أشرك المخلوق في حق الخالق؛ فإن الله تعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم، -و هو أشرف الخلق و أفضلهم-: ((إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء))(القصص:56). فإذا كان سيد الخلق، و خاتم الرسل، لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه فكيف يهدي أبعد الخلق و أشفاهم إذا دعوه مع الله و صرفوا له ما لا يستحقه إلا الله؟و لقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك؛ لأنه حق الله وحده، قال الله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً و لا رشداً))(الجن:21). و الرشد: الهداية القلبية و إيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان؛ فإنه وظيفته و رسالته كما قال تعالى: ((إن عليك إلا البلاغ))(الشورى:48). و قد أخبر بأنه يهدي إلى الحق، أي: يدل عليه، كما قال عز و جل: ((و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم))(الشورى:52). و المراد هداية البيان و الدلالة و الإرشاد، فأثبت هداية البيان و نفى هداية التوفيق و الإلهام و قبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال: إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية و الإضلال، و الإعطاء و المنع، و الإحياء و الإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون فيرسل الرياح و يثير السحب، و ينزل المطر، و ينبت النبات، و يخلق، و يرزق؟!(1/46)
كل هذا جرأة على الله، و إنما جعل الله من معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام شيئاً من ذلك بإذن الله، ثم انقطع برفعه إلى السماء، و لم يذكر الله تعالى أن أحداً من الأموات أو الغائبين، يهدي من أحب، أو يرزق من يشاء بإذن الله؛ بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: ((قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضراً إلا ما شاء الله و لو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخير و ما مسني السوء))(الأعراف:188).
فهل يقال بعد هذا: إنه هو أو من دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع و الضر، و الإعطاء والمنع؟ و أنه بناء على ذلك يُطْلَبُ منه كما يُطْلَبُ من الله! فَيُدْعَى وَ يُرْجَى و تعلّق عليه الآمال و يخشع له العبد و يتواضع! و يقف أمام قبره خاضعاً ذليلاً و خائفاً راجياً، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب؛ حيث أباح نداءه و جعله مالكاً متصرفاً فيما هو من خصائص الرب تعالى، و قد صح عن نبينا صلى الله عليه و سلم أنه قال لعشيرته الأقربين: "انقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". و قال لعمه العباس: "لا أغني عنك من الله شيئاً".
و هكذا قال لعمته و لابنته فاطمة الزهراء، و أمرهم بأن يعملوا عملاً صالحاً لوجه الله، ينقذون به أنفسهم من النار، و لا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال صلى الله عليه و سلم في حديث آخر: "و من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه".(1/47)
و كل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملاً خالصاً لوجهه يكون سبباً لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب، و لا حسب، و لا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه، أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئاً مع قول الله عز و جل لنبيه صلى الله عليه و سلم: ((ليس لك من الأمر شيء))(آل عمران:128). و قوله: ((قل إن الأمر كله لله))(آل عمران:154). فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحداً من خلقه شيئاً من حقه؟ أو فوَّض إليه التصرف في عباده؟ بأن يغفر لمن يشاء! و يعذب من يشاء و يهدي من يشاء و يضل من يشاء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
و لقد قال تعالى: ((و من يضلل الله فما له من هاد و من يهدي الله فما له من مضل))(الزمر:36-37). و قال عز و جل: ((و من يهدي الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه))(الإسراء:97). أي لا أحد يتولى أمرهم، و لا أحد يقدر على هدايتهم؛ و لو توسلوا بالأنبياء و الأولياء و الملائكة و الصالحين و الأصفياء، و القصد من ذلك أن يُقبل العباد بقلوبهم على ربهم، و يَصْدُقُوا الرغبة إليه، و يدعوه مخلصين له الدين، و ينصرفوا بقلوبهم و أعمالهم عن كل مخلوق: تحقيقاً لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب، كما قال تعالى: ((و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون))(البقرة:186).(1/48)
فهو أعلم بعباده، و هو المطلع على الضمائر و النيات، و يعلم ما تكنه الصدور و ما توسوس به النفوس، و يعلم السر و أخفى، فكيف مع ذلك يعدل عنه العباد؟ و كيف يحتاج إلى من يُعرِّفه بخلقه؟ و كيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي؟ فالصدود عن الخالق إلى أحد من المخلوقين، فيه غاية التنقص للرب عز و جل، و سوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين، تعالى الله علواً كبيراً.
ثانياً: الرسل جميعاً لم يخرجوا عن طبيعة البشر:
ثم قال الكاتب في السطر الثالث عشر من الصفحة الثالثة:
[و من أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل و زور ... الخ].
جوابه:(1/49)
أن يقال: مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبدالوهاب، و من انتفع بدعوته السلفية رحمهم الله، و قد علم أنه رحمه الله لم يأت بجديد، و إنما جدد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ حيث خرج في مجتمع قد غلب عليه الشرك و وسائله: كعبادة الأموات، و عمارة ما يسمى بالمشاهد برفع قبور الصالحين و الأولياء، و بناء القباب عليها، و تحري الصلاة عندها، بالعكوف حولها، و بالذبح لها تعظيماً و احتراماً، و بإيقاد السرج عليها طوال الليل، و بالنذور، و الهدايا إلى تلك الضرائح، و تعليق الرجاء عليها، و الهتاف بأسماء الأموات، و ندائهم و دعائهم مع الله، كقبر: شمسان، و تاج، و يوسف، و زيد بن الخطاب، و نحوهم، فَبيّن لأهل زمانه أن حقهم علينا محبتهم و أتباعهم، و العمل مثل أعمالهم. فأما الدعاء، و الرجاء، و الذبح، و النذر، فهو خالص حق الله، و أورد لهم النصوص الصريحة في مصادمة ما فعلوه للتوحيد، كقوله صلى الله عليه و سلم: "لعن الله من ذبح لغير الله". مع قوله تعالى: ((فصل لربك و انحر))(الكوثر:2) أي: خصَّه وحده بالصلاة و النحر، فمتى صلى أحد أو نحر لغير الله فقد أشركه في حق الله، و بين لهم أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال قبل أن يموت بخمس: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
و قال و هو في سياق الموت: "لعن الله اليهود و النصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا.
و قال صلى الله عليه و سلم: "لعن الله زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج". و دعى ربه فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". و المعنى: أن الأولين أشركوا حيث تحروا الصلاة عند قبور الأولياء و الأنبياء، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجدٌ، لم يُبْنَ مسجد له منبر موجه إلى القبلة، فإن المسجد ما يتخذ للركوع و السجود فيه.(1/50)
فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء و الصالحين؛ للصلاة عندها، لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، و أنها أفضل من الصلاة في المساجد، و مع جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتُقْبَل أو يضاعفَ ثوابها و نحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، و لا شك أن هذا تعظيم للمخلوق، و رفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله.
فأما الرسول محمد صلى الله عليه و سلم، فإننا نمجده و نحبه و نقدم محبته على الأنفس و الأموال؛ فإنّ ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله صلى الله عليه و سلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، و والده و الناس أجمعين"، و لكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله رباً، أو إلهاً، أو خالقاً، أو رازقاً، و إنما ميزته الرسالة؛ حيث فضّله الله على جميع البشر، و أنزل عليه الوحي و كلفه بحمل الرسالة و تبلغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفاً بالبشرية و بالعبودية. قال الله تعالى: ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي))(الكهف:110). بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم: ((إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء من عباده))(إبراهيم:11). و لما تعنَّت بعض المشركين و طلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، قال الله تعالى له: ((قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً))(الإسراء:93).
فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب و يملكون التصرف في الكون، و يشاركون الرب في الإعطاء و المنع، و الضر و النفع، و نحو ذلك.
أليس قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: ((قل ما كنت بدعاً من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ، و ما أنا إلا نذير مبين))(الأحقاف:9).(1/51)
بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور؛ حيث قال تعالى: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك))(الأنعام:50).
بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية، التي هي تمام التذلل و الخضوع للرب عز و جل، فقال تعالى في مقام التحدي، ((و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله))(البقرة:23). و قال تعالى في مقام الإسراء: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى))(الإسراء:1). و قال تعالى في مقام الدعوة: ((و أنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً))(الجن:19). و قال تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب))(الكهف:1). و قال: ((تبارك الذي نزل الفرقان على عبده))(الفرقان:1).
فذكر تعالى أن من خصائصه صلى الله عليه و سلم، و مميزاته أن أنزل عليه هذا الكتاب، الذي أعجز الناس أن يعارضوه، و من خصائصه صلى الله عليه و سلم، و مميزاته أن أسرى ببدنه و روحه إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء إلى حيث شاء الله، و من فضائله أن كلفه ربه بالدعوة إلى الله، و كل هذه المميزات لم تخرجه عن وصف العبودية لله بكل معانيها من كونه مملوكاً للرب، و من كونه ذليلاً متواضعاً و خاضعاً له مطيعاً، و هذا وصف فضل و شرف اتصف به المصطفَون من عباد الله، و لم يتكبروا عنه، قال تعالى: ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله و لا الملائكة المقربون))(النساء:172).
فنحن نقول: لا يصح في تمجيد الرسول صلى الله عليه و سلم اعتقاد أنه خرج عن كل وصف البشرية، إلى وصف الملكية، أو إلى وصف الربوبية، أو الألوهية، و لا واسطة بينهما.
رابعاً: يجب إعطاء المسألة و النصرة لله وحده:
ثم قال الكاتب في السطر السادس عشر:
[فمن اعتقد أن مدد الرسول انقطع لانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد أساء الأدب مع الرسول، و يخشى عليه الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى].
جوابه:(1/52)
أن يناقش عن مدد الرسول صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد مماته.
* فإن أراد بمدده؛ دلالته على الخير، و إرشاده للأمة، و إيضاحه للحق و الهدى، و تبليغه لما أرسل به، و بيانه لعلوم الشريعة أكمل بيان، فهذا لم ينقطع بموته، فإن الأمة لا تزال تستضيء بأنوار هدايته و تسير على النهج الذي رسمه لها، و تستمد من سنته ما يوضح لها طرق الهدى، فمن صد عن سنته و أعرض عنها فهو أضل من حمار أهله.
* أما إن أراد بمدد الرسول صلى الله عليه و سلم؛ فوائد اتباعه، و آثار الاقتداء بسنته، و بركات العمل بشريعته،، فهذا أيضاً لم ينقطع بموته، فنحن نعتقد أن من سار على نهجه و اقتفى طريقه حصلت له البركات و أمده الله بفضله و عطائه، و انتفع في هذه الحياة بنتائج هذا الاتباع كسائر الأعمال الصالحة، فإن العمل الصالح سبب في كثرة الخير، و حلول البركة، و سعة الرزق، و طيب الحياة، و رغد العيش، و النصر على الأعداء، و حصول العلم و الفهم و الفتح من الله، و الإلهام و التوفيق لعمل الصالحات، و الحفظ عن المنكرات، لكن لا يضاف المدد إلى الرسول صلى الله عليه و سلم إلا حيث إنه ببركة اتباعه، و إلا فالله هو الذي يمد العاملين، و يعطيهم و يتفضل عليهم، لأنه تعالى مالك الملك و بيده النفع و الضر، و العطاء و المنع، و الخفض و الرفع.(1/53)
* فإن أراد هذا الكاتب بمدد الرسول صلى الله عليه و سلم؛ إعطاءه لمن سأله، و نصره لمن استنصر به، و إجابته لمن دعاه و نحو ذلك، فمثل هذا لا يملكه الرسول صلى الله عليه و سلم لا في حياته و لا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو إلى الله تعالى، كما قدمنا بعض الأدلة على ذلك كقوله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً و لا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ و لن أجدَ من دونه ملتحدا))(الجن:21-22). وقوله: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب))(الأنعام:5). و قوله صلى الله عليه و سلم لأقاربه: "أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". و قوله في حديث الغلول: "لا أغني عنك من الله شيئاً قد أبلغتك".
فإذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم لا يملك جنس هذا المدد في حياته فهكذا لا يملكه بعد مماته، بل لا يملكه أحد من خلق الله، لا مَلكٌ مقرب، و لا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فمن اعتقد أنه صلى الله عليه و سلم يمد من سأله، و يعطي من طلبه، و ينفع من دعاه مع الله، فقد جعله لله نداً و صرف له خالص حق الله، و هذا النوع من الإمداد هو مراد هذا الكاتب و أضرابه، و غاب عنهم أن الصحابة و من بعدهم من أئمة المسلمين لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، و لم يفعلوا معه ما يدل عليه، فلو كانوا يعتقدون فيه هذا النوع لتهافتوا إلى قبره يطلبون منه المدد و الإعطاء، فكم نزلت بهم من مصيبة؟! و كم وقعت من فتنة؛ كوقعة الحرة و نحوها؟! و كم سلط عليهم الأعداء؟! و لم يحفظ أنهم جاؤوا إلى القبر مستنصرين، و لا فزعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم قائلين: المدد يا رسول الله!! و لو كان هذا اعتقادهم لتوافدوا إلى قبره أفواجاً، و أقبلوا إليه من كل حدب و صوب زرافات و وحداناً، فلما لم يفعلوا عُرف أن هذا الاعتقاد إنما هو من بدع المتأخرين؛ حيث أوقعهم الشيطان في ذلك الاعتقاد السيئ، و نتائجه الشركية، و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(1/54)
و لقد كان الصحابة رضي الله عنهم، يطلبون منه الدعاء في حياته بالغيث، و إنزال المطر، و رفع العذاب، و بالمغفرة و الجنة، و بسعة الرزق، و طيب الحياة، فيدعو الله لهم و يجيب الله دعوته؛ لكرامته عليه، و لفضله و شرفه، و ليكون ذلك من جملة معجزاته، فأما بعد موته فلم يطلبوا منه شيئاً من ذلك أبداً؛ بل لما قحطوا عام الرمادة توسلوا بعمه العباس رضي الله عنه؛ لشرفه و كبر سنه و قرابته من النبي صلى الله عليه و سلم، فطلبوا من الله أن يجيب دعوته لهم لأنه حي موجود بينهم، و لم يتوسلوا بالنبي لله؛ لأنهم عرفوا عدم جواز ذلك، و لكن أكثر الناس لا يعلمون.
خامساً: لا يجوز الإقسام بذات الرسول صلى الله عليه و سلم على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه:
ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع:
[(التوسل) كلمة التوحيد لا تتم إلا بمحمد صلى الله عليه و سلم، فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟ لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله ... الخ].
و الجواب:
نقول: نعم! لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ذلك لأنه الذي دل على التوحيد و دعا إليه، و لأن الله تعالى نوَّه برسالته كما في قوله تعالى: ((محمد رسول الله))(الفتح:29). و قوله: ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً))(الأعراف:158).
و قد فسرت هذه الشهادة بأنها: طاعته فيما أمر، و تصديقه فيما أخبر، و اجتناب ما نهى عنه و زجر، و أن لا يُعبَد الله إلا بما شرع.
و فسرت الشهادة له بالعبودية و الرسالة: بأنه عبد لا يُعبَد، و رسول لا يُكذَّب؛ بل يطاع و يُتَّبَع، فليس معنى هذه الشهادة أو من مستلزماتها التوسل بذاته و سؤال الله بجاهه و نحو ذلك.
فأما قوله: [فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟].(1/55)
فنقول: إن أراد من توسل بطاعته و اتباعه فلا بأس بذلك، كأن يقول: اللهم إني أسألك و أتوسل إليك بإيماني و تصديقي و اتباعي لرسولك و طاعتي له، أن تغفر لي و نحو ذلك، كما يجوز التوسل بسائر الأعمال الصالحة، كقصة أصحاب الغار الذين توسل أحدهم: ببرّه لأبويه، و الثاني: بعفته عن الحرام، و الثالث: بأمانته و أدائه حق الغير مع غلته.
فيجوز أن نتوسل إلى الله بالصلوات، و الأذكار، و الصدقة، و الجهاد، و نحوها من أعمال العبد التي يرحمه الله بسببها، و يقبل دعاءه.
و هكذا إن أراد التوسل بمحبته، و احترامه و توقيره، و الصلاة و السلام عليه، و تعظيم سنته و شرعه و ما جاء به، فهذا من التوسل المشروع، فيقول: يا رب أسألك و أتوسل إليك بمحبتي لك و لنبيك، و باحترامي له و لسنته، أن تهب لي من فضلك، و ترزقني حلالاً، و تبارك لي فيما أعطيتني، و نحو ذلك.
* و هكذا إن أراد التوسل بدعائه و شفاعته فلا بأس بذلك، و لكن يطلب ذلك كله من الله و يوجه إليه سؤاله، فيقول: اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة نبيك يوم القيامة، أو: اللهم وفقني للعمل الصالح الذي أنال به شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم، أو: اجعلني من المؤمنين الذين يدخلون في دعائه و استغفاره صلى الله عليه و سلم، و كل هذا و نحوه جائز إن شاء الله، و لا يخالف فيه أحد من أئمة الدعوة أو غيرهم من أهل السنة.
و قد أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يستغفر للمؤمنين كما في قوله تعالى: ((و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات))(محمد:19). فأنت تدعو الله أن يجعلك من المؤمنين الذي يعمُّهم هذا الاستغفار.(1/56)
* أما إن أراد هذا الكاتب السؤال بذاته، أو الإقسام بذاته على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه فهذا لا يجوز، فلم يرد عن الصحابة، و لا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتَدى بهم، و لا نُقل أن أحداً منهم قال: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو أنبيائك، أو بجاه أو حرمة فلان، أو أتوسل إليك بنبيك و نحو هذا، و لم يفعلوه في الاستسقاء و لا في غيره، لا في حياته و لا بعد مماته، لا عند قبره و لا عند قبر غيره، و لم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، و إنما ينقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو و الشرك، و ينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة، أو موضوعة؛ لا تقوم بها حجة.
و قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/202) عن أبي حنيفة و أصحابه؛ أنهم صرحوا بالنهي عن ذلك، و قالوا: لا يُسأل بمخلوق، و لا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك.
ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، و أكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك.
و قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، و أكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك و رسلك و بحق البيت الحرام و المشعر الحرام.
قال القدوري: المسألة بحقه لا تجوز، لأنه حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. انتهى.
و معنى قوله: لا حقَّ للمخلوق على الخالق، أي: لا يحب على الله حق لخلقه؛ بل هو سبحانه المتفضل على عباده و هو الذي وفقهم للهداية و الأعمال الصالحة، و امتنَّ على من شاء منهم بالفضيلة و الكرامة، و النبوة و الولاية، فليس لأحد عليه حق من واجب نظير ما يجب للمخلوق على المخلوق من الحق، الذي يطالب به و يلزم من عليه الحق بأدائه، فأما ما ورد من الأحاديث في حق العباد على الله، كقوله صلى الله عليه و سلم: "و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". فهو حق تفضل و تكرم، و وعد وعدهم به و هو لا يخلف الميعاد.(1/57)
* فأما قول الكاتب: [لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله].
جوابه: ما تقدم من أن التوسل الجائز هو التقرب إلى الله بكل الأعمال الصالحة التي يحبها، فمتى عمل المسلم الحسنات، و تقرب إلى الله بالقربات التي يحبها، كان ذلك أعظم التوسل، و هو معنى قوله تعالى: ((اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة))(المائدة:35). أي: تقربوا إليه بالأعمال التي يحبها، و تكون موصلة لكم إلى مرضاته.
فأما التوسل بالذوات و الأشخاص و سؤال الله بحقهم، فإن ذلك لا يجوز، و لم يفعله السلف الصالح، و لو كان خيراً لسبقونا إليه.
سادساً: يجوز التوسل بحب الصالحين و لا يجوز التوسل بأشخاصهم:
أما قول هذا الكاتب:
[إن الله يحب المتقين ذاتاً و صفات، أحياء و أمواتاً، و يحب من أحبهم، و يحب من اقتدى بهم، و يحب من توسل بهم إليه].
فالجواب:
صحيح أن الله تعالى يحب المتقين، و يحب من أحبهم و اقتدى بهم، و لكن محبتهم تستلزم محبة أعمالهم، فمن أحبهم صادقاً تَتَبَّعَ أفعالهم فطبقها و عمل مثل أعمالهم، فإن كنت تحب المتقين فاتق الله حق تقاته، حتى يحبك الله كما أحبهم، و إذا كنت تحب المتقين فقلدهم في أفعالهم، فإن من أحب الرسول صلى الله عليه و سلم استن بسنته و عمل بالشرع الذي بلغه، و من أحب الصالحين أصلح أعماله و اقتفى آثار عباد الله الصالحين، فهذه علامات المحبة، قال الله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))(آل عمران:31). فمن أحب المتقين و انهمك في الذنوب، و أشرك بالله و اقترف المعاصي، و خالف سيماء أهل التقوى فدعواه كاذبة خاطئة.
فأما التوسل بحبهم إلى الله فجائز؛ فإن حب أولياء الله و أهل الخير و الصلاح من أعمال البر، التي يثيب الله عليها. فإذا قلت: أسألك يا رب و أتوسل إليك بحبك و حب أوليائك، و أهل التقوى و الصلاح من عبادك، أن تهب لي من فضلك و جودك، و نحو ذلك، فلا بأس بذلك كالتوسل بسائر الأعمال القلبية.(1/58)
فأما التوسل بذواتهم و أشخاصهم أو بحقهم و جاههم؛ فقد عرفتَ أنه منكر من القول و زور، و أنه من وسائل تعظيمهم و رفع ذواتهم إلى ما لا يستحقه إلا الله، فيكون شركاً أو من وسائل الشرك، و الله: ((لا يغفر أن يشرك به))(النساء:116). بل قد توعد على الشرك بأعظم الوعيد، فكيف يحب أهله أو يثيبهم؟! و لكن أكثرهم يجهلون.
سابعاً: حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم كذب و زور:
ثم قال الكاتب في السطر الحادي و العشرين من الصفحة الثالثة: [قال صلى الله عليه و سلم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"].
أقول:
هكذا أهل الجهالة و الضلالة يتعلَّقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فنحن نطالبهم بإثبات هذا المقال كحديث مرفوع، حتى يتم الاستدلال به، فإنه حديث لا أصل له أبداً.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/319): و روى بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "إذا سألتم الله فسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم". و هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، و لا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء و المرسلين.
فإذا كان موسى و عيسى و جيهين عند الله عز و جل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود؟! الذي يغبطه به الأولون و الآخرون! و صاحب الكوثر و الحوض المورود! و هو صاحب الشفاعة يوم القيامة! و هو صاحب اللواء، آدم و من دونه تحت لوائه! و لكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، و المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، و الله تعالى لا شريك له.. الخ.(1/59)
و قال أيضاً في الفتاوى (1/346): و قد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه و سلم: "إذا كان لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي". حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، و لا هو في شيء من كتب الحديث، و إنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. و لهذا كما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء و غيره، و ذكروا الصلاة عليه، و لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، إلى آخر كلامه رحمه الله.
الصوفية
تعرض هذا الكاتب للمدح و الإطراء في حق الصوفية، و كأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق و الأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية و يمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء و الأصفياء، الذين وصلوا إلى حضرة القُدُس و اتصلوا بالملأ الأعلى؛ فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم و ندعوهم من دون الله، كما يفعل المشركون: مع الجيلاني، و البدوي، و نحوهما.
و نحن نقول: إن الصوفية أصلاً هم الزهاد في الدنيا، و المشتغلون بالعبادة، و كانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم، كإبراهيم بن أدهم، و بشر الحافي، و إبراهيم الخواص، و الجنيد بن محمد، و نحوهم، و كان أولئك يعبدون الله على علم و بصيرة، فيحافظون على الجماعات، و يبتعدون عن المحرمات، و يسارعون في الخيرات، و لم يكن عندهم شيء من البدع و لا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية و انتحل مذهباً خاصاً، و أصبح الصوفية أهل نحلة و طريقة مستقلة، و ابتعدوا عن العلم و العلماء، و اعتمدوا على الأذواق و المواجيد، فدخلت عليهم بدع و خرافات في المعتقد، و في العمل: كالسماع، و الرقص، و التواجد، و صحبة الأحداث، و الزهد في المباحات، و تأليم النفس و نحو ذلك، و قد ناقشها و رد عليهم فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) و غيره.(1/60)
ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضاً و غلا حتى تدخل في الربوبية، و اعتقد أن الوجود واحد بالعين، و أنكر الفرق بين الخلق و الخالق، و هم المسمون بالاتحاديين الحلوليين و أهل وحدة الوجود، و قولهم من أشنع الأقوال، و كفرهم أوضح من كفر اليهود و النصارى، فمنهم من أفصح عن ما يكنه، و أعلن معتقده كالحلاج فحكم بكفره أهل زمانه، و أفتوا بقتله فقتل، و منهم من يتستر و يخفي معتقده و لكنه يظهر للمتمعن و المتفطن في كلامه، أمثال ابن عربي و ابن سبعين و ابن الفارض و نحوهم.
و هذا المعتقد الكفري قد تمكن و فشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، و له رسائل كثيرة في حقيقة التصوف و السلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، و من هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم و لا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه.
أما الصوفية في هذا الزمان و منهم من يعرفون بالتيجانية و غيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقاً، و صارت لهم مقامات و خواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، و يزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، و يرجعون إلى أقوال مقدميهم، و يحكَّمونهم في الأنفس و الأزواج و الأموال، و يعتقدون فيهم العصمة و ملكية التصرف، و نحو ذلك، من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، و محادون لله و رسوله، فلا نعرف لهم فضلاً و لا كرامة.
أولاً: إطلاق الصوفية بأنهم صفوة الله من خلقه خطأ:
قال الكاتب:
[الصوفية هم صفوة الله من خلقه، و قدوتهم أهل الصُّفَّة الذين مدحهم الله، و أثنى عليهم في محكم كتابه؛ لأنهم عبدوه محبة فيه و شوقاً لرؤيته، و إمام الجميع المصطفى صلى الله عليه و سلم بتوجيه من الله عز و جل، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة .. الخ].
جوابه:(1/61)
أن يقال: يعتقد هذا الكاتب و أمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء، أي: صفاء القلوب، أو من الصفوة، أي: أنهم صفوة خلق الله، أي: خيرتهم و أفضلهم، و هذا خطأ؛ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني و اشتهروا بالزهد و التقشف، و لبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى (11/28): و كذلك في المائة الثانية صاروا يعبِّرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، و من قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو إلى الصفا، فهي أقوال ضعيفة.. الخ. و قال أيضاً (11/195): و اسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح. و قد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، و قيل: إلى أهل الصفة، و قيل: إلى الصفا، و قيل: إلى الصفوة، و قيل: إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، و هذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِيّ، أو صفائي، أو صفوي، و لم يقل صوفي اهـ.
و هذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية، أو يقصد الميزة و الفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، و عرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان؛ لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله و رسله، و لا من الصحابة و السابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه، خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله و رسله، و على أكابر الصحابة و الخلفاء الراشدين، و السابقين إلى الإسلام، و على أئمة المسلمين و علمائهم، الذين لم يلبسوا الصوف، و لم ينتسبوا إلى الصوفية، و لا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان، و من سبقهم من أئمتهم كابن عربي، و ابن سبعين، و الحلاج، و نحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد، الذي هو كفر صريح، و خروج عن عقيدة الأبنياء و أتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء؛ فضلاً عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه.(1/62)
فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضاً خطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/38): أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل و لا مكان يأوي إليه؛ حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء و الأغنياء و الآهلين و العزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، و لم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، و يجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون و تارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، و تارة يكونون عشرين و ثلاثين و أكثر، و تارة يكونون ستين و سبعين ... الخ.
فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين، و لكنْ ليسوا قدوة لأهل التصوف، و لا لغيرهم، و ليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين، الذين لم يأووا إلى تلك الصفة، و من الأنصار الذين هم أهل المدينة، و الله تعالى مدح الصحابة و السابقين الأولين عموماً، و لم يخص أهل الصفة بمدح و لا ثناء يتميزون به عن غيرهم، و لا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له و شوقاً لرؤيته، و طلباً لثوابه، و أهل الصفة من جملتهم، فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه و شوقاً لرؤيته، ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم.
* فأما قول هذا الكاتب: [و إمام الجميع المعصوم صلى الله عليه و سلم بتوجيه من الله عز و جلّ، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة .. الخ].(1/63)
فنقول: صحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه و شهدوا له بالرسالة؛ و لكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، و لا نقلت عنه تلك المواجيد و الأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته و تفريغ لقلبه عن الشواغل، و إبعاد عن المجتمع المليء بالشرك و المعاصي و المخالفات؛ لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء، و ما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل، و لا حاول الخلوة و التفرد و لا انقطع عن الناس؛ بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله، و يخالط الناس و يجالسهم، و يعاشر أهله و يعلم أتباعه ما أوحي إليه، و يبلغ الناس رسالة ربه، و هكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة و التعليم، و كان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن، و يبين معانيه و يتلقى عنه أصحابه علم الشريعة، و تفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، و بعث جيوش أو سرايا و دعاة إلى الله و جُباة، و بعث رسل و كتب لشرح تفاصيل الإسلام، و كل هذه الأعمال و نحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة و الابتعاد عن مجتمع الناس، و على ترك الشهوات المباحة من: النكاح، و تناول الطيبات، و إعطاء النفس حظها من المباح، الذي يتقوى به على عبادة الله، و قد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: "لكني أصوم و أفطر، و أقوم و أنام، و آكل اللحم، و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد و الطرب عند السماع أو نحو ذلك؟! بل إ نه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية و ذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده و طربه في بعض المناسبات فكله كذب لا أصل له و الله الموفق.
ثانياً: إن حلاوة الأنس بالله تكون بذكر الله و اتباع شرعه:
ثم قال الكاتب:(1/64)
[من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، و تمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً))(الأحزاب:45). لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، و الشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور، قال صلى الله عليه و سلم: "و جعلت قرة عيني في الصلاة"].
جوابه:
أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى، لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة و الانفراد، و يسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم، و يبدأ في التفكير و يطيل النظر، و يتناسى الخلق كلهم، و يجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده مخافة تفرق همومه و فساد جمعيته. و في النهاية يزعم أنه يحصل له في تلك الخلوة مكاشفات و اطلاع على الملأ الأعلى، و على أمور غيبية و خفية، و يسمى ذلك لذة الأنس، أو حلاوة المناجاة، و يزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب، و يرفع له الحجاب عن ربه فيطلع بقلبه على ما أخفِي عن غيره، و يسمى الذين لم يصلوا إلى درجته و منزلته: محجوبين مبعَدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، و قد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء؛ بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده، و بمشهوده عن شهوده؛ بحيث يفنى من لم يكن، و يبقى من لم يزل، و قد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق (عقيدة أهل الحلول)، و قد يزعم بعضهم أن مشايخهم و أكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف، و تباح لهم المحرمات، و نحو ذلك من الخرافات، التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب و أضرابه.
و نحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره و دوام عبادته، و البعد عن القواطع و الشواغل التي تقسي القلب، و تحول بينه و بين التفكير في آلائه، و التذكر لنعمائه.(1/65)
و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن للإيمان حلاوة و طعماً كما في قوله صلى الله عليه و سلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". و قال صلى الله عليه و سلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً، و بالإسلام ديناً، و بمحمد صلى الله عليه و سلم رسولاً نبياً".
و هكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه و يرتاح بدنه، و هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: "و جُعلت قرة عيني في الصلاة"، و قوله: "أرحنا يا بلال بالصلاة".
فهذا و نحوه يفيد أنه عليه الصلاة و السلام، يجد في الصلاة لذة قلبه و سروره و ابتهاجه و غاية فرحه و راحة بدنه؛ حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير و يُقْبِلُ بقلبه على ربه، و يلتذ بذكره و مناجاته، و يتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، و كذا ينتقل من ذكر إلى دعاء، إلى تلاوة، و في الجميع قوة للقلب و البدن.
فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة و مؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء و المنكر، فالرسول صلى الله عليه و سلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، و لم يكن يؤثر الخلوة و الإنفراد، و ليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية و أذواقهم و مواجيدهم، و لو من بعيد.(1/66)
فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته، ثم يرون من لطفه العجائب؟ فإن كان الأنس بالذكر و الصلاة و الدعاء و التلاوة و التنقل في العبادة، فليس من شرط ذوقه الانفراد و العزلة و البعد عن الناس و ترك الجمع و الأعياد و الجماعات؛ بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها، و أعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام و وساوس و حديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل و يسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته و يلطف بهم، و يكون من آثار لطفه أن يحميهم و يحفظهم عن القواطع و العوائق، و يعصمهم من كبائر الإثم و الفواحش، و يحميهم أيضاً من الشهوات و الملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، و يكون من آثار لطفه توفيقهم و تسديدهم: في الأقوال، و الأعمال، و الإقبال بقلوبهم على الطاعات، و الاستكثار من الصالحات، و هذه سيرة الصحابة رضي الله عنهم، و من سار على نهجهم، الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم و التفهم، و العمل و التطبيق، و هم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم و أنام، و آكل اللحم، و أتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني".
* فأما قول الكاتب: [و تمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب].
فنقول: إن أراد التمتع و التلذذ بتدبر القرآن وتعلقه؛ بحيث يعده خطاباً من ربه إليه، فهذا حق و صواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: ((ليدّبروا آياته))(ص:29). و قوله: ((أفلم يدّبروا القول))(المؤمنون:68). لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة، أو انفراد؛ بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة، و بين الناس.(1/67)
فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه و سماع كلامه منه إليه، و أن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى، و يناجون الله و يكلمهم و يكلمونه، و نحو ذلك، فكل ما يقولون في هذا الباب هوس و وحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه و خص موسى بالتكليم، كما قال تعالى: ((و كلَّم الله موسى تكليماً))(النساء:164). و كذلك نبينا صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج، و قد قال تعالى: ((و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم))(الشورى:51).
و هذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب و الأستار، و يناجون ربهم و يتلذذون بكلامه، و معنى هذا: أنهم فاقوا كثيراً من الأنبياء و الرسل،الذين هم الواسطة بين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحياً، أو يرسل إليهم الله و بين رسولاً ملكياً أو يكلمهم من وراء حجاب، كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب، و تخترق قلوبهم الأستار، و تتصل بالملأ الأعلى، و تسمع خطاب الرب تعالى مباشرة،و تتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو و الرفع لمقامهم من زيادة، سبحان ربنا الأعلى؟!
* فأما استدلاله بقوله تعالى: [((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً)). و قوله: لفظ "أيها" بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، و الشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور]. فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين:
أحدهما: أن الله خاطبه و هو حاضر شاهد عنده، بأن كشف له الأستار، و قربه من حضرة القدس، و خاطبه كفاحاً بلا واسطة ملك و لا غيره، و هذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي صلى الله عليه و سلم في القرآن كثيرة، و معلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحياً من الله إليه، كما في قوله تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين))(الشعراء:193-194).(1/68)
الثاني: أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية فإنا نخاطب الرسول صلى الله عليه و سلم، كأنا نراه مواجهة و مقابلة، و أنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، و أنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، و أنه شاهد مع كل أحد في كل مكان، متى ناداه و خاطبه سمعه و أجابه، و أن هذا الوصف يعم كل ولي و صالح من أكابر الصوفية، و نحوهم. و هذا لا يصح؛ فلفظ "أيها": ليس خاصاً كما قال هذا بالمواجهة؛ بل إن الله خاطب نبيَّه بهذه الآيات الكثيرة آمراً له بما أرسله به، و ما كلفه به من البشارة و النذارة و التبليغ و البيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي، فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ "أيها" فلا تدل على استلزام مواجهة و مقابلة.
أما لفظ الشاهد: فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بُلِّغوا و دُعُوا و قامت عليهم الحجة، كما في قوله تعالى: ((و يكون الرسولُ عليكم شهيداً))(البقرة:143). و قوله: ((ليكون الرسول شهيداً عليكم))(الحج:78). قيل: شاهداً على أنه قد بلّغكم ما أنزل إليه و بينه لكم، و قيل: شاهداً على أصحابه بحسن أعمالهم و صلاحهم و استقامتهم، فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.
ثالثاً: الصوفية كغيرهم لا يملكون شيئاً من أمر الكون لأنه لله وحده:
ثم قال الكاتب:
[الصوفي: هو من عرف أن التوجه إلى الله و الانقطاع إليه مما ينيل القصد، و يهيئ النفس للملكية.. الخ].
أقول:
قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام: كالحلول، و الاتحاد، فأما التوجه إلى الله و الانقطاع إليه فهو صفة شريفة عَليَّة متى قصد منها الإقبال على العبادات، و التفرغ لها و الإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة، و يعوق عن مواصلة السير إلى الله.(1/69)
و هذه طريقة أهل الزهد و العلم و العبادة من الصوفية السلفيين و من غير الصوفية، و لم يزل في المسلمين قديماً و حديثاً خلق كثير و جمع غفير يشتغلون جُلّ وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، و يتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، و يعلقون عليه آمالهم، و ينقطعون إليه وحده، و يعرضون عما سواه، و لا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة و لذة مباحة: من مأكل، و مشرب، و منكح، و ملبس، و كذا الاشتغال بالكسب الحلال، و جمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة، كما أمر الله بذلك في قوله: ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله))(الجمعة:10). و كما في قوله تعالى: ((و آخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله))(المزمل:20).
و إذا كان الأنبياء و الرسل يلتمسون الرزق و يطلبون المال من وجوهه، كما قال تعالى: ((و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق))(الفرقان:20). فكيف بأتباعهم، ومن هو دونهم؟ فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله، ترك الدنيا و ما فيها و الزهد في المباحات، و الرهبنة، و ترك كل الملذات و مشتهيات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف و القصد غير صحيح؛ بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه و سلم، و سائر الرسل و أتباعهم.
* فأما قول الكاتب: و [يهيئ النفس للملكية].. الخ.
فهو خطأ من القول؛ فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة و اتصافها بالروحية و النوارنية و الاتصال بالملأ الأعلى، و نحو ذلك، فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة، التي من خصائصها: العلو، و الخفة، و النور، و المكاشفات، و الاستغناء عن الدنيا، و الانكفاف عن الشهوات، و نحوها. فإن الله ركَّب في طباع البشر من الشهوة، و الالتذاذ بالطعم و المشرب، و الميل إلى ذلك، و التألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة.(1/70)
أما إن أراد بالملكية التملك و أن النفس تتهيأ لأن تملك شيئاً من أمر الكون أو تدبره أو تتصرف فيه تصرف المالك، فهذا أيضاً لا يصح، فالنفس البشرية و سائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، و لا تقدر على التصرف المستقبل، و لا الملكية التامة النافذة؛ بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه و لو ملك الدنيا بأسرها، فملكه مؤقت و ناقص، و هو و ما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد و يهيئ نفسه للملكية.
رابعاً: ذكر الله يزيد في استمرار العبادة:
ثم قال هذا الكاتب:
[فاتخذ الذكر زاداً لروحه و الفكر في آياته القرآنية و الكونية شراباً لروحه .. الخ].
فأقول:
هذا القول حق، فذكر الله دائماً هو قوت القلوب، و زاد الأرواح؛ و لكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، و إنما الذكر و الفكر يقوي الروح، و يزيدها نشاطاً و ثباتاً و استمراراً في العبادة، و حباً و رغبة في مواصلة العمل.
خامساً: العلماء مهما بلغوا؛ فهم مقيدون بنصوص الشريعة:
ثم قال الكاتب:
[حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعاً من ينابع الأنوار و الأسرار و الحكم الربانية.. الخ].
نقول:
هذا غير صحيح؛ فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل و الملائكة، و استغناءه عن الشريعة و علومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية و العلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية، و سطعت فيها فاستنارت بها فأصبح ينبوعاً للأنوار و الأسرار، يعني: معدناً تنبع منه الأنوار الإلهية و تنفجر منه عيون الحكمة، و تتوارد عليه الأسرار و الحكم الربانية؛ فتغنيه عن العلوم الشرعية.(1/71)
و نحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد إفهاماً و حكماً و أسراراً في كتابه أو شرعه، كما في قوله تعالى: ((و اتقوا الله و يعلمكم الله))(البقرة:282)؛ حيث جعل التقوى سبباً للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء و الصالحين علوماً و أفهاماً و أسراراً في كتابه، أو في شرعه، و لكنها مستنبطة من القرآن و الحديث، و من الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع، و تنوعت الأوامر و الأحكام، و لا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف .. الخ، فإنه مع ما فيه من المبالغة و الإطراء غير صحيح؛ فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعاً من ينابيع الأسرار و الأنوار و الحكم الربانية، و ذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم و المعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصاً بالمتصوفة؛ بل هناك علماء الأمة وعبّادها قاموا بحقوق ربهم، و وقفوا عند حدوده، و عبدوه حق عبادته قد فتح الله على قلوبهم من الفهم و الإدراك، و الحفظ و الاستنباط، الشيء الكثير، كما حصل للأئمة الأربعة، و للمحدثين و الفقهاء من صدر هذه الأمة، و هم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات و الملذات، و لم يدخلوا في عداد الصوفية، و لا توغلوا في إشاراتهم و رموزهم؛ بل هم متقيدون بنصوص الشريعة و بتعاليم ربهم، و متبعون لسنة نبيهم صلى الله عليه و سلم، و ذلك هو الفضل العظيم.
سادساً: الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه و سلم لأنه المبلغ عن الله:
ثم قال الكاتب:
[و من قال كذلك صارت أحواله كلها بالله، و لله، أمرنا باتباعه].
جوابه:(1/72)
أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله و لله؟! مع أنه بشر يخطئ و يصيب، و يرتكب الذنوب، و هو محل النقص و التقصير في أداء حقوق ربه، و في شكر نعمته: ((و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها))(إبراهيم:34). و قد اتفق أهل السنة و الجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، و مع ذلك فقد علمه النبي صلى الله عليه و سلم أن يقول في صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً و لا يغفر الذنوب إلا أنت..". الخ.
فإذا كان صدِّيق الأمة رضي الله عنه يعترف بأنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، فكيف يكون المتصوف معوصماً و أحواله كلها بالله و لله؟! و نحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة، و فيه: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به". فإن معنى ذلك تسديده في أقواله و أفعاله، و لكنّا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله و لله، كما ذكر هذا الكاتب.
* فأما قوله: [أمرنا باتباعه].(1/73)
فغير صحيح؛ فإن أغلب الصوفية؛ سيما المتأخرين لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعاً اتباعهم فيها، فقد ظهر بُعْدُهم فيها عن الصواب، و لهم أيضاً طرق و أحوال مبتدعة: كالسماع، و الرقص، و الخلوة الطويلة، و البعد عن العلم و العلماء، و الاستغناء عن الوحي بالأوهام، و حديث النفس الذي يخيل أنه و حي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع و نحوها؟ و بأي نص أمرنا بذلك؟ مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه و سلم لأنه المبلغ عن الله، و قد ورد الأمر بذلك، كما في قوله تعالى: ((و اتبعوه لعلكم تهتدون))(الأعراف:158). و قال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم))(آل عمران:31). و أن يطاع و يُتَّبع المخلوق، متى وافق أمر الله و رسوله، فيكون اتباعه خاصاً بما بلغه مما تحمله عن الله و رسوله، فالطواعية و الاتباع في الحقيقة لله و رسوله، فمتى خالف المخلوق -مهما كانت مرتبته- صريح الكتاب و السنة، وجب طرح قوله، و الرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول))(النساء:59).
سابعاً: شطحات شنيعة بعضها من أعظم الكفر و أشنعه:
ثم قال الكاتب:
[قال الإمام الأكبر، محي الدين ابن العربي رضي الله عنه: من لم يأخذ الطريق عن الرجال، فهو ينقل من محال إلى محال].
نقول:
لا عبرة بالقائل و لا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي، يقول باتحاد، الخالق و المخلوق، و هو أعظم الكفر و أشنعه، و قد صرح بذلك في كتابيه: (فصوص الحكم) و: (الفتوحات المكية) و غيرهما من مخالفة الرسل صريحاً، و مدح الكفار و المشركين، و تصويب ما هم عليه.(1/74)
و قد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/240) تعقبه للجنيد بن محمد رحمه الله في قوله: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فأنكر عليه ابن عربي، و قال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد، و هل يميز بين المحدث و القديم إلا من يكون غيرهما؟ كذا قال! لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه: و من أسمائه الحسنى العلي على من؟ و ما ثمَّ إلا هو، و عن ماذا؟ و ما هو إلا هو. فعلوُّه لنفسه و هو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العليّة لذاته و ليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، و هو عين ما ظهر،و ما ثَمَّ من يراه غيره، و ما ثمَّ من ينطق عنه سواه، و هو المسمى أبو سعيد الخراز و غير ذلك من الأسماء المحدثات.
ثم ذُكِرَ أن التلمساني لما قُرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم، فقال: القرآن كله شرك، و إنما التوحيد في كلامنا. فقيل له: فإذا كان الوجود واحداً، فلم كانت الزوجة حلالاً و الأخت حراماً؟ فقال: الكل عندنا حلال، و لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
و نقل شيخ الإسلام في المجموع (2/121) عن صاحب الفصوص، و هو ابن عربي المذكور قوله: إن آدم عليه السلام إنما سُمِّي إنساناً لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، و هذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى و تقدس، و بعضاً منه، و أنه أفضل أجزائه و أبعاضه.
و هكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق و الأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا؛ بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة .. الخ.(1/75)
و في كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد و لا يوصف، و قد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (2/204-284) و غيره. فكيف يوصف، مع ذلك بأنه الإمام الأكبر و بأنه يحي الدين؟ و قد انخدع بكلامه الجم الغفير، و اعتقدوا أنه أجر الأولياء، و أرقاهم منزلة، و أرفعهم قدراً، و إنما تفطن له و عرف ما في كلامه من الكفر و الضلال، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحقق عقيدته، و عرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته، و ناقشه في كل ذلك، و بين تناقضه و تهافته في كلامه، و ذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى و غيره.
* فأما قوله: [من لم يأخذ الطريق من الرجال إلخ].
فمراده بالطريق مسلك الصوفية، و هو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية، كنوع من اللباس، أو إشارات بينهم يتناقلونها، و يتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث و المؤلفات.
فيقول أحدهم: أخذت الطريق عن فلان، و أخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم كالجيلاني، أو الحلاج و نحوهما، و لا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم، و السنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول صلى الله عليه و سلم، و صحابته و أئمة المسلمين، و قد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، و لا أستحضر شيئاً عن تفاصيل طرقهم و رموزهم و لكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها؛ لكونهم يؤثرونها على الشرع، و يستغنون بالعمل بها عمّا عليه في ذمهم، و بيان شيئ من أحوالهم، و منها قول ذلك الناظم رحمه الله:
إن قلت قال الله قال رسولُه همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعل
أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلتَ قال صحابهم من بعدهم فالكلُّ عندهم كشبه خيال
و يقول قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفاء أحوال
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي(1/76)
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحالي
فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم و مريدوهم، أمثال هذا الكتاب، الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، و تحامل على أهل التوحيد، و رغّب في وسائل الشرك في مذكرته هذه.
ثامناً: يحرم نشر هذه المذكرة لما فيها من الأكاذيب و الأباطيل:
ثم قال:
[فالواجب عليك و على أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة؛ لمن أراد النجاة في الآخرة عن طريق: الإذاعة، و المجلات الإسلامية، رحمة المسلمين، و خوفاً من عذاب الله، لأن كاتم العلم ملعون، نسأله الختام بجاه طه عليه السلام ... الخ].
جوابه:
أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، و يجب إتلافها على من رآها، و ذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء و الصفات، و ما يتعلق بالتوسل و الاستشفاع، و ما فهيا من ذم أهل التوحيد و رميهم بما هم منه براء، و كذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، و نشر السنة و العقيدة السلفية، و أدلة التوحيد و الإخلاص،و النهي عن كتمان ذلك و عدم إيضاحه لمن يخاف و قوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم، و قد توعده الله تعالى بقوله: ((إن الذي يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله و يلعنهم اللاعنون))(البقرة:59).(1/77)
* فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه عليه السلام، فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، و قد تقدم أنه استدل بحديث: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي.. إلخ"، و أنه كذب لا أصل له، و بيان ذلك أن نبينا صلى الله عليه و سلم له جاه عند الله، و لكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
و بمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به، و أنه من وسائل تعظيم المخلوق و وصفه بما لا يستحقه إلا الله.
و هذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة؛ نصحاً للمسلمين، و بياناً لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة و نحوهم، مع أن أهل العقيدة و التوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت و التناقض، و نصر الباطل و إنكار حقيقة التوحيد، و الله المستعان و عليه التكلان، و صلى الله على محمد و آله وصحبه و سلم.(1/78)